كِتاب يورانشيا
الجزء الرابع
تمت رعاية هذه المجموعة من الأوراق من قِبل مفوضية من اثني عشر مُنتصَف طريق يورانشي متصرفون تحت إشراف ملكيصادق موَّجه للوحي.
تم تزويد أساس هذه الرواية من قِبل منتصف طريق ثانوي كان مُعيَّناَ في أحد الأوقات إلى الرعاية الفائقة للرسول أندراوس
كِتاب يورانشيا
ورقة 120
120:0.1 (1323.1) مُعيَن من قِبل جبرائيل للإشراف على إعادة صياغة حياة ميخائيل عندما كان على يورانشيا وفي شبه الجسد البشري, أنا, الملكيصادق الموجِه للجنة الوحي المستأمنة بهذه المهمة, مُفوض لتقديم هذه الرواية لبعض الأحداث التي سبقت مباشرة وصول الابن الخالق على يورانشيا للشروع في المرحلة النهائية لتجربة إغداقه الكوني. إن عيش مثل هذه الحيوات المماثلة كالتي يفرضها على الكائنات الذكية من خلقه الخاص, بالتالي ليغدق نفسه هكذا على شبه مراتبه المتنوعة من الكائنات المخلوقة, هو جزء من الثمن الذي يجب على كل ابن خالق أن يدفعه لأجل السيادة الكاملة والسامية للكون الذي صنعه بنفسه من الأشياء والكائنات.
120:0.2 (1323.2) قبل الأحداث التي أنا على وشك تحديدها, أغدق ميخائيل نِبادون نفسه ست مرات على شبه ست مراتب مختلفة من خلقه المتنوع للكائنات الذكية. ثم استعد للهبوط على يورانشيا في شبه جسد فاني, أدنى مرتبة من مخلوقات المشيئة الأذكياء لديه, وبصفته على هذا النحو إنساناً من الحيز المادي, لينـفذ الدور النهائي في دراما اكتساب سيادة الكون وفقاً لتفويضات حكام الفردوس الإلَهيين لكون الأكوان.
120:0.3 (1323.3) في سياق كل من هذه الإغداقات السابقة لم يكتسب ميخائيل الخبرة المحدودة لفئة واحدة من كائناته المخلوقة فحسب, لكنه اكتسب أيضاً خبرة أساسية في تعاون الفردوس التي من شأنها, في حد ذاتها, أن تساهم إضافياً إلى تعيينه سُلطان الكون الذي صنعه بنفسه. في أي لحظة أثناء كل ماضي زمن الكون المحلي, كان بإمكان ميخائيل تأكيد سيادته الشخصية كابن خالق, وكابن خالق كان بإمكانه أن يحكم كونه وفقاً للطريقة التي يختارها. في مثل هذا الحدث, كان عمانوئيل وأبناء الفردوس المرتبطون سيغادرون الكون. لكن ميخائيل لم يرغب في أن يحكم نِبادون صرفاً في حقه المنعزل, بصفته ابن خالق. كان يرغب أن يرتقي من خلال الخبرة الفعلية في خضوع تعاوني لثالوث الفردوس إلى تلك المكانة العالية في وضع الكون حيث سيصبح مؤهلاً لحكم كونه وإدارة شؤونه بذلك الكمال للبصيرة وحكمة التنفيذ التي ستكون في وقت ما سِمة الحكم المجيد للكائن الأسمى. لم يكن يطمح إلى الكمال في الحُكم كابن خالق بل إلى سمو الإدارة باعتبارها تجسيدًا لحكمة الكون والخبرة الإلَهية للكائن الأسمى.
120:0.4 (1324.1) لذلك, كان لدى ميخائيل هدف مزدوج في القيام بهذه الإغداقات السبعة بناءً على الرتب المختلفة من مخلوقات كونه: أولاً, كان يتمم الخبرة المطلوبة في فهم المخلوق المطلوب من كل الأبناء الخالقين قبل توليهم السيادة التامة. في أي وقت بإمكان الابن الخالق حُكم كونه في حقه الخاص, لكن لا يمكنه أن يحكم كالممثل السامي لثالوث الفردوس إلا بعد اجتياز إغداقات مخلوقات-الكون السبعة. ثانياً, كان يطمح في امتياز تمثيل السُلطة القصوى لثالوث الفردوس التي يمكن ممارستها في الإدارة المباشرة والشخصية لكون محلي. تبعاً لذلك, فقد أخضع ميخائيل نفسه, خلال تجربة كل من إغداقات كونه, بشكل طوعي ومقبول للمشيئات المُركَّبة بتنوع للارتباطات المتشعبة لأشخاص ثالوث الفردوس. ذلك أنه, على الإغداق الأول كان خاضعاً للمشيئة المُشتركة للأب, والابن, والروح؛ على الإغداق الثاني لمشيئة الأب والابن؛ على الإغداق الثالث لمشيئة الأب والروح؛ على الإغداق الرابع لمشيئة الابن والروح؛ على الإغداق الخامس لمشيئة الروح اللانهائي؛ على الإغداق السادس لمشيئة الابن الأبدي؛ وخلال الإغداق السابع والأخير, على يورانشيا, لمشيئة الأب الكوني.
120:0.5 (1324.2) لذلك, يجمع ميخائيل في سيادته الشخصية المشيئة الإلَهية للأطوار السباعية للخالقين الكونيين مع الخبرة المتفهمة لمخلوقات كونه المحلية. بهذا أصبحت إدارته ممثلة لأعظم قدر ممكن من السُلطة والقدرة على الرغم من أنها مجردة من كل الاعتبارات التعسفية. قدرته غير محدودة حيث أنها مستمدة من ارتباط ذو خبرة مع آلهة الفردوس؛ سُلطته لا جدال فيها بقدر ما تم اكتسابها من خلال الخبرة الفعلية في شبه مخلوقات الكون؛ سيادته سامية حيث أنها تُجسد في ذات الوقت وجهة النظر السباعية لإلَه الفردوس مع وجهة نظر المخلوق من الزمان والفضاء.
120:0.6 (1324.3) حيث إنه حدد زمن إغداقه الأخير واختار الكوكب الذي سيحدث عليه هذا الحدث الاستثنائي, عقد ميخائيل المؤتمَر المعتاد السابق للإغداق مع جبرائيل ثم قدم نفسه أمام أخيه الأكبر ومستشار الفردوس, عمانوئيل. كل قدرات إدارة الكون التي لم تُمنح سابقاً إلى جبرائيل, فوضها الآن ميخائيل إلى عهدة عمانوئيل. وبالضبط قبل رحيل ميخائيل لأجل التجسد اليورانشي, شرع عمانوئيل, في قبول وصاية الكون خلال فترة الإغداق اليورانشي, في تبليغ شورى الإغداق التي من شأنها أن تكون بمثابة مُرشد التجسد لميخائيل عندما سيكبر في الحاضر على يورانشيا كبشري من الحيز.
120:0.7 (1324.4) يجب ألا يغيب عن البال في هذا الصدد بأن ميخائيل قد اختار أن ينفذ هذا الإغداق في شبه جسد فاني, خاضع لمشيئة الأب الفردوسي. لم يحتاج الابن الخالق إلى تعليمات من أحد من أجل إحداث هذا التجسد لأجل الهدف الوحيد لإنجاز سيادة كون, لكنه شرع في برنامج الوحي للأسمى الذي تضمن العمل التعاوني مع المشيئات المتنوعة لآلهَة الفردوس. وهكذا فإن سيادته, عندما يتم اكتسابها بشكل نهائي وشخصي ستكون في الواقع شاملة كلياً للمشيئة السباعية الثنايا للإلَه عندما تبلغ ذروتها في الأسمى. لذلك, كان قد تلقى ست مرات تعليمات من الممثلين الشخصيين لمختلف آلهة الفردوس وارتباطاتهم من ذلك؛ والآن كان يتلقى تعليمات من اتحاد الأيام, سفير ثالوث الفردوس للكون المحلي نِبادون, متصرف بالنيابة عن الأب الكوني.
120:0.8 (1325.1) كانت هناك مزايا فورية وتعويضات هائلة ناتجة عن استعداد هذا الابن الخالق العظيم لإخضاع نفسه مرة أخرى طواعية لمشيئة آلهة الفردوس, هذه المرة لمشيئة الأب الكوني, من خلال هذا القرار لإحداث مثل هذه التبعية الترابطية, سيختبر ميخائيل في هذا التجسد, ليس فقط طبيعة الإنسان الفاني, بل كذلك مشيئة الأب الفردوسي للجميع. علاوة على ذلك, يمكنه الدخول على هذا الإغداق الفريد مع التأكيد التام, ليس فقط بأن عمانوئيل سيمارس السُلطة الكاملة لأب الفردوس في إدارة كونه أثناء غيابه على الإغداق اليورانشي, لكن أيضاً مع المعرفة المطمئنة بأن قدماء الأيام من الكون العظيم قد أصدروا مرسوماً بسلامة حيزه طوال فترة الإغداق بأكملها.
120:0.9 (1325.2) وكان هذا هو الإعداد للمناسبة الهامة عندما قدَمَ عمانوئيل تفويض الإغداق السابع. ومن هذه العهدة السابقة للإغداق من عمانوئيل إلى حاكم الكون الذي أصبح فيما بعد يسوع الناصري ( المسيح ميخائيل) على يورانشيا, يُسمح لي بتقديم المقتطفات التالية:
120:1.1 (1325.3) "أخي الخالق, أنا على وشك أن أشهد إغداقك الكوني السابع والأخير. لقد نفذت بأمانة وبصورة كاملة التفويضات الستة السابقة, ولا أخالج أي تفكير سوى أنك ستنتصر بنفس القدر في هذا, إغداقك السيادي النهائي. حتى الآن لقد ظهرت على أجواء إغداقك ككائن كامل التطور من مرتبة اختيارك, الآن أنت على وشك الظهور على يورانشيا, الكوكب المضطرب وغير المنتظم من اختيارك, ليس كبشري كامل النمو, لكن كطفلٍ عاجز. هذه, يا رفيقي, ستكون خبرة جديدة وغير مُجَربة لك. أنت على وشك أن تدفع الثمن الكامل للإغداق وأن تختبر التنوير التام لتجسد الخالق في شبه المخلوق.
120:1.2 (1325.4) خلال كل من إغداقاتك السابقة أنت اخترت طواعية إخضاع نفسك لمشيئة آلهَة الفردوس الثلاثة وارتباطاتهم الإلَهية. من بين الأطوار السبعة لمشيئة الأسمى, كنت في إغداقاتك السابقة خاضعاً للكل باستثناء المشيئة الشخصية لأبيك الفردوسي. الآن وقد اخترت ان تكون خاضعاً بالكامل لمشيئة أبيك طوال فترة إغداقك السابع, فأنا, بصفتي الممثل الشخصي لأبينا, أتقلد والسُلطة القضائية غير المشروطة لكونك لفترة تجسدك.
120:1.3 (1325.5) في الدخول على الإغداق اليورانشي, قمت طوعًا بتجريد نفسك من كل دعم من خارج الكوكب ومن كل مساعدة خاصة مثلما قد تُمنح بأي مخلوق من خلقك الخاص. نظرًا لأن أبنائك المخلوقين في نِبادون معتمدين كلياً عليك من أجل الإرشاد السليم في كل أثناء مهنهم في الكون, هكذا الآن يجب أن تصبح معتمداً كلياً وبدون تحفظ على أبيك الفردوسي من أجل الإرشاد السليم في كل أثناء التقلبات غير المكشوفة لمهنتك البشرية الناشئة. وعندما تكون قد انتهيت من تجربة الإغداق هذه ستعرف بتمام الحقيقة المعني الكامل والأهمية الغنية لذلك الإيمان-الواثق الذي تطلبه بشكل ثابت من كل مخلوقاتك من أجل ان يتقنوه كجزء من علاقتهم الودية معك كخالق وأب كونهم المحلي.
120:1.4 (1326.1) "طوال فترة إغداقك اليورانشي ستحتاج أن تكون مهتماً بشيء واحد فقط, التواصل غير المنقطع بينك وبين أبيك الفردوسي؛ وسيكون من خلال كمال هذه العلاقة بأن عالَم إغداقك, بل كل الكون الذي من خلقك, سيشهد كشفاً جديداً ومفهوماً أكثر لأبيك وأبي, الأب الكوني للجميع. لذلك, فإن اهتمامك يجب أن يتعلق فقط بحياتك الشخصية على يورانشيا. سوف أكون مسؤولاً بشكل كلي وفعال عن الأمن والإدارة غير المنقطعة لكونك من لحظة تنحيك الطوعي عن السُلطة حتى تعود إلينا بصفتك سُلطان كون, مؤكد بالفردوس, وتسترد من يداي, ليس السُلطة النيابية التي تسلمها لي الآن, لكن, بدلاً من ذلك, القدرة السامية, والسُلطة القضائية, على الكون الخاص بك.
120:1.5 (1326.2) "وبأنه يمكنك أن تعرف بثقة بأنني مخول للقيام بكل ما أتعهد به الآن (عارف جيداً بأنني ضمان كل الفردوس من أجل الأداء المخلص لكلمتي), أعلن لك أنه قد تم إبلاغي للتو انتداب من قدماء الأيام على يوﭭرسا الذي سيمنع كل مخاطرة روحية في نِبادون طوال فترة إغداقك الطوعي. من اللحظة التي تسلم الوعي فيها, عند بداية التجسد الفاني, إلى أن تعود إلينا بصفتك سلطاناً سامياً وغير مشروط لهذا الكون من خلقك وتنظيمك, لا شيء ذا أهمية جَدّية يمكن أن يحدث في كل نِبادون. في هذه الفترة من تجسدك, لدي أوامر من قدماء الأيام تنتدب بشكل قطعي الإبادة اللحظية والتلقائية لأي كائن مذنب بالتمرد أو يفترض التحريض على تمرد في كون نِبادون بينما أنت غائب على هذا الإغداق. أخي, في ضوء سُلطة الفردوس المتأصلة في حضوري والتي تعززها الولاية القضائية ليوﭭرسا, فإن كونك وكل مخلوقاته المُوالية سيكونون آمنين أثناء إغداقك. يمكنك المضي قُدماً في مهمتك إنما بفكرة واحدة ــ الوحي المعزز عن أبينا إلى الكائنات الذكية في كونك.
120:1.6 (1326.3) "كما هو الحال في كل من إغداقاتك السابقة, أود أن أذكرك بأني المستلم للولاية القضائية لكونك بصفتي أخاً-أميناً. سأمارس كل سُلطة واستخدم كل قدرة باسمك. أنا أعمل كما قد يعمل أبونا الفردوسي ووفقاً لطلبك الصريح بأن أتصرف بهذا بدلاً عنك. وذلك كائن الواقع, فإن كل هذه السلطة المفوضة هي لك مرة أخرى للممارسة في أي لحظة قد ترى لائقاً المطالبة باسترجاعها. إغداقك هو, طيلة الوقت, طوعي بالكامل. كبشري متجسد في الحيز فأنت بلا هِبات سماوية, لكن كل قدرتك المتخلى عنها هي لك عند أي وقت قد تختار إعادة استثمار نفسك بسُلطة كون. إذا كنت ستختار أن تعيد نفسك إلى منصبك في السُلطة والقدرة, فتذكَّر, أن ذلك سيكون كلياً لأسباب شخصية حيث أنني التعهد السامي والحي الذي حضوره ووعده يضمنان الإدارة السليمة لكونك وفقاً لمشيئة أبيك. تمرد, كالذي حدث ثلاث مرات في نِبادون, لا يمكن أن يحدث أثناء غيابك عن ساﻟﭭينغتون على هذا الإغداق. لفترة إغداقك اليورانشي قضى قدماء الأيام بأن التمرد في نِبادون سيكون مستثمراً بالبذرة التلقائية لإبادة نفسه.
120:1.7 (1326.4) "ما دمت غائباً على هذا الإغداق النهائي والاستثنائي, أنا أتعهد (مع تعاون جبرائيل) بالإدارة المخلصة لكونك؛ وكما أفوضك بأن تأخذ على عاتقك هذه الخدمة للكشف الإلَهي والخضوع لهذه التجربة من الفهم البشري الكامل, أعمل بالنيابة عن أبي وأبيك وأقدم لك المشورة التالية, التي ينبغي أن ترشدك في عيش حياتك الأرضية بينما تصبح واعياً-للذات تدريجياً فيما يتعلق بالمهمة الإلَهية لحلولك المستمر في الجسد:
120:2.1 (1327.1) "1. وفقاً للأعراف وبما يتوافق مع تقنية سونارِنعتون ــ امتثالاً مع انتدابات الابن الأبدي للفردوس ــ لقد قدمت بكل طريقة لأجل دخولك الفوري على هذا الإغداق البشري بما يتماشى مع الخطط التي صيغت بواسطتك ووضعت في حفظي بواسطة جبرائيل. سوف تنمو على يورانشيا كطفل من الحيز, وتكمل تعليمك البشري ــ كل ذلك بينما تكون خاضعاً لمشيئة أبيك الفردوسي ــ عش حياتك على يورانشيا كما قررت, قم بإنهاء حلولك الكوكبي, وتهيأ من أجل الارتقاء إلى أبيك لتستلم منه السيادة العليا لكونك.
120:2.2 (1327.2) "2. على حدة من مهمتك الأرضية والكشف الكوني الخاص بك, لكن عرضياً لكليهما, أنصح بأن تأخذ على عاتقك, بعد أن تكون مدركًا بشكل كافٍ لهويتك الإلَهية, المهمة الإضافية المتمثلة في إنهاء تمرد لوسيفر تقنياً في نظام ساتانيا, وبأن تفعل كل هذا كإبن الإنسان؛ هكذا, ككائن بشري من الحيز, في ضُعف جُعل قديراً من خلال إخضاع-الإيمان إلى مشيئة أبيك, اقترح بأن تنجز بلُطف كل ما رفضت تكراراً إنجازه بشكل تعسفي من خلال القدرة والعظمة عندما كنت موهوباً هكذا عند وقت بدء هذا التمرد الخاطئ وغير المبرَر. سأعتبرها ذروة لائقة لإغداقك البشري إذا كان يتوجب عليك العودة إلينا بصفتك ابن الإنسان, أميراً كوكبياً ليورانشيا, بالإضافة إلى ابن الله, سُلطاناً سامياً لكونك. كإنسان فاني, أدنى أنواع المخلوقات الذكية في نِبادون, إلتقي وحاكم الادعاءات التجديفية لكاليغاسشيا ولوسيفر, وفي حالتك المتواضعة التي أخذتها على عاتقك, أنهي إلى الأبد التحريفات المخزية لأبناء النور الساقطين هؤلاء. حيث أنك قد رفضت بثبات أن تُخزي هؤلاء المتمردين من خلال ممارسة صلاحياتك كخالق, سيكون من المناسب الآن, بأنك يجب وأنت في شبه أدنى المخلوقات من خلقك, ان تنتزع السيادة من أيدي هؤلاء الأبناء الذين سقطوا, وهكذا سيميز كونك المحلي بأكمله بكل إنصاف بشكل واضح وإلى الأبد عدالة أدائك بدور الجسد الفاني تلك الأشياء التي نصحتك الرحمة بعدم القيام بها بقدرة السُلطة التعسفية. وحيث إنك قد أسست بإغداقك إمكانية سيادة الأسمى في نِبادون, فإنك في واقع الأمر ستكون قد أنهيت الشؤون غير المفصول فيها لكل التمردات السابقة, على الرغم من التأخير الزمني الكبير أو الأصغر الذي ينطوي عليه تحقيق هذا الإنجاز. بموجب هذا التصرف, سيتم تصفية الفتن المعلقة الخاصة بكونك من حيث الجوهر. ومع الهبة اللاحقة للسيادة السامية على كونك فإن التحديات المماثلة لسُلطتك لا يمكن أن تتكرر أبداً في أي جزء من خلقك الشخصي العظيم.
120:2.3 (1327.3) "3. عندما تنجح في إنهاء الانشقاق اليورانشي, كما ستفعل بلا شك, فإنني انصحك أن تقبل من جبرائيل منح لقب ’أمير كوكبي ليورانشيا‘ باعتباره الاعتراف الأبدي من قبل كونك لتجربة إغداقك النهائية؛ وبأنك تفعل أيضًا أي وكل الأشياء, بما يتوافق مع مضمون الإغداق الخاص بك, للتكفير عن الأسى والارتباك الذي وقع على يورانشيا بخيانة كاليغاسشيا والتقصير الآدمي الذي تبعه.
120:2.4 (1328.1) "4. وفقاً لطلبك, سيتعاون جبرائيل وكل المعنيين معك في الرغبة المعلنة لإنهاء إغداقك اليورانشي مع الإعلان لقضاء افتقاد إلَهي للحيز, مصحوبًا بإنهاء عصر, وقيامة الناجين الفانين النائمين, وتأسيس افتقاد إلَهي لروح الحق المُغدَق.
120:2.5 (1328.2) "5. فيما يتعلق بكوكب إغداقك والجيل الحالي للناس الأحياء هناك عند وقت حلولك البشري, أُنصحك بأن تعمل إلى حد كبير في دور المُعلِم. أعطي انتباهاً, أولاً, إلى تحرير الطبيعة الروحية للإنسان وإلهامها. تالياً, أنر الفكر البشري المُظلِم, واشفي نفوس الناس, واعتق عقولهم من الخوف المزمن. وبعد ذلك, وفقاً لحكمتك البشرية, أسعف إلى الرفاه الجسدي والراحة المادية لإخوانك في الجسد. عش الحياة الدينية المُثلى لأجل إلهام وإصلاح كل كونك.
120:2.6 (1328.3) "6. على كوكب إغداقك, اجعل الإنسان المنفصل بالتمرد حراً روحياً. اجعل على يورانشيا مساهمة إضافية لسيادة الأسمى, وبالتالي موسعاً تأسيس هذه السيادة في كل أنحاء المجالات الواسعة لخلقك الشخصي. في هذا, إغداقك المادي في شبه الجسد, أنت على وشك أن تختبر التنوير النهائي لخالق زمان-فضاء, التجربة المزدوجة للعمل ضمن طبيعة الإنسان مع مشيئة أبيك الفردوسي. في حياتك الدنيوية ستصبح مشيئة المخلوق المتناهي ومشيئة الخالق اللانهائي واحدة, حتى كما يتحدان كذلك في الإلَه المتطور للكائن الأسمى. أسكب روح الحق على كوكب إغداقك وبالتالي اجعل كل البشر الطبيعيين على ذلك الجو المعزول على الفور وبشكل كامل في متناول إسعاف الحضور المفصول لأبينا الفردوسي, ضباط الفكر للعوالم.
120:2.7 (1328.4) "7. في كل ما قد تؤديه على عالَم إغداقك, ضع في اعتبارك دائماً أنك تعيش حياة من أجل تعليم وتثقيف كل كونك. أنت تُغدق حياة التجسد الفاني هذه على يورانشيا, لكن عليك أن تعيش مثل هذه الحياة من أجل الإلهام الروحي لكل ذكاء بشري وخارق للبشر الذي عاش, موجود الآن, أو قد يعيش على كل عالَم مأهول الذي قد تشكل, أو الآن قيد التشكيل, أو قد يُشكل جزءًا من المجرة الشاسعة لمجالك الإداري. يجب ألا تـُعاش حياتك الأرضية في شبه الجسد الفاني بحيث تشكل مثالاً من أجل بشر يورانشيا في أيام مكوثك الأرضي ولا لأي جيل لاحق من البشر على يورانشيا أو على أي عالَم آخر. بل يجب أن تكون حياتك في الجسد على يورانشيا مصدر إلهام لكل الحيوات على كل عوالم نِبادون عبر جميع الأجيال في العصور القادمة.
120:2.8 (1328.5) "8. إن مهمتك العظيمة التي ستكون مُدركة ومُختبرة في التجسد الفاني مضمومة في قرارك أن تعيش حياة مدفوعة من كل القلب لفعل مشيئة أبيك الفردوسي. لتكشف الله بذلك, أبيك, في الجسد وخاصة إلى مخلوقات الجسد. في نفس الوقت سوف تفسر أيضاً, مع تحسين جديد, أبانا, إلى الكائنات الفائقة لكل نِبادون. بالتساوي مع هذا الإسعاف لكشف جديد وتفسير مُعزز عن الأب الفردوسي إلى نوع العقل البشري والفائق, ستعمل أيضًا على تقديم كشف جديد عن الإنسان إلى الله. أعرض في حياتك القصيرة الواحدة في الجسد, كما لم يُرى من قبل في كل نِبادون, الإمكانيات المتعالية التي يمكن أن يحققها إنسان عارف الله أثناء المهمة القصيرة من الوجود الفاني, واجعل تفسيراً جديداً ومنيرًا عن الإنسان وتقلبات حياته الكوكبية إلى كل الذكاءات الفائقة لكل نِبادون, ولأجل كل زمن. أنت لتنزل إلى يورانشيا في شبه جسد فاني, وتعيش كرجل في يومك وجيلك, سوف تعمل بحيث تُري كونك بأكمله مثالاً للتقنية المثالية في المشاركة العليا لشؤون خلقك الشاسع: تحقيق الله يبحث عن الإنسان ويجده؛ وظاهرة الإنسان يبحث عن الله ويجده؛ والقيام بكل هذا لتحقيق الرضا المتبادل والقيام بذلك خلال حياة واحدة قصيرة في الجسد.
120:2.9 (1329.1) "9. أحذرك دائماً أن تضع نصب عينيك أنه, في حين أنك في الحقيقة يجب أن تصبح إنساناً عادياً من الحيز, ستبقى في الإمكانية ابن خالق لأب الفردوس. في كل أثناء هذا التجسد, مع أنك ستعيش وتتصرف كابن الإنسان, فإن السجايا الخلاَّقة لألوهيتك الشخصية سوف تتبعك من ساﻟﭭينغتون إلى يورانشيا. دائماً سيكون في حدود قدرة مشيئتك أن تنهي التجسد في أي لحظة لاحقاً لوصول ضابط الفكر لديك. سابقاً إلى وصول واستلام الُضابط, أنا سأضمن سلامة شخصيتك. لكن بعد وصول الضابط الخاص بك وما يصاحب ذلك من تعرفك التدريجي على طبيعة وأهمية مهمة إغداقك, يجب عليك الامتناع عن صياغة أي مشيئة لإحراز, أو إنجاز, أي إرادة خارقة, أو قدرة نظراً لحقيقة أن امتيازاتك كخالق ستبقى ملازمة لشخصيتك البشرية بسبب عدم انفصال تلك السجايا عن حضورك الشخصي. لكن لن تحضر أي تداعيات خارقة مهنتك الأرضية على حدة من مشيئة الأب الفردوسي إلا إذا أنت, بفعل واعٍ ومتعمد, ستتخذ قراراً غير منقسم الذي سينتهي في اختيار الشخصية-ككل.
120:3.1 (1329.2) "والآن يا أخي, في استئذانك بينما تستعد للرحيل إلى يورانشيا وبعد تقديم المشورة لك فيما يتعلق بالسلوك العام لإغداقك, اسمح لي بتقديم بعض النصائح التي تم التوصل إليها بالتشاور مع جبرائيل, والتي تهم مراحل صغيرة من حياتك الفانية. بالإضافة نقترح:
120:3.2 (1329.3) "1. إنه, في مسعى تحقيق المثل الأعلى لحياتك الأرضية الفانية, فإنك أيضاً تولي بعض الاهتمام لإدراك وإعطاء مَثل عن بعض الأشياء العملية والمفيدة في الحال لزملائك الناس.
120:3.3 (1329.4) "2. فيما يتعلق بالعلاقات الأسرية, أعط أولوية للعادات المتبعة في الحياة الأسرية كما تجدها مؤسسة في يوم وجيل إغداقك. عش حياتك العائلية والاجتماعية وفقاً لممارسات الناس الذين اخترت أن تظهر بينهم.
120:3.4 (1329.5) "3. في علاقاتك بالنظام الاجتماعي ننصح بأن تقصر جهودك إلى حد كبير على التجديد الروحي والتحرر الفكري. تجنب كل التشابك مع البنية الاقتصادية والالتزامات السياسية ليومك. بشكل أخص كرس نفسك لعيش الحياة الدينية المُثلى على يورانشيا.
120:3.5 (1329.6) "4. تحت ولا أي ظروف ولا حتى في أقل التفاصيل, يجب أن تتدخل في التطور التدريجي الطبيعي والمنظم لأجناس يورانشيا. لكن هذا الحظر يجب ألا يُفَسَر على أنه يحد من جهودك لتترك وراءك على يورانشيا نظاماً دائماً ومُحسَّناً للأخلاقيات الدينية الإيجابية. باعتبارك ابن افتقاد إلَهي لقد مُنحت امتيازات معينة تتعلق بالنهوض بالمكانة الروحية والدينية لشعوب العالم.
120:3.6 (1330.1) "5. وفقاً لما تراه مناسباً, عليك بتعريف ذاتك مع الحركات الدينية والروحية القائمة كما قد توجد على يورانشيا لكن اسعى بكل طريقة ممكنة إلى تجنب التأسيس الرسمي لعبادة منظمة, أو دِين متبلور, أو تجمع أخلاقي منفصل للكائنات الفانية. يجب أن تصبح حياتك وتعاليمك تراثًا مشتركًا لكل الأديان وكل الشعوب.
120:3.7 (1330.2) "6. إلى النهاية بحيث لا تُسهم دون داع إلى إنشاء أنظمة نمطية لاحقة لمعتقدات يورانشيا الدينية أو أشكال أخرى من الولاءات الدينية غير التقدمية, ننصحك أيضاً: لا تترك وراءك كتابات على الكوكب. امتنع عن كل كتابة على مواد دائمة؛ اشترط على زملائك ألا يصنعوا أي صور أو شبه لك في الجسد. أنظر بأن لا يُترك أي شيء وثني محتمل على الكوكب عند وقت رحيلك.
120:3.8 (1330.3) "7. بينما ستعيش الحياة الاجتماعية العادية والمتوسطة للكوكب, كائن فرد عادي من جنس ذَكَر, على الأرجح لن تدخل في علاقة زواج, العلاقة التي ستكون كلياً مشرفة ومتسقة مع إغداقك؛ لكن يجب أن أذكرك بأن أحد انتدابات التجسد من سونارِنجتون تمنع ترك نسل بشري على أي كوكب من قبل ابن إغداق من أصل فردوسي.
120:3.9 (1330.4) "8. في كل التفاصيل الأخرى لإغداقك القادم سنأتمنك لقيادة الضابط الساكن, تعليم الروح الإلَهي الدائم الحضور للإرشاد البشري, والتمييز-المُدرك لعقلك البشري المتوسع للهبة الوراثية. هكذا ارتباط لسجايا مخلوق وخالق ستقدرك من أن تعيش لنا الحياة المثالية للإنسان على الأجواء الكوكبية, ليست بالضرورة مثالية كما تُعتبَر بأي مجرد إنسان في أي مجرد جيل لأي مجرد عالَم (أقل بكثير على يورانشيا) ولكنها مليئة بالكامل وفائقة كما تم تقييمها على عوالم أكثر كمالًا وآخذة بالكمال لكونك الفسيح المدى.
120:3.10 (1330.5) "والآن, لعل أبوك وأبي, الذي دعمنا أبداً في كل إنجازاتنا الماضية, يرشدك ويدعمك ويكون معك من اللحظة التي تتركنا فيها وتنجز استسلام وعي شخصيتك, طوال عودتك التدريجية للتعرف على هويتك الإلَهية المتجسدة في شكل بشري, وبعدئذٍ خلال مجمل تجربة إغداقك على يورانشيا حتى خلاصك من الجسد وارتقائك إلى يد أبينا اليمنى ذات السيادة. عندما أراك مرة أخرى على ساﻟﭭينغتون, سنرحب بعودتك إلينا كالسُلطان السامي وغير المشروط لهذا الكون الذي من صنعك, وخدمتك, وتفهمك المتمم.
120:3.11 (1330.6) "عوضاً عنك أنا الآن أحكم. أتقلد الولاية القضائية لكل نِبادون كسُلطان متصرف خلال فترة إغداقك السابع والبشري على يورانشيا. وإليك, يا جبرائيل, أعهد بسلامة حفظ مَن على وشك أن يصبح ابن الإنسان حتى عودته إلي حاضراً بقدرة ومجد باعتباره ابن الإنسان وابن الله. ويا جبرائيل, أنا سيدك إلى أن يعود ميخائيل."
* * *
120:3.12 (1330.7) بعدئذٍ, فورًا, في حضور كل ساﻟﭭينغتون مجتمعين, ارتحل ميخائيل من وسطنا ولم نعد نراه في مكانه المعهود حتى عودته كحاكم شخصي وسامي للكون, بعد إتمام مهمة إغداقه على يورانشيا.
120:4.1 (1331.1) وهكذا بعض أولاد ميخائيل غير الجديرين, الذين اتهموا أباهم الخالق بأنه ينشد الحكم بأنانية وعكفوا على الدس بأن الابن الخالق مدعوم بشكل تعسفي واستبدادي في السلطة بفضل الولاء غير العقلاني لكون مخدوع من المخلوقات الخاضعة, كان يتعين إسكاتهم إلى الأبد وتركهم مرتبكين وخائبي الأمل بحياة خدمة ناسية للذات التي دخل عليها الآن ابن الله باعتباره ابن الإنسان ــ طوال ذلك بينما خاضع "لمشيئة الأب الفردوسي".
120:4.2 (1331.2) لكن لا تُخطئ, فالمسيح ميخائيل, في حين أنه حقاً كائن مزدوج الأصل, لم يكن شخصية مزدوجة. هو لم يكن الله في ارتباط مع الإنسان, إنما بالأحرى الله متجسد في الإنسان. وكان دائماً مجرد ذلك الكائن المُركَّب. العامل التقدمي الوحيد في تلك العلاقة غير المفهومة كان الإدراك التدريجي للوعي الذاتي والإعتراف (من قبل العقل البشري) لهذا الواقع لكيانه إلهًا وإنسانًا.
120:4.3 (1331.3) لم يصبح المسيح ميخائيل تدريجياً الله. الله لم يصبح, عند لحظة حيوية ما في حياة يسوع الأرضية, إنساناً. كان يسوع إلهًا وإنسانًا ــ دائماً وحتى إلى الأبد. وهذا الإله وهذا الإنسان كانا, ولا يزالان, واحدًا, حتى كما ثالوث الفردوس من كائنات ثلاثة هم في الواقع إلَه واحد.
120:4.4 (1331.4) أبداً لا تغفل عن حقيقة أن الغرض الروحي الأعلى لإغداق ميخائيل كان تعزيز كشف الله.
120:4.5 (1331.5) لدى بشر يورانشيا مفاهيم متباينة عن المُعجز, لكن بالنسبة لنا الذين نعيش كمواطنين للكون المحلي هناك القليل من المعجزات, ومن هذه الأكثر إثارة للإهتمام هي الإغداقات التجسدية لأبناء الفردوس. الظهور في عالَمكم وعليه, من خلال عمليات طبيعية على ما يبدو, لابن إلَهي, نعتبره بمثابة معجزة ــ تشغيل قوانين كونية تتجاوز فهمنا. كان يسوع الناصري شخصاً معجزة.
120:4.6 (1331.6) في ومن خلال كل هذه التجربة الاستثنائية, اختار الله الأب أن يُجلي ذاته كما يفعل دائماً ــ بالطريقة المعتادة ــ بالطريقة العادية, الطبيعية, والموثوقة للتصرف الإلَهي.
كِتاب يورانشيا
ورقة 121
121:0.1 (1332.1) عامل تحت إشراف لجنة من اثني عشر عضواً من الأخوية المتحدة لمنتصفي طريق يورانشيا, برعاية مشتركة من قِبل رئيس مرتبتنا والملكيصادق المسجل, أنا منتصف الطريق الثانوي المُلحق في أحد الأوقات إلى الرسول أندراوس, وأنا مخول لأضع على السجل رواية تعاملات حياة يسوع الناصري كما لوحظت بمرتبتي من المخلوقات الأرضية, وكما تم تسجيلها بشكل جزئي في وقت لاحق بواسطة الشخص البشري في وصايتي الزمنية. عالم كيف تجنب سيده بمنتهى الدقة ترك سجلات مكتوبة وراءه, رفض أندراوس بثبات مضاعفة نُسَخ روايته المكتوبة. وقد أدى موقف مشابه من جهة رُسل يسوع الآخرين إلى تأخير كبير في كتابة الأناجيل.
121:1.1 (1332.2) لم يأت يسوع إلى هذا العالَم خلال عصر انحطاط روحي؛ كانت يورانشيا عند وقت ولادته تشهد إحياءً للتفكير الروحي والعيش الديني كما لم يكن معروفاً في كل تاريخها السابق ما بعد الآدمي ولم تختبره في أي عصر منذ ذلك الحين. عندما تجسد ميخائيل على يورانشيا, قَدَمَ العالَم الظرف الأكثر ملاءمة لإغداق الابن الخالق أكثر مما ساد سابقاً أوحصل منذ ذلك الحين. في القرون التي سبقت بالضبط تلك الأوقات كانت حضارة الإغريق ولغتهم قد انتشرت في الغرب والشرق الأدنى؛ واليهود, كائنين شعب شرق أوسطي, في الطبيعة جزء غربي وجزء شرقي, كانوا مهيئين بشكل بارز للاستفادة من مثل هذه الأوضاع الحضارية واللغوية من أجل الانتشار الفعّال لدِين جديد في كل من الشرق والغرب. هذه الظروف الأكثر ملاءمة تم تعزيزها إضافياً من خلال الحكم السياسي المتسامح لعالَم البحر الأبيض المتوسط من قِبل الرومان.
121:1.2 (1332.3) هذا المزيج الكامل من التأثيرات العالمية يتجلى جيداً من خلال أنشطة بولس, الذي, كائن في الثقافة الدينية عبرانياً من العبرانيين, أعلن إنجيل المسيح اليهودي باللغة اليونانية, بينما كان هو ذاته مواطناً رومانياً.
121:1.3 (1332.4) لم يُشاهد في الغرب أي شيء مثل حضارة عصر يسوع قبل تلك الأيام أو بعدها. كانت الحضارة الأوروبية موحَدة ومنسَّقة تحت تأثير ثلاثي غير عادي:
121:1.4 (1332.5) 1. الأنظمة السياسية والاجتماعية الرومانية.
121:1.5 (1332.6) 2. اللغة والثقافة الإغريقية ــ والفلسفة إلى حد ما.
121:1.6 (1332.7) 3. التأثير السريع الانتشار للتعاليم الدينية والأخلاقية اليهودية.
121:1.7 (1332.8) عندما وُلد يسوع, كان عالَم البحر الأبيض المتوسط بأكمله إمبراطورية موحَدة. طرقات صالحة, للمرة الأولى في تاريخ العالَم, وصلت العديد من المراكز الرئيسية. تم تطهير البحار من القراصنة, وكان عهد عظيم من التجارة والسفر يتقدم بسرعة. لم تتمتع أوروبا مرة أخرى بفترة كهذه من السفر والتجارة حتى القرن التاسع عشر بعد المسيح.
121:1.8 (1333.1) بالرغم من السلام الداخلي والإزدهار السطحي للعالَم الإغريقي-الروماني, فإن غالبية سكان الإمبراطورية رزحوا في القذارة والفقر. كانت الطبقة العليا الصغيرة غنية؛ طبقة أسفل فقيرة وتعيسة ضمت صف وطابور الإنسانية. لم يكن هناك طبقة وسطى سعيدة وميسورة في تلك الأيام؛ كانت قد بدأت للتو بالظهور في المجتمع الروماني.
121:1.9 (1333.2) كانت الصراعات الأولى بين الدولتين المتوسعتين الرومانية والفارسية قد انتهت في الماضي القريب آنذاك, تاركة سوريا في أيدي الرومان. في أوقات يسوع, كانت فلسطين وسوريا تتمتعان بفترة ازدهار, وسلام نسبي, واتصالات تجارية واسعة النطاق مع أراضي كل من الشرق والغرب.
121:2.1 (1333.3) كان اليهود جزءًا من العرق السامي الأقدم, الذي شمل أيضاً البابليين, والفينيقيين, وأعداء روما الأحدث, القرطاجيين. خلال الجزء الأول من القرن الأول بعد المسيح, كان اليهود الفئة الأكثر نفوذاً بين الشعوب السامية, وصادف انهم شغلوا موقعاً جغرافياً استراتيجياً مميزاً في العالَم كما كان في ذلك الوقت محكوماً ومُنظماً من أجل التجارة.
121:2.2 (1333.4) مرت العديد من الطرق الرئيسية العظيمة التي وصلت الأمم القديمة عبر فلسطين, والتي أصبحت بالتالي مكان اللقاء, أو ملتقى الطرق لثلاث قارات. السفر, والتجارة, وجيوش بابل, وأشور, ومصر, وسوريا, واليونان, وفارس, وروما اكتسحت فلسطين على التوالي. منذ العصور السحيقة, مرت العديد من طرق القوافل من الشرق عبر جزء من هذه المنطقة إلى الموانئ البحرية الصالحة القليلة في الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط, حيث حملت السفن حمولتها إلى كل ملاحة الغرب. وأكثر من نصف تجارة هذه القوافل عبرت خلال أو بالقرب من بلدة الناصرة الصغيرة في الجليل.
121:2.3 (1333.5) مع أن فلسطين كانت موطن الحضارة الدينية اليهودية ومسقط رأس المسيحية, إلا أن اليهود كانوا في الخارج في العالَم, ساكنين في أمم كثيرة ومتاجرين في كل مقاطعة من الولايات الرومانية والفارسية.
121:2.4 (1333.6) قدمت اليونان لغة وحضارة, وبنت روما الطرقات ووَّحَدَت الإمبراطورية, لكن تشتت اليهود, مع أكثر من مائتي كنِيس لهم وجاليات دينية حسنة التنظيم منتشرة هنا وهناك في كل أنحاء العالَم الروماني, وفرت المراكز الحضارية التي وجد فيها الإنجيل الجديد لملكوت السماء استقبالاً أولياً, ومنها انتشر لاحقاً إلى أقصى أجزاء العالَم.
121:2.5 (1333.7) احتمل كل كنِيس يهودي حفنة من المؤمنين الأمميين, أناس "أتقياء" أو "يخافون الله", ولقد كان بين هذه الحفنة من المهتدين حيث جعل بولس الجزء الأكبر من أتباعه المبكرين إلى المسيحية. حتى الهيكل عند أورشليم كان يمتلك رواق الأمميين المزخرف. كان هناك ارتباط وثيق جدًا بين ثقافة, وتجارة, وعبادة أورشليم وإنطاكية. في إنطاكية أول ما دُعي تلاميذ بولس "مسيحيين".
121:2.6 (1333.8) شكلت مركزية عبادة المعبد اليهودي عند أورشليم سر بقاء توحيدهم والوعد برعاية والبعث إلى العالَم مفهوماً جديداً وموسعاً عن ذلك الله الواحد لكل الأمم وأب جميع البشر. مثـَّلت خدمة الهيكل عند أورشليم مفهوماً حضارياً دينياً في وجه التدهور المتتالي لرؤساء وطنيين أمميين ومضطهِدين عنصريين.
121:2.7 (1334.1) الشعب اليهودي لهذا الوقت, مع أنه تحت السيادة الرومانية, تمتع بدرجة معتبرة من الحكم الذاتي, ومتذكرين مآثر الخلاص البطولية الوحيدة الحديثة آنذاك لتي نفذها يوداص الماكابي وخلفاؤه المباشرين, كانوا نابضين بتوقعات الظهور الفوري لما لا يزال مخلصٍ أعظم, المسيح المُنتظَر منذ أمد طويل.
121:2.8 (1334.2) كان سر بقاء فلسطين, مملكة اليهود كدولة شبه مستقلة, مغلفاً في السياسة الخارجية للحكومة الرومانية, التي كانت ترغب في الحفاظ على سيطرتها على الطريق الرئيسي الفلسطيني للسفر بين سوريا ومصر بالإضافة إلى المحطات الغربية لطرق القوافل بين الشرق والغرب. لم تكن روما ترغب في أن تنشأ أي قوة في الشرق الأدنى التي قد تحد من توسعها المستقبلي في هذه المناطق. إن سياسة المؤامرة التي كان غرضها تأليب سوريا السلوقية ومصر البطلمية ضد بعضهما البعض اقتضت تعزيز فلسطين كدولة منفصلة ومستقلة. السياسة الرومانية, وانحطاط مصر, والإضعاف التدريجي للسلوقيين أمام قوة فارس الصاعدة, تفسر لماذا لعدة أجيال تمكنت مجموعة صغيرة وغير قوية من اليهود من الحفاظ على استقلالها ضد كل من السلوقيين في الشمال والبطالمة في الجنوب. هذه الحرية العرضية والاستقلال للحكم السياسي للشعوب المجاورة والأقوى, عزاها اليهود إلى واقع أنهم كانوا "الشعب المختار", إلى التدخل المباشر ليهوه. مثل هذا الموقف من التفوق العرقي جعل الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لهم لتحمل السيادة الرومانية عندما حلت أخيرا على أرضهم. لكن حتى في تلك الساعة الحزينة, رفض اليهود أن يتعلموا بأن رسالتهم العالمية كانت روحية, وليست سياسية.
121:2.9 (1334.3) كان اليهود يشعرون بالقلق والريبة على نحو غير عادي في أوقات يسوع لأنهم كانوا حينئذٍ تحت حُكم خارجي, هيرودس الأدومي, الذي استولى على حُكم اليهودية من خلال تقربه بمهارة للحكام الرومان. ولو إن هيرودس أقر بالولاء للطقوس العبرية الاحتفالية, فقد شرع في بناء معابد للعديد من الآلهة الغريبة.
121:2.10 (1334.4) علاقة هيرودس الودية مع الحكام الرومانيين جعلت العالَم آمناً للمسافرين اليهود وبالتالي فتحت الطريق أمام التغلغل اليهودي المتزايد حتى لأجزاء بعيدة من الإمبراطورية الرومانية وأمم أجنبية تتفق مع الإنجيل الجديد لملكوت السماء. كذلك ساهم حُكم هيرودس كثيرًا تجاه مزيد من المزج بين الفلسفات العبرية والهلنستية.
121:2.11 (1334.5) بنى هيرودس ميناء قيصرية, الأمر الذي ساعد إضافياً في جعل فلسطين ملتقى طرقات العالَم المتحضر. توفي عام 4 ق.م., وحكم ابنه هيرودس أنتيباس الجليل وبيريا خلال فترة شباب يسوع وإسعافه حتى عام 39م. أنتيباس, مثل والده, كان بَنَّاءً عظيماً. أعاد بناء الكثير من مُدن الجليل, بما فيها المركز التجاري الهام في صفوريه.
121:2.12 (1334.6) لم يُنظر إلى الجليليين بحظوة كاملة من قبل الزعماء الدينيين في أورشليم والمعلمين الحاخامات. كان الجليل أممياً أكثر مما كان يهودياً عندما ولد يسوع.
121:3.1 (1334.7) مع أن الحالة الاجتماعية والاقتصادية للدولة الرومانية لم تكن من أعلى مرتبة, إلا أن السلام والازدهار الداخلي الواسع النطاق كانا مواتيين من أجل إغداق ميخائيل. في القرن الأول بعد المسيح تألف مجتمع عالَم البحر الأبيض المتوسط من خمس طبقات مُحددة جيداً:
121:3.2 (1335.1) 1. الأرستقراطية. الطبقات الأعلى مع مال وسلطة رسمية, الفئات الحاكمة وذات الامتياز.
121:3.3 (1335.2) 2. مجموعات الأعمال. الأمراء التجاريون والمصرفيون, التجار ــ كبار المستوردين والمصدرين ــ التجار الدوليين.
121:3.4 (1335.3) 3. الطبقة الوسطى الصغيرة. مع أن هذه الفئة كانت صغيرة بالفعل, إلا أنها كانت ذات نفوذ كبير وزودت العمود الفقري الأخلاقي للكنيسة المسيحية المبكرة, مما شجع هذه الجماعات على الاستمرار في صناعتها وحِرفها المتنوعة. بين اليهود كان العديد من الفريسيين ينتمون إلى هذه الطبقة من التجار.
121:3.5 (1335.4) 4. البروليتاريون الأحرار. كان لدى هذه الفئة مكانة اجتماعية ضئيلة أو معدومة. رغم أنهم فخورون بحريتهم, فقد وُضِعوا في موقف عسر جداً لأنهم أجبروا على التنافس مع عمل العبيد. لقد اعتبرتهم الطبقات العليا بازدراء, مجيزة بأنهم بدون فائدة ما عدا من أجل "أهداف التكاثر".
121:3.6 (1335.5) 5. العبيد. كان نصف سكان الدولة الرومانية من العبيد؛ كان الكثير منهم أفراد فائقين وشقوا طريقهم بسرعة بين البروليتاريا الأحرار وحتى بين ألتجار. كانت الغالبية إما متوسطين أو وضيعين جداً.
121:3.7 (1335.6) كان الرق, حتى بالنسبة للشعوب المتفوقة, سمة من سمات الغزو العسكري الروماني. كانت سلطة السيد على عبده باتة. كانت الكنيسة المسيحية المبكرة مكونة إلى حد كبير من الطبقات الأدنى وهؤلاء العبيد.
121:3.8 (1335.7) غالباً ما تلقى العبيد الفائقين أجور, وبتوفير أجورهم تمكنوا من شراء حريتهم. لقد ارتقى العديد من هؤلاء العبيد المحررين إلى مناصب عليا في الدولة, والكنيسة, وعالَم الأعمال. وكانت مثل هذه الإمكانيات تماماً ما جعل الكنيسة المسيحية المبكرة متسامحة للغاية مع هذا الشكل المعدل من العبودية.
121:3.9 (1335.8) لم تكن هناك مشكلة اجتماعية واسعة الانتشار في الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول بعد المسيح. اعتبر الجزء الأكبر من السكان أنفسهم على أنهم ينتمون إلى تلك الفئة التي صادف أن ولدوا فيها. كان هناك دائماً الباب المفتوح الذي يمكن من خلاله للأفراد الموهوبين والقادرين الارتقاء من الطبقة الدنيا إلى الطبقة الأعلى في المجتمع الروماني, لكن الناس كانوا على العموم مقتنعين بمرتبتهم الاجتماعية. لم يكونوا واعين طبقياً, ولم ينظروا إلى هذه الفروق الطبقية على أنها ظالمة أو خاطئة. لم تكن المسيحية بأي حال من الأحوال حركة اقتصادية تهدف إلى إصلاح تعاسة الطبقات المحبطة.
121:3.10 (1335.9) مع أن المرأة تمتعت بمزيد من الحرية في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية أكثر مما في مركزها المقيد في فلسطين, إلا أن التفاني الأسري والود الطبيعي لليهود تجاوزا بكثير ما كان عليه العالم الأممي.
121:4.1 (1335.10) كان الأمميون, من وجهة نظر أخلاقية, نوعاً ما أدنى من اليهود, لكن كان هناك في قلوب الأمميين الأنبل تربة وافرة من الخير الطبيعي والمودة الإنسانية المحتملة التي كان ممكناً فيها لبذور المسيحية أن تنمو وتنتج حصاداً وافراً من الطبع الأخلاقي والإنجاز الروحي. كان العالَم الأممي عند ذاك مُسيطَراً عليه بأربع فلسفات عظيمة, كلها مشتقة إلى حد ما من أفلاطونية الإغريق الأبكر. كانت مدارس الفلسفة هذه:
121:4.2 (1335.11) 1. الإبيقوريون. كانت مدرسة الفكر هذه مُكرسة للسعي وراء السعادة. أفضل الأبيقوريين لم يتعاطوا بالنزوات الزائدة. على الأقل ساعدت هذه العقيدة على تخليص الرومان من الشكل الأكثر فتكاً للجبرية (القضاء والقدر)؛ علـَّمت أن الناس يمكنهم فعل شيء ما لتحسين أوضاعهم الأرضية. لقد قاومت بشكل فعال الخرافات الجاهلة.
121:4.3 (1336.1) 2. الرواقيون. كانت الرواقية الفلسفة الفائقة للطبقات الأفضل. اعتقد الرواقيون بأن عقل-مصير متحكم يسيطر على كل الطبيعة. علـَّموا بأن نفـْس الإنسان كانت إلَهية؛ أنها مسجونة في الجسم الشرير ذا الطبيعة المادية. أنجزت نفـْس الإنسان الحرية بالعيش في انسجام مع الطبيعة, مع الله, هكذا جاءت الفضيلة لتكون ثوابها الخاص. ارتقت الرواقية إلى أخلاقية سامية, مُثل لم تُتخطى منذ ذلك الحين بأي نظام فلسفي بشري بحت. بينما أعلن الرواقيون أنهم "نسل الله", إلا أنهم فشلوا في معرفته وبالتالي فشلوا في العثور عليه. بقيت الرواقية فلسفة؛ لم تصبح أبداً دِين. سعى أتباعها لدوزنة عقولهم إلى إيقاع العقل الكوني, لكنهم فشلوا في تصور أنفسهم كأولاد لأب محب. مال بولس بثقل نحو الرواقية عندما كتب, "لقد تعلمت سواء في أي حالة كنت فيها, أن أكون بها قانعاً".
121:4.4 (1336.2) 3. الكلبيون. مع أن الكلبيين اقتفوا فلسفتهم إلى ديوجنيس الأثيني, إلا أنهم استخلصوا الكثير من عقيدتهم من بقايا تعاليم ماﻜﻴﭭِنتا ملكيصادق. كانت الكلبية سابقاً دِين أكثر مما كانت فلسفة. على الأقل جعل الكلبيون فلسفتهم-الدينية ديمقراطية. وعظوا مذهبهم باستمرار في الحقول وفي الأسواق بأن "الإنسان يمكنه أن يخلص نفسه إذا شاء". وعظوا البساطة والفضيلة وحثوا الناس على مواجهة الموت بلا وجل. قام هؤلاء الكلبيون المتجولون بالكثير لتحضير الشعب العام الجائع روحياً من أجل المبشرين المسيحيين اللاحقين. كانت خطتهم للوعظ العام تشبه إلى حد كبير نمط رسائل بولس, وفي مطابقة مع أسلوبها.
121:4.5 (1336.3) 4. المشككون. جزمت الشكوكية بأن المعرفة كانت خادعة, وبأن القناعة واليقين مستحيلان. لقد كانت ذات موقف سلبي بحت ولم تصبح واسعة الانتشار أبداً.
121:4.6 (1336.4) كانت هذه الفلسفات شبه دينية, كانت في كثير من الأحيان منعشة, أخلاقية, ومُشَرفة لكنها كانت عادة فوق عامة الناس. مع الاستثناء المحتمل للكلابية, كانت فلسفات من أجل القوي والحكيم, ليست ديانات خلاص حتى للفقير والضعيف.
121:5.1 (1336.5) على مر العصور السابقة كان الدِين في الأساس شأن القبيلة أو الأمة؛ لم يكن في كثير من الأحيان مصدر اهتمام للفرد. كانت الآلهة قبلية أو قومية, ليست شخصية. مثل هذه الأنظمة الدينية لم تمنح سوى القليل من الرضا للأشواق الروحية الفردية للشخص العادي.
121:5.2 (1336.6) في أوقات يسوع تضمنت أديان الغرب:
121:5.3 (1336.7) 1. العقائد الوثنية. كانت هذه مزيجاً من الأساطير الهيلينية واللاتينية, والوطنية, والتقاليد.
121:5.4 (1336.8) 2. عبادة الإمبراطور. كان هذا التأليه للإنسان كرمز الدولة موضع استياء شديد من قبل اليهود والمسيحيين الأوائل وأدى مباشرة إلى الاضطهاد المرير للكنيستين من قبل الحكومة الرومانية.
121:5.5 (1337.1) 3. التنجيم. تطور هذا العِلم الزائف من بابل إلى دِين في جميع أنحاء الإمبراطورية الإغريقية-الرومانية. حتى في القرن العشرين لم يتحرر الإنسان بالكامل من هذا الاعتقاد الخرافي.
121:5.6 (1337.2) 4. الديانات الباطنية. على مثل هذا العالم الجائع روحياً نزل سيل من المعتقدات الباطنية, ديانات جديدة وغريبة من الشرق الأدنى, فتنت عامة الناس ووعدتهم بالخلاص الفردي. سرعان ما أصبحت هذه الأديان المعتقد المقبول للطبقات الدنيا من العالَم الإغريقي-الروماني. وقد فعلت الكثير لتمهيد الطريق للانتشار السريع للتعاليم المسيحية المتفوقة بشكل كبير, والتي قدمت مفهوماً مهيباً عن الإلَه, مُرتبطاً بلاهوتية مثيرة للفضول من أجل الشخص الذكي وعرض عميق بالخلاص للجميع, بما فيهم الجاهل لكن الإنسان العادي الجائع روحياً لتلك الأيام.
121:5.7 (1337.3) وضعت الديانات الباطنية نهاية المعتقدات القومية وأدت إلى ولادة العديد من المعتقدات الشخصية. كانت الباطنيات كثيرة ولكن جميعها تميزت بالتالي:
121:5.8 (1337.4) 1. أسطورة خرافية ما, لغز ــ من حيث إسمها. كقاعدة تعلق هذا اللغز بقصة حياة وموت إله ما ورجوعه إلى الحياة, كما هو مصُّور في تعاليم الميثرانية, التي كانت, لفترة من الزمن, معاصرة لعقيدة بولس المسيحية الصاعدة, ومنافسة لها.
121:5.9 (1337.5) 2. كانت الباطنيات غير قومية ونتاج اعراق مختلفة. كانت شخصيه وأخوية, مؤدية إلى قيام الأخويات الدينية والعديد من المجتمعات الطائفية.
121:5.10 (1337.6) 3. تميزت, في خدماتها, بطقوس مُتقَنة للاستهلال وقداديس عبادة مؤثرة. كانت شعائرهم وطقوسهم السرية مروعة ومثيرة للإشمئزاز في بعض الأحيان.
121:5.11 (1337.7) 4. لكن بغض النظر عن طبيعة احتفالاتها أو درجة تجاوزاتها, فقد وعدت هذه الباطنيات دائماً مناصريها بالخلاص, "خلاص من الشر, ونجاة بعد الموت, وحياة دائمة في عوالم هناء ما وراء هذا العالَم من الحزن والعبودية".
121:5.12 (1337.8) لكن لا تخطئ في الخلط بين تعاليم يسوع والباطنيات. تكشف شعبية الباطنيات سعي الإنسان من أجل النجاة, بالتالي مُصّورة الجوع والعطش الحقيقيان للدِين الشخصي والصلاح الفردي. مع أن الباطنيات فشلت في إرضاء هذا الاشتياق بشكل كافٍ, إلا انها مهدت الطريق من أجل ظهور يسوع اللاحق, الذي حقاً أحضر إلى هذا العالَم خبز الحياة وماءها.
121:5.13 (1337.9) بولس, في جهد للاستفادة من الموالاة الواسعة الانتشار إلى الأشكال الأفضل من الديانات الباطنية, أجرى بعض التعديلات على تعاليم يسوع لجعلها أكثر قبولاً لدى عدد أكبر من المتحولين المحتملين. لكن حتى تسويات بولس لتعاليم يسوع (المسيحية) تفوقت على أفضل الباطنيات في أن:
121:5.14 (1337.10) 1. بولس علـّم الفداء الأخلاقي, الخلاص الأدبي. أشارت المسيحية إلى حياة جديدة وأعلنت مثالًا جديداً. نبذ بولس طقوس السحر والافتتان الاحتفالي.
121:5.15 (1337.11) 2. قـدَّمت المسيحية دِيناً الذي اشتبك مع الحلول النهائية لمشكلة الإنسان, لأنها لم تقدم فقط الخلاص من الحزن وحتى من الموت, لكنها أيضًا وعدت بالخلاص من الخطيئة متبوعاً بمنحة طبع بار من صفات البقاء الأبدية.
121:5.16 (1338.1) 3. بُنيت الباطنيات على الأساطير. كانت المسيحية, كما بشر بها بولس, مؤسسة على واقع تاريخي: إغداق ميخائيل, ابن الله, على البشرية.
121:5.17 (1338.2) لم تكن الأخلاق بين الأمميين مرتبطة بالضرورة بالفلسفة أو الدِين, لم يخطر دائماً للناس خارج فلسطين بأن كاهن الدِين كان من المفروض أن يعيش حياة أخلاقية. الدِين اليهودي, وبالتالي تعاليم يسوع وفيما بعد مسيحية بولس المتطورة كانت أول الديانات الأوروبية التي وضعت يداً على الأخلاق واليد الأخرى على الآداب, مُصرة على أن يولي المتدينون بعض الاهتمام بكليهما.
121:5.18 (1338.3) في مثل هذا الجيل من الناس, الذي تهيمن عليه هذه النظم الفلسفية غير المكتملة والمحيرَة بمثل هذه العقائد الدينية المعقدة, وُلد يسوع في فلسطين. وإلى هذا الجيل نفسه أعطى في وقت لاحق إنجيله عن دِين شخصي ــ بنوة مع الله.
121:6.1 (1338.4) بحلول نهاية القرن الأول قبل المسيح, كان الفكر الديني في أورشليم متأثراً بشكل كبير ومُعدلاً إلى حد ما بالتعاليم الثقافية الإغريقية وحتى بالفلسفة الإغريقية. في الصراع الطويل الأمد بين وجهات نظر المدارس الشرقية والغربية للفكر العبري, تبَنـّت أورشليم وبقية الغرب والشرق الأدنى بشكل عام وجهة النظر الغربية اليهودية أو الهلنستية المعدلة.
121:6.2 (1338.5) في أيام يسوع سادت ثلاث لغات في فلسطين: كان عامة الناس يتكلمون بعض اللهجات الآرامية؛ الكهنة والحاخامات تكلموا العبرية؛ الطبقات المتعلمة وأفاضل طبقات اليهود تكلموا بشكل عام اليونانية. كانت الترجمة المبكرة للكتب المقدسة العبرية إلى اليونانية في الإسكندرية مسؤولة إلى حد كبير عن الهيمنة اللاحقة للجناح الإغريقي للثقافة واللاهوت اليهودي. وسرعان ما ظهرت كتابات المعلمين المسيحيين بنفس اللغة. يعود تاريخ النهضة اليهودية من الترجمة اليونانية للكتب المقدسة العبرية. كان هذا التأثير الحيوي هو الذي حدد فيما بعد انجراف عقيدة بولس المسيحية نحو الغرب بدلاً من الشرق.
121:6.3 (1338.6) على الرغم من أن المعتقدات اليهودية المتأثرة بالهيلينية لم تتأثر إلا قليلاً جداً بتعاليم الأبيقوريين, إلا أنها تأثرت مادياً بفلسفة أفلاطون ومذاهب الرواقيين في نبذ الذات. الغزو العظيم للرواقية يتجسد في الكتاب الرابع للمكابيين؛ تغلغُل كل من الفلسفة الأفلاطونية والمذاهب الرواقية معروض في حكمة سليمان. أحضر اليهود المتأثرين بالهيلينية إلى الكتب المقدسة العبرية تفسيرات رمزية بحيث أنهم لم يجدوا صعوبة في مطابقة اللاهوت العبري مع فلسفتهم الأرسطية المُوقرة. لكن كل هذا أدى إلى ارتباك كارثي إلى أن تولى فيلو الإسكندري هذه المشاكل, الذي شرع في تنسيق وترتيب الفلسفة اليونانية واللاهوت العبري في نظام مُدمج ومتناسق إلى حد ما من المعتقدات والممارسات الدينية. ولقد كان هذا التعليم المُركَّب فيما بعد للفلسفة الإغريقية واللاهوت العبري الذي ساد في فلسطين عندما عاش يسوع وعلـَّم, والذي استخدمه بولس كأساس ليبني عليه عقيدته المسيحية الأكثر تقدماً وتنويراً.
121:6.4 (1338.7) كان "فيلو" معلماً عظيماً؛ لم يعش منذ موسى رجل مارس مثل هذا التأثير العميق على الفكر الأخلاقي والديني للعالَم الغربي. في مسألة جمع العناصر الأفضل في أنظمة معاصرة من تعاليم دينية وأدبية, كان هناك سبعة معلمين بشريين بارزين: سيثارد, وموسى, وزرادشت, ولاو-طسي, وبوذا, وفيلو, وبولس.
121:6.5 (1339.1) العديد من, تناقضات فيلو, وليس كلها, الناتجة من محاولة الجمع بين الفلسفة الباطنية الإغريقية والعقائد الرواقية الرومانية مع اللاهوت العبري القانوني, تدارك بولس وحذفها بحكمة من لاهوته الأساسي السابق للمسيحية. قاد فيلو الطريق لبولس لاستعادة مفهوم ثالوث الفردوس بشكل أتم, الذي كان هاجعاً لمدة طويلة في علم اللاهوت العبري. في مسألة واحدة فقط فشل بولس في مواكبة فيلو أو تجاوز تعاليم هذا اليهودي الثري والمتعلم من الإسكندرية, وكان هذا مذهب الكفارة؛ علـَّم فيلو الخلاص من عقيدة الغفران فقط بسفك الدماء. كما أنه من المحتمل أن يكون قد لمَّح إلى واقعية وحضور ضباط الفكر بشكل أوضح مما فعل بولس. لكن نظرية بولس عن الخطيئة الأصلية, ومذاهب الذنـْب الموروث والشر الفطري والفداء من ذلك, كانت جزئياً ميثرانية في الأصل, وليس لها سوى القليل من القواسم المشتركة مع اللاهوت العبري, أو فلسفة فيلو, أو تعاليم يسوع. بعض مراحل تعاليم بولس فيما يتعلق بالخطيئة الأصلية والكفارة كانت أصلية مع نفسه.
121:6.6 (1339.2) كان إنجيل يوحنا, آخر الروايات عن حياة يسوع الأرضية, موجهاً للشعوب الغربية وقدَّم قصته كثيراً في ضوء وجهة نظر المسيحيين الإسكندريين اللاحقين, الذين كانوا أيضاً تلاميذ لتعاليم فيلو.
121:6.7 (1339.3) حوالي وقت المسيح, حدث ارتداد غريب للمشاعر تجاه اليهود في الإسكندرية, ومن هذا المعقل اليهودي السابق انطلقت موجة خبيثة من الاضطهاد, امتدت حتى روما, حيث تم نفي عدة آلاف منها. لكن هذه الحملة المشوهة لم تدم طويلاً؛ سرعان ما استعادت الحكومة الإمبراطورية بالكامل الحريات المقيدة لليهود في جميع أنحاء الإمبراطورية.
121:6.8 (1339.4) في جميع أنحاء العالَم الواسع, بغض النظر عن المكان الذي وجد فيه اليهود أنفسهم مشتتين بتجارة أو اضطهاد, جميعهم باتفاق واحد أبقوا قلوبهم مُرَّكَزة على الهيكل المقدس في أورشليم. لقد نجا اللاهوت اليهودي كما كان يُفـَسَر ويُمارَس عند أورشليم, على الرغم من أنه تم حفظه عدة مرات من النسيان من خلال تدخل بعض المعلمين البابليين في الوقت المناسب.
121:6.9 (1339.5) اعتاد حوالي المليونين والنصف من هؤلاء اليهود المشتتين المجيء إلى أورشليم للاحتفال بأعيادهم الدينية القومية. وبغض النظر عن الاختلافات اللاهوتية أو الفلسفية بين اليهود الشرقيين (البابليين) والغربيين (الهيلينيين), فقد اتفقوا جميعًا على أورشليم كمركز عبادتهم وفي التطلع أبداً إلى مجيء المسيح.
121:7.1 (1339.6) بحلول أوقات يسوع كان اليهود قد وصلوا إلى مفهوم راسخ عن أصلهم, وتاريخهم, ومصيرهم. كانوا قد بنوا جداراً صلباً ليفصل بينهم وبين العالَم الأممي؛ لقد نظروا إلى كل طرق الأمميين بازدراء مطلق. عبدوا نص الناموس وانغمسوا في شكل من أشكال البر الذاتي القائم على كبرياء النسب الزائف. لقد شَّكلوا مفاهيم مسبقة بشأن المسيح الموعود, ومعظم هذه التوقعات تصورت مسيحاً سيأتي كجزء من تاريخهم القومي والعرقي. إلى عبرانيي تلك الأيام كان اللاهوت اليهودي مستقراً بدون نقض, ثابت إلى الأبد.
121:7.2 (1339.7) تعاليم وممارسات يسوع فيما يتعلق بالتسامح واللطف كانت تتعارض مع الموقف الطويل الأمد لليهود تجاه الشعوب الأخرى الذين اعتبروهم كفار. على مدى أجيال, غذى اليهود موقفاً تجاه العالَم الخارجي ما جعل من المستحيل بالنسبة لهم قبول تعاليم السيد حول الأخوة الروحية للإنسان. لم يكونوا مستعدين لمشاركة يهوه على قدم المساواة مع الأمميين وبالمثل غير مستعدين لقبول كابن الله مَن علـَّمهم هذه المذاهب الجديدة والغريبة.
121:7.3 (1340.1) لقد قام الكتبة, والفريسيون, والكهنة بحجز اليهود في عبودية مريعة من الشعائرية والناموسية, عبودية أكثر واقعية بكثير من تلك للحكم السياسي الروماني. لم يتم إخضاع اليهود في زمن يسوع للناموس فحسب بل كانوا مقيدين بالتساوي بالمتطلبات الاستعبادية للتقاليد, التي شملت وغزت كل مجال من مجالات الحياة الشخصية والاجتماعية. كانت هذه اللوائح الدقيقة للسلوك تلاحق وتهيمن على كل يهودي مخلص, وليس من الغريب أنهم رفضوا على الفور أحد أعدادهم الذي افترض تجاهل تقاليدهم المقدسة, والذي تجرأ على الاستهزاء بلوائحهم العريقة للسلوك الاجتماعي. بالكاد كان بامكانهم أن يؤيدوا تعاليم شخص لم يتردد في معارضة مبادئ اعتبروها على أنها مُعَيَنة بالأب إبراهيم نفسه. كان موسى قد أعطاهم شريعتهم ولن يُساوموا.
121:7.4 (1340.2) بحلول القرن الأول بعد المسيح, كانت التفسيرات المنطوقة للشريعة من قِبل الكتبة والمعلمين المُعترف بهم قد أصبحت ذات سُلطة أعلى من الشريعة المكتوبة ذاتها. وكل هذا سهل على بعض القادة الدينيين اليهود حشد الشعب ضد قبول إنجيل جديد.
121:7.5 (1340.3) هذه الظروف جعلت من المستحيل على اليهود أن يحققوا مصيرهم الإلهي كرسل للإنجيل الجديد من الحرية الدينية والتحرير الروحي. لم يتمكنوا من كسر قيود التقاليد. كان إرميا قد أخبرهم عن "الشريعة التي لتكون مكتوبة في قلوب الناس", وحزقيال تكلم عن "روح جديدة لتعيش في نفـْس الإنسان", وكان صاحب المزمور قد صلى بأن الله "سيخلق قلباً نقياً في الداخل ويُجدد روحاً صالحة". لكن عندما وقع الدِين اليهودي من الأعمال الصالحة والعبودية للشريعة ضحية ركود الجمود التقليدي, انتقلت حركة التطور الديني غرباً إلى الشعوب الأوروبية.
121:7.6 (1340.4) وهكذا دُعي شعب مختلف ليحمل عِلم لاهوت متقدم إلى العالَم, نظام تعليم يجسد فلسفة الإغريق, وقانون الرومان, وأخلاق العبريين, وإنجيل قداسة الشخصية والتحرير الروحي الذي صاغه بولس والمؤسَس على تعاليم يسوع.
121:7.7 (1340.5) عَرضت عقيدة بولس المسيحية أخلاقها كوحمة يهودية. كان اليهود ينظرون إلى التاريخ على أنه تدبير الله ــ يهوه عند العمل. أحضر الإغريق إلى التعليم الجديد مفاهيم أكثر وضوحاً عن الحياة الأبدية. تأثرت مذاهب بولس في اللاهوت والفلسفة ليس فقط بتعاليم يسوع بل أيضًا بأفلاطون وفيلو. في الأخلاقيات كان مُلهَماً ليس فقط بالمسيح بل أيضًا بالرواقيين.
121:7.8 (1340.6) أصبح إنجيل يسوع, كما كان مُتجسداً في عقيدة بولس في المسيحية الإنطاكية, مختلطاً بالتعاليم التالية:
121:7.9 (1340.7) 1. المنطق الفلسفي للمهتدين اليونانيين إلى اليهودية, بما في ذلك بعض مفاهيمهم عن الحياة الأبدية.
121:7.10 (1340.8) 2. التعاليم الجذابة للطوائف الباطنية السائدة, ولا سيما العقائد الميثرانية عن الفداء, والتكفير, والخلاص بواسطة التضحية التي قام بها بعض الآلهة.
121:7.11 (1340.9) 3. الأخلاق الراسخة للدِين اليهودي المؤسَس.
121:7.12 (1341.1) كل من الإمبراطورية الرومانية في البحر الأبيض المتوسط, والمملكة الفارسية, والشعوب المجاورة في أوقات يسوع كلهم تمسكوا بأفكار فجّة وبدائية فيما يتعلق بجغرافية العالَم, وعِلم الفلك, والصحة, والمرض؛ وكانوا بطبيعة الحال مندهشين بالتصريحات الجديدة والمذهلة لنجار الناصرة. أفكار التملك الروحي, الجيدة والسيئة, التي لا تنطبق على البشر فقط, ولكن كل صخرة وشجرة كان يٌنظر إليها من قِبل الكثيرين على أنها تمتلك روحًا. كان هذا عصرًا مسحورًا وآمن الجميع بالمعجزات على أنها أحداث شائعة.
121:8.1 (1341.2) قدر الإمكان, تمشيا مع تفويضنا, فقد سعينا لاستخدام وإلى حد ما تنسيق السجلات الموجودة التي لها علاقة بحياة يسوع على يورانشيا. مع أننا استمتعنا بالوصول إلى السجل المفقود للرسول أندراوس وانتفعنا من تعاون جماهير غفيرة من الكائنات السماوية التي كانت على الأرض أثناء أوقات إغداق ميخائيل (لا سيما ضابطه المُشخَّص الآن), فقد كان هدفنا أيضاً الاستفادة مما يسمى أناجيل متـّى, ومرقس, ولوقا, ويوحنا.
121:8.2 (1341.3) سجلات العهد الجديد هذه لديها أصلها في الظروف التالية:
121:8.3 (1341.4) 1. إنجيل مرقس. كتب يوحنا مرقس (باستثناء ملاحظات أندراوس), الأبكر, الأكثر تلخيصاً, والسجل الأكثر بساطةً عن حياة يسوع. لقد قدَّم السيد كمُسعف, كإنسان بين الناس. مع أن مرقس كان فتى يتوانى حول كثير من المشاهد التي يصورها, إلا أن سجله في الواقع هو الإنجيل وفقاً لسمعان بطرس. كان مرتبطاً في وقت مبكر مع بطرس؛ وفيما بعد مع بولس. كتب مرقس هذا السجل عند حث بطرس وعلى الالتماس الجاد للكنيسة في روما. عالماً كيف رفض السيد بثبات كتابة تعاليمه عندما كان على الأرض وفي الجسد, مرقس, مثل الرُسل, وغيرهم من التلاميذ البارزين, كان متردداً في وضعها في كتابة. لكن بطرس شعر بأن الكنيسة في روما تتطلب مساعدة مثل هذه الرواية المكتوبة, ووافق مرقس أن يأخذ على عاتقه إعدادها. قام بتدوين الكثير من الملاحظات قبل موت بطرس عام 67 م., ووفقاً للخطوط العريضة التي وافق عليها بطرس ومن أجل الكنيسة في روما, بدأ كتابته بعد وفاة بطرس بوقت قصير. تم الإنتهاء من الإنجيل قرب نهاية عام 68 م. كتب مرقس بالكامل من ذاكرته الخاصة ومن ذاكرة بطرس. تغيَّر السجل إلى حد كبير منذ ذلك الحين, حيث حُذفت منه فقرات عديدة وأُضيفت إليه بعض المواد لاحقاً عند النهاية لتحل محل الخُمس الأخير من الإنجيل الأصلي, الذي ضاع من المخطوطة الأولى قبل أن تـُنسخ. هذا السُجل من قِبل مرقس, جنبًا إلى جنب مع ملاحظات أندراوس ومتـّى, كان الأساس المكتوب لجميع روايات الإنجيل اللاحقة التي سعت إلى تصوير حياة وتعاليم يسوع.
121:8.4 (1341.5) 2. إنجيل متـّى. إن ما يُسمى بالإنجيل وفقاً لمتـّى هو سجل حياة السيد الذي كُتب من أجل تنوير اليهود المسيحيين. يسعى مؤلف هذا السجل على الدوام ليُري في حياة يسوع بأن الكثير مما فعله كان "حتى يتم ما قاله النبي". يصور إنجيل متـّى يسوع على أنه ابن داود, مصوراً إياه على أنه يُظهر احترامًا كبيرًا للناموس والأنبياء.
121:8.5 (1341.6) لم يكتب الرسول متـّى هذا الإنجيل. لقد كُتب بواسطة إسادور, أحد تلاميذه, الذي ساعده في عمله ليس فقط تذكُرات متـّى الشخصية لهذه الأحداث بل أيضًا سجل معين قام به الأخير عن أقوال يسوع مباشرة بعد الصَلب. هذا السجل لمتى كُتب باللغة الآرامية؛ كتب إسادور باللغة اليونانية. لم يكن هناك نية للخداع في نسب الإنتاج إلى متـّى. كان من المعتاد في تلك الأيام أن يكرم التلاميذ بهذا معلميهم.
121:8.6 (1342.1) تم تنقيح سجل متـّى الأصلي وزيد عليه في عام 40 م. بالضبط قبل مغادرته أورشليم للإنخراط في الوعظ الإنجيلي. لقد كان سجلاً خاصاً, حيث تم إتلاف النسخة الأخيرة في إحراق دير سوري عام 416 م.
121:8.7 (1342.2) هرب إسادور من أورشليم عام 70 م. بعد اكتناف المدينة من قبل جيوش تيطس, آخذاً معه إلى بـِلا نسخة من ملاحظات متـّى. في عام 71 م. أثناء إقامته في بـِلا, كتب إسادور الإنجيل وفقاً لمتـّى. كان معه أيضًا أول أربعة أخماس رواية مرقس.
121:8.8 (1342.3) 3. إنجيل لوقا. لوقا, الطبيب الإنطاكي في بيسيديا, كان أممياً اهتدى بواسطة بولس, وكتب قصة مختلفة تماماً عن حياة السيد. بدأ في اتباع بولس وتعلم عن حياة وتعاليم يسوع في عام 47 م. يحفظ لوقا الكثير من "نعمة الرب يسوع المسيح" في سجله بينما جمع هذه الوقائع من بولس وآخرين. لوقا يقدم السيد على أنه "صديق العشارين والخطاة". لم يصوغ ملاحظاته العديدة في الإنجيل إلا بعد وفاة بولس. كتب لوقا في العام 82 م. في أشاعيا. خطط لثلاثة كُتب تتناول تاريخ المسيح والمسيحية لكنه توفي عام 90 م. بالضبط قبل أن يُكمل الثاني من هذه الأعمال, "أعمال الرسل".
121:8.9 (1342.4) كمادة لتجميع إنجيله, اعتمد لوقا أولاً على قصة حياة يسوع كما رواها له بولس. إنجيل لوقا, بالتالي, هو بطريقة ما الإنجيل وفقاً لبولس. لكن لوقا كانت لديه مصادر أخرى للمعلومات. هو لم يجري مقابلات فقط مع العشرات من شهود العيان على الحلقات العديدة عن حياة يسوع التي يُسجلها, لكن كان معه أيضًا نسخة من إنجيل مرقس, أي, الأربعة أخماس الأولى, ورواية إسادور, وسجل موجز تم في العام 78 م. عند إنطاكية بواسطة مؤمن يدعى سِدِس. كان لدى لوقا أيضًا نسخة مشوهة ومنقحة كثيراً لبعض الملاحظات التي يُزعم أن الرسول أندرو هو من قام بها.
121:8.10 (1342.5) 4. إنجيل يوحنا. الإنجيل بحسب يوحنا يروي الكثير عن عمل يسوع في اليهودية وحول أورشليم الذي لم يرد في السجلات الأخرى. هذا المدعو الإنجيل حسب يوحنا بن زَبـِدي, ولو أن يوحنا لم يكتبه, فقد كان المُلهم له. منذ كتابته الأولى تم تنقيحه عدة مرات لجعله يبدو كأنه مكتوب من قِبل يوحنا نفسه. عندما تم هذا السجل, كان لدى يوحنا الأناجيل الأخرى, ورأى أنه قد تم حذف الكثير؛ بناء على ذلك, في العام 101 م. شجع زميله, ناثان, وهو يهودي يوناني من قيصرية, على بدء الكتابة. زود يوحنا مواده من الذاكرة وبالرجوع إلى السجلات الثلاثة الموجودة بالفعل. لم يكن لديه سجلات مكتوبة خاصة به. الرسالة المعروفة على أنها " يوحنا الأول" كتبها يوحنا نفسه كرسالة مقدمة للعمل الذي نفـَّذه ناثان تحت إشرافه.
121:8.11 (1342.6) كل هؤلاء الكُتّاب قدموا صوراً صادقة عن يسوع كما رأوا, وتذكروا, أو كانوا قد تعلموا عنه, وكما تأثرت مفاهيمهم عن تلك الأحداث البعيدة باستصوابهم اللاحق للاهوت بولس عن المسيحية. وهذه السجلات, رغم عيوبها كما هي, كانت كافية لتغيير مسار تاريخ يورانشيا لما يقرب من ألفي عام.
121:8.12 (1343.1) [ اعتراف: في القيام بمهمتي لإعادة ذِكر التعاليم وإعادة سرد أفعال يسوع الناصري, لقد استخرجت بحرية من كل المصادر ذات السجل والمعلومات الكوكبية. كان دافعي المهيمن هو إعداد سجل لن يكون منَّوراً لجيل الناس الذين يعيشون الآن فحسب, لكن الذي قد يكون مفيدًا أيضًا لجميع الأجيال المستقبلية. من مخزون المعلومات الهائل المتاح لي, اخترت الأنسب لإنجاز هذا الهدف. قدر المستطاع استخلصت معلوماتي من مصادر بشرية بحتة. فقط عندما فشلت هذه المصادر, لجأت إلى تلك السجلات التي هي فوق طاقة البشر. عندما تم التعبير عن الأفكار والمفاهيم عن حياة يسوع وتعاليمه بشكل مقبول من قبل عقل بشري, أعطيت دائماً الأفضلية لأنماط التفكير البشري هذه. مع أنني سعيت لضبط التعبير اللفظي بشكل أفضل ليتوافق مع مفهومنا عن المعنى الحقيقي والمضمون الحقيقي لحياة السيد وتعاليمه, بقدر الإمكان, فقد التزمت بالمفهوم البشري الفعلي ونمط فكره في جميع رواياتي. أعلم جيداً بأن تلك المفاهيم التي لديها أصلها في العقل البشري ستثبت أنها اكثر قبولاً وفائدةً لجميع العقول البشرية الأخرى. عندما لم أتمكن من العثور على المفاهيم الضرورية في السجلات البشرية أو في التعبيرات البشرية, فقد لجأت بالتالي إلى مصادر الذاكرة لمرتبتي الخاصة من مخلوقات الأرض, منتصفي الطريق. وعندما ثبت أن مصدر المعلومات الثانوي هذا غير كافٍ, لجأت دون تردد إلى المصادر الفائقة عن الكوكب للمعلومات.
121:8.13 (1343.2) المذكرات التي جمعتها, والتي أعددت منها هذه الرواية عن حياة وتعاليم يسوع ــ بصرف النظر عن ذاكرة سجل الرسول أندراوس ــ تضم جواهر فِكَر ومفاهيم فائقة لتعاليم يسوع التي تم تجميعها من أكثر من ألفي كائن إنساني من الذين عاشوا على الأرض من أيام يسوع نزولاً إلى وقت استحضار هذه الكشوف, أكثر بالأصح إعادة الصياغة. لقد تم استخدام إذن الكشف فقط عندما فشل السجل البشري والمفاهيم البشرية في تزويد نموذج فكر مناسب. هيئة الوحي الخاصة بي تمنعني من اللجوء إلى مصادر فائقة عن البشري سواء للمعلومات أو التعبير حتى هكذا وقت عندما أتمكن من الإدلاء بالشهادة بأنني قد فشلت في جهودي للعثور على التعبير المفاهيمي المطلوب في مصادر بشرية بحتة.
121:8.14 (1343.3) بينما أنا, مع تعاون أحد عشر منتصف طريق زملاء لي وتحت إشراف ملكيصادق السجل, قمت بتصوير هذه الرواية وفقاً لمفهومي لترتيبها الفعّال وفي استجابة لاختياري للتعبير الفوري, مع ذلك, فإن غالبية الأفكار وحتى بعض التعبيرات الفعّالة التي استخدمتها لها مصدرها في عقول أناس من العديد من الأجناس التي عاشت على الأرض أثناء الأجيال المتداخلة, نزولاً إلى أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة عند وقت هذا التعهد. لقد خدمت من نواحٍ عديدة كمجمع ومنقح أكثر مما كروائي أصلي. لقد قمت بلا تردد برصد تلك الأفكار والمفاهيم, من المفضل البشرية, التي ستمكنني من إنشاء التصوير الأكثر فعالية لحياة يسوع, والتي من شأنها أن تؤهلني لإعادة صياغة تعاليمه التي لا تضاهى بالأسلوب التعبيري الأكثر فائدةً والمُرقي كونياً. بالنيابة عن أخويتي من منتصفي الطريق في يورانشيا, بأكثر الامتنان اعترف بديوننا لجميع مصادر السجل والمفهوم الذي تم استخدامه فيما بعد في الإيضاح الإضافي لإعادة صياغة حياة يسوع على الأرض.]
كِتاب يورانشيا
ورقة 122
122:0.1 (1344.1) لن يكون بالإمكان تقديم شرح كامل للأسباب العديدة التي أدَّت إلى اختيار فلسطين كأرض إغداق ميخائيل, ولا سيما فيما يتعلق بالضبط بالسبب الذي أوجب اختيار عائلة يوسف ومريم كالوسط المباشر من أجل ظهور ابن الله هذا على يورانشيا.
122:0.2 (1344.2) بعد دراسة التقرير الخاص عن أوضاع العوالم المفصولة الذي أعده الملكيصادقين, بالتشاور مع جبرائيل, اختار ميخائيل أخيراً يورانشيا كالكوكب الذي عليه سوف يشرع إغداقه النهائي. لاحقاً لهذا القرار, قام جبرائيل بزيارة شخصية إلى يورانشيا, وكنتيجة لدراسته للجماعات البشرية واستطلاعه للسمات الروحية, والفكرية, والعرقية, والجغرافية للعالَم وشعوبه, قرر بأن العبريين امتلكوا تلك المزايا النسبية التي استدعت اختيارهم كجنس الإغداق. بناءً على موافقة ميخائيل على هذا القرار, عيَّن جبرائيل وأرسل إلى يورانشيا اللجنة العائلية المكونة من اثني عشر ــ التي تم اختيارها من بين أعلى المراتب من شخصيات الكون ــ التي كانت مُستأمنة بمهمة إجراء تحقيق في حياة الأسرة اليهودية. عندما أنهت هذه اللجنة أشغالها, كان جبرائيل حاضراً على يورانشيا وتلقى التقرير الذي رشح ثلاث وحدات محتملة باعتبارها, في رأي اللجنة, مؤاتية بنفس القدر كعائلات إغداق من أجل تجسد ميخائيل المتوقع.
122:0.3 (1344.3) من بين الأزواج الثلاثة المُرشَحين, اختار جبرائيل شخصياً يوسف ومريم, حيث ظهر لاحقاً لمريم شخصياً, في الوقت الذي أبلغها البشائر السارة بأنها اُختيرت لتكون الأُم الأرضية لطفل الإغداق.
122:1.1 (1344.4) كان يوسف الأب البشري ليسوع (يشوع بن يوسف), عبرانياً من العبريين, وإن كان يحمل العديد من السلالات العرقية غير اليهودية التي أضيفت إلى شجرة أجداده من وقت لآخر بواسطة الخطوط الأنثوية لأسلافه. يؤرخ أسلاف والد يسوع رجوعاً إلى أيام إبراهيم ومن خلال هذا البطريرك الموقر إلى خطوط الميراث الأبكر المؤدي إلى السومريين والنوديين, من خلال القبائل الجنوبية للإنسان الأزرق القديم, إلى أندون وفونتا. لم يكن داود وسليمان في خط مباشر لأسلاف يوسف, ولم يعود نسل يوسف مباشرة إلى آدم. كان أسلاف يوسف المباشرين من الميكانيكيين ــ بنائين, ونجارين, وحجارين, وحدادين. كان يوسف نفسه نجاراً وفيما بعد مقاولاً. كانت عائلته تنتمي إلى خط طويل ولامع من نبلاء عامة الشعب, والتي تميزت من وقت لآخر بظهور أفراد غير عاديين الذين تميَّزوا فيما يتعلق بتطور الدِين على يورانشيا.
122:1.2 (1345.1) كانت مريم, الأم الأرضية ليسوع, منحدرة من خط طويل من الأسلاف الفريدة التي تضم العديد من النساء الأكثر شهرة في تاريخ يورانشيا العرقي. مع أن مريم كانت امرأة عادية ليومها وجيلها, مالكة مزاجاً طبيعياً إلى حد ما, إلا أنها حسبت بين أسلافها نساء معروفات جيداً مثل عانون, وثامار, وراعوث, وبثشبع, وأنسي, وكِلوا, وحواء, وإنتا, وراطا. لم يكن لدى أي امرأة يهودية في ذلك اليوم سلالة أكثر امتيازاً لأسلافها المشتركين أو واحدة تعود إلى بدايات أكثر بَرَكة. تميز أسلاف مريم, مثل أسلاف يوسف, بسيطرة أفراد أقوياء إنما متوسطين, متحررين بين آن وآخر بالعديد من الشخصيات البارزة في مسيرة الحضارة والتطور التدريجي للدِين. من منظور عرقي, بالكاد يصح اعتبار مريم يهودية. في الحضارة والمعتقَد كانت يهودية, لكن في الهبة الوراثية كانت أكثر كمزيج من السلالات السورية, والحثية, والفينيقية, والمصرية, كان ميراثها العرقي أكثر عمومية من ذلك ليوسف.
122:1.3 (1345.2) من بين جميع الأزواج الذين سكنوا فلسطين حوالي وقت إغداق ميخائيل المُزمع, كان يوسف ومريم يمتلكان المزيج الأكثر مثاليةً من الروابط العرقية واسعة الانتشار ومتوسط فائق من هبات الشخصية. لقد كانت خطة ميخائيل أن يظهر على الأرض كإنسان عادي, بحيث يفهمه عامة الشعب ويستقبلونه؛ لأجل ذلك اختار جبرائيل بالضبط أشخاصاً مثل يوسف ومريم ليصبحا والدي الإغداق.
122:2.1 (1345.3) بدأ عمل حياة يسوع على الأرض فعلاً بيوحنا المعمدان. انتمى زكريا, والد يوحنا, إلى الكهنوت اليهودي, بينما أُمه, أليصابات, كانت عضواً في الفرع الأكثر ازدهاراً لذات المجموعة العائلية الكبيرة التي انتمت إليها أيضاً مريم أُم يسوع. ورغم أن زكريا وأليصابات, كانا متزوجين لسنوات عديدة, لم يكن لهما أطفال.
122:2.2 (1345.4) لقد كان متأخراً في شهر يونيو عام 8 ق.م., بعد حوالي ثلاثة أشهر من زواج يوسف ومريم, عندما ظَهَر جبرائيل إلى أليصابات عند ظهيرة أحد الأيام, تماماً كما أعلن ظهوره فيما بعد إلى مريم. قال جبرائيل:
122:2.3 (1345.5) "بينما يقف زوجك, زكريا, أمام المذبح في أورشليم, وبينما يصَّلي الشعب المتجمع من أجل مجيء المُخَلص, أنا, جبرائيل, جئت لأعلن بأنكِ قريباً ستحملين ابناً وسيكون البشير لهذا المعلم الإلَهي, وستدعون إبنكم يوحنا. هو سينمو مكرساً للرب إلَهكم, وعندما سيكمل سنواته, سوف يُسِر قلبكِ لأنه سيُحول العديد من النفوس إلى الله, وسيُعلن أيضاً عن مجيء شافي نفوس شعبكِ ومحرر الروح للبشرية جمعاء. ستكون قريبتك مريم أُم هذا الطفل الموعود, وأنا سأظهر لها أيضاً".
122:2.4 (1345.6) أرعبت هذه الرؤية أليصابات بشدة. بعد رحيل جبرائيل قلبت هذه التجربة في عقلها, متمعنة ملياً في أقوال الزائر الجليل, لكنها لم تتكلم عن الوحي لأي شخص ما عدا زوجها حتى زيارتها اللاحقة مع مريم في أوائل شباط من العام التالي.
122:2.5 (1345.7) لخمسة أشهر, على كل, حجبت أليصابات سرها حتى عن زوجها. عند إفشائها لقصة زيارة جبرائيل, كان زكرياً مرتاباً للغاية ولأسابيع شكك في التجربة برمتها, ووافق فقط بقلب فاتر ان يؤمن بزيارة جبرائيل لزوجته عندما لم يعد يشك بأنها كانت تنتظر طفلاً. كان زكريا في حيرة شديدة فيما يتعلق بالأمومة المرتقبة لأليصابات, لكنه لم يشك في نزاهة زوجته, بالرغم من تقدمه في السن. لم يكن إلا حوالي ستة أسابيع قبل مولد يوحنا حينما زكريا, نتيجة لحُلم مؤثر, أصبح مقتنعاً تماماً بأن أليصابات ستصبح أماً لابن القَدَر, الذي كان عليه أن يمهد الطريق من أجل مجيء المسيح.
122:2.6 (1346.1) ظهر جبرائيل إلى مريم حوالي منتصف تشرين الثاني, عام 8 ق.م., بينما كانت تعمل في بيتها الناصري. لاحقًا, بعد أن عرفت مريم بدون شك بأنها ستصبح أُماً, أقنعت يوسف بالسماح لها برحلة إلى مدينة يهوذا, أربعة أميال إلى الغرب من أورشليم, في التلال, لزيارة أليصابات. كان جبرائيل قد أخبر كل من هاتين الأُمهات المرتقبات عن ظهوره إلى الأخرى. بطبيعة الحال كانتا مشتاقتين للالتقاء, ومقارنة التجارب, والتحدث عن المستقبل المُحتمل لأبنائهما. بقيت مريم مع نسيبتها البعيدة لمدة ثلاثة أسابيع. قامت أليصابات بالكثير لتقوية إيمان مريم في رؤيا جبرائيل, بحيث عادت إلى ديارها أكثر تكريساً إلى الدعوة لتكون أُم طفل القَدر الذي كانت لتُقـدم عن قريب إلى العالَم كطفل عاجز, طفل متوسط وعادي من الحيز.
122:2.7 (1346.2) وُلد يوحنا في مدينة يهوذا, 25 آذار عام 7 ق.م. ابتهج زكريا وأليصابات بشدة بإدراكهما أن ابنًا قد أتى إليهما كما وعد جبرائيل, وعندما قدموا الطفل في اليوم الثامن للختان, قاما رسمياً بتعميده بإسم يوحنا, كما تم توجيههما من قبل. كان ابن أخ لزكريا قد رحل تواً إلى الناصرة, حاملاً رسالة أليصابات إلى مريم معلنة بأن ابناً قد وُلد لها وبأن اسمه ليكون يوحنا.
122:2.8 (1346.3) منذ طفولته المبكرة طبع والدا يوحنا في بصيرته الفكرة بأنه سوف يكبر ليصبح قائداً روحياً ومعلماً دينياً. وكانت تربة قلب يوحنا متجاوبة دائماً لزرع مثل هذه البذور الإيحائية. حتى عندما كان طفلاً كان يُعثر عليه في كثير من الاًحيان في المعبد خلال مواسم خدمة والده, وكان متأثراً إلى حد كبير بأهمية كل ما رآه.
122:3.1 (1346.4) في إحدى الأمسيات عند غروب الشمس, قبل أن يعود يوسف إلى البيت, ظهر جبرائيل إلى مريم بجانب طاولة حجرية منخفضة, وبعد أن استعادت رباطة جأشها, قال: "لقد جئت بأمر ممن هو سيدي والذي ستحبينه وتُربينه. إليك يا مريم, أُحضر بشائر مبهجة عندما أعلن بأن حملك قد عُّين من السماء, وأنه في الوقت المستحق ستصبحين أُماً لإبن؛ سوف تدعينه يشوع, وسيفتتح ملكوت السماء على الأرض وبين الناس. لا تتكلمي عن هذا الأمر إلا ليوسف وأليصابات, قريبتك, التي ظهرت أنا إليها أيضاً, والتي سوف تحمل حاليًا ابنًا أيضاً, الذي سيكون اسمه يوحنا, والذي سيمهد الطريق من أجل رسالة الخلاص التي سيعلنها ابنك إلى الناس بقدرة عظيمة وقناعة عميقة. ولا تشكي في كلمتي, يا مريم, لأن هذا البيت قد تم اختياره ليكون المسكن البشري لطفل القدر. بركتي عليكِ, وقدرة الأعلون ستقويكِ, ورب كل الأرض سوف يلقي بظلاله عليكِ.
122:3.2 (1346.5) تأملت مريم في هذه الزيارة سراً في قلبها لعدة أسابيع حتى عرفت بيقين بأنها حامل بطفل, قبل أن تجرؤ على إفشاء هذه الأحداث غير العادية لزوجها. عندما سمع يوسف بكل هذا, على الرغم من ثقته الكبيرة في مريم, إلا أنه كان منزعجاً جداً ولم يتمكن من النوم لعدة ليال. في البداية كان لدى يوسف شكوك حول زيارة جبرائيل. بعد ذاك عندما أصبح على وشك الاقتناع بأن مريم قد سمعت حقًا الصوت وشاهدت شكل الرسول الإلَهي, كان ممزقاً في عقله عندما يتأمل في كيف يمكن لتلك الأشياء أن تكون. كيف يمكن لذرية كائنات بشرية أن يكون ولد قدر إلَهي؟ لم يستطع يوسف أبداً التوفيق بين هذه الأفكار المتنازعة حتى, بعد عدة أسابيع من التفكير, كِلاهما هو ومريم وصَلا إلى استنتاج بأنهما قد تم اختيارهما ليكونا والدا المسيح, ولو إنه بالكاد كان المفهوم اليهودي بأن المُخَلص المتوقَع كان سيكون ذا طبيعة إلَهية. عند الوصول إلى هذا الاستنتاج الهام, سارعت مريم بالرحيل لزيارة أليصابات.
122:3.3 (1347.1) عند عودتها, ذهبت مريم لزيارة والديها, يواشيم وحَنه. كان شقيقاها الاثنان وشقيقاتها الاثنتان, بالإضافة إلى والديها, دائماً متشككين جداً بشأن مهمة يسوع الإلَهية, رغم أنهم, بالطبع, عند هذا الوقت لم يكونوا يعرفون شيئاً عن زيارة جبرائيل. لكن مريم أسَّرت إلى شقيقتها صالومي بأنها تعتقد أن ابنها مُقدَّر ليصبح معلماً عظيماً.
122:3.4 (1347.2) كان إعلان جبرائيل إلى مريم في اليوم التالي لحَمل يسوع وكان الحدث الوحيد لحادث فائق عن الطبيعي المتعلق بكامل تجربة حَمل وولادة طفل الوعد.
122:4.1 (1347.3) لم يتصالح يوسف مع فكرة أن مريم كانت ستصبح أُماُ لطفل غير اعتيادي إلى أن اختبر حُلماً مؤثراً جداً. في هذا الحلم ظهر له رسول سماوي لامع, ومن بين أشياء أخرى, قال: "يوسف, أنا أظهر بأمر من يحكم الآن على العُلى, وأنا موَّجَه لإرشادك بشأن الابن الذي ستحمله مريم, والذي سيصبح نوراً عظيماً في العالَم. فيه ستكون حياة, وحياته ستصبح النور لجنس الإنسان. سيأتي أولاً إلى شعبه الخاص, لكنهم بالكاد سيقبلون به؛ لكن إلى الكثيرين الذين سيقبلون به إليهم سيكشف بأنهم أولاد الله. بعد هذه التجربة لم يشك يوسف أبداً مرة أخرى في قصة مريم عن زيارة جبرائيل والوعد بأن الطفل الذي لم يولد بعد كان ليصبح رسولاً إلَهياً إلى العالَم.
122:4.2 (1347.4) في كل هذه الزيارات لم يُذكر شيء عن بيت داود. لم يكن هناك أي تلميح على الإطلاق عن أن يسوع سيصبح "مخَلص اليهود", ولا حتى أنه ليكون المسيح المنتظر منذ فترة طويلة. لم يكن يسوع المسيح كالذي توقعه اليهود, لكنه كان مُخَلص العالَم. كانت مهمته لجميع الأجناس والشعوب, وليس لأي فئة واحدة.
122:4.3 (1347.5) لم يكن يوسف من خط سلالة الملك داود. كان لدى مريم سلفية داوُدية أكثر من يوسف. صحيح, أن يوسف ذهب إلى مدينة داود, بيت لحم, من أجل التسجيل للإحصاء الروماني, لكن ذلك يرجع لأنه, قبل ستة أجيال سابقة, كان جد آباء يوسف لذلك الجيل, كائن يتيم, قد تبناه واحد صادوق, الذي كان من النسل المباشر لداود؛ من ثم تم احتساب يوسف كذلك على أنه من "بيت داود".
122:4.4 (1347.6) معظم ما يُسمى تنبؤات عن المسيح في كتاب العهد القديم جُعلت لتنطبق على يسوع طويلاً بعد ان عاش حياته على الأرض. لقرون كان الأنبياء العبرانيون قد أعلنوا عن مجيء المُخَلص, وقد تم تأويل هذه الوعود من قِبل أجيال متعاقبة على أنها تشير إلى حاكم يهودي جديد الذي سيجلس على عرش داود, وبأساليب موسى العجائبية المشهورة, سوف يُباشر في ترسيخ اليهود في فلسطين كأمة قديرة, حرة من كل سيطرة أجنبية. مرة أخرى, العديد من الفقرات الرمزية الموجودة في كل أنحاء الكتب المقدسة العبرية أسيء تطبيقها لاحقًا على مهمة حياة يسوع. تم تحريف العديد من أقوال كتاب العهد القديم للغاية بحيث تبدو لتناسب حلقة ما من حياة السيد الأرضية. يسوع نفسه في أحد الأوقات نفى علانية أي صلة ببيت داود الملكي. حتى الفقرة, "فتاة ستلد ابناً", جُعلت بحيث تُقرأ, "عذراء ستلد ابناً". كان هذا صحيحاً أيضًا بالنسبة للعديد من سلاسل أنساب كل من يوسف ومريم التي تم إنشاؤها لاحقاً إلى مهمة ميخائيل على الأرض. تحتوي العديد من هذه الأنساب على الكثير من أجداد السيد, لكن بشكل عام ليست أصلية ولا يُعتمد عليها كحقيقة واقعية. غالباً ما استسلم أتباع يسوع الأوائل إلى إغراء جعل كل البيانات النبوية القديمة بحيث تبدو لتجد إستيفاءًا في حياة ربهم وسيدهم.
122:5.1 (1348.1) كان يوسف رجلاً دمث الأخلاق, حي الضمير للغاية, وبكل طريقة مُخلصًا للأعراف والممارسات الدينية لشعبه. تكلم قليلاً لكنه فَكَر كثيراً. سَببت المحنة المؤسفة للشعب اليهودي الكثير من الحزن ليوسف. كشاب, بين أشقائه وشقيقاته الثمانية, كان أكثر بهجة, لكن في السنوات المبكرة لحياته الزوجية (أثناء طفولة يسوع) كان عرضة لفترات من الإحباط الروحي المعتدل. تحسنت هذه المظاهر المزاجية بشكل كبير مباشرة قبل وفاته المبكرة, وبعد تحسن حالة عائلته الاقتصادية من خلال ترقيه من رتبة نجار إلى دور مقاول ناجح.
122:5.2 (1348.2) كان مزاج مريم تماماُ عكس ذلك لزوجها, كانت في العادة مبتهجة, ونادراً جداً ما تكون منكسرة الخاطر, وامتلكت مزاجاً دائم المرح. انغمست مريم في التعبير الحر والمتكرر عن مشاعرها العاطفية ولم تُلاحظ أبداً لتكون حزينة إلا بعد موت يوسف المفاجيء. وكانت بالكاد قد شفيت من هذه الصدمة عندما سقط عليها القلق والتساؤلات التي أثارتها المهمة غير العادية لإبنها البْكر, التي تكشفت بسرعة كبيرة أمام تحديقها المنذهل. لكن طوال هذه التجربة غير العادية كانت مريم هادئة, وشجاعة, وحكيمة إلى حد ما في علاقتها مع بكرها الغريب والمفهوم قليلاً وإخوته وأخواته الباقين على قيد الحياة.
122:5.3 (1348.3) استمد يسوع الكثير من لطفه غير العادي وفهمه الرائع المتعاطف للطبيعة البشرية من أبيه؛ ورث موهبته كمعَلم عظيم واستطاعته الهائلة على السخط الصالح من أُمه. في ردود أفعاله العاطفية تجاه بيئة حياته البالغة, كان يسوع عند وقت من الأوقات مثل أبيه, متأملاً وعابداً, يتسم أحيانًا بحزن ظاهر؛ لكن في كثير من الأحيان قاد إلى الأمام بأسلوب أُمه المتفائل وطبعها الحازم. بشكل عام, كان مزاج مريم يميل إلى السيطرة على مهمة هذا الابن الإلَهي بينما نشأ وتأرجح نحو الخطوات بالغة الأهمية لحياته البالغة. في بعض التفاصيل كان يسوع مزيجاً من سِمات والديه؛ في نواحٍ أخرى أظهر سمات أحدهم في تباين مع سمات الآخر.
122:5.4 (1348.4) من يوسف, حصل يسوع على تدريبه الصارم في أعراف الطقوس اليهودية وإلمامه غير العادي بالكتب المقدسة العبرية؛ من مريم استمد وجهة نظر أوسع للحياة الدينية ومفهوم أكثر ليبرالية للحرية الروحية الشخصية.
122:5.5 (1349.1) كانت عائلات كل من يوسف ومريم متعلمين جيداً لوقتهم. كان يوسف ومريم متعلمين أعلى بكثير من المتوسط ليومهما ومكانتهما في الحياة. هو كان مفكراً؛ هي كانت مخططة, خبيرة في التكيف وعملية في التنفيذ الفوري. كان يوسف أسمر ذا عيون سوداء, كانت مريم ذات عيون بنية ونوع أشقر تقريباً.
122:5.6 (1349.2) لو عاش يوسف, لكان قد أصبح بلا شك مؤمناً راسخاً في المهمة الإلهية لابنه البكر. تناوبت مريم بين الإيمان والشك, كونها متأثرة إلى حد كبير بالموقف الذي اتخذه أولادها الآخرين وأصدقائها وأقاربها, لكنها كانت دائماً ثابتة في موقفها النهائي بذكرى ظهور جبرائيل إليها مباشرة بعد أن تم حمل الطفل.
122:5.7 (1349.3) كانت مريم حياكة خبيرة وأكثر من متوسطة المهارة في معظم الفنون المنزلية لتلك الأيام؛ كانت ربة منزل جيدة ومدبرة منزل متفوقة. كان كل من يوسف ومريم معلمين جيدين وقد حرصوا على أن يكون أولادهم على دراية حسنة في تعليم تلك الأيام.
122:5.8 (1349.4) عندما كان يوسف شاباً, كان موظفاً من قِبل والد مريم في أعمال بناء إضافة لمنزله, وكان عندما أحضرت مريم إلى يوسف كوباً من الماء, أثناء وجبة الظهيرة, حينما بدأ فعلاً الغزل بين الاثنين اللذين كانا مقدّرين ليصبحا والدا يسوع.
122:5.9 (1349.5) تزوج يوسف ومريم, وفقاً للعادات اليهودية, في بيت مريم في ضواحي الناصرة عندما كان يوسف في الحادية والعشرين من عمره. هذا الزواج ختم تودداً عادياً دام لمدة عامين تقريبًا. بعد ذلك بوقت قصير انتقلا إلى منزلهما الجديد في الناصرة, الذي بناه يوسف بمساعدة اثنين من أشقائه. كان المنزل واقعاً بالقرب من سفح الأرض المرتفعة القريبة التي أشرفت بشكل ساحر على الريف المجاور. في هذا البيت, الذي تم إعداده خصيصاً, فَكَر هذان الأبوان الصغيران والمتوقعان في الترحيب بالطفل الموعود, مدركان قليلاً بأن هذا الحدث الهام للكون كان سوف يبان بينما هما غائبان عن البيت في بيت لحم في يهودا.
122:5.10 (1349.6) أصبح الجزء الأكبر من عائلة يوسف مؤمنين بتعاليم يسوع, لكن قلة قليلة من شعب مريم آمنوا به أبداً إلى أن رحل عن هذا العالَم, مالَ يوسف أكثر نحو المفهوم الروحي للمسيح المنتظر, لكن مريم وعائلتها, خاصة والدها, تمسكوا بفكرة المسيح كمُخَلص دنيوي وحاكم سياسي. كان أسلاف مريم منتمين بشكل بارز إلى النشاطات الماكابية في تلك الأوقات القريبة.
122:5.11 (1349.7) تمسك يوسف بعزم بوجهات النظر الشرقية, أو البابلية للدِين اليهودي؛ مالت مريم بقوة نحو التفسيرات الغربية, أو الهلنستية الأكثر تحرراً والأوسع نطاقاً للشريعة والأنبياء.
122:6.1 (1349.8) لم يكن بيت يسوع بعيداً عن التل المرتفع في الجزء الشمالي من الناصرة, بعض المسافة من نبع القرية, الذي كان في القسم الشرقي من البلدة. سكنت عائلة يسوع في ضواحي المدينة, مما جعل من الأسهل له في وقت لاحق الإستمتاع بالنزهات المتكررة في الريف والقيام برحلات صعوداً إلى قمة هذا المرتفع القريب, الأعلى من كل تلال الجليل الجنوبي باستثناء سلسلة جبل طابور إلى الشرق وتل ناعين, التي كانت تقريباً بنفس الارتفاع. كان منزلهم يقع قليلاً إلى الجنوب والشرق من النتوء الجنوبي لهذا التل وفي منتصف الطريق تقريبًا بين قاعدة هذا المرتفع والطريق المؤدي من الناصرة باتجاه قانا. إلى جانب تسلق التل, كانت نزهة يسوع المفضلة هي تتبع ممر ضيق ملتف حول قاعدة التل في إتجاه شمالي شرقي إلى نقطة حيث وصلت الطريق إلى صفوريه.
122:6.2 (1350.1) كان بيت يوسف ومريم بناءً حجرياً من غرفة واحدة بسقف مسطح وبناء مجاور لإيواء الحيوانات. تألف الأثاث من طاولة حجرية منخفضة, وأواني فخارية وأطباق وقدور حجرية, ونول, وقنديل على عامود, وعدة كراسي صغيرة, وحصائر للنوم على الأرض الحجرية. في الفناء الخلفي, بالقرب من مُلحق الحيوانات, كان المأوى الذي غطى الفرن والمطحنة من أجل طحن الحبوب. تطلب الأمر شخصين لتشغيل هذا النوع من المطحنة, واحد للطحن والآخر لتلقيم الحبوب. كصبي صغير غالباً ما ألقم يسوع هذه المطحنة بالحبوب بينما أدارت أمه الطاحونة.
122:6.3 (1350.2) في السنوات اللاحقة, مع نمو حجم العائلة, كانوا جميعًا يجلسون القرفصاء حول الطاولة الحجرية المُكَبرة للإستمتاع بوجباتهم, متناولين الطعام من طبق, أو وعاء مشترَك. خلال فصل الشتاء, عند وجبة طعام المساء كانت الطاولة تُضاء بمصباح صغير مسطح من الطين, الذي كان يُملأ بزيت الزيتون. بعد ولادة مارثا, بنى يوسف إضافة لهذا المنزل, غرفة كبيرة, كانت تُستخدم كدكان نجارة أثناء النهار وكغرفة نوم عند الليل.
122:7.1 (1350.3) في شهر آذار, 8 ق.م. (الشهر الذي تزوج فيه يوسف ومريم), أصدر أغسطس قيصر مرسومًا يقضي بضرورة تعداد جميع سكان الإمبراطورية الرومانية, بأنه يجب إجراء إحصاء يمكن استخدامه لفرض ضرائب أفضل. كان اليهود دائماً متحاملين بشكل كبير ضد أي محاولة "لإحصاء الشعب", وهذا, فيما يتعلق بالصعوبات المحلية الخطيرة التي واجهها هيرودس, ملك يهودا, قد تآمر لإحداث تأجيل في إجراء هذا الإحصاء في المملكة اليهودية لمدة عام. تم تسجيل هذا الإحصاء في كل أنحاء الإمبراطورية الرومانية في العام 8 ق.م., باستثناء مملكة هيرودس في فلسطين, حيث أُجري في عام 7 ق.م., بعد عام.
122:7.2 (1350.4) لم يكن من الضروري أن تذهب مريم إلى بيت لحم للتسجيل ــ كان يوسف مفوضًا بتسجيل عائلته ــ لكن مريم, كائنة شخصًا مغامرًا ومشاكساً, أصرَّت على مرافقته. خافت أن تُترك وحدها لئلا يولد الطفل بينما كان يوسف بعيداً, ومرة أخرى, نظراً لأن بيت لحم ليست بعيدة عن مدينة يهوذا, فقد تنبأت مريم بزيارة ممتعة محتملة مع نسيبتها أليصابات.
122:7.3 (1350.5) منع يوسف مريم فعلياً من مرافقته, لكن لم يكن ذلك مجديًا؛ عندما صُر الطعام لرحلة ثلاثة أو أربعة أيام, قامت بإعداد حصص مزدوجة واستعدت للرحلة. لكن قبل أن ينطلقا بالفعل, كان يوسف راضياً عن ذهاب مريم إلى جانبه, وببهجة تركا الناصرة عند فجر النهار.
122:7.4 (1350.6) كان يوسف ومريم فقيرين, وحيث كان لديهما دابة واحدة للحمل, فإن مريم, كائنة كبيرة بطفلها, ركبت على الحيوان مع المؤن بينما مشى يوسف, يقود الدابة. كان بناء المنزل وتأثيثه بمثابة استنزاف كبير ليوسف حيث كان عليه أن يساهم أيضاً بإعالة والديه, حيث أصبح أبوه عاجزاً مؤخرًا. وهكذا انطلق هذا الزوج اليهودي من بيتهما المتواضع في وقت مبكر من صباح 18 آب, عام 7 ق.م., على رحلتهما إلى بيت لحم.
122:7.5 (1351.1) حملهما يوم سفرهما الأول حول سفوح جبل الجلبوع, حيث خَّيما من أجل الليل بجانب نهر الأردن وانخرطا في العديد من التكهنات حول نوع الابن الذي سيولد إليهما, يوسف متمسك بمفهوم المعلم الروحي ومريم متمسكة بفكرة المسيح اليهودي, مخَلص الأمة العبرية.
122:7.6 (1351.2) مُشرقاً وباكراُ صباح 19آب, كان يوسف ومريم مجدداً على طريقهما. تناولا وجبتهما الظهرية عند سفح جبل صارتابا, المُشرف على وادي الأردن, وواصلا رحيلهما, واصلين أريحا من أجل الليل, حيث توقفا عند فندق بجانب الطريق العام في ضواحي المدينة. بعد وجبة طعام المساء وبعد نقاش طويل حول تعسف الحُكم الروماني, وهيرودس, والتعداد السكاني, والنفوذ النسبي لأورشليم والإسكندرية كمراكز للتعليم والثقافة اليهودية, رقد مسافرا الناصرة من أجل راحة الليل. في وقت مبكر من صباح 20 آب, استأنفا رحلتهما, واصلان أورشليم قبل الظهر, حيث زارا الهيكل, وذاهبان إلى وجهتهما, واصلان بيت لحم في منتصف العصر.
122:7.7 (1351.3) كان الفندق مزدحماً, وبناء عليه سعى يوسف للسكن مع أقارب بعيدين, لكن كل غرفة في بيت لحم كانت ممتلئة إلى الفيض. عند عودته إلى باحة الفندق, تم إبلاغه بأن إسطبلات القافلة, المنحوتة من جانب الصخر والواقعة تحت الفندق مباشرة, قد تم إخلاؤها من الحيوانات وتنظيفها لاستقبال النزلاء. تاركاً الحمار في الساحة, حمل يوسف على كتفه حقائبهما من الملابس والمؤن ونزل مع مريم الدرجات الحجرية إلى إقامتهما في الأسفل. وجدا أنفسهما فيما قد كان غرفة تخزين حبوب أمام الإسطبلات والمعالف. كانت ستائر خيمة معلقة, وحسبا أنفسهما محظوظين ليكون لديهما مثل هذا الركن المريح.
122:7.8 (1351.4) كان يوسف قد فَكَر في الخروج فوراً لكي يسجل, لكن مريم كانت متعبة؛ كانت تشعر بالأسى الشديد وطلبت منه البقاء بجانبها, وهو ما فعله.
122:8.1 (1351.5) طوال تلك الليلة كانت مريم متململة بحيث أن أيا منهما لم ينام الكثير. بحلول فجر اليوم كانت طلقات الولادة واضحة, وعند الظهر, 21 من شهر آب, عام 7 ق.م., بمساعدة وإسعافات لطيفة من نساء زميلات مسافرات, كانت مريم قد ولدت طفلاً ذَكراً. وُلد يسوع الناصري في العالَم, لـُف في الثياب التي أحضرتها مريم معها لمثل هذا الطارئ المُحتمل, ووضع في مذود قريب.
122:8.2 (1351.6) تماماً بنفس الطريقة كما ولد جميع الأطفال قبل ومنذ ذلك اليوم نحو العالَم, وُلد الطفل الموعود؛ وفي اليوم الثامن, وفقًا للممارسة اليهودية, تم ختانه وسُمي رسمياً يشوع (يسوع).
122:8.3 (1351.7) في اليوم التالي بعد مولد يسوع, قام يوسف بتسجيله. ملتقياً رجلاً كان قد تحدث معه منذ ليلتين سابقتين في أريحا, هذا اصطحب يوسف إلى صديق ميسور له كان لديه غرفة في الفندق, والذي قال بأنه سيتبادل غرفته مع الزوج الناصري بكل سرور. بعد ظهر ذلك اليوم انتقلوا إلى الفندق, حيث عاشوا لحوالي ثلاثة أسابيع إلى أن وجدوا إقامة في بيت نسيب بعيد ليوسف.
122:8.4 (1351.8) في اليوم الثاني بعد ولادة يسوع, أرسلت مريم كلمة إلى أليصابات مفادها بأن ولدها قد جاء وتلقت كلمة بالمقابل تدعو يوسف للصعود إلى أورشليم للتحدث مع زكريا في كل شؤونهم. في الأسبوع التالي ذهب يوسف إلى أورشليم للتشاور مع زكريا. كان كل من زكريا وأليصابات قد أصبحا متملكين بالقناعة الصادقة بأن يسوع كان سيصبح بالفعل المخَلص اليهودي, المسيح, وبأن ابنهما يوحنا ليكون رئيس مساعديه, واليد اليمنى لرجُل القدر. وبما أن مريم تمسكت بنفس الأفكار, فلم يكن من الصعب إقناع يوسف بالبقاء في بيت لحم, مدينة داود, بحيث يمكن ليسوع أن ينمو ليصبح خليفة داود على عرش كل إسرائيل. تبعاً لذلك, ظلوا في بيت لحم لأكثر من سنة, يشتغل يوسف أثنائها عند تجارته في النجارة.
122:8.5 (1352.1) عند ظهيرة ولادة يسوع تجمعت سيرافيم يورانشيا, تحت إشراف مديراتها, وغنين أناشيد المجد فوق مذود بيت لحم, لكن تفوهات التسبيح هذه لم تُسمع بآذان البشر. لا رعاة ولا أي مخلوقات بشرية أخرى أتت لتكريم طفل بيت لحم حتى يوم وصول بعض الكهنة من أور, الذين أُرسلوا من قبل زكريا من أورشليم.
122:8.6 (1352.2) هؤلاء الكهنة من بلاد ما بين النهرين كانوا قد أُخبروا في وقت ما من قِبل معلم ديني غريب في بلادهم بأنه كان لديه حُلم أُبلغ فيه بأن "نور الحياة" كان على وشك الظهور على الأرض كطفل وبين اليهود. وإلى هناك ذهب هؤلاء المعلمون الثلاثة بحثاً عن "نور الحياة" هذا. بعد عدة أسابيع من البحث غير المجدي في أورشليم, كانوا على وشك الرجوع إلى أور عندما التقى بهم زكريا وأفشى اعتقاده بأن يسوع كان غرض بحثهم وأرسلهم إلى بيت لحم, حيث وجدوا الطفل وتركوا هداياهم مع مريم, أُمه الأرضية. كان الطفل يبلغ من العمر ثلاثة أسابيع تقريبًا عند وقت زيارتهم.
122:8.7 (1352.3) هؤلاء الرجال الحكماء لم يروا نجماً يرشدهم إلى بيت لحم. نشأت الأسطورة الجميلة عن نجم بيت لحم على هذا النحو: وُلد يسوع في 21 آب ظهراً, عام 7 ق.م. عند 29 أيار, عام 7 ق.م. حدث هناك التقاء غير عادي لزحل والمشتري في برج الحوت. وإنه واقع فلكي مذهل بأن التقاءات مشابهة حدثت عند 29 أيلول و5 كانون الأول من العام ذاته. على أساس هذه الأحداث الاستثنائية ولكن الطبيعية تماماً, قام الغيورون ذوي النوايا الحسنة من الأجيال اللاحقة ببناء الأسطورة الجذابة لنجم بيت لحم والمجوس العابدين الذين قادهم النجم إلى المذود, حيث شاهدوا وعبدوا الطفل المولود حديثاً. العقول الشرقية وقرب الشرقية تبتهج بالقصص الخيالية, وهم ينسجون باستمرار أساطير جميلة كهذه حول حياة قادتهم الدينيين وأبطالهم السياسيين. في غياب الطباعة, عندما تم نقل معظم المعرفة البشرية بكلمة الفم من جيل إلى آخر, كان من السهل جداً على الأساطير أن تصبح تقاليد وأن تصبح التقاليد في النهاية مقبولة كحقائق.
122:9.1 (1352.4) كان موسى قد علـَّم اليهود بأن كل مولود بِكر هو ملك للرب, وبأنه, بدلاً من تضحيته كما كانت العادة بين الأمم الوثنية, مثل هذا الابن يمكنه العيش شرط أن يفتديه أبواه بدفع خمسة شواقل لأي كاهن مُعتمد. كان هناك أيضًا مرسوم موسوي يوجه بأن الأُم, بعد مرور فترة زمنية معينة, يجب أن تقدم نفسها (أو تدع أحد ما يقوم بالتضحية اللائقة من أجلها) في الهيكل من أجل التطهير. كان من المُعتاد أداء كِلا الطقسين في نفس الوقت. وفقًا لذلك, صعد يوسف ومريم شخصياً إلى الهيكل في أورشليم ليقـدما يسوع إلى الكهنة ولإجراء الفداء له وكذلك للقيام بالتضحية المناسبة لضمان تطهير مريم الطقسي من النجاسة المزعومة للولادة.
122:9.2 (1353.1) هناك حول أروقة المعبد كان يتوانى على الدوام شخصيتان مميزتان, شمعون المغني وحَنة الشاعرة. كان شمعون يهودياً, لكن حَنة كانت جليلية. كان هذا الزوج في كثير من الأحيان في رفقة بعضهما, وكِلاهما كانا صديقين حميمين للكاهن زكريا, الذي استأمن إليهما سر يوحنا ويسوع. كان كل من شمعون وحَنه يتوقان إلى مجيء المسيح, وثقتهما في زكريا قادتهما للاعتقاد بأن يسوع كان المخَلص المتوَقَع للشعب اليهودي.
122:9.3 (1353.2) عَرَف زكريا اليوم الذي كان من المتوقع أن يظهر فيه يوسف ومريم في المعبد مع يسوع, وكان قد رتب مسبقاً مع شمعون وحنه ليشير بتحية يده المرفوعة, أيهم في موكب الأطفال الأبكار كان يسوع.
122:9.4 (1353.3) لهذه المناسبة كانت حَنه قد كتبت قصيدة وشمعون تقدم ليغَنيها, مما أثار كثيراً دهشة يوسف ومريم, وجميع المتجمعين في أروقة الهيكل. وكان هذا نشيدهما لفداء الابن المولود البكر:
122:9.5 (1353.4) تبارك الرب إله إسرائيل,
122:9.6 (1353.5) لأنه زارنا وعمل فداء لشعبه؛
122:9.7 (1353.6) أقام قرن خلاص لأجلنا جميعاً
122:9.8 (1353.7) في منزل خادمه داود.
122:9.9 (1353.8) حتى كما تكلم بفم أنبيائه القديسين ــ
122:9.10 (1353.9) خلاص من أعدائنا ومن يد كل من يبغضنا؛
122:9.11 (1353.10) ليري رحمة إلى آبائنا, ويتذكر عهده المقدس ــ
122:9.12 (1353.11) اليمين الذي أقسمه لإبراهيم أبينا,
122:9.13 (1353.12) ليمنحنا بحيث, كائنين مُخلصين من يد أعدائنا,
122:9.14 (1353.13) يجب أن نخدمه دون خوف,
122:9.15 (1353.14) في قداسة وبِر أمامه كل أيامنا.
122:9.16 (1353.15) نعم, وأنت, أيها الولد الموعود, سوف تُدعى نبي الأعلى؛
122:9.17 (1353.16) لأنك ستذهب أمام وجه الرب لتؤسس ملكوته؛
122:9.18 (1353.17) لتعطي معرفة الخلاص لشعبه
122:9.19 (1353.18) في غفران لخطاياهم.
122:9.20 (1353.19) ابتهجوا برحمة الله السخية لأن فجر النهار من العُلى قد زارنا الآن
122:9.21 (1353.20) ليضيء على أولئك الذين يجلسون في الظلمة وظل الموت؛
122:9.22 (1353.21) ليرشد أقدامنا نحو طرق السلام.
122:9.23 (1353.22) والآن دع خادمك يرحل في سلام, أيها الرب, حسب كلمتك,
122:9.24 (1353.23) لأن عيناي قد رأت خلاصك,
122:9.25 (1353.24) الذي أعددته أمام وجه كل الشعوب؛
122:9.26 (1353.25) نور حتى من أجل إزاحة الستار عن الأمميين
122:9.27 (1353.26) ومجد شعبك إسرائيل.
122:9.28 (1353.27) في طريق العودة إلى بيت لحم, كان يوسف ومريم صامتين ــ مرتبكين ومضطربين. كانت مريم منزعجة كثيراً بتحية حَنه الوداعية, الشاعرة الهرِمة, ولم يكن يوسف في وئام مع هذا الجهد السابق لأوانه لجعل يسوع هو المسيح المنتظر للشعب اليهودي.
122:10.1 (1353.28) لكن مراقبو هيرودس لم يكونوا غير نشطين. عندما أبلغوه بزيارة كهنة أور إلى بيت لحم, استدعى هيرودس هؤلاء الكلدانيين للمثول أمامه. استفسر بجدية من أولئك الرجال الحكماء عن "ملك اليهود" الجديد, لكنهم لم يعطوه سوى القليل من الرضا, موضحين بأن الطفل قد وُلد لامرأة نزلت إلى بيت لحم مع زوجها من أجل تسجيل الإحصاء السكاني. هيرودس, ليس مكتفياً بهذه الإجابة, أرسلهم على الفور مع مال موجهاً بأنهم يجب أن يعثروا على الطفل بحيث هو أيضاً يمكنه أن يأتي ويعبده, لأنهم كانوا قد أعلنوا بأن مملكته كانت لتكون روحانية, وليست دنيوية. لكن عندما لم يرجع الرجال الحكماء, ارتاب هيرودس. بينما قلب هذه الأشياء في عقله, عاد مخبروه وقدموا تقريراً كاملاً عن الأحداث الأخيرة في الهيكل جالبين له نسخة من أجزاء من ترنيمة شمعون التي تم إنشادها في طقوس الفداء ليسوع. لكنهم فشلوا في تتبع يوسف ومريم, وكان هيرودس غاضباً جداً منهم عندما لم يتمكنوا من إخباره إلى أين اخذ الزوجان الطفل. عند ذلك أرسل الباحثين لإيجاد مكان يوسف ومريم. عالمين بأن هيرودس كان يطارد العائلة الناصرية, بقي زكريا وأليصابات بعيدين عن بيت لحم. أخفي الطفل الصبي مع أقرباء يوسف.
122:10.2 (1354.1) كان يوسف خائفاً من البحث عن عمل, وكانت مدخراتهم القليلة تختفي بسرعة. حتى في وقت طقوس التطهير عند الهيكل, اعتبر يوسف نفسه فقيراً بما فيه الكفاية ليبرر تقدمته لمريم فرخا يمام كما وَّجَه موسى من أجل تطهير الأمهات بين الفقراء.
122:10.3 (1354.2) عندما, بعد أكثر من سنة من البحث, لم يجد جواسيس هيرودس يسوع, وبسبب الريبة بأن الطفل لا يزال مُخبأً في بيت لحم, أعد أمراً ينص بإجراء تفتيش منهجي في كل منزل في بيت لحم, وبأن كل الأطفال الصبيان دون السنتين من العمر يجب أن يُقتلوا. بهذه الطريقة كان هيرودس يأمل في التأكد من إهلاك هذا الطفل الذي كان سيصبح "ملك اليهود". وهكذا هلك في يوم واحد ستة عشر طفلاً صبياً في بيت لحم يهودا. لكن الدسيسة والقتل, حتى في عائلته المباشرة, كانت أحداثًا شائعة في بلاط هيرودس.
122:10.4 (1354.3) حدثت مذبحة هؤلاء الأطفال حوالي منتصف تشرين الأول, عام 6 ق.م. عندما كان عمر يسوع أكثر من عام بقليل. لكن كان هناك مؤمنون بالمسيح الآتي حتى بين الملحقين في بلاط هيرودس, وواحد من هؤلاء, عالِم بأمر ذبح الأطفال الصبيان في بيت لحم, تواصل مع زكريا الذي أرسل بدوره رسولاً إلى يوسف؛ وفي الليلة التي سبقت المذبحة رحل يوسف ومريم من بيت لحم مع الطفل إلى الإسكندرية في مصر. من أجل تجنب لفت الانتباه, سافرا وحدهما إلى مصر مع يسوع. ذهبوا إلى الإسكندرية بتمويل من زكريا, وهناك عمل يوسف في حِرفته بينما أقامت مريم ويسوع مع أقارب ميسورين لعائلة يوسف. مكثوا في الإسكندرية لمدة عامين كاملين, ولم يعودوا إلى بيت لحم إلا بعد موت هيرودس.
كِتاب يورانشيا
ورقة 123
123:0.1 (1355.1) نظراً للشكوك والقلق حول المكوث في بيت لحم, لم تفطم مريم الطفل إلى أن وصلوا بـأمان إلى الإسكندرية, حيث تمكنت الأسرة من الاستقرار في حياة طبيعية. سكنوا مع أقارب, وكان يوسف قادراً على إعالة أسرته جيداً بينما أمَّن عملاً بعد وقت قصير من وصولهم. عمل نجاراً لعدة أشهر ثم ترقى إلى مركز مُراقب عمال لمجموعة كبيرة من العمال الموظفين في أحد المباني العامة التي كانت آنذاك قيد الإنشاء. أعطته هذه التجربة الجديدة فكرة أن يصبح متعهداً وبنّاءً بعد عودتهم إلى الناصرة.
123:0.2 (1355.2) خلال كل تلك السنوات المبكرة من طفولة يسوع العاجزة, حافظت مريم على يقظة طويلة وثابتة خشية أن يصيب طفلها أي شيء قد يُعرض سلامته للخطر أو يتعارض بأي شكل من الأشكال مع مهمته المستقبلية على الأرض؛ لم تكن أي أُم أكثر تكريساً لطفلها. في المنزل حيث صادف أن يكون يسوع كان هناك طفلان آخران من عمره تقريباً, وبين الجيران القريبين كان هناك ستة آخرون الذين كانت أعمارهم قريبة بما فيه الكفاية من عمره لجعلهم زملاء لعب مقبولين. في البداية كانت مريم على استعداد لإبقاء يسوع بالقرب منها. كانت تخشى أن يحدث له شيء إذا سُمح له باللعب في الحديقة مع الأطفال الآخرين, لكن يوسف, بمساعدة أقربائه, تمكن من إقناعها بأن مثل هذا المسلك سيحرم يسوع من التجربة المفيدة في تعلم كيفية التأقلم مع الأطفال في سنه. ومريم, مدركة بأن مثل هذا البرنامج للوقاية غير المبررة والحماية غير العادية قد يميل إلى جعله واعياً للذات ونوعاً ما معجباً بذاته, وافقت أخيراً على خطة السماح لطفل الوعد بأن ينمو تماماً مثل أي طفل آخر؛ ومع انها كانت مطيعة لهذا القرار, فقد جعلت شغلها دائماً ان تكون عند المراقبة بينما كان القوم الصغار يلعبون حول المنزل أو في الحديقة. فقط أُم حنونة تستطيع أن تعرف العبء الذي حملته مريم في قلبها من أجل سلامة ابنها خلال سنواته في المهد والطفولة المبكرة.
123:0.3 (1355.3) طوال فترة السنتين من حلولهم في الإسكندرية, تمتع يسوع بصحة جيدة واستمر في النمو بشكل طبيعي. باستثناء عدد قليل من الأقارب والأصدقاء لم يتم إخبار أحد عن كون يسوع "ابن الوعد". كشف أحد أقارب يوسف عن ذلك لعدد قليل من الأصدقاء في ممفيس, من نسل أخناتون البعيد, وهم, مع جماعة صغيرة من المؤمنين الإسكندريين, تجَّمعوا عند البيت الفخم لقريب يوسف المحسن قبل وقت قصير من العودة إلى فلسطين ليتمنوا للعائلة الناصرية الخير ويقَدموا احترامهم إلى الطفل. في هذه المناسبة قدَم الأصدقاء المتجمعون إلى يسوع نسخة كاملة من الترجمة اليونانية للكتابات المقدسة العبرية. لكن هذه النسخة من الكتابات المقدسة اليهودية لم توضع في أيدي يوسف حتى رفض هو ومريم نهائياً دعوة أصدقائهم الممفيسيين والإسكندريين للبقاء في مصر. أصرَّ هؤلاء المؤمنون بأن طفل القدر سيكون قادراً على ممارسة تأثير عالمي كمقيم في الإسكندرية أكثر بكثير من أي مكان محدد في فلسطين. أخَّرت هذه الإقناعات رحيلهم إلى فلسطين لبعض الوقت بعد تلقيهم نبأ موت هيرودس.
123:0.4 (1356.1) أخيراً غادر يوسف ومريم الإسكندرية على متن قارب لصديقهم عزرائيون, متجهًا إلى جُبا (يافا), واصلين ذلك المرفأ في أواخر شهر آب من العام 4 ق.م. ذهبوا مباشرة إلى بيت لحم حيث امضوا شهر أيلول بأكمله في شورى مع أصدقائهم وأقاربهم بشأن ما إذا كان ينبغي عليهم البقاء هناك أو العودة إلى الناصرة.
123:0.5 (1356.2) لم تتخلى مريم كلياً عن فكرة أن يسوع يجب أن يكبر في بيت لحم, مدينة داود, لم يؤمن يوسف حقاً أن ابنهما كان سيصبح مخَلصاً ملكياً لإسرائيل. علاوة على ذلك, كان يعلم أنه هو نفسه لم يكن حقاً من نسل داود؛ أن احتسابه بين نسل داود كان بسبب تبني أحد أسلافه في الخط المنحدر من نسل داود. لقد اعتقدت مريم, بطبيعة الحال, أن مدينة داود هي المكان الأنسب لتربية المرشح الجديد لعرش داود, لكن يوسف فضَّل أخذ المجازفة مع هيرودس أنتيباس بدلاً من أخيه أرخيلاوس. ساورته مخاوف كثيرة لأجل سلامة الطفل في بيت لحم أو في أي مدينة أخرى في يهودا, وخمن بأن أرخيلاوس من المرجح سوف يتابع سياسات تهديد والده هيرودس, أكثر مما قد يفعل أنتيباس في الجليل. وإلى جانب كل هذه الأسباب, كان يوسف صريحاً في تفضيله للجليل كمكان أنسب لتربية الطفل وتعليمه, لكن الأمر تطلب ثلاثة أسابيع للتغلب على اعتراضات مريم.
123:0.6 (1356.3) بحلول الأول من تشرين الأول كان يوسف قد أقنع مريم وجميع أصدقائهم بأنه من الأفضل لهم العودة إلى الناصرة. بناء على ذلك, باكراً في تشرين الأول, عام 4 ق.م., رحلوا من بيت لحم إلى الناصرة, ذاهبين بطريق اللد وسكيثوبولِس. بدأوا في وقت مبكر من صباح يوم أحد, مريم والولد راكبان على دابة نقلهم المكتسبة حديثاً, بينما انطلق يوسف وخمسة من أقاربه المرافقين سيرا على الأقدام؛ رفض أقارب يوسف السماح لهم بالقيام بالرحلة إلى الناصرة وحدهم. خافوا الذهاب إلى الجليل بطريق أورشليم ووادي الأردن, ولم تكن الطرقات الغربية آمنة تماماً لمسافرين بمفردهم مع ولد صغير السن.
123:1.1 (1356.4) في اليوم الرابع من رحيلهم وصلت الزمرة إلى وجهتها بأمان. وصلوا دون سابق إنذار إلى منزل الناصرة, الذي كان مشغولاً منذ أكثر من ثلاث سنوات بأحد أشقاء يوسف المتزوجين, الذي فوجيء حقاً برؤيتهم؛ بغاية الهدوء ذهبوا لشؤونهم بحيث لا عائلة يوسف ولا عائلة مريم علموا بأنهم قد غادروا الإسكندرية. في اليوم التالي نقل شقيق يوسف عائلته, واستقرت مريم, للمرة الأولى منذ ولادة يسوع, مع عائلتها الصغيرة للاستمتاع بالحياة في بيتهم الخاص. في أقل من أسبوع, أمَّن يوسف عملاً كنجار, وكانوا سعداء للغاية.
123:1.2 (1356.5) كان يسوع يبلغ من العمر حوالي ثلاث سنوات وشهرين عند عودتهم إلى الناصرة. كان قد تحمل كل هذه السفرات بشكل جيد للغاية وكان في صحة ممتازة وممتلئاً بالمرح الطفولي والإثارة لامتلاكه مكانًا خاصًا به للركض والاستمتاع به. لكنه افتقد كثيراً معشر رفاق لعبه الإسكندريين.
123:1.3 (1356.6) على الطريق إلى الناصرة أقنع يوسف مريم بأنه سيكون من غير الحكمة نشر الكلمة بين أصدقائهم وأقاربهم الجليليين بأن يسوع كان طفلل الوعد. اتفقا على الامتناع عن كل ذِكر لهذه الأمور لأي شخص. وكانا كِلاهما مُخلصين للغاية في الوفاء بهذا الوعد.
123:1.4 (1357.1) كانت سنة يسوع الرابعة بأكملها فترة من النمو البدني الطبيعي والنشاط العقلي غير العادي. في هذه الأثناء كان قد أنشأ ارتباطًا وثيقًا بصبي جار له من عمره تقريباً اسمه يعقوب. كان يسوع ويعقوب دائماً سعيدين في لعبهما, وكبرا ليكونا صديقين رائعين ورفيقين مخلصين.
123:1.5 (1357.2) كان الحدث المهم التالي في حياة هذه العائلة الناصرية ولادة الطفل الثاني, يعقوب, في ساعات الصباح الباكر من 2 نيسان, عام 3 ق.م. كان يسوع مفتوناً بفكرة أن لديه طفل شقيق, كان يقف حوله على مدار الساعة, فقط لمراقبة نشاطات الطفل المبكرة.
123:1.6 (1357.3) لقد كان في منتصف صيف هذا العام بالذات حينما بنى يوسف دكاناً صغيرة بالقرب من نبع القرية وقرب مكان محطة القوافل. بعد هذا كان يقوم بعمل القليل جداً من شغل النجارة بالنهار. كان لديه كشركاء اثنين من أشقائه وعدة ميكانيكيين آخرين, الذين ارسلهم للعمل بينما بقي عند الدكان يصنع أنياراً ومحاريث وأشغال خشبية أخرى. كما قام ببعض العمل في الجلود والحبال والقماش. وبينما ينمو يسوع, عندما لم يكن في المدرسة, أمضى وقته تقريباً بالتساوي بين مساعدة أُمه بالواجبات المنزلية ومراقبة والده وهو يعمل في الدكان, في غضون ذلك يستمع إلى محادثة وثرثرة مرشدي القوافل والمسافرين من أركان الأرض الأربعة.
123:1.7 (1357.4) في تموز من هذا العام, قبل شهر واحد من بلوغ يسوع الرابعة من عمره, انتشر مرض معوي خبيث في جميع أنحاء الناصرة نتيجة الاتصال بمسافري القوافل. أصبحت مريم مرتعبة بالخطر من تعرض يسوع لهذا المرض الوبائي بحيث جَمعت ولديها وهربت إلى منزل شقيقها الريفي, على بعد عدة أميال جنوب الناصرة على طريق مجّدو بالقرب من ساريد. لم يعودوا إلى الناصرة لأكثر من شهرين؛ استمتع يسوع بشكل كبير بهذه, تجربته الأولى على مزرعة.
123:2.1 (1357.5) بعد أكثر من عام بقليل على العودة إلى الناصرة وصل الصبي يسوع إلى سن أول قراراته الشخصية والأخلاقية القلبية؛ وهناك أتى ليقيم معه ضابط فكر, هدية إلَهية من الأب الفردوسي, الذي كان قد خدم قبل ذلك مع ماﻜﻴﭭِنتا ملكيصادق, بالتالي مكتسباً الخبرة للعمل في علاقة مع تجسد كائن فائق في شبه جسد فاني. وقع هذا الحدث في 11 شباط, عام 2 ق.م. لم يكن يسوع أكثر وعياً بقدوم المرقاب الإلَهي أكثر مما هم الملايين فوق ملايين من الأولاد الآخرين الذين, قبل ومنذ ذلك اليوم, استلموا بالمثل ضباط الفكر هؤلاء ليسكنوا عقولهم ويعملوا من أجل إضفاء الروحانية القصوى لهذه العقول والبقاء الأبدي لنفوسهم الخالدة المتطورة.
123:2.2 (1357.6) على هذا اليوم في شباط انتهى الإشراف المباشر والشخصي لحكام الكون, كما كان متعلقاً بسلامة تجسد ميخائيل بشبه ولد. منذ ذلك الوقت وصاعداً إلى كل أثناء الانبساط الإنساني للتجسد, كانت حراسة يسوع مقـدَّرة أن تقع في حفظ هذا الضابط الساكن والحارسات السيرافيات الملازمات, مكملاً من وقت لآخر بإسعاف مخلوقات منتصف الطريق المعينين للقيام ببعض الواجبات المحددة وفقاً لتعليمات رؤسائهم الكوكبيين.
123:2.3 (1357.7) كان يسوع يبلغ من العمر خمس سنوات في آب من هذا العام, بالتالي, سوف, نشير إلى هذا باعتباره عامه الخامس (التقويمي) في الحياة. في هذا العام 2 ق.م., قبل أكثر بقليل من شهر من الذكرى السنوية الخامسة لميلاده, جُعل يسوع سعيداً جداً بمجيء شقيقته مريام, التي وُلدت ليلة 11 تموز. خلال مساء اليوم التالي تحدث يسوع مطولاً مع والده بشأن الأسلوب الذي تولد به فئات متنوعة من الأشياء الحية في العالَم كأفراد منفصلين. كان الجزء الأكثر قيمة من التعليم الباكر ليسوع مؤَّمَناً بوالديه ردًا على استفساراته المفكِرة والباحثة. لم يفشل يوسف أبداً في القيام بواجبه الكامل في تحمل الجهود وقضاء الوقت في الإجابة على أسئلة الصبي العديدة. منذ أن كان يسوع في الخامسة من عمره وحتى العاشرة, كان علامة استفهام واحدة مستمرة. في حين لم يستطع يوسف ومريم الإجابة دائماً على أسئلته, إلا انهما لم يفشلا مطلقاً في مناقشة استفساراته وفي كل طريقة أخرى ممكنة لمساعدته في جهوده للوصول إلى حل مرضٍ للمسألة التي اقترحها عقله اليقظ.
123:2.4 (1358.1) منذ العودة إلى الناصرة, كان بيتهم مشغولاً, وكان يوسف على غير عادة منشغلاً في بناء دكانه الجديد وبدء عمله مرة أخرى. كان منهمكاً للغاية بحيث لم يجد الوقت لبناء سرير ليعقوب, لكن تم تصحيح هذا الأمر قبل مجيء مريام بوقت طويل, بحيث كان لديها سرير مريح للغاية لتستقر فيه بينما أعجبت بها العائلة. ودخل الولد يسوع من كل قلبه في كل هذه التجارب المنزلية العادية والطبيعية. لقد استمتع كثيرًا بشقيقه الصغير وشقيقته الطفلة وكان عونًا كبيرًا لمريم في رعايتهما.
123:2.5 (1358.2) كان هناك عدد قليل من البيوت في العالَم الأممي في تلك الأيام التي يمكنها أن تقدم للطفل تدريباً فكرياً, وأخلاقياً, ودِينياً أفضل من البيوت اليهودية في الجليل. كان لدى هؤلاء اليهود برنامج منهجي لتربية أطفالهم وتعليمهم. قسَّموا حياة الطفل إلى سبع مراحل:
123:2.6 (1358.3) 1. الطفل المولود حديثاً, من اليوم الأول حتى اليوم الثامن.
123:2.7 (1358.4) 2. الطفل الرضيع.
123:2.8 (1358.5) 3. الطفل المفطوم.
123:2.9 (1358.6) 4. فترة الاعتماد على الأُم, تدوم حتى نهاية السنة الخامسة.
123:2.10 (1358.7) 5. بداية استقلالية الطفل, ومع الأبناء الصبيان, يتولى الأب مسؤولية تعليمهم.
123:2.11 (1358.8) 6. الشباب والفتيات المراهقين.
123:2.12 (1358.9) 7. الشباب والشابات.
123:2.13 (1358.10) لقد كانت عادة اليهود الجليليين أن تتحمل الأُم مسؤولية تدريب الطفل حتى عيد ميلاده الخامس, وبعد ذلك, إذا كان الطفل صبياً, يتولى الأب مسؤولية تعليم الفتى منذ ذلك الوقت فصاعداً. هذه السنة, بالتالي, دخل يسوع على المرحلة الخامسة من مهمة الولد اليهودي الجليلي, وبناء عليه في 21 آب, عام 2 ق.م. سلمته مريم رسمياً إلى يوسف لمزيد من الإرشاد.
123:2.14 (1358.11) مع أن يوسف كان يتولى الآن المسؤولية المباشرة لتعليم يسوع الفكري والدِيني, فإن أُمه كانت لا تزال تهتم بتدريبه المنزلي. علمته ان يعرف ويهتم بنمو الكروم والأزهار التي تنمو حول جدران الحديقة التي أحاطت بالكامل بقطعة الأرض المنزلية. كما وفرت على سطح المنزل (غرفة النوم الصيفية) صناديق رملية غير عميقة فيها رسم يسوع خرائط وقام بالكثير من ممارساته المبكرة في كتابة الأرامية, والإغريقية, وفيما بعد, العبرية, لأنه مع الوقت تعلم أن يقرأ ويكتب, ويتكلم, بطلاقة, كل اللغات الثلاثة.
123:2.15 (1358.12) بدأ يسوع ليكون تقريباً طفلاً مثالياً من الناحية الجسدية واستمر في إحراز تقدم طبيعي عقلياً وعاطفياً. لقد عانى من اضطراب هضمي خفيف, مرضه الطفيف الأول, في الجزء الأخير من هذا, عامه الخامس (التقويمي).
123:2.16 (1359.1) مع أن يوسف ومريم تحدثا كثيراً عن مستقبل طفلهما البكر, لو كنت هناك, لكنت لاحظت فقط نمو طفل طبيعي, ذا صحة جيدة, خالٍ من الهموم, لكن فضولي للغاية لذلك الزمان والمكان.
123:3.1 (1359.2) في ذلك الحين, كان يسوع بمساعدة أمه, قد أتقن اللهجة الجليلية للغة الآرامية؛ والآن بدأ أبوه بتعليمه اليونانية. كانت مريم تتحدث اليونانية قليلاً, لكن يوسف كان يتحدث بطلاقة اللغتين الآرامية واليونانية. كان الكتاب المدرسي لدراسة اللغة اليونانية نسخة من الكتب المقدسة العبرية ــ نسخة كاملة عن الشريعة والأنبياء, بما في ذلك المزامير ــ التي قـُدّمت لهم عند مغادرة مصر. لم يكن هناك سوى نسختين كاملتين من الكتاب المقدس باللغة اليونانية في كل الناصرة, وحيازة عائلة النجار لواحدة منها جعلت منزل يوسف مقصوداً جداً ومكنَّت يسوع, أثناء نشأته, من مقابلة موكب لا نهاية له تقريباً من الطلاب الجادين والباحثين المخلصين عن الحقيقة. قبل انتهاء هذه السنة, كان يسوع قد تقلد الوصاية على هذه المخطوطة التي لا تقدر بثَمَن, حيث قيل له في ميلاده السادس بأن هذا الكتاب المقدس قد قُـدم إليه بالأصدقاء والأقارب الإسكندريين, وفي وقت قصير جداً كان بإمكانه قراءته بسهولة.
123:3.2 (1359.3) حدثت الصدمة الكبيرة الأولى لحياة يسوع الصغيرة عندما لم يكن عمره بالتمام ست سنوات. لقد بدا للصبي بأن والده ــ على الأقل أباه وأمه معاً ــ يعرفان كل شيء. تخيلوا, إذن, دهشة هذا الولد المستفسر, عندما سأل والده عن سبب الزلزال الخفيف الذي حدث منذ قليل, لسماع يوسف يقول, "يا بني, في الواقع لا أعرف". بهذا بدأ زوال الوهم الطويل والمُربك في المسار الذي وجد يسوع من خلاله بأن والديه الأرضيين لم تكن لديهما كل الحكمة وكل المعرفة.
123:3.3 (1359.4) كان أول ما فكر به يوسف أن يخبر يسوع بأن الزلزال سببه الله, لكن تأمُل لحظة حذره أن مثل هذه الإجابة ستثير على الفور استفزازًا لمزيد من الاستفسارات وأكثر إحراجاً. حتى في سن مبكرة كان من الصعب للغاية الإجابة على أسئلة يسوع حول الظواهر الفيزيائية أو الاجتماعية بإخباره دون تفكير بأن إما الله أو الشيطان كان مسؤولاً. انسجاماً مع المعتقد السائد للشعب اليهودي, كان يسوع راغباً منذ مدة طويلة بقبول مذهب الأرواح الصالحة والأرواح الشريرة كتفسير محتمل للظواهر العقلية والروحية, لكنه أصبح في وقت مبكر جداً يشك بأن مثل هذه التأثيرات غير المرئية كانت مسؤولة عن الأحداث الفيزيائية في العالَم الطبيعي.
123:3.4 (1359.5) قبل أن يبلغ يسوع ست سنوات, في أوائل صيف 1 ق.م., جاء زكريا وأليصابات وابنهما يوحنا لزيارة العائلة الناصرية. قضى يسوع ويوحنا وقتاً سعيداً أثناء هذه, الزيارة الأولى لهما في ذكرياتهما. مع أن الزوار أمكنهم البقاء أيام قليلة فقط, فقد تحدث الآباء حول أشياء كثيرة, بما في ذلك الخطط المستقبلية لأبنائهم. وبينما منشغلين بهذا, لعب الصبيان بقوالب في الرمل على سطح المنزل وبطرق أخرى كثيرة استمتعا بأسلوب صبياني حقيقي.
123:3.5 (1359.6) حيث أنه التقى يوحنا الذي جاء من قرب أورشليم, بدأ يسوع في إظهار اهتمام غير عادي في تاريخ إسرائيل والاستفسار بتفصيل كبير عن معنى طقوس السبت, ومواعظ الكنيس, والأعياد المتكررة لإحياء الذكرى. شرح له والده معنى كل هذه الفصول. كان الأول عيد التنوير في منتصف الشتاء, يدوم لثمانية أيام, يبدأ بإضاءة شمعة واحدة في الليلة الأولى وإضافة واحدة كل ليلة تالية؛ أحيت هذه ذكرى تدشين الهيكل بعد تجديد الخدمات الموسوية على يد يوداص المكابي. تالياً تأتي احتفالات البوريم باكراً في الربيع, عيد أستير وخلاص إسرائيل من خلالها. بعد ذلك تبع عيد الفصح المهيب, الذي احتفل به الكبار في أورشليم كلما أمكن ذلك, بينما في البيت سيتذكر الأولاد أنه لم يكن من الممكن تناول خبز مخمر طوال الأسبوع. فيما بعد جاء عيد أوائل الثمار, جمع الحصاد؛ وأخيراً, الأكثر هيبة من الكل, عيد رأس السنة, عيد الغفران. في حين ان بعض هذه الاحتفالات والمراعاة كان من الصعب على عقل يسوع الصغير فهمها, فقد تمعن فيها بجدية ثم دخل بالكامل نحو فرح عيد المظال, موسم العطلة السنوية للشعب اليهودي بأسره, الوقت عندما يخيمون في أكشاك من ورق الشجر ويسلمون أنفسهم للمرح والمسرة.
123:3.6 (1360.1) خلال هذا العام واجه يوسف ومريم مشكلة مع يسوع بخصوص صلواته. أصَّر على التحدث مع أبيه السماوي كثيراً كما يتحدث مع يوسف, أبيه الأرضي. هذا الابتعاد عن أساليب التواصل مع الإلَه الأكثر جدية وإجلالًا كانت مقلقة بعض الشيء لوالديه, خاصة لوالدته, لكن لم يكن هناك ما يقنعه بالتغيير؛ كان يتلو صلواته تماماً كما عَّلموه, وبعدها يصَّر على "مجرد حديث قليل مع أبي في السماء".
123:3.7 (1360.2) في حزيران من هذا العام سلّم يوسف دكانه في الناصرة إلى أشقائه ودخل رسمياً على عمله كبنّاء. قبل نهاية السنة كان إيراد العائلة أكثر من ثلاثة أضعاف. لم يحصل أبداً, إلا بعد وفاة يوسف, أن شعرت العائلة الناصرية بوخزة الفاقة مرة أخرى. نمَت العائلة أكبر وأكبر, وأنفقوا الكثير من الأموال على التعليم الإضافي والسفر, لكن إيراد يوسف دائمًا كان مواكبًا للنفقات المتزايدة.
123:3.8 (1360.3) في السنوات القليلة التالية قام يوسف بعمل جدير بالإعتبار في قانا, وبيت لحم (الجليل), ومجدلا, وناعين, وصفوريه, وكفرناحوم, وعندور, بالإضافة إلى الكثير من البناء في الناصرة وبالقرب منها. عندما كبر يعقوب ليكون كبيراً في السن بما فيه الكفاية لمساعدة والدته في الأعمال المنزلية ورعاية الأطفال الأصغر, قام يسوع برحلات متكررة بعيدة عن البيت مع والده إلى هذه البلدات والقرى المحيطة. كان يسوع ملاحظاً ذكياً واكتسب الكثير من المعرفة العملية من هذه الرحلات البعيدة عن البيت؛ كان يخزن المعرفة باجتهاد بما يخص الإنسان والطريقة التي عاش فيها على الأرض.
123:3.9 (1360.4) أحرز يسوع تقدماً عظيماً هذا العام في ضبط مشاعره القوية ودوافعه النشيطة لمتطلبات التعاون الأسري والإنضباط المنزلي. كانت مريم أُماً محبة لكن مؤدِبة صارمة إلى حد ما, على كل, بذل يوسف سيطرة أكبر على يسوع حيث كان من ممارسته الجلوس مع الصبي وشرح الأسباب الحقيقية والكامنة لضرورة التقييد التأديبي للرغبات الشخصية في مراعاة لرفاهية وهدوء العائلة بأكملها. عندما يكون قد تم شرح الموقف ليسوع, كان دائماً متعاوناً بذكاء ورغبة مع الرغبات الأبوية وأنظمة العائلة.
123:3.10 (1360.5) الكثير من وقت فراغه ــ عندما لم تكن والدته بحاجة إلى مساعدته حول المنزل ــ أمضاها في دراسة الزهور والنباتات في النهار والنجوم في الليل. كان يُظهر ولعاً مقلقاً للاستلقاء على ظهره والتفرس بتساؤل في السماوات المرصعة بالنجوم طويلاً بعد وقت نومه المعتاد في هذا المنزل الناصري المنظم جيدًا.
123:4.1 (1361.1) كان هذا, حقاً, عاماً زاخراً بالأحداث في حياة يسوع. في أوائل شهر كانون الثاني حدثت عاصفة ثلجية كبيرة في الجليل. تساقط الثلج بعمق قدمين, أثقل تساقط للثلوج شهده يسوع أثناء حياته وواحداً من الأعمق في الناصرة منذ مائة عام.
123:4.2 (1361.2) كانت حياة اللعب للأطفال اليهود في زمن يسوع محدودة نوعاً ما؛ غالباً ما كان الأولاد يلعبون في الأشياء الأكثر جدية التي لاحظوا أن البالغين يفعلونها. لعبوا كثيراً في الأعراس والجنازات, احتفالات التي رأوها بشكل متكرر للغاية والتي كانت رائعة جداً. رقصوا وغـنوا لكن كان لديهم القليل من الألعاب المنظمة, كالتي تمتع بها كثيراً أولاد الأيام اللاحقة.
123:4.3 (1361.3) يسوع, بصحبة صبي جار وفيما بعد شقيقه يعقوب, ابتهجوا للعب في الزاوية البعيدة لدكان النجارة العائلي, حيث استمتعوا كثيراً بنشارة وقطع الخشب. لقد كان دائماً من الصعب على يسوع أن يفهم الضرر الناجم عن أنواع معينة من اللعب التي كانت ممنوعة في السبت, لكنه لم يفشل أبداً في الإمتثال لرغبات والديه. كان لديه استطاعة للفكاهة واللعب والتي لم تُمنح سوى القليل من الفرصة للتعبير في بيئة عصره وجيله. لكن حتى سن الرابعة عشرة كان منشرحاً وخالي البال معظم الوقت.
123:4.4 (1361.4) حافظت مريم على برج حمام فوق بيت الحيوانات المتصل بالبيت, واستخدموا أرباح بيع الحمام كصندوق خيري خاص, الذي أداره يسوع بعد أن اقتطع العُشر وسلمه إلى ضابط الكنيس.
123:4.5 (1361.5) الحادث المفاجئ الحقيقي الوحيد الذي تعرض له يسوع حتى هذا الوقت كان سقوطه من الدرج الحجري في الساحة الخلفية المؤدي إلى غرفة النوم ذات السقف القماشي. حدث ذلك أثناء عاصفة رملية غير متوقعة من الشرق في تموز. كانت الرياح الحارة, التي تحمل هبات من الرمال الناعمة, تهب عادة أثناء موسم الأمطار, خاصة في آذار ونيسان. لقد كان من غير المعتاد أن تكون مثل هذه العاصفة في يوليو.عندما ظهرت العاصفة, كان يسوع يلعب على سطح المنزل, كما كانت عادته, لأن ذلك كان مكان لعبه المعتاد أثناء معظم الفصل الجاف. أعمته الرمال عندما نزل الدرج ووقع. بعد هذا الحادث بنى يوسف درابزيناً على جانبي الدرج.
123:4.6 (1361.6) لم تكن هناك طريقة يمكن بها منع هذا الحادث. لم يكن مُحتسباً كإهمال من قِبل منتصفي الطريق الأوصياء المؤقتون, كان قد تم تعيين واحد منتصف طريق أولي وواحد منتصف طريق ثانوي لعناية مراقبة الفتى؛ كما أنه لم يكن محسوباً على السيرافيم الحارسة. ببساطة لم يكن بالإمكان تجنبه. لكن هذا الحادث البسيط, حدث بينما كان يوسف غائباً في عندور, تسبب في نشوء قلق كبير في عقل مريم لدرجة أنها حاولت بغير حكمة إبقاء يسوع قريباً جداً إلى جانبها لبعض الأشهُر.
123:4.7 (1361.7) الحوادث المادية والأحداث الشائعة ذات الطبيعة المادية, لا يتم التدخل فيها بشكل تعسفي من قبل الشخصيات السماوية. فقط في ظل الظروف العادية يمكن لمخلوقات منتصف الطريق أن تتدخل في الظروف المادية لحماية الأشخاص من الرجال والنساء ذوي القـَدر, وحتى في المواقف الخاصة لا يمكن لهذه الكائنات أن تتصرف إلا في امتثال إلى الانتدابات المحددة لرؤسائها.
123:4.8 (1361.8) وهذا لم يكن سوى واحد من عدد من مثل هذه الحوادث البسيطة التي وقعت فيما بعد لهذا الفتى الفضولي والمغامر. إذا تصورت متوسط الطفولة والشباب لصبي مغامر, ستكون لديك فكرة جيدة إلى حد ما عن مهمة يسوع الشاب, وستكون قادراً على تخيل مقدار القلق الذي سَببه لوالديه, خاصة أُمه.
123:4.9 (1362.1) وُلد العضو الرابع للعائلة الناصرية, يوسف, صباح الأربعاء في 16 آذار, عام 1 م.
123:5.1 (1362.2) كان يسوع الآن في السابعة من عمره, السن الذي كان من المُفترض أن يبدأ فيه الأطفال اليهود تعليمهم الرسمي في مدارس الكنيس. وفقاً لذلك, في شهر آب من هذه السنة دخل على حياته المدرسية الزاخرة بالأحداث في الناصرة. في ذلك الحين كان هذا الفتى قارئاً, وكاتباً, ومتكلماً سلساً للغتين, الآرامية واليونانية. كان عليه الآن أن يتعرف على مهمة تعلم القراءة, والكتابة, والتحث باللغة العبرية. وكان متحمساً حقاً للحياة المدرسية الجديدة التي كانت أمامه.
123:5.2 (1362.3) لثلاث سنوات ــ حتى بلغ العاشرة ــ التحق بالمدرسة الابتدائية لكنيس الناصرة. لهذه السنوات الثلاثة درس مبادئ كتاب الشريعة كما كان مُسَجلاً باللغة العبرية. خلال السنوات الثلاثة التالية درس في المدرسة المتقدمة وحفظ غيباً, بطريقة التكرار بصوت عالٍ, التعاليم الأعمق للشريعة المقدسة. تخَّرج من مدرسة الكنيس هذه أثناء سنته الثالثة عشرة وسلمه حكام الكنيس لوالديه بصفته "ابن الوصية" المثقف ــ منذ الآن مواطن مسؤول لحكومة إسرائيل الحرة, مما يخول حضوره أعياد الفصح في أورشليم؛ بناء على ذلك, حضر أول عيد فصح له تلك السنة في رفقة والده ووالدته.
123:5.3 (1362.4) في الناصرة جلس التلاميذ على الأرض في نصف دائرة, بينما معلمهم, الشازان, ضابط الكنيس, جلس مواجهاً لهم. بادئون بكتاب اللاويين, انتقلوا إلى دراسة كتب الشريعة الأخرى, متبوعة بدراسة الأنبياء والمزامير. كان كنيس الناصرة يمتلك نسخة كاملة للكتابات المقدسة في العبرية. لم يتم دراسة أي شيء سوى الكتب المقدسة قبل سن الثانية عشرة. في أشهر الصيف كانت ساعات المدرسة تقـَّصَر بشكل كبير.
123:5.4 (1362.5) أصبح يسوع في وقت مبكر متقناً للغة العبرية, وكشاب, عندما لم يصادف أن حل زائر بارز في الناصرة, كان يُطلب منه في كثير من الأحيان أن يقرأ الكتابات المقدسة العبرية على المؤمنين المتجمعين في الكنيس عند خدمات السبت النظامية.
123:5.5 (1362.6) مدارس الكنيس هذه, بالطبع, لم يكن بها كُتب. في التدريس, كان الشازان يتفوه بجملة بينما يكررها التلاميذ بصوت واحد من بَعده. عندما يكون لديهم منفذاً إلى كتب الشريعة المكتوبة, تعلم التلميذ درسه من خلال القراءة بصوت عالٍ وبالتكرار المستمر.
123:5.6 (1362.7) بعد ذلك, بالإضافة إلى تعليمه الرسمي بشكل أكبر, بدأ يسوع بعمل اتصال مع الطبيعة البشرية من زوايا الأرض الأربعة عندما عبر رجال من بلدان كثيرة دخولاً وخروجاً دكان التصليح لأبيه. عندما كبُر أكثر, اختلط بحرية مع القوافل أثناء تواجدها بالقرب من النبع للراحة والقوت. نظرًا لكونه يتحدث اليونانية بطلاقة, لم يكن لديه مشكلة كبيرة في التحدث مع غالبية مسافري القوافل والقائمين عليها.
123:5.7 (1362.8) كانت الناصرة محطة طريق قوافل وملتقى طرق السفر وإلى حد كبير أممية في سكانها؛ في الوقت ذاته كانت معروفة على نطاق واسع كمركز تفسير حر لشريعة اليهود التقليدية. اختلط اليهود في الجليل بحرية مع الأمميين أكثر من ممارستهم في يهودا. ومن بين كل مدن الجليل, كان يهود الناصرة الأكثر تحرراً في تفسيرهم للقيود الاجتماعية المؤسسة على مخاوف التلوث كنتيجة للاتصال بالأمميين. وأدت هذه الظروف إلى القول المأثور في أورشليم, "هل يمكن أن يأتي أي خير من الناصرة؟"
123:5.8 (1363.1) تلقى يسوع تدريبه الأخلاقي وثقافته الروحية بشكل رئيسي في بيته الخاص. حصل على الكثير من تعليمه الفكري واللاهوتي من الشازان. لكن تعليمه الحقيقي ــ تلك المعدات للعقل والقلب من أجل الإختبار الفعلي للتصدي لمشاكل الحياة الصعبة ــ حصل عليها بالاختلاط مع زملائه الناس. لقد كان هذا الإرتباط الوثيق مع زملائه الناس, الصغار والكبار, اليهود والأمميين, الذي أتاح له الفرصة لمعرفة الجنس البشري. كان يسوع مثقفاً للغاية في أنه فهم الناس تماماً وأحبهم بإخلاص.
123:5.9 (1363.2) طوال سنواته في الكنيس كان تلميذاً لامعاً, يتمتع بميزة كبيرة لأنه كان ملماً بثلاث لغات. على مناسبة إنهاء يسوع الدورة في مدرسته, أشار شازان الناصرة إلى يوسف بأنه يخشى أنه "قد تعلم من أسئلة يسوع الباحثة أكثر مما كان قادراُ على تعليم الفتى".
123:5.10 (1363.3) طوال فترة دراسته تعلم يسوع الكثير واستمد إلهاماً عظيماً من مواعظ السبت المعتادة في الكنيس. لقد كان من المعتاد سؤال زوار متميزين, متوقفين عند السبت في الناصرة, أن يخاطبوا الكنيس. بينما كبر يسوع, سمع العديد من المفكرين العظماء من العالَم اليهودي بأسره يشرحون وجهات نظرهم, وكثيرون أيضًا من اليهود الذين كانوا بالكاد أرثوذكس حيث إن كنيس الناصرة كان مركزاً متقدماً وليبراليًا للفكر والثقافة العبرية.
123:5.11 (1363.4) عند دخول المدرسة في سن السابعة (في هذا الوقت كان اليهود قد بدأوا بتدشين قانون التعليم الإلزامي), كان من المعتاد أن يختار التلاميذ "نص عيد ميلادهم", نوع من القاعدة الذهبية ترشدهم طوال دراساتهم, وهي واحدة غالبًا ما كانوا يستفيضون فيها عند تخرجهم عندما بلغوا الثالثة عشرة من العمر. كان النص الذي اختاره يسوع من النبي إشعياء: "روح الرب الله عَلي, لأن الرب قد مسحني؛ أرسلني لأبشر الودعاء, ولأعصب منكسري القلب, ولأعلن حرية إلى الأسرى, ولأحرر المساجين روحياً."
123:5.12 (1363.5) كانت الناصرة إحدى المراكز الكهنوتية الأربعة والعشرين للأمة العبرية. لكن كهنوت الجليل كانوا أكثر تحرراً من كتبة وحاخامات اليهودية في تفسير الشرائع التقليدية. وكانوا عند الناصرة كذلك أكثر ليبرالية فيما يتعلق بمراعاة السبت. لذلك كانت عادة يوسف أن يأخذ يسوع للتنزه بعد ظهر السبت, كانت إحدى نزهاتهم المفضلة تسلق التل العالي بالقرب من بيتهم, حيث يمكنهم الحصول على إطلالة بانورامية لكل الجليل. إلى الشمال الغربي, في الأيام الصافية, كان بإمكانهم رؤية السلسلة الطويلة لجبل الكرمل منحدرة إلى البحر؛ وسمع يسوع أبيه مرات عديدة يروي قصة إيليا, واحد من أول ذلك الخط الطويل من الأنبياء العبريين, الذين وبخوا آخاب وفضحوا كهنة البعل. إلى الشمال رفع جبل حرمون قمته الثلجية في روعة مهيبة واحتكر الأفق, حوالي 3000 قدم من المنحدرات العلوية متلألئة بالأبيض مع الثلج الدائم. إلى أقصى الشرق كان بإمكانهم تمييز وادي الأردن وبعيداً ما وراءه تقع تلال موآب الصخرية. كذلك إلى الجنوب والشرق, عندما تشع الشمس على جدرانها الرخامية, كان بإمكانهم رؤية المدن العشرة الإغريقية-الرومانية, (الديكابولِس) مع مدرجاتها ومعابدها الطنانة. وعندما يتريثون إلى غياب الشمس, إلى الغرب كان بإمكانهم ملاحظة السفن الماخرة على البحر الأبيض المتوسط البعيد.
123:5.13 (1364.1) من الجهات الأربعة كان بإمكان يسوع مراقبة قطارات القوافل بينما تشق طريقها من وإلى الناصرة, وإلى الجنوب كان بإمكانه أن يطل على سهل ريف إسدرايلون, الواسع والخصيب, ممتداً باتجاه جبل الجلبوع والسامرة.
123:5.14 (1364.2) عندما لم يتسلقوا المرتفعات لمشاهدة المناظر البعيدة, تجولوا في الريف ودرسوا الطبيعة في أمزجتها المتنوعة وفقاً للفصول. أبكر تدريب ليسوع, على حدة من موقد البيت, كان يتعلق باتصال وقور وودي مع الطبيعة.
123:5.15 (1364.3) قبل أن يبلغ الثامنة من عمره, كان معروفاً لدى جميع أمهات وشابات الناصرة, اللواتي التقين به وتكلمن معه عند النبع, الذي لم يكن بعيداً عن منزله, والذي كان أحد المراكز الاجتماعية للاتصال والقيل والقال للبلدة بأكملها. تعلم يسوع هذه السنة أن يحلب بقرة العائلة وأن يعتني بالحيوانات الأخرى. خلال هذا العام والعام التالي تعلم كذلك صنع الجبن والحياكة. عندما كان في العاشرة من عمره, كان خبيرًا في تشغيل النول. لقد كان حوالي هذا الوقت حينما أصبح يسوع والصبي الجار يعقوب صديقين حميمين للفاخوري الذي كان يعمل بالقرب من النبع المتدفق؛ وبينما راقبا أصابع ناثان البارعة تسبك الطين على عجلة الفاخوري, كان كلاهما في كثير من الأحيان مصممين على أن يكونا فاخوريان عندما يكبران. كان ناثان مولعاً جداُ بالفتيان وغالباً ما أعطاهما طيناً ليلعبا به, ساعياً لتحفيز مخيلتهما الإبداعية باقتراح جهود تنافسية في سبك قوالب لأشياء وحيوانات متنوعة.
123:6.1 (1364.4) كان هذا عاماً مشوقاً في المدرسة. مع أن يسوع لم يكن طالبًا غير عادي, فقد كان تلميذا مجتهداً وانتمى إلى الثلث الأكثر تقدماً في الفصل, مؤدياً عمله جيداً بحيث تم إعفاؤه من الحضور أسبوعاً واحداً من كل شهر. هذا الأسبوع عادة أمضاه إما مع عمه الصياد على شواطئ بحر الجليل بالقرب من مجدلا أو على مزرعة خال آخر على بعد خمسة أميال جنوب الناصرة.
123:6.2 (1364.5) مع أن أمه أصبحت قلقة بدون داع على صحته وسلامته, إلا أنها تصالحت تدريجياً مع هذه الرحلات بعيداً عن البيت. كان أعمام وأخوال يسوع وعماته وخالاته مولعين جداً به, ونشأ تنافس حيوي بينهم لتأمين رفقته لهذه الزيارات الشهرية طوال هذا العام والأعوام اللاحقة مباشرةً. كان حلوله الأسبوعي الأول على مزرعة خاله (منذ الطفولة) في كانون الثاني من هذا العام؛ حدثت تجربة صيد أول أسبوع على بحر الجليل في شهر أيار.
123:6.3 (1364.6) حوالي هذا الوقت التقى يسوع بمعلم رياضيات من دمشق, وتعلم بعض التقنيات الجديدة في الأعداد, أمضى كثيراً من الوقت في الرياضيات لعدة سنوات. طور إحساسًا قويًا بالأرقام, والمسافات, والنِسَب.
123:6.4 (1364.7) بدأ يسوع بالإستمتاع بشقيقه يعقوب كثيراً وبحلول نهاية هذا العام كان قد بدأ يعلمه الأبجدية.
123:6.5 (1364.8) أجرى يسوع هذا العام ترتيبات لمبادلة منتجات الألبان من أجل دروس على القيثارة. كان لديه إعجاب غير عادي بكل شيء موسيقي. فيما بعد قام بالكثير لتعزيز الاهتمام بالموسيقى الصوتية بين زملائه الشباب. بحلول الوقت الذي كان فيه في الحادية عشرة من عمره, كان عازف قيثارة ماهر واستمتع كثيراً بالترفيه عن العائلة والأصدقاء بتفسيراته الإستثنائية وارتجالاته القديرة.
123:6.6 (1365.1) بينما واصل يسوع إحراز تقدم يُحسد عليه في المدرسة, لم يسير كل شيء بسلاسة لا من أجل والديه أو معلميه. لقد استمر في طرح العديد من الأسئلة المحرجة المتعلقة بكل من العلم والدين, خاصة فيما يتعلق بالجغرافيا وعِلم الفلك. كان مصّراً بشكل خاص على معرفة لماذا كان هناك فصل جاف وفصل ممطر في فلسطين. سعى مراراً إلى تفسير الاختلاف الكبير في درجات الحرارة بين الناصرة ووادي الأردن. ببساطة لم يتوقف عن طرح مثل هذه الأسئلة الذكية ولكن المُحيرة.
123:6.7 (1365.2) وُلد شقيقه الثالث سمعان, مساء يوم الجمعة في 14 نيسان من هذا العام 2 م.
123:6.8 (1365.3) في شباط, جاء ناحور, أحد المعلمين في أكاديمية أورشليم للحاخامات إلى الناصرة لمراقبة يسوع, حيث كان في مهمة مماثلة لمنزل زكريا قرب أورشليم. جاء إلى الناصرة بتحريض من والد يوحنا. بينما كان في البداية مصدوماً نوعاً ما بصراحة يسوع وأسلوبه غير التقليدي في نسب ذاته إلى الأمور الدينية, عزى ذلك إلى بُعد الجليل عن مراكز التعليم والثقافة العبرية ونصح يوسف ومريم بالسماح له بأن يأخذ يسوع معه إلى أورشليم, حيث يمكن أن يتمتع بمزايا التعليم والتدريب في مركز الثقافة اليهودية. كانت مريم نصف مقتنعة بالموافقة؛ كانت مقتنعة بأن ابنها البكر سيصبح المسيح, المخَلص اليهودي؛ تردد يوسف؛ كان مقتنعاً بنفس القدر بأن يسوع كان سينمو ليصبح رجل قـَدر, لكن ما كان ذلك القـَدر سيبرهن ليكون كان غير مؤكد إلى حد كبير. لكنه لم يشك أبداً بأن ابنه كان سينجز مهمة عظيمة ما على الأرض. كلما فكر أكثر في نصيحة ناحور, كلما تساءل عن حكمة الإقامة المقترحة في أورشليم.
123:6.9 (1365.4) بسبب هذا الإختلاف في وجهة النظر بين يوسف ومريم, طلب ناحور الإذن بعرض الأمر برمته على يسوع. استمع يسوع بانتباه, وتحدث مع يوسف, ومريم, وجاره, يعقوب عامل الحجارة, الذي كان ابنه رفيق لعبه المُفضَل, وبعد ذلك بيومين, أفاد أنه نظراً لوجود مثل هذا الاختلاف في الرأي بين والديه وناصحيه, وحيث إنه لم يشعر بأنه مؤهل لتحمل المسؤولية عن مثل هذا القرار, لم يشعر بقوة نحو إحدى الطرق أو الأخرى, في ضوء الوضع برمته, قرر أخيراً " التحدث مع أبي الذي في السماء"؛ وبينما لم يكن متأكداً تماماً من الإجابة, فقد شعر بأنه يجب أن يبقى في البيت "مع أبي وأُمي", مضيفاً, "اللذان يحبونني كثيراً جداً يجب أن يكونا قادرين على فعل الكثير من أجلي وإرشادي بسلامة أكثر من الغرباء الذين يمكنهم فقط رؤية جسدي وملاحظة عقلي لكنهم بالكاد يعرفونني حقًا ". لقد تعجبوا جميعًا, وذهب ناحور في طريقه, راجعاً إلى أورشليم. وقد مرت سنوات عديدة قبل أن يُطرح موضوع رحيل يسوع عن البيت مرة أخرى للنظر فيه.
كِتاب يورانشيا
ورقة 124
124:0.1 (1366.1) على الرغم من أن يسوع ربما كان سوف يتمتع بفرصة تعليم أفضل في الإسكندرية من الجليل, إلا أنه لم يكن لديه مثل هذه البيئة الرائعة للعمل على حل مشاكل حياته الخاصة بأقل ما يمكن من التوجيه التربوي, وفي نفس الوقت الإستمتاع بميزة عظيمة تتمثل في الاتصال المستمر مع هذا العدد الكبير من جميع فئات الرجال والنساء القادمين من كل جزء من العالَم المتمدن. لو بقي في الإسكندرية لكان تعليمه سيكون موجَّهاً من قِبل اليهود وعلى أسس يهودية حصرية. في الناصرة حصل على تعليم وتلقى تدريباً أعده بشكل أكثر قبولاً ليفهم الأمميين (غير اليهود), وأعطاه فكرة أفضل وأكثر توازناً عن الفضائل النسبية لوجهات النظر الشرقية, أو البابلية, والغربية, أو الهيلينية للاهوت العبراني.
124:1.1 (1366.2) بالرغم من أنه يصعب القول بأن يسوع كان أبداً مريضاً بشكل خطير, فقد أصابته بعض أمراض الطفولة الخفيفة هذا العام, إلى جانب شقيقيه وشقيقته الطفلة.
124:1.2 (1366.3) استمرت المدرسة وكان لا يزال تلميذاً مفـَّضَلاً, لديه أسبوع واحد من كل شهر كان فيه حراً, واستمر في تقسيم وقته بالتساوي بين الرحلات إلى المدن المجاورة مع والده, وحلوله على مزرعة خاله جنوب الناصرة, ورحلات صيد السمك من مجدلا.
124:1.3 (1366.4) المشكل الأكثر جدية ليأتي حتى الآن في المدرسة, حدث في أواخر الشتاء عندما تجرأ يسوع على تحدي الشازان فيما يتعلق بالتعليم القائل بأن كل الصور, والتصويرات والرسوم هي وثنية في طبيعتها. ابتهج يسوع برسم المناظر الطبيعية وكذلك في صنع نماذج أنواع كثيرة من الأشياء بطين الفخار. كل شيء من هذا القبيل كان ممنوعاً بشكل صارم بموجب الشريعة اليهودية, لكن حتى هذا الوقت كان قد نجح في تعطيل اعتراض والديه إلى الحد بحيث سمحا له بالاستمرار في هذه الأنشطة.
124:1.4 (1366.5) لكن تم إثارة المتاعب مرة أخرى في المدرسة عندما اكتشف أحد التلاميذ الأكثر رجعيةً يسوع وهو يرسم صورة فحمية للمعلم على أرضية غرفة المدرسة. كانت هناك, ظاهرة كالنهار, وقد شاهدها العديد من الشيوخ قبل أن تدعو اللجنة يوسف للمطالبة بفعل شيئ لكبت جموح ابنه البكر. وعلى الرغم من ان هذه لم تكن المرة الأولى التي تصل فيها الشكاوي إلى يوسف ومريم بشأن أفعال ولدهما الطليق الحركة والمُشاكس, فهذه كانت الأكثر جدية من كل الاتهامات التي وجهت إليه حتى الآن. استمع يسوع إلى التهمة عن جهوده الفنية لبعض الوقت, حيث كان جالسًا على حجر كبير بالضبط خارج الباب الخلفي. استاء من ملامتهم لأبيه على آثامه المزعومة؛ لذا مشى للداخل بدون خوف مواجهاً متهميه. أُلقي الشيوخ في حيرة من أمرهم. كان بعضهم ميالاً للنظر إلى القصة بهزل, بينما بدا أن واحدًا أو اثنين يظنون أن الصبي كان مدنساً لأشياء مقدسة إن لم يكن مجدفاً. كان يوسف ذاهلاً ومريم حانقة, لكن يسوع أصَّر على أن يُسمع. قال قوله, ودافع بشجاعة عن وجهة نظره, وأعلن بانضباط تام أنه سيلتزم بقرار والده في هذا الشأن وفي كل شأن أخر فيه خلاف. ورحلت لجنة الشيوخ في صمت.
124:1.5 (1367.1) سعت مريم للتأثير على يوسف للسماح ليسوع بعمل قوالب الطين في البيت, شرط أن يعد بأن لا يقوم بأي من هذه النشاطات موضع المُساءلة في المدرسة, لكن يوسف شعر بأنه مضطر للحكم على أن التفسير الحاخامي للوصية الثانية يجب أن يسود. وهكذا لم يعد يسوع يرسم أو يصب شبه أي شيء منذ ذلك اليوم ما دام يعيش في منزل والده. لكنه لم يكن مقتنعاً بخطأ ما فعله, والتخلي عن مثل هذه الهواية المفضلة شكلت واحدة من الإمتحانات الكبرى في حياته الشابة.
124:1.6 (1367.2) في الجزء الأخير من شهر حزيران, تسلق يسوع برفقة أبيه, للمرة الأولى إلى قمة جبل الطابور. كان يوماً صافياً وكان المنظر خلاباً. لقد بدا لهذا الفتى البالغ من العمر تسع سنوات أنه في الحقيقة قد حدق في العالم بأسره باستثناء الهند, وأفريقيا, وروما.
124:1.7 (1367.3) وُلدت شقيقة يسوع الثانية, مارثا, ليلة الخميس في 13 أيلول. بعد مجيء مارثا بثلاثة أسابيع, بدأ يوسف, الذي كان في المنزل إلى حين, ببناء إضافة لبيتهم, دكان عمل وغرفة نوم مشتركين. تم بناء طاولة عمل صغيرة ليسوع, وللمرة الأولى امتلك عدّته الخاصة. لسنوات عديدة عند أوقات غير نظامية اشتغل على هذه الطاولة وأصبح خبيرًا للغاية في صناعة الأنيار.
124:1.8 (1367.4) هذا الشتاء والذي تلاه كانا الأبرد في الناصرة لعقود عديدة. كان يسوع قد رأى الثلج على الجبال, وعدة مرات تساقط الثلج في الناصرة, ولم يبق على الأرض إلا لوقت قصير؛ لكنه لم يرى الجليد حتى هذا الشتاء. حقيقة أن الماء يمكن أن يكون صلباً, وسائلاً, وبخاراً ــ كان قد تأمل طويلاً في البخار المتسرب من الأوعية التي تغلي ــ جعلت الفتى يفكر ملياً في العالَم الفيزيائي وتكوينه؛ ومع ذلك فإن الشخصية المتجسدة في هذا الشاب النامي كانت كل هذا بينما كان الخالق الفعلي والمنظم لكل هذه الأشياء في جميع أنحاء الكون النائي.
124:1.9 (1367.5) لم يكن مناخ الناصرة قاسياً. كان كانون الثاني أبرد الشهور, حيث يبلغ متوسط الحرارة حوالي 50 درجة فهرنهايت. خلال شهري تموز وآب, الأشهر الأكثر سخونة, تتراوح الحرارة من 75 إلى 90 درجة فهرنهايت. من الجبال إلى وادي الأردن ووادي البحر الميت تراوح مناخ فلسطين من المتجمد إلى المتقد. وهكذا, بطريقة ما, كان اليهود مهيئين للعيش تقريباً في أي وكل مناخات العالَم المتغيرة.
124:1.10 (1367.6) حتى أثناء أشهر الصيف الأكثر دفئاً هب نسيم البحر البارد عادةً من الغرب من الساعة 10 صباحاً حتى حوالي الساعة 10 مساءً. لكن كل حين وآخر كانت تهب رياح ساخنة عاصفة من الصحراء الشرقية عبر كل فلسطين. عادة ما تأتي تلك الهبات الحارة في شباط وآذار, قرب نهاية الفصل الممطر. في تلك الأيام تساقط المطر في زخات منعشة من تشرين الثاني إلى نيسان, لكنها لم تمطر بشكل مطرد. لم يكن هناك سوى فصلين في فلسطين, صيف وشتاء, الفصل الجاف والفصل الممطر. في كانون الثاني بدأت الأزهار تتفتح, وبحلول نهاية نيسان كانت الأرض بأكملها عبارة عن حديقة زهور شاسعة.
124:1.11 (1367.7) في أيار من هذا العام, على مزرعة خاله, ساعد يسوع للمرة الأولى في حصاد الحبوب. قبل أن يبلغ الثالثة عشرة من عمره, كان قد تمكن من معرفة شيئ ما عن تقريباً كل شيء اشتغل به الرجال والنساء حول الناصرة باستثناء عمل المعادن, وأمضى عدة أشهر في دكان حداد عندما كبر, بعد وفاة والده.
124:1.12 (1368.1) عندما كان العمل ورحلات القوافل راكدين, قام يسوع برحلات عديدة مع أبيه للمتعة أو العمل إلى قانا, وعندور, وناعين القريبين. حتى كفتى زار بشكل متكرر صفوريه, ما يزيد قليلاً عن ثلاثة أميال من الناصرة إلى الشمال الغربي, ومن 4 ق.م. إلى حوالي 25 م. عاصمة الجليل وأحد مساكن هيرودس أنتيباس.
124:1.13 (1368.2) استمر يسوع في النمو جسدياً, وفكرياً, واجتماعياً, وروحياً. رحلاته بعيداً عن البيت فعلت الكثير لمنحه تفهماً أفضل وأكثر كَرماً عن عائلته الخاصة, وبهذا الوقت حتى والديه بدأوا يتعلمون منه بالإضافة إلى تعليمه, كان يسوع مفكراً أصيلًا ومعلماً ماهراً, حتى في شبابه. لقد كان في صِدام دائم مع ما يُسمى "الشريعة الشفهية", لكنه سعى دائماً إلى تكييف نفسه مع ممارسات عائلته. كان على علاقة لا بأس بها مع أولاد جيله, لكنه غالباً ما شعر بالإحباط بسبب عقولهم البطيئة التصرف. قبل أن يبلغ العاشرة من عمره, أصبح القائد لجماعة من سبعة فتيان الذين شَكَّلوا أنفسهم في جمعية لتعزيز اكتساب الرجولة ــ جسدياً, وفكرياً, ودينياً. نجح يسوع بين هؤلاء الصبيان في تقديم العديد من الألعاب الجديدة وأساليب مُحسَّنة متنوعة للترفيه الجسدي.
124:2.1 (1368.3) لقد كان الخامس من تموز, السبت الأول من الشهر, بينما كان يتجول في الريف مع والده, عندما أعطى يسوع, أول تعبير لمشاعر وأفكار التي أشارت إلى أنه كان يصبح واعياً للذات للطبيعة غير العادية لمهمة حياته. أصغى يوسف باهتمام إلى كلمات ابنه الهامة لكنه ادلى بتعليقات قليلة؛ لم يتطوع بأي معلومات. في اليوم التالي كان لدى يسوع حديث مشابه إنما أطول مع أمه. استمعت مريم بالمثل إلى تصريحات الفتى, لكنها كذلك لم تتطوع بأي معلومات. لقد مر ما يقرب من عامين قبل أن يتحدث يسوع مرة أخرى إلى والديه بشأن هذا الوحي المتزايد داخل وعيه الخاص بشأن طبيعة شخصيته, وطبع مهمته على الأرض.
124:2.2 (1368.4) دخل المدرسة المتقدمة للكنيس في شهر آب. في المدرسة كان دائمًا ما يثير مشكلة بسبب الأسئلة التي أصر على طرحها. على نحو متزايد أبقى كل الناصرة في لغط أكثر أو أقل. كان والداه عازفان عن منعه من طرح هذه الأسئلة المربكة, وكان معلمه الرئيسي مفتوناً إلى حد كبير بفضول الفتى, وبصيرته, وتعطشه للمعرفة.
124:2.3 (1368.5) لم ير رفاق لعب يسوع شيئاً خارقاً في سلوكه؛ كان في معظم النواحي جملةً مثلهم. كان اهتمامه بالدراسة نوعاً ما فوق المتوسط ولكنه لم يكن غريبًا تماماً. لقد طرح أسئلة في المدرسة أكثر من الآخرين في صفه.
124:2.4 (1368.6) ربما كانت أكثر سماته غرابة وروعة عدم رغبته بالقتال من أجل حقوقه. نظراً لأنه كان مثل هذا الفتى المتطور جيداً بالنسبة لعمره, فقد بدا غريباً لزملائه في اللعب أنه لم يكن يميل إلى الدفاع عن نفسه حتى من الظلم أو عندما يتعرض لإساءة شخصية. كما حدث, لم يعاني الكثير على حساب هذه الخلة بسبب صداقة يعقوب, جاره الصبي, الذي كان أكبر منه بعام واحد. لقد كان ابن الحجار, شريك عمل ليوسف. كان يعقوب معجباً كثيراً بيسوع وجعل من شغله أن يرى أنه لا يسمح لأحد أن يفرض على يسوع بسبب نفوره من القتال الجسدي. عدة مرات هاجم شبان أكبر وفظين يسوع, معتمدين على دماثة خلقه المشهورة, لكنهم دائماً عانوا عقاباً أكيداً وسريعاً على يدي البطل الذي نصب نفسه والمدافع الجاهز-أبداً, يعقوب بن الحجار.
124:2.5 (1369.1) كان يسوع القائد المقبول عموماً لفتيان الناصرة الذين دافعوا عن المُثل الأعلى ليومهم وجيلهم. كان محبوباً حقاً من قِبل رفاقه الشباب, ليس فقط لأنه كان منصفاً, لكن أيضًا لأنه كان يمتلك تعاطفاً نادراً ومتفهماً دل على محبة وحد على التعاطف الرصين.
124:2.6 (1369.2) بدأ هذا العام في إظهار تفضيل ملحوظ لرفقة أشخاص أكبر سناً. ابتهج بالتحدث عن أمور ثقافية, وتعليمية, واجتماعية, واقتصادية, وسياسية, ودينية مع عقول أكبر سناً, وعمق تفكيره وحِدة ملاحظته سَحرت رفاقه البالغين بحيث كانوا دائماً أكثر من راغبين للزيارة معه. إلى أن أصبح مسؤولاً عن إعالة المنزل, كان والديه يسعيان باستمرار للتأثير عليه لمرافقة أولئك الذين هم في سنه, أو تقريباً من عمره, بدلاً من الأفراد الأكبر سناً والأحسن اطلاعاً الذين أظهر مثل هذا التفضيل لهم.
124:2.7 (1369.3) في أواخر هذا العام كانت لديه تجربة صيد سمك لمدة شهرين مع عمه على بحر الجليل, وكان ناجحاً للغاية. قبل بلوغه الرجولة أصبح صياد سمك خبير.
124:2.8 (1369.4) استمر نموه الجسدي؛ كان تلميذا متقدماً ومتميزاً في المدرسة؛ وكان على وفاق جيد في البيت مع أشقائه وشقيقاته الأصغر, كونه يتمتع بميزة أنه ثلاث سنوات ونصف السنة أكبر من أكبر الأولاد الآخرين. كان في اعتبار جيد في الناصرة باستثناء آباء بعض الأولاد البليدين, الذين تكلموا في كثير من الأحيان عن يسوع على أنه سليط جداً لأنه يفتقر إلى التواضع اللائق وتحفظ الشباب. أظهر مَيلاً متزايداً لتوجيه نشاطات اللعب لزملائه الشباب إلى قنوات أكثر جدية ومدروسة. كان مولوداً كمعَّلم وببساطة لم يستطع الامتناع عن الأداء هكذا, حتى عندما كان يُفترض أنه منشغل في اللعب.
124:2.9 (1369.5) بدأ يوسف في وقت مبكر بإرشاد يسوع في الوسائل المتنوعة لكسب الرزق, شارحاً مزايا الزراعة على الصناعة والتجارة. كان الجليل إقليماً أكثر جمالاً وغنى من يهودا, وكلَف العيش هناك فقط حوالي ربع تكلفة العيش في أورشليم ويهودا. كانت مقاطعة من القرى الزراعية والمدن الصناعية المزدهرة, تضم أكثر من مائتي بلدة يزيد سكانها عن خمسة آلاف نسمة, وثلاثين بلدة سكانها أكثر من خمسة عشر ألفاً.
124:2.10 (1369.6) عندما كان في رحلته الأولى مع والده لمراقبة صناعة صيد الأسماك في بحيرة الجليل, كان تقريباً قد قرر أن يصبح صياد أسماك؛ لكن الارتباط الوثيق مع مهنة والده في وقت لاحق أثر عليه ليصبح نجاراً, بينما لا يزال في وقت لاحق دفعه مزيج من التأثيرات إلى الاختيار النهائي بأن يصبح مدرساً دينياً لنظام جديد.
124:3.1 (1369.7) طوال هذا العام, استمر الفتى في القيام برحلات مع والده بعيدا عن المنزل, لكنه كذلك زار بشكل متكرر مزرعة عمه وعلى مناسبات ذهب إلى مجدلا لينشغل في صيد السمك مع العم الذي جعل مقره بالقرب من تلك المدينة.
124:3.2 (1369.8) غالباً ما كان يوسف ومريم يميلان إلى إظهار بعض المحاباة الخاصة ليسوع أو سوى ذلك خيانة معرفتهما بأنه كان طفل الوعد, ابن القدر. لكن كِلا والديه كانا فطنين وحكماء فوق العادة في كل هذه الأمور. في المرات القليلة التي أظهروا فيها بأي شكل من الأشكال أي تفضيل من أجله, حتى في أدنى درجة, كان الفتى سريعاً في رفض كل هذه الاعتبارات الخاصة.
124:3.3 (1370.1) أمضى يسوع وقتاً معتبراً عند دكان تموين القوافل, ومن خلال التحدث مع المسافرين من جميع أنحاء العالَم, حصل على مخزون من المعلومات حول الشؤون الدولية الذي كان مذهلاً, بالنظر إلى عمره. كانت هذه السنة الأخيرة التي استمتع فيها بكثير من اللعب الحر والمرح الشبابي. من هذا الوقت وصاعداً تضاعفت الصعوبات والمسؤوليات بسرعة في حياة هذا الشاب.
124:3.4 (1370.2) في مساء الأربعاء, 24 حزيران, عام 5 م. وُلد يهوذا. حضرت تعقيدات ولادة هذا الطفل السابع. كانت مريم مريضة للغاية لعدة أسابيع بحيث أن يوسف بقي في البيت. كان يسوع مشغولاً جداً بمهمات لأبيه وبسبب العديد من الواجبات الناجمة عن مرض والدته الخطير. لم يجد هذا الشاب مرة أخرى أنه من الممكن العودة إلى الموقف شبه الطفولي لسنواته الأبكر. من وقت مرض أُمه ــ تماماً قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره ــ كان ملزماً بتحمل مسؤوليات الابن البكر والقيام بكل هذا قبل سنة أو سنتين كاملتين من وقوع هذه الأعباء بشكل طبيعي على عاتقه.
124:3.5 (1370.3) كان الشازان يقضي أمسية واحدة من كل أسبوع مع يسوع, مساعداً إياه في إتقان الكتب المقدسة العبرية. كان مهتماً جداً بتقدم تلميذه الواعد؛ لذلك كان راغباً في مساعدته بعدة طرق. بذل هذا المُدرس اليهودي تأثيراً عظيماً على هذا العقل النامي, لكنه لم يستطع أبداً فهم سبب عدم مبالاة يسوع بكل اقتراحاته المتعلقة بفرص الذهاب إلى أورشليم لمواصلة تعليمه في ظل الحاخامات المتعلمين.
124:3.6 (1370.4) حوالي منتصف أيار رافق الفتى والده في رحلة عمل إلى سكيثوبولِس, المدينة الإغريقية الرئيسية من المدن العشرة, المدينة العبرية القديمة بيت-شان. في الطريق روى يوسف الكثير عن التاريخ القديم للملك شاول والفلسطينيين, والأحداث اللاحقة لتاريخ إسرائيل المضطرب. كان يسوع متأثراً بشدة بالمظهر النظيف والترتيب الجيد التنظيم لهذه المدعوة مدينة الكفار. تعجب من مسرح الهواء الطلق وأعجب بالهيكل الرخامي الجميل المكرس لعبادة آلهة "الكفار". كان يوسف شديد الإنزعاج بسبب حماس الفتى وسعى لمواجهة هذه الإنطباعات الإيجابية من خلال الإطراء على جمال وعظمة الهيكل اليهودي في أورشليم. غالباً ما حدق يسوع بفضول في هذه المدينة الإغريقية العظيمة من تل الناصرة واستفسر عدة مرات عن أعمالها العامة المتسعة ومبانيها المزخرفة, لكن والده كان يسعى دائماً لتجنب الإجابة على هذه الأسئلة. الآن كانا وجهاً لوجه مع جمالات هذه المدينة الأممية, ولم يستطع يوسف أن يتجاهل استفسارات يسوع بلباقة.
124:3.7 (1370.5) لقد حدث أنه في هذا الوقت بالضبط كانت الألعاب التنافسية السنوية والمظاهرات العامة للبراعة الجسدية بين المدن الإغريقية العشرة تجري عند مسرح سكيثوبولِس, وكان يسوع مُصّراً بأن يأخذه والده ليرى الألعاب, وكان شديد الإصرار لدرجة أن يوسف تردد في منعه. كان الصبي مبتهجاً بالألعاب ودخل قلبياً للغاية في روح مظاهر النمو الجسدي والمهارة الرياضية. كان يوسف مصدوماً بشكل لا يوصف لملاحظة حماس ابنه بينما يشاهد استعراضات "الكفار" المجيدة هذه. بعد انتهاء الألعاب, تلقى يوسف مفاجأة حياته عندما سمع يسوع يُعرب عن موافقته عليها ويقترح بأنه سيكون من الجيد لشباب الناصرة إذا أمكنهم الاستفادة من الأنشطة الجسدية الصحية في الهواء الطلق. تحدث يوسف بجدية ومطولاً مع يسوع فيما يتعلق بالطبيعة الشريرة لمثل هذه الممارسات, لكنه علم جيداً بأن الفتى لم يكن مقتنعاً.
124:3.8 (1371.1) المرة الوحيدة التي رأى فيها يسوع والده غاضباً منه كانت تلك الليلة في غرفتهما في النزل عندما نسي الولد أثناء مناقشاتهما اتجاهات الفكر اليهودي بحيث اقترح أن يعودا إلى بلدتهما ويعملا على بناء مسرح في الناصرة. عندما سمع يوسف ابنه البكر يعبر عن مثل هذه المشاعر غير اليهودية, نسي سلوكه الهادئ المعتاد, وممسكاً يسوع من كتفه, صرخ بغضب, "يا بني, لا تدعني مرة أخرى أسمعك تتفوه بمثل هذه الأفكار الشريرة ما دمتَ حياً". كان يسوع مذهولاً من عرض مشاعر والده؛ لم يسبق له أن شعر بلسعة شخصية من سخط والده وكان مندهشاً ومصدوماً فوق التعبير. فقط أجاب, "حسناً يا أبتاه, سيكون كذلك". ولم يُلمح الصبي مرة أخرى حتى ولو بأدنى طريقة إلى الألعاب والنشاطات الرياضية الأخرى للإغريق ما دام والده حياً.
124:3.9 (1371.2) فيما بعد, رأى يسوع المسرح الإغريقي في أورشليم وتعَّلم كم كانت هذه الأشياء بغيضة من وجهة النظر اليهودية. ومع ذلك, سعى طوال حياته لتقديم فكرة الاستجمام الصحي في خططه الشخصية, وبقدر ما تسمح به الممارسة اليهودية, في البرنامج اللاحق للنشاطات العادية لرُسله الاثني عشر.
124:3.10 (1371.3) عند نهاية هذا العام الحادي عشر كان يسوع شاباً قوياً, حسن النمو, يملك روح دعابة باعتدال, وخفيف القلب إلى حدٍ ما, لكن من هذه السنة فصاعداً كان مُعطى أكثر وأكثر لفصول خاصة من التأمل العميق والتفكير الجاد. كان يفكر كثيراً بكيفية قيامه بالتزاماته تجاه أسرته وفي الوقت نفسه يكون مُطيعاً لنداء رسالته إلى العالَم؛ كان قد تصور بأن إسعافه لم يكن ليكون مقصوراً على تحسين الشعب اليهودي.
124:4.1 (1371.4) كان هذا عاماً زاخراً بالأحداث في حياة يسوع. استمر في إحراز تقدم في المدرسة وكان لا يعرف الكلل في دراسته للطبيعة. بينما تتبع بشكل متزايد دراسته للأساليب التي يكسب الناس من خلالها لقمة العيش. بدأ العمل بشكل نظامي في دكان النجارة المنزلي وسُمح له بإدارة مكتسباته الخاصة, ترتيب غير عادي للغاية للحصول عليه في عائلة يهودية. هذا العام تعلم أيضًا حكمة إبقاء مثل هذه الأمور سراً في العائلة. كان قد أصبح واعياً للطريقة التي تسبب بها بإثارة المشاكل في القرية, ومنذ ذلك الوقت فصاعداً أصبح حريصاً بشكل متزايد على ستر كل ما قد يتسبب في اعتباره مختلفًا عن زملائه.
124:4.2 (1371.5) واجه طوال هذا العام فصولاً عديدة من عدم اليقين, إن لم يكن الشك الفعلي, فيما يتعلق بطبيعة مهمته. عقله البشري النامي بشكل طبيعي لم يدرك كلياً حتى الآن حقيقة طبيعته المزدوجة. حقيقة أن لديه شخصية واحدة جعلت من الصعب على وعيه إدراك الأصل المزدوج لتلك العوامل التي ألفت الطبيعة المرتبطة بتلك الشخصية نفسها.
124:4.3 (1371.6) من هذا الوقت وصاعداً أصبح أكثر نجاحاً في الوفاق مع أشقائه وشقيقاته. كان لبقاً بشكل متزايد, ودائماً عطوفًا ومراعيًا لرفاهيتهم وسعادتهم, وتمتع بعلاقات جيدة معهم حتى بداية إسعافه العام. لكي أكون أكثر وضوحاً: كان على وفاق مع يعقوب, ومريام, والطفلين الصغيرين (لم يولدا بعد), أموص وراعوث, بأكثر الامتياز. كان دائماً على وفاق مع مارثا بشكل جيد إلى حد ما. أي مشكلة واجهها في المنزل نشأت إلى حد كبير من الاحتكاك مع شقيقيه يوسف, ويهوذا, خاصة الأخير.
124:4.4 (1372.1) لقد كانت تجربة مجربة ليوسف ومريم للأخذ على عاتقهما تربية هذا المزيج غير المسبوق من الألوهية والإنسانية, وهما يستحقان تقديراً عظيماً, لأداء مسؤولياتهما الأبوية بإخلاص ونجاح. لقد أدرك والدا يسوع بشكل متزايد أن هناك شيء ما فائق عن الإنساني مقيم داخل ابنهما البكر هذا, لكنهما لم يحلما أبدًا بأن هذا الابن الموعود كان بالفعل وفي الحقيقة الخالق الفعلي لهذا الكون المحلي من الأشياء والكائنات. عاش يوسف ومريم وتوفيا دون أن يعلما أبداً بأن ابنهما يسوع كان في الحقيقة خالق الكون المتجسد في الجسد الفاني.
124:4.5 (1372.2) في هذا العام أولى يسوع اهتماماً أكثر من أي وقت مضى بالموسيقى, واستمر في تعليم المدرسة المنزلية لإخوته وأخواته. كان حوالي هذا الوقت حينما أصبح الفتى واعياً بفطنة للفرق بين وجهات نظر يوسف ومريم فيما يتعلق بطبيعة مهمته. تفكر كثيراً في وجهات نظر والديه المتباينة, غالباً ما سمع مناقشتهما عندما اعتقدا أنه كان نائمًا. أكثر فأكثر مالَ إلى وجهة نظر أبيه, بحيث أن أُمه كانت مُقـَّدرة لأن تتأذى من إدراك أن ابنها يرفض تدريجياً توجيهها في أمور تتعلق بمهمة حياته. ومع مرور السنين, توسعت هذه الثغرة في التفاهم. أقل وأقل استوعبت مريم أهمية مهمة يسوع, وبشكل متزايد كانت هذه الأُم الصالحة متأذية من فشل ابنها المُفـضَّل في تحقيق توقعاتها العزيزة.
124:4.6 (1372.3) خالج يوسف اعتقاد متزايد بالطبيعة الروحية لمهمة يسوع. لكن لأسباب أخرى وأكثر أهمية يبدو فعلاً من المؤسف أنه لم يمكنه العيش ليرى تحقق مفهومه عن إغداق يسوع على الأرض.
124:4.7 (1372.4) خلال عامه الأخير في المدرسة, عندما كان في الثانية عشرة من عمره, احتج يسوع إلى أبيه حول العادة اليهودية للمس قطعة جلد مسمرة على عمود الباب في كل مرة عند الدخول أو الخروج من المنزل, وبعد ذلك تقبيل الإصبع التي لمست قطعة الجلد. كجزء من هذه الطقوس كان من المعتاد قول, "سيحفظ الرب خروجنا ودخولنا من الآن فصاعداً وحتى إلى الأبد". كان يوسف ومريم قد أرشدا يسوع تكراراً بالنسبة إلى أسباب عدم صنع صُور أو رسم تصاوير, موضحين بأن مثل هذه الخلائق قد تُستخدم لأغراض عبادة الأصنام. مع أن يسوع فشل تماماً في استيعاب نواهيهم ضد الصُوَر والتصاوير, إلا أنه امتلكَ مفهوماً أعلى من الثبات وبالتالي أشار إلى والده الطبيعة الوثنية بشكل أساسي لهذه العادة بالخضوع لقطعة جلد عارضة الباب. وأزال يوسف قطعة الجلد بعدما احتج يسوع لديه بهذه الطريقة.
124:4.8 (1372.5) بمرور الوقت, فعل يسوع الكثير لتعديل ممارساتهم للأشكال الدينية, مثل صلوات العائلة وغيرها من العادات. وكان من الممكن القيام بالكثير من هذه الأشياء في الناصرة, لأن كنيسها كان تحت تأثير مدرسة حاخامات ليبرالية, متمثلين بمعلم الناصرة المشهور, يوسي.
124:4.9 (1372.6) طوال هذا العام والعامين التاليين عانى يسوع من ضائقة نفسية كبيرة نتيجة لجهده المستمر في ضبط وجهات نظره الشخصية للممارسات الدينية والمرافق الاجتماعية مع المعتقدات الراسخة لوالديه. كان ذاهل الفكر من الصراع بين الرغبة في أن يكون مخلصاً لقناعاته الخاصة وإلى التحذيرات الضميرية لخضوع الواجب لوالديه؛ صراعه السامي بين أمرين عظيمين كانا الأهم في عقله الشاب. واحد كان: "كن موالياً لإملاءات أسمى قناعاتك من الحقيقة والصلاح". والآخر كان: "اكرم أباك وأمك, لأنهما أعطياك حياة والرعاية منها". مع ذلك, لم يتنصل مطلقاً من مسؤولية إجراء التعديلات اليومية الضرورية بين تلك النواحي من الإخلاص إلى قناعات المرء الشخصية والواجب تجاه عائلته, وحقق الرضا المتمثل في إحداث مزيج متناغم بشكل متزايد لقناعاته الشخصية والتزاماته العائلية نحو مفهوم بارع للتضامن الجماعي على أساس الولاء, والإنصاف, والتسامح, والمحبة.
124:5.1 (1373.1) في هذا العالم عبر فتى الناصرة من الصبا إلى بداية الرجولة الشابة؛ بدأ صوته يتغير, وملامح أخرى للعقل والجسم قدمت دليلاُ عن حالة الرجولة القادمة.
124:5.2 (1373.2) في ليلة الأحد 9 كانون الثاني, عام 7 م., ولد شقيقه عاموس, لم يكن يهوذا يبلغ من العمر عامين بعد, وشقيقته الصغيرة راعوث, لم تكن قد أتت بعد؛ وهكذا قد يُرى بأن يسوع كان لديه عائلة كبيرة من أطفال صغار تُركوا لرعايته عندما لاقى والده حتفه العرضي في العام التالي.
124:5.3 (1373.3) كان حوالي منتصف شهر شباط عندما أصبح يسوع أكيداً بشريًا بأنه كان مقدَّر له أداء مهمة على الأرض من أجل تنوير الإنسان وإعلان الله. قرارات هامة الشأن, مزدوجة مع خطط بعيدة المدى, كانت تتبلور في عقل هذا الشاب, الذي كان, إلى المظاهر الخارجية, فتى يهوديًا عاديًا من الناصرة. تطلعت الحياة الذكية لكل نِبادون بإعجاب ودهشة بينما بدأ كل هذا ينكشف في تفكير وتصرف ابن النجار اليافع الآن.
124:5.4 (1373.4) في اليوم الأول من الأسبوع, 20 آذار, عام 7 م., تخرَج يسوع من الدورة التدريبية في المدرسة المحلية المتصلة بكنيس الناصرة. كان هذا يوماً عظيماً في حياة أي عائلة يهودية طموحة, وهو اليوم الذي أعلن فيه الابن البكر "ابن الوصية" والبكر المفتدى للرب إله إسرائيل, "ولد الأعلى" وخادم رب كل الأرض.
124:5.5 (1373.5) في يوم الجمعة من الأسبوع السابق, كان يوسف قد جاء من صفوريه, حيث كان مسؤولاً عن العمل على مبنى عمومي جديد, ليكون حاضراً في هذه المناسبة السعيدة. اعتقد معلم يسوع بثقة بأن تلميذه اليقظ والمجتهد كان مقـدَّراً لمهمة بارزة ما, مهمة متميزة ما. كان الشيوخ, بالرغم من كل مشاكلهم مع ميول يسوع غير الملتزمة, فخورين جداً بالفتى وبدأوا بالفعل في وضع الخطط التي ستمكنه من الذهاب إلى أورشليم لمواصلة تعليمه في الأكاديميات العبرية الشهيرة.
124:5.6 (1373.6) عندما سمع يسوع هذه الخطط تُناقش من وقت لآخر, أصبح متأكداً بشكل متزايد بأنه لن يذهب أبداً إلى أورشليم للدراسة مع الحاخامات. لكنه حلم قليلاً جداً بالمأساة, التي ستحدث قريباً جداً, والتي من شأنها أن تضمن التخلي عن كل هذه الخطط من خلال دفعه لتحمل مسؤولية دعم وتوجيه عائلة كبيرة, تتكون حالياً من خمسة إخوة وثلاث أخوات بالإضافة إلى والدته ونفسه. كان لدى يسوع خبرة أكبر وأطول في تربية هذه العائلة مما مُنح ليوسف, والده؛ وكان في مقدار الحمل الذي حدده لاحقاً لنفسه: أن يصبح معلماً حكيماً, وصبوراً, ومتفهماً, وفعّالاً, والأخ الأكبر لهذه العائلة ــ عائلته ــ التي أُصيبت فجأة بالأسى وثُكلت بشكل غير متوقع.
124:6.1 (1374.1) بعد أن وصل يسوع الآن إلى عتبة الرجولة الشابة وتخرَّج رسمياً من مدارس الكنيس, كان مؤهلاً للذهاب إلى أورشليم مع والديه للمشاركة معهم في الاحتفال بعيد فصحه الأول. صادف عيد الفصح لهذا العام يوم السبت 9 نيسان, عام 7 م. وقد استعدت مجموعة كبيرة (103) للرحيل من الناصرة في ساعة مبكرة من صباح الاثنين في 4 نيسان, إلى أورشليم. ارتحلوا جنوباً نحو السامرة, لكن عند وصولهم إلى يزرعيل, داروا شرقاً, ذاهبين حول جبل الجلبوع نحو وادي الأردن لتجنب المرور عبر السامرة. كان يوسف وعائلته سيستمتعون بالنزول عبر السامرة عن طريق بئر يعقوب وبيت-إيل, لكن بما أن اليهود كرهوا التعامل مع السامريين, فقد قرروا الذهاب مع جيرانهم عبر وادي الأردن.
124:6.2 (1374.2) كان أرخيلاوس المُخيف كثيراً قد تم عزله, ولم يكن لديهم ما يخشونه في أخذ يسوع إلى أورشليم. لقد مرت اثنتي عشرة سنة منذ سعى هيرودس الأول لقتل طفل بيت-لحم, ولا أحد سيفكر الآن بربط ذلك الشأن مع هذا الفتى الغامض من الناصرة.
124:6.3 (1374.3) قبل الوصول إلى مفترق يزرعيل, وبينما استمروا في رحلتهم, قريباً جداً, على اليسار, مروا بقرية شونيم القديمة, وسمع يسوع مرة أخرى عن أجمل فتاة في كل إسرائيل عاشت مرة هناك وكذلك عن الأعمال العجيبة التي قام بها إليشع هناك. في عبورهم قرب يزرعيل, تلا والدا يسوع أفعال أخاب وإيزابل ومآثر ياهو. أثناء عبورهم حول جبل الجلبوع, تحدثوا كثيراً عن شاول الذي انتحر على سفوح هذا الجبل, وعن الملك داود, وارتباطات هذه البقعة التاريخية.
124:6.4 (1374.4) حينما داروا حول قاعدة الجلبوع, كان بإمكان الحجاج رؤية مدينة سكيثوبولِس اليونانية على اليمين. حدقوا في الهياكل الرخامية من مسافة لكنهم لم يقتربوا من مدينة الأمميين لئلا يدنسوا أنفسهم بحيث لا يعود بإمكانهم المشاركة في الاحتفالات الرسمية والمقدسة القادمة لعيد الفصح في أورشليم. لم تفهم مريم سبب عدم حديث يوسف ولا يسوع عن سكيثوبولِس. لم تكن تعلم بجدالهما في العام السابق حيث إنهما لم يكشفا لها هذه القصة أبدًا.
124:6.5 (1374.5) أدّت الطريق الآن مباشرة نزولاً إلى وادي الأردن الإستوائي, وسرعان ما كان يسوع ليكشف لنظرته المتعجبة الأردن الملتوي والدائم التعرج مع مياهه المتلألئة والمتموجة بينما تتدفق نزولاً نحو البحر الميت. طرحوا جانباً أرديتهم الخارجية بينما رحلوا جنوباً في هذا الوادي الاستوائي, مستمتعين بحقول الحبوب الفاخرة ونباتات الدفلى الجميلة المحملة بأزهارها الوردية, بينما وقف جبل حرمون الضخم المكلل بالثلوج بعيداً إلى الشمال, متطلع بجلال نزولاً على الوادي التاريخي. بعد ما يزيد قليلاً عن ثلاث ساعات من السفر من مقابل سكيثوبولِس أشرفوا على نبع ذا فقاقيع, وخيَّموا هنا من أجل الليل, في العراء تحت السماوات المضاءة بالنجوم.
124:6.6 (1374.6) على رحلة يومهم الثاني مروا حيث يتدفق اليبوق من الشرق, نحو الأردن, ومتطلعين شرقاً فوق وادي النهر هذا, سردوا أيام جدعون, عندما تدفق المديانيون على هذه المنطقة ليحتلوا الأرض. قرب نهاية رحلة اليوم الثاني خَيموا قرب قاعدة أعلى جبل يشرف على وادي الأردن, جبل صارتابا, الذي احتلت قمته القلعة الإسكندرانية حيث قام هيرودس بسجن إحدى زوجاته ودفن ابنيه المخنوقين.
124:6.7 (1375.1) في اليوم الثالث مروا بقريتين بناهما هيرودس مؤخرًا ولاحظوا هندستهما المعمارية الفائقة وحدائق النخيل الجميلة. مع حلول الليل وصلوا أريحا, حيث مكثوا حتى الغد. ذلك المساء مشى يوسف, ومريم ويسوع مسافة ميل ونصف إلى موقع أريحا القديمة, حيث قام يشوع, الذي سُمي يسوع بإسمه, بتنفيذ مآثره الشهيرة, وفقاً للتقاليد اليهودية.
124:6.8 (1375.2) بحلول اليوم الرابع والأخير من الرحلة, كان الطريق موكباً مستمراً من الحجاج. بدأوا الآن في تسلق التلال المؤدية صعوداً إلى أورشليم. بينما قاربوا القمة, كان يمكنهم التطلع عبر الأردن إلى الجبال ما بعده وجنوباً فوق المياه الراكدة للبحر الميت. حوالي نصف الطريق صعوداً إلى أورشليم, حصل يسوع على نظرته الأولى لجبل الزيتون (المنطقة التي ستكون جزءاً كبيراً من حياته اللاحقة), وأشار له يوسف بأن المدينة المقدسة تقع وراء هذه القمة مباشرة, وخفق قلب الفتى بسرعة بالترقب الفرح لرؤية المدينة ومنزل أبيه السماوي قريباً.
124:6.9 (1375.3) توقفوا للراحة على السفوح الشرقية للزيتونات في حدود قرية صغيرة تُدعى بيت-عنيا. تدفق القرويون المضيافون لخدمة الحجاج, وحدث بأن يوسف وعائلته توقفوا قرب منزل واحد اسمه سمعان, الذي كان لديه ثلاثة أولاد في نفس عمر يسوع تقريباً ــ مريم, ومارثا, ولِعازر. قاموا بدعوة العائلة الناصرية إلى الداخل لتناول المرطبات, ونشأت صداقة مدى الحياة بين العائلتين. عدة مرات بعدها, في حياته الزاخرة بالأحداث, توقف يسوع في هذا البيت.
124:6.10 (1375.4) عجَّلوا سيرهم, وسرعان ما وقفوا على حافة الزيتونات, ورأى يسوع للمرة الأولى (في ذاكرته) المدينة المقدسة, والقصور الطنانة, والهيكل الملهم لأبيه. ولا في أي وقت من حياته اختبر يسوع أبداً هكذا إثارة مشاعر إنسانية بحتة كالتي فتنته تماماً في هذا الوقت عندما وقف هناك في عصر هذا اليوم من نيسان على جبل الزيتون, متشرباً في نظرته الأولى لأورشليم. وبعد سنوات, على هذه البقعة بالذات وقف وبكى على المدينة التي كانت على وشك أن ترفض نبياً آخر, آخر وأعظم معلميها السماويين.
124:6.11 (1375.5) لكنهم سارعوا إلى أورشليم. كان الآن بعد ظهر الخميس. عند وصولهم المدينة, سافروا عبر الهيكل, ولم يسبق ليسوع قبل الآن أن رأى مثل هذه الحشود من البشر. تأمل بعمق في كيفية تجمع هؤلاء اليهود هنا من أقصى أنحاء العالَم المعروف.
124:6.12 (1375.6) سرعان ما وصلوا إلى المكان الذي تم تحديده مسبقاً من أجل مكوثهم خلال أسبوع الفصح, المنزل الكبير لأحد أقارب مريم الميسورين, الذي كان يعرف شيئًا عن التاريخ الباكر لكل من يوحنا ويسوع, من خلال زكريا. في اليوم التالي, يوم الاستعداد, استعدوا للاحتفال اللائق بسبت الفصح.
124:6.13 (1375.7) بينما كانت أورشليم كلها منهمكة في التحضير للفصح, وجد يوسف وقتاً لاصطحاب ابنه لزيارة الأكاديمية حيث كان قد تم الترتيب له لاستئناف تعليمه بعد عامين, بمجرد وصوله العمر المطلوب خمس عشرة عاما. شعر يوسف بالحيرة حقاً عندما لاحظ مدى قلة الاهتمام الذي أبداه يسوع بكل هذه الخطط الموضوعة بعناية.
124:6.14 (1375.8) كان يسوع متأثراً بعمق بالهيكل وجميع الخدمات والأنشطة الأخرى المرتبطة به. للمرة الأولى منذ أن كان في الرابعة من عمره, كان كثير الانهماك في تأملاته الخاصة لكي يطرح العديد من الأسئلة. هو, على كل, سأل آباه عدة أسئلة محرجة (كما فعل في مناسبات سابقة) مثل لماذا تطلب الأب السماوي ذبح الكثير جداً من الحيوانات البريئة والعاجزة. وعلم أبوه جيداً من التعبير على وجه الفتى بأن إجاباته ومحاولاته في التفسير لم تكن مُرضية لابنه العميق التفكير والذكي المنطق.
124:6.15 (1376.1) في اليوم السابق لسبت الفصح, اجتاح مَدّ طوفاني من التنوير الروحي العقل الفاني ليسوع وملأ قلبه البشري إلى فوق الطفح بشفقة حنونة نحو الجموع العمياء روحياً والجاهلة أخلاقياً الذين اجتمعوا للاحتفال بإحياء الذكرى القديمة لعيد الفصح. كان هذا واحداً من أكثر الأيام غير العادية التي قضاها ابن الله في الجسد؛ وأثناء الليل, للمرة الأولى في مهمته الأرضية, ظهر له رسول معيَّن من ساﻟﭭينغتون, بتكليف من عمانوئيل, الذي قال: "أتت الساعة. لقد حان الوقت لتبدأ بأن تكون حول شغل أبيك".
124:6.16 (1376.2) وهكذا, حتى قبل أن تهبط المسؤوليات الثقيلة لعائلة الناصرة على أكتافه الشابة, هناك وصل الآن الرسول السماوي ليذكّر هذا الفتى, الذي لم يبلغ حتى الآن الثالثة عشرة من عمره, بأن الساعة قد أتت لكي يبدأ استئناف مسؤوليات الكون. كان هذا أول إجراء من سلسلة طويلة من الأحداث التي بلغت في النهاية أوجها في إتمام إغداق الابن على يورانشيا ووضع "حكومة الكون على أكتافه البشرية- الإلَهية ".
124:6.17 (1376.3) بمرور الوقت, أصبح غموض التجسد, بالنسبة لنا جميعاً, لا يسبر غوره أكثر وأكثر. بالكاد امكننا أن نستوعب بأن هذا الفتى من الناصرة كان الخالق لكل نِبادون. ولا نحن حتى في الوقت الحاضر نفهم كيف ترتبط روح هذا الابن الخالق ذاته وروح أبيه الفردوسي مع نفوس البشر. مع مرور الوقت, كان بإمكاننا رؤية أن عقله البشري كان مُدركاَ بشكل متزايد بأنه, بينما عاش حياته في الجسد, في الروح استندت على أكتافه مسؤولية كون؟
124:6.18 (1376.4) بهذا انتهت مهمة فتى الناصرة, وتبدأ رواية ذلك الشاب اليافع ــ الإنساني الإلَهي الواعي للذات بشكل متزايد ــ الذي يبدأ الآن التأمل بمهمته العالمية بينما يسعى جاهداً لدمج هدف حياته المتوسع مع رغبات والديه والتزاماته تجاه أسرته والمجتمع في يومه وعصره.
كِتاب يورانشيا
ورقة 125
125:0.1 (1377.1) لم يكن هناك حادث في كل مهمة يسوع الأرضية الحافلة بالأحداث والوقائع أكثر جاذبية, وأكثر إثارة للمشاعر الإنسانية, من هذه, أول زيارة يتذكرها إلى أورشليم. كان مُحفزاً بشكل خاص بتجربة حضور مناقشات المعبد بنفسه, وبرزت في ذاكرته لفترة طويلة كحدث عظيم لطفولته اللاحقة وشبابه المبكر. كانت هذه فرصته الأولى للإستمتاع بأيام قليلة من العيش المستقل, بهجة الذهاب والإياب بدون رادع أو قيود. هذه الفترة القصيرة من العيش غير الموجه, أثناء الأسبوع الذي يلي الفصح, كانت أول تحرر تام من المسؤولية التي تمتع بها على الإطلاق. وقد مرت سنوات عديدة بعد ذلك قبل أن يتمتع مرة أخرى بفترة مماثلة من التحرر من كل شعور بالمسؤولية, حتى لفترة قصيرة.
125:0.2 (1377.2) نادراً ما ذهبت النساء إلى عيد الفصح في أورشليم؛ لم يكن حضورهن مطلوباً. يسوع, على كل, رفض فعلياً الذهاب ما لم ترافقهم والدته. وعندما قررت والدته الذهاب, انقادت عدة نساء أُخريات من الناصرة للقيام بالرحلة, بحيث احتوت زمرة الفصح على أكبر عدد من النساء, في نسبة إلى الرجال, على الإطلاق لتذهب إلى الفصح من الناصرة. من وقت لآخر, في الطريق إلى أورشليم, رددوا المزمور المائة والثلاثين.
125:0.3 (1377.3) منذ أن غادروا الناصرة إلى أن وصلوا قمة جبل الزيتون, عانى يسوع من إجهاد واحد طويل من التوقع المترقب. كان طوال طفولة ممتعة قد سمع بوقار عن أورشليم وهيكلها؛ الآن كان قريباً سيشاهدها في الواقع. من جبل الزيتون ومن الخارج, عند الفحص الدقيق, كان الهيكل كل ما توقعه يسوع وأكثر؛ لكن عندما دخل مرة مداخله المقدسة, بدأت خيبة الأمل الكبيرة.
125:0.4 (1377.4) برفقة والديه مر يسوع عبر أروقة الهيكل في طريقه للانضمام إلى تلك المجموعة من أبناء الشريعة الجدد الذين كانوا على وشك تكريسهم كمواطنين لإسرائيل. كان خائب الأمل بعض الشيء من السلوك العام لحشود المعبد, لكن الصدمة الكبيرة الأولى لليوم جاءت عندما تركتهم والدته في طريقها إلى رواق النساء. لم يخطر أبداً ليسوع بأن والدته لن ترافقه إلى مراسم التكريس, وكان ساخطاً تماماً لأنها تعرضت لمثل هذا التمييز الظالم. في حين أنه استاء بشدة من هذا, وبغض النظر عن بعض الملاحظات الاحتجاجية إلى والده, لم يقل شيئاً. لكنه فَكَر, وفَكَر بعمق, كما أظهرت أسئلته إلى الكتبة والمعلمين بعد أسبوع.
125:0.5 (1377.5) مر بشعائر التكريس لكنه كان خائب الأمل بسبب عدم اكتراثهم وطبائعهم الروتينية. فقَدَ ذلك الاهتمام الشخصي الذي ميز احتفالات الكنيس عند الناصرة. ثم عاد ليُحَّي والدته واستعد لمرافقة والده في رحلته الأولى حول الهيكل وأروقته ودهاليزه وأفنيته المتنوعة. كان بإمكان أفنية الهيكل إيواء أكثر من مائتي ألف من المصلين في وقت واحد, وفي حين أن ضخامة هذه المباني ــ بالمقارنة مع أي مما رآه في أي وقت مضى ــ أثار إعجابه بشكل كبير, فقد كان مفتوناً أكثر بالتأمل في المغزى الروحي لاحتفالات الهيكل والعبادة المرتبطة بها.
125:0.6 (1378.1) على الرغم من أن الكثير من طقوس المعبد قد أثرت بشكل مؤثر للغاية على إحساسه بالجميل والرمزي, إلا أنه كان دائماً خائب الأمل بتفسير المعاني الحقيقية لهذه الاحتفالات التي سيقدمها والداه ردًا على العديد من تساؤلاته الباحثة. ما كان يسوع ليقبل ببساطة تفسيرات عن العبادة والتكريس الديني التي تنطوي على اعتقاد في سخط الله أو غضب القدير. في مزيد من المناقشة حول هذه الأسئلة, بعد الانتهاء من زيارة الهيكل, عندما أصر والده بشكل معتدل بأن عليه أن يقبل المعتقدات اليهودية المستقيمة الرأي, التفت يسوع فجأة إلى والديه, ومتطلعاً بالتماس في عيون والده, قال: "يا أبي, لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا ــ فالأب في السماء لا يمكن أن يعتبر على هذا النحو أولاده المخطئين على الأرض. الأب السماوي لا يمكن أن يحب أولاده أقل مما تحبني. وأنا أعلم جيداً, بغض النظر كم غير حكيم الشيء الذي قد أفعله, فلن تسكب السخط علي ولن تصب جام الغضب ضدي. إذا كنت أنت, أبي الأرضي, تمتلك مثل هذه الانعكاسات البشرية للإلَهي, فكم بالحري يجب على الأب السماوي أن يكون مملوءاً بالصلاح وفائضاً بالرحمة. أنا أرفض أن أصدق بأن أبي في السماء يحبني أقل من أبي على الأرض".
125:0.7 (1378.2) عندما سمع يوسف ومريم هذه الكلمات من ابنهما البكر, لاذا بالصمت. وأبداً لم يسعيا مرة أخرى لتغيير رأيه بشأن محبة الله ورحمة الأب في السماء.
125:1.1 (1378.3) أينما ذهب يسوع في كل أنحاء أروقة الهيكل, كان مصدوماً وشعر بالمرض جراء روح عدم الاحترام التي لاحظها. لقد اعتبر أن سلوك جماهير الهيكل غير منسجم مع حضورهم في "منزل أبيه". لكنه تلقى صدمة حياته الشابة عندما اصطحبه والده إلى رواق الأمميين مع ضوضائه الصاخبة, التكلم بصوت عالٍ والشتائم, المختلطة بشكل عشوائي مع ثغاء الأغنام وهدير الضجيج الذي فضح صارفي العملة وبائعي حيوانات التضحية وغيرها من البضائع التجارية المتنوعة.
125:1.2 (1378.4) لكن الأكثر من كل ذلك كان غضب إحساسه من الحشمة برؤية العاهرات العابثات يستعرضن داخل هذه المنطقة من الهيكل, نساء ملونات تماماً كما رأى حديثاً جداً عندما كان في زيارة إلى صفوريه. أثار هذا التدنيس للهيكل كل سخطه الشبابي, ولم يتردد في التعبير عن نفسه بحرية ليوسف.
125:1.3 (1378.5) أعجب يسوع بمشاعر الهيكل وخدمته, لكنه كان مصدوماً بالقبح الروحي الذي شاهده على وجوه الكثير جداً من المتعبدين العديمي التفكير.
125:1.4 (1378.6) انتقلوا الآن نزولاً إلى رواق الكهنة تحت الحافة الصخرية أمام الهيكل, حيث قام المذبح, لمراقبة ذبح أعداد كبيرة من الحيوانات وغسل الدم عن أيدي الكهنة القائمين بخدمة الذبح عند النافورة النحاسية. كان الرصيف الملطخ بالدم, وأيدي الكهنة المظلمة, وأصوات الحيوانات المحتضرة أكثر مما كان بإمكان هذا الفتى المحب للطبيعة أن يتحمل. المنظر المريع تسبب بالمرض لهذا الصبي من الناصرة؛ تمسك بذراع والده وتوسل أن يؤخذ بعيداً. مشيا عائدين عبر رواق الأمميين, وحتى الضحك الخشن والمزاح البذيء الذي سمعه هناك كان فرجاً من المشاهد التي شاهدها للتو.
125:1.5 (1379.1) رأى يوسف مدى مرض إبنه عند رؤية طقوس الهيكل وقاده بحكمة حول المكان ليرى "البوابة الجميلة", البوابة الفنية المصنوعة من البرونز الكورنثي. لكن يسوع كان لديه ما يكفي من زيارته الأولى إلى الهيكل. رجعا إلى الرواق الأعلى من أجل مريم وتمشوا في الهواء الطلق وبعيداً عن الزحام لحوالي الساعة, مشاهدين القصر الأصموني, بيت هيرودس الفخم, وبرج الحرس الروماني. أثناء هذه الجولة أوضح يوسف ليسوع بأن سكان أورشليم وحدهم كان مسموحاً لهم بمشاهدة التضحيات اليومية في الهيكل, وبأن سكان الجليل يصعدون فقط ثلاث مرات في السنة للمشاركة في عبادة الهيكل: عند الفصح, وعند عيد العنصرة (سبعة أسابيع بعد الفصح), وعند عيد المظال في تشرين الأول. كانت هذه الأعياد مؤسسة من قِبل موسى. ثم ناقشا العيدان اللذان تم تأسيسهما فيما بعد عيد التكريس وعيد البوريم. بعد ذلك ذهبوا إلى مساكنهم واستعدوا للاحتفال بعيد الفصح.
125:2.1 (1379.2) كانت خمس عائلات ناصرية مستضافة, أو مرتبطة مع, عائلة سمعان في بيت-عنيا في الاحتفال بعيد الفصح, بعد أن اشترى سمعان خروف الفصح من أجل الجماعة. كان ذبح تلك الأغنام بتلك الأعداد الهائلة الذي أثـَّر للغاية على يسوع في زيارته للهيكل. كانت الخطة تناول الفصح مع أقارب مريم, لكن يسوع أقنع والديه بقبول الدعوة للذهاب إلى بيت-عنيا.
125:2.2 (1379.3) في تلك الليلة اجتمعوا لطقوس الفصح, آكلين اللحم المشوي بخبز خالٍ من الخميرة وأعشاب مُرة. يسوع, باعتباره ابناً جديداً للعهد, سُئل أن يعيد سرد أصل عيد الفصح, وهذا ما فعله جيداً, لكنه أربك والديه إلى حد ما من خلال إدراج العديد من الملاحظات التي تعكس بشكل معتدل الانطباعات التي جُعلت على عقله الشاب إنما المفكر بالأشياء التي كان قد شاهدها وسمعها مؤخراً. كانت هذه بداية احتفالات الأيام السبعة لعيد الفصح.
125:2.3 (1379.4) حتى في هذا التاريخ المبكر, على الرغم من انه لم يقل شيئاً عن مثل هذه الأمور لوالديه, كان يسوع قد بدأ يقلب في عقله استحقاق الاحتفال بعيد الفصح بدون الخروف المذبوح. لقد شعر بالاطمئنان في عقله الخاص بأن الأب في السماء لم يكن مسروراً بمشهد قرابين الأضاحي هذه, ومع مرور السنين, أصبح مصمماً بشكل متزايد على تأسيس احتفال فصح غير دموي يوماً ما.
125:2.4 (1379.5) نام يسوع قليلاً جداً تلك الليلة. كانت راحته منزعجة للغاية بأحلام الذبح والعذاب المقززة. كان عقله في حالة ذهول وتمزق قلبه بسبب التناقضات والسخافات اللاهوتية للنظام الاحتفالي اليهودي بأكمله. والداه بالمثل ناما قليلاً. كانا مشوشان للغاية من أحداث النهار الذي انتهى لتوه. كانا مستائين تماماً في قلبيهما بموقف الفتى الذي كان غريباً وحاسماً بالنسبة لهما. أصبحت مريم مضطربة بشكل عصبي أثناء الجزء الأول من الليل, لكن يوسف بقي هادئاً, مع أنه كان في حيرة بنفس القدر. كان كلاهما يخشى التحدث بصراحة مع الفتى عن هذه المشاكل, مع أن يسوع كان سيتحدث بسرور مع والديه لو تجرءا على تشجيعه.
125:2.5 (1379.6) كانت خدمات اليوم التالي عند الهيكل أكثر قبولاً ليسوع وفعلت الكثير لتخفيف الذكريات غير السارة من اليوم السابق. الصباح التالي أخذ لِعازر الشاب يسوع في يده, وبدءا استكشافًا منهجياً لأورشليم وجوارها. قبل انتهاء النهار, أكتشف يسوع الأماكن المتنوعة حول الهيكل حيث كانت جلسات التدريس والأسئلة قيد العمل؛ وعلى حدة من زيارات قليلة إلى قدس الأقداس للنظر بدهشة إلى ما كان بالحقيقة وراء الستار الفاصل, أمضى معظم وقته حول الهيكل عند هذه المؤتمرات التعليمية.
125:2.6 (1380.1) طوال أسبوع الفصح, احتفظ يسوع بمكانه بين أبناء الوصية الجُدد, وهذا عنى بأنه يجب أن يجلس خارج السياج الذي فصَل بين جميع الأشخاص الذين لم يكونوا مواطنين كاملين لإسرائيل. مجعولاً على هذا النحو واعياً لشبابه, امتنع عن طرح العديد من الأسئلة التي كانت تجيش ذهاباً وإياباً في عقله؛ على الأقل امتنع إلى أن يكون احتفال الفصح قد انتهى وتم رفع هذه القيود المفروضة على الشباب المكرس حديثًاً.
125:2.7 (1380.2) في يوم الأربعاء من أسبوع الفصح, سُمح ليسوع بالذهاب إلى البيت مع لِعازر ليمضي الليلة في بيت-عنيا. هذا المساء, لِعازر, ومارثا, ومريم سمعوا يسوع يناقش أموراً دنيوية وأبدية, بشرية وإلَهية, ومنذ تلك الليلة فصاعداً أحبه كل الثلاثة كما لو كان أخاهم الخاص.
125:2.8 (1380.3) بحلول نهاية الأسبوع, رأى يسوع لِعازر أقل, لأنه لم يكن مسموحاً له بالدخول حتى إلى الدائرة الخارجية لمناقشات الهيكل, ولو إنه حضر بعض المحادثات العامة التي أُلقيت في الأروقة الخارجية. كان لِعازر في نفس عمر يسوع, لكن في أورشليم قلما سُمح للشباب بالدخول إلى تكريس أبناء الشريعة إلى أن يكونوا قد أكملوا تماماً الثالثة عشرة من العمر.
125:2.9 (1380.4) المرة بعد المرة, أثناء أسبوع الفصح, سيجد والداه يسوع جالساً بمفرده مع رأسه الشاب في يديه, يفكر بعمق. لم يكونا قد رأياه يتصرف بهذا الشكل أبداً, وغير عارفين إلى أي مدى كان مرتبكاً في الفكر ومضطرباً في الروح بسبب التجربة التي يمر بها, فقد كانا في حيرة مريرة؛ لم يعرفا ماذا يفعلان. رَحَبا بمرور أيام أسبوع الفصح وتاقا إلى عودة ابنهما الغريب التصرف بأمان إلى الناصرة.
125:2.10 (1380.5) يوماً بيوم كان يسوع يفكر في مشاكله. بحلول نهاية الأسبوع كان قد أجرى العديد من التعديلات؛ لكن عندما حان الوقت للعودة إلى الناصرة, كان عقله الشاب لا يزال محتدماً بالمحيرات ومُكتنف بحشد من الأسئلة غير المجابة والمشاكل التي لم يتم حلها.
125:2.11 (1380.6) قبل أن يغادر يوسف ومريم أورشليم, قاما برفقة المعلم الناصري ليسوع باتخاذ ترتيبات مُحددة من أجل عودة يسوع عندما يبلغ سن الخامسة عشر ليبدأ مساره الطويل في الدراسة في إحدى أفضل الأكاديميات المعروفة للحاخامات. رافق يسوع والديه ومعلمه في زياراتهم إلى المدرسة, لكنهم شعروا جميعاً بالغم لملاحظة مدى عدم اكتراثه بكل ما قالوه وفعلوه. كانت مريم متألمة بعمق إزاء ردود فعله تجاه زيارة أورشليم, وكان يوسف في حيرة شديدة من تعبيرات الفتى الغريبة وتصرفه غير الاعتيادي.
125:2.12 (1380.7) بعد كل شيء, كان أسبوع الفصح حدثاً عظيماً في حياة يسوع. لقد استمتع بفرصة مقابلة العشرات من الصبيان من عمره تقريباً, زملاء مُرشحين للتكريس, واستغل هذه الاتصالات كوسيلة لتعلم كيف عاش الناس في بلاد ما بين النهرين, وتركستان, وفارس وكذلك في أقصى ولايات روما الغربية. كان قد سبق أن اطلع بشكل لا بأس به على الطريقة التي نشأ فيها شباب مصر ومناطق أخرى قريبة من فلسطين. كان هناك الآلاف من الشباب في أورشليم في هذا الوقت, والتقى فتى الناصرة شخصياً, واجرى مقابلات أكثر أو أقل على نطاق واسع, مع أكثر من مائة وخمسين. كان مهتماً بشكل خاص بأولئك الذين قَدِموا من البلدان الشرقية والغربية النائية. نتيجة لهذه الاتصالات بدأ الفتى ليضمر رغبة في السفر حول العالَم بهدف تعلم كيف تكد فئات متنوعة من زملائه الناس من أجل معيشتهم.
125:3.1 (1381.1) كان قد تم ترتيب أنه يجب أن تتجمع فرقة الناصرة في منطقة الهيكل عند منتصف بعد الظهر في اليوم الأول من الأسبوع الذي يلي انتهاء عيد الفصح. قاموا بهذا وانطلقوا على رحلة العودة إلى الناصرة. كان يسوع قد ذهب إلى الهيكل للاستماع إلى المناقشات بينما انتظر والده تجمع زملائهم المسافرين. في الوقت الحالي استعدت الجماعة للرحيل, الرجال ذاهبون في جماعة والنساء في جماعة أخرى كما كانت العادة في السفر إلى ومن أعياد أورشليم. كان يسوع قد صعد إلى أورشليم بصحبة أمه والنساء. كونه الآن شاباً من التكريس, كان من المفترض ان يعود إلى الناصرة بصحبة والده والرجال. لكن عندما تحركت جماعة الناصرة نحو بيت-عنيا, كان يسوع مندمجاً تماماً في المناقشة عن الملائكة, في الهيكل, حيث كان كلياً غير منتبه لوقت رحيل والديه. ولم يدرك بأنه تُرك حتى انفضاض وقت الظهيرة لمؤتمرات الهيكل.
125:3.2 (1381.2) لم يفتقد المسافرون الناصريون يسوع لأن مريم ظنت بأنه سافر مع الرجال, بينما اعتقد يوسف بأنه سافر مع النساء حيث إنه صعد إلى أورشليم مع النساء, يقود حمار مريم. لم يكتشفوا غيابه حتى وصلوا أريحا وتهيأوا للتمهل من أجل الليل. بعد استفسارهما من آخر الفوج الواصل من أريحا وعالِمين بأن لا أحد منهم قد رأى ابنهما, أمضيا ليلة بلا نوم, قالبين في عقليهما ماذا يمكن أن يكون قد حدث له, ذاكرين الكثير من ردود أفعاله غير العادية على أحداث أسبوع الفصح, وكل يلوم الآخر باعتدال لعدم النظر بأنه كان مع الجماعة قبل أن يغادروا أورشليم.
125:4.1 (1381.3) في هذه الأثناء, بقي يسوع في الهيكل طوال فترة بعد الظهر, مستمعاً إلى المناقشات ومستمتعاً بالجو الأكثر هدوءًا وروعة, كانت الحشود الكبيرة لأسبوع الفصح قد اختفت تقريباً. عند ختام مناقشات بعد الظهر, التي لم يشارك يسوع في أي منها, سار بنفسه إلى بيت-عنيا, واصلاً تماماً عندما كانت عائلة سمعان تتهيأ لتناول وجبتهم المسائية. كان الصغار الثلاثة مسرورين للغاية لاستقبال يسوع, وبقي في منزل سمعان من أجل الليل. زار القليل جداً خلال المساء, ممضياً الكثير من الوقت بمفرده في الحديقة متأملاً.
125:4.2 (1381.4) نهض يسوع باكراً في النهار التالي وسار في طريقه إلى الهيكل. توقف على حافة الزيتونات وبكى على المنظر الذي شاهدته عيناه ــ شعب مفتقر روحياً مُقـَّيَد بالتقاليد, ويعيش تحت سيطرة الجحافل الرومانية. وجده الضحى المبكر في الهيكل وعقله قد عزم على المشاركة في المناقشات. في هذه الأثناء, كان يوسف ومريم أيضاً قد نهضا مع الفجر الباكر بنية تتبع خطواتهما إلى أورشليم. أولاً, أسرعا إلى بيت أقاربهما, حيث مكثوا كعائلة خلال أسبوع الفصح, لكن الاستفسار أثار حقيقة أن أحداً لم ير يسوع. بعد البحث طوال النهار دون العثور على أي أثر له, رجعا إلى أقاربهما من أجل الليل.
125:4.3 (1382.1) عند المؤتمر الثاني, تجرأ يسوع على طرح الأسئلة, وشارك بطريقة مذهلة للغاية في مناقشات الهيكل لكن دائماً بأسلوب متناسب مع شبابه. في بعض الأحيان كانت أسئلته المُرَّكَزة مُحرجة نوعاً ما لمعلمي الشريعة اليهودية المتعلمين, لكنه أظهر روحاً من الإخلاص المنصف, مزدوجة مع جوع واضح للمعرفة, بحيث ان غالبية معلمي الهيكل كانوا ميالين إلى معاملته بكل اعتبار. لكن عندما افترض أن يُشكك في عدالة الحكم بالموت على أممي سكران كان قد تجول خارج رواق الأمميين ودخل عن غير قصد الأفنية المحرمة والمعروفة بالمقدسة للهيكل, نفذ صبر احد المعلمين الأكثر تعصباً بانتقادات الفتى الضمنية, ومحدقاً به سأله كم عمره. أجاب يسوع, "ثلاثة عشرة سنة ينقصها أقل من أربعة أشهر". "عندئذٍ" تابع المعلم المزداد غضباً الآن, "لماذا أنت هنا, بما أنك لم تبلغ عمر ابن الشريعة"؟ وعندما أوضح يسوع بأنه تلقى تكريساً أثناء الفصح, وبأنه كان تلميذا متخرجاً من مدارس الناصرة, أجاب المعلمون باتفاق واحد بسخرية, "كان علينا أن نعرف؛ إنه من الناصرة". لكن القائد أصَّر بأنه لا ينبغي إلقاء اللوم على يسوع إذا كان حكام الكنيس عند الناصرة قد خَرَّجوه, فنياً, عندما كان في الثانية عشرة من عمره بدلاً من ثلاثة عشرة, وبالرغم من أن العديد من منتقديه نهضوا وغادروا, فقد تم الحكم بأنه بإمكان الفتى الاستمرار بدون إزعاج كتلميذ في مناقشات الهيكل.
125:4.4 (1382.2) عندما انتهى هذا, يومه الثاني في الهيكل, ذهب مرة أخرى إلى بيت-عنيا لأجل الليل. ومرة أخرى خرج إلى الحديقة للتأمل والصلاة. كان من الواضح بأن عقله كان معنياً بتأمل المشاكل الثقيلة.
125:5.1 (1382.3) شهد اليوم الثالث ليسوع مع الكتبة والمعلمين في الهيكل تجمع العديد من المتفرجين الذين, بعد أن سمعوا عن هذا الشاب من الجليل, جاءوا للإستمتاع بتجربة النظر إلى فتى يحير رجال الشريعة الحكماء. كذلك نزل سمعان من بيت-عنيا ليرى ما كان الصبي ينوي فعله. طوال هذا اليوم واصل يوسف ومريم بحثهما القلق عن يسوع, حتى ذاهبين عدة مرات نحو الهيكل لكن لم يفكرا أبداً في تحري جماعات المناقشات العديدة, مع أنهما مرة وصلا تقريباً ضمن مسافة السمع لصوته الرائع.
125:5.2 (1382.4) قبل نهاية النهار, كان كامل انتباه فئة المناقشة الرئيسية للهيكل قد أصبح مُركَزاً على الأسئلة التي طرحها يسوع. من بين أسئلته العديدة كان:
125:5.3 (1382.5) 1. ما الذي يوجد حقاً في قدس الأقداس, وراء الحجاب؟
125:5.4 (1382.6) 2. لماذا يجب فصل الأمهات في إسرائيل من الذكور العابدين في الهيكل؟
125:5.5 (1382.7) 3. إذا كان الله أباً يحب أولاده, لماذا كل هذا الذبح للحيوانات لكسب الحظوة الإلَهية ــ هل أُسيء فهم تعاليم موسى؟
125:5.6 (1382.8) 4. بما أن الهيكل مكرس لعبادة الأب في السماء, هل من اللائق السماح بحضور الذين يتعاطون في التجارة والمقايضة العامة؟
125:5.7 (1382.9) 5. هل المسيح المتوَقَع سيصبح أميراً دنيوياً يجلس على عرش داود, أو هل سيعمل كنور الحياة في تأسيس مملكة روحية؟
125:5.8 (1383.1) وطوال النهار, تعجب أولئك الذين استمعوا من تلك الأسئلة, ولم يكن أي منهم أكثر ذهولاً من سمعان. لأكثر من أربع ساعات مطر هذا الشاب الناصري هؤلاء المعلمين اليهود بأسئلة مثيرة للتفكير وفاحصة للقلب. أدلى ببعض التعليقات على تصريحات شيوخه. نقل تعاليمه من خلال الأسئلة التي كان يطرحها. من خلال الصياغة الماهرة والدقيقة لسؤال كان في آن واحد وفي ذات الوقت يتحدى تعاليمهم ويقترح تعاليمه. في أسلوب طرحه للسؤال كان هناك مزيج جذاب من الفطنة وروح الدعابة الذي جعله عزيزاً حتى إلى مَن كانوا مستائين من صِباه إلى حد ما. كان دائماَ عادلاً ومراعياً بشكل بارز في طرح هذه الأسئلة النافذة. عند عصر هذا اليوم الحافل بالأحداث في الهيكل عَرَض نفس التردد في الانتهاز غير العادل من الخصم الذي ميز إسعافه العام اللاحق بأكمله. كشاب, وفيما بعد كرجل, بدا حراً تماماً من كل رغبة أنانية لكسب جدل لمجرد اختبار انتصار منطقي على زملائه, كائن مهتماً بسمو بشيء واحد فقط: إعلان الحقيقة الأبدية وبالتالي لكي يُنجز الإعلان الأكمل لله الأبدي.
125:5.9 (1383.2) عند انتهاء النهار, عاد سمعان ويسوع متتبعين طريقهما رجوعاً إلى بيت-عنيا. لمعظم المسافة كان كل من الرجل والصبي صامتين. مرة أخرى توقف يسوع على حافة الزيتونات, لكن بينما شاهد المدينة وهيكلها, لم يبكي؛ فقط أحنى رأسه في تفانٍ صامت.
125:5.10 (1383.3) بعد وجبة المساء عند بيت-عنيا, رفض مرة أخرى الإنضمام إلى دائرة المرح لكنه ذهب بدلاً من ذلك إلى الحديقة, حيث مكث طويلاً نحو الليل, ساعياً عبثاً للتفكير في خطة محددة ما للاقتراب إلى مشكلة عمل حياته وليقرر أفضل السبل التي يمكن بها أن يكشف إلى أهل بلده العميان روحياً مفهوماً أكثر جَمالاً عن الأب السماوي ويحررهم بالتالي من قيدهم المريع لتقاليد الشريعة, والشعيرة, والتقاليد الاحتفالية المتعفنة. لكن النور الصافي لم يأت إلى الفتى الباحث عن الحقيقة.
125:6.1 (1383.4) كان يسوع غافلاً بغرابة عن والديه الأرضيين؛ حتى عند وجبة الإفطار, عندما قدمت أُم لِعازر ملاحظة بأن والديه ينبغي أن يكونا في البيت بحلول ذلك الوقت, لم يبدو أن يسوع استوعب أنهما سيكونان قلقين إلى حد ما بشأن تخلفه وراءهما.
125:6.2 (1383.5) مرة أخرى ذهب إلى الهيكل, لكنه لم يتوقف للتأمل عند حافة الزيتونات. في سياق مناقشات الصباح كان الكثير من الوقت مكرساً للشريعة والأنبياء, وكان المعلمون مذهولين بأن يسوع كان ملماً جداً بالكتابات المقدسة, في العبرية بالإضافة إلى اليونانية. لكنهم لم يندهشوا كثيراً بمعرفته للحق كما بحداثة سِنه.
125:6.3 (1383.6) عند مؤتمر بعد الظهر, كانوا بالكاد قد بدأوا بالإجابة على سؤاله المتعلق بالغرض من الصلاة عندما دعا القائد الفتى ليتقدم إلى الأمام, وجالساً إلى جانبه, دعاه ليصرح بوجهة نظره فيما يتعلق بالصلاة والعبادة.
125:6.4 (1383.7) في المساء السابق, كان والدا يسوع قد سمعا عن هذا الشاب الغريب الذي احتج بغاية المهارة لدى مفسري الشريعة, لكن لم يخطر لهما بأن هذا الفتى كان ابنهما. كانا تقريباً قد قررا الرحيل إلى بيت زكريا عندما فَكّرا بأن يسوع قد يكون ذهب إلى هناك لرؤية أليصابات ويوحنا. معتقدين أن زكريا ربما يكون عند الهيكل, توقفا هناك في طريقهما إلى مدينة يهوذا. بينما يتمشيان خلال أروقة الهيكل, تصَّور مفاجأتهما ودهشتهما عندما تعرَّفا على صوت الفتى المفقود وشاهداه جالساً بين معلمي الهيكل.
125:6.5 (1384.1) كان يوسف عاجزاً عن الكلام, لكن مريم أعطت منفذاً لخوفها وقلقها المكبوتين منذ فترة طويلة عندما, مندفعة نحو الفتى, الذي وقف الآن لتحية والديه المذهولين قالت: "يا ولدي, لماذا عاملتنا على هذا النحو؟ لقد مر الآن أكثر من ثلاثة أيام حينما أنا ووالدك نبحث عنك مغتمين. ماذا حل بك لتهجرنا"؟ لقد كانت لحظة متوترة. دارت كل العيون نحو يسوع لسماع ما سيقوله. نظر إليه والده بتوبيخ لكنه لم يقل شيئاً.
125:6.6 (1384.2) ينبغي التذكر بأن يسوع كان من المفترض أن يكون رجلاً صغيراً. كان قد أنهى التعليم النظامي لولد, وتم الاعتراف به باعتباره ابن الشريعة, وتلقى تكريسه كمواطن لإسرائيل. ومع ذلك وبخته أُمه بشيئ أكثر من معتدل أمام جميع الناس المتجمعين, في خضم أكثر الجهود جدية ورِفعة في حياته الشابة, بهذا جالبة إلى نهاية غير مجيدة إحدى أعظم الفـُرص على الإطلاق لتـُمنح إليه للعمل كمعلم للحقيقة, وواعظ للبر, وكاشف للطبع المُحب لأبيه في السماء.
125:6.7 (1384.3) لكن الفتى كان بقدر المناسبة. عندما تأخذ في الاعتبار المنصف كل العوامل التي تجمَّعت لتشكيل هذا الموقف, ستكون أفضل استعداداً لسبر غور حكمة جواب الصبي إلى تأنيب أُمه غير المقصود. بعد لحظة من التفكير, أجاب يسوع أُمه, قائلاً: "لماذا بحثتم عني لوقت طويل؟ ألم تتوقعا إيجادي في منزل أبي حيث إن الوقت قد حان لأكون عند شغل أبي"؟
125:6.8 (1384.4) كان الكل مذهولاً بأسلوب تكلم الفتى. كلهم انسحبوا بصمت وتركوه واقف وحده مع والديه. في الحاضر, خفف الرجل الصغير من إحراج كل الثلاثة عندما قال بهدوء: "تعالا يا والداي, لا أحد منا فعل أي شيء سوى ما اعتقد بأنه الأفضل. أبانا في السماء قد رتب هذه الأمور ؛ لنرحل إلى البيت".
125:6.9 (1384.5) في صمت بدأوا بالخروج, واصلين أريحا من أجل الليل. توقفوا مرة واحدة فقط, وذلك على حافة الزيتونات, عندما رفع الفتى عصاه عالياً, ومرتعشاً من قمة رأسه إلى أسفل قدميه تحت تدفق المشاعر الشديدة, قال: "يا أورشليم, يا أورشليم, ويا شعبها, كم عبيد أنتم ــ خاضعون للنير الروماني, وضحايا تقاليدكم الخاصة ــ لكن سأعود لأنظف ذاك الهيكل وأخلص شعبي من هذه العبودية!"
125:6.10 (1384.6) في رحلة الأيام الثلاثة إلى الناصرة لم يقل يسوع شيئًا يذكر؛ ولم يقل والداه الكثير في حضوره. كانا حقاً في حيرة لفهم سلوك ابنهما البكر, لكنهما اكتنزا في قلبيهما أقواله, رغم أنهما لم يتمكنا من استيعاب معانيها تمامًا.
125:6.11 (1384.7) عند الوصول إلى البيت, أدلى يسوع ببيان موجز لوالديه, مؤكداً لهم وده وملمحاً أنهما لا يحتاجان للخوف بأنه مرة أخرى سيعطي أي مناسبة لقلقهما المؤلم بسبب سلوكه. اختتم هذا البيان الهام بالقول: "بينما يجب أن أفعل مشيئة أبي في السماء, سأكون كذلك خاضعاً إلى أبي على الأرض. سأنتظر ساعتي".
125:6.12 (1384.8) مع أن يسوع, سيرفض في عقله, مرات عديدة الموافقة على جهود والديه حسنة النية ولكن المضللة لإملاء مسار تفكيره أو تأسيس خطة عمله على الأرض, لا يزال, بكل طريقة تتفق مع تفانيه لفعل مشيئة أبيه الفردوسي, بأكثر الظرافة كان يتماشى كلياً مع رغبات أبيه الأرضي وإلى أعراف عائلته في الجسد. حتى عندما لم يمكنه الموافقة, سيفعل كل ما في وسعه لأجل التوافق. كان فناناً في مسألة ضبط تفانيه في الواجب مع التزاماته للولاء العائلي والخدمة الاجتماعية.
125:6.13 (1385.1) كان يوسف في حيرة من أمره, لكن مريم, بينما تأملت في هذه التجارب, اكتسبت الراحة, ناظرة في النتيجة إلى تفوهه على الزيتونات كنبوءة للمهمة المسيحية لابنها كمخَلص إسرائيل. انبرت للعمل بقوة متجددة لصياغة أفكاره نحو قنوات وطنية وقومية وجنَّدت جهود شقيقها, خال يسوع المُفضـَّل؛ وبكل طريقة أخرى وجهت أُم يسوع نفسها لمهمة إعداد ابنها البكر لتولي قيادة أولئك الذين سيستعيدون عرش داود ويُلقوا عنهم إلى الأبد نير الأمميين للعبودية السياسية.
كِتاب يورانشيا
ورقة 126
126:0.1 (1386.1) من بين كل تجارب الحياة-الأرضية ليسوع, كانت السنتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة الأكثر أهمية. هذان العامان, بعد ان بدأ يشعر بالوعي الذاتي للألوهية والمصير, وقبل ان يحقق قدراً كبيراً من التواصل مع ضابطه الساكن, كانا الأكثر تجريباً من كل حياته المليئة بالأحداث على يورانشيا. إنها فترة هاتين السنتين التي يجب أن تُدعى الإختبار العظيم, الفتنة الحقيقية. لم يختبر أي شاب بشري, في عبوره خلال ارتباكاته المبكرة ومشاكل التكيف في مرحلة المراهقة, أبداً اختباراً أكثر حسماً مما مر به يسوع أثناء انتقاله من الطفولة إلى الرجولة.
126:0.2 (1386.2) هذه الفترة الهامة في تطور شباب يسوع بدأت مع اختتام زيارة أورشليم وعودته إلى الناصرة. في البداية كانت مريم سعيدة بفكرة أنها استعادت ولدها مرة أخرى, وبأن يسوع قد عاد إلى البيت ليكون الصبي القائم بواجباته ــ ليس لأنه لم يكن أبداً أي شيء آخر ــ وبأنه من الآن فصاعداً سيكون أكثر استجابة لخططها من أجل حياته المستقبلية, لكنها لم تكن لتستغرق طويلاً في إشراق هذا الغرور الأمومي وكبرياء العائلة غير المُعترف به؛ سرعان ما شعرت بخيبة أمل كاملة. كان الصبي أكثر فأكثر بصحبة أبيه؛ أقل وأقل كان يأتي إليها بمشاكله, بينما فشل والديه بشكل متزايد في فهم تناوبه المتكرر بين شؤون هذا العالَم والتأمل في علاقته إلى شغل أبيه. بصراحة, لم يفهماه, لكنهما حقاً أحباه.
126:0.3 (1386.3) مع تقدمه في السن, تعمقت شفقة يسوع ومحبته للشعب اليهودي, لكن بمرور السنين, تطور هناك في عقله استياء صريح متزايد من وجود الكهنة المعيَنين سياسياً في هيكل الأب. كان لدى يسوع احترام كبير للفريسيين المخلِصين والكتبة الأمناء, لكنه كان يحتقر بشدة الفريسيين المنافقين واللاهوتيين غير الأمناء؛ نظر بازدراء إلى كل أولئك القادة الدينيين الذين لم يكونوا مخلِصين. عندما أمعن النظر في قيادة إسرائيل, كان يميل أحياناً إلى النظر بعين الرضا على إمكانية أن يصبح مسيح التوقعات اليهودية, لكنه لم يستسلم أبداً لمثل هذا الإغراء.
126:0.4 (1386.4) قصة مآثره بين رجال الهيكل الحكماء في أورشليم, كانت مبهجة لكل الناصرة, خاصة إلى معلميه السابقين في مدرسة الكنيس. لبعض الوقت كان مَدْحه على شفاه الجميع. تذكرت كل القرية حكمة صِباه وسلوكه الجدير بالثناء وتنبأوا بأنه مُقدَّر له أن يصبح قائداً عظيماً في إسرائيل؛ أخيراً معلم عظيم حقاً كان مقدراً أن يأتي من الناصرة في الجليل. وكلهم تطلعوا إلى الوقت عندما سيكون في الخامسة عشر من عمره بحيث يمكن السماح له أن يقرأ بانتظام الكتابات المقدسة في الكنيس في يوم السبت.
126:1.1 (1387.1) هذه هي السنة التقويمية لميلاده الرابع عشر. كان قد أصبح صانع أنيار ماهر وعمل جيدًا مع كل من حياكة الشبك والجلود. كما كان يتطور بسرعة إلى نجار وصانع خزانات خبير. قام هذا الصيف برحلات متكررة إلى قمة التل إلى الشمال الغربي من الناصرة من أجل الصلاة والتأمل. كان يصبح تدريجياً أكثر وعياً-بالذات لطبيعة إغداقه على الأرض.
126:1.2 (1387.2) كان هذا التل, قبل أكثر من مائة سنة بقليل, "المكان العالي للبعل", والآن كان موقع قبر شمعون, رجل مقدس مشهور في إسرائيل. من قمة تل شمعون هذا, تطلع يسوع على الناصرة والبلاد المحيطة. كان يحدق في مَجِّدو ويتذكر قصة فوز الجيش المصري بأول انتصار عظيم في آسيا؛ وكيف, في وقت لاحق, هزم جيش آخر من هذا القبيل يوصيا ملك يهوذا. ليس بعيداً كان بإمكانه النظر إلى تعنك, حيث هزمت ديبوره وباراك سيسرا. في البعيد كان بإمكانه النظر إلى تلال دوثان. حيث قد عُلـِّم بأن إخوة يوسف باعوه إلى الاستعباد المصري. بعد ذاك قد يحول نظره إلى عيبال وجِريزيم ويتلو لنفسه تقاليد إبراهيم, ويعقوب, وأبيمالك. وهكذا استعاد وقلب في عقله الأحداث التاريخية والتقليدية لشعب والده يوسف.
126:1.3 (1387.3) داوم على دوراته المتقدمة في القراءة تحت إشراف معلمي الكنيس, وكذلك واصل التعليم المنزلي لإخوته وأخواته عندما كبروا إلى أعمار مناسبة.
126:1.4 (1387.4) في وقت مبكر من هذا العام, رتب يوسف لتخصيص دخل من ملكيته في الناصرة وكفرناحوم لدفع تكاليف دورة يسوع الطويلة للدراسة في أورشليم, حيث كان مُخَطَطاً بأنه يجب أن يذهب إلى أورشليم في آب من العام التالي عندما يبلغ الخامسة عشرة من عمره.
126:1.5 (1387.5) مع بداية هذا العام خالج كل من يوسف ومريم شكوك متكررة حول مصير ابنهما البكر. كان بالفعل ولداً لامعاً ومحبوباً, لكنه كان من الصعب جداً فهمه, صعب جداً سبر غوره, ومرة أخرى, لا شيء فوق الاعتيادي أو عجائبي حدث على الإطلاق. وقفت أُمه الفخورة عشرات من الأوقات في ترقب لاهث, متوقعة أن ترى ابنها يتعاطى في بعض الأداءات الخارقة أو العجائبية, لكن أمالها دائماً تلاشت في خيبة أمل قاسية. وكل هذا كان محبطًا, بل ومثبطًا للهمم. لقد اعتقد الناس المخلصون لتلك الأيام حقاً بأن الأنبياء ورجال الوعد دائماً أظهروا دعوتهم وأسسوا سُلطتهم الإلَهية من خلال صنع المعجزات وعمل العجائب. لكن يسوع لم يفعل أي من هذه الأشياء؛ لذلك كان ارتباك والديه يتزايد بشكل مطرد بينما فـَكّرا في مستقبله.
126:1.6 (1387.6) انعكس تحسن الوضع الاقتصادي لعائلة الناصرة في نواحٍ كثيرة على المنزل وخاصةً في العدد المتزايد للألواح البيضاء الملساء التي كانت تستخدم كألواح للكتابة, حيث تتم الكتابة بالفحم. سُمح ليسوع أيضاً باستئناف دروسه الموسيقية؛ كان مولعاً جداً بالعزف على القيثارة.
126:1.7 (1387.7) طوال هذه السنة يمكن القول حقاً بأن يسوع "نما في حظوة مع الإنسان والله". بدت آفاق الأسرة جيدة؛ كان المستقبل مشرقًا.
126:2.1 (1388.1) كل شيء سار على ما يرام حتى ذلك اليوم المشؤوم من الثلاثاء في 25 أيلول, عندما أحضر راكض من صفوريه إلى هذا البيت الناصري الأخبار المفجعة بأن يوسف قد أصيب بجروح خطيرة بسبب سقوطه عن برج أثناء العمل في مكان إقامة الحاكم. كان الرسول من صفوريه قد توقف عند الدكان في طريقه إلى بيت يوسف, مخبراً يسوع عن حادث والده, وذهبا معًا إلى المنزل لإبلاغ مريم بالأخبار المحزنة. أراد يسوع ان يذهب فوراً إلى أبيه, لكن مريم لم تسمع إلى شيء سوى أنها يجب أن تسرع إلى جانب زوجها. وجَهت بأن يعقوب, يبلغ من العمر آنذاك عشر سنوات, يجب أن يرافقها إلى صفوريه بينما بقى يسوع في البيت مع الأولاد الأصغر حتى تعود, حيث لم تكن تعلم مدى خطورة إصابة يوسف. لكن يوسف توفى متأثراً بجراحه قبل وصول مريم. أحضروه إلى الناصرة, وفي اليوم التالي وضِع للراحة مع آبائه.
126:2.2 (1388.2) في الوت الذي كانت فيه الآفاق جيدة وبدا المستقبل مشرقًا, ضربت يد قاسية على ما يبدو رأس هذا المنزل الناصري. تعطلت شؤون هذا البيت, وهُدمت كل خطة من أجل يسوع وتعليمه المستقبلي. استيقظ هذا الفتى النجار, الذي أصبح عمره منذ قليل أربعة عشر سنة, ليدرك بأنه لم يكن عليه فقط أن يتمم تكليف أبيه السماوي ليكشف الطبيعة الإلَهية على الأرض وفي الجسد, لكن بأن طبيعته البشرية الشابة يجب كذلك أن تأخذ على عاتقها مسؤولية رعاية أُمه الأرملة وإخوته وأخواته السبعة ــ وأخرى لم تولد بعد. هذا الفتى من الناصرة أصبح الآن المعيل الوحيد والمؤاسي لهذه العائلة التي ثُكلت فجأة. هكذا سُمح بتلك الأحداث من المرتبة الطبيعية للحوادث على يورانشيا التي ستجبر هذا الرجل الشاب للقدر أن يتقلد باكراً جداً هذه المسؤوليات الثقيلة لكن التعليمية والتأديبية الكبيرة المصاحبة على صيرورته رئيسًا لأسرة بشرية, ليصبح أباً لإخوته وأخواته, وإعالة وحماية والدته, وللعمل كوصي على منزل والده, المنزل الوحيد الذي كان ليعرفه أثناء وجوده في هذا العالَم.
126:2.3 (1388.3) قـَبل يسوع ببهجة المسؤوليات التي ألقيت عليه فجأة, وحملها بأمانة حتى النهاية. على الأقل مشكلة كبيرة واحدة وصعوبة متوَقعة في حياته قد حُلـّت بشكل مأساوي ــ الآن لن يُتوقع منه الذهاب إلى أورشليم للدراسة تحت الحاخامات. لقد ظل صحيحاً دائماً بأن يسوع "لم يجلس عند أقدام أي إنسان". كان دائماً راغباً لأن يتعلم حتى من أكثر الأولاد الصغار تواضعاً, لكنه لم يستمد مطلقًا سُلطة لتعليم الحقيقة من مصادر بشرية.
126:2.4 (1388.4) لم يزل لم يعرف شيئاً عن زيارة جبرائيل لوالدته قبل ولادته؛ لقد عَلِم بهذا فقط من يوحنا في يوم معموديته, عند بداية إسعافه العام.
126:2.5 (1388.5) مع مرور السنين, قام هذا النجار الصغير من الناصرة بشكل متزايد بقياس كل مؤسسة في المجتمع وكل استعمال للدِين من خلال الاختبار غير المتغير: ما الذي تفعله للنفـْس البشرية؟ هل تجلب الله إلى الإنسان؟ هل تجلب الإنسان إلى الله؟ في حين أن هذا الشاب لم يُهمل كلياً الجوانب الاجتماعية والترفيهية للحياة, فقد كرس وقته وطاقاته أكثر وأكثر لهدفين فقط: رعاية عائلته والاستعداد لفعل مشيئة أبيه السماوية على الأرض.
126:2.6 (1389.1) أصبح من المعتاد هذا العام أن يتوافد الجيران خلال أمسيات الشتاء لسماع يسوع يعزف على القيثارة, وللاستماع إلى قصصه (لأن الفتى كان سيداً في رواية القصص), ولسماعه يقرأ من الكتب المقدسة اليونانية.
126:2.7 (1389.2) استمرت الشؤون الاقتصادية للعائلة في السير بسلاسة إلى حد ما حيث كان هناك مبلغ لا بأس به من المال في متناول اليد عند وقت وفاة يوسف. أظهر يسوع في وقت مبكر امتلاك حكم فطن للأعمال وحكمة مالية. كان سخياً لكن مقتصد, كان يدخر لكن كريم. لقد أثبت أنه إداري حكيم وفعّال لممتلكات والده.
126:2.8 (1389.3) لكن بالرغم من كل ما استطاع يسوع والجيران في الناصرة فعله لجلب البهجة إلى المنزل, فقد كانت مريم, وحتى الأطفال, مغتمين بالحزن. ذهب يوسف. كان يوسف زوجاً وأباً غير اعتيادي, وكلهم افتقدوه. وبدا الأمر مأساويًا أكثر في التفكير بأنه توفي دون أن يمكنهم التكلم إليه أو سماع بركة وداعه.
126:3.1 (1389.4) بحلول منتصف هذا العام الخامس عشر ــ ونحن نحتسب الوقت وفقاً لتقويم القرن العشرين, ليس بالسنة اليهودية ــ كان يسوع قد أخذ قبضة وطيدة على إدارة عائلته. قبل انقضاء هذه السنة, اختفت مدخراتهم تقريباً, وكانوا وجهاً لوجه مع ضرورة التخلص من أحد منازلهم في الناصرة الذي كان يوسف وجاره يعقوب يملكانه مشاركة.
126:3.2 (1389.5) مساء الأربعاء, 17 نيسان, عام 9 م., وُلدت راعوث, طفلة العائلة, وبأفضل ما في وسعه سعى يسوع لأخذ مكان أبيه في مؤاساة وإسعاف أُمه أثناء هذه المحنة المُجربة والحزينة بشكل خاص. لما يقرب من عشر سنوات (إلى أن بدأ إسعافه العام) لم يكن بإمكان أي أب أن يحب ويرعى ابنته بود وإخلاص أكثر مما اهتم يسوع براعوث الصغيرة. وكان بالتساوي أباً صالحاً لجميع أعضاء عائلته الآخرين.
126:3.3 (1389.6) خلال هذه السنة صاغ يسوع أولاً الصلاة التي عَلـَّمها لاحقاً لرُسله, والتي أصبحت تُعرف لدى الكثيرين باسم "صلاة الرب". بطريقة ما كانت تطوراً لمعبد العائلة؛ كان لديهم العديد من أشكال الحمد وصلوات رسمية متعددة. بعد وفاة والده, حاول يسوع تعليم الأولاد الأكبر أن يعبروا عن أنفسهم في الصلاة بشكل فردي ــ كثيراً كما استمتع هو جداً بالقيام به ــ لكنهم لم يتمكنوا من فهم فكرته وسيرتَدون دائمًا إلى أشكال صلاتهم المحفوظة. لقد كان في إطار هذا الجهد لتحفيز إخوته وأخواته الأكبر سنًا على أداء صلوات فردية بأن يسوع سيحاول أن يقودهم على طول عبارات إيحائية, وحالياً, بدون قصد من جهته, نشأ بأنهم كانوا جميعًا يستخدمون شكلاً من الصلاة التي بُنيت إلى حد كبير من هذه الخطوط الإيحائية التي علمهم إياها يسوع.
126:3.4 (1389.7) في النهاية تخلى يسوع عن فكرة جعل كل فرد من أفراد الأسرة يصلي صلاة عفوية, وفي إحدى الأمسيات في تشرين الأول جلس القرفصاء بجانب السراج على المنضدة الحجرية المنخفضة, وعلى قطعة من خشب الأرز الأملس حوالي ثمانية عشرة بوصة مربعة, كتب بقطعة فحم, الصلاة التي أصبحت منذ ذلك الوقت التماس العائلة الإعتيادي.
126:3.5 (1389.8) كان يسوع هذه السنة مضطرباً للغاية بالتفكير المشوش. لقد أزالت مسؤولية العائلة بشكل فعال تماماً كل تفكير بالتنفيذ الفوري لأي خطة للتجاوب إلى الزيارة في أورشليم التي وجهته "ليكون عند شغل أبيه". فكَّر يسوع بحق بأن رعاية عائلة أبيه الأرضي يجب أن تكون لها الأسبقية على كل الواجبات؛ وبأن إعالة أسرته يجب أن تصبح التزامه الأول.
126:3.6 (1390.1) في مجرى هذا العام وجد يسوع فقرة في ما يسمى بكتاب إنوش أثـَّرت عليه في التبني اللاحق لمصطلح "ابن الإنسان" كدلالة من أجل مهمة إغداقه على يورانشيا. كان قد أخذ بعين الإعتبار تماماً فكرة المسيح اليهودي وكان مقتنعاً بثبات بأنه لن يكون ذلك المسيح. تاق لمساعدة شعب والده, لكنه لم يتوقع قط أن يقود الجيوش اليهودية في الإطاحة بالهيمنة الأجنبية على فلسطين. كان يعلم أنه لن يجلس أبداً على عرش داود في أورشليم. كما أنه لم يعتقد بأن مهمته كانت تلك لمخَلِص روحي أو معَّلم أخلاقي للشعب اليهودي فقط. لذلك, ولا بأي حال من الأحوال, كان يمكن لمهمة حياته أن تكون تحقيق الأشواق الشديدة والتنبؤات المسيحية المفترضة للكتب المقدسة العبرية؛ على الأقل, ليس كما فهم اليهود نبوءات الأنبياء هذه. بالمثل كان على يقين من أنه لن يظهر أبداً كإبن الإنسان الذي صوره دانيال النبي.
126:3.7 (1390.2) لكن عندما يحين الوقت كي ينطلق كمعلم عالمي, ماذا سيدعو نفسه؟ ما الادعاء الذي يجب أن يدلي به بخصوص مهمته؟ بأي اسم سيسميه الناس الذين سيؤمنون بتعاليمه؟
126:3.8 (1390.3) بينما يقلب كل هذه المشاكل في عقله, وجد في مكتبة الكنيس في الناصرة, بين كُتب سفر الرؤيا التي كان يدرسها, هذه المخطوطة المسماة "كتاب إنوش"؛ وعلى الرغم من أنه كان متأكداً بأنه لم يكن مكتوباً بواسطة إنوش القديم, إلا أنه أثبت أنه مثير جداً للاهتمام بالنسبة له, وقد قرأه وأعاد قراءته مرات عديدة. كان هناك فقرة واحدة أثرَّت عليه بشكل خاص, الفقرة التي ظهر فيها هذا المصطلح "ابن الإنسان". تابع كاتب ما يسمى بكتاب إنوش ليخبر عن ابن الإنسان هذا, واصفاً العمل الذي سيقوم به على الأرض وموضحاً بأن ابن الإنسان هذا, قبل النزول على هذه الأرض ليخلص البشرية, مشى خلال أفنية المجد السماوي مع أبيه, أب الجميع؛ وبأنه أدار ظهره لكل هذه العظمة والمجد لينزل على الأرض ليعلن الخلاص للبشر المحتاجين. بينما قرأ يسوع هذه الفقرات (مدركًا جيداً أن الكثير من التصوف الشرقي الذي اختلط مع هذه التعاليم كان خاطئًا), استجاب في قلبه وادرك في عقله بأنه من بين جميع التنبؤات عن المسيح في الكتب المقدسة العبرية ومن كل النظريات حول المخَلِص اليهودي, لم يكن أي منها قريبًا من الحقيقة مثل هذه القصة المطوية جانباً في هذا الكتاب المنسوب جزئياً فقط إلى إنوش؛ وعند ذاك وهناك قرر تبني لقبه الافتتاحي "ابن الإنسان". وهذا ما فعله عندما بدأ لاحقاً عمله العام. كان لدى يسوع مقدرة لا تخطيء للتعرف على الحقيقة, والحقيقة هو لم يتوانى أبدًا في اعتناقها, بغض النظر من أي مصدر بدا انها تصدر.
126:3.9 (1390.4) بحلول هذا الوقت كان قد حسم تماماً الكثير من الأشياء حول عمله الوشيك من أجل العالَم, لكنه لم يقل شيئاً عن هذه الأمور لأُمه, التي كانت لا تزال متمسكة بعزم بفكرة كونه المسيح اليهودي.
126:3.10 (1390.5) الارتباك العظيم لأيام يسوع الأصغر استيقظ الآن. حيث أنه قد استقر شيئاً ما حول طبيعة مهمته على الأرض, "ليكون عند شغل أبيه" ــ لكي يُظهر طبيعة أبيه المحبة للبشرية جمعاء ــ بدأ يتمعن من جديد في العديد من العبارات في الكتب المقدسة التي تشير إلى مجيء مخلص قومي, معلم أو ملك يهودي. إلى أي حدث أشارت هذه التنبؤات؟ ألَم يكن هو يهوديا ؟ أو هل كان؟ هل كان أو لم يكن من بيت داود؟ أمه جزمت بأنه كان؛ كان والده قد حكم بأنه لم يكن. قرر بأنه لم يكن. لكن هل شوَّش الأنبياء طبيعة ومهمة المسيح؟
126:3.11 (1391.1) بعد كل شيء, هل يمكن بأن أُمه كانت على حق. في معظم الأمور, عندما ظهرت خلافات في وجهات النظر في الماضي, كانت على حق. إذا كان معلماً جديداً وليس المسيح, عند ذاك كيف سيتعرف على المسيح اليهودي إذا كان هكذا امرؤٍ سيظهر في أورشليم أثناء وقت مهمته الأرضية؛ وكذلك, ماذا يجب أن تكون علاقته بهذا المسيح اليهودي؟ وماذا يجب أن تكون علاقته, بعد الشروع في مهمة حياته, إلى عائلته؟ إلى الرابطة والدين اليهودي؟ إلى الإمبراطورية الرومانية؟ إلى الأمميين وأديانهم. كل من هذه المشاكل الجسيمة قلبها هذا الجليلي الصغير في عقله وتمعن بها بجدية بينما واصل العمل عند طاولة النجارة, عامل بكد معيشة لنفسه, ولأجل أُمه, وثمانية أفواه جائعة أخرى.
126:3.12 (1391.2) قبل نهاية هذا العام رأت مريم مدخرات العائلة تتناقص. لقد حوَّلت بيع اليمامات إلى يعقوب. في الحاضر اشتروا بقرة ثانية, وبمساعدة مريام بدأوا ببيع الحليب إلى جيرانهم في الناصرة.
126:3.13 (1391.3) فتراته العميقة في التأمل, ورحلاته المتكررة إلى قمة التل من أجل الصلاة, والعديد من الأفكار الغريبة التي طرحها يسوع من وقت لآخر, جملةً أثارت قلق أُمه, فـَكَّرت أحياناً بأن الفتى معتوه, وبعدئذٍ كانت تُهدئ مخاوفها, متذكرة بأنه كان, بعد كل شيء, طفل الوعد وبطريقة ما مختلف عن الشبان الآخرين.
126:3.14 (1391.4) لكن يسوع كان يتعلم ألا يتكلم عن كل أفكاره, وألا يقدم كل خواطره إلى العالَم, ولا حتى لأُمه. من هذه السنة وصاعداً, تضاءلت بشكل مطرد إفصاحات يسوع حول ما كان يدور في ذهنه؛ أي أنه, تحدث أقل عن تلك الأشياء التي لا يستطيع الشخص العادي فهمها, والتي من شأنها أن تؤدي إلى اعتباره غريباً أو مختلفاً عن القوم العاديين. إلى كل المظاهر أصبح مألوفًا وتقليدياً, ولو إنه تاق لأحد ما يمكنه فهم مشاكله. كان يتوق إلى صديق مستحقً وجدير بالثقة, لكن مشاكله كانت معقدة للغاية بحيث يتعذر على رفاقه البشريين فهمها. أجبره تفرد الوضع غير الاعتيادي على حمل أعبائه بمفرده.
126:4.1 (1391.5) مع قدوم عيد ميلاده الخامس عشر, أصبح بإمكان يسوع رسمياً شغل منبر الوعظ في الكنيس يوم السبت. مرات كثيرة من قبل, في غياب المتكلمين, كان يُطلب من يسوع أن يقرأ الكتابات المقدسة, لكن الآن حان الوقت عندما, وفقاً للشريعة,أصبح بإمكانه إدارة الخدمة. لذلك على السبت الأول بعد عيد ميلاده الخامس عشر رتب الشازان من أجل يسوع ليدير الخدمة الصباحية في الكنيس. وعندما تجمع كل المؤمنين في الناصرة, قام الرجل الشاب, بعد أن جعل اختياره من الكتابات المقدسة, وبدأ يقرأ:
126:4.2 (1391.6) "روح الرب الإلَه عَلي, لأن الرب مسحني؛ أرسلني لأبشر الودعاء, ولأعصب منكسري القلوب, ولأعلن حرية إلى الأسرى, ولأحرر المساجين روحياً؛ لأعلن عام نعمة الله ويوم حساب إلَهنا؛ لمؤاساة كل الحزانى, لأعطيهم جَمالاً بدل الرماد, وزيت الفرح في مكان النواح, وترنيمة التسبيح بدلاً من روح الحزن, بحيث قد يُدعَوا أشجار البر, غرس الرب, الذي به قد يتمجد.
126:4.3 (1392.1) "اطلبوا الخير وليس الشر بحيث قد تعيشون. وهكذا الرب, إلَه الجنود, سيكون معكم. أبغضوا الشر واحبوا الخير؛ أقيموا الدينونة في الباب. لعل الرب الإلَه سيكون رؤوفاً إلى بقية يوسف.
126:4.4 (1392.2) "اغتسلوا, وطهروا أنفسكم؛ اطرحوا شر أفعالكم من أمام عيناي؛ توقفوا عن فعل الشر وتعَّلموا فعل الخير؛ اطلبوا العدل, أنصفوا المظلوم. دافعوا عن اليتيم والتمسوا من أجل الأرملة.
126:4.5 (1392.3) "بماذا سآتي أمام الرب, لاسجد أمام رب كل الأرض؛ هل سآتي أمامه بأضاحي محروقة, بعجول حولية؟ هل سيسر الرب بآلاف الكباش, أو بعشرة آلاف من الأغنام, أو بأنهار الزيت؟ هل سأعطي مولودي البكر من أجل خطاياي, أو ثمار جسدي من أجل خطيئة نفسي؟ لا! لأن الرب قد أرانا, أيها الناس, ما هو صالح. وماذا يطلب الرب منكم سوى المعاملة بالعدل, ومحبة الرحمة, والمشي بتواضع مع إلهكم؟
126:4.6 (1392.4) "إلى مَن, عندئذٍ, ستشَّبهون الله الجالس على دائرة الأرض؟ ارفعوا أعينكم وشاهدوا من خلق كل هذه العوالم, الذي يحضر جمهورها بالعدد ويدعوهم جميعًا بأسمائهم. إنه يفعل كل هذه الأشياء بعظمة مقدرته, ولأنه قوي في القدرة, فلا أحد يفشل. هو يعطي قدرة إلى الضعيف, وإلى المتعبين يزيد قوة. لا تخافوا, لأني معكم؛ لا تيأسوا, لأني إلَهكم. سأقويكم وسأعُينكم؛ نعم, سأرفعكم بيدي اليمنى لبِري, لأني أنا الرب إلَهكم. وسوف أمسك بيمينك, قائلاُ لك, لا تخف, لأني سأُعِينك.
126:4.7 (1392.5) "وأنتم شاهدي, يقول الرب, وخادمي الذي اخترته بحيث الكل قد يعرفوني ويصدقوني ويفهمون بأني الأبدي. أنا, حتى أنا, الرب, وغيري لا يوجد مُخَلِص.
126:4.8 (1392.6) وعندما قرأ هكذا, جلس, وذهب الناس إلى بيوتهم متمعنين في الكلمات التي قرأها لهم برأفة, لم يسبق أن رآه قوم بلدته أبداً مهيباً بشكل رائع هكذا؛ ولم يسمعوا صوته قط بهذه الجدية والإخلاص كما لاحظوا أنه شهم, وحاسم, وذا سُلطة للغاية.
126:4.9 (1392.7) بعد ظهر هذا السبت تسلق يسوع تل الناصرة مع يعقوب, وعندما رجعا إلى البيت, كتبا الوصايا العشرة باللغة اليونانية على لوحين أملسين بالفحم. بعد ذلك قامت مارثا بتلوين وتزيين هذين اللوحين, ولمدة طويلة تعلقا على الحائط فوق طاولة عمل يعقوب الصغيرة.
126:5.1 (1392.8) عاد يسوع وعائلته تدريجياً إلى الحياة البسيطة لسنواتهم السابقة. أصبحت ملابسهم وحتى طعامهم أكثر بساطة. كان لديهم وفرة من الحليب, والزبدة, والجِبن. تمتعوا في الموسم بمنتجات حديقتهم, لكن مرور كل شهر كان يفرض ممارسة المزيد من الاقتصاد. كان فطورهم بسيطاً للغاية؛ وَفَروا أفضل طعامهم لوجبة المساء. على أن, بين هؤلاء اليهود لم يعني نقص الثروة الدونية الاجتماعية.
126:5.2 (1392.9) كان هذا الفتي على وشك اكتناف فهم كيف عاش الناس في يومه. ومدى فهمه للحياة في البيت, والحقل, والدكان ظاهر من خلال تعاليمه اللاحقة, التي بامتياز تكشف اتصاله الحميم بجميع مراحل التجربة الإنسانية.
126:5.3 (1392.10) استمر شازان الناصرة في التمسك بالاعتقاد بأن يسوع كان ليصبح معلماً عظيماً, ربما خليفة جماليل الشهير في أورشليم.
126:5.4 (1393.1) على ما يبدو كانت كل خطط يسوع من أجل مهنة مُحبطة. لم يبدو المستقبل مشرقاً كما تطورت الأمور الآن. لكنه لم يتعثر؛ لم يكن مثبط العزم. استمر بالعيش, يوماً بيوم, قائماً بشكل جيد بواجبه الحالي ومؤدياً بإخلاص الواجبات المباشرة لمحطته في الحياة. حياة يسوع هي العزاء الأزلي لكل المثاليين الخائبي الأمل.
126:5.5 (1393.2) كان راتب عمل يوم اعتيادي لنجار يتناقص ببطء. بحلول نهاية هذا العام كان بإمكان يسوع أن يكسب, من خلال العمل باكراً ومتأخراً, فقط المعادل لحوالي خمسة وعشرين سنتاً في اليوم. بحلول العام التالي وجدوا صعوبة في دفع الضرائب المدنية, دون ذِكر تقديرات ضرائب الكنيس وضريبة الهيكل من نصف شاقل. خلال هذا العام حاول جابي الضرائب أن يستخرج إيرادات إضافية من يسوع, حتى مهدداً بأخذ قيثارته.
126:5.6 (1393.3) خائفاً أن يتم اكتشاف ومصادرة نسخة الكتاب المقدس في اللغة اليونانية من قِبل جابي الضرائب, قدمها يسوع, في عيد ميلاده الخامس عشر, إلى مكتبة كنيس الناصرة كقربان نضجه إلى الرب.
126:5.7 (1393.4) حدثت الصدمة الكبيرة في عامه الخامس عشر عندما ذهب يسوع إلى صفوريه ليستلم قرار هيرودس بما يخص الاستئناف المقدم إليه في الخلاف حول مبلغ المال المستحق ليوسف عند وقت وفاته العرضية. كان يسوع ومريم يأملان في الحصول على مبلغ معتبر من المال عندما عرض عليهما أمين الصندوق في صفوريه مبلغاً تافهاً. رفع إخوة يوسف الأمر إلى هيرودس نفسه, والآن وقف يسوع في القصر وسمع قرار هيرودس بأن أباه لم يستحق له شيء عند وقت وفاته. ولمثل هذا القرار الجائر, لم يثق يسوع بهيرودس أنتيباس مرة أخرى. ليس عجباً بأنه ألمح ذات مرة إلى هيرودس بأنه "ذلك الثعلب".
126:5.8 (1393.5) العمل المحصور عند طاولة النجارة أثناء هذا العام والأعوام اللاحقة حرم يسوع من فرصة الاختلاط مع مسافري القوافل. كان دكان التموين العائلي سابقاً قد أُخذ من قِبل عَمه, ويسوع عمل بالكامل في دكان البيت, حيث كان قريباً لمساعدة مريم مع العائلة. حوالي هذا الوقت بدأ بإرسال يعقوب إلى ساحة الجِمال لجمع معلومات عن أحداث العالَم, وبهذا سعى للبقاء على اتصال بأخبار اليوم.
126:5.9 (1393.6) بينما نما إلى مرحلة الرجولة, مر بكل تلك النزاعات والاضطرابات التي مر بها الشباب العادي من عصور سابقة ولاحقة. والتجربة الصارمة لإعالة عائلته كانت حماية أكيدة ضد أن يكون لديه الكثير من الوقت من أجل التأمل البطال أو الانغماس في الميول الصوفية.
126:5.10 (1393.7) هذا كان العام الذي فيه استأجر يسوع قطعة كبيرة من الأرض إلى الشمال من منزلهم مباشرة, قُسّمت القطعة لتكون قطعة حديقة للعائلة. كان لكل من الأولاد الكبار حديقة فردية, ودخلوا نحو منافسة شديدة في جهودهم الزراعية. أمضى أخوهم الأكبر بعض الوقت معهم في الحديقة كل يوم خلال موسم زراعة الخضار. بينما عمل يسوع مع إخوته وأخواته الصغار في الحديقة, خامرته الرغبة مرات كثيرة بأن يكونوا جميعاً في مزرعة في الريف حيث يمكنهم التمتع بالتحرر وحرية حياة خالية من العوائق. لكنهم لم يجدوا أنفسهم يكبرون في الريف؛ ويسوع, كائن بكل ما في الكلمة من معنى شابًا عمليًا تمامًا وكذلك مثاليًا, فقد حمل بذكاء وهمة على مشكلته تمامًا كما وجدها, وفعل كل ما في وسعه لتكييف نفسه وعائلته مع واقع وضعهم ولتوفيق حالتهم مع أعلى قدر ممكن من الرضا لأشواقهم الفردية والجماعية.
126:5.11 (1393.8) في وقت من الأوقات كان يسوع يأمل على نحو ضعيف في أن يتمكن من جمع وسائل كافية, شرط أن يتمكنوا من جمع مبلغ معتبر من المال المستحق لأبيه للعمل على قصر هيرودس, ليتعهد بشراء مزرعة صغيرة. لقد فكر بالفعل بجدية في هذه الخطة لنقل عائلته خارجاً إلى الريف. لكن عندما رفض هيرودس أن يدفع لهم أي من الأموال المستحقة ليوسف, تخلوا عن طموحهم في امتلاك بيت في الريف. كما كان الحال, فقد ابتكروا وسيلة للاستمتاع بالكثير من تجربة حياة المزرعة حيث كان لديهم الآن ثلاث بقرات, وأربعة خراف, ورف من الدجاج, وحمار, وكلب, بالإضافة إلى الحمائم. حتى الأطفال الصغار كان لديهم واجباتهم النظامية للقيام بها في مخطط الإدارة الحسن التنظيم الذي ميز الحياة المنزلية لهذه العائلة الناصرية.
126:5.12 (1394.1) مع نهاية هذا العام الخامس عشر أتم يسوع اجتياز تلك الفترة الخطيرة والصعبة في الوجود البشري, تلك الفترة الانتقالية بين سنوات الصبا الأكثر قناعة ووعي الاقتراب من الرجولة مع مسؤولياتها المتزايدة وفرصها لاكتساب خبرة متقدمة في تطوير طبع نبيل. انتهت فترة نمو العقل والجسد, وبدأت الآن المهمة الحقيقية لهذا الشاب من الناصرة.
كِتاب يورانشيا
ورقة 127
127:0.1 (1395.1) عندما دخل يسوع في سنوات مراهقته, وجد نفسه الرأس والمعيل الوحيد لعائلة كبيرة. في غضون بضع سنوات بعد وفاة والده نفذت كل ممتلكاتهم. مع مرور الوقت, أصبح واعياً بشكل متزايد لوجوده-السابق؛ في نفس الوقت بدأ يدرك بشكل كامل أنه كان موجوداً على الأرض وفي الجسد للهدف الصريح وهو الكشف عن أبيه الفردوسي لأبناء البشر.
127:0.2 (1395.2) لا شاب مراهق عاش أو أبداً سيعيش في هذا العالَم أو أي عالَم آخر واجه أو سيواجه أبداً مشاكل أكثر ثقلاً للحل أو صعوبات أكثر تعقيداً للتفكيك. لن يُستدعى أي شاب من يورانشيا أبداً للمرور خلال صراعات أكثر اختباراً أو مواقف أكثر صعوبة مما تحمله يسوع نفسه خلال تلك السنوات الشاقة من الخامسة عشرة إلى العشرين من عمره.
127:0.3 (1395.3) بعد أن ذاق على هذا النحو التجربة الفعلية لعيش سنوات المراهقة هذه على عالَم مُكتنَف بالشر ومضطرب بالخطيئة, أصبح ابن الإنسان يمتلك المعرفة الكاملة عن تجربة حياة الشباب في كل نواحي نِبادون, وهكذا أصبح إلى الأبد الملجأ المتفهم للمراهقين المكروبين والحائرين في كل العصور وعلى كل العوالم في كل أنحاء الكون المحلي.
127:0.4 (1395.4) ببطء لكن بالتأكيد وبالتجربة الفعلية, يكتسب هذا الابن الإلَهي الحق في أن يصبح سُلطان كونه, الحاكم السامي والذي لا جدال فيه لكل الذكاءات المخلوقة على كل عوالم الكون المحلي, الملجأ المتفهم للكائنات من كل الأعمار ومن كل درجات الخبرة والمنحة الشخصية.
127:1.1 (1395.5) مر الابن المتجسد خلال حداثة العهد واختبر طفولة خالية من الأحداث. بعدئذٍ خرج من تلك المرحلة الانتقالية المختبرة والمجربة بين الطفولة والرجولية الشابة ــ أصبح يسوع المراهق.
127:1.2 (1395.6) هذه السنة أحرز نموه البدني الكامل. كان شاباً وسيماً وكامل الرجولة. أصبح رزيناً وجَدّياً بشكل متزايد, لكنه كان لطيفاً ومتعاطفاً. كانت عيناه شفوقة إنما باحثة؛ كانت ابتسامته دائماً مشجعة ومطمئنة. صوته موسيقياً إنما جازماً؛ تحيته ودية لكن غير متأثرة. دائماً, حتى في أكثر أماكن التواصل إعتيادية, بدا أن هناك دليل على لمسة ذات طبيعة مزدوجة, البشرية والإلَهية. دائماً أظهر هذا المزيج من الصديق المتعاطف والمعلم الجازم. وبدأت سمات الشخصية هذه في الظهور في وقت مبكر. حتى في سنوات المراهقة هذه.
127:1.3 (1395.7) اكتسب هذا الشاب القوي جسدياً والمتعافي أيضاً النمو الكامل لذكائه البشري, ليس الخبرة الكاملة للتفكير البشري لكن ملء القدرة من أجل مثل هذا التطور الفكري. كان يتمتع بجسد سليم ومتناسب جيداً, وعقل متحمس وتحليلي, وطبع حنون ومتعاطف, ومزاج متقلب نوعًا ما لكن مكافح, كل ما كان يصبح منظماً نحو شخصية قوية, وأخاذة, وجذابة.
127:1.4 (1396.1) بمرور الوقت, أصبح أكثر صعوبة على أمه وإخوته وأخواته أن يفهموه؛ تعثَّروا على أقواله وأساءوا تفسير أفعاله, كانوا جميعاً غير مؤهلين لفهم حياة شقيقهم الأكبر لأن والدتهم عودتهم أن يفهموا بأنه كان مُقدَّراً له أن يصبح مخَلِص الشعب اليهودي. بعد أن تلقوا من مريم تلك التلميحات كأسرار عائلية, تصَّور ارتباكهم عندما كان يسوع يقوم بإنكار صريح لكل هذه الأفكار والمقاصد.
127:1.5 (1396.2) بدأ سمعان المدرسة هذا العام, وكانوا مضطرين لبيع منزل آخر. تولى يعقوب الآن مسرولية تعليم أخواته الثلاث, اثنتان منهما تبلغان من العمر ما يكفي لبدء الدراسة الجادة. حالما كبرت راعوث, أخذت مريام ومارثا بيدها, في العادة, تلقت فتيات العائلات اليهودية القليل من التعليم, لكن يسوع أصَّر (ووافقت والدته) أن على الفتيات أن يذهبن إلى المدرسة مثل الأولاد, وحيث أن مدرسة الكنيس لن تستقبلهن, لم يكن هناك شيء لفعله سوى إدارة مدرسة منزلية خاصة من أجلهن.
127:1.6 (1396.3) طوال هذا العام كان يسوع محصوراً بشكل وثيق إلى طاولة العمل. لحسن الحظ كان لديه وفرة من العمل؛ كان عمله من الدرجة الفائقة بحيث لم يكن عاطلاً عن العمل أبداً بغض النظر عن مدى تباطؤ العمل في تلك المنطقة. في بعض الأحيان كان لديه الكثير جداً بحيث سيساعده يعقوب.
127:1.7 (1396.4) بحلول نهاية هذا العام كان قد قرر للتو بأنه, بعد تربية عائلته ورؤيتهم متزوجين, سيدخل علناً على عمله كمعلم للحق وككاشف لأبيه السماوي إلى العالَم. كان يعلم بأنه لم يكن ليصبح المسيح اليهودي المتوقَع, وخلص إلى أنه من غير المجدي مناقشة هذه الأمور مع والدته؛ قرر السماح لها باستضافة أي فكرة قد تختار حيث إن كل ما قاله في الماضي قد جعل تأثيراً قليلاً عليها أو لم يكن له أي تأثير على الإطلاق وتذكر بأن آباه لم يكن قادراً على قول أي شيء من شأنه أن يغير رأيها. من هذه السنة وصاعداً تحدث أقل وأقل مع والدته, أو مع أي شخص آخر, حول هذه المشاكل. كانت مهمته غريبة بحيث لا مخلوق حي على الأرض أمكنه أن يقدم له المشورة بشأن تنفيذها.
127:1.8 (1396.5) كان أباً حقيقياً للعائلة مع أنه في صِباه؛ أمضى كل ساعة ممكنة مع الصغار, وهم حقاً أحبوه. شعرت أُمه بالأسى لرؤيته يعمل بمشقة؛ وحزنت لأنه كان يكدح يوماً بيوم عند طاولة النجارة لكسب لقمة العيش من أجل العائلة بدلاً من أن يكون, كما كانوا قد خططوا باعتزاز, في أورشليم يدرس مع الحاخامات. بينما كان هناك الكثير عن ابنها مما لم تتمكن مريم من فهمه, إلا أنها أحبته, وبتمام التقدير قدَّرَت الأسلوب الطوعي الذي حمل به على أكتافه مسؤولية البيت.
127:2.1 (1396.6) حوالي هذا الوقت كان هناك هياج كبير, خاصة في أورشليم ويهودا, لصالح التمرد على دفع الضرائب إلى روما. كان هناك حزب قومي قوي يأتي نحو الوجود, يُدعى في الوقت الحالي المتعصبين. المتعصبون, على العكس من الفريسيين, لم يكونوا مستعدين لانتظار مجيء المسيح. اقترحوا إعادة الأمور إلى أصلها من خلال الثورة السياسية.
127:2.2 (1396.7) وصلت جماعة من المنظمين من أورشليم إلى الجليل وكانت تحرز تقدماً جيداً إلى أن وصلت الناصرة. عندما جاءوا لرؤية يسوع, استمع إليهم باهتمام, وطرح العديد من الأسئلة لكنه رفض الانضمام للحزب. امتنع بشكل كامل عن الإفصاح عن أسبابه لعدم التجند, وكان لرفضه تأثير في حفظ العديد من زملائه الشباب في الناصرة خارجاً.
127:2.3 (1397.1) بذلت مريم قصارى جهدها لتستحثه على الالتحاق, لكنها لم تتمكن من زحزحته. ذهبت بعيداً لتوعز بأن رفضه تبني القضية القومية بناء على مشيئتها كان عصياناً, نقضاً للعهد الذي قطعه عند رجوعهم من أورشليم بأنه سيكون خاضعاً لوالديه؛ لكنه رداً على هذا التلميح فقط وضع يداً حنونة على كتفها, ومتطلعاً في وجهها, قال: "يا أُماه, كيف أمكنك؟" وسحبت مريم إفادتها.
127:2.4 (1397.2) أحد أخوال يسوع (سمعان شقيق مريم) كان قد التحق بالفعل بهذه الجماعة وأصبح لاحقاً ضابطاً في فرقة الجليل. ولعدة سنوات كان هناك بعض النفور بين يسوع وخاله.
127:2.5 (1397.3) لكن المتاعب بدأت تختمر في الناصرة. لقد أدى موقف يسوع من تلك الأمور إلى خلق انقسام بين الشباب اليهود في المدينة. انضم حوالي النصف إلى التنظيم القومي, والنصف الآخر بدأ بتشكيل مجموعة معارضة من الوطنيين الأكثر اعتدالاً, متوقعين أن يتولى يسوع القيادة. كانوا مندهشين عندما رفض الشرف الذي عُرض عليه, ملتمساً كعذر, مسؤولياته العائلية الثقيلة, التي كلهم سمحوا له بها. لكن الوضع كان لا يزال أكثر تعقيدًا عندما, في الوقت الحالي, يهودي ميسور, اسمه إسحاق, وهو مقرض أموال للأمميين, تقدم موافقاً على إعالة أسرة يسوع إذا كان سيضع عدّته ويتولى قيادة هؤلاء الوطنيين الناصريين.
127:2.6 (1397.4) يسوع, عند ذاك بالكاد سبعة عشر سنة من العمر, كان مُواجهاً بأحد أكثر المواقف دقة وصعوبة في حياته المبكرة. القضايا الوطنية, خاصة عندما تكون معقدة بسبب جمع الضرائب من قبل الظالمين الأجانب, دائماً من الصعب على القادة الروحيين أن ينتسبوا إليها, وكان الأمر كذلك بشكل مضاعف في هذه الحالة حيث أن الدِين اليهودي كان متورطاً في كل هذا التحريض ضد روما.
127:2.7 (1397.5) جُعل موقف يسوع أكثر صعوبة لأن أُمه وخاله, وحتى شقيقه الأصغر يعقوب, حثوه جميعًا على الانضمام إلى القضية القومية. كل الأفضل من يهود الناصرة كانوا قد التحقوا, وأولئك الشباب الذين لم يلتحقوا بالحركة سيلتحقون جميعًا في اللحظة التي يغير فيها يسوع رأيه. كان لديه مستشار واحد حكيم فقط في كل الناصرة, معلمه القديم, الشازان, الذي قدم له المشورة بشأن رده إلى لجنة مواطني الناصرة عندما جاءوا لطلب إجابته على الالتماس العام الذي تم تقديمه. في كل حياة يسوع الشابة كانت هذه المرة الأولى التي لجأ فيها بوعي إلى استراتيجية عامة. حتى ذلك الحين, دائماً اعتمد على البيان الصريح للحقيقة لتوضيح الموقف, لكن الآن لا يستطيع إعلان الحقيقة الكاملة. لا يمكنه التبليغ بأنه أكثر من إنسان؛ لم يتمكن من إفشاء فكرته عن المهمة التي تنتظر بلوغه رجولة أنضج. بالرغم من هذه القيود كان إخلاصه الدِيني وولاءه القومي في تحد مباشر. كانت عائلته في حالة اضطراب, وأصدقائه الشباب في حالة انقسام, وكامل الفريق اليهودي في البلدة في ضوضاء. وأن يفكر في أنه كان ليُلام في كل هذا! وكم كان بريئاً من كل نية في إثارة المشاكل من أي نوع, أقل بكثير اضطراب من هذا القبيل.
127:2.8 (1397.6) كان لا بد من فعل شيء, يجب عليه أن يصرح بموقفه, وهذا ما فعل بشجاعة ودبلوماسية بما يرضي الكثيرين, لكن ليس الكل. لقد التزم بنصوص حجته الأساسية, مُصّراً بأن واجبه الأول كان تجاه أسرته, بأن أُمه الأرملة وإخوته وأخواته الثمانية بحاجة إلى شيء أكثر من مجرد ما يشتريه المال ــ الضروريات المادية للحياة ــ بأنهم كانوا مستحقين لرعاية الأب وتوجيهه, وبأنه لا يمكنه بضمير صافٍ إخلاء نفسه من الالتزام الذي ألحقه به حادث قاسٍ. أثنى على والدته وأخيه الأكبر لكونهما راغبين في الإفراج عنه لكنه كرر بأن الولاء للأب المتوفى منعه من ترك الأسرة بغض النظر عن مقدار المال الذي كان سيقدم من أجل إعالتهم المادية, حيث أدلى بتصريحه الذي لا يمكن نسيانه مطلقاً أن "المال لا يمكنه أن يحب". في سياق هذا الخطاب أشار يسوع لعدة إشارات مستترة تتعلق "بمهمة حياته" لكنه أوضح أنه, بغض النظر عما إذا كانت تتعارض مع الفكرة العسكرية أم لا, أنها, إلى جانب كل شيء آخر في حياته, قد تم التخلي عنها حتى يتمكن من الوفاء بإخلاص بالتزاماته تجاه أسرته. كان كل فرد في الناصرة يعلم جيداً بأنه كان أباً صالحاً لعائلته, وهذا كان أمراً قريباً للغاية إلى قلب كل يهودي نبيل بجيث وجدت حجة يسوع تجاوباً مستحسناً في قلوب العديد من سامعيه؛ وبعض من أولئك الذين لم يفكروا على هذا النحو كانوا منزوعي السلاح بخطاب ألقاه يعقوب, الذي, رغم انه لم يكن في البرنامج, تم إلقاؤه في هذا الوقت. في ذلك اليوم بالذات قام الشازان بتدريب يعقوب في خطابه, لكن ذلك كان سِرهما.
127:2.9 (1398.1) أعلن يعقوب بأنه متأكد من أن يسوع سيساعد في تحرير شعبه إذا هو (يعقوب) كان فقط كبيراً بما فيه الكفاية لتحمل مسؤولية الأسرة, وأنه, إذا وافقوا فقط على السماح ليسوع بالبقاء "معنا, ليكون لنا أباً ومعلماً, عندئذ لن يكون لديكم قائد واحد فقط من عائلة يوسف, لكن في الوقت الحاضر سيكون لديكم خمسة قوميين مخلصين, لأنه أليس هناك خمسة صبيان منا ليكبروا ويأتوا من إرشادات أخينا -أبينا ليخدموا أُمتنا؟" وبهذا أحضر الفتى إلى نهاية سعيدة لحد ما وضعاً حرجاً ومهدداً للغاية.
127:2.10 (1398.2) الأزمة في الوقت الحاضر قد انتهت, لكن هذه الحادثة لم تُنسى أبداً في الناصرة. استمر التحريض؛ لم يكن يسوع مرة أخرى في حظوة شاملة؛ لم يتم التغلب على انقسام المشاعر بالكامل. وهذا, مضاف إليه أحداث أخرى ولاحقة, كان أحد الأسباب الرئيسية لانتقاله إلى كفرناحوم في السنوات اللاحقة. من الآن وصاعداً حافظت الناصرة على انقسام في المشاعر تجاه ابن الإنسان.
127:2.11 (1398.3) تخرَّج يعقوب في المدرسة هذه السنة وبدأ العمل بدوام كامل في المنزل في دكان النجارة. كان قد أصبح عاملاً ماهرًا بالأدوات والآن أخذ على عاتقه صناعة الأنيار والمحاريث بينما بدأ يسوع في إنجاز المزيد من التصليحات المنزلية وأعمال الخزانة الخبيرة.
127:2.12 (1398.4) هذا العام أحرز يسوع تقدماً كبيراً في تنظيم عقله. لقد جمع تدريجياً طبيعتيه الإلَهية والإنسانية معاً, وأنجز كل هذا التنظيم للفكر بقوة قراراته الخاصة وبمساعدة مرقابه الساكن فقط. مجرد هكذا مرقاب مثلما كل البشر العاديين على جميع عوالم ما بعد ابن الإغداق لديهم داخل عقولهم. حتى الآن, لا شيء, فائق عن الطبيعي حدث في مسيرة هذا الشاب باستثناء زيارة الرسول المبعوث من قِبل أخيه الأكبر عمانوئيل, الذي ظهر له ذات مرة أثناء الليل في أورشليم.
127:3.1 (1398.5) في سياق هذا العام تم التخلي عن جميع ممتلكات الأسرة, باستثناء المنزل والحديقة. تم بيع آخر قطعة من عقار كفرناحوم (باستثناء حصة في آخر), مرهونة سابقاً. تم استخدام العائدات من أجل الضرائب, وشراء بعض الأدوات الجديدة ليعقوب, ولتسديد دفعة على دكان العائلة القديم للتموين والتصليح قرب ساحة القوافل, والذي اقترح يسوع الآن إعادة شرائه حيث أن يعقوب كان كبيراً بما فيه الكفاية للعمل في دكان البيت ومساعدة مريم حول المنزل.
127:3.2 (1399.1) مع تخفيف الضغط المالي بذلك للوقت الكائن, قرر يسوع أن يأخذ يعقوب إلى عيد الفصح. صعدا إلى أورشليم أبكر بيوم, ليكونا وحدهما, ذاهبان بطريق السامرة. مشيا, ويسوع أخبر يعقوب عن الأماكن التاريخية على الطريق كما عَلـَّمه والده على رحلة مماثلة قبل خمس سنوات.في مرورهما خلال السامرة, رأوا العديد من المشاهد الغريبة. على هذه الرحلة تحدثا عن الكثير من مشاكلهما, الشخصية, والعائلية, والقومية. كان يعقوب فتى من النوع المتدين للغاية, وبينما لم يتفق تماماً مع والدته فيما يتعلق بالقليل الذي كان يعرفه عن الخطط المتعلقة بعمل حياة يسوع, فقد تطلع نحو الأمام إلى الوقت عندما سيكون قادراً على تحمل مسؤولية العائلة بحيث يمكن ليسوع بدء مهمته. كان مُمتناً جداً ليسوع لأخذه إياه إلى عيد الفصح, وتحدثا حول المستقبل بشكل كامل أكثر من أي وقت مضى.
127:3.3 (1399.2) فكر يسوع كثيراً أثناء سفرهما عبر السامرة. خاصة عند بيت-إيل وعند الشرب من بئر يعقوب. ناقش هو وشقيقه تقاليد إبراهيم, وإسحاق, ويعقوب. فعل الكثير لتهيئة يعقوب لما كان على وشك أن يشهد في أورشليم, بهذا ساعٍ لتخفيف الصدمة التي تعرض لها هو نفسه في زيارته الأولى إلى الهيكل. لكن يعقوب لم يكن شديد الحساسية تجاه بعض هذه المشاهد. لقد عَلَق على الأسلوب غير المكترث والقاسي الذي أنجز فيهه بعض الكهنة واجباتهم لكن بشكل عام استمتع كثيراً بحلوله في أورشليم.
127:3.4 (1399.3) أخذ يسوع يعقوب إلى بيت-عنيا من أجل عشاء الفصح. كان سمعان قد أُضجع للراحة مع آبائه, وترأس يسوع أهل هذا البيت كرئيس لعائلة الفصح, حيث كان قد جلب حمل الفصح من الهيكل.
127:3.5 (1399.4) بعد عشاء الفصح جلست مريم لتتحدث مع يعقوب بينما مارثا, ولِعازر ويسوع تحدثوا معاً متأخراً نحو الليل. في اليوم التالي حضروا خدمات الهيكل, وتم استقبال يعقوب في رابطة إسرائيل. صباح ذلك اليوم, بينما توقفا على حافة الزيتونات لمشاهدة الهيكل, حينما هتف يعقوب في عجب, حدق يسوع في أورشليم بصمت. لم يستطع يعقوب فهم سلوك أخيه. عادا تلك الليلة مرة أخرى إلى بيت-عنيا وكانا سيرحلان إلى المنزل في اليوم التالي, لكن يعقوب كان مصّراً على رجوعهما لزيارة الهيكل, موضحاً بأنه أراد سماع المعلمين. وبينما كان هذا صحيحاً, فقد أراد سِراً في قلبه أن يسمع يسوع يشارك في المناقشات, كما كان قد سمع أُمه تخبر عنه. بناء على ذلك, ذهبا إلى الهيكل وسمعا المناقشات, لكن يسوع لم يطرح أي أسئلة. بدا كل شيء صبيانياً جداً وبلا أهمية لهذا العقل المستيقظ للإنسان والله ــ أمكنه فقط أن يشفق عليهم. شعر يعقوب بخيبة الأمل لأن يسوع لم يقل شيئاً. إلى تساؤلاته أجاب يسوع فقط, "ساعتي لم تأت بعد".
127:3.6 (1399.5) في اليوم التالي رحلا إلى المنزل بطريق أريحا ووادي الأردن, وسرد يسوع أشياء كثيرة على الطريق بما فيها رحلته السابقة على هذا الطريق عندما كان في الثالثة عشرة من عمره.
127:3.7 (1399.6) عند العودة إلى الناصرة, بدأ يسوع العمل في دكان التصليح العائلي القديم وكان مبتهجاً للغاية بكونه قادراً على ملاقاة الكثير من الناس كل يوم من جميع أنحاء البلاد والمناطق المحيطة. لقد احب يسوع الناس حقاً ــ مجرد القوم العاديين. كل شهر كان يسدد مدفوعاته على الدكان, وبمساعدة يعقوب, استمر في إعالة الأسرة.
127:3.8 (1399.7) عدة مرات في السنة, عندما لم يكن الزائرون حاضرين للعمل, واصل يسوع قراءة كتابات يوم السبت المقدسة عند الكنيس وقدم عدة مرات تعليقات على الدرس, لكنه عادة ما كان يختار المقاطع التي لم يكن التعليق عليها ضرورياً. كان ماهراً, مرتباً ترتيب قراءة المقاطع المختلفة بحيث أن الفقرات المتنوعة تنير كل واحدة منها الأخرى. لم يفشل أبداً, إذا سمحت الأحوال الجوية, في أخذ إخوته وأخواته خارجاً بعد ظهر السبت للتنزه في الطبيعة.
127:3.9 (1400.1) حوالي هذا الوقت دشَن الشازان نادي الرجال الشباب للنقاش الفلسفي الذي اجتمع في منازل الأعضاء المختلفين وغالباً في منزله الخاص, وأصبح يسوع عضواً بارزاً في هذه المجموعة. بهذه الطريقة تم تمكينه من استعادة بعض من المكانة المحلية التي فقدها عند وقت الخلافات القومية الأخيرة.
127:3.10 (1400.2) حياته الاجتماعية, بينما كانت مقيدة, لم تكن مهملة بالكامل. كان لديه أصدقاء حميمين كثيرين ومعجبين أوفياء بين كل من شبان وشابات الناصرة.
127:3.11 (1400.3) في أيلول, جاءت أليصابات ويوحنا لزيارة عائلة الناصرة. يوحنا, كونه قد خسر أباه, كان يعتزم العودة إلى تلال يهودا للعمل في الزراعة وتربية الأغنام ما لم ينصحه يسوع بالبقاء في الناصرة ليعمل في النجارة أو عمل آخر ما. لم يعرفا بأن العائلة الناصرية كانت مُفلسة عملياً. كلما تحدثت مريم وأليصابات عن أبنائهما أكثر, زاد اقتناعهما بأنه سيكون من الجيد أن يعمل الشابان معاً وأن يرى كل منهما الآخر أكثر.
127:3.12 (1400.4) كان ليسوع ويوحنا العديد من المحادثات معاً؛ وتحدثا حول بعض الأمور الشخصية والحميمة للغاية. عندما انتهيا من هذه الزيارة, قررا أن لا يشاهدا بعضهما مرة أخرى إلى أن يلتقيا في خدمتهما العامة بعد "دعوة الأب السماوي" لهما إلى عملهما. كان يوحنا متأثراً للغاية بما رآه في الناصرة بأنه يجب أن يعود إلى البيت ويعمل من أجل إعالة والدته. أصبح مقتنعاً بأنه سيكون جزءاً من مهمة حياة يسوع, لكنه رأى بأن يسوع كان سيشتغل سنوات عديدة في تربية عائلته؛ لذلك كان أكثر قناعة بالعودة إلى منزله والاستقرار لرعاية مزرعتهم الصغيرة وتلبية احتياجات والدته. ولم ير يسوع ويوحنا بعضهما أبداً مرة أخرى حتى ذلك اليوم بجانب الأردن عندما قدَمَ ابن الإنسان نفسه من أجل المعمودية.
127:3.13 (1400.5) بعد ظهر السبت في 3 كانون الأول, من هذا العام, ضرب الموت للمرة الثانية هذه العائلة الناصرية. توفي أموص الصغير, شقيقهم الطفل, بعد مرض دام أسبوعاً بسبب حمى عالية. بعد اجتياز هذا الوقت الحزين مع ابنها البكر باعتباره الدعم الوحيد لها, مريم أخيراً وفي أكمل معنى أدركت أن يسوع هو رأس العائلة الحقيقي؛ وكان رأساً جديراً حقًا.
127:3.14 (1400.6) لأربع سنوات كان مستوى معيشتهم ينخفض بشكل مطرد؛ عاما بعد عام شعروا بوخز الفقر المتزايد. بحلول نهاية هذا العام واجهوا إحدى أكثر التجارب صعوبة من كل نضالاتهم المتصاعدة. لم يكن يعقوب قد بدأ بعد في جني الكثير, ونفقات الجنازة علاوة على كل شيء آخر زعزعتهم. لكن يسوع سيقول فقط لأُمه القلقة والحزينة: أُماه-مريم, لن يساعدنا الحزن؛ نحن جميعاً نبذل قصارى جهدنا, وابتسامة الأُم, لربما, تلهمنا لنفعل ما هو أفضل. يوماً بعد يوم نحن نتقوى للقيام بهذه المهام بأملنا في أيام أفضل قادمة." كان تفاؤله المتين والعملي مُعدِياً حقاً؛ عاش كل الأولاد في جو من التوقع لأوقات أفضل وأشياء أفضل. وهذه الشجاعة المفعمة بالأمل ساهمت للغاية في تنمية طباع قوية ونبيلة, بالرغم من كآبة فقرهم.
127:3.15 (1400.7) امتلك يسوع القدرة بشكل فعال على تعبئة كل قواه العقلية والنفسية والجسد في المهمة التي بين يديه مباشرة. كان بإمكانه أن يركز عقله العميق التفكير على المشكلة الواحدة التي رغب في حلها, وهذا, في علاقة مع صبره الدؤوب, مكنه من أن يتحمل بهدوء تجارب وجود بشري صعب ـ ليعيش كما لو كان "يراه من هو غير مرئي".
127:4.1 (1401.1) بحلول هذا الوقت, كان يسوع ومريم متوافقان على نحو أفضل بكثير. اعتبرته أقل كإبن, كان قد أصبح لها أكثر أبا لأطفالها. احتشدت حياة كل يوم بالصعوبات العملية والفورية. تحدثا عن عمل حياته بشكل أقل تواترا, لأنه, مع مرور الوقت, كان كل تفكيرهما مكرساً بشكل متبادل لإعالة وتربية عائلتهم المكونة من أربعة أولاد وثلاث فتيات.
127:4.2 (1401.2) بحلول بداية هذا العام كان يسوع قد كسب أُمه كلياً إلى قبول أساليبه في تدريب الأطفال ـ الإيعاز الإيجابي لفعل الخير في مكان الأسلوب اليهودي الأقدم لمنع فعل الشر. في منزله وطوال حياته المهنية في التدريس العام وظف يسوع دائمًا الشكل الإيجابي في الوعظ. دائماً وفي كل مكان كان يقول, "يجب أن تفعل هذا ـ يجب أن تفعل ذلك". لم يوظف أبداً الأسلوب السلبي للتعليم المستمد من المحرمات القديمة. امتنع عن التشديد على الشر بنهيه, بينما أطرى الخير بالأمر بأدائه. كان وقت الصلاة في هذا البيت المناسبة لمناقشة أي شيء وكل ما يتعلق برفاهية الأسرة.
127:4.3 (1401.3) بدأ يسوع التأديب الحكيم لإخوته وأخواته في سن مبكر بحيث لم تكن هناك حاجة إلى أي عقاب على الإطلاق لتأمين طاعتهم السريعة والصادقة. كان الاستثناء الوحيد هو يهوذا, الذي على مناسبات شتى وجد يسوع انه من الضروري فرض عقوبات عليه على مخالفته لقواعد البيت. في ثلاث مناسبات عندما تم اعتبار أنه من الحكمة معاقبة يهوذا لانتهاكاته التي اعترف بها والمتعمدة لقواعد السلوك الأسري, تم تثبيت عقوبته بموجب مرسوم إجماعي صادر عن الأطفال الأكبر سنًا وكان بقبول يهوذا نفسه قبل أن ينزل به.
127:4.4 (1401.4) بينما كان يسوع منهجياً ونظامياً للغاية في كل شيء فعله, كان هناك أيضاً في جميع أحكامه الإدارية مرونة منعشة في التفسير وفردية في التطبيق التي أثارت إعجاب كل الأولاد كثيراً بروح العدالة التي حركت أبيهم-أخيهم. لم يقم أبداً بتأديب إخوته وأخواته بشكل تعسفي, ومثل هذا الإنصاف الموحد والاعتبار الشخصي جعل يسوع محبوبًا جدًا لكل عائلته.
127:4.5 (1401.5) كبر يعقوب وسمعان محاولين اتباع خطة يسوع في مسامحة رفاق لعبهما العدائيين وأحيانًا الغاضبين عن طريق الإقناع وعدم المقاومة, وكانا ناجحين بشكل لا بأس فيه؛ لكن يوسف ويهوذا, مع موافقتهما على مثل هذه التعاليم في المنزل, سارعا إلى الدفاع عن أنفسهما عندما هوجما من قِبل رفاقهما؛ يهوذا بالأخص كان مذنباً بانتهاك روح هذه التعاليم. لكن عدم المقاومة لم يكن قانوناً للعائلة. لا قصاص كان مُلحقاً إلى انتهاك التعاليم الشخصية.
127:4.6 (1401.6) بشكل عام, فإن كل الأولاد, خاصة البنات, سيستشيرون يسوع بشأن مشاكل طفولتهم ويثقون به تماماً كما كانوا سيفعلون مع أب حنون.
127:4.7 (1401.7) كان يعقوب ينمو ليكون شاباً حسن الاتزان وذا خلق حسن, لكنه لم يكن ميالاً روحياً مثل يسوع. كان تلميذاً أفضل بكثير من يوسف, الذي, رغم كونه عاملاً مُخْلصاً, كان ذا عقلية حتى أقل روحياً. كان يوسف مثابراً لكن لم يصل إلى المستوى الفكري للأولاد الآخرين. كان سمعان صبياً حسن النية لكنه حالم جداً. كان بطيئاً في الاستقرار في الحياة وكان سبب قلق كبير ليسوع ومريم. لكنه كان دائماً فتى صالحاً وحسن النية. كان يهوذا مثيراً للقلاقل. كانت لديه أعلى المُثل, لكنه لم يكن مستقراً في مزاجه. كان لديه كل عزم أُمه ومشاكستها وأكثر, لكنه كان يفتقر إلى الكثير من إحساسها بالتناسب وحسن التقدير.
127:4.8 (1402.1) كانت مريام ابنة حسنة الاتزان رزينة وذات تقدير فطن للأشياء النبيلة والروحية. كانت مارثا بطيئة في التفكير والعمل لكن طفلة يمكن الإعتماد عليها للغاية, كانت الطفلة راعوث نور شمس البيت؛ ولو أنها تتكلم بدون تفكير, إلا أنها كانت الأكثر إخلاصاً في القلب. هي تقريباً عبَدَت أخاها الأكبر وأباها. لكنهم لم يفسدوها. كانت طفلة جميلة لكن ليست ظريفة تماماً مثل مريام التي كانت حسناء العائلة, إن لم يكن المدينة.
127:4.9 (1402.2) بمرور الوقت, قام يسوع بالكثير لتحرير وتعديل تعاليم وممارسات العائلة المتعلقة بمراعاة السبت وأطوار أخرى كثيرة من الدِين, ولكل هذه التغييرات أعطت مريم موافقة قلبية. بهذا الوقت كان يسوع قد أصبح رأس البيت بلا منازع.
127:4.10 (1402.3) بدأ يهوذا هذا العام بالذهاب إلى المدرسة, وكان من الضروري أن يبيع يسوع قيثارته من أجل تحمل هذه النفقات. هكذا اختفت أخر مسراته الترفيهية. لقد أحب كثيراً العزف على القيثارة عندما كان متعباً في العقل ومُرهقاً في الجسد, لكنه واسى نفسه بفكرة أن القيثارة على الأقل كانت في مأمن من مصادرة جابي الضرائب.
127:5.1 (1402.4) مع أن يسوع كان فقيراً, إلا أن مكانته الاجتماعية في الناصرة لم تتأثر بأي حال من الأحوال. كان واحداً من أبرز شباب المدينة وكان يحظى بتقدير كبير من قبل معظم الشابات. نظراً لأن يسوع كان نموذجاً رائعاً للرجولة القوية والفكرية, وبالنظر إلى سمعته كقائد روحي, فلم يكن غريباً بأن رفقه, الإبنة الكبرى لعزرا, تاجر ثري وبائع من الناصرة, كانت تكتشف ببطء بأنها تقع في حب ابن يوسف هذا. في البداية استودعت حبها إلى مريام, شقيقة يسوع, ومريام بدورها تحدثت عن كل هذا مع أُمها. أُثيرت مريم بشدة. هل كانت على وشك أن تفقد ابنها, الذي أصبح الآن رب الأسرة الذي لا غنى عنه؟ ألن تتوقف المشاكل؟ ماذا يمكن أن يحدث بعد؟ ثم توقفت للتأمل في أي تأثير سيكون للزواج على مهمة يسوع المستقبلية؛ ليس غالباً, لكن على الأقل في بعض الأحيان, تذكرت واقع أن يسوع كان "ابن الوعد". بعد أن تحدثت هي ومريام عن هذا الأمر, قررتا بذل جهد لإيقافه قبل أن يعلم به يسوع, بالذهاب مباشرة إلى رفقه وعرض القصة بأكملها أمامها, وإخبارها بأمانة عن اعتقادهما بأن يسوع كان ابناً للقدر؛ بأنه كان ليصبح قائداً دينياً عظيماً, ربما المسيح.
127:5.2 (1402.5) استمعت رفقه باهتمام؛ كانت مشاعرها مُثارة بتلاوة الكلام وعقدت العزم أكثر من أي وقت مضى على إلقاء قرعتها مع رجل اختيارها هذا ومشاركة مهمته القيادية. جادلت (نفسها) بأن مثل هذا الرَجل سيحتاج أكثر من أي شيء إلى زوجة مخلصة وفعّالة. فسَّرت جهود مريم لإقناعها بالعدول على أنها رد فعل طبيعي للخوف من خسارة الرأس والمعيل الوحيد لعائلتها؛ لكن مع علمها بأن والدها موافق على انجذابها لإبن النجار, فقد اعتقدت بحق أنه سيكون مسروراً بتزويد العائلة بالدُخل الكافي للتعويض عن خسارة مكاسب يسوع بالكامل. عندما وافق والدها على مثل هذه الخطة, كان لرفقه اجتماعات إضافية مع مريم ومريام, وعندما فشلت في كسب دعمهما, تجرأت على الذهاب مباشرة إلى يسوع. وقد فعلت هذا بالتعاون مع والدها, الذي دعا يسوع إلى منزلهم من أجل الاحتفال بعيد ميلاد رفقه السابع عشر.
127:5.3 (1403.1) أصغى يسوع بانتباه وتعاطف إلى تلاوة هذه الأشياء, أولاً من الأب, وبعدئذٍ من رفقه نفسها. أجاب بلطف بأن لا مبلغ من المال يمكنه أن يحل محل التزامه شخصياً بتربية أسرة والده, "لأداء الأكثر قداسة من كل الأمانات الإنسانية ــ الولاء إلى لحم ودم المرء ذاته". كان والد رفقه متأثراً بعمق بكلمات يسوع عن التفاني الأسري وانسحب من المؤتمر. ملاحظته الوحيدة لمريم, زوجته, كانت: "لا يمكننا اتخاذه كإبن, إنه نبيل جداً بالنسبة لنا".
127:5.4 (1403.2) بعد ذاك بدأ ذلك الحديث الحافل مع رفقه. حتى الآن في حياته, لم يميز يسوع كثيراً في علاقته بالفتيان والفتيات, مع شبان وشابات. كان عقله مشغولاً جداً بالمشاكل المُلحة للشؤون الأرضية العملية والتأمل المثير للاهتمام لمهمته المقبلة "حول شغل أبيه" لكي ينظر جدياً في إتمام الحب الشخصي في الزواج البشري. لكنه كان الآن وجهاً لوجه مع مشكلة أخرى من تلك المشاكل التي يجب على كل إنسان عادي أن يواجهها ويقرر بشأنها. في الواقع "اختُبر في جميع النقاط مثلكم".
127:5.5 (1403.3) بعد الاستماع بانتباه, شكر رفقه بصدق على إعجابها الذي أعربت عنه, مضيفاً "سوف يفرحني ويعزيني طوال أيام حياتي". أوضح بأنه لم يكن حراً في الدخول في علاقات مع أي امرأة سوى تلك ذات الاعتبار الأخوي البسيط والصداقة الخالصة. أوضح أن واجبه الأول والأعظم كان تربية أسرة والده, بأنه لا يستطيع التفكير في الزواج إلى أن يكون ذلك قد أُنجز؛ ثم أضاف: "إذا كنت ابن القدر, فلا يجب أن أتحمل التزامات لمدى الحياة حتى ذلك الوقت عندما سيُجعل مصيري واضحاً".
127:5.6 (1403.4) ``كانت رفقه مسحوقة القلب, رفضت أن تتعزى وألحت على والدها أن يترك الناصرة حتى وافق أخيراً على الانتقال إلى صفوريه. بعد سنوات عديدة, للعديد من الرجال الذين طلبوا يدها في الزواج, لم يكن لدى رفقه سوى إجابة واحدة. عاشت فقط من أجل هدف واحد ــ لانتظار الساعة عندما هذا, بالنسبة لها, الأعظم من كل الرجال الذين عاشوا على الإطلاق سيبدأ مهمته كمعلم للحق الحي. وتبعته بإخلاص خلال سنواته الحافلة بالعمل الشعبي, حيث كانت حاضرة (دون أن يلاحظ يسوع) ذلك اليوم عندما ركب منتصرًا نحو أورشليم؛ ووقفت "بين النساء الأُخريات" بجانب مريم في ذلك العصر المشؤوم والمأساوي عندما عُلق ابن الإنسان على الصليب, بالنسبة لها, بالإضافة لعوالم لا حصر لها على العُلى, "الواحد الرائع جملةً والأعظم بين عشرة آلاف".
127:6.1 (1403.5) قصة محبة رفقه ليسوع هُمس بها حول الناصرة وفيما بعد في كفرناحوم, بحيث إنه, بينما في السنوات التالية أحبت نساء كثيرات يسوع حتى كما أحبه الرجال, لم يعد عليه مرة أخرى أن يرفض العرض الشخصي من إخلاص امرأة صالحة أخرى. من هذا الوقت وصاعداً أصبحت المودة البشرية ليسوع أكثر من طبيعة الاعتبار التعبدي والهائم. كل من الرجال والنساء أحبوه بإخلاص ولأجل ما كان عليه, ليس مع أي مسحة من الرضا الذاتي أو الرغبة في الاستحواذ العاطفي. لكن لسنوات عديدة, كلما كانت قصة شخصية يسوع الإنسانية تُتلى, كان إخلاص رفقه يُذكر.
127:6.2 (1404.1) مريام, عارفة تماماً بشأن رفقه وعارفة كيف تخلى شقيقها حتى عن حب فتاة جميلة (ليست مُدركة عامل مستقبله الوظيفي في القدر), رأت في يسوع المثال الأعلى ولتحبه بعاطفة مؤثرة وعميقة كما لأب وكذلك لأخ.
127:6.3 (1404.2) مع أنهم بالكاد يمكنهم تحمل تكاليفها, كان لدى يسوع شوق غريب للصعود إلى أورشليم من أجل عيد الفصح. أُمه, عارفة بتجربته الحديثة مع رفقه, حثته بحكمة على القيام بالرحلة. لم يكن واعياً لهذا بشكل ملحوظ, لكن أكثر ما أراده كان فرصة للتحدث مع لِعازر وزيارة مارثا ومريم. تالياً إلى عائلته أحب هؤلاء الثلاثة أكثر من الكل.
127:6.4 (1404.3) في القيام بهذه الرحلة إلى أورشليم, ذهب بطريق مجِّدو, وأنتيباتريس, واللد, في جزء مغطياً نفس الطريق التي قطعها عندما أعادوه إلى الناصرة عند العودة من مصر. أمضى أربعة أيام في الصعود إلى الفصح وفَكر كثيراً في الأحداث الماضية التي وقعت في مجِّدو وحولها, ساحة المعركة الدولية في فلسطين.
127:6.5 (1404.4) مر يسوع خلال أورشليم, متوقفاً فقط للنظر إلى الهيكل وحشود الزوار المتجمعة. كان لديه نفور غريب ومتزايد لهذا الهيكل الذي بناه هيرودس مع كهنوته المعيَن سياسياً. أراد أكثر من أي شيء أن يرى لِعازر, ومارثا, ومريم. كان لِعازر في نفس عمر يسوع والآن رأس المنزل؛ بحلول وقت هذه الزيارة كانت أُم لِعازر أيضاً قد وضعت للراحة. كانت مارثا أكثر من سنة بقليل من عمر يسوع, بينما كانت مريم أصغر بسنتين. وكان يسوع المثل الأعلى المعبود لكل الثلاثة.
127:6.6 (1404.5) في هذه الزيارة حدثت واحدة من اندلاعات الثورة الدورية تلك ضد التقاليد ــ تعبيراً عن الاستياء من تلك الممارسات الإحتفالية التي اعتبرها يسوع مسيئة لتمثيل أبيه في السماء. ليس عالماً بقدوم يسوع, كان لِعازر قد رتب للاحتفال بالفصح مع أصدقاء في قرية مجاورة أسفل طريق أريحا. اقترح يسوع الآن أن يحتفلوا بالعيد حيث هم, في منزل لِعازر. "لكن", لِعازر قال "ليس لدينا حمل الفصح". وعندئذٍ دخل يسوع في حوار مطول ومقنع مفاده بأن الآب في السماء لم يكن في الحقيقة مهتماً بمثل هذه الطقوس الصبيانية والتي لا معنى لها. بعد صلاة جادة ومهيبة نهضوا, وقال يسوع: "دعوا عقول شعبي الصبيانية والمظلمة تخدم إلَهها كما وجَّه موسى؛ من الأفضل أن يفعلوا, لكن دعونا نحن الذين رأينا نور الحياة لا نقترب بعد الآن إلى الأب بظلمة الموت. فلنكن أحراراً في معرفة حقيقة محبة أبينا الأبدية".
127:6.7 (1404.6) تلك الأمسية حوالي الغسق جلس هؤلاء الأربعة وتناولوا أول وليمة فصح يُحتفَل به بيهود أتقياء بدون حمل الفصح. الخبز غير المختمر والنبيذ كانا قد أُعدا لهذا الفصح, وهذه الشعارات التي عَّبَر عنها يسوع "بخبز الحياة" و "ماء الحياة" قدمها لرفاقه, وأكلوا في التزام حازم بالتعاليم التي أُبلغت منذ قليل. لقد كان من عادته التعاطي بهذه الشعيرة القربانية كلما قام بزيارات لاحقة لبيت-عنيا. عندما عاد إلى المنزل, أخبر والدته بكل هذا. كانت مصدومة في البداية لكنها جاءت تدريجياً لترى وجهة نظره؛ مع ذلك, شعرت بالارتياح الشديد عندما أكد لها يسوع بأنه لا ينوي تقديم هذه الفكرة الجديدة عن الفصح إلى عائلتهم. استمر في المنزل مع الأولاد, سنة بعد سنة, في أكل الفصح وفقاً لشريعة موسى.
127:6.8 (1404.7) خلال هذا العام كان لمريم حديثاً مطولاً مع يسوع عن الزواج. سألته بصراحة عما إذا كان سيتزوج لو كان حراً من مسؤوليات عائلته. اوضح لها يسوع أنه, نظراً لأن واجبه الحالي يمنع زواجه, فقد أعطى الموضوع قليلاً من التفكير. أعرب عن شكوكه بأنه سيدخل في حالة الزواج؛ قال بأن كل هذه الأشياء يجب أن تنتظر "ساعتي", في الوقت عندما "يجب أن يبدأ عمل أبي". حيث كان قد استقر بالفعل في عقله بأنه لم يكن ليصبح أباً لأولاد في الجسد, فقد أعطى القليل جداً من التفكير إلى موضوع الزواج البشري.
127:6.9 (1405.1) بدأ هذا العام من جديد مهمة نسج طبيعتيه البشرية والإلَهية في فردية بشرية بسيطة وفعّالة. واستمر في النمو في المكانة الأخلاقية والتفهم الروحي.
127:6.10 (1405.2) مع أن كل أملاكهم في الناصرة (باستثناء منزلهم) خُسرت, إلا أنهم تلقوا هذا العام القليل من المساعدة المالية من بيع حصة في قطعة عقار في كفرناحوم. كان هذا الأخير من كل عقارات يوسف. هذه الصفقة العقارية في كفرناحوم كانت مع صانع قوارب اسمه زَبـِدي.
127:6.11 (1405.3) تخَّرج يوسف في مدرسة الكنيس هذا العام واستعد لبدء العمل عند الطاولة الصغيرة في دكان النجارة في المنزل. على الرغم من أن عقارات والدهم قد استنفذت, كان هناك احتمالات بأنهم سيتغلبون على الفقر بنجاح حيث إن ثلاثة منهم كانوا الآن يعملون بانتظام.
127:6.12 (1405.4) يسوع يصبح بسرعة رجلاً, ليس مجرد شاب بل بالغ. لقد تعلـَّم جيداً تحمل المسؤولية. إنه يعرف كيف يستمر في وجه خيَبة الأمل. يتحلى بشجاعة عندما تُحبط خططه وتُهزم أهدافه مؤقتاً. لقد تعلـَّم كيف يكون منصفاً وعادلاً حتى في مواجهة الظلم. إنه يتعلم كيف يضبط مُثله عن العيش الروحي إلى المتطلبات العملية للوجود الأرضي. يتعلم كيف يخطط لإنجاز هدف أعلى وبعيد من المثالية بينما يكدح بجدية من أجل إحراز هدف الضرورة الأقرب والفوري. إنه يكتسب بثبات فن تكييف طموحاته مع المتطلبات العادية للمناسبة الإنسانية. لقد أتقن تقريباً إلى حد كبير تقنية الإفادة من طاقة الدافع الروحي من اجل إدارة آلية الإنجاز المادي. إنه يتعلم ببطء كيف يعيش الحياة السماوية بينما يستمر في الوجود الأرضي. يعتمد أكثر فأكثر على التوجيه النهائي لأبيه السماوي بينما يتولى الدور الأبوي في إرشاد وتوجيه أبناء عائلته الأرضية. إنه يصبح متمرساً في انتزاع النصر الماهر من فكي الهزيمة عينها؛ إنه يتعلم كيف يحول صعوبات الزمن إلى انتصارات الأبدية.
127:6.13 (1405.5) وهكذا, مع مرور السنين, يواصل هذا الشاب من الناصرة مقاساة الحياة كما تُعاش في جسد بشري على عوالم الزمان والفضاء. يعيش حياة كاملة, ونموذجية, وممتلئة على يورانشيا. ترَكَ هذا العالَم ناضجاً في التجربة التي تمر بها مخلوقاته أثناء السنوات القصيرة والمضنية من حياتهم الأولى, الحياة في الجسد. وكل هذه التجربة الإنسانية هي مُلك أبدي لسلطان الكون. إنه شقيقنا المتفهم, وصديقنا المتعاطف, وسُلطاننا الخبير, وأبونا الرحيم.
127:6.14 (1405.6) كطفل جَمع قدراً شاسعاً من المعرفة؛ كشاب فرز, وصنَّف ونسَّق هذه المعلومات؛ والآن كرجل من الحيز يبدأ في تنظيم هذه الامتلاكات العقلية تمهيداً لاستخدامها في تعليمه, وإسعافه, وخدمته اللاحقة لمصلحة زملائه البشر على هذا العالَم وعلى كل أجواء السكن الأخرى في كل أنحاء كون نِبادون بأكمله.
127:6.15 (1405.7) وُلد في العالَم طفلاً من الحيز, وعاش حياته الطفولية ومر خلال المراحل المتتالية من الصِبا والشباب؛ الآن يقف على عتبة الرجولة الكاملة, غني في خبرة العيش البشري, ممتلئ في تفهم الطبيعة البشرية, ومليء بالتعاطف مع ضعف إرادة الطبيعة البشرية. إنه يصبح خبيراً في الفن الإلَهي في الكشف عن أبيه الفردوسي إلى كل أعمار ومراحل المخلوقات الفانية.
127:6.16 (1406.1) والآن كرجل كامل النمو ــ بالغ من الحيز ــ يستعد لمواصلة مهمته العليا المتمثلة في كشف الله إلى الناس وقيادة الناس إلى الله.
كِتاب يورانشيا
ورقة 128
128:0.1 (1407.1) عندما دخل يسوع الناصري في السنوات الأولى من حياته الراشدة, كان قد عاش واستمر في عيش, حياة بشرية عادية ومتوسطة على الأرض. جاء يسوع إلى هذا العالَم تماماً كما يأتي الأطفال الآخرون؛ لم يكن له أي علاقة باختيار والديه. لقد اختار هذا العالَم بالذات باعتباره الكوكب الذي عليه سينفذ إغداقه السابع والأخير, تجسده في صورة الجسد الفاني, لكن سوى ذلك فقد دخل العالَم بطريقة طبيعية, حيث نشأ كطفل من الحيز ومتصارع مع تقلبات بيئته تماماً كما يفعل بشر آخرون على هذا العالَم وعوالم مماثلة.
128:0.2 (1407.2) دائماً تذَكَّر الهدف المزدوج لإغداق ميخائيل على يورانشيا:
128:0.3 (1407.3) 1. إتقان تجربة عيش الحياة الكاملة لمخلوق بشري في جسد فاني, وإتمام سيادته في نِبادون.
128:0.4 (1407.4) 2. كشف الاب الكوني للساكنين الفانين على عوالم الزمان والفضاء والقيادة الأكثر فاعلية لهؤلاء الفانين أنفسهم إلى فهم أفضل للأب الكوني.
128:0.5 (1407.5) كل منافع المخلوق الأخرى ومزايا الكون كانت عَرَضية وثانوية إلى هذه الأهداف الرئيسية للإغداق البشري.
128:1.1 (1407.6) مع إحراز سنوات الرشد, بدأ يسوع بجدية ووعي ذاتي كامل مهمة إتمام تجربة إتقان معرفة حياة أدنى أنواع مخلوقاته الذكية, بالتالي مكتسباً في النهاية وبشكل كامل حق الحُكم البات لكونه الذي خلقه بنفسه. دخل على هذه المهمة الهائلة مدركاً تماماً طبيعته المزدوجة. لكنه كان بالفعل قد مزج بفعالية هاتين الطبيعتين في طبيعة واحدة ــ يسوع الناصري.
128:1.2 (1407.7) كان يشوع بن يوسف يعلم تماماً بأنه رجل, رجل بشري, مولود من امرأة. هذا مبين في اختيار لقبه الأول, ابن الإنسان. كان حقاً شريكًا في الجسد والدم, وحتى الآن, بينما يرأس في سُلطة سيادية على مصائر الكون, فإنه لا يزال يحمل بين ألقابه العديدة المتكسبة عن جدارة لقب ابن الإنسان. إنه حرفياً صحيح بأن الكلمة الخلاَّقة ــ الابن الخالق ــ للأب الكوني "جُعل جسداً وسكن كرجل من الحيز على يورانشيا". اشتغل, وتعب, وارتاح, ونام. جاع وأرضى تلك الإشتهاءات بالطعام؛ عطش وروى عطشه بالماء. اختبر كامل سلسلة المشاعر والعواطف البشرية؛ كان, "مُختبراً في كل الأشياء, حتى مثلكم", وتعذب ومات.
128:1.3 (1407.8) حصِل على المعرفة, واكتسب الخبرة, ودمجها في الحكمة, تماماً كما يفعل بشر آخرون من الحيز. حتى بعد معموديته لم ينتفع بأي قدرة خارقة للطبيعة. لم يوظف أي وسيلة ليست جزءًا من هباته البشرية كإبن ليوسف ومريم.
128:1.4 (1408.1) أما بالنسبة إلى سجايا وجوده السابق للإنساني, فقد أفرغ ذاته. قبل بدء عمله العلني كانت معرفته عن الناس والأحداث كلياً محدودة-بالذات. كان رجلاً حقيقياً بين الناس.
128:1.5 (1408.2) إنه إلى الأبد وبشكل رائع صحيح: "لدينا حاكم رفيع يمكننا لمسه بمشاعر ضعفنا. لدينا سُلطان مُختبر ومجرَب في كل النقاط كما نحن, مع ذلك بدون خطيئة". وحيث هو نفسه قد تعذب, كونه اختُبر وجُرب, فهو قادر بوفرة على فهم أولئك المرتبكين والمكروبين والإسعاف لهم.
128:1.6 (1408.3) الآن فهم النجار الناصري تماماً العمل الذي أمامه, لكنه اختار أن يعيش حياته البشرية في مسار تدفقها الطبيعي. وفي بعض هذه الأمور هو في الواقع مثال لمخلوقاته الفانية, حتى كما هو مُسَّجَل: "ليكن هذا الفكر فيك الذي كان أيضاُ في المسيح يسوع", الذي, كائن من طبيعة الله, اعتقد أنه ليس من الغريب أن يكون متساوياً مع الله. لكنه جعل نفسه قليل الأهمية, آخذاً على عاتقه شكل المخلوق, ولد في شبه جنس الإنسان, وكائن هكذا مصُوِّر كرجل, تواضع وأطاع الموت, حتى موت الصليب.
128:1.7 (1408.4) عاش حياته الفانية تماماً كما كل الآخرين من العائلة البشرية قد يعيشون حياتهم, "الذي في أيام الجسد قدم بغاية التكرار الصلوات والابتهالات, حتى بمشاعر قوية ودموع, إليه القادر أن يُخَلِص من كل شر, وحتى صلواته كانت فعّالة لأنه آمن". من ثم وجب عليه من كل النواحي أن يُجعل مثل إخوانه بحيث قد يصبح سلطاناً رحيماً ومتفهماً عليهم.
128:1.8 (1408.5) عن طبيعته البشرية لم يكن أبداً في شك؛ كان ذلك ثابتاً-بالذات ودائماً حاضراً في وعيه. لكن لطبيعته الإلَهية كان هناك دائماً مجال للشك والظن, على الأقل هذا كان صحيحاً حتى إلى حدث معموديته. كان الإدراك الذاتي للألوهية بطيئاً, ومن وجهة النظر الإنسانية, وحي تطوري طبيعي. هذا الوحي والإدراك الذاتي للألوهية بدأ في أورشليم عندما لم يكن عمره آنذاك ثلاثة عشر عاماً مع أول حدث خارق لوجوده البشري؛ وقد اكتملت هذه التجربة في تحقيق الإدراك الذاتي لطبيعته الإلهية في وقت تجربته الخارقة الثانية أثناء وجوده في الجسد, القصة المصاحبة لمعموديته من قبل يوحنا في نهر الأردن. الحدث الذي أشر بداية مهمته العلنية من الإسعاف والتعليم.
128:1.9 (1408.6) بين هاتين الزيارتين السماويتين, واحدة في عامه الثالث عشر والأخرى عند معموديته, لم يحدث شيء خارق للطبيعة أو فائق عن البشر في حياة هذا الابن الخالق المتجسد. بالرغم من كل هذا, طفل بيت-لحم, الفتى, والشاب, ورَجل الناصرة, كان في الواقع خالق الكون المتجسد, لكنه لم يستخدم مرة هذه القدرة مطلقًا, ولا استفاد من إرشاد الشخصيات السماوية, على حدة من تلك لسيرافيمه الحارسة, في عيشه حياته البشرية إلى يوم معموديته على يد يوحنا. ونحن الذين نشهد بهذا نعرف عما نتكلم.
128:1.10 (1408.7) ومع ذلك, طوال هذه السنوات من حياته في الجسد كان إلَهياً حقًا. كان في الواقع ابناً خالقاً من الأب الفردوسي. عندما مرة استصوب مهمته العلنية, لاحقاً للإتمام الفني لتجربته الفانية البحتة لاكتساب السيادة, لم يتردد في الاعتراف علناً بأنه ابن الله. لم يتردد في التصريح, "أنا الألفا والأوميغا, البداية والنهاية, الأول والأخير". لم يعترض في سنين لاحقة عندما دُعي رب المجد, وحاكم كون, والرب إلَه كل الخليقة, وقدوس إسرائيل, ورب الجميع, وربنا وإلَهنا, والله معنا, والذي لديه اسم فوق كل اسم وعلى كل العوالم, والذي له القدرة المطلقة في كون, وعقل الكون لهذا الخلق, والواحد الذي فيه تختبئ كل كنوز الحكمة والمعرفة, مُلؤه الذي يملأ كل الأشياء, الكلمة الأبدية لله الأبدي, الذي كان قبل كل الأشياء وفيه كل الأشياء تألفت, خالق السماوات والأرض, داعم كون, ديان كل الأرض, واهب الحياة الأبدية, والراعي الصادق, ومُخلص العوالم, ورائد خلاصنا.
128:1.11 (1409.1) لم يعترض أبداً على أي من هذه الألقاب عندما طُبقت إليه لاحقاً لبروزه من حياته البشرية البحتة إلى السنوات اللاحقة لوعيه الذاتي بإسعاف الألوهية في الإنسانية, ومن أجل الإنسانية, وإلى الإنسانية على هذا العالَم ولجميع العوالم الأخرى. إنما اعترض يسوع على لقب واحد فقط عندما طُبق إليه: عندما دُعي ذات مرة عمانوئيل, هو فقط أجاب, "لست أنا, ذلك أخي الأكبر".
128:1.12 (1409.2) دائماً, حتى بعد بروزه نحو الحياة الأوسع على الأرض, كان يسوع راضخاً بخضوع لمشيئة الأب في السماء.
128:1.13 (1409.3) بعد معموديته لم يفكر شيئاً في السماح للمؤمنين المخلصين وأتباعه الممتنين لعبادته. حتى بينما كان يصارع الفاقة وكد بيديه لتوفير ضروريات الحياة لعائلته, كان وعيه بأنه ابن الله ينمو؛ علم أنه كان صانع السماوات وهذه الأرض بالذات حيث يعيش الآن وجوده البشري. وجماهير الكائنات السماوية في كل أنحاء الكون الكبير والمتطلع عرفت بالمثل أن هذا الرجل الناصري كان سُلطانهم المحبوب وأباهم الخالق. تشويق عميق عَمَ كون نِبادون طوال هذه السنوات؛ كانت كل العيون السماوية مركزة باستمرار على يورانشيا ــ على فلسطين.
128:1.14 (1409.4) صعد يسوع هذا العام إلى أورشليم مع يوسف للاحتفال بعيد الفصح. بعد أن أخذ يعقوب إلى الهيكل من أجل التكريس, ارتأى أنه من واجبه أن يأخذ يوسف. لم يظهر يسوع أبدًا أي درجة من التحيز في التعامل مع عائلته. ذهب مع يوسف إلى أورشليم بطريق وادي الأردن المعتاد, لكنه عاد إلى الناصرة عبر طريق الأردن الشرقي, الذي قاد عبر أماثوس. عند نزوله إلى نهر الأردن, روى يسوع التاريخ اليهودي ليوسف وعلى رحلة العودة أخبره عن تجارب القبائل المشهورة رأوبين, وجاد, وجلعاد التي سكنت تقليدياً في هذه المناطق شرق النهر.
128:1.15 (1409.5) طرح يوسف على يسوع العديد من الأسئلة الرئيسية المتعلقة بمهمة حياته, لكن لمعظم هذه التساؤلات كان يسوع يجيب فقط, "لم تأت ساعتي بعد". على كل, في هذه المناقشات الودية تم إسقاط العديد من الكلمات التي تذكرها يوسف أثناء الأحداث المثيرة في السنوات اللاحقة. قضى يسوع, مع يوسف, هذا الفصح مع أصدقائه الثلاثة في بيت-عنيا, كما كانت عادته عندما في أورشليم لحضور احتفالات العيد هذه.
128:2.1 (1409.6) كان هذا واحداً من عدة أعوام واجه خلالها إخوة يسوع وأخواته التجارب والمِحن المتعلقة بمشاكل المراهقة وتعديلاتها. كان لدى يسوع الآن إخوة وأخوات تتراوح أعمارهم بين سبعة إلى ثمانية عشر عاماً, وبقي مشغولاً بمساعدتهم على التكيف مع اليقظات الجديدة لحياتهم الفكرية والعاطفية. لذا كان عليه أن يتصدى لمشاكل المراهقة بينما أصبحت ظاهرة في حياة إخوته وأخواته الصغار.
128:2.2 (1410.1) هذا العام تخرَّج سمعان من المدرسة وبدأ العمل مع رفيق لعب يسوع القديم والمدافع الجاهز دائمًا, يعقوب الحجار. نتيجة لعدة مؤتمرات عائلية تقرر بأنه ليس من الحكمة أن يعمل كل الصبيان في النجارة. كان يُعتقد أنه من خلال تنويع حِرفهم سيكونون مهيئين لأخذ مقاولات لبناء مبانٍ كاملة. أيضاً, لم ينشغلوا كلهم حيث إن ثلاثة منهم كانوا يعملون كنجارين بدوام كامل.
128:2.3 (1410.2) استمر يسوع هذا العام في إتمام المنازل وصناعة الخزانات لكنه أمضى معظم وقته في دكان تصليح القوافل. كان يعقوب يبدأ بالتناوب معه في الحضور عند الدكان. في الجزء الأخير من هذا العام, عندما كان عمل النجارة بطيئاَ حول الناصرة, ترك يسوع يعقوب مسؤولًا عن دكان التصليح ويوسف عند طاولة المنزل بينما ذهب إلى صفوريه للعمل مع حداد. عمل ستة أشهر في المعادن واكتسب مهارة كبيرة في السندان.
128:2.4 (1410.3) قبل تولي وظيفته الجديدة في صفوريه, عقد يسوع أحد مؤتمراته العائلية الدورية وعين يعقوب رسمياً, الذي كان آنذاك قد اتم تواً الثمانية عشر من عمره, رئيساً متصرفاً للعائلة. وعَد شقيقه بالدعمٍ القلبي والتعاون الكامل وطلب وعودًا رسمية بالطاعة ليعقوب من كل فرد من أفراد الأسرة. منذ هذا اليوم تولى يعقوب المسؤولية المالية الكاملة للعائلة, وسدد يسوع مدفوعاته الأسبوعية إلى شقيقه. ولا مرة أخرى أخذ يسوع الزمام من يد يعقوب. أثناء عمله في صفوريه كان بإمكانه السير إلى البيت كل ليلة إذا لزم الأمر, لكنه بقي بعيداً عن قصد, معللاً الطقس وأسباب أخرى, لكن دافعه الحقيقي كان تدريب يعقوب ويوسف على تحمل مسؤولية الأسرة. كان قد بدأ العملية البطيئة لفطام عائلته. كل سبت كان يسوع يعود إلى الناصرة, وأحيانًا خلال الأسبوع عند اقتضاء الأمر, لمراقبة عمل الخطة الجديدة, لإعطاء المشورة وتقديم الاقتراحات المفيدة.
128:2.5 (1410.4) عيش الكثير من الوقت في صفوريه لستة أشهر أتاح ليسوع فرصة جديدة ليصبح أفضل إلماماً بوجهة نظر الأمميين في الحياة. لقد عمِل مع أمميين, وعاش مع أمميين, وقام بكل الطرق الممكنة بدراسة دقيقة ومضنية لعاداتهم المعيشية وللعقلية الأممية.
128:2.6 (1410.5) كانت المعايير الأخلاقية لهذه المدينة الأم لهيرودس أنتيباس أقل بكثير من تلك حتى لمدينة قوافل الناصرة بحيث أنه بعد ستة أشهر من المكوث في صفوريه لم يكن يسوع يعارض إيجاد عذر للعودة إلى الناصرة. كانت المجموعة التي عمل من أجلها سوف تشارك في الأعمال العامة في كل من صفوريه ومدينة طبريا الجديدة, وكان يسوع غير راغب في أن يكون له أي علاقة بأي نوع من العمل تحت إشراف هيرودس أنتيباس. وما زال هناك أسباب أخرى جعلت من الحكمة, في رأي يسوع, أن يعود إلى الناصرة. عندما عاد إلى دكان التصليح, لم يتولى مرة أخرى التوجيه الشخصي لشؤون الأسرة. عمل بالاشتراك مع يعقوب في الدكان وبقدر الإمكان سمح له بمواصلة الإشراف على البيت. كانت إدارة يعقوب لنفقات العائلة وإدارته لميزانية البيت دون عائق.
128:2.7 (1410.6) كان تماماً بمثل هذا التخطيط الحكيم والمدروس بأن يسوع مهد الطريق لانسحابه في النهاية من المساهمة الفعالة في شؤون عائلته. عندما كان لدى يعقوب خبرة سنتين كرئيس للأسرة بالوكالة ــ وقبل سنتين كاملتين من زواجه (يعقوب) ــ تم تعيين يوسف مسؤولاً عن أموال العائلة واستؤمن على الإدارة العامة للبيت.
128:3.1 (1411.1) هذا العام كان الضغط المالي قد خف قليلاً حيث إن أربعة كانوا يعملون. كسبت مريام بشكل كبير من بيع الحليب والزبدة؛ أصبحت مارثا حائكة خبيرة. تم دفع أكثر من ثلث ثمن شراء الدكان. كان الوضع بحيث توقف يسوع عن العمل لثلاثة أسابيع ليأخذ سمعان إلى أورشليم لعيد الفصح, وكانت هذه أطول فترة بعيداً عن الكد اليومي التي تمتع بها منذ وفاة والده.
128:3.2 (1411.2) سافرا إلى أورشليم بطريق المدن العشرة وعبر بـِلا, وجيراسا, وفيلادلفيا, وحشبون, وأريحا. عادا إلى الناصرة بالطريق الساحلي, لامسين اللد, ويافا, وقيصرية, ومن ثم حول جبل الكرمل إلى بطليميس والناصرة. هذه الرحلة جعلت يسوع مُلماً بشكل جيد بكل فلسطين شمال منطقة أورشليم.
128:3.3 (1411.3) في فيلادلفيا تعرَّف يسوع وسمعان على تاجر من دمشق الذي طور محبة كبيرة للزوج الناصري بحيث أصَّر على توقفهما معه في مقره في أورشليم. بينما حضر سمعان عند الهيكل, أمضى يسوع الكثير من وقته يتحدث عن شؤون العالَم مع هذا الرجل المثقف جيداً والمسافر كثيراً. كان هذا التاجر يمتلك أكثر من أربعة آلاف قافلة جمال؛ كان له مصالح في كل أنحاء العالَم الروماني وكان الآن في طريقه إلى روما. اقترح بأن يأتي يسوع إلى دمشق للدخول في مصلحته من الاستيراد من المشرق, لكن يسوع أوضح أنه لم يشعر بمبرر للذهاب بعيداً عن عائلته في ذلك الوقت. لكن في طريق عودته إلى المنزل فَكَر كثيراً في هذه المُدن البعيدة والبلدان الأكثر بعداً في الغرب الأقصى والشرق الأقصى, بلدان كان قد سمع عنها مراراً من ركاب القوافل ومرشديها.
128:3.4 (1411.4) استمتع سمعان كثيراً بزيارته إلى أورشليم. تم قبوله حسب الأصول في رابطة إسرائيل عند تكريس الفصح للأبناء الجدد للوصايا. بينما حضر سمعان احتفالات الفصح, اختلط يسوع بحشود الزوار وشارك في العديد من المؤتمرات الشخصية المثيرة للإهتمام مع عدة مهتدين أمميين.
128:3.5 (1411.5) لعل أبرز هذه الاتصالات كان مع يوناني شاب اسمه ستيفانوس. كان هذا الشاب في أول زيارة له إلى أورشليم وصادف أن يلتقي بيسوع عصر الخميس في أسبوع الفصح. بينما كانا يتجولان يشاهدان القصر الأمصوني, بدأ يسوع المحادثة العرضية التي أسفرت عن اهتمامهما ببعضهما البعض, والتي أدَّت إلى مناقشة استمرت أربع ساعات حول طريقة الحياة وعن الله الحقيقي وعبادته. كان ستيفانوس متأثراً جداً بما قاله يسوع؛ لم ينسى كلماته قط.
128:3.6 (1411.6) وهذا كان ستيفانوس نفسه الذي أصبح فيما بعد مؤمناً بتعاليم يسوع, والذي أدت جرأته في وعظ هذا الإنجيل الباكر إلى رجمه حتى الموت على يد يهود غاضبين. بعض من جرأة ستيفانوس الاستثنائية في إعلان وجهة نظره عن الإنجيل الجديد كانت النتيجة المباشرة لهذه المقابلة الأبكر مع يسوع. لكن ستيفانوس لم يخطر بباله أبداً أن الجليلي الذي تحدث معه منذ خمسة عشر عاماً كان نفس الشخص الذي أعلن لاحقًا أنه مُخَلِص العالَم, والذي كان قريباً جداً ليموت من أجله, بهذا أصبح الشهيد الأول للإيمان المسيحي الناشئ حديثاً. عندما أعطى ستيفانوس حياته ثمناً لهجومه على الهيكل اليهودي وممارساته التقليدية, وقف هناك واحد اسمه شاول, مواطن من طرسوس. وعندما رأى شاول كيف يمكن أن يموت هذا الإغريقي من أجل إيمانه, هناك استيقظت في قلبه تلك المشاعر التي قادته في النهاية لاعتناق القضية التي مات من أجلها ستيفانوس؛ فيما بعد أصبح بولس العدواني والذي لا يُقهر, الفيلسوف, إن لم يكن المؤسس الوحيد, للدِين المسيحي.
128:3.7 (1412.1) في يوم الأحد بعد أسبوع الفصح بدأ سمعان ويسوع في طريق عودتهما إلى الناصرة. لم ينسى سمعان ابداً ما علـَّمه إياه يسوع في هذه الرحلة. دائماً أحب يسوع, لكنه الآن شعر بأنه قد بدأ يعرف أبيه-أخيه. كانت لديهما أحاديث كثيرة من القلب للقلب أثناء سفرهما عبر البلاد وإعداد طعامهما على جانب الطريق. وصلا البيت ظهر الخميس, وأبقى سمعان العائلة مستيقظة متأخراً تلك الليلة يروي تجاربه.
128:3.8 (1412.2) كانت مريم منزعجة كثيراً من تقرير سمعان بأن يسوع أمضى معظم الوقت عندما في أورشليم "يزور مع الغرباء, خاصة أولئك من البلدان البعيدة". لم تتمكن عائلة يسوع أبداً من فهم اهتمامه الكبير بالناس, والرغبة في الزيارة معهم, والتعرف على طريقة عيشهم, ومعرفة بماذا يفكرون.
128:3.9 (1412.3) أكثر فأكثر أصبحت العائلة الناصرية منشغلة بمشاكلها الآنية والإنسانية؛ لم يرد كثيراً ذكر مهمة يسوع المستقبلية , ونادراً ما تكلم بنفسه عن مهمته المستقبلية. نادراً ما فَكَرَت أمه في كونه طفل الوعد. كانت تتخلى ببطء عن فكرة أن يسوع كان سينجز أي مهمة إلَهية على الأرض, مع ذلك في بعض الأحيان, كان إيمانها يتجدد عندما تتوقف لتتذكر زيارة جبرائيل قبل مولد الطفل.
128:4.1 (1412.4) الأشهر الأربعة الأخيرة من هذا العام قضاها يسوع في دمشق كضيف للتاجر الذي التقى به في فيلادلفيا عندما كان في طريقه إلى أورشليم. كان ممثل عن هذا التاجر قد طلب يسوع أثناء مروره في الناصرة ورافقه إلى دمشق. اقترح هذا التاجر اليهودي-جزئياً تخصيص مبلغ استثنائي من المال لإنشاء مدرسة للفلسفة الدينية في دمشق. خَطَطَ لإنشاء مركز تعليمي سيضاهي الإسكندرية. واقترح بأن يبدأ يسوع على الفور جولة طويلة حول مراكز العالَم التعليمية استعداداً ليصبح رئيساً لهذا المشروع الجديد. كانت هذه إحدى أعظم الإغراءات التي واجهها يسوع في مسار مهمته الإنسانية البحتة.
128:4.2 (1412.5) في الوقت الحاضر أحضر هذا التاجر أمام يسوع جماعة من اثني عشر تاجراً وأصحاب بنوك الذين وافقوا على دعم هذه المدرسة المخطط لها حديثًا. أظهر يسوع اهتماماً عميقاً بالمدرسة المقترحة, وساعدهم في التخطيط لتنظيمها, لكن دائماً معرباً عن الخوف بأن التزاماته الأخرى وغير المعلنة ولكن السابقة من شأنها أن تمنعه من قبول إدارة مثل هذا المشروع الطموحِ. كان الذي سيُنعم إليه مُصِّراً, ووظف بشكل مربح يسوع في منزله ليقوم ببعض الترجمات بينما هو, وزوجته, وأبنائه وبناته سعوا لإقناع يسوع بأن يقبل الشرف المعروض. لكنه لن يوافق. كان يعلم جيداً بأن مهمته على الأرض لم تكن لتكون مدعومة بمؤسسات تعليم؛ عرف بأنه يجب أن لا يُلزم نفسه على الأقل بأن يكون موَّجهاً "بشورى الناس", مهما كانت حسنة النية.
128:4.3 (1412.6) هو الذي رُفض من قِبل قادة أورشليم الدِينيين, حتى بعد أن أظهر قيادته, تم الإعتراف به وأشيد به كمعلم خبير من قِبل رجال الأعمال وأصحاب البنوك في دمشق, وكل هذا عندما كان نجاراً غامضاً وغير معروف في الناصرة.
128:4.4 (1412.7) لم يتحدث أبداً عن هذا العرض لعائلته, ونهاية هذا العام وجدته عائداً في الناصرة يتولى مهامه اليومية تماماً كما لو أنه لم يُجَرَب أبداً بالعروض المغرية من أصدقائه الدمشقيين. ولا هؤلاء الناس من دمشق ربطوا أبداً مواطن كفرناحوم الذي قَلَبَ العالَم اليهودي رأساً على عقب فيما بعد مع نجار الناصرة السابق الذي تجرأ على رفض الشرف الذي كان من الممكن أن تحصل عليه ثروتهم المتراكمة.
128:4.5 (1413.1) بمنتهى البراعة وعمداً سعى يسوع إلى فصل أحداث متنوعة من حياته بحيث لم تصبح أبداً, في نظر العالَم, مرتبطة معاً كأفعال فرد واحد. في كثير من الأحيان في السنوات اللاحقة استمع إلى رواية هذه القصة بالذات عن الجليلي الغريب الذي رفض فرصة تأسيس مدرسة في دمشق لتنافس الإسكندرية.
128:4.6 (1413.2) كان هدف واحد يدور في ذهن يسوع, عندما سعى لفصل سمات معينة من تجربته الأرضية, هو منع تراكم مثل هذه المهمة المتنوعة والرائعة التي من شأنها أن تسبب للأجيال اللاحقة أن تبجل المعلم بدلاً من طاعة الحقيقة التي عاشها وعلـَّمها . لم يرغب يسوع في بناء مثل هذا السجل البشري للإنجازات بحيث يجذب الانتباه من تعليمه. في وقت مبكر جداً أدرك أن أتباعه قد يميلون إلى صياغة دِين عنه قد يصبح منافساً لإنجيل الملكوت الذي قصد إعلانه إلى العالَم. بناء على ذلك, سعى بثبات لإخفاء كل شيء, خلال مهمته الزاخرة بالأحداث مما اعتقد انه قد يستخدم لخدمة هذا المَيل البشري الطبيعي لتمجيد المعلم بدلاً من إعلان تعاليمه.
128:4.7 (1413.3) هذا الدافع ذاته يفـسر أيضاً لماذا سمح لنفسه بأن يُعرف بألقاب مختلفة خلال فترات مختلفة من حياته المتنوعة على الأرض. مرة أخرى, لم يرغب في إحضار أي تأثير لا مبرر له لتكابده عائلته أو آخرين الذي قد يدفعهم للإيمان به ضد قناعاتهم الصادقة. لقد رفض دائمًا استغلال العقل البشري بشكل لا مبرر له أو غير عادل. لم يكن يريد أن يؤمن به الناس إلا إذا كانت قلوبهم متجاوبة مع الحقائق الروحية المكشوفة في تعاليمه.
128:4.8 (1413.4) بحلول نهاية هذا العام كان منزل الناصرة يسير بسلاسة إلى حد ما. كان الأولاد يكبرون, وأصبحت مريم معتادة على أن يكون يسوع بعيداً عن البيت. استمر في تحويل مكاسبه ليعقوب من أجل دعم العائلة, محتفظاً بجزء صغير فقط من أجل نفقاته الشخصية المباشرة.
128:4.9 (1413.5) بمرور السنين, أصبح من الأصعب إدراك أن هذا الرجل كان ابن الله على الأرض. بدأ ليصبح تماماً مثل فرد من الحيز, مجرد رجل آخر بين الرجال. وكان مُعَّيَناً بالأب في السماء بأن الإغداق يجب أن يتكشف بهذه الطريقة بالذات.
128:5.1 (1413.6) كان هذا عام يسوع الأول من التحرر النسبي من مسؤولية العائلة. كان يعقوب ناجحاً جداً في إدارة البيت بمساعدة يسوع في الشورى والأمور المالية.
128:5.2 (1413.7) في الأسبوع الذي تلا فصح هذه السنة, نزل شاب من الإسكندرية إلى الناصرة ليرتب اجتماعاً, في وقت لاحق من السنة, بين يسوع وجماعة من يهود الإسكندرية في وقت ما على الساحل الفلسطيني. كان هذا المؤتمر من أجل منتصف حزيران, وذهب يسوع إلى قيصرية للقاء خمسة من يهود الإسكندرية البارزين, الذين طلبوا منه أن يؤسس نفسه في مدينتهم كمعلم دِيني, مقَدِمين كحافز للبدء, منصب مساعد الشازان في كنيسهم الرئيسي.
128:5.3 (1414.1) شرح المتحدثون باسم هذه اللجنة ليسوع بأن الإسكندرية كانت مقدَّرة لتصبح مقر الحضارة اليهودية للعالَم أجمع؛ بأن التيار الهلنستي للشؤون اليهودية قد تفوق عملياً على مدرسة الفكر البابلية. ذكّروا يسوع بالدوي المشؤوم للثورة في أورشليم وفي كل أنحاء فلسطين وأكدوا له بأن أي ثورة لليهود الفلسطينيين ستكون بمثابة انتحار قومي, وبأن يد روما الحديدية ستسحق التمرد في غضون ثلاثة أشهر, وبأن أورشليم سوف تُدمر والهيكل يُهدم, بحيث لا حجر سيُترك على آخر.
128:5.4 (1414.2) استمع يسوع إلى كل ما قالوه, شاكراً إياهم على ثقتهم, وفي رفض الذهاب إلى الإسكندرية, من حيث الجوهر قال, "لم تأت ساعتي بعد". كانوا متحيرين بعدم اكتراثه الواضح بالشرف الذي كانوا يسعون إلى منحه له. قبل استئذانهم يسوع في الإنصراف, قدَّموا له محفظة تقديراً لاحترام أصدقائه الإسكندريين وتعويضاً عن الوقت والنفقات للمجيء إلى قيصرية للتشاور معهم. لكنه بالمثل رفض المال, قائلاً: "إن بيت يوسف لم يتلقى صدقات قط, ولا يمكننا أن نأكل خبز غيرنا ما دام لدي ذراعين قويين وإخوتي يمكنهم العمل".
128:5.5 (1414.3) أبحر أصدقاؤه من مصر عائدين إلى الوطن, وفي السنوات اللاحقة, عندما سمعوا شائعات عن باني القوارب من كفرناحوم الذي تسبب في مثل هذا الهرج في فلسطين, ظن القليل منهم بأنه كان طفل بيت-لحم الذي كبر ونفس الجليلي الغريب التصرف الذي رفض بدون تكلف الدعوة ليصبح معلماً عظيماً في الإسكندرية.
128:5.6 (1414.4) عاد يسوع إلى الناصرة. كانت الفترة المتبقية من هذا العام هي الأشهر الستة الأكثر ركوداً من كل مهمته. لقد تمتع بهذه الراحة المؤقتة من البرنامج المعتاد من مشاكل لتـُحَل وصعوبات للتغلب عليها. تواصل كثيراً مع أبيه في السماء وأحرز تقدماً هائلاً في التمكن من عقله البشري.
128:5.7 (1414.5) لكن الشؤون الإنسانية على عوالم الزمان والفضاء لا تسير بسلاسة لمدة طويلة. في كانون الأول كان ليعقوب حديث خاص مع يسوع, مُوضحاً بأنه كان مغرمًا بإستا, شابة من الناصرة, وأن بودهما الزواج في وقت ما إذا أمكن الترتيب لذلك. لفت الانتباه إلى حقيقة أن يوسف سيبلغ عما قريب ثمانية عشر عاماً, وأنه ستكون تجربة جيدة له أن يكون لديه فرصة ليخدم كرئيس للعائلة. وافق يسوع على زواج يعقوب بعد ذلك بسنتين, شرط أنه, في أثناء الفترة المتداخلة, سوف يدرب يوسف بشكل مناسب لتولى إدارة البيت.
128:5.8 (1414.6) والآن بدأت الأمور تحدث ــ كان الزواج في الأجواء. نجاح يعقوب في كسب موافقة يسوع على زواجه شجع مريام للاقتراب من أخيها-أبيها بخططها. يعقوب, الحجار الأصغر, البطل المعين-بالذات في أحد الأوقات ليسوع, الآن شريك عمل ليعقوب ويوسف, كان قد سعى منذ فترة طويلة لكسب يد مريام في الزواج. بعد أن وضعت مريام خططها أمام يسوع, وجَّه بأن يعقوب يجب أن يأتي إليه لتقديم طلب رسمي من أجلها ووعد بمباركته للزواج حالما تشعر بأن مارثا كانت مؤهلة لتولي واجباتها كابنة كبرى.
128:5.9 (1414.7) عندما في المنزل, استمر في تعليم المدرسة المسائية ثلاث مرات في الأسبوع, قارئاً الكتابات المقدسة غالباً في الكنيس عند السبت, وزائراً مع أُمه, ومعلماً الأولاد, وفي العموم متصرفاً كمواطن جدير ومُحترَم من الناصرة في رابطة إسرائيل.
128:6.1 (1415.1) بدأ هذا العام مع العائلة الناصرية كلهم في صحة جيدة وشهد انتهاء التعليم النظامي لكل الأولاد باستثناء عمل معين يجب على مارثا القيام به من أجل راعوث.
128:6.2 (1415.2) كان يسوع أحد عينات الرجولة الأكثر عافية ولباقةً لتظهر على الأرض منذ أيام آدم. كان نموه البدني رائعاً. كان عقله نشيطاً, وفطناً, ونافذاً ــ مقارنة بالعقلية المتوسطة لدى معاصريه. لقد طور نِسَباً هائلة ــ وكانت روحه حقاً إلَهية إنسانياً.
128:6.3 (1415.3) كان وضع العائلة المالي في أفضل حال منذ اختفاء عقارات يوسف. تم سداد المدفوعات النهائية على دكان تصليح القوافل؛ لم يكونوا مدينين لأي إنسان وللمرة الأولى منذ سنوات كان لديهم بعض المدخرات. هذا كائن صحيح, وحيث أنه كان قد أخذ إخوته الآخرين إلى أورشليم من أجل احتفالات فصحهم الأول, قرر يسوع أن يصطحب يهوذا (الذي كان قد تخَّرج للتو من مدرسة الكنيس) في زيارته الأولى إلى الهيكل.
128:6.4 (1415.4) صعدا إلى أورشليم وعادا في نفس الطريق, وادي الأردن, حيث كان يسوع يخشى المتاعب إذا أخذ أخيه الصغير عبر السامرة. سابقاً دخل يهوذا في مشاكل طفيفة عدة مرات في الناصرة بسبب تصرفه المتسرع, إلى جانب مشاعره الوطنية القومية.
128:6.5 (1415.5) وصلا إلى أورشليم في الوقت المناسب وكانا في طريقهما للزيارة الأولى للهيكل, ذات المشهد الذي أثار وهز مشاعر يهوذا إلى أعماق نفسه, عندما صادف أن التقوا مع لِعازر من بيت-عنيا. بينما تحدث يسوع مع لِعازر وسعى لترتيب احتفالهم المشترك بعيد الفصح, تسبب يهوذا بمشكلة حقيقية لهم جميعاً. عن قُرب وقف حارس روماني الذي أدلى ببعض الملاحظات غير اللائقة بشأن فتاة يهودية كانت تمر. اهتاج يهوذا بسخط ناري ولم يكن بطيئاً في التعبير عن استيائه من مثل هذا السلوك غير اللائق مباشرة إلى الجندي وضمن سماعه. الآن كان العسكر الروماني حساسين جداً لأي شيء يحد على عدم احترام اليهود؛ بحيث ألقى الحارس القبض في الحال على يهوذا. كان هذا كثيراً جداً للوطني الشاب, وقبل أن يتمكن يسوع من إنذاره بنظرة تحذير, كان قد تخلص من تنديد ذلق اللسان من المشاعر المكبوتة المعادية للرومان, كل ما زاد الأمر سوءًا. يهوذا, مع يسوع إلى جانبه, أُخذ على الفور إلى السجن العسكري.
128:6.6 (1415.6) سعى يسوع للحصول على جلسة استماع فورية ليهوذا أو إطلاق سراحه في الوقت المناسب للاحتفال بعيد الفصح في ذلك المساء, لكنه فشل في هذه المحاولات. حيث إن اليوم التالي كان "اجتماعاً مقدساً" في أورشليم, حتى الرومان لم يسمحوا بسماع شكاوى ضد يهودي. بناء على ذلك, بقي يهوذا في الحبس حتى صباح اليوم الثاني بعد إلقاء القبض عليه, ومكث يسوع في السجن معه. لم يكونا حاضرين في الهيكل عند حفل استلام أبناء الشريعة في المواطنة الكاملة لإسرائيل. لم يمر يهوذا خلال هذا الاحتفال الرسمي لعدة سنوات, حتى كان تالياً في أورشليم عند الفصح وفي علاقة مع عمله الدعائي لمصلحة المتعصبين, التنظيم الوطني الذي انتمى إليه وكان فيه نشطاً للغاية.
128:6.7 (1415.7) الصباح التالي ليومهم الثاني في السجن ظهر يسوع أمام القاضي العسكري نيابة عن يهوذا. بتقديم اعتذارات لفتوة شقيقه وبإفادة إضافية لكن حكيمة بالإشارة إلى الطبيعة المستفزة للحادثة التي أدَّت إلى إلقاء القبض على أخيه, تعامل يسوع مع القضية بحيث أعرب القاضي عن وجهة نظره بأن اليهودي الشاب ربما كان لديه بعض العذر لثورته العنيفة. بعد تحذير يهوذا بألا يسمح لنفسه مرة أخرى أن يكون مذنباً في مثل هذا التسرع, قال ليسوع عند إخلاء سبيلهما: "من الأفضل أن تحفظ عينك على الفتى, إنه عرضة لإثارة الكثير من المشاكل لكم جميعًا". وقد قال القاضي الروماني الحق. تسبب يهوذا بمشاكل كبيرة ليسوع, ودائماً كانت المشكلة من نفس الطبيعة ــ اصطدامات مع السلطات المدنية بسبب اندفاعاته الوطنية الطائشة وغير الحكيمة.
128:6.8 (1416.1) مشى يسوع ويهوذا إلى بيت-عنيا من أجل الليل, موضحين سبب إخفاقهما في الحفاظ على موعدهما لعشاء الفصح, وانطلقا إلى الناصرة في اليوم التالي. لم يخبر يسوع العائلة عن إلقاء القبض على شقيقه الصغير في أورشليم, لكن كان لديه حديث طويل مع يهوذا حول هذه الحادثة بعد حوالي ثلاثة أسابيع من عودتهما. بعد هذا الحديث مع يسوع, يهوذا نفسه أخبر العائلة. لم ينسى أبداً الصبر والرفق الذي أبداه أخوه-أبوه طوال هذه التجربة الشاقة.
128:6.9 (1416.2) كان هذا آخر فصح حضره يسوع مع أي فرد من أفراد عائلته. كان لابن الإنسان أن ينفصل على نحو متزايد عن الإرتباط الوثيق بلحمه ودمه.
128:6.10 (1416.3) هذا العام كانت فصوله من التأمل العميق كثيراً ما تُقاطَع بشقيقته راعوث ورفاقها في اللعب. ودائماً كان يسوع على استعداد لتأجيل التفكير في عمله المستقبلي من أجل العالَم والكون بحيث قد يشارك في المرح الطفولي والابتهاج الشبابي لهؤلاء الصغار, الذين لم يملوا الاستماع إلى يسوع يروي تجارب رحلاته المتنوعة إلى أورشليم. كما استمتعوا كثيراً بقصصه عن الحيوانات والطبيعة.
128:6.11 (1416.4) كان الأولاد دائماً موضع ترحيب عند دكان التصليح. زود يسوع الرمل, وقطع الخشب, والحجارة بجانب الدكان, وتوافدت أسراب الصغار هناك للترفيه عن أنفسهم. عندما تعبوا من لعبهم, كان الأكثر جرأة منهم يتسللون خلسة نحو الدكان, وإذا لم يكن صاحب الدكان مشغولاً, كانوا يتشجعون على الدخول والقول, "عم يشوع, تعال خارجاً واحكي لنا قصة كبيرة". ثم كانوا يقودونه خارجاً بجر يديه حتى يجلس على صخرته المفضلة عند زاوية الدكان, مع الأولاد على الأرض في نصف دائرة أمامه. وكم تمتع القوم الصغار بعمهم يشوع. كانوا يتعلمون أن يضحكوا, ويضحكون من كل قلوبهم. لقد كان من المعتاد أن يتسلق واحد أو اثنين من الأطفال الأصغر على ركبتيه والجلوس هناك, متطلعين في دهشة إلى ملامحه التعبيرية بينما يروي قصصه. أحب الأطفال يسوع, ويسوع أحب الأطفال.
128:6.12 (1416.5) كان من الصعب على أصدقائه أن يفهموا مدى نشاطاته الفكرية, كيف أمكنه فجأة وبصورة تامة أن يتحول من المناقشات العميقة في السياسة, أو الفلسفة, أو الدِين إلى اللعب الخفيف القلب والمرح لهؤلاء الصغار الذين أعمارهم من خمس إلى عشر سنوات. بينما كبر إخوته وأخواته, بينما اكتسب المزيد من الوقت للراحة, وقبل وصول الأحفاد, أولى اهتماماً كبيراً بهؤلاء الصغار. لكنه لم يعش طويلاً بما يكفي على الأرض ليستمتع كثيراً بالأحفاد.
128:7.1 (1416.6) مع بداية هذا العام, أصبح يسوع الناصري واعياً بقوة بأنه يملك مدى واسع من القدرة الكامنة. لكنه كان كذلك على قناعة تامة بأن هذه القدرة لم تكن لتوَظَف بشخصيته بصفته إبن الإنسان, على الأقل ليس حتى تأتي ساعته.
128:7.2 (1417.1) بهذا الوقت فَكَرَ الكثير لكنه قال القليل عن علاقته بأبيه في السماء. وخلاصة كل هذا التفكير تم التعبير عنه مرة في صلاته على قمة التل, عندما قال: "بغض النظر عمن أنا وأي قدرة يمكن أو لا يمكن أن أمارسها, فقد كنت دائماً, وسأظل دائماً, خاضعاً لمشيئة أبي الفردوسي". ومع ذلك, عندما مشى هذا الرجل حول الناصرة إلى ومن عمله, لقد كان حرفياً صحيح ــ بما يتعلق بكون شاسع ــ بأن "فيه كانت مخبأة كل كنوز الحكمة والمعرفة".
128:7.3 (1417.2) طوال هذا العام سارت شؤون العائلة بسلاسة ما عدا ليهوذا. لسنوات واجه يعقوب مشاكل مع شقيقه الأصغر, الذي لم يكن ميالاً للاستقرار في العمل ولم يكن يُعتمد عليه من أجل حصته في مصاريف البيت. بينما كان يعيش في المنزل, لم يكن واعي الذمة بشأن كسب نصيبه من إعالة الأسرة.
128:7.4 (1417.3) كان يسوع رَجلَ سلام, ومن وقت لآخر كان دائماً يشعر بالحرج من مآثر جود القتالية وبفوراناته الوطنية العديدة. كان يعقوب ويوسف يؤيدان طرده, لكن يسوع لم يوافق. عندما كان صبرهم يُمتحَن بشدة, كان يسوع ينصح فقط: "كونوا صبورين, كونوا حكماء في الشورى وبليغين في حياتكم, بحيث قد يعرف أخوكم الصغير أولاً الطريق الأفضل وبعدئذٍ يُضطر لاتباعكم فيه". حالت مشورة يسوع الحكيمة والمحبة دون انقسام العائلة؛ بقوا معاً. لكن يهوذا لم يتم إحضاره أبداً إلى رشده الرصين إلا بعد زواجه.
128:7.5 (1417.4) قلما تحدثت مريم عن مهمة يسوع المستقبلية. كلما تمت الإشارة إلى هذا الموضوع, أجاب يسوع فقط, "لم تأت ساعتي بعد". كان يسوع على وشك الانتهاء من المهمة الصعبة المتمثلة في فطام عائلته من الاعتماد على الحضور المباشر لشخصيته. كان يستعد بسرعة لليوم عندما يمكنه بثبات ترك هذا البيت الناصري ليبدأ التمهيد الأكثر نشاطاً لإسعافه الحقيقي من أجل الناس.
128:7.6 (1417.5) لا تغفل أبداً عن حقيقة أن المهمة الأولية ليسوع في إغداقه السابع كانت اكتساب خبرة المخلوق, وتحقيق سيادة نِبادون. وفي تجميع هذه الخبرة بالذات قام بالكشف السامي لأب الفردوس إلى يورانشيا وإلى كونه المحلي بأكمله. عرضياً لهذه الأهداف كذلك أخذ على عاتقه فك تشابك الشؤون المعقدة لهذا الكوكب كما كانت متعلقة بتمرد لوسيفر.
128:7.7 (1417.6) تمتع يسوع هذا العام بوقت فراغ أكثر من المعتاد, كرس الكثير من الوقت لتدريب يعقوب في إدارة دكان التصليح ويوسف في إدارة شؤون البيت. أحست مريم بأنه كان يستعد لتركهم. يتركهم ليذهب إلى أين؟ ليفعل ماذا؟ كانت على وشك التخلي عن فكرة أن يسوع هو المسيح. لم تستطع فهمه؛ ببساطة لم تتمكن من سبر غور ابنها البكر.
128:7.8 (1417.7) أمضى يسوع مقداراً كبيراً من الوقت هذا العام مع أفراد عائلته. كان يأخذهم في نزهات طويلة ومتكررة أعلى التل وعبر الريف. قبل الحصاد أخذ يهوذا إلى الخال المزارع جنوب الناصرة لكن يهوذا لم يمكث طويلاً بعد الحصاد. هرب, ووجده سمعان فيما بعد مع الصيادين عند البحيرة. عندما أعاده سمعان إلى البيت, تحدث يسوع مع الفتى الهارب, وبما أنه أراد أن يكون صياد أسماك, ذهب معه إلى مجدلا ووضعه في رعاية أحد الأقارب, صياد سمك؛ وعمل يهوذا بشكل جيد ومنتظم منذ ذلك الوقت وصاعداً حتى زواجه, واستمر في العمل كصياد سمك بعد زواجه.
128:7.9 (1418.1) أخيراً جاء الوقت الذي اختار فيه جميع إخوة يسوع عمل حياتهم, واستقروا فيه. وُضعت الآن المرحلة من أجل رحيل يسوع من البيت.
128:7.10 (1418.2) في شهر تشرين الثاني حدث زواج مزدوج. تزوج يعقوب وإستا, ومريام ويعقوب. كانت حقاً مناسبة مفرحة. حتى مريم كانت مرة أخرى سعيدة إلا كل حين وآخر عندما أدركت بأن يسوع كان يستعد للرحيل. لقد عانت تحت وطأة عدم اليقين الكبير: لو كان يسوع سيجلس فقط ويتحدث معها بحرية حول تلك الأمور كما كان يفعل عندما كان صبياً, لكنه كان بثبات غير ممكن التحادث معه؛ كان صامتاً للغاية بشأن المستقبل.
128:7.11 (1418.3) انتقل يعقوب وعروسه, إستا, إلى بيت صغير أنيق على الجانب الغربي من البلدة, هدية من والدها. بينما واصل يعقوب دعمه لمنزل والدته, تم تخفيض حصته إلى النصف بسبب زواجه, وتم تثبيت يوسف رسمياً من قِبل يسوع كرئيس للعائلة. كان يهوذا يرسل الآن بأمانة شديدة حصته من نفقات البيت كل شهر. كان لزواج يعقوب ومريام تأثيراً نافعاً للغاية على يهوذا, وعندما غادر إلى أراضي صيد السمك, في اليوم التالي لحفل الزفاف المزدوج, أكد ليوسف بأنه يمكنه الاعتماد عليه "للقيام بواجبي الكامل, وأكثر إذا احتاج الأمر". وقد أوفى بوعده.
128:7.12 (1418.4) سكنت مريام بجوار مريم في بيت يعقوب, وكان يعقوب الأكبر قد وضع للراحة مع آبائه. أخذت مارثا مكان مريام في المنزل, وكان التنظيم الجديد يسير بسلاسة قبل نهاية العام.
128:7.13 (1418.5) في اليوم التالي لهذا الزواج المزدوج عقد يسوع مؤتمراً هاماً مع يعقوب. أخبر يعقوب, سِراً, بأنه يستعد لمغادرة المنزل. قدم وثيقة امتلاك كاملة لدكان التصليح إلى يعقوب, تنازل رسمي وحازم كرئيس لبيت يوسف, وبشكل مؤثر للغاية أقام شقيقه يعقوب "كرئيس وحامي منزل والدي". هو نص, وكِلاهما وقـَّعا, اتفاقاً سرياً نص على أنه, في مقابل هدية دكان التصليح, يتحمل يعقوب منذ الآن وصاعداً المسؤولية المالية الكاملة من أجل العائلة, بهذا مطلقاً سراح يسوع من كل التزامات إضافية في هذه الأمور. بعد توقيع العقد, بعد أن تم ترتيب الميزانية بحيث يتم تغطية النفقات الفعلية للعائلة دون أي مساهمة من يسوع, قال يسوع ليعقوب: "لكن يا بني, سأستمر في إرسال بعض الشيء لك كل شهر إلى ان تأتي ساعتي, لكن ما أُرسله لك يجب أن تستخدمه حسب مقتضيات المناسبة. استعمل أموالي لضروريات أو مسرات العائلة كما ترى لائقاً. استخدمها في حالة المرض أو استعملها لمواجهة حالات الطوارئ غير المتوقعة التي قد تحِل بأي فرد من أفراد الأسرة".
128:7.14 (1418.6) وهكذا استعد يسوع للدخول في المرحلة الثانية والمنفصلة- عن المنزل لحياته البالغة قبل الدخول العام على شغل أبيه.
كِتاب يورانشيا
ورقة 129
129:0.1 (1419.1) كان يسوع قد انفصل تمامًا وأخيراً عن إدارة الشؤون الداخلية للعائلة الناصرية وعن التوجيه المباشر لأفرادها. لقد استمر, حتى حادثة معموديته, بالمساهمة في الشؤون المالية للعائلة والاهتمام الشخصي الدقيق بالرفاهية الروحية لكل واحد من إخوته وأخواته. وكان دائماً مستعداً لفعل كل ما هو ممكن إنسانياً لأجل راحة وسعادة أُمه الأرملة.
129:0.2 (1419.2) كان ابن الإنسان قد قام الآن بكل تحضير ممكن للانفصال بشكل دائم من البيت الناصري؛ ولم يكن ذلك سهلاً عليه, لقد أحب يسوع قومه بطبيعة الحال؛ أحب عائلته, وقد زيد على هذا الود الطبيعي بتفانية غير العادي لهم. كلما منحنا أنفسنا بشكل أتم لرفاقنا, كلما زاد حبنا لهم؛ وبما أن يسوع أعطى نفسه بالكامل إلى عائلته, فقد أحبهم بود عظيم وحماسي.
129:0.3 (1419.3) استيقظت كل العائلة ببطء على الإدراك بأن يسوع كان يستعد لتركهم. كان حزن الانفصال المتوَقع مخففاً فقط بهذا الأسلوب التدريجي لتهيئتهم لإعلان رحيله المقصود. لأكثر من أربع سنوات لاحظوا أنه كان يخطط لهذا الانفصال الحتمي.
129:1.1 (1419.4) في كانون الثاني من هذا العام, 21 م., في صباح يوم أحد ممطر, استأذن يسوع بشكل غير رسمي من عائلته, موضحاً فقط بأنه ذاهب إلى طبريا وبعدها في زيارة إلى مدن أخرى حول بحر الجليل. وهكذا تركهم, لن يكون مرة أخرى فردًا منتظمًا في تلك الأسرة.
129:1.2 (1419.5) أمضى أسبوعاً واحداً في طبريا, المدينة الجديدة التي كانت لتخلف قريباً صفوريه كعاصمة الجليل؛ وواجد القليل مما يثير اهتمامه, عبر على التوالي خلال مجدلا وبيت-صيدا إلى كفرناحوم, حيث توقف لزيارة صديق والده زَبـِدي. كان أبناء زَبـِدي صيادي أسماك؛ هو نفسه كان صانع قوارب. كان يسوع الناصري خبيراً في التصميم والبناء؛ كان بارعا في العمل بالأخشاب؛ وكان زَبـِدي قد عرَف منذ مدة طويلة بمهارة الحِرفي الناصري. لفترة طويلة كان زَبـِدي يفَكر في صنع قوارب مُحَّسَنة؛ وضع الآن خططه أمام يسوع ودعا النجار الزائر للانضمام إليه في المشروع, وقد وافق يسوع بسهولة.
129:1.3 (1419.6) عمل يسوع مع زَبـِدي أكثر من عام بقليل, لكن خلال تلك الفترة ابتكر أسلوبًا جديدًا للقوارب وأسس طرقاً جديدة تماماً لصناعة القوارب. من خلال تقنية فائقة وأساليب مُحسَّنة بشكل كبير عن طريق تبخير ألواح الخشب, بدأ يسوع وزَبـِدي في بناء قوارب من النوع الفائق للغاية, مركبات كانت أكثر أماناً للإبحار من الأنواع الأقدم. لعدة سنوات كان لدى زَبـِدي الكثير من العمل, حيث أنتج هذه القوارب ذات الطراز الجديد, أكثر مما استطاعت مؤسسته الصغيرة التعامل معه؛ في أقل من خمس سنوات كانت عملياً كل المركبات على البحيرة قد تم بناؤها بمصنع زَبـِدي في كفرناحوم. أصبح يسوع معروفاً جيداً لدى صيادي السمك الجليليين كالمصمم للقوارب الجديدة.
129:1.4 (1420.1) كان زَبـِدي رجلاً ميسور الحال إلى حد ما؛ كانت متاجره لبناء القوارب تقع على البحيرة إلى الجنوب من كفرناحوم, وكان منزله يقع نزولاً على شاطئ البحيرة بالقرب من مقر صيد الأسماك لبيت-صيدا. عاش يسوع في منزل زَبـِدي خلال العام وبقي أكثر في كفرناحوم. كان قد عمل لفترة طويلة بمفرده في العالَم, أي, بدون أب, واستمتع كثيراً بهذه الفترة من العمل مع شريك-أب.
129:1.5 (1420.2) كانت زوجة زَبـِدي, صالومي, نسيبة لآنّاس, رئيس كهنة أورشليم في وقت ما ولا يزال الأكثر نفوذاً في مجموعة الصدوقيين, بعد أن عُزل قبل ثماني سنوات فقط. أصبحت صالومي من كبار المعجبين بيسوع. أحبته كما أحبت أبناءها, يعقوب, ويوحنا, وداود, بينما نظرت بناتها الأربع إلى يسوع باعتباره أخيهن الأكبر. غالبًا ما كان يسوع يخرج لصيد السمك مع يعقوب, ويوحنا, وداود, وعلموا بأنه صياد سمك متمرس كما كان باني قوارب خبير.
129:1.6 (1420.3) طوال هذا العام أرسل يسوع مالاً كل شهر إلى يعقوب. عاد إلى الناصرة في تشرين الأول لحضور زفاف مارثا, ولم يكن مرة أخرى في الناصرة لأكثر من سنتين, عندما عاد قبل وقت قصير من الزواج المزدوج لسمعان ويهوذا.
129:1.7 (1420.4) طوال هذا العام بنى يسوع المراكب واستمر في ملاحظة كيف يعيش الناس على الأرض. كثيراً ما كان ينزل لزيارة محطة القوافل, حيث كانت كفرناحوم على طريق السفر المباشر من دمشق إلى الجنوب. كانت كفرناحوم مركزاً عسكرياً رومانيا قوياً, وكان الضابط قائد الحامية مؤمنًا أمميًا في يهوه, "رجل متعبد", كما اعتاد اليهود تسمية مثل هؤلاء المهتدين حديثاً. انتمى هذا الضابط إلى عائلة رومانية ثرية, وقد أخذ على عاتقه بناء كنيس جميل في كفرناحوم, الذي تم تقديمه لليهود قبل وقت قصير من مجيء يسوع للعيش مع زَبـِدي. أدار يسوع الخدمات في هذا الكنيس الجديد أكثر من نصف الوقت هذه السنة, وبعض من أناس القوافل الذين صادفوا الحضور تذكروه على أنه النجار من الناصرة.
129:1.8 (1420.5) عندما حان وقت دفع الضرائب, سجَّل يسوع نفسه "كحِرفي ماهر من كفرناحوم". من هذا اليوم وحتى نهاية حياته الأرضية عُرف بأنه أحد سكان كفرناحوم. لم يدَّعي أبداً أي مسكن قانوني آخر, رغم أنه, لأسباب مختلفة, سمح للآخرين بأن يحددوا محل إقامته في دمشق, وبيت-عنيا, والناصرة, وحتى الإسكندرية.
129:1.9 (1420.6) في كنيس كفرناحوم وجد العديد من الكتب الجديدة في خزائن المكتبة, وأمضى ما لا يقل عن خمس أمسيات من كل أسبوع في دراسة مكثفة. كرس مساء واحداً للحياة الاجتماعية مع كبار السن ومساء واحداُ أمضاه مع الشباب. كان هناك شيء رباني ومُلهم حول شخصية يسوع الذي جذب الشباب على الدوام. جعلهم دائماً يشعرون بالراحة في وجوده. ربما كان سِره العظيم في الاتفاق معهم يتمثل في الواقع المزدوج بأنه كان دائماً مهتماً بما يفعلونه, بينما قلما عرض عليهم النصيحة ما لم يطلبوها.
129:1.10 (1420.7) كادت عائلة زبدي أن تعبد يسوع, ولم يفشلوا أبداً في حضور مؤتمرات الأسئلة والأجوبة التي أدارها كل مساء بعد العشاء قبل مغادرته إلى الكنيس للدراسة. كذلك جاء الجيران الشبان بشكل متكرر لحضور هذه الإجتماعات بعد العشاء. لهذه التجمعات الصغيرة أعطى يسوع تعليمات متنوعة ومتقدمة, متطورة تماماً بقدر ما أمكنهم الاستيعاب. تحدث معهم بحرية, معبراً عن أفكاره ومُثله حول السياسة, وعلم الاجتماع, والعلوم, والفلسفة, لكن لم يدَّعي أبداً التكلم بمرجعية نهائية إلا عند مناقشة الدِين ــ علاقة الإنسان بالله.
129:1.11 (1421.1) مرة في الأسبوع عقد يسوع اجتماعاً مع جميع أفراد الأسرة, والمتجر, والمساعدين على الشاطئ, لأن زَبـِدي كان لديه العديد من الموظفين. ولقد كان بين هؤلاء العمال حيث دُعي يسوع أولاً "السيد". لقد أحبوه جميعًا. لقد استمتع بأشغاله مع زَبـِدي في كفرناحوم, لكنه افتقد الأولاد يلعبون خارجاً بجانب دكان النجارة في الناصرة.
129:1.12 (1421.2) من أبناء زَبـِدي, كان يعقوب الأكثر اهتماماً بيسوع كمعلم, كفيلسوف. كان يوحنا أكثر اهتمامًا بتعاليمه وآرائه الدِينية. احترمه داود كميكانيكي لكنه أخذ القليل من الرصيد في آرائه الدِينية وتعاليمه الفلسفية.
129:1.13 (1421.3) كان يهوذا يأتي تكراراً على السبت لسماع يسوع يتكلم في الكنيس ويتأخر لزيارته. وكلما رأى يهوذا أخيه الأكبر, ازداد اقتناعاً بأن يسوع كان حقاً رجلاً عظيماً.
129:1.14 (1421.4) حقق يسوع هذا العام تقدمات عظيمة في التمكن المتصاعد من عقله البشري وأحرز مستويات جديدة وعالية من الاتصال الواعي مع ضابط فكره الساكن.
129:1.15 (1421.5) كانت هذه آخر سنة في حياته المستقرة. لم يُمض يسوع أبدًا مرة أخرى سنة كاملة في مكان واحد أو في مهمة واحدة. كانت أيام حجه الأرضي تقترب بسرعة. لم تكن فترات النشاط المكثف بعيدة في المستقبل, لكن كان هناك الآن على وشك التدخل بين حياته البسيطة إنما النشطة بشكل مكثف للماضي وإسعافه العلني الذي لا يزال أكثر كثافة ونشاطاً, سنوات قليلة من السفر المكثف والنشاط الشخصي المتنوع للغاية. كان لا بد من إكمال تدريبه كإنسان من الحيز قبل أن يتمكن من الدخول على مهمته من التعليم والوعظ باعتباره الله-الإنسان المُكمل للأطوار الإلَهية وما بعد البشرية لإغداقه اليورانشي.
129:2.1 (1421.6) في آذار, 22 م., استأذن يسوع زَبـِدي وكفرناحوم. طلب مبلغاً صغيراً من المال لتغطية نفقاته في أورشليم. أثناء عمله مع زَبـِدي لم يكن يسحب سوى مبالغ صغيرة من المال, التي كان يرسلها كل شهر إلى العائلة في الناصرة. كان يوسف ينزل إلى كفرناحوم أحد الأشهر من أجل المال؛ والشهر التالي قد يأتي يهوذا إلى كفرناحوم, ليحصل على المال من يسوع, ويصعد به إلى الناصرة. كان مقر يهوذا لصيد الأسماك على بعد أميال قليلة فقط جنوب كفرناحوم.
129:2.2 (1421.7) عندما استأذن يسوع عائلة زَبـِدي, وافق على البقاء في أورشليم حتى وقت الفصح, وكلهم وعدوه بالحضور من أجل هذا الحدث. حتى انهم رتبوا للإحتفال بعشاء الفصح معاً. لقد حزنوا جميعًا عندما تركهم يسوع, خاصة بنات زَبـِدي.
129:2.3 (1421.8) قبل مغادرة كفرناحوم, كان لدى يسوع حديثاً مطولاً مع صديقه الجديد ورفيقه المقرب, يوحنا زَبـِدي. أخبر يوحنا بأنه يفكر بالسفر على نطاق واسع إلى أن "تأتي ساعتي" وطلب من يوحنا التصرف بدلاً منه في مسألة إرسال بعض المال إلى العائلة في الناصرة كل شهر حتى نفاذ الأموال المستحقة له. وأعطاه يوحنا هذا الوعد: "يا معلمي, اذهب إلى شغلك, قم بعملك في العالَم؛ سأعمل من أجلك في هذا أو أي أمر آخر, وسأعتني بأسرتك حتى كما أرعى أُمي الخاصة وأهتم بهم وكما أهتم بإخوتي وأخواتي. سوف أنفق أموالك التي يحتفظ بها والدي حسب توجيهاتك وكما قد تكون هناك حاجة إليها, وعندما تنفذ أموالك, إذا لم أتلقى منك المزيد, وإذا كانت أوالدتك في حاجة, عندئذٍ سأشارك مكاسبي الخاصة معها. اذهب في طريقك بسلام. سأتصرف عوضاً عنك في كل هذه الأمور".
129:2.4 (1422.1) لذلك, بعد أن رحل يسوع إلى أورشليم, تشاور يوحنا مع والده, زَبـِدي, بخصوص المال المستحق ليسوع, وكان مندهشاً لأنه كان مبلغاً كبيراً. بما أن يسوع ترك الأمر برمته في أيديهم, فقد اتفقا على أنه من الأفضل استثمار هذه الأموال في عقار واستخدام الإيراد لمساعدة الأسرة في الناصرة؛ وبما أن زَبـِدي علم عن بيت صغير في كفرناحوم يحمل رهناً عقارياً وكان معروضًا للبيع, فقد وجَّه يوحنا لشراء هذا البيت بأموال يسوع والإحتفاظ بوثيقة الامتلاك كأمانة من أجل صديقه, وفعل يوحنا كما نصحه والده. لمدة عامين كان يتم دفع إيجار هذا البيت على الرهن, وهذا, بالإضافة إلى مورد كبير معين أرسله يسوع في الحاضر إلى يوحنا لاستخدامه حسب الحاجة من قِبل العائلة, عادل تقريباً مبلغ هذا الالتزام؛ وزود زَبـِدي الفرق, بحيث إن يوحنا دفع ما تبقى من الرهن عندما حان موعد استحقاقه, بهذا مؤَّمناً وثيقة امتلاك واضحة لهذا المنزل المكون من غرفتين. بهذه الطريقة أصبح يسوع مالكاً لمنزل في كفرناحوم, لكن لم يتم إخباره بذلك.
129:2.5 (1422.2) عندما سمعت العائلة في الناصرة بأن يسوع رحل من كفرناحوم, هم, غير عالمين بهذا الترتيب المالي مع يوحنا, اعتقدوا أن الوقت قد حان لهم كي يعيشوا دون أي مساعدة إضافية من يسوع. تذكَّر يعقوب ميثاقه مع يسوع وبمساعدة إخوته, تولى على الفور المسؤولية الكاملة لرعاية الأسرة.
129:2.6 (1422.3) لكن لنعُد لملاحظة يسوع في أورشليم. لما يقرب من شهرين أمضى الجزء الأكبر من وقته في الإستماع إلى مناقشات الهيكل مع زيارات عرَضية إلى مدارس الحاخامات المختلفة. قضى معظم أيام السبت في بيت-عنيا.
129:2.7 (1422.4) حمل يسوع معه إلى أورشليم رسالة من صالومي, زوجة زَبـِدي, تُقَدمه إلى رئيس الكهنة السابق, آنّاس, على أنه "واحد, وذات الشيء مثل ابني الخاص". أمضى آنّاس الكثير من الوقت معه, حيث اصطحبه شخصياً لزيارة الأكاديميات الكثيرة للمعلمين الدِينيين في أورشليم. بينما قام يسوع بتفقد هذه المدارس بدقة وراقب بعناية أساليبها في التعليم, فإنه لم يطرح حتى سؤالًا واحدًا على الملأ أبدًا. مع أن آنّاس كان ينظر إلى يسوع على أنه رجل عظيم, فقد شعر بالحيرة تجاه كيفية إسداء النصح له. أدرك حماقة الاقتراح بأنه يدخل أي من مدارس أورشليم كطالب, ومع ذلك كان يعلم جيداً بأن يسوع لن يُقبل أبداً في منزلة معلم نظامي, نظراً لأنه لم يتدرب في هذه المدارس.
129:2.8 (1422.5) في الوقت الحاضر اقترب وقت الفصح, ومع الجماهير من كل ربع وصل إلى أورشليم من كفرناحوم, زَبـِدي وعائلته بأكملها. توقفوا جميعاً عند منزل آنّاس الفسيح, حيث احتفلوا بالفصح كعائلة سعيدة واحدة.
129:2.9 (1422.6) قبل نهاية أسبوع الفصح هذا, بالصدفة على ما يبدو, التقى يسوع رحالة ثريًا وابنه الشاب في السابعة عشرة من عمره تقريبًا. جاء هذان المسافران من الهند, وكانا في طريقهما لزيارة روما والعديد من النقاط الأخرى على البحر الأبيض المتوسط, وقد رتبا للوصول إلى أورشليم أثناء عيد الفصح, على أمل العثور على شخص يمكن أن يعمل كمترجم لكليهما ومعلم للابن. كان الأب مُصِّراً على أن يوافق يسوع على السفر معهما. أخبره يسوع عن عائلته وبأنه لم يكن من الإنصاف الذهاب بعيداً لمدة عامين تقريبًا, الوقت الذي قد يجدون أنفسهم في حاجة. بناء على ذلك, اقترح هذا المسافر من المشرق ان يدفع مسبقاً ليسوع أجور سنة بحيث يتمكن من تأمين هذه الأموال إلى أصدقائه لحماية عائلته ضد الحاجة. ووافق يسوع على القيام بالرحلة.
129:2.10 (1423.1) سلّم يسوع هذا المبلغ الكبير إلى يوحنا بن زَبـِدي. وقد أُخبرتم بكيفية استخدام يوحنا لهذا المال في تصفية الرهن عن عقار كفرناحوم. وثق يسوع كلياً بزَبـِدي فيما يتعلق برحلة البحر الأبيض المتوسط هذه, لكنه اشترط عليه ألا يخبر أحدًا, ولا حتى من لحمه ودمه الخاص, ولم يفشي زَبـِدي أبدًا عن معرفته بمكان وجود يسوع أثناء هذه الفترة الطويلة التي استمرت عامين تقريبًا. قبل عودة يسوع من هذه الرحلة, كانت العائلة في الناصرة قد قطعت الأمل تقريباً منه كميت. فقط تأكيدات زَبـِدي, الذي صعد إلى الناصرة مع ابنه يوحنا في عدة مناسبات, أبقت الرجاء حياً في قلب مريم.
129:2.11 (1423.2) في أثناء هذا الوقت كانت العائلة الناصرية تتعايش بشكل جيد؛ زاد يهوذا حصته إلى حد كبير واستمر في هذه المساهمة الإضافية حتى تزوج. بالرغم من أنهم كانوا بحاجة إلى القليل من المساعدة, فقد كانت ممارسة يوحنا زَبـِدي أن يأخذ هدايا كل شهر إلى مريم وراعوث, كما أرشده يسوع.
129:3.1 (1423.3) قضى يسوع العام التاسع والعشرون بأكمله في إنهاء الجولة في عالم البحر الأبيض المتوسط. الأحداث الرئيسية, بقدر ما لدينا إذن للكشف عن هذه التجارب, تشكل مواضيع الروايات التي تلي هذه الورقة مباشرة.
129:3.2 (1423.4) طوال هذه الجولة للعالَم الروماني, ولأسباب عديدة, كان يسوع معروفاً بأنه الكاتب الدمشقي. في كورينثوس ومحطات أخرى على رحلة العودة كان, على كل, معروفاً باسم المعلم اليهودي.
129:3.3 (1423.5) كانت هذه فترة حافلة بالأحداث في حياة يسوع. بينما على هذه الرحلة أجرى اتصالات عديدة مع زملائه الناس, لكن هذه التجربة هي مرحلة من حياته لم يكشف عنها أبدًا لأي فرد من عائلته ولا لأي من الرسل. عاش يسوع حياته في الجسد ورَحَل عن هذا العالَم دون أن يعلم أحد (باستثناء زَبـِدي من بيت-صيدا) أنه قد قام بهذه الرحلة الواسعة. ظن بعض أصدقائه أنه عاد إلى دمشق؛ اعتقد آخرون أنه ذهب إلى الهند. مالت عائلته إلى الاعتقاد بأنه كان في الإسكندرية, لأنهم علموا أنه قد تمت دعوته ذات مرة للذهاب إلى هناك بغرض أن يصبح مساعداً للشازان.
129:3.4 (1423.6) عندما عاد يسوع إلى فلسطين, لم يفعل شيئاً لتغيير رأي عائلته بأنه ذهب من أورشليم إلى الإسكندرية؛ سمح لهم بالاستمرار في الاعتقاد بأن كل الوقت الذي كان فيه غائباً عن فلسطين أمضاه في تلك المدينة من التعلم والثقافة. فقط زَبـِدي باني القوارب في بيت-صيدا كان يعرف الحقائق حول هذه الأمور, ولم يخبر زَبـِدي أحداً.
129:3.5 (1423.7) في كل جهودكم لفك رموز معنى حياة يسوع على يورانشيا, يجب أن تدركوا الدافع لإغداق ميخائيل. إذا كنتم ستفهمون معنى الكثير من أفعاله التي تبدو غريبة, يجب أن تفطنوا إلى هدف حلوله على عالَمكم. كان حريصاً دائماً على عدم بناء مهمة شخصية مفرطة في الجاذبية ومستهلكة للانتباه. أراد ألا يجعل التماسات غير عادية أو فوق طاقة زملائه الناس. كان مكرساً لعمل الكشف عن الأب السماوي إلى زملائه البشر وفي الوقت ذاته مكرساً للمهمة السامية المتمثلة في عيش حياته الأرضية الفانية بينما خاضع كلياً لمشيئة الأب الفردوسي نفسه.
129:3.6 (1424.1) سيكون أيضاً من المفيد في تفـهم حياة يسوع على الأرض إذا تذكر جميع الطلاب الفانين لهذا الإغداق الإلَهي بأنه, بينما عاش حياة التجسد هذه على يورانشيا, فقد عاشها من اجل كونه بأكمله. كان هناك شيء خاص ومُلهم مرتبط بالحياة التي عاشها في الجسد ذات الطبيعة الفانية من أجل كل جو مأهول في جميع أنحاء كون نِبادون. وينطبق الشيء نفسه كذلك على كل تلك العوالم التي أصبحت قابلة للسكن منذ الأزمنة الزاخرة بالأحداث لحلوله على يورانشيا. وسيكون كذلك صحيحًا بنفس القدر بالنسبة لجميع العوالم التي قد تصبح مسكونة بمخلوقات مشيئة في كل التاريخ المستقبلي لهذا الكون المحلي.
129:3.7 (1424.2) أثناء وقت ومن خلال تجارب هذه الجولة في العالَم الروماني, أتم ابن الإنسان عملياً تدريبه-على الاتصال التعليمي مع مختلف الشعوب لعالَم يومه وجيله. بحلول وقت عودته إلى الناصرة, من خلال وسيلة تدريب-السفر هذه كان قد تعلم للتو كيف يعيش الإنسان وينحت وجوده على يورانشيا.
129:3.8 (1424.3) كان الهدف الحقيقي لهذه الرحلة حول حوض البحر الأبيض المتوسط هو معرفة الناس. لقد اقترب جداً من مئات البشر في هذه الرحلة. التقى وأحب كل أنواع الناس, الغني والفقير, العالي والمنخفض, الأسود والأبيض, المتعلم وغير المتعلم, المتحضر وغير المتحضر, الحيواني والروحاني, المتدين وغير المتدين, الأخلاقي وغير الأخلاقي.
129:3.9 (1424.4) على هذه الرحلة للبحر الأبيض المتوسط أحرز يسوع تقدماً عظيماً في مهمته البشرية المتمثلة في إتقان العقل المادي والفاني, وضابط فكره الساكن حقق تقدماً عظيماً في الارتقاء والغزو الروحي لهذا العقل البشري نفسه. بنهاية هذه الجولة عرف يسوع فعلياً ــ بكل يقين بشري ــ بأنه ابن الله, ابن خالق من الأب الكوني. أكثر فأكثر استطاع الضابط أن يستحضر في ذهن ابن الإنسان ذكريات غامضة عن تجربته في الفردوس في صِلة مع أبيه الإلَهي قبل أن يأتي لتنظيم وإدارة هذا الكون المحلي نِبادون. هكذا أحضر الضابط, شيئأ فشيئاً إلى وعي يسوع البشري تلك الذكريات الضرورية عن وجوده السابق والإلَهي في حِقب متنوعة من الماضي الأبدي تقريباً. كانت الحلقة الأخيرة من تجربته السابقة للإنسان التي قدمها الضابط هي مؤتمره الوداعي مع عمانوئيل ساﻟﭭينغتون تماماً قبل تسليمه شخصيته الواعية للشروع في تجسد يورانشيا. وصورة هذه الذاكرة الأخيرة لوجود ما قبل الإنسان جُعلت واضحة في وعي يسوع في نفس يوم معموديته بواسطة يوحنا في نهر الأردن.
129:4.1 (1424.5) إلى الذكاءات السماوية المتطلعة للكون المحلي, كانت رحلة البحر الأبيض المتوسط هذه الأكثر إثارة من كل تجارب يسوع الأرضية, على الأقل لكل مهمته حتى حادثة صلبه وموته الفاني. كانت هذه الفترة الرائعة لإسعافه الشخصي في تباين مع الحقبة التي تلت قريبًا إسعافه العام. كانت هذه القصة الفريدة الأكثر إثارة للإهتمام لأنه عند هذا الوقت كان لا يزال نجار الناصرة, وباني قوارب كفرناحوم, والكاتب الدمشقي؛ كان لا يزال ابن الإنسان. لم يكن قد حقق بعد السيادة الكاملة لعقله البشري؛ لم يكن الضابط قد أتقن وماثل كلياً الهوية الفانية. كان لا يزال رجلاً بين الرجال.
129:4.2 (1425.1) كانت التجربة الدينية البشرية المحضة ــ النمو الروحي الشخصي ــ لابن الإنسان قد وصلت تقريباً ذروة الإحراز في أثناء هذا العام التاسع والعشرين. كانت تجربة التطور الروحي هذه نمواً تدريجياً بثبات من لحظة وصول ضابط فكره إلى يوم اكتمال وتأكيد تلك العلاقة الإنسانية الطبيعية والاعتيادية بين العقل المادي للإنسان وهِبة العقل من الروح ــ ظاهرة جعل هذين العقلين واحداً. الخبرة التي أحرزها ابن الإنسان في إتمام ونهائية, باعتباره فانيًا متجسدًا من الحيز, على يوم معموديته في الأردن.
129:4.3 (1425.2) طوال هذه السنوات, بينما لم يبدو أنه منخرط في فصول عديدة للغاية من المشاركة الرسمية مع أبيه في السماء, فقد أتقن طرقًا فعّالة بشكل متزايد للتواصل الشخصي مع حضور الروح الساكن للأب الفردوسي. لقد عاش حياة حقيقية, حياة كاملة, وحياة حقاً اعتيادية, وطبيعية, ومتوسطة في الجسد. إنه يعرف من التجربة الشخصية المعادل لحقيقة كامل مجموع وجوهر معيشة حياة البشر على العوالم المادية للزمان والفضاء.
129:4.4 (1425.3) اختبر ابن الإنسان تلك النطاقات الواسعة من المشاعر الإنسانية التي تتراوح من الفرح الرائع إلى الحزن العميق. هو كان طفلاً فرحاً وكائن ذو روح دعابة نادرة؛ كان بالمثل "رجل أحزان وملم بالأسى". بالمعنى الروحي, عاش الحياة الفانية من القعر إلى القمة, من البداية إلى النهاية. من وجهة النظر المادية, قد يبدو أنه نجا من العيش خلال طرفي التطرف الاجتماعي للوجود البشري, لكن من الناحية الفكرية أصبح على دراية تامة بالتجربة البشرية الكاملة والتامة.
129:4.5 (1425.4) يعرف يسوع عن أفكار ومشاعر, ودوافع وحوافز, البشر التطوريين والصاعدين في العوالم, من الولادة وحتى الموت. لقد عاش الحياة البشرية من بدايات الذاتية الجسدية, والفكرية, والروحية صعوداً خلال الطفولة, والصِبا, والشباب, والبلوغ ــ حتى إلى تجربة الموت البشرية. هو لم يمر فقط بهذه الفترات البشرية المعتادة والمألوفة من التقدم الفكري والروحي, لكنه أيضًا اختبر بشكل كامل تلك المراحل الأعلى والأكثر تقدماً لمصالحة البشري والضابط التي يحرزها قليلون للغاية من بشر يورانشيا. وهكذا اختبر الحياة الكاملة للإنسان الفاني, ليس فقط كما تُعاش على عالَمكم, ولكن أيضًا كما تُعاش على كل العوالم التطورية الأخرى للزمان والفضاء, حتى على الأعلى والأكثر تقدماً من كل العوالم المستقرة في النور والحياة.
129:4.6 (1425.5) مع أن هذه الحياة المثالية التي عاشها في شبه الجسد الفاني ربما لم تنل الموافقة الباتة والكونية لزملائه الفانين, الذين صادف ان يكونوا معاصريه على الأرض, مع ذلك, فإن الحياة التي عاشها يسوع الناصري في الجسد وعلى يورانشيا استلمت قبولاً كاملاً وباتاً من الأب الكوني باعتبارها مؤلفة في آن واحد وفي ذات الوقت, وفي شخصية-حياة واحدة وذاتها, ملء كشف الله الأبدي إلى الإنسان الفاني وتقديم الشخصية البشرية المُكمَلة بما يرضي الخالق اللامتناهي.
129:4.7 (1425.6) وهذا كان هدفه الحقيقي والسامي. لم ينزل ليعيش على يورانشيا كمثال مثالي ومُفـَّصَل لأي طفل أو بالغ, أي رجل أو امرأة, في ذلك العصر أو أي عصر آخر. صحيح أنه, في الواقع, في حياته الممتلئة, والغنية, والجميلة, والنبيلة يمكننا جميعاً إيجاد الكثير مما هو مثالي بشكل رائع, ومُلهم إلَهياً, لكن هذا لأنه عاش حياة بشرية حقيقية وأصلية. لم يعش يسوع حياته على الأرض من أجل أن يضرب مثالاً يُحتذى به لكل البشر. لقد عاش هذه الحياة في الجسد بنفس إسعاف الرحمة بحيث قد تعيشون جميعًا حياتكم على الأرض؛ وكما عاش حياته الفانية في يومه وكما كان, فقد وضع بذلك مثالًا لنا جميعاً لكي نعيش حياتنا في يومنا وكما نحن. قد لا تطمحون إلى أن تعيشوا حياته, لكن يمكنكم أن تعقدوا العزم على أن تعيشوا حياتكم حتى كما, وبنفس الطريقة التي بها, عاش حياته. قد لا يكون يسوع المَثل التقني والمُفصـَّل لجميع البشر الفانين من كل العصور وعلى كل عوالم هذا الكون المحلي, لكنه أزلياً, الإلهام والدليل لجميع حجاج الفردوس من العوالم ذات الارتقاء الأولي صعوداً خلال كون الأكوان واستمراراً خلال هاﭭونا إلى الفردوس. يسوع هو الطريق الجديد والحي من الإنسان إلى الله, من الجزئي إلى المثالي, من الأرضي إلى السماوي, من الزمان إلى الأبدية.
129:4.8 (1426.1) بحلول نهاية العام التاسع والعشرين كان يسوع الناصري قد أنهى فعلياً عيش الحياة المطلوبة من البشر كماكثين في الجسد. لقد جاء إلى الأرض ملء الله ليكون متجلياً للإنسان؛ لقد أصبح الآن قريباً جدًا من كمال الإنسان ينتظر الفرصة ليصبح ظاهراً إلى الله. وقد فعل كل هذا قبل أن يبلغ الثلاثين من العمر.
كِتاب يورانشيا
ورقة 130
130:0.1 (1427.1) استنفذت جولة العالَم الروماني معظم العام الثامن والعشرين وكامل العام التاسع والعشرين من حياة يسوع على الأرض. غادر يسوع والمواطِنَين من الهند ــ كونود وابنه كانيد ــ أورشليم صباح الأحد, 26 نيسان, عام 22 م. قاموا برحلتهم وفقاً لبرنامج محدد, ووَدَّع يسوع الأب والابن في مدينة شاراكس على الخليج الفارسي في اليوم العاشر من شهر كانون الأول من العام التالي 23 م.
130:0.2 (1427.2) ذهبوا من أورشليم إلى قيصرية عن طريق يافا. عند قيصرية استقلوا قارباً إلى الإسكندرية. من الإسكندرية أبحروا إلى لاسي في كريت. من كريت أبحروا إلى قرطاجه, راسين عند القيروان. عند قرطاجه أخذوا قارباً إلى نابولي, متوقفين في مالطا, وسيراكيوس, ومَسينا. من نابولي ذهبوا إلى كابوا, من حيث رحلوا بطريق الأبّيان إلى روما.
130:0.3 (1427.3) بعد مكوثهم في روما ذهبوا بطريق البَر إلى طارينتوم, حيث أبحروا إلى أثينا في اليونان, متوقفين في نيكوبولِس وكورينثوس. ذهبوا من أثينا إلى إفسس عن طريق ترواس. من إفسس أبحروا إلى قبرص, واضعين الشراع عند رودس على الطريق. أمضوا وقتاً طويلاً زائرين ومرتاحين عند قبرص وبعدها أبحروا إلى إنطاكية في سوريا. ارتحلوا من إنطاكية جنوباً إلى صيدا وبعد ذلك ذهبوا إلى دمشق. سافروا من هناك على متن قافلة إلى بلاد ما بين النهرين, عابرين خلال ثابساكوس ولاريصا. أمضوا بعض الوقت في بابل, زائرين أور وأماكن أخرى, وبعد ذلك ذهبوا إلى صوصا. من صوصا سافروا إلى شاراكس, المكان الذي منه غادر كونود وكانيد إلى الهند.
130:0.4 (1427.4) لقد كان أثناء عمله لمدة أربعة أشهر في دمشق حينما التقط يسوع أساسيات اللغة التي تكلم بها كونود وكانيد. بينما عمل هناك الكثير من الوقت على ترجمات من اليونانية إلى إحدى لغات الهند, بمساعَدة مواطن من منطقة موطن كونود.
130:0.5 (1427.5) في هذه الجولة المتوسطية قضى يسوع حوالي نصف كل يوم في تعليم كانيد وعامل كمترجم أثناء مؤتمرات كونود التجارية واتصالاته الاجتماعية. الفترة المتبقية من كل يوم, التي كانت تحت تصرفه, كرسها لإجراء تلك الاتصالات الشخصية الوثيقة مع زملائه من الناس, تلك الصِلات الودية مع بشر الحيز, التي ميزت للغاية نشاطاته خلال هذه السنوات التي سبقت تماماً إسعافه العام.
130:0.6 (1427.6) من خلال الملاحظة المباشرة والاتصال الفعلي ألمَّ يسوع بالحضارة المادية والفكرية العليا للغرب والشرق؛ من كونود وابنه اللامع تعلم الكثير عن حضارة وثقافة الهند والصين, لأن كونود, نفسه مواطن من الهند, كان قد قام بثلاث رحلات مكثفة إلى إمبراطورية العرق الأصفر.
130:0.7 (1427.7) تعلم كانيد, الشاب, الكثير من يسوع خلال هذه الرفقة الطويلة والودية. لقد طورا عاطفة كبيرة من أجل بعضهما, وحاول والد الفتى عدة مرات إقناع يسوع بالعودة معهما إلى الهند, لكن يسوع كان يرفض دائماً, متذرعاً بضرورة العودة إلى عائلته في فلسطين.
130:1.1 (1428.1) أثناء مكوثهم في يافا, التقى يسوع بجاديا, مترجم فلسطيني كان يعمل عند واحد اسمه سمعان, دباغ جلود. كان لوكلاء كونود في بلاد ما بين النهرين الكثير من الأعمال مع سمعان هذا؛ لذلك رغب كونود وابنه بزيارته في طريقهم إلى قيصرية. بينما تمهلوا في يافا, أصبح يسوع وجاديا صديقين حميمين. كان هذا الشاب الفلسطيني باحثاً عن الحقيقة. كان يسوع معطياً للحقيقة؛ كان هو الحقيقة لهذا الجيل في يورانشيا. عندما يجتمع باحث عظيم عن الحقيقة ومعطي حقيقة عظيم, تكون النتيجة استنارة عظيمة ومحررة مولودة من تجربة الحقيقة الجديدة.
130:1.2 (1428.2) في أحد الأيام بعد وجبة طعام المساء تمشى يسوع والشاب الفلسطيني على مقربة من البحر, وجاديا, ليس على دراية بأن هذا "الكاتب الدمشقي" كان ضليعاً جداً في التقاليد العبرانية, أشار ليسوع إلى مرسى السفن حيث اُشتهر بأن يونان أبحر على رحلته المشؤومة إلى ترشيش. وعندما انتهى من تصريحاته, سأل يسوع هذا السؤال: "لكن هل تفترض بأن السمكة الكبيرة ابتلعت يونان حقاً"؟ أدرك يسوع بأن حياة هذا الشاب تأثرت بشكل كبير بهذه التقاليد, وبأن تأمله فيها قد أثر عليه حماقة محاولة الهروب من الواجب؛ لذلك لم يقل يسوع شيئاً من شأنه ان يقضي فجأة على أُسس دافع جاديا الحالي لحياة عملية. في الإجابة على هذا السؤال, قال يسوع: "يا صديقي, كلنا يونانات مع حيوات نعيشها وفقاً لمشيئة الله, وفي جميع الأوقات عندما نسعى للهروب من واجب الحياة الحالي بالهرب إلى المغريات البعيدة, بهذا نضع انفسنا تحت السيطرة المباشرة لتلك التأثيرات التي هي غير موجَّهة بقدرات الحقيقة وقوى البر. الهروب من الواجب هو التضحية بالحقيقة. الهروب من خدمة النور والحياة يمكن فقط أن يؤدي إلى تلك الصراعات المؤلمة مع حيتان الأنانية الصعبة التي تؤدي في النهاية إلى الظلمة والموت إلا إذا هكذا يونانات هاجرين الله سيُرجعون قلوبهم حتى عندما في أعماق اليأس, ليطلبوا الله وصلاحه. وعندما تسعى مثل هذه النفوس المحبطة بإخلاص إلى الله ــ الجوع من أجل الحق والعطش من أجل البر ــ فلا يوجد شيء يمكن أن يحتجزها في المزيد من الأسر. بغض النظر عن الأعماق العظيمة التي سقطوا فيها, عندما يسعون للنور بكل قلوبهم, سيخلصهم روح الرب إلَه السماء من أسرهم؛ ظروف الحياة الشريرة سوف تتقيأهم على الأرض الجافة لفرص جديدة من أجل خدمة متجددة وعيش أكثر حكمة".
130:1.3 (1428.3) تأثر جاديا بشدة بتعليم يسوع, وتحدثا طويلاً نحو الليل بجانب البحر, وقبل أن يذهبا إلى أماكن إقامتهما, صليا معاً ومن أجل بعضهما. هذا كان جاديا نفسه الذي استمع إلى وعظ بطرس فيما بعد, وأصبح مؤمناً عميقاً بيسوع الناصري, وعقد جدالاً لا يُنسى مع بطرس ذات مساء في بيت دوركاس. وكان لجاديا علاقة كبيرة بالقرار النهائي الذي اتخذه سمعان, تاجر الجلود الثري, باعتناق المسيحية.
130:1.4 (1428.4) (في هذه الرواية عن عمل يسوع الشخصي مع زملائه البشر على هذه السياحة للبحر الأبيض المتوسط, سوف نقوم, وفقاً للإذن الممنوح لنا, بترجمة كلماته بحرية إلى عبارات حديثة موجودة على يورانشيا عند وقت هذا العرض.)
130:1.5 (1429.1) كانت زيارة يسوع الأخيرة مع جاديا تتعلق بمناقشة الخير والشر. كان هذا الفلسطيني الشاب قلقاً جداً من الشعور بالظلم بسبب وجود الشر في العالَم إلى جانب الخير. قال: "كيف يمكن أن يسمح الله, إن كان صالحًا بلا حدود, بأن نعاني أحزان الشر؛ بعد كل شيئ, من يخلق الشر؟" كان الكثيرون لا يزالون يعتقدون في تلك الأيام بأن الله يخلق كل من الخير والشر, لكن يسوع لم يعلم مثل هذا الخطأ. في الإجابة على هذا السؤال, قال يسوع: "يا أخي, الله محبة؛ لذلك يجب أن يكون صالحاً, وصلاحه عظيم للغاية وحقيقي لدرجة أنه لا يمكنه احتواء الأشياء الصغيرة وغير الواقعية للشر. الله صالح بشكل إيجابي للغاية بحيث أنه ليس هناك على الإطلاق مكان فيه للشر السلبي. الشر هو الاختيار غير الناضج والعثرة التي بلا تفكير لأولئك الذين هم مقاومون للصلاح, ورافضين للجَمال, وغير مخلصين للحقيقة. الشر هو فقط سوء التكيف مع عدم النضج أو التأثير المفكِك والمشوِه للجهل. الشر هو الظلام الحتمي الذي يتبع في أعقاب الرفض غير الحكيم للنور. الشر هو ما هو مُظلم وغير صحيح, والذي, عندما يتم اعتناقه بوعي ويُصادق عليه عمداً يصبح خطيئة.
130:1.6 (1429.2) "أبوك في السماء, من خلال منحك القدرة على الاختيار بين الحق والباطل, خلق الاحتمال السلبي للطريق الإيجابي للنور والحياة؛ لكن مثل هذه الأخطاء من الشر لا وجود لها حقاً حتى ذلك الوقت عندما يشاء مخلوق ذكي وجودها عن طريق إساءة اختيار طريقة الحياة. ومن ثم تُرفع مثل هذه الشرور فيما بعد إلى خطيئة من خلال الاختيار العارف والمُتعمد لمثل هذه المخلوقات المُتعمدة والمتمردة. هذا هو السبب في سماح أبانا في السماء للخير والشر بالسير معاً حتى نهاية الحياة, تماماً كما تسمح الطبيعة للقمح والزؤان بالنمو جنباً إلى جنب حتى الحصاد". كان جاديا راضياً تماماً عن إجابة يسوع على سؤاله بعد ما أوضحت مناقشتهما اللاحقة إلى عقله المعنى الحقيقي لهذه التصريحات الهامة.
130:2.1 (1429.3) تمهل يسوع وأصدقائه في قيصرية إلى ما بعد الوقت المتوقع لأن أحد مجاديف التوجيه الضخمة للسفينة التي كانوا يعتزمون الإبحار عليها تم اكتشاف انه معرض لخطر الانشقاق. قرر القبطان البقاء في المرفأ بينما يتم صُنع واحد جديد. كان هناك نقص في عمال الأخشاب المهرة للقيام بهذه المهمة, لذلك تطوع يسوع للمساعدة. خلال الأمسيات تجول يسوع وأصدقائه حول الجدار الجميل الذي خدم بمثابة منتزه حول المرفأ. استمتع كانيد كثيراً بشرح يسوع لنظام المياه في المدينة والتقنية التي تم بها استخدام المد لغسل شوارع المدينة ومجاريها. كان هذا الفتى من الهند مُعجباً جداً بمعبد أُوغسطس, الواقع على مرتفع ويعلوه تمثال ضخم للإمبراطور الروماني. بعد ظهر اليوم الثاني من مكوثهم حضر ثلاثتهم عرضاً في المدرج الهائل الذي يتسع لعشرين ألف شخص, وذهبوا تلك الليلة إلى تمثيلية يونانية في المسرح. كانت هذه أولى المعارض من هذا النوع التي يشهدها كانيد على الإطلاق, وسأل يسوع العديد من الأسئلة عنها. صباح اليوم الثالث قاموا بزيارة رسمية إلى قصر الحاكم, لأن قيصرية كانت عاصمة فلسطين ومقر المفوض الروماني.
130:2.2 (1429.4) كذلك مكث في فندقهم تاجر من منغوليا, وبما أن هذا الرجل من الشرق الأقصى كان يتحدث اليونانية جيداً إلى حد ما, كان ليسوع عدة زيارات مطولة معه. كان هذا الرجل معجباً جداً بفلسفة يسوع في الحياة ولم ينس أبداً كلماته الحكيمة بما يخص "عيش الحياة السماوية بينما على الأرض من خلال الخضوع اليومي لمشيئة الأب السماوي". كان هذا التاجر طاوي العقيدة, ولهذا أصبح مؤمناً قوياً بعقيدة الإلَه الكوني. عندما عاد إلى منغوليا, بدأ بتعليم هذه الحقائق المتقدمة إلى جيرانه وزملاء عمله, وكنتيجة مباشرة لمثل هذه الأنشطة, قرر ابنه البكر أن يصبح كاهناً طاوياً. لقد مارس هذا الشاب تأثيراً كبيراً لصالح الحقيقة المتقدمة طوال حياته وتُبع بابنه وحفيده اللذان كانا بالمثل مُكرَّسَين بإخلاص لعقيدة الله الواحد ــ الحاكم الأعلى للسماء.
130:2.3 (1430.1) بينما كان الفرع الشرقي للكنيسة المسيحية المبكرة, التي يقع مقرها في فيلادلفيا, متمسكاً بتعاليم يسوع بأمانة أكثر مما فعل إخوانهم في أورشليم, كان من المؤسف أنه لم يكن هناك أحد مثل بطرس للذهاب إلى الصين, أو مثل بولس ليدخل الهند, حيث كانت التربة الروحية آنذاك مؤاتية للغاية لزرع بذرة الإنجيل الجديد للملكوت. هذه التعاليم ذاتها ليسوع, كما تمسك بها الفيلادلفيين, كان يمكن أن تجعل مثل هذا الإجتذاب الفوري والفعّال لعقول الشعوب الأسيوية الجائعة روحياً مثلما فعل وعظ بطرس وبولس في الغرب.
130:2.4 (1430.2) أحد الشبان الذين عملوا مع يسوع أحد الأيام على مجداف التوجيه أصبح مهتماً جداً بالكلمات التي اسقطها من ساعة إلى أخرى بينما يكدحون في حوض السفن. عندما ألمح يسوع إلى أن الأب في السماء كان مهتماً برفاهية أولاده على الأرض, قال هذا اليوناني الصغير, أناكزاند: "إذا كانت الآلهة مهتمة بي, فلماذا لا يزيلون مراقب العمال القاسي والظالم من هذا المصنع"؟ كان مذهولاً عندما أجاب يسوع, "بما أنك تعرف طـُرق اللطف وتقدر العدل, فربما تكون الآلهة قد أحضرت هذا الرجل المخطئ قربك بحيث قد تقوده إلى هذا الطريق الأفضل. ربما تكون الملح الذي يجعل هذا الأخ أكثر قبولاً لدى جميع الرجال الآخرين؛ ذلك, إذا لم تكن قد خسرت مذاقك. كما هو الحال, فإن هذا الرجل هو سيدك في أن طرقه الشريرة تؤثر عليك بشكل غير ملائم. لماذا إذاً لا تـُثبت سيادتك على الشر بفضيلة قدرة الخير وبالتالي تصبح سيد كل العلاقات بينكما؟ أتوقع أن الخير فيك سيتغلب على الشر فيه إذا أعطيته فرصة منصفة وحية. ليس هناك مغامرة في مسار الوجود الفاني أكثر إثارة من الإستمتاع ببهجة أن تصبح شريك الحياة المادية مع الطاقة الروحية والحقيقة الإلَهية في إحدى صراعاتها الظافرة مع الخطأ والشر. إنها تجربة رائعة ومُغيرة أن تصبح القناة الحية للنور الروحي إلى البشري الذي يجلس في ظلمة روحية. إذا كنت مباركاً بالحقيقة أكثر من هذا الرجل, فإن حاجته يجب أن تتحداك. بالتأكيد لست الجبان الذي يمكنه أن يقف متفرجًا بجانب شاطئ البحر ويراقب زميله الإنسان الذي لا يستطيع السباحة يهلك! كم بالأحرى أكثر قيمة هي نفـْس هذا الرجل المتخبطة في الظلمة مقارنة بجسده الغارق في الماء"!
130:2.5 (1430.3) تأثر أناكزاند بشدة بكلمات يسوع. في الوقت الحاضر أخبر رئيسه بما قاله يسوع, وتلك الليلة طلب كِلاهما نصيحة يسوع فيما يتعلق برفاهية نفـْسيهما. وفيما بعد, بعد أن تم إعلان الرسالة المسيحية في قيصرية, كان كِلا الرجلين, واحد يوناني, والآخر روماني, قد آمنا بوعظ فيليب وأصبحا عضوين بارزين في الكنيسة التي أسسها. فيما بعد تم تعيين هذا الشاب اليوناني المضيف لقائد المئة الروماني, كورنِليوس, الذي أصبح مؤمناً من خلال إسعاف بطرس. واصل أناكزاند إسعاف النور لأولئك الجالسين في الظلمة حتى أيام سجن بولس في قيصرية, عندما هلك, بحادث, في المذبحة العظيمة لعشرين ألف يهودي بينما كان يُسعف للمعذبين والذين على وشك الموت.
130:2.6 (1431.1) كان كانيد بحلول هذا الوقت, قد بدأ يتعلم كيف يقضي معلمه وقت فراغه في هذا الإسعاف الشخصي غير العادي لزملائه الناس, وشرع الهندي الصغير لإيجاد الدافع وراء هذه النشاطات غير المتوقفة. سأل, "لماذا تشغل نفسك باستمرار بهذه الزيارات مع الغرباء"؟ فأجاب يسوع: " يا كانيد, لا إنسان غريب إلى من يعرف الله. في تجربة العثور على الأب في السماء تكتشف بأن جميع الناس إخوتك, وهل يبدو غريباً أن يستمتع المرء ببهجة ملاقاة أخ مُكتشَف حديثاً؟ لتصبح ملماً بإخوة أو أخوات المرء, ومعرفة مشاكلهم وتعلم أن تحبهم, هي التجربة الأسمى للعيش".
130:2.7 (1431.2) كان هذا مؤتمراً دام حتى وقت طويل من الليل, الذي طلب الشاب خلاله من يسوع أن يخبره بالفرق بين مشيئة الله وفعل الاختيار للعقل البشري الذي يسمى أيضاً الإرادة. من حيث الجوهر قال يسوع: "مشيئة الله هي طريق الله, الشراكة مع اختيار الله في وجه أي بديل مُحتمَل. إن فعل مشيئة الله, لذلك, هو التجربة التدريجية في أن نصبح أكثر فأكثر مثل الله, والله هو مصدر ومصير كل ما هو صالح وجميل وحقيقي. مشيئة الإنسان هي طريق الإنسان, مجموع وجوهر ما يختار الإنسان ان يكونه ويفعله. المشيئة هي الاختيار المتعمد لكائن واعي-الذات التي تؤدي إلى اتخاذ - القرار على أساس التفكير الذكي".
130:2.8 (1431.3) عصر ذلك اليوم استمتع كل من يسوع وكانيد باللعب مع كلب راعي ذكي للغاية, وأراد كانيد معرفة ما إذا كان لدى الكلب نفـْس, ما إذا كانت لديه مشيئة, ورداً على أسئلته قال يسوع: "للكلب عقل يستطيع أن يعرف الإنسان المادي, سيده, لكنه لا يستطيع معرفة الله, الذي هو روح؛ لذلك لا يمتلك الكلب طبيعة روحية ولا يمكنه الاستمتاع بتجربة روحية. قد يكون لدى الكلب مشيئة مستمدة من الطبيعة ومقواة بالتدريب, لكن قدرة العقل هذه ليست قوة روحية, كما أنها ليست قابلة للمقارنة بالإرادة البشرية, حيث إنها ليست مُتفكرة ــ إنها ليست نتيجة لتمييز المعاني الأعلى والأخلاقية أو اختيار القيم الروحية والأبدية. إنه امتلاك مثل هذه القدرات من التمييز الروحي واختيار الحق ما يجعل الإنسان الفاني كائنًا أخلاقيًا, مخلوق يتمتع بخصائص المسؤولية الروحية وإمكانية البقاء الأبدي". ومضى يسوع ليوضح أن غياب مثل هذه القدرات العقلية في الحيوان هو ما يجعل من المستحيل إلى الأبد بالنسبة لعالم الحيوان تطوير لغة في الزمان أو أن يختبر أي شيء معادل لنجاة الشخصية في الأبدية. كنتيجة لإرشاد هذا اليوم لم يخالج كانيد مرة أخرى الاعتقاد بتناسخ نفوس الناس في أجساد الحيوانات.
130:2.9 (1431.4) في اليوم التالي حدث كانيد والده بكل هذا, وكان في إجابة إلى سؤال كونود حينما أوضح يسوع بأن "المشيئات البشرية المشغولة كلياً بالمرور فقط على قرارات دنيوية لها علاقة بالمشاكل المادية للوجود الحيواني محكوم عليها بالهلاك في الوقت المناسب. أولئك الذين يتخذون قرارات أخلاقية صادقة وخيارات روحية غير مشروطة هم بهذا يتم تحديدهم تدريجياً مع الروح الساكن والإلَهي, وبالتالي يتحولون بشكل متزايد إلى قيم البقاء الأبدي ــ تقدم لا نهاية له للخدمة الإلَهية".
130:2.10 (1431.5) لقد كان في هذا اليوم نفسه حين سمعنا للمرة الأولى تلك الحقيقة الجوهرية التي, معلنة في عبارات حديثة, من شأنها أن تعني: "المشيئة هي ذلك التجلي للعقل البشري الذي يُمكن الوعي الموضوعي من التعبير عن نفسه بموضوعية ويختبر ظاهرة الطموح بأن يكون مثل الله. وإنه بهذا المعنى بالذات بأن كل كائن إنساني مُتفكر وذو عقلية روحية يمكنه أن يصبح خلاَّقاً.
130:3.1 (1432.1) لقد كانت زيارة حافلة بالأحداث في قيصريه, وعندما أصبح القارب جاهزاً, رحل يسوع وصديقيه عند ظهر أحد الأيام إلى الإسكندرية في مصر.
130:3.2 (1432.2) استمتع الثلاثة بعبور ممتع إلى الإسكندرية. كان كانيد مسرورًا بالرحلة وأبقى يسوع منشغلًا بالإجابة على الأسئلة. بينما اقتربوا من مرفأ المدينة, شعر الشاب بالإثارة لمنارة فاروس العظيمة, التي تقع على الجزيرة التي وصلها الإسكندر بسدٍ إلى البر الرئيسي, مما أدى إلى إنشاء مرفأين عظيمين وبالتالي جعل الإسكندرية ملتقى طرق التجارة البحرية لأفريقيا, وآسيا, وأوروبا. كانت هذه المنارة العظيمة إحدى عجائب الدنيا السبع وكانت الرائدة لكل المنارات اللاحقة. نهضوا باكراً في الصباح لمشاهدة هذا الجهاز البديع المُنقذ للحياة للإنسان, ووسط هتافات كانيد قال يسوع: "وأنت, يا بني, ستكون مثل هذه المنارة عندما تعود إلى الهند, حتى بعد أن يوضع والدك للراحة؛ ستصبح مثل نور الحياة لأولئك الجالسين حولك في الظلمة, تُري كل الراغبين الطريق للوصول إلى ميناء الخلاص بأمان". وبينما كان كانيد يضغط على يد يسوع قال, "سأفعل".
130:3.3 (1432.3) ومرة أخرى نشير بأن المعلمين الأوائل للديانة المسيحية ارتكبوا خطأ فادحًا عندما حوَّلوا انتباههم حصرياً إلى الحضارة الغربية للعالَم الروماني. إن تعاليم يسوع, كما اعتنقها المؤمنون في بلاد ما بين النهرين في القرن الأول, كانت ستستلمها بسهولة الجماعات المتنوعة من المتدينين الآسيويين.
130:3.4 (1432.4) بحلول الساعة الرابعة بعد أن رسوا كانوا قد استقروا بالقرب من الطرف الشرقي للجادة الواسعة والطويلة, بعرض مائة قدم وطول خمسة أميال, التي امتدت إلى الحدود الغربية لهذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليون نسمة. بعد المسح الأول لمعالم المدينة الرئيسية ــ الجامعة (المتحف), والمكتبة, وضريح الإسكندر الملكي, والقصر, ومعبد نبتون, والمسرح, والملعب ــ التمس كونود العمل بينما ذهب يسوع وكانيد إلى المكتبة, الأعظم في العالَم. هنا تم تجميع ما يقرب من مليون مخطوطة من كل العالَم المتحضر: اليونان, وروما, وفلسطين, وفارس, والهند, والصين, وحتى اليابان. في هذه المكتبة رأى كانيد أكبر مجموعة من الأدب الهندي في جميع أنحاء العالَم؛ وأمضوا بعض الوقت هنا كل يوم طوال فترة إقامتهم في الإسكندرية. أخبر يسوع كانيد عن ترجمة الكتابات المقدسة العبرية إلى اليونانية في هذا المكان. وناقشا مراراً وتكراراً كل أديان العالَم, يسوع ساعياً لأن يوضح لهذا العقل الشاب الحقيقة في كل منها, مضيفاً دائماً: "لكن يهوه هو إله الذي تطور من كشوف ملكيصادق والميثاق مع إبراهيم. اليهود كانوا ذرية إبراهيم وشغلوا لاحقاً ذات الأرض التي عاش فيها ملكيصادق وعلـَّم, وأرسل منها معلمين إلى كل العالَم؛ وفي النهاية صورت ديانتهم اعترافًا أوضح بالرب إله إسرائيل باعتباره الأب الكوني في السماء أكثر من أي دين عالمي آخر."
130:3.5 (1432.5) تحت توجيه يسوع قام كانيد بتجميع مجموعة من التعاليم من كل ديانات العالم تلك التي اعترفت بإله كوني, حتى ولو أنها قد تمنح أيضاً اعترافاً بشكل أو بآخر بالآلهة التابعة. بعد الكثير من النقاش قرر يسوع وكانيد بأن الرومان ليس لديهم إلَه حقيقي في دِينهم, بأن دِينهم كان بالكاد أكثر من عبادة الإمبراطور. اليونانيون, خلصا إلى أنه, كان لديهم فلسفة لكن بالكاد دِين مع إله شخصي. لقد تجاهلا الطوائف الباطنية بسبب ارتباك تعددهم, ولأن مفاهيمهم المتغيرة عن الإلَه بدت لتكون مُستمدة من ديانات أخرى وأقدم.
130:3.6 (1433.1) على الرغم من أن هذه الترجمات قد تم إجراؤها في الإسكندرية, إلا أن كانيد لم يُرتب هذه المختارات أخيراً ويضيف استنتاجاته الشخصية إلا قرب نهاية حلولهم في روما. لقد تفاجأ كثيراً باكتشاف أن أفضل مؤلفي الأدب العالمي المقدس كلهم أكثر أو أقل اعترفوا بوضوح بوجود إله أبدي وكانوا متفقين إلى حد كبير فيما يتعلق بصِفته وعلاقته بالإنسان الفاني.
130:3.7 (1433.2) أمضى يسوع وكانيد الكثير من الوقت في المتحف أثناء مكوثهم في الإسكندرية. لم يكن هذا المتحف عبارة عن مجموعة من الأشياء النادرة بل جامعة للفن الرفيع, والعِلم, والأدب. القى أساتذة متعلمون محاضرات يومية هنا. وفي تلك الأوقات كان هذا المركز الفكري للعالَم الغربي. يوماً بيوم فسَّر يسوع المحاضرات لكانيد؛ في أحد الأيام أثناء الأسبوع الثاني هتف الشاب: "معلم يشوع, أنت تعرف أكثر من هؤلاء الأساتذة؛ يجب أن تقف وتخبرهم بالأشياء العظيمة التي أخبرتني إياها؛ هم مخبولون بالكثير من التفكير. سوف أتكلم إلى أبي واطلب منه أن يرتب من أجل ذلك". ابتسم يسوع, قائلاً: "أنت تلميذ مُعجَب, لكن هؤلاء المعلمين ليسوا راغبين بأنك وأنا يجب أن نثقفهم. فخر العِلم غير الروحاني شيء غدار في التجربة الإنسانية. المعلم الحقيقي يحافظ على نزاهته الفكرية بان يبقى دوماً متعلماً".
130:3.8 (1433.3) كانت الإسكندرية مدينة الثقافة الغربية المختلطة وتالياً إلى روما الأكبر والأكثر روعة في العالَم. هنا كان يقع أكبر كنيس يهودي في العالَم, مقر حكومة سنهدرين الإسكندرية, الشيوخ السبعون الحاكمون.
130:3.9 (1433.4) من بين العديد من الرجال الذين أجرى كونود صفقات عمل معهم كان مصرفيًا يهوديًا معينًا, الإسكندر, الذي شقيقه فيلو, كان فيلسوفاً دِينياً مشهوراً في ذلك الوقت. كان فيلو مشغولاً بالمهمة الجديرة بالثناء لكن الصعبة للغاية التي تتمثل في تنسيق الفلسفة الإغريقية واللاهوت العبري. تحدث كانيد ويسوع كثيراً عن تعاليم فيلو وتوقعا حضور بعض محاضراته, لكن طوال فترة مكوثهم في الإسكندرية اضجع هذا اليهودي اليوناني الشهير مريضاً في الفراش.
130:3.10 (1433.5) أثنى يسوع لكانيد الكثير في الفلسفة الإغريقية والمذاهب الرواقية, لكنه أكد على الفتى حقيقة أن أنظمة الاعتقاد هذه, مثل التعاليم غير المُحددة لبعض من شعبه الخاص, كانت أديان فقط في المغزى بأنها قادت الناس إلى إيجاد الله والتمتع بتجربة حية في معرفة الأبدي.
130:4.1 (1433.6) في الليلة التي سبقت مغادرتهم الإسكندرية كان لدى يسوع وكانيد زيارة طويلة مع أحد أساتذة الحكومة في الجامعة الذي أعطى محاضرة عن تعاليم أفلاطون. فسَّر يسوع للمعلم اليوناني المثقف لكنه لم يقدم اي تعاليم خاصة به في دحض الفلسفة الإغريقية. كان كونود خارجاً في عمل ذلك المساء؛ لذلك, بعد أن غادر الأستاذ, كان لدى المعلم وتلميذه حديثاً مطولاً من القلب للقلب عن مذاهب أفلاطون. بينما أعطى يسوع موافقة مشروطة لبعض التعاليم الإغريقية التي لها علاقة بالنظرية القائلة بأن الأشياء المادية في العالَم هي انعكاسات غامضة لحقائق روحية غير مرئية لكن أكثر جوهرية, سعى لإرساء أساس أكثر جدارة بالثقة لتفكير الفتى؛ لهذا بدأ محاضرة طويلة حول طبيعة الواقع في الكون. من حيث الجوهر وفي نص حديث قال يسوع لكانيد:
130:4.2 (1434.1) مصدر واقع الكون هو اللانهائي. الأشياء المادية للخلق المتناهي هي تداعيات الزمان-الفضاء لنموذج الفردوس والعقل الكوني لله الأبدي. إن المسببات في العالَم الفيزيائي, والوعي الذاتي في العالَم الفكري, وتقدم الذات في عالَم الروح ــ هذه الحقائق, المسقطة على نطاق كوني, والمُركَّبة في ترابط أبدي, والمُختبَرة بكمال النوعية وألوهية القيمة ــ تشكل واقعية الأسمى. لكن في كون دائم التغيير فإن الشخصية الأصلية للمسبب, والذكاء, والخبرة الروحية هي بدون تغيير, مُطلقة. كل الأشياء, حتى في كون أبدي من القيم والصفات الإلهية اللامحدودة, يمكن أن تتغير, وفي كثير من الأحيان, باستثناء المُطلقات, وذاك الذي نال الوضع الفيزيائي, أو الضم الفكري, أو الهوية الروحية التي هي مُطلقة.
130:4.3 (1434.2) أعلى مستوى يمكن لمخلوق متناهي التقدم إليه هو التعرف على الأب الكوني ومعرفة الأسمى. وحتى عند ذاك تستمر هكذا كائنات ذات مصير نهائي في اختبار تغيير في حركات العالَم الفيزيائي وفي ظواهره المادية. كذلك فهم يظلون على دراية بتقدم الذات في صعودهم المستمر للكون الروحي والوعي المتزايد في تقديرهم العميق للفلك الفكري والاستجابة له. فقط في كمال, وتآلف, وانسجام المشيئة يمكن للمخلوق أن يصبح واحداً مع الخالق؛ ومثل هذه الحالة من الألوهية يتم تحقيقها والحفاظ عليها فقط من خلال استمرار المخلوق في العيش في الزمان والأبدية من خلال مطابقة مشيئته الشخصية المتناهية باستمرار إلى المشيئة الإلَهية للخالق. دائماً يجب ان تكون الرغبة في فعل مشيئة الأب سامية في النفـْس ومهيمنة على عقل إبن صاعد لله.
130:4.4 (1434.3) لا يمكن أبداً أن يأمل شخص أعور في تصور عمق المنظور. ولا العلماء الماديين ذوي العين الواحدة, ولا المتصوفة الروحيين والمجازيين ذوي العين الواحدة يمكنهم ان يتخيلوا بشكل صحيح ويستوعبوا كما ينبغي الأعماق الحقيقية لواقع الكون. كل القيم الحقيقية لتجربة المخلوق مخفية في عمق التعَّرف.
130:4.5 (1434.4) السببية غير العقلانية لا يمكنها تطوير المصقول والمعقَد من الخام والبسيط, كما لا يمكن للتجربة غير الروحية أن تطور الصِفات الإلَهية ذات البقاء الأبدي من العقول المادية لبشر الزمان. السمة الواحدة للكون التي تميز بشكل حصري للغاية الإلَه اللانهائي هي هذا الإغداق الخلاَّق الذي لا ينتهي للشخصية التي يمكنها أن تستمر في إحراز إلَه تقدمي.
130:4.6 (1434.5) الشخصية هي تلك الهبة الفلكية, تلك المرحلة من الواقع الكوني, التي يمكن أن تتعايش مع تغيير غير محدود وفي نفس الوقت تحتفظ بهويتها في ذات الحضور لكل هكذا تغييرات, وإلى الأبد بعد ذلك.
130:4.7 (1434.6) الحياة هي تكيف للسببية الفلكية الأصلية إلى متطلبات وإمكانيات حالات الكون, وهي تأتي إلى حيز الوجود من خلال عمل العقل الكوني وتفعيل الشرارة الروحية للإله الذي هو روح. معنى الحياة هو قدرتها على التكيف؛ قيمة الحياة هي قابليتها للتقدم ــ حتى إلى أعالي وعي-الله.
130:4.8 (1434.7) إن سوء تكيف الحياة الواعية-بالذات إلى الكون ينتج عنه سوء انسجام فلكي. سينتهي التشعب النهائي لمشيئة الشخصية عن اتجاه الأكوان في العزلة الفكرية, وانفصال الشخصية. إن خسارة رائد الروح الساكن يُتبع بالتوقف الروحي للوجود. تصبح الحياة الذكية والتقدمية عند ذاك, في ومن ذاتها, دليلاً لا جدال فيه على وجود كون هادف يُعبر عن مشيئة خالق إلَهي. وهذه الحياة, في مجملها, تكافح من أجل قيم أعلى. لديها من أجل هدفها النهائي الأب الكوني.
130:4.9 (1435.1) فقط في الدرجة يمتلك الإنسان عقلاً أعلى من مستوى الحيوان بصرف النظر عن إسعافات الذكاء الأعلى وشبه الروحية. لذلك الحيوانات (التي ليس لديها عبادة وحكمة) لا يمكنها اختبار الوعي الفائق, وعي الوعي. عقل الحيوان واعي فقط للكون الموضوعي.
130:4.10 (1435.2) المعرفة هي مجال العقل المادي أو المميز للواقع. الحقيقة هي مجال الفكر الموهوب روحياً الذي يدرك معرفة الله. المعرفة يمكن برهانها؛ الحقيقة تُختبَر. المعرفة هي امتلاك العقل؛ الحقيقة هي تجربة النفـْس, تقدم الذات. المعرفة هي وظيفة المستوى اللا-روحي؛ الحقيقة هي مرحلة من مستوى العقل-الروح للأكوان. عين العقل المادي تدرك عالَم من المعرفة الواقعية؛ عين الذكاء المتروحن تميز عالَم من القيم الحقيقية. هاتان النظرتان, متزامنتان ومتناسقتان, تكشفان عن عالَم الواقع, حيث تفسر الحكمة ظواهر الكون من منظور التجربة الشخصية التقدمية.
130:4.11 (1435.3) الخطأ (الشر) هو جزاء عدم الكمال. يتم الكشف عن صِفات عدم الكمال أو حقائق سوء التكيف على المستوى المادي من خلال الملاحظة النقدية والتحليل العلمي؛ على المستوى الأخلاقي, من خلال التجربة الإنسانية. يشكل وجود الشر دليلاً على عدم دقة العقل وعدم نضج الذات المتطورة. الشر, بالتالي, هو مقياس لعيوب في تفسير الكون. إن إمكانية ارتكاب الأخطاء متأصلة في اكتساب الحكمة, المخطط التقدمي من الجزئي والدنيوي إلى الكامل والأبدي؛ من النسبي وغير المثالي إلى النهائي والمُكمَل. الخطأ هو ظل النقص النسبي الذي يجب بالضرورة أن يقع عبر مسار الإنسان في ارتقاء الكون إلى كمال الفردوس. الخطأ (الشر) ليس صفة كون حقيقية؛ إنه ببساطة ملاحظة النسبية في علاقة إلى النقص المحدود غير المكتمل بالمستويات الصاعدة للأسمى والمنتهى.
130:4.12 (1435.4) مع أن يسوع أخبر كل هذا للفتى بلغة تناسب فهمه بشكل أفضل, عند نهاية المحادثة كان كانيد ثقيل العين وسرعان ما ضاع في النعاس. نهضوا باكراً في الصباح التالي ليصعدوا على متن القارب المتجه إلى لاسي في جزيرة كريت. لكن قبل أن يبحروا, كان لا يزال لدى الفتى أسئلة إضافية يسألها عن الشر, التي أجاب يسوع إليها:
130:4.13 (1435.5) الشر مفهوم نسبي, ينشأ من ملاحظة العيوب التي تظهر في الظل المُلقى بكون متناه من الأشياء والكائنات بينما يحجب هكذا فلك النور الحي للتعبير الكوني للحقائق الأبدية للواحد اللانهائي.
130:4.14 (1435.6) الشر المحتمل متأصل في عدم الاكتمال الضروري لكشف الله كتعبير محدود بالزمان-الفضاء, عن اللانهائية والأبدية. حقيقة الجزئي في حضور التام تشكل نسبية الواقع, وتخلق ضرورة للاختيار الذكي, وتؤسس مستويات قيمة لتعرُف الروح واستجابتها. إن المفهوم غير المكتمل والمتناهي للانهائي الذي يتمسك به عقل المخلوق الدنيوي والمحدود, هو في ومن ذاته, شر محتمل. لكن الخطأ المتزايد للنقص غير المبرر في التقويم الروحي المعقول لهذه التناقضات الفكرية المتأصلة أصلاً والقصور الروحي, تعادل إدراك الشر الفعلي.
130:4.15 (1436.1) كل المفاهيم الستاتيكية, الميتة, هي شر مُحتمَل. الظل المتناهي للحقيقة النسبية والحية يكون متحركاً باستمرار. المفاهيم الستاتيكية دائماً تؤخر العِلم, والسياسة, والمجتمع, والدِين. قد تمثل المفاهيم الستاتيكية معرفة معينة, لكنها ناقصة في الحكمة وتخلو من الحقيقة. لكن لا تسمح لمفهوم النسبية أن يضللك بحيث تفشل في إدراك تنسيق الكون تحت إرشاد العقل الفلكي, وسيطرته المستقرة بطاقة وروح الأسمى.
130:5.1 (1436.2) كان للمسافرين هدف واحد فقط في الذهاب إلى كريت, وكان ذلك للعب, والمشي حول الجزيرة, وتسلق الجِبال. لم يتمتع الكريتيون في ذلك الوقت بسمعة يُحسدون عليها بين الشعوب المحيطة. مع ذلك, فقد كسب يسوع وكانيد نفوساً كثيرة إلى مستويات أعلى من التفكير والعيش وبهذا وضعا الأساس من أجل الاستلام السريع لتعاليم الإنجيل اللاحقة عندما وصل الواعظون الأولون من أورشليم. لقد أحب يسوع هؤلاء الكريتيين, بالرغم من الكلمات القاسية التي تكلمها بولس بخصوصهم فيما بعد عندما أرسل لاحقاً تيطوس إلى الجزيرة لإعادة تنظيم كنائسهم.
130:5.2 (1436.3) على سفح الجبل في كريت كان ليسوع أول حديث طويل له مع كونود بخصوص الدِين. وقد تأثر الأب كثيراً, قائلاً: "لا عجب أن الصبي يؤمن بكل ما تخبره, لكنني لم أعرف أبداً بأن لديهم مثل هذا الدِين حتى في أورشليم, بالكثير أقل في دمشق". لقد كان أثناء المكوث في الجزيرة حينما اقترح كونود أول مرة ليسوع بأن يعود معهم إلى الهند, وكان كانيد سعيداً بفكرة أن يسوع قد يوافق على مثل هذا الترتيب.
130:5.3 (1436.4) في أحد الأيام عندما سأل كانيد يسوع لماذا لم يكرس نفسه للعمل كمعلم عام, قال: "يا بني, كل شيء يجب أن ينتظر مجيء وقته. أنت ولدت في العالَم, لكن ولا قدر من القلق ولا مظهر من مظاهر نفاد الصبر سيساعدونك على النمو. يجب عليك, في كل هذه الأمور, انتظار الوقت. الوقت وحده سوف ينضج الثمار الخضراء على الشجرة. فصل يتبع فصل وغروب شمس يتبع شروقها فقط مع مرور الوقت. أنا الآن في طريقي إلى روما معك ومع والدك, وذلك يكفي من أجل اليوم. غدي كلياً بين يدي أبي في السماء". وعندئذٍ أخبر كانيد قصة موسى والأربعين عامًا من الانتظار المترقب والاستعداد المستمر.
130:5.4 (1436.5) شيء واحد حدث في زيارة إلى الميناء الصافي الذي لم ينساه كانيد أبدًا؛ ذكرى هذا الحدث الهام جعلته دائمًا يتمنى لو أنه قد يفعل شيئًا ما لتغيير النظام الطبقي في موطنه الهند. كان منحط في حالة سكر يهاجم جارية على الطريق الرئيسية العامة. عندما رأى يسوع محنة الفتاة, اندفع إلى الأمام وسحب الفتاة بعيداً عن اعتداء المعتوه. بينما تشبثت البنت المرتعبة به, أمسك الرجل الساخط على مسافة آمنة بذراعه اليمنى القوية الممتدة حتى استنفذ الرجل الفقير نفسه وهو يضرب الهواء بلكماته الغاضبة. شعر كانيد بدافع قوي لمساعدة يسوع في التعامل مع هذا الشأن, لكن والده منعه. رغم أنهم لا يتكلمون لغة الفتاة, إلا أنها استطاعت أن تتفهم عملهم الرحيم وأعطت رمزاً لتقديرها من صميم القلب عندما رافقها الثلاثة إلى بيتها. ربما كان هذا أقرب مواجهة شخصية أبداً مع زملائه لدى يسوع طوال حياته في الجسد. لكنه كان لديه مهمة صعبة في ذلك المساء وهو يحاول أن يشرح لكانيد لماذا لم يضرب الرجل المخمور. اعتقد كانيد بأن هذا الرجل كان يجب أن يُضرَب على الأقل عدة مرات بقـَدر ما ضرب الفتاة.
130:6.1 (1437.1) بينما كانوا في الجبال, كان لدى يسوع حديث طويل مع شاب خائف ومُحبط. فاشل في الحصول على الراحة والشجاعة من الارتباط بزملائه, سعى هذا الشاب إلى العزلة في التلال؛ كان قد نشأ مع شعور بالعجز والدونية. تم تعزيز هذه الميول الطبيعية بعدة ظروف صعبة واجهها الفتى أثناء نشأته, خاصة, فقدان والده عندما كان في الثانية عشرة من عمره. حينما التقوا, قال يسوع: " تحية, يا صديقي! لماذا منكسر الخاطر في مثل هذا اليوم الجميل؟ إذا حدث شيء يزعجك, ربما يمكنني مساعدتك بطريقة ما. بأي درجة تمنحني سرور حقيقي لأقدم خدماتي".
130:6.2 (1437.2) كان الشاب غير ميال للحديث, وهكذا جعل يسوع اقتراباً ثانياً إلى نفـْسه, قائلاً: "أنا أفهم بأنك تأتي إلى هذه التلال لتبتعد عن القوم؛ لهذا, بالطبع, لا تريد التكلم معي, لكنني أود أن أعرف ما إذا كنت على دراية بهذه التلال؛ هل تعرف اتجاه المسارات؟ وبالصدفة, هل يمكنك إخباري بأفضل طريق إلى فِنيكس"؟ الآن كان هذا الشاب ملماً جداً بهذه الجبال, وأصبح حقاً مهتماً جداً بإخبار يسوع عن الطريق إلى فِنيكس, لدرجة أنه علـَّم جميع المسارات على الأرض وشرح كل تفصيل بالكامل. لكنه كان مندهشاً وشعر بالفضول عندما يسوع, بعد أن قال وداعًا وتصرف كأنه مغادر, تحول إليه فجأة, قائلاً: "أعرف جيداً رغبتك في ان تُترَك وحدك مع عدم عزاءك؛ لكن لن يكون لُطفاً ولا إنصافاً مني ان أتلقى مثل هذه المساعدة الكريمة منك حول أفضل الطُرق إلى فِنيكس وبعدئذٍ أذهب عنك بدون تفكير دون بذل أقل جهد ممكن لإجابة طلبك المستغيث للمساعدة والإرشاد فيما يتعلق بأفضل الطرق لهدف المصير الذي تسعى إليه في قلبك بينما تتمهل هنا على سفح الجبل. وكما تعلم جيداً المسالك إلى فِنيكس, بما أنك اجتزتها مرات كثيرة, هكذا أنا أعرف جيداً الطريق إلى مدينة آمالك الخائبة وطموحاتك المحبطة. وبما أنك سألتني المساعدة, فلن أخيب أملك". كان الشاب تقريباً مغلوباً, لكنه دبر أن يتلعثم, "لكن ـ لم أسألك أي شيء" ـ ويسوع واضع يداً لطيفة على كتفه قال: "لا, يا ولدي, ليس بكلمات لكن بنظرات مشتاقة استغثت لقلبي. يا بني, لمن يحب زملائه هناك استغاثة بليغة للمساعدة في ملامحك من الإحباط واليأس. اجلس معي بينما أخبرك عن مسارات الخدمة وطرق السعادة التي تؤدي من أحزان الذات إلى أفراح الأنشطة المحبة في أخوة الناس وخدمة إله السماء".
130:6.3 (1437.3) بحلول هذا الوقت كان الشاب راغباً بشدة في التحدث مع يسوع, وركع عند قدميه متوسلاً يسوع لمساعدته, ليريه طريق الهرب من عالمه الشخصي من الحزن والهزيمة. قال يسوع: "يا صديقي, انهض! قف كرجل! قد تكون محاطاً بأعداء صغار وتكون معاقاً بالعديد من العقبات, لكن الأشياء الكبيرة والأشياء الحقيقية لهذا العالَم والكون هي إلى جانبك. الشمس تشرق كل صباح لتحييك تماماً كما تفعل إلى أغنى وأقدر رجل على وجه الأرض. أنظر ـ لديك جسم قوي وعضلات قديرة ـ أجهزتك البدنية هي أفضل من المتوسط. بالطبع, إنه تماماً عديم الفائدة بينما تجلس هنا على سفح الجبل وتحزن على سوء حظك, الحقيقي والخيالي. لكن يمكنك القيام بأشياء رائعة بجسدك إذا كنت ستسارع إلى حيث تنتظر الأشياء العظيمة القيام بها. أنت تُحاول الهروب من نفسك التعيسة, لكن ذلك لا يمكن فعله. أنت ومشاكلك المعيشية حقيقة؛ لا يمكنك الهرب منها ما دمت تعيش. لكن أنظر مرة أخرى, عقلك صافي وقادر. جسدك القوي لديه عقل ذكي لتوجيهه. ضع عقلك في العمل ليحل مشاكله! علـّم ذكاءك العمل من أجلك؛ ارفض أن تكون بعد الآن مُسيطَر عليك بالخوف مثل حيوان غير مفكر. يجب أن يكون عقلك حليفك الشجاع في حل مشاكل حياتك بدلاً من كونك, كما كنت, عبد خوفه الذليل والخادم المقيد للكآبة والهزيمة. لكن الأهم من ذلك كله, أن امكانيتك في الإنجاز الحقيقي هو الروح الذي يعيش داخلك, والذي سيحفز ويُلهم عقلك للتحكم بنفسه وينَّشط الجسد إذا كنت ستخليه من قيود الخوف وبالتالي تمكن طبيعتك الروحية لتبدأ خلاصك من شرور التقاعس بقوة حضور الإيمان الحي. وبعدئذٍ, في الحال, سوف يهزم هذا الإيمان الخوف من الناس بالحضور الآسر لتلك المحبة لزملائك الجديدة والكلية الهيمنة التي سرعان ما ستملأ نفـْسك حتى الفيض بسبب الوعي الذي ولد في قلبك بأنك طفل لله".
130:6.4 (1438.1) "هذا اليوم, يا بني, أنت ستولد من جديد, مُعاد التأسيس كرجل إيمان, وشجاعة, وخدمة مكرسة إلى الإنسان, من أجل الله. وعندما تصبح هكذا مُعاد التكيف للحياة داخل ذاتك, تصبح بالمثل مُعاد التكيف إلى الكون؛ لقد ولدت من جديد ــ ولدت من الروح ــ ومن الآن فصاعدًا ستصبح كل حياتك واحدة من الإنجاز الظافر. المتاعب سوف تنشطك؛ وخيبة الأمل ستستنهضك؛ والصعوبات ستتحداك؛ والعقبات ستحفزك. انهض, أيها الشاب! قل وداعاً للحياة المذللة بالخوف والجُبن الهارب. أسرع بالعودة إلى الواجب وعش حياتك في الجسد كابن لله, بشري مكرس للخدمة النبيلة للإنسان على الأرض ومقدر لخدمة الله الرائعة والخالدة في الأبدية"!
130:6.5 (1438.2) وهذا الشاب فورشن, أصبح فيما بعد زعيمًا للمسيحيين في كريت والزميل المقرب لتيطوس في جهوده من أجل رفع الكريتيين المؤمنين.
130:6.6 (1438.3) ارتاح المسافرون وانتعشوا بالفعل عندما استعدوا ظهرًا ذات يوم للإبحار إلى قرطاجة في شمال أفريقيا, متوقفين لمدة يومين عند القيروان. كان هنا حيث قدم يسوع وكانيد إسعافاً أولياً لفتى اسمه روفوس, تأذى بانهيار عربة مُحمَّلة يجرها ثور. حملوه إلى البيت إلى أُمه, وأبوه سمعان, حَلم قليلاً بأن الرجل الذي قام هو بحمل صليبه لاحقاً بناء على أوامر الجندي الروماني كان الغريب الذي صادق ابنه ذات مرة.
130:7.1 (1438.4) معظم الوقت في الطريق إلى قرطاجة, تحدث يسوع مع زملائه المسافرين عن أمور اجتماعية, وسياسية, وتجارية؛ بالكاد قيلت كلمة واحدة عن الدِين. للمرة الأولى اكتشف كونود وكانيد بأن يسوع كان راوي قصص جيد, وأبقوه منشغلًا في سرد الحكايات عن حياته المبكرة في الجليل. كما علموا أنه قد نشأ في الجليل وليس في أورشليم أو دمشق.
130:7.2 (1438.5) عندما استفسر كانيد عما يمكن للمرء أن يفعله لتكوين أصدقاء, حيث لاحظ أن أكثرية الأشخاص الذين صادف أن التقوا بهم كانوا منجذبين إلى يسوع, قال معلمه: "كن مهتماً بزملائك؛ تعَّلم كيف تحبهم وراقب من أجل مناسبة لتفعل شيئاً من أجلهم أنت متأكد أنهم يريدون القيام به", وبعدئذٍ استشهد بالمثل اليهودي القديم ــ "الرجل الذي يريد أصدقاء يجب أن يُظهر نفسه ودوداً".
130:7.3 (1439.1) في قرطاجة, أجرى يسوع حديثاً طويلاً ولا يُنسى مع كاهن ميثراني حول الخلود, عن الزمان والأبدية. كان هذا الفارسي قد تلقى تعليمه في الإسكندرية, وكان يرغب حقاً في التعلم من يسوع, موضوع في كلمات اليوم, في الجوهر قال يسوع في الإجابة على أسئلته العديدة:
130:7.4 (1439.2) "الزمان هو تيار الأحداث الزمنية المتدفقة التي يدركها وعي المخلوق. الزمان هو اسم أُعطي إلى الترتيب المتتالي حيث يتم التعرف على الأحداث وفصلها. كون الفضاء هو ظاهرة مرتبطة بالزمان كما تُشاهَد من أي موضع داخلي خارج المقام الثابت للفردوس. يتم كشف حركة الزمان فقط في علاقة إلى شيء لا يتحرك في الفضاء كظاهرة زمنية. في كون الأكوان الفردوس وآلهته يتجاوزون كِلا الزمان والفضاء. على العوالم المأهولة, الشخصية البشرية (مسكونة وموجَّهة بروح الأب الفردوسي) هي الحقيقة الوحيدة المرتبطة فيزيائياً التي يمكن أن تتجاوز التسلسل المادي للأحداث الزمنية.
130:7.5 (1439.3) الحيوانات لا تشعر بالزمن كما يفعل الإنسان, وحتى للإنسان, بسبب نظرته المقطعية والمحدودة, يبدو الزمان على أنه سلسلة متوالية من الأحداث؛ لكن بينما يرتقي الإنسان, بينما يتقدم نحو الداخل, فإن الرؤية الموسعة لموكب الأحداث هذا تبدو أكثر وضوحا في مجملها. ما بدا سابقاً على أنه تتالي أحداث عند ذاك سيُنظر إليه كدورة كاملة ومترابطة بكمال؛ بهذه الطريقة سوف تحل الآنية الدائرية بشكل متزايد محل الوعي في وقت ما للتسلسل الخطي للأحداث.
130:7.6 (1439.4) هناك سبعة مفاهيم مختلفة للفضاء كما هو مُكيف بالزمان. الفضاء يُقاس بالزمان, وليس الزمان بالفضاء. ينشأ ارتباك العلماء من فشل إدراك حقيقة الفضاء. ليس الفضاء مجرد مفهوم فكري للإختلاف في ارتباط أشياء الكون. الفضاء ليس فارغاً, والشيء الوحيد الذي يعرفه الإنسان الذي يمكنه جزئياً ان يتجاوز الفضاء هو العقل. يمكن للعقل أن يعمل بشكل مستقل عن مفهوم ارتباط الأجسام المادية بالفضاء. الفضاء نسبياً وبالمقارنة متناه إلى كل الكائنات ذات منزلة المخلوق. الأقرب يأتي الوعي من إدراك الأبعاد الفلكية السبعة, الأكثر يُقارب مفهوم الفضاء المحتمَل الختامية. لكن امكانات الفضاء هي حقًا ختامية فقط على المستوى المُطلق.
130:7.7 (1439.5) يجب أن يكون واضحاً بأن الواقع الكوني لديه معنى موسع ودائماً نسبي على المستويات الصاعدة والمتكاملة للفلك. في نهاية المطاف, ينجز البشر الناجين الهوية في كون سباعي-الأبعاد.
130:7.8 (1439.6) إن مفهوم الزمان-الفضاء لعقل من الأصل المادي مُقـَّدر له أن يخضع لتوسعات متتالية بينما ترتقي الشخصية الواعية والمُدركة مستويات الأكوان. عندما يحرز الإنسان العقل المتداخل بين المستويات المادية والروحية للوجود, فإن أفكاره عن الزمان-الفضاء ستتوسع بشكل هائل كِلا بالنسبة إلى نوعية الإدراك وكمية الخبرة. ترجع المفاهيم الكونية الموسعة لشخصية الروح المتقدمة إلى زيادة كل من عمق البصيرة ومجال الوعي. وبينما تنتقل الشخصية, إلى أعلى ونحو الداخل, إلى المستويات المتعالية لشبه الإلَه, فإن مفهوم الزمان-الفضاء سيقارب على نحو متزايد المفاهيم اللا-زمنية واللا-فضائية للمُطلقات. نسبياً ووفقاً للإحراز المتعالي, هذه المفاهيم عن المستوى المُطلق يجب أن تُبصر بأبناء المصير الختامي.
130:8.1 (1440.1) كانت المحطة الأولى في الطريق إلى إيطاليا عند جزيرة مالطا. هنا تحدث يسوع طويلاً مع شاب مغتم ومحبَط الهمة يُدعى كلودوس. كان هذا الزميل قد فكر في الانتحار, لكن عندما انتهى من الحديث مع الكاتب الدمشقي, قال: "سأواجه الحياة كرجل "انتهيت من لعب دور الجبان. سأعود إلى شعبي وأبدأ من جديد". بعد فترة وجيزة أصبح واعظاً متحمساً للكلبيين, وفيما بعدد تعاون مع بطرس في إعلان المسيحية في روما ونابولي, وبعد وفاة بطرس ذهب إلى إسبانيا ليعظ الإنجيل. لكنه لم يعلم أبداً أن الرجل الذي ألهمه في مالطا كان يسوع الذي أعلنه هو فيما بعد منقذ العالَم.
130:8.2 (1440.2) في سيراكيوس قضوا أسبوعاً كاملاً. كان الحدث البارز لتوقفهم هنا هو إعادة تأهيل عزرا, اليهودي المرتد الذي حافظ على الحانة حيث توقف يسوع ورفاقه. كان عزرا مفتوناً بنهج يسوع وسأله مساعدته في العودة إلى دين إسرائيل. لقد أعرب عن يأسه بالقول, "أريد أن أكون ابناً حقيقيًا لإبراهيم, لكن لا أستطيع إيجاد الله". قال يسوع: "إذا كنت تريد حقاً أن تجد الله, فتلك الرغبة في حد ذاتها هي دليل بأنك قد وجدته بالفعل, مشكلتك ليست أنك لا تستطيع أن تجد الله, لأن الأب قد وجدك بالفعل؛ مشكلتك هي ببساطة أنك لا تعرف الله. ألَم تقرأ في النبي إرميا, ’ستطلبني وتجدني عندما تبحث عني من كل قلبك‘؟ ومرة أخرى, ألا يقول هذا النبي نفسه: ’وسأعطيك قلباً لتعرفني, بأنني الرب, وستنتمي إلى شعبي, وسأكون إلَهك‘؟ وألم تقرأ أيضاً في الكتابات المقدسة حيث تقول: ’هو يتطلع نزولاً على الناس, وإذا أي منهم سيقول: لقد أخطأت وحرفت ما كان صوابًا, ولم ينفعني, عندئذٍ سيخلص الله نفـْس ذلك الإنسان من الظلمة, وسيرى النور‘"؟ ووجد عزرا الله وإلى رضى نفـْسه. فيما بعد, قام هذا اليهودي بالإشتراك مع مهتدٍ يوناني ميسور, ببناء أول كنيسة مسيحية في سيراكيوس.
130:8.3 (1440.3) توقفوا في مَسينا ليوم واحد فقط, لكن ذلك كان طويلاً بما فيه الكفاية لتغيير حياة صبي صغير, بائع فواكه, اشترى منه يسوع الفاكهة وفي المقابل أطعمه خبز الحياة. لم ينس الفتى كلمات يسوع والنظرة الحنونة التي صاحبتهما عندما, واضعاً يده على كتف الصبي, قال: "وداعاً, يا فتاي, كن ذا شجاعة جيدة بينما تنمو إلى الرجولة وبعد أن تُطعم الجسد تعلَم أيضًا كيف تُطعم النفـْس. وسيكون أبي في السماء معك ويسير أمامك". أصبح الفتى مخلصاً للدِين الميثراني وفيما بعد تحول إلى الإيمان المسيحي.
130:8.4 (1440.4) أخيراً وصلوا إلى نابولي وشعروا بأنهم ليسوا بعيدين عن وجهتهم, روما. كان لدى كونود الكثير من الأعمال للقيام بها في نابولي, وبغض النظر عن الوقت المتطلب من يسوع كمترجم, فقد أمضى هو وكانيد وقت فراغهما في زيارة المدينة واستكشافها, كان كانيد يصبح بارعاً عند رؤية أولئك الذين بدوا ليكونوا في حاجة. وجدوا الكثير من الفقر في هذه المدينة ووزعوا حسنات كثيرة. لكن كانيد لم يفهم أبدًا معنى كلمات يسوع عندما, بعد أن أعطى قطعة نقود لمتسول في الشارع, رفض أن يتوقف ويتكلم بمؤاساة إلى الرجل. قال يسوع: "لماذا تبديد الكلمات على من لا يستطيع فهم معنى ما تقوله؟ لا يمكن لروح الأب ان تُعلم وتنقذ من ليس لديه استطاعة من أجل البنوة". ما قصده يسوع كان بأن الرجل لم يكن يتمتع بعقل طبيعي؛ أنه يفتقر المقدرة على الإستجابة لإرشاد الروح.
130:8.5 (1441.1) لم تكن هناك تجربة بارزة في نابولي؛ جاب يسوع والشاب المدينة جيدًا ونشروا البهجة مع العديد من الابتسامات على مئات الرجال والنساء والأطفال.
130:8.6 (1441.2) من هنا ذهبوا عن طريق كابوا إلى روما, متوقفين لثلاثة أيام في كابوا. سافروا بطريق الآبَّيان إلى جانب حيواناتهم المحملة نحو روما, كان كل الثلاثة متلهفين لمشاهدة هذه المحظية للإمبراطورية وأعظم مدينة في كل العالَم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 131
131:0.1 (1442.1) أثناء حلول يسوع وكونود وكانيد في الإسكندرية, أمضى الشاب الكثير من وقته ومبلغاً ليس ضئيلاً من مال أبيه في إعداد مجموعة من تعاليم ديانات العالَم عن الله وعلاقاته بالإنسان الفاني. وظف كانيد أكثر من ثلاثين مُترجماً متعلماً في إعداد هذا المُلخَص عن المذاهب الدينية للعالم فيما يتعلق بالآلهة. وينبغي أن نوضح في هذا السجل بأن كل هذه التعاليم التي تصور التوحيد كانت مستمدة إلى حد كبير, بشكل مباشر أو غير مباشر, من عظات مبشري ماﻜﻴﭭنتا ملكيصادق, الذين انطلقوا من مقارهم في شاليم لنشر عقيدة الإله الواحد ـ الأعلى ـ إلى أقاصي الأرض.
131:0.2 (1442.2) هنا مُقدَّم ملخص لمخطوطة كانيد, التي أعدها في الإسكندرية وروما, والتي حُفِظت في الهند لمئات السنين بعد وفاته. لقد قام بتجميع هذه المادة تحت عشرة رؤوس, على النحو التالي:
131:1.1 (1442.3) بقايا تعاليم تلامذة ملكيصادق, باستثناء تلك التي استمرت في الديانة اليهودية, حُفظت بشكل أفضل في مذاهب الكلابين, اشتمل اختيار كانيد على ما يلي:
131:1.2 (1442.4) " الله سامي؛ هو الأعلى للسماء والأرض. الله هو الدائرة المكتملة للأبدية, وهو يحكم كون الأكوان. إنه الصانع الوحيد للسماوات والأرض. عندما يقرر شيئاً, ذلك الشيء يكون. إلَهنا هو إله واحد, وهو الرحمن الرحيم. كل شيء عالي, ومقدس, وصحيح, وجميل هو مثل إلَهنا. الأعلى هو نور السماء والأرض؛ هو إله الشرق, والغرب, والشمال, والجنوب.
131:1.3 (1442.5) " حتى لو زالت الأرض, فإن الوجه المتألق للأسمى سيبقى في جلال ومجد. الأعلى هو الأول والأخير, البداية والنهاية لكل شيء. ليس هناك سوى هذا الله الواحد, واسمه الحق. الله كائن بذاته, ومُجرد من كل غضب وعداوة؛ هو خالد ولانهائي. إلَهنا كلي القدرة وكريم. في حين أن له العديد من التجليات, فإننا نعبد الله نفسه فقط. الله يعرف الكل ــ أسرارنا وعلانيتنا؛ يعرف أيضاً ما يستحقه كل منا. مقدرته تساوي كل الأشياء.
131:1.4 (1442.6) "الله واهب السلام والحامي الأمين لكل الذين يخافونه ويثقون به. يعطي الخلاص لجميع الذين يخدمونه. كل الخليقة موجودة في قدرة العلي. تنبع محبته الإلَهية من قداسة قدرته, ووده مولود من مقدرة عظمته. قرر الأعلى وحدة الجسد والنفـْس وقد وهب الإنسان من روحه الخاص. ما يفعله الإنسان يجب أن يأتي إلى نهاية, لكن ما يفعله الخالق يستمر إلى الأبد. نحن نكتسب المعرفة من تجربة الإنسان, لكن نستمد الحكمة من التفكر في الأعلى.
131:1.5 (1443.1) "الله يسكب المطر على الأرض, ويُسبب الشمس لتشع على الحبوب النابتة, ويعطينا حصادًا وفيرًا من الأشياء الصالحة في هذه الحياة والخلاص الأبدي في العالَم الآتي. يتمتع إلَهنا بسُلطة عظيمة؛ اسمه ممتاز وطبيعته لا يسبر غورها. عندما تكون مريضاً, إنه الأعلى الذي يشفيك. الله مملوء بالخير تجاه كل الناس؛ ليس لدينا صديق مثل الأعلى. رحمته تملأ كل الأماكن وصلاحه يكتنف كل النفوس. الأعلى لا يتغير؛ هو مساعدنا في كل وقت الحاجة. حيثما تتجه للصلاة, هناك وجه الأعلى والأذن المفتوحة لإلَهنا. قد تختبئ من الناس, لكن ليس من الله. ليس الله على مسافة كبيرة منا؛ هو موجود في كل مكان. الله يملأ كل الأمكنة ويحيا في قلب الإنسان الذي يخشى اسمه القدوس. الخليقة في الخالق والخالق في خليقته. نبحث عن الأعلى ثم نجده في قلوبنا. أنت تذهب في طلب صديق عزيز, ثم تكتشفه داخل نفـْسك.
131:1.6 (1443.2) "الإنسان الذي يعرف الله ينظر إلى جميع الناس على قدم المساواة؛ هم إخوانه. أولئك الذين هم أنانيون يتجاهلون إخوتهم في الجسد, لديهم فقط الإعياء كجزاءهم. أولئك الذين يحبون زملاءهم والذين لديهم قلوب نقية سيرون الله. الله لا ينسى الإخلاص أبداً. هو سيرشد صادق القلب الى الحق, لأن الله هو الحق.
131:1.7 (1443.3) " في حياتكم اطرحوا الخطأ وتغلبوا على الشر بمحبة الحق الحي. في كل علاقاتكم مع الناس افعلوا الخير مقابل الشر. الرب إلَه رحيم ومُحب؛ هو غفور. فلنحب الله, لأنه أحبنا أولاً. بمحبة الله ومن خلال رحمته سوف ننجو. الفقراء والأغنياء إخوة. الله ابوهم. الشر الذي لا تريده أن يُفعل لك, لا تفعله للآخرين.
131:1.8 (1443.4) "في جميع الأوقات ادع باسمه, وكما تؤمن باسمه, هكذا صلواتك ستكون مسموعة. أي شرف عظيم أن تعبد الأعلى! كل العوالم والأكوان تعبد الأعلى. ومع كل صلواتك قدم الشكر-ارتقي إلى العبادة. العبادة المصلية تُجنب الشر وتنهى عن الخطيئة. في جميع الأوقات لنحمد اسم الأعلى. الإنسان الذي يحتمي في الأعلى يخفي عيوبه عن الكون. عندما تقف أمام الله بقلب طاهر, تصبح عديم الخوف من كل الخليقة. الأعلى مثل الأب والأم المحبين؛ إنه يحبنا حقاً, أولاده على الأرض. سوف يغفر لنا إلَهنا ويرشد خطواتنا نحو طرق الخلاص. سيأخذنا باليد ويقودنا إلى نفسه. الله ينقذ الواثقين به؛ هو لا يجبر الإنسان على خدمة اسمه.
131:1.9 (1443.5) "إذا دخل الإيمان بالأعلى قلبك, عندئذٍ ستبيت حراً من الخوف طوال أيام حياتك. لا تغتاظ بسبب غنى الملحد؛ لا تخف من أولئك الذين يخططون الشر؛ دع النفـْس تبتعد عن الخطيئة وضع ثقتك الكاملة في إله الخلاص. النفـْس المتعبة للفاني المتجول تجد راحة أبدية في ذراعي الأعلى؛ الرجل الحكيم يجوع إلى العناق الإلَهي؛ طفل الأرض يتوق إلى أمان ذراعي الأب الكوني. يسعى الرجل النبيل إلى تلك المكانة العالية حيث تمتزج نفـْس الفاني مع روح الأسمى. الله عادل: أي ثمر لا نستلم من زرعنا في هذا العالَم سنستلم في التالي".
131:2.1 (1444.1) لقد انقذ القينيون في فلسطين الكثير من تعاليم ملكيصادق, ومن هذه السجلات, كما حُفظت وعُدلت باليهود, قام يسوع وكانيد بالاختيار التالي:
131:2.2 (1444.2) "في البدء خلق الله السماوات والأرض وكل ما فيها. ورأى, كل الذي خلقه حسنًا جداً. الرب, هو الله؛ لا يوجد أحد سواه في السماء من فوق أو على الأرض من تحت. لذلك ستحب الرب إلَهك من كل قلبك وبكل نفـْسك وبكل قوتك. ستكون الأرض مملوءة بمعرفة الرب كما تغطي المياه البحر. تعلن السماوات مجد الله, والفلك يُظهر عمل يديه. نهار بعد نهار ينطق كلاماً؛ وليل بعد ليل يُظهر معرفة. لا يوجد كلام أو لغة حيث لا يُسمَع صوتهم. عظيم عمل الرب, وفي حكمة صنع كل الأشياء؛ عظمة الرب لا يمكن الوصول إليها. إنه يعرف عدد النجوم؛ يدعوها كلها بأسمائها.
131:2.3 (1444.3) "قدرة الرب عظيمة وفهمه غير محدود. يقول الرب: ’كما أن السماوات أعلى من الأرض, هكذا طرقي أعلى من طرقكم, وأفكاري أعلى من أفكاركم‘.يكشف الله الأمور العميقة والسرية لأن النور يسكن معه. الرب رحيم وكريم؛ طويل الأناة ووافر في الخير والحق. الرب صالح ومستقيم؛ سيرشد الودعاء في الدينونة. ذق وانظر بأن الرب صالح! مبارك الإنسان الذي يثق بالله. الله ملجأنا وقوتنا, عون حاضر للغاية عند الضيق.
131:2.4 (1444.4) "رحمة الرب هي من الأزل وإلى الأزل على أولئك الذين يخشونه وبره حتى لأولاد أولادنا. الرب كريم ومملوء بالرحمة. الرب صالح للجميع, ورحماته السخية على كل خليقته؛ إنه يشفي منكسري القلوب ويعصب جروحهم. إلى أين أذهب من روح الله؟ إلى أين أهرب من الحضور الإلَهي: هكذا يقول الواحد العلي والسامي الذي يسكن الأبدية, الذي اسمه قدوس: ’أنا أسكن في المكان العالي والمقدس؛ وأيضاً مع ذوي القلب النادم والروح المتواضعة‘! لا أحد يمكنه أن يخفي نفسه عن إلَهنا, لأنه يملأ السماء والأرض. لتسر السماوات ولتفرح الأرض. لتقول كل الأمم: الرب يحكم! احمدوا الله, لأن رحمته تدوم إلى الأبد.
131:2.5 (1444.5) "السماوات تعلن بر الله, وقد رأى كل الناس مجده. إنه الله الذي صنعنا, وليس نحن انفسنا؛ نحن شعبه, خراف مرعاه. رحمته أزلية, وحقه يدوم إلى كل الأجيال. إلَهنا هو الحاكم بين الأمم. لتمتلئ الأرض بمجده! آه بحيث يحمد الناس الرب من أجل صلاحه ومن أجل عطاياه الرائعة إلى أولاد الناس!
131:2.6 (1444.6) "لقد جعل الله الإنسان أقل بقليل من إلَهي وتوجَه بالمحبة والرحمة. الرب يعرف طريق البار, لكن طريق الملحد ستهلك. مخافة الرب هي بداية الحكمة؛ ومعرفة الأسمى هي الفهم. يقول الله القدير: ’امشي أمامي وكن كاملاً‘. لا تنسى بأن الكبرياء يأتي قبل الهلاك والروح المتكبرة قبل السقوط. الذي يحكم روحه أقدر من الذي يأخذ مدينة. يقول الرب الإلَه, القدوس: ’في رجوعكم إلى راحتكم الروحية ستكونون مخَلَصِين؛ في هدوء وثقة ستكون قوتكم. المنتظرون الرب سيجددون قوَتهم؛ سيمتطون على أجنحة كالنسور. سيركضون ولا يتعبون؛ سيمشون ولا يضنون. سيعطيك الرب راحة من خوفك. يقول الرب: ’لا تخف, لأني معك. لا تيأس, لأني انا إلَهك. سأقويك؛ سوف اساعدك ؛ نعم, سأعضدك باليد اليمنى لبري‘.
131:2.7 (1445.1) "الله هو أبانا؛ الرب فادينا. خلق الله الجماهير الكونية, وهويحفظهم جميعاً. بره كالجِبال ودينونته كالعمق العظيم. إنه يُسبب لنا أن نشرب من نهر مسراته, وفي نوره سنرى النور. من الجيد ان نعطي شكراً للرب وأن نغني الحمد للأعلى؛ لنُظهر محبة شفوقة في الصباح وإخلاصاً إلَهياً كل ليلة. ملكوت الله هو ملكوت أزلي, وحُكمه يدوم في كل الأجيال. الرب راعي؛ لا يعوزني شيء. إنه يجعلني أرقد في مراع خضراء؛ إلى المياه الساكنة يوردني. يرد نفـْسي. يهديني إلى دروب البر. نعم, ولو أنني أمشي خلال وادي ظل الموت, لن أخاف شراً, لأن الله معي, وبالتأكيد الخير والرحمة سيتبعانني كل أيام حياتي, وسأسكن في منزل الرب إلى الأبد.
131:2.8 (1445.2) "يهوه هو إلَه خلاصي؛ لذلك في الاسم الإلَهي سأضع ثقتي. سأثق بالرب من كل قلبي؛ لن أعتمد على فهمي الخاص. في كل طرقي سوف أعترف به وسيوجه مساراتي. الرب أمين؛ يحفظ كلمته مع الذين يخدمونه؛ سيعيش البار بإيمانه. إذا أنت لم تعمل حسناً, فذلك بسبب الخطيئة الرابضة عند الباب, يحصد الناس الشر الذي يحرثونه والخطيئة التي يزرعونها. لا تغتاظ بسبب فاعلي الشر. إذا اعتبرت الإثم في قلبك, فلن يسمعك الرب؛ إذا أخطأت إلى الله, أنت كذلك تظلم نفـْسك. سيحضر الله عمل كل إنسان للدينونة مع كل شيء سِري, سواء كان خيراً أو شراً. كما يفكر الإنسان في قلبه, هكذا يكون".
131:2.9 (1445.3) "الرب قريب من كل الذين يدعونه بإخلاص وحق. قد يدوم البكاء لليلة, لكن الفرح يأتي في الصباح. القلب الفرح يفعل الخير مثل الدواء. لا شيء صالح سيمسكه الله عن السالكين بالاستقامة. اتق الله واحفظ وصاياه, لأن هذا هو كل واجب الإنسان. لهذا يقول الرب الذي خلق السماوات والذي كوَّنَ الأرض: ’لا يوجد إلَه سواي, الله عادل ومُنقذ. انظر إلي وكن مُنقَذاً, كل أقاصي الأرض. إذا بحثت عني, ستجدني إذا بحثت عني من كل قلبك‘. الودعاء سيرثون الأرض وسيبتهجون بوفرة السلام. كل من يزرع إثماً سيحصد البلاء؛ هم الذين يزرعون الريح سيحصدون العاصفة.
131:2.10 (1445.4) "’تعال الآن, لنفكر سوياً‘ يقول الرب, ’ولو إن خطاياك كالأحمر القاتم, ستكون بيضاء كالثلج. ولو إنها حمراء مثل القرمز, ستكون مثل الصوف‘. لكن ليس هناك سلام للشرير؛ إنها خطاياك التي حجبت الخيرات عنك. الله صحة مُحياي وفرح نفسي. الله الأبدي هو قوتي؛ هو مسكننا, وتحته الأذرع الأزلية. الرب قريب إلى منكسري القلب؛ يخَّلص كل من لديه روح مثل الطفل. كثيرة هي مصائب الإنسان البار, لكن الرب ينجيه منها جميعاً. سلم طريقك إلى الرب ــ ثق به ــ وسيجعلها تزول. الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبقى.
131:2.11 (1445.5) "احب جارك مثل ذاتك؛ لا تحمل ضغينة ضد أي إنسان. كل ما تكرهه لا تفعله لأحد. احب أخيك, لأن الرب قال: ’سأحب أولادي بحرية‘.درب العادل مثل النور المشع الذي يضيء أكثر فأكثر حتى النهار المثالي. الحكماء سيضيئون مثل سطوع القبة الزرقاء والذين يحولون كثيرين إلى البر مثل النجوم أبداً وإلى أبد الآبدين. فليهجر الشرير طُرقه الشريرة والرجل الظالم أفكاره المتمردة. يقول الرب: ’دعهم يعودون إلي, وسوف ارحمهم؛ سوف أسامح بوفرة‘.
131:2.12 (1446.1) "يقول الله, خالق السماء والأرض: ’سلام عظيم لدى هؤلاء الذين يحبون شريعتي. وصاياي هي: يجب أن تحبني من كل قلبك؛ يجب ألا يكون لديك آلهة غيري؛ لا تتخذ اسمي باطلاً؛ تذكر يوم السبت لتحفظه مقدساً؛ أكرم أباك وأُمك؛ لا تقتل؛ لا تزني؛ لا تسرق؛ لا تشهد شهادة زور؛ لا تطمع.‘
131:2.13 (1446.2) "وإلى كل الذين يحبون الرب بسمو وجيرانهم مثل أنفسهم يقول إله السماء: ’سأفتديكم من القبر؛ سأستردكم من الموت. سأكون رحيماً إلى أولادكم, كما سأكون عادلاً. ألم أقل عن مخلوقاتي على الأرض, أنتم أبناء الله الحي؟ وألم أحبكم بمحبة أزلية؟ ألم أدعوكم لتصبحوا مثلي ولتسكنوا إلى الأبد معي في الفردوس‘".
131:3.1 (1446.3) كان كانيد مصدوماً لاكتشاف مدى قرب البوذية من كونها ديانة عظيمة وجميلة بدون الله, بدون إلَه شخصي وكوني. مع ذلك, فقد وجد بعض السجل لبعض المعتقدات الأبكر التي عكست شيئاً من تأثير تعاليم مبشري ملكيصادق الذين واصلوا عملهم في الهند حتى إلى أوقات بوذا. جمّع يسوع وكانيد البيانات التالية من الأدب البوذي:
131:3.2 (1446.4) "من قلب نقي سيتدفق السرور إلى اللامتناهي؛ سيكون كل كياني في سلام مع هذا الفرح الفائق. نفـْسي ممتلئة بالقناعة, وقلبي يفيض بنعمة الثقة المسالمة. ليس لدي خوف؛ أنا متحرر من القلق. أسكن في أمان, وأعدائي لا يستطيعون إزعاجي. أنا راضٍ عن ثمار ثقتي. وجدت أن النهج إلى الخلود يسهل الوصول إلَيه. أصلي من أجل الإيمان ليعضدني على الرحلة الطويلة؛ أنا أعلم بأن الإيمان من فوق لن يخذلني. أعلم أن إخواني سيزدهرون إذا أصبحوا مُشبعين بإيمان الخلود. حتى الإيمان الذي يخلق التواضع, والبر, والحكمة, والشجاعة, والمعرفة, والمثابرة. لنهجر الحزن وننبذ الخوف. بالإيمان لنتمسك بالبر الحقيقي والشهامة الأصلية. لنتعلم التأمل في العدل والرحمة. الإيمان هو الثروة الحقيقية للإنسان؛ إنه هبة الفضيلة والمجد.
131:3.3 (1446.5) "الإثم حقير؛ الخطيئة خسيسة. الشر مهين, سواء أُمسك في الفكر أو اُشتـُغِل في الأفعال. الألَم والحزن يتبعان في طريق الشر مثلما يتبع الغبار الريح. السعادة وراحة البال يتبعان التفكير الصافي والعيش الفاضل كما يتبع الظل جوهر الأشياء المادية. الشر هو ثمرة التفكير الموَّجَه بخطأ. إنه من الشر رؤية الخطيئة حيث لا توجد خطيئة؛ عدم رؤية خطيئة حيث هناك خطيئة. الشر هو طريق العقائد الباطلة. أولئك الذين يتجنبون الشر برؤية الأشياء كما هي يكسبون الفرح من خلال اعتناق الحقيقة. ضع نهاية لتعاستك باحتقار الخطيئة. عندما تتطلع إلى الواحد النبيل, ابتعد عن الخطيئة بقلب كامل. لا تجعل عذراً من أجل الشر؛ ولا تبرر الخطيئة. بفضل جهودك للتعويض عن خطايا ماضية تكتسب القوة لمقاومة الميول المستقبلية إليها. ضبط النفس مولود من التوبة. لا تترك خطأ غير مُعترَف به إلى الواحد النبيل.
131:3.4 (1447.1) "الانشراح والبهجة هما ثواب الأعمال المنجزة ببراعة ولمجد الخالد. لا يمكن لإنسان أن يسلبك حرية عقلك الخاص. عندما يحرر الإيمان بدِينك قلبك, عندما يكون العقل, مثل الجبل, مستقراً وغير متحرك, حينئذ سيتدفق سلام النفـْس باطمئنان كنهر ماء. أولئك الذين هم على يقين من الخلاص هم إلى الأبد أحرار من الشهوة, والحسد, والكراهية, وأوهام الثروة. في حين أن الإيمان هو الطاقة لحياة أفضل, مع ذلك, يجب أن تعمل بمثابرة لخلاصك. إذا انت لتكون أكيداً من خلاصك النهائي, فتأكد بأنك تسعى بإخلاص إلى تحقيق كل بر. نمي يقين القلب الذي ينبع من الداخل وبالتالي لتتمتع بنشوة الخلاص الأبدي.
131:3.5 (1447.2) "لا يمكن لأي متدين أن يأمل في بلوغ استنارة الحكمة الخالدة عندما يتشبث في الكسل, والتراخي, والضعف, والبطالة, والوقاحة, والأنانية. لكن كل من هو مراعي لمشاعر الغير, وحَذر, ومتفكر, وغيور, ومجتهد ــ حتى بينما لا يزال يعيش على الأرض ــ قد ينال التنوير الأعلى لسلام وحرية الحكمة الإلَهية. تذكَّر, كل عمل سيستلم ثوابه. الشر ينتج عنه الحزن, والخطيئة تنتهي في الألَم. الفرح والسعادة هما حصيلة الحياة الصالحة. حتى فاعل الشر يتمتع بفصل من النعمة قبل وقت النضج الكامل لأفعاله الشريرة, لكن لا بد من مجيء الحصاد الكامل لفعل الشر. فلا يُفكر إنسان في الخطيئة باستخفاف, قائلاً في قلبه: ’ لن يأتي قصاص فعل الإثم قربي‘. ما تفعله سيُفعل لك, في قضاء الحكمة. الظلم الذي لحق بزملائك سيرتد عليك. لا يستطيع المخلوق الهروب من قدر أفعاله.
131:3.6 (1447.3) "قال الأحمق في قلبه, ’ لن يدركني الشر‘ لكن الأمان يوجد فقط عندما تشتهي النفـْس التوبيخ والعقل يطلب الحكمة. الرجل الحكيم هو نفـْس نبيلة, لطيف في وسط أعدائه, مطمئن بين المضطربين, وكريم بين الممسكين. محبة الذات مثل العشب الضار في حقل حسن. الأنانية تؤدي إلى الحزن؛ الهم المستديم يقتل. العقل المروض ينتج السعادة. إنه الأعظم بين المحاربين الذي يتغلب على نفسه ويُخضعها. ضبط النفس في كل الأشياء جيد. وحده شخص فائق مَن يُقدر الفضيلة ويراعي واجبه. لا تدع الغضب والكراهية يسودان عليك. لا تتكلم بقسوة عن أحد. القناعة أعظم ثروة. ما أُعطي بحكمة قد وُفر بشكل جيد. لا تفعل للآخرين تلك الأشياء التي لا ترغب في فعلها لك. ادفع الخير من أجل الشر؛ تغلب على الشر بالخير.
131:3.7 (1447.4) "النفـْس الصالحة مرغوبة أكثر من سيادة كل الأرض. الخلود هو هدف الإخلاص؛ والموت, نهاية العيش الطائش. أولئك المجتهدون لا يموتون؛ الطائشون قد ماتوا بالفعل. طوبى لأولئك الذين لديهم بصيرة في حالة اللا-موت. أولئك الذين يعذبون الأحياء لن يجدوا سعادة بعد الموت. الغيريون يذهبون إلى السماء, حيث يفرحون في نعيم الحرية اللانهائية ويستمرون في الزيادة في الكرم النبيل. كل بشري الذي يفكر بصدق, ويتكلم بنبل, ويتصرف بشكل غير أناني لن يتمتع فقط بالفضيلة هنا أثناء هذه الحياة القصيرة بل كذلك, بعد انحلال الجسد, سيستمر في التمتع بمباهج السماء".
131:4.1 (1447.5) حمل مبشرو ملكيصادق تعاليم الله الواحد معهم أينما ارتحلوا. الكثير من مذهب التوحيد هذا, سويةً مع مفاهيم أخرى وسابقة, أصبحت مُجسدة في التعاليم اللاحقة للهندوسية. رتب يسوع وكانيد المقتطفات التالية:
131:4.2 (1448.1) "هو الله العظيم, بكل طريقة سامي. هو الرب الذي يحيط بكل الأشياء. هو الخالق لكون الأكوان والمتحكم به. الله إله واحد؛ هو وحده وبنفسه؛ هو الواحد الوحيد. وهذا الله الواحد هو صانعنا والمصير الأخير للنفـْس. الواحد السامي متألق ما فوق الوصف؛ إنه نور الأنوار. كل قلب وكل عالَم مُنَّور بهذا النور الإلَهي. الله هو حامينا ــ يقف إلى جانب مخلوقاته ــ وأولئك الذين يتعلمون معرفته يصبحون خالدين. الله هو المصدر العظيم للطاقة؛ هو النفـْس العظيمة. يمارس السيادة الشاملة على الجميع. هذا الله الواحد مُحب, ومجيد, ورائع. إلَهنا سامي في القدرة ويقيم في المقام الأعلى. هذا الشخص الحقيقي أبدي وإلَهي؛ هو رب السماء الأول. كل الأنبياء مدحوه, وقد كشف نفسه لنا. نحن نعبده. أيها الشخص السامي, مصدر الكائنات, رب الخليقة, وحاكم الكون, أظهر لنا, مخلوقاتك, القدرة التي بها تبقى راسخاً؛ الله صنع الشمس والنجوم؛ هو مشرق, ونقي, وكائن بالذات. معرفته الأبدية حكيمة إلَهياً. الأبدي لا يخترقه الشر. بالنظر إلى أن الكون قد انبثق من الله, فهو يحكمه بلياقة. إنه سبب الخلق, وبالتالي كل الأشياء مؤسسة فيه.
131:4.3 (1448.2) "الله هو الملاذ الأكيد لكل إنسان صالح عندما في حاجة؛ الواحد الخالد يهتم بالبشرية جمعاء. خلاص الله قوي ولطفه كريم. هو حامي مُحب, ومدافع مبارك. يقول الرب: ’أنا أسكن في نفوسهم كمصباح حكمة. أنا بديع البديعين وصلاح الصالحين. حيث يجتمع اثنان أو ثلاثة معاً, فهناك أنا أيضاً‘. لا يمكن للمخلوق أن يفلت من حضور الخالق. الرب حتى يعُد رَفات الرموش غير المتوقفة لعيون كل بشر؛ ونحن نعبد هذا الكائن الإلَهي باعتباره رفيقنا الذي لا ينفصل. هو كامل السيادة, وسخي, وموجود في كل مكان, ولطيف بلا حدود. الرب حاكمنا, وملجأنا, والمتحكم السامي بنا, وروحه الأولية تسكن داخل النفـْس الفانية. الشاهد الأبدي للرذيلة والفضيلة يسكن في قلب الإنسان. فلنتأمل طويلاً في المُحيي الجدير بالعبادة والإلَهي؛ فلتوجه روحه أفكارنا كلياً. من هذا العالَم غير الحقيقي يقودنا إلى الحقيقي؛ من الظلمة يقودنا إلى النور؛ من الموت يرشدنا إلى الخلود!
131:4.4 (1448.3) "بقلوبنا المطهرة من كل بغضاء, فلنعبد الأبدي. إلَهنا هو رب الصلاة؛ يسمع صرخة أولاده. فليُخضع كل الناس مشيئتهم إليه, الثابت العزم. فلنبتهج في سخاء رب الصلاة. اجعل الصلاة صديقك الداخلي واعبد دعم نفـْسك. ’إذا كنت فقط ستعبدني بمحبة‘, يقول الأبدي, ’سأعطيك الحكمة لتصل إلي, لأن عبادتي هي فضيلة مشتركة إلى كل المخلوقات‘. الله منير المكتئبين وقدرة الضعفاء. حيث إن الله صديقنا القوي, فلا مزيد من الخوف لدينا. نحمد اسم القاهر الذي لا يُقهر أبداً. نعبده لأنه مساعد الإنسان المُخْلص والأبدي. الله قائدنا الأكيد ومرشدنا الذي لا يفشل. هو الأب العظيم للسماء والأرض, يمتلك طاقة غير محدودة وحكمة غير محدودة. جلاله سامي وجَماله إلَهي. هو الملجأ الأعلى للكون والوصي الذي لا يتغير للشريعة الأزلية. إلَهنا هو رب الحياة ومؤاسي كل الناس؛ هو المحب لجنس الإنسان ومساعد المكروبين. إنه واهب حياتنا والراعي الصالح لقطعان البشر. الله هو أبونا, وأخونا, وصديقنا. ونتوق لمعرفة هذا الإله في كياننا الداخلي.
131:4.5 (1448.4) "لقد تعلمنا أن نكسب الإيمان من خلال اشتياق قلوبنا. لقد بلغنا الحكمة بضبط حواسنا, وبالحكمة اختبرنا السلام في الأسمى. المملوء بالإيمان يعبد بصدق عندما تقصد ذاته الداخلية الله. إلَهنا يرتدي السماوات كعباءة؛ كما أنه يسكن الأكوان الستة الأخرى الواسعة الانتشار. هو سامي فوق الكل وفي الكل. نتوق إلى المغفرة من الرب على كل تجاوزاتنا ضد زملائنا. وسنعتق صديقنا من الخطأ الذي فعله نحونا. روحنا تعاف كل شر؛ لذلك, يا رب, حررنا من كل وصمة خطيئة. نصلي إلى الله كمؤاسي وحامي, ومُنقذ ــ واحد الذي يحبنا.
131:4.6 (1449.1) "روح حافظ الكون تدخل نفـْس المخلوق البسيط. ذلك الإنسان حكيم مَن يعبد الله الواحد. أولئك الذين يسعون إلى الكمال يجب أن يعرفوا حقاً الرب الأسمى. لن يخاف أبداً مَن يعرف الأمان المبارك للعلي, لأن الأعلى يقول للذين يخدمونه, ’لا تخافوا, لأني معكم‘. إله العناية الإلَهية هو أبانا. الله حق. وإنها رغبة الله أن تفهمه مخلوقاته ــ أن يأتوا كلياً لمعرفة الحق. الحق أبدي؛ إنه يعضد الكون. رغبتنا السامية ستكون الإتحاد مع الأعلى. المتحكم العظيم هو المُوَلد لكل الأشياء ــ الكل يتطور منه. وهذا هو مجموع الواجب: فلا يفعل إنسان إلى آخر ما هو بغيض لنفسه؛ لا تعتز بأي ضغينة, لا تضرب مَن ضربك, تغلب على الغضب بالرحمة, واقهر البغضاء بالإحسان. وكل هذا يجب أن نفعله لأن الله صديق طيب وأب رؤوف يغفر كل إساءاتنا الأرضية.
131:4.7 (1449.2) "الله أبونا, والأرض أُمنا, والكون مكان ولادتنا. بدون الله النفـْس سجينة؛ معرفة الله تحرر النفـْس. بالتأمل في الله, بالإتحاد معه, يأتي التحرر من أوهام الشر ومنتهى الخلاص من جميع القيود المادية. عندما يطوي الإنسان الفضاء كقطعة من الجلد, عندئذٍ ستأتي نهاية الشر لأن الإنسان قد وجد الله. اللهم, احفظنا من الخراب الثلاثي للجحيم ــ الشهوة, والغضب, والبُخل! أيتها النفـْس, تمنطقي من أجل كفاح الروح للخلود! عندما تأتي نهاية الحياة الفانية, لا تترددي في التخلي عن هذا الجسد من أجل شكل أكثر لياقة وجمالاً وللاستيقاظ في عوالم الأسمى والخالد, حيث لا يوجد خوف, أو حزن, أو جوع, أو عطش, أو موت. معرفة الله هي قطع حِبال الموت. النفـْس العارفة الله ترتفع في الكون مثلما تظهر القشدة فوق اللبن. نحن نعبد الله, العامل الكلي, النفـْس العظيمة, الجالس أبداً في قلب مخلوقاته. والذين يعرفون بأن الله متوج في قلب الإنسان مقدر لهم أن يصبحوا مثله ــ خالدين. يجب أن يُترك الشر إلى الوراء في هذا العالَم, لكن الفضيلة تتبع النفـْس إلى السماء.
131:4.8 (1449.3) "إنه الأثيم فقط الذي يقول: ’ليس للكون حقيقة ولا حاكم؛ لقد صُمم لشهواتنا فقط‘. هكذا نفوس مضللة بصغر عقولها. لهذا يتخلون عن أنفسهم للتمتع بشهواتهم وحرمان نفوسهم من مباهج الفضيلة ومسرات البر. ما الذي يمكن أن يكون أعظم من تجربة الخلاص من الخطيئة؟ الإنسان الذي رأى الأسمى خالد. أصدقاء الإنسان في الجسد لا يمكنهم النجاة من الموت؛ الفضيلة وحدها تمشي جنبًا إلى جنب مع الإنسان بينما يرتحل أبداً نحو حقول الفردوس المبهجة والمضاءة بنور الشمس".
131:5.1 (1449.4) كان زرادشت نفسه على اتصال مباشر بأحفاد مبشري ملكيصادق السابقين, وأصبح مذهبهم عن الله الواحد تعليماً مركزياً في الدِين الذي أسسه في فارس. على حدة من اليهودية, لم يتضمن اي دِين في ذلك اليوم أكثر من تعاليم شاليم هذه. من سجلات هذا الدِين قدم كانيد المقتطفات التالية:
131:5.2 (1450.1) "كل الأشياء تأتي من, الله الواحد وتنتمي إليه ــ الكلي الحكمة, والصالح, والبار, والقدوس, والبهي, والمجيد. هذا, إلَهنا, هو مصدر كل التألق. هو الخالق, إله كل الأهداف الصالحة, وحامي عدالة الكون. إن المسار الحكيم في الحياة هو العمل وفقاً لروح الحقيقة. الله كلي- البصر, ويشاهد كِلا الأعمال الشريرة للأثيم والأعمال الصالحة للبار؛ إلَهنا يلاحظ كل الأشياء بعين تومض. لمسته لمسة الشفاء. الرب هو المُحسن الكلي القدرة. الله يمد يده المُحسِنة إلى كِلا البار والأثيم. أسس الله العالَم وعيَّن الجزاءات من أجل الخير والشر. الله الكلي الحكمة وعد الخلود للنفوس التقية الذين يفكرون بنقاوة ويتصرفون باستقامة. كما ترغب بسمو, هكذا ستكون. نور الشمس هو كالحكمة لأولئك الذين يميزون الله في الكون.
131:5.3 (1450.2) "إحمد الله بطلب سرور الحكيم. عبادة الله النور بالسير المَرح في المسارات المعيَّنة بدِينه الموحى. لا يوجد إلا إله أسمى واحد فقط, رب الأنوار. نعبده الذي صنع المياه, والنباتات, والحيوانات, والأرض, والسماوات. إلَهنا هو الرب المُحسن الأعظم, نعبد الأكثر جَمالاً, السخي الخالد, الممنوح بالنور الأبدي. الله هو الأبعد عنا وفي نفس الوقت الأقرب إلينا حيث إنه يسكن في نفوسنا. إلَهنا هو روح الفردوس الإلَهي والأقدس, ومع ذلك هو أكثر وداً للإنسان من أكثر المخلوقات ودية. الله هو الأكثر مساعدة لنا في هذا الأعظم من كل الأعمال, معرفة نفسه. الله صديقنا الأكثر مودة وبراً؛ هو حكمتنا, وحياتنا, وعافية نفوسنا وجسدنا. من خلال تفكيرنا الصالح سيمكننا الله الحكيم من فعل مشيئته, وبذلك نصل إلى تحقيق كل ما هو كامل إلَهياً.
131:5.4 (1450.3) "يا رب, علمنا كيف نعيش هذه الحياة في الجسد بينما نستعد للحياة التالية في الروح. تكلم إلينا, يا رب, وسنفعل وصاياك. علمنا السبل الصالحة, وسنمضي على ما يرام. امنحنا أن ننال وحدة معك. فنحن نعلم أن الدِين الذي يؤدي إلى وحدة مع البر هو حق. الله هو طبيعتنا الحكيمة, وأفضل فكرنا, وأصلح عمل. ليمنحنا الله وحدة مع الروح الإلَهي والخلود في نفسه!
131:5.5 (1450.4) "هذا الدِين للواحد الحكيم يطهر المؤمن من كل فكر شرير وخطيئة. أنا أنحني أمام إله السماء في توبة إذا أسأت في الفكر, أو القول, أو الفعل ــ عمداً أو بدون قصد ــ وأقدم صلوات من أجل الرحمة وحَمد من أجل الغفران. أعلم عندما اعترف, إذا قصدت ألا أفعل الشيء الشرير مرة أخرى, بأن الخطيئة ستُزال من نفـْسي. أعلم بأن المغفرة تزيل قيود الخطيئة. أولئك الذين يفعلون الشر سينالون القصاص, لكن الذين يتبعون الحق سيتمتعون بنعمة الخلاص الأبدي. من خلال النعمة احفظنا وأسعف قدرة مخَّلْصة إلى نفوسنا. نحن ندَّعي الرحمة لأننا نطمح إلى بلوغ الكمال؛ سنكون مثل الله".
131:6.1 (1450.5) المجموعة الثالثة من المؤمنين المتدينين الذين حافظوا على عقيدة الله الواحد في الهند ــ نجاة تعليم ملكيصادق ــ عُرفوا في تلك الأيام باسم السودانيين. أصبح هؤلاء المؤمنون معروفين مؤخراً بأتباع اليانية. هم علـَّموا:
131:6.2 (1450.6) "رب السماء سامي. أولئك الذين يقترفون الخطيئة لن يصعدوا إلى العُلى, لكن أولئك الذين يسيرون في دروب البر سيجدون مكاناً في السماء. الحياة المستقبلية قد ضُمنت لنا إذا عرفنا الحق. قد ترتقي نفـْس الإنسان إلى أعلى سماء, هناك لتطور طبيعتها الروحية الحقيقية, لتحرز الكمال. منزلة السماء تخَّلص الإنسان من عبودية الخطيئة وتُقدمه إلى السعادة النهائية؛ الإنسان البار قد اختبر بالفعل نهاية الخطيئة وكل المآسي المرتبطة بها. الذات هي عدو الإنسان الذي لا يقهر, والذات تتجلى كأعظم أربع أهواء للإنسان: الغضب, والكبرياء, والخداع, والطمع. أعظم انتصار للإنسان هو التغلب على نفسه. عندما يتطلع الإنسان إلى الله من أجل المغفرة, وعندما يتجرأ على التمتع بهذه الحرية, فإنه بذلك قد نجا من الخوف. يجب أن يرتحل الإنسان خلال الحياة متعاملاً مع زملائه المخلوقات كما يود أن يُعامَل".
131:7.1 (1451.1) لم يتم إيداع مخطوطات هذا الدين من الشرق الأقصى في مكتبة الإسكندرية إلا مؤخراً. كان الدين العالمي الوحيد الذي لم يسمع به كانيد قط. كذلك احتوى هذا المعتقد بقايا تعاليم ملكيصادق الأبكر كما هو موضح في الملخصات التالية:
131:7.2 (1451.2) "يقول الرب: ’كلكم متلقون من قدرتي الإلَهية؛ كل الناس يتمتعون بإسعاف رحمتي. أنا أستمد مسرة عظيمة في تكاثر الناس الأبرار في كل أنحاء الأرض. في كل من جمال الطبيعة وفضائل الناس يسعى أمير السماء إلى الكشف عن نفسه وإظهار طبيعته الصالحة. حيث إن الناس القدماء لم يعرفوا اسمي, فقد تجليت في أني ولدت في العالَم كوجود مرئي وتحمَّلت مثل هذا التحقير حتى أن الناس يجب ألا تنسى إسمي. أنا صانع السماء والأرض؛ الشمس والقمر وكل النجوم تطيع مشيئتي. أنا حاكم كل المخلوقات على اليابسة وفي البحار الأربعة. مع أني عظيم وسامي, لا يزال لدي اعتبار من أجل صلوات أفقر الناس. إذا كان أي مخلوق سيعبدني, فسأسمع صلاته وأعطي رغبة قلبه‘.
131:7.3 (1451.3) "’في كل مرة يستسلم الإنسان للقلق, يبتعد خطوة عن قيادة روح قلبه‘. الكبرياء يحجب الله. إذا كنت تود الحصول على مساعدة سماوية, ضع كبرياءك جانباً؛ كل شعرة كبرياء تغلق نور خلاص, كما لو كان, بواسطة سحابة عظيمة. إذا لم تكن باراً في الداخل, فلا فائدة في أن تصلي لأجل ما هو في الخارج. ’إذا سمعتُ صلواتك, فلأنك تأتي أمامي بقلب نظيف, خالٍ من الباطل والمراءاة, مع نفـْس تعكس الحق مثل المرآة. إذا أردت أن تكسب الخلود, اهجر العالَم وتعال إلي".
131:8.1 (1451.4) توغل رُسل ملكيصادق بعيداً في الصين, وأصبحت عقيدة الله الواحد جزءاً من التعاليم الأبكر للعديد من الديانات الصينية؛ كانت الطاويَّة التي تستمر لأطول فترة وتحتوي على معظم الحقيقة التوحيدية, جمَّع كانيد التالي من تعاليم مؤسسها:
131:8.2 (1451.5) "كم هو نقي وهادئ هو الأسمى ومع ذلك كم هو قدير ومقتدر, كم هو عميق ولا يُسبر غوره! إله السماء هذا هو السلف المُشرَّف لكل الأشياء. إذا كنت تعرف الأبدي, فأنت مستنير وحكيم. إذا كنت لا تعرف الأبدي, عند ذاك يتجلى الجهل كشر, وبالتالي تنشأ أهواء الخطيئة. هذا الكائن العجيب كان موجوداً قبل ما كانت السماوات والأرض. إنه روحاني حقاً؛ يقف وحده ولا يتغير. إنه بالفعل أُم العالَم, وكل الخليقة تدور حوله. هذا الواحد العظيم ينقل نفسه إلى الناس وبهذا يمكنهم من التفوق والبقاء على قيد الحياة. حتى لو لم يكن لدى المرء سوى القليل من المعرفة, فلا يزال بإمكانه السير في طُرق الأسمى؛ يمكنه أن يمتثل لمشيئة السماء.
131:8.3 (1452.1) "كل الأعمال الصالحة ذات الخدمة الحقيقية تأتي من الأسمى. كل الأشياء تعتمد على المصدر العظيم للحياة. لا يسعى الأسمى العظيم إلى الفضل من أجل إغداقاته, إنه سامي في القدرة, ومع ذلك يبقى مخفيًا عن نظراتنا. إنه يحَّول سجاياه بدون توقف بينما يُكامل مخلوقاته. العقل السماوي بطيء وصبور في تصميماته إنما واثق من إنجازاته. ينشر الأسمى كل الكون ويعضده كله. كم عظيم وقدير تأثيره الفائض وقدرته الساحبة! الخير الحقيقي مثل الماء في أنه يبارك كل شيء ولا يضر شيئًا. ومثل الماء, يسعى الخير الحقيقي لأدنى الأماكن, حتى تلك المستويات التي يتجنبها الآخرون, وذلك لأنه يشبه الأعلى. يخلق الأسمى كل الأشياء, في الطبيعة يغذيها وفي الروح يكاملها. وإنه لغز كيف يقوم الأسمى برعاية المخلوق, وحمايته, وإكماله دون إجباره. إنه يُرشد ويوجه, لكن بدون تأكيد-الذات. هو يُسعف التقدم, لكن دون هيمنة.
131:8.4 (1452.2) "الإنسان الحكيم يجعل قلبه كونياً. القليل من المعرفة شيء خطير. أولئك الطامحون إلى العظمة يجب أن يتعلموا أن يتواضعوا. في الخلق أصبح الأسمى أُم العالَم. لمعرفة أُم المرء هو التعرف على بنوة المرء. إنه إنسان حكيم الذي ينظر إلى جميع الأجزاء من وجهة نظر الكل. انتسب إلى كل إنسان كما لو كنت في مكانه. جازي الأذية باللطف. إذا أحببت الناس, سوف تسحبهم قربك ــ لن تجد صعوبة في كسبهم.
131:8.5 (1452.3) " الأسمى العظيم كلي الانتشار؛ هو على اليد اليسرى وعلى اليد اليمنى, يدعم كل الخليقة ويسكن كل الكائنات الحقيقية. لا يمكنك العثور على الأسمى ولا تستطيع الذهاب إلى مكان حيث لا يكون. إذا تعَّرَف الإنسان على شر طرقه وتاب من قلبه عن الخطيئة, عندئذٍ يمكنه طلب المغفرة؛ هو قد يهرب من القصاص؛ قد يحول المصيبة إلى بَرَكة. الأسمى هو الملجأ الآمن لكل الخليقة ؛ فهو ولي البشرية ومخلصها. إذا بحثت عنه يومياً, فستجده. حيث أنه يستطيع أن يغفر الخطايا, فهو في الواقع أغلى ما يكون لكل الناس. دائماً تذكَّر بأن الله لا يجازي الإنسان على ما يفعل بل من أجل ما هو عليه؛ لذلك يجب أن تمد المساعدة لزملائك دون تفكير في المكافآت. افعل الخير دون التفكير في منفعة الذات.
131:8.6 (1452.4) "الذين يعرفون شرائع الأبدي حكماء. الجهل بالقانون الإلهي شقاء وكارثة. الذين يعرفون شرائع الله هم أحرار العقل. إذا كنت تعرف الأبدي, حتى وإن هلك جسدك, ستنجو نفـْسك في خدمة الروح. أنت حقاً حكيم عندما تدرك عدم أهميتك. إذا أقمت في نور الأبدي, ستتمتع بتنوير الأسمى. أولئك الذين يكرسون أشخاصهم لخدمة الأسمى هم فَرحون في هذا السعي إلى الأبدي. عندما يموت الإنسان, تبدأ الروح بالتحليق في رحلتها الطويلة على رحلة الوطن العظيم".
131:9.1 (1452.5) حتى الأقل من أعظم ديانات العالَم المعترفة بالله أقـَّرت بتوحيد إرساليات ملكيصادق وخلفائهم المواظبين. كان ملخص كانيد للكونفوشوسية:
131:9.2 (1452.6) "ما تُعَّينه السماء هو بلا أخطاء. الحق حقيقي وإلَهي. كل شيء ينشأ في السماء, والسماء العظيمة لا ترتكب أخطاء. لقد عيَّنت السماء العديد من التابعين للمساعدة في إرشاد ورفع المخلوقات الوضيعة. عظيم, عظيم جداً, هو الله الواحد الذي يحكم الإنسان من العُلى. الله جليل في القدرة ورهيب في الدينونة. لكن هذا الإله العظيم قد أعطى حسًا أخلاقياً حتى للعديد من الأشخاص الأدنى منزلة. كرم السماء لا يتوقف أبدًا. الإحسان هو هدية السماء الأفضل للناس. منحت السماء نُبلها لنفـْس الإنسان؛ فضائل الإنسان هي ثمرة هذه الهبة لنُبل السماء. السماء العظيمة كلية الإدراك وتتماشى مع الإنسان في جميع أفعاله. ونحن نفعل حسناً عندما ندعو السماء العظيمة أبانا وأُمنا. إذا كنا بهذا خادمين لأسلافنا الإلَهيين, عندئذٍ يمكننا أن نصلي بثقة إلى السماء. في جميع الأوقات وفي كل شيء لنقف في رهبة لجلال السماء. نحن نقر, يا الله, الأعلى والقدير, بأن الدينونة تستند إليك, وبأن كل الرحمة تنبع من القلب الإلَهي.
131:9.3 (1453.1) "الله معنا؛ لذلك ليس لدينا خوف في قلوبنا. إن كان يوجد أي فضيلة بي, فهي تجلي السماء التي تسكن معي. لكن هذه السماء التي بداخلي غالباً ما تفرض متطلبات صعبة على إيماني. إذا كان الله معي, فقد عقدت العزم على ألا يكون لدي شك في قلبي. يجب أن يكون الإيمان قريباً جداً من حقيقة الأشياء, ولا أرى كيف يمكن للإنسان العيش بدون هذا الإيمان الصالح. الخير والشر لا يصيبان إنسان بدون سبب. تتعامل السماء مع نفـْس الإنسان وفقاً لهدفه. عندما تجد نفسك مخطئًا, لا تتردد في الإعتراف بخطئك وتكون سريعاً في جعل إصلاحات.
131:9.4 (1453.2) "الإنسان الحكيم منشغل بالبحث عن الحقيقة, ليس في السعي من أجل مجرد العيش. إحراز الكمال في السماء هو هدف الإنسان. الإنسان المتفوق مُعطى للتكيف الذاتي, وهو خال من القلق والخوف. الله معك؛ فلا يكن لديك شك في قلبك. كل عمل صالح له ثوابه. الإنسان الفائق لا يتذمر من السماء ولا يحقد على الناس. ما لا تحبه أن يُفعل لك, لا تفعله للآخرين. لتكن الرحمة جزءًا من كل عقوبة؛ بكل طريقة إسعى لجعل العقوبة نعمة. تلك هي طريقة السماء العظيمة. في حين أن كل المخلوقات يجب أن تموت وتعود إلى الأرض, فإن روح الإنسان النبيل تنطلق لتظهر في العُلى ولترتقي إلى النور المجيد للسطوع النهائي".
131:10.1 (1453.3) بعد العمل الشاق لتنفيذ هذا الجمع لتعاليم ديانات العالَم المتعلقة بأب الفردوس, أخذ كانيد على عاتقه مهمة صياغة ما ارتأى ليكون ملخصاً للمعتقد الذي توصل إليه في اعتبار الله نتيجة لتعليم يسوع. كان هذا الشاب معتادًا على الإشارة إلى هذه المعتقدات ب "دِيننا". كان هذا سجله:
131:10.2 (1453.4) "الرب إلَهنا رب واحد, وعليك أن تحبه بكل عقلك وقلبك بينما تبذل قصارى جهدك لتحب جميع أولاده كما تحب نفسك. هذا الإله الواحد هو أبانا السماوي, الذي فيه تتألف كل الأشياء, والذي يسكن, بروحه, في كل نفـْس بشرية صادقة. وعلينا نحن الذين هم أولاد الله أن نتعلم كيف نستودع حفظ نفوسنا إليه كخالق أمين. مع أبينا السماوي كل الأشياء ممكنة. بما أنه هو الخالق, وحيث أنه قد صنع كل الأشياء وكل الكائنات, فلا يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك. رغم أننا لا نستطيع رؤية الله, فبإمكاننا معرفته. ومن خلال العيش اليومي لمشيئة الأب في السماء, يمكننا أن نكشفه إلى زملائنا الناس.
131:10.3 (1453.5) "يجب أن يكون الغنى الإلهي لشخصية الله عميقًا بلا حدود وحكيمًا إلى الأبد. لا يمكننا البحث عن الله بالمعرفة, لكن نستطيع معرفته في قلوبنا من خلال التجربة الشخصية. بينما عَدله ربما يكون قد مضى إيجاده, فإن رحمته قد تُستـَلم بأوضع كائن على الأرض. بينما الأب يملأ الكون, هو أيضًا يعيش في قلوبنا. عقل الإنسان بشري, فاني, لكن روح الإنسان إلَهية, خالدة. الله ليس كلي القدرة فحسب بل أيضاً كلي الحكمة. إذا كان أباؤنا الأرضيين, كائنين ذوي ميول شريرة يعرفون كيف يحبون أطفالهم ويغدقون عطايا صالحة عليهم, فكم بالحري ينبغي أن الأب الصالح في السماء يعرف كيف يحب أطفاله على الأرض بحكمة ويمنحهم البركات المناسبة.
131:10.4 (1454.1) "لن يسمح الأب في السماء لولد واحد على الأرض أن يهلك إذا كان لدى ذلك الولد رغبة في إيجاد الأب ويشتاق حقاً إلى أن يكون مثله. أبانا حتى يحب الأشرار ودائماً لطيف إلى جاحد الشكر. إذا كان المزيد من البشر يمكنهم فقط معرفة صلاح الله, فمن المؤكد أنهم سيُقادون إلى التوبة عن طرقهم الشريرة والتخلي عن كل خطيئة معروفة. كل الأشياء الصالحة تنزل من أب النور, الذي لا يوجد فيه تغيير ولا ظل التبديل. روح الله الحقيقي هي في قلب الإنسان. هو يعتزم أن يكون كل الناس إخوة. عندما يبدأ الناس بالشعور في أثر الله, فذلك دليل بأن الله قد وجدهم, وأنهم في طلب المعرفة عنه. نحن نعيش في الله والله يسكن فينا.
131:10.5 (1454.2) "لن أكون مكتفياً بعد الآن بالاعتقاد بأن الله هو أب لكل شعبي؛ سأؤمن من الآن فصاعدًا أنه أيضًا أبي. سأحاول دائماً أن أعبد الله بمساعدة روح الحق, الذي هو مساعدي عندما أصبحت أعرف الله حقاً. لكن قبل كل شيء سوف أمارس عبادة الله من خلال تعلم كيف أفعل مشيئة الله على الأرض؛ ذلك بأني, سأبذل قصارى جهدي لمعاملة كل من زملائي البشر تماماً كما أعتقد أن الله يريدني أن أعاملهم. وعندما نعيش هذا النوع من الحياة في الجسد, قد نطلب أشياء كثيرة من الله, وسيمنحنا رغبة قلوبنا بحيث قد نكون أفضل استعداداً لخدمة زملائنا. وكل هذه الخدمة المُحبة لأبناء الله تزيد من قدرتنا على تلقي واختبار أفراح السماء, المسرات العالية لإسعاف روح السماء.
131:10.6 (1454.3) " سأحمد الله كل يوم من أجل عطاياه التي لا توصف ؛ سأحمده من أجل أعماله الرائعة لأبناء البشر. بالنسبة لي, هو القدير, والخالق, والقدرة, والرحمة, لكن الأفضل من كل ذلك, إنه أبي الروحي, وانا كولده الأرضي سأنطلق قُدماً في وقت ما لرؤيته. وقد قال معلمي أنه من خلال البحث عنه سأصبح مثله. بالإيمان بالله قد نلت السلام معه. دِيننا الجديد هذا مملوء جداً بالفرح, ويوَّلد سعادة مستديمة. أنا واثق من أنني سأكون مُخلِصاً حتى الموت, وبأني بالتأكيد سأستلم تاج الحياة الأبدية.
131:10.7 (1454.4) "أنا أتعلم لأثبت كل الأشياء وأتمسك بما هو صالح. كل ما أريد أن يفعله الناس لي, سأفعله لزملائي. بهذا الإيمان الجديد أعلم بأن الإنسان قد يصبح ابنًا الله, لكن أحياناً يخيفني عندما أتوقف للتفكير بأن جميع الناس هم إخوتي, لكن هذا يجب أن يكون صحيحاً. لا أرى كيف يمكنني أن أبتهج في أبوة الله بينما أرفض قبول أخوة الإنسان. كل من يدعو باسم الرب سيخَّلَص. إذا كان هذا صحيحًا, عندئذٍ يجب أن يكون كل الناس إخوتي.
131:10.8 (1454.5) "من الآن فصاعداً سأقوم بأعمالي الصالحة في الخفاء؛ كذلك سأصَّلي الأكثر عندما أكون بمفردي. لن أحكم حيث لا يمكنني أن أكون غير منصف إلى زملائي. سوف أتعلم محبة أعدائي؛ حتى الآن لم أَتقن حقاً هذه الممارسة بأن أكون مثل الله. مع أنني أرى الله في هذه الديانات الأخرى, إلا أنني أجده في ’دِيننا‘ ككونه أكثر جَمالاً, ومحبة, ورحمة, وشخصي, وإيجابي. لكن الأهم من ذلك كله, أن هذا الكائن العظيم والمجيد هو أبي الروحي؛ أنا ولده. وليس بأي وسيلة أخرى سوى رغبتي الصادقة في أن أكون مثله, أنا سأجده في نهاية المطاف وأخدمه إلى الأبد. أخيراً لدي دِين مع الله, الله رائع, وهو إله الخلاص الأبدي".
كِتاب يورانشيا
ورقة 132
132:0.1 (1455.1) حيث إن كونود حمل تحيات من أمراء الهند إلى طيباريوس, الحاكم الروماني, في اليوم الثالث بعد وصولهم إلى روما ظهر الهنديان ويسوع أمامه. كان الإمبراطور المتجهم مرحاً على غير عادة هذا اليوم وتحدث لفترة طويلة مع الثلاثة. وعندما ذهبوا من محضره, الإمبراطور, مشيراً إلى يسوع, أدلى بتعليق إلى المساعد الذي يقف على يمينه, "إذا كان لدي المظهر الملكي والتصرفات الربانية التي لدى ذلك الرفيق, سأكون إمبراطوراً حقيقياً, أليس ذلك؟"
132:0.2 (1455.2) أثناء تواجده في روما, كان لدى كانيد ساعات نظامية للدراسة ولزيارة الأماكن المهمة حول المدينة. كان لدى والده الكثير من صفقات العمل للإنجاز, وراغباً في أن يكبر ابنه ليصبح خليفة جديراً في إدارة مصالحه التجارية الواسعة, اعتقد بأن الوقت قد حان لتقديم الصبي إلى عالَم الأعمال. كان هناك العديد من مواطني الهند في روما, وغالباً ما كان أحد موظفي كونود الخاصين يرافقه كمترجم بحيث كان ليسوع أيام كاملة لنفسه؛ وهذا منحه الوقت ليصبح ملماً تماماً بهذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة. كان يتواجد في كثير من الأحيان في المنتدى, مركز الحياة السياسية والتشريعية والتجارية. كثيراً ما صعد إلى الكابيتوليوم وتمعن في عبودية الجهل التي احتُجز فيها هؤلاء الرومان عندما شاهد هذا المعبد العظيم المكرس إلى جوبيتر, وجونو, ومينرﭭا. كما أمضى الكثير من الوقت على تل بالاطاين, حيث يقع مقام الإمبراطور, ومعبد أبولو, والمكتبات الإغريقية واللاتينية.
132:0.3 (1455.3) في هذا الوقت كانت الإمبراطورية الرومانية تضم كل جنوب أوروبا, وآسيا الصغرى, وسوريا, ومصر, وشمال غرب أفريقيا؛ وسكانها ضموا مواطنين من كل بلد من نصف الكرة الأرضية الشرقي. كانت رغبته في الدراسة والاختلاط مع هذا التجمع العالمي العام لبشر يورانشيا السبب الرئيسي وراء موافقة يسوع على القيام بهذه الرحلة.
132:0.4 (1455.4) لقد تعلم يسوع الكثير عن الناس أثناء وجوده في روما, لكن الأكثر قيمة من كل التجارب المتنوعة لحلوله الذي دام ستة أشهر في تلك المدينة كان اتصاله مع القادة الدينيين لعاصمة الإمبراطورية, وتأثيره عليهم. قبل نهاية الأسبوع الأول في روما كان يسوع قد سعى إلى, وتعرف على, القادة من الكلابين, والرواقيين, والعقائد الباطنية, خاصة المجموعة الميثرانية. سواء كان واضحاً أو لا ليسوع بأن اليهود كانوا سيرفضون مهمته, هو بأكثر التأكيد توقع أن رُسله كانوا حالياً قادمين إلى روما لإعلان ملكوت السماء؛ ولذلك شرع, بطريقة مدهشة للغاية, في تمهيد الطريق من أجل استلام أفضل وأكثر تأكيداً لرسالتهم. اختار خمسة من الرواقيين البارزين, وأحد عشر من الكلابين, وستة عشر من قادة العقائد الباطنية وأمضى الكثير من وقت فراغه لحوالي ستة أشهر في صِلة ودية مع هؤلاء المعلمين الدينيين. وهذا كان أسلوبه في الإرشاد: لم يهاجم أبداً أخطاءهم أو حتى ذكر العيوب في تعاليمهم. كان في كل حالة يختار الحقيقة فيما علـَّموه وبعدئذٍ يباشر في تزويق هذه الحقيقة وإلقاء الضوء عليها في عقولهم بحيث أدى هذا التعزيز للحقيقة إلى مزاحمة الخطأ المرتبط بها بفعالية؛ وهكذا تم تحضير هؤلاء الرجال والنساء الذين علَمهم يسوع للتعرف اللاحق على الحقائق الإضافية والمماثلة في تعاليم المبشرين المسيحيين الأوائل. لقد كان هذا القبول المبكر لتعاليم واعظي الإنجيل ما أعطى ذلك الزخم القوي للانتشار السريع للمسيحية في روما ومن هناك إلى جميع أنحاء الإمبراطورية.
132:0.5 (1456.1) يمكن فهم أهمية هذا العمل الجدير بالاعتبار بشكل أفضل عندما نسجل حقيقة أنه, من بين هذه المجموعة المكونة من اثنين وثلاثين من القادة الدينيين الذين علـَّمهم يسوع في روما, فقط اثنان كانا غير مثمرين؛ أصبح الثلاثون أفراداً محوريين في تأسيس المسيحية في روما, وبعض منهم ساعد أيضاً في تحويل المعبد الميثراني الرئيسي إلى أول كنيسة مسيحية لتلك المدينة. نحن الذين ننظر إلى الأنشطة البشرية من وراء الكواليس وفي ضوء التسعة عشر قرناً من الزمن نتعرف بالضبط على ثلاثة عوامل ذات قيمة رئيسية في وضع المرحلة المبكرة لانتشار المسيحية السريع في جميع أنحاء أوروبا, وهي:
132:0.6 (1456.2) 1. الاختيار لسمعان بطرس والتمسك به كرسول.
132:0.7 (1456.3) 2. الحديث في أورشليم مع ستيفانوس, الذي أدى موته إلى كسب شاول من طرسوس.
132:0.8 (1456.4) 3. الإعداد الأولي لهؤلاء الرومانيين الثلاثين من أجل القيادة اللاحقة للدِين الجديد في روما وفي جميع أنحاء الإمبراطورية.
132:0.9 (1456.5) خلال كل تجاربهم, لا ستيفانوس ولا الثلاثين المختارين أدركوا أبداً بأنهم تحدثوا ذات مرة مع الرجل الذي أصبح اسمه موضوع تعاليمهم الدِينية. كان عمل يسوع لمصلحة الاثنين والثلاثين الأصليين شخصياً كلياً. في أشغاله من أجل هؤلاء الأفراد, لم يلتقى الكاتب الدمشقي بأكثر من ثلاثة منهم في وقت واحد, ونادراً أكثر من اثنين, بينما كان يعلمهم في أغلب الأحيان منفردين. وكان يمكنه القيام بهذا العمل العظيم المتمثل في التدريب الدِيني لأن هؤلاء الرجال والنساء لم يكونوا مقيدين بالتقاليد؛ لم يكونوا ضحايا لمفاهيم راسخة مسبقاً بالنسبة لكل التطورات الدينية المستقبلية.
132:0.10 (1456.6) كثيرة كانت المرات في السنوات التي تلت قريباً حين بطرس, وبولس, ومعلمين مسيحيين آخرين في روما سمعوا عن هذا الكاتب من دمشق الذي سبقهم, والذي بجلاء كلي (كما افترضوا عن غير قصد) مهد الطريق من أجل مجيئهم بالإنجيل الجديد. مع أن بولس لم يخمن في الحقيقة هوية هذا الكاتب الدمشقي, إلا أنه, قبل وقت قصير من موته, بسبب التشابه في أوصاف شخصية, وصل إلى الاستنتاج بأن "صانع الخيام الإنطاكي" كان أيضًا "الكاتب الدمشقي". في إحدى المناسبات, بينما كان سمعان بطرس يعظ في روما, عند الاستماع إلى وصف الكاتب الدمشقي, حدس بأن هذا الشخص يمكن أن يكون يسوع لكنه سرعان ما نبذ هذه الفكرة, وهو يعلم جيداً (حسب اعتقاده) بأن السيد لم يكن أبداً في روما.
132:1.1 (1456.7) لقد كان مع أنغامون, زعيم الرواقيين, حيث كان ليسوع حديث دام كل الليل مبكرًا أثناء حلوله في روما. أصبح هذا الرجل فيما بعد صديقاً عظيماً لبولس وبرهن ليكون أحد المؤيدين الأقوياء للكنيسة المسيحية في روما. في الجوهر, ومُعاد إعلانه في عبارات حديثة, علـَّم يسوع أنغامون:
132:1.2 (1457.1) معيار القيم الحقيقية يجب البحث عنه في العالَم الروحي وعلى المستويات الإلهية للواقع الأبدي. بالنسبة إلى بشري صاعد جميع المعايير الدنيا والمادية يجب أن يُتعرَف على أنها عابرة, وجزئية, ووضيعة. العالِم, على هذا النحو, يقتصر على اكتشاف ارتباط الحقائق المادية. من الناحية الفنية, ليس لديه حق التأكيد بأنه إما مادي أو مثالي, لأنه بفعله هكذا يكون قد افترض أن يتخلى عن موقف العالِم الحقيقي حيث أن أي وكل تأكيدات المواقف هذه هي ذات الجوهر للفلسفة.
132:1.3 (1457.2) ما لم يتم زيادة البصيرة الأخلاقية والإحراز الروحي لجنس الإنسان بشكل متناسب, فإن التقدم غير المحدود للثقافة المادية البحتة قد يصبح في النهاية تهديداً للحضارة. العلم المادي البحت يؤوي داخل ذاته بذرة الاحتمال لدمار كل الاجتهاد العلمي, لأن هذا الموقف بالذات يُنذر بالانهيار النهائي للحضارة التي تخلت عن إحساسها بالقيم الأخلاقية وأنكرت هدفها الروحي المتمثل في الإحراز.
132:1.4 (1457.3) العالِم المادي والمثالي المتطرف مقدر لهما دائماً أن يكونا على خلاف. لا ينطبق هذا على أولئك العلماء والمثاليين الذين يمتلكون معيارًا مشتركًا للقيم الأخلاقية العالية ومستويات الإختبار الروحي. يجب على العلماء والمتدينين في كل عصر, أن يدركوا بأنهم على المحاكمة أمام محكمة الحاجة الإنسانية. يجب عليهم تجنب كل الحروب فيما بينهم بينما يكافحون ببسالة لتبرير استمرار بقائهم من خلال تعزيز التفاني في خدمة التقدم البشري. إذا كان ما يسمى بالعلم أو الدين في أي عصر باطلاً, عندئذٍ يجب عليه إما أن يطهر نشاطاته أو يزول أمام انبثاق عِلم مادي أو دِين روحي من مرتبة أصح وأكثر استحقاقاً.
132:2.1 (1457.4) كان ماردوس الزعيم المُعترف به للكلابيين في روما, وأصبح صديقاً عظيماً للكاتب الدمشقي. يوماً بعد يوم تحدث مع يسوع, وليلة على ليلة استمع إلى تعاليمه الفائقة. من بين المناقشات الأكثر أهمية مع ماردوس كانت تلك التي صُممت للإجابة على سؤال هذا الكَلابي المُخلص عن الخير والشر. من حيث الجوهر, وفي عبارات القرن العشرين قال يسوع:
132:2.2 (1457.5) يا أخي, الخير والشر هما مجرد كلمات ترمز إلى مستويات نسبية من الإدراك الإنساني للكون المرئي. إذا كنت كسولًا من الناحية الأخلاقية وغير مبالٍ اجتماعياً, يمكنك أن تأخذ العادات الاجتماعية الحالية كمعيار جيد لك. إذا كنت عديم الإحساس روحياً وغير تقدمي أخلاقياً, يمكنك أن تأخذ كمعاييرك عن الخير التقاليد والممارسات الدينية لمعاصريك. لكن النفـْس التي تنجو الزمن وتبرز نحو الأبدية يجب أن تتخذ خياراً شخصياً وحَياً بين الخير والشر كما تحددهما القيم الحقيقية للمعايير الروحية التي أرساها الروح الإلَهي الذي أرسله الأب في السماء ليسكن في قلب الإنسان. هذا الروح الساكن هو معيار بقاء الشخصية.
132:2.3 (1457.6) الخير مثل الحق, دائماً نسبي ومتناقض مع الشر بلا كلل. إنه التبصُر بصِفات الخير والحق هذه ما يمكن النفوس المتطورة للناس من اتخاذ تلك القرارات الشخصية للاختيار والتي هي ضرورية للبقاء الأبدي.
132:2.4 (1458.1) الفرد الأعمى روحياً الذي يتبع بشكل منطقي الإملاء العِلمي, والاستخدام الاجتماعي, والعقيدة الدِينية يقف في خطربالغ يتمثل في التضحية بحريته الأخلاقية وخسارة تحرره الروحي. مثل هذه النفـْس مقدر لها أن تصبح ببغاء فكرياً, وأتوماتون (محرِك تلقائي) اجتماعي, وعبدًا للمرجع الدِيني.
132:2.5 (1458.2) الخير ينمو دائماً نحو مستويات جديدة من الحرية المتزايدة للإدراك الذاتي الأخلاقي وإحراز الشخصية الروحية ــ اكتشاف الضابط الساكن والتوافق معه. تكون التجربة جيدة عندما تزيد من تقدير الجَمال, وتقوي المشيئة الأخلاقية, وتعزز تمييز الحق, وتزيد من الاستطاعة على محبة وخدمة زملاء المرء, وتمجد المُثل الروحية, وتوحد الدوافع الإنسانية العليا للزمان مع الخطط الأبدية للضابط الساكن, كل ما يؤدي مباشرة إلى زيادة الرغبة في فعل مشيئة الأب, وبالتالي تعزيز التوق الإلهي للعثور على الله وأن يكون أكثر مثله.
132:2.6 (1458.3) بينما ترتقي سُلم الكون لتطور المخلوق, ستجد صلاحاً متزايداً وشراً متناقصاً بما يتناسب تماماً مع استطاعتك لتجربة الخير وتمييز الحق. القدرة على إضمار الخطأ أو تجربة الشر لن تضيع بالكامل حتى تحقق الروح البشرية الصاعدة مستويات روح نهائية.
132:2.7 (1458.4) الخير حي, ونسبي, ودائماً تقدمي, وتجربة شخصية بدون تغيير, ومرتبط أزلياً بتمييز الحق والجَمال. يتم العثور على الخير في التعرف على قيم الحق الإيجابية للمستوى الروحي, التي, في التجربة البشرية, يجب أن تكون متناقضة مع النظير السلبي ــ ظلال الشر المُحتمَل.
132:2.8 (1458.5) إلى أن تنال مستويات الفردوس, سيكون الخير دائماَ بمثابة طلب أكثر من امتلاك, وهدفًا أكثر منه خبرة في الإنجاز. لكن حتى بينما تجوع وتعطش من أجل البر, فإنك تختبر رضاً متزايداً في الإحراز الجزئي للصلاح. وجود الخير والشر في العالـَم هو في حد ذاته دليل إيجابي على وجود وواقعية مشيئة الإنسان الأخلاقية, الشخصية, التي بهذا تتعرف على هذه القيم وتكون كذلك قادرة على الاختيار بينها.
132:2.9 (1458.6) بحلول وقت بلوغ الفردوس تكون مقدرة الفاني الصاعد على تعريف الذات مع قيم الروح الحقيقية قد أصبحت مكـَّبَرَة بحيث تؤدي إلى بلوغ كمال حيازة نور الحياة. شخصية روح مُكَّملة كهذه تصبح كلياً موحدة إلَهياً وروحياً مع الصِفات السامية والإيجابية للصلاح, والجَمال, والحق بحيث لا يبقى هناك اي احتمال بأن هكذا روح بار سوف يُلقي أي ظل سلبي للشر المحتمل عندما يتعرض إلى التألق الباحث للنور الإلَهي لحكام الفردوس اللانهائيين. في كل هكذا شخصيات روح, لم يعد الخير جزئيًا, ومتناقضًا, ومقارنًا؛ لقد أصبح تاماً إلَهياً وممتلئاً روحياً؛ إنه يقارب نقاء وكمال الأسمى.
132:2.10 (1458.7) إمكانية الشر ضرورية للاختيار الأخلاقي. لكن ليس الفعلية من ذلك. الظل حقيقي فقط نسبياً. الشر الفعلي ليس ضرورياً كتجربة شخصية. يعمل الشر المحتمل بنفس القدر كحافز للقرار في مجالات التقدم الأخلاقي على المستويات الأدنى من التطور الروحي. يصبح الشر واقع تجربة شخصية فقط عندما عقل أخلاقي يجعل الشر اختياره.
132:3.1 (1459.1) كان نابون يهودياً يونانياً وبارزاً بين قادة العقيدة الباطنية الرئيسية في روما, الميثرانية. في حين أن رئيس كهنة الميثرانية هذا عقد العديد من المؤتمرات مع الكاتب الدمشقي, إلا أنه تأثر بشكل دائم بمناقشاتهما عن الحقيقة والإيمان في إحدى الأمسيات. كان نابون قد فكر في تحويل يسوع وحتى اقترح بأن يعود إلى فلسطين كمعلم ميثراني. لقد أدرَكَ قليلاً بأن يسوع كان يُعده ليصبح أحد المهتدين المبكرين لإنجيل الملكوت, بعد إعادة صياغته في عبارات حديثة, كان جوهر تعليم يسوع:
132:3.2 (1459.2) الحقيقة لا يمكن تعريفها بالكلمات, فقط بالعيش. الحقيقة دائماً أكثر من المعرفة. المعرفة تتعلق بأشياء مُلاحَظة, لكن الحقيقة تتجاوز هذه المستويات المادية البحتة من حيث أنها تتآلف مع الحكمة وتضم ما هو غير قابل للتمعن مثل التجربة البشرية, حتى الحقائق الروحية والمعيشية. تتأصل المعرفة في العِلم؛ تتأصل الحكمة في الفلسفة الصحيحة؛ تتأصل الحقيقة في التجربة الدِينية للعيش الروحي. تتعامل المعرفة مع الحقائق؛ والحكمة مع العلاقات؛ والحق مع قيم الواقع.
132:3.3 (1459.3) يميل الإنسان إلى بلورة العِلم, وصياغة الفلسفة, وجعل الحقيقة عقيدة لأنه كسول عقلياً في التكيف مع صراعات العيش التقدمية, في حين أنه أيضًا خائف بشكل رهيب من المجهول. الإنسان الطبيعي بطيء في المبادرة بإجراء تغييرات في عادات تفكيره وفي أساليبه للمعيشة.
132:3.4 (1459.4) الحقيقة المكشوفة, الحقيقة المُكتشَفة شخصياً, هي البهجة الأسمى للنفـْس البشرية؛ إنها الخلق المشترك للعقل المادي والروح الساكن. الخلاص الأبدي لهذه النفـْس المدركة للحق والمُحبة للجمَال يتم تأكيده من خلال الجوع والعطش من أجل الخير الذي يقود هذا الفاني إلى تطوير فردية هدف لفعل مشيئة الأب, ليجد الله وليصبح مثله. ليس هناك تعارض أبداً بين المعرفة الصحيحة والحقيقة. قد يكون هناك تعارض بين المعرفة والمعتقدات الإنسانية, معتقدات ملوثة بالتحيز, ومشوهة بالخوف, ويسودها الرعب من مواجهة حقائق جديدة من الاكتشاف المادي أو التقدم الروحي.
132:3.5 (1459.5) لكن الحقيقة لا يمكن أن تصبح مُلكاً للإنسان بدون ممارسة الإيمان. هذا صحيح لأن أفكار الإنسان, وحكمته, وأخلاقه, ومُثله, لن ترتقي أبداً إلى مستوى أعلى من إيمانه, ورجائه السامي. وكل هكذا إيمان صحيح يستند على تفكير عميق, ونقد ذاتي مخْلص, ووعي أخلاقي لا هوادة فيه. الإيمان هو الإلهام للمخيلة الخلاَّقة المتروحنة.
132:3.6 (1459.6) يعمل الإيمان على إطلاق النشاطات الخارقة للشرارة الإلَهية, الجرثومة الخالدة, التي تعيش داخل عقل الإنسان, والتي هي إمكانية البقاء الأبدي. تنجو النباتات والحيوانات في الزمن من خلال تقنية العبور من جيل إلى آخر لجزيئات مشابهة لذواتها. النفـْس البشرية (الشخصية) للإنسان تنجو الموت الفاني من خلال ارتباط الهوية بهذه الشرارة الساكنة من الألوهية, التي هي خالدة, والتي تعمل على تخليد الشخصية البشرية على مستوى مستمر وأعلى من وجود الكون التقدمي. البذرة المستورة للنفـْس البشرية هي روح خالدة. الجيل الثاني من النفـْس هو الأول من تتالي تجليات الشخصية لوجودات روحية وتقدمية, ينتهي فقط عندما تحرز هذه الكينونة الإلَهية مصدر وجودها, المصدر الشخصي لكل الوجود, الله, الأب الكوني.
132:3.7 (1459.7) الحياة الإنسانية تستمر ــ تبقى ــ لأن لها وظيفة كونية, مهمة إيجاد الله. نفـْس الإنسان المفعلة بالإيمان لا تستطيع التوقف قصيراً عن إحراز هدف المصير هذا؛ وعندما تنجز مرة هذا الهدف الإلَهي, لا يمكن أن تنتهي أبداً لأنها أصبحت مثل الله ــ أبدية.
132:3.8 (1460.1) التطور الروحي هو تجربة الاختيار المتزايد والطوعي للخير الذي يصاحبه تناقص متساوٍ وتدريجي لإمكانية الشر. مع إحراز نهائية الاختيار من أجل الخير والقدرة المكتملة لتقدير الحقيقة, هناك يأتي إلى حيز الوجود كمال للجَمال وقداسة الذين يُثبط بـِرهما إلى الأبد إمكانية البروز حتى لمفهوم الشر المُحتمَل. مثل هذه النفس التي تعرف الله لا تلقي ظل شر شَكوك عندما تعمل على هكذا مستوى روح عالي من الصلاح الإلَهي.
132:3.9 (1460.2) يشكل حضور روح الفردوس في عقل الإنسان وعد الوحي وتعهد الإيمان لوجود أبدي للتقدم الإلَهي لأجل كل نفـْس تسعى إلى تحقيق هوية مع شظية الروح الساكن والخالد هذه من الأب الكوني.
132:3.10 (1460.3) يتميز تقدم الكون بتزايد الحرية الشخصية لأنها مرتبطة بالإحراز التقدمي لمستويات أعلى وأعلى من فهم الذات وما يترتب على ذلك من ضبط النفس الطوعي. إن بلوغ كمال ضبط الذات الروحي يساوي اكتمال حرية الكون والتحرر الشخصي. يرعى الإيمان نفـْس الإنسان ويحافظ عليها في وسط ارتباك توجيهه المبكر في مثل هذا الكون الشاسع, في حين أن الصلاة تصبح الموحد العظيم للإلهامات المتنوعة للمخيلة الخلاَّقة ومستحثات الإيمان لنفـْس تحاول تعريف ذاتها مع مُثل الروح للحضور الإلَهي الساكن والمرتبط.
132:3.11 (1460.4) كان نابون متأثراً للغاية بهذه الكلمات, كما كان بكل واحدة من محادثاته مع يسوع. استمرت هذه الحقائق بالإشتعال داخل قلبه, وكان عونًا كبيرًا لواعظي إنجيل يسوع الذين وصلوا فيما بعد.
132:4.1 (1460.5) لم يكرس يسوع كل وقت فراغه أثناء وجوده في روما لهذا العمل المتمثل في إعداد رجال ونساء ليصبحوا تلاميذ مستقبليين في الملكوت الآتي. أمضى الكثير من الوقت في اكتساب معرفة حميمة بكل أجناس وطبقات الناس الذين عاشوا في هذه المدينة, الأكبر والأكثر عالمية في العالم. في كل من هذه الاتصالات البشرية العديدة كان لدى يسوع هدف مزدوج: لقد أراد أن يتعلم ردود أفعالهم تجاه الحياة التي كانوا يعيشونها في الجسد, وكان أيضاً يعتزم قول أو فعل شيء ما لجعل تلك الحياة أكثر ثراءً وذات قيمة أكبر. لم تكن تعاليمه الدِينية خلال هذه الأسابيع مختلفة عن تلك التي ميزت حياته فيما بعد كمعلم للاثني عشر وكواعظ للجموع.
132:4.2 (1460.6) كان عبئ رسالته دائماً: واقع محبة الأب السماوي وحقيقة رحمته, مزدوج مع الأخبار السارة بأن الإنسان هو ابن الإيمان لإله المحبة هذا ذاته. كان أسلوب يسوع المعتاد في التواصل الاجتماعي هو جذب الناس نحو التحدث معه عن طريق طرح الأسئلة عليهم. كانت المقابلة تبدأ عادة بطرحه الأسئلة عليهم وتنتهي بطرحهم الأسئلة عليه. كان بارعا بنفس القدر في التعليم إما بطرح الأسئلة أو الإجابة عليها. كقاعدة عامة, لأولئك الذين علمهم الأكثر هو قال الأقل. أولئك الذين استمدوا أكثر المنفعة من إسعافه الشخصي كانوا بشراً مثقلين بالأعباء, قلقين, ومغتمين الذين حصلوا على الكثير من الارتياح بسبب الفرصة لوضع الحمل عن نفوسهم إلى مستمع متعاطف ومتفهم, وهو كان كل ذلك وأكثر. وعندما أخبر هؤلاء البشر غير المتكيفين يسوع عن مشاكلهم, كان دائماً قادراً على تقديم اقتراحات عملية ومفيدة على الفور تتطلع إلى تصحيح مصاعبهم الحقيقية, ولو إنه لم يهمل قول كلمات ذات مؤاساة حالية وعزاء فوري. وكان دائماً يُخبر هؤلاء البشر المغتمين عن محبة الله ويُبلغ المعلومات بطرق شتى ومتنوعة, بأنهم كانوا أبناء هذا الأب المُحِب في السماء.
132:4.3 (1461.1) بهذا الأسلوب, أثناء حلوله في روما, دخل يسوع شخصياً في اتصال ودي ورافع مع ما يصل لخمسمائة بشري من الحيز. هكذا اكتسب معرفة بأجناس البشر المختلفة التي لم يكن ليكتسبها في أورشليم وبالكاد حتى في الإسكندرية. لطالما اعتبر هذه الأشهر الستة كأحد الأكثر غنى بالمعلومات من أي فترة مماثلة في حياته الأرضية.
132:4.4 (1461.2) كما كان متوقعاً, رجل كهذا متعدد البراعات ومكافح لا يمكنه العمل لستة أشهر في عاصمة العالَم دون أن يقترب منه العديد من الأشخاص الذين يرغبون في تأمين خدماته فيما يتعلق ببعض الأعمال أو, في كثير من الأحيان من أجل مشروع للتعليم, أو الإصلاح الاجتماعي, أو الحركة الدِينية. تم تقديم أكثر من دزينة من تلك العروض, واستغل كل منها كفرصة لإبلاغ فِكرٍ ما من التشريف الروحي بكلمات حسنة الاختيار أو بخدمة ملزمة ما. كان يسوع مولعاً جداً بعمل الأشياء ــ حتى الأشياء الصغيرة ــ لجميع أنواع الناس.
132:4.5 (1461.3) تحدثَ مع عضو مجلس أعيان روماني عن السياسة وتدبير أمور الدول, وقد أحدث هذا الاتصال الواحد مع يسوع انطباعاً كبيراً على هذا المشرع بحيث قضى بقية حياته يحاول عبثًا حث زملائه على تغيير مسار السياسة الحاكمة من فكرة الحكومة التي تدعم وتغذي الشعب إلى تلك للشعب يدعم الحكومة. قضى يسوع إحدى الأمسيات مع أحد تجار العبيد الأثرياء, تحدث عن الإنسان باعتباره ابن الله, وفي اليوم التالي هذا الرجل, كلوديوس, منح الحرية لمائة وسبعة عشر عبداً. زار عند العشاء مع طبيب يوناني, مخبراً إياه بأن مرضاه لديهم عقول ونفوس بالإضافة إلى أجساد, وبهذا قاد هذا الطبيب القدير لمحاولة إسعاف أبعد مدى لزملائه الناس. تحدث مع كل أنواع الناس في كل مجالات الحياة. المكان الوحيد في روما الذي لم يزره كان الحمامات العامة. رفض مرافقة أصدقائه إلى الحمامات بسبب الاختلاط الجنسي الذي ساد هناك.
132:4.6 (1461.4) قال لجندي روماني, بينما يتمشيان على جانب نهر التيبر: "كن شجاع القلب بالإضافة إلى شجاعة اليد. تجرأ على تحقيق العدالة وكن كبيراً بما يكفي لإظهار الرحمة. أرغم طبيعتك الأسفل على طاعة طبيعتك الأعلى بينما تطيع رؤساءك. احترم الصلاح وارفع الحق. اختر الجميل في مكان القبيح. احب زملاءك واسعى لله بقلب كامل, لأن الله هو أباك في السماء".
132:4.7 (1461.5) إلى المتكلم في المنتدى قال: "بلاغتك مُمتعة, ومنطقك مثير للإعجاب, وصوتك لطيف, لكن تعليمك بالكاد صحيح. إذا كان بإمكانك فقط الاستمتاع بالرضا الملهم لمعرفة الله على أنه أبيك الروحي, عندئذٍ قد توظف قدراتك في الحديث لتحرير زملائك من قيود الظلمة ومن عبودية الجهل". هذا كان الماركوس الذي سمع بطرس يعظ في روما وأصبح خليفته. عندما صلبوا سمعان بطرس, كان هذا الرجل الذي تحدى المضطهدين الرومان واستمر بجرأة في وعظ الإنجيل الجديد.
132:4.8 (1462.1) عندما التقى رجلاً فقيراً كان قد أُتهم زوراً, ذهب يسوع معه أمام القاضي, وحيث أنه مُنح إذناً خاصاً للمرافعة نيابة عنه, ألقى ذلك الخطاب الرائع الذي قال فيه: "العدل يجعل الأمة عظيمة, وكلما ازدادت عظمة الأمة كلما كانت أكثر غيرة لترى أن الظلم لن يصيب حتى أكثر مواطنيها تواضعاً. ويل لأية أمة عندما فقط أولئك الذين يملكون المال والنفوذ يمكنهم تأمين العدالة حاضرة أمام محاكمها! إنه الواجب المقدس للقاضي أن يبرئ البريء, كما يعاقب المذنب. على إنصاف وعدل واستقامة محاكمها يتوقف دوام الأمة. الحكومة المدنية مؤسسة على العدل حتى كما الدِين الصحيح مؤسس على الرحمة". أعاد القاضي فتح القضية, وعندما تم فحص الأدلة, أخلى سبيل السجين. من بين كل أنشطة يسوع أثناء تلك الأيام من الإسعاف الشخصي, جاء هذا الأقرب إلى الظهور العام.
132:5.1 (1462.2) كان رجل ثري, مواطن روماني ورواقي, قد أصبح مهتماً بشكل كبير في تعليم يسوع, بعد أن قُدم إليه بواسطة أنغامون. بعد العديد من المؤتمرات الودية سأل هذا المواطن الثري يسوع عما سيفعله بالثروة إذا كان يمتلكها, فأجابه يسوع: "سأمنح الثراء المادي من أجل تعزيز الحياة المادية, حتى كما سأخدم المعرفة, والحكمة, والخدمة الروحية من أجل إثراء الحياة الفكرية, وتشريف الحياة الاجتماعية, والنهوض بالحياة الروحية. سأقوم بإدارة الثروة المادية كوصي حكيم وفعّال لموارد جيل واحد من أجل منفعة وتشريف الأجيال القادمة والتي تليها".
132:5.2 (1462.3) لكن الرجل الغني لم يكن راضيا تماما عن إجابة يسوع. تجرأ على السؤال مرة أخرى: "لكن ما رأيك فيما ينبغي لرجل في مركزي أن يفعل بثروته؟ أيجب أن احتفظ بها, أو يجب أن أُعطيها؟" وعندما أدرك يسوع بأنه في الحقيقة راغب في معرفة المزيد من الحقيقة عن ولائه لله وواجبه نحو الناس, أجاب مضيفاً: "يا صديقي الصالح, أدرك بأنك باحث مُخلِص عن الحكمة ومحب صادق للحق؛ لذلك أعتزم أن أضع أمامك وجهة نظري في الحل لمشاكلك المتعلقة بمسؤوليات الثروة. أنا أفعل هذا لأنك طلبت مشورتي, وفي إعطائك هذه النصيحة, أنا لست مهتماً بثروة أي رجل غني آخر؛ أقدم النصيحة لك فقط ومن أجل إرشادك الشخصي. إذا كنت ترغب بصدق في اعتبار ثروتك بمثابة أمانة, إذا كنت ترغب حقاً في أن تصبح وكيلاً حكيماً وفعالاً لثروتك المتراكمة, عندئذٍ سأشير عليك بإجراء التحليل التالي لمصادر ثرواتك: إسأل نفسك, وابذل قصارى جهدك لإيجاد الإجابة الصادقة, من أين جاءت هذه الثروة؟ وكمساعدة في دراسة مصادر ثروتك العظيمة, أود أن اقترح أن تضع في الاعتبار الطرق العشرة التالية المختلفة لتكديس الثروة المادية:
132:5.3 (1462.4) "1ـ ثروة موروثة ــ ثروات متأتية من الآباء وأسلاف آخرين.
132:5.4 (1462.5) "2ـ ثروة مُكتشَفة ــ ثروات مستمدة من مصادر غير مُتعهَدة للأرض الأُم.
132:5.5 (1462.6) "3ـ ثروة تجارة ــ ثروات تم الحصول عليها كربح عادل في تبادل ومقايضة السلع المادية.
132:5.6 (1462.7) "4 ـ ثروة غير عادلة ــ ثروات مستمدة من الاستغلال غير العادل أو استعباد زملاء المرء.
132:5.7 (1463.1) "5 ـ ثروة فوائد ــ دخل متأتي من احتمالات الربح العادل لرأس المال المستثمر.
132:5.8 (1463.2) "6 ـ ثروة نبوغ ــ ثروات مستحقة من مكافآت المعطيات الخلاَّقة والإبداعية للعقل البشري.
132:5.9 (1463.3) "7 ـ ثروة عَرضية ــ ثروات مستمدة من سخاء زملاء المرء, أو تأخذ أصلاً في ظروف الحياة.
132:5.10 (1463.4) "8 ـ ثروة مسروقة ــ ثروات مؤمنة بالظلم أو عدم الأمانة أو السرقة أو الاحتيال.
132:5.11 (1463.5) "9 ـ أموال ودائع ــ ثروة مستودعة في يديك بواسطة زملائك من أجل استخدام معين, الآن أو في المستقبل.
132:5.12 (1463.6) "10 ـ ثروة مُكتسَبة ــ ثروات مستمدة مباشرة من عملك الشخصي, الثواب العادل والمُنصف لجهودك اليومية للعقل والجسم.
132:5.13 (1463.7) "وهكذا, يا صديقي, إذا أردت أن تكون وكيلاً مُخلصاً وعادلاً لثروتك الكبيرة, أمام الله وفي خدمة الناس, يجب أن تقسم ثروتك تقريباً إلى هذه التقسيمات العشر الكبرى, وبعدئذٍ تباشر في إدارة كل جزء وفقاً للتفسير الحكيم والأمين لقوانين العدل, والاستقامة, والإنصاف, والكفاءة الحقيقية؛ ولو إن, الله في السماء لن يدينك إذا زللت أحياناً, في مواقف مشكوك فيها, من جانب الاعتبار الرحيم واللا-أناني للضحايا المغتمة والمكابدة لظروف الحياة البشرية التعيسة الحظ. عندما تكون في شك صادق بشأن الإنصاف والعدالة في المواقف المادية, دع قراراتك تؤاتي أولئك الذين في حاجة, فـضل أولئك الذين يعانون من مصيبة المصاعب غير المستحقة.
132:5.14 (1463.8) بعد مناقشة هذه الأمور لعدة ساعات واستجابة لطلب الرجل الغني من أجل المزيد من التعليمات التفصيلية, تابع يسوع ليُسهب في نصيحته, في الجوهر قائلاً: بينما أقدم المزيد من الاقتراحات فيما يتعلق بموقفك من الثروة, أنصحك بتلقي مشورتي على أنها معطاة لك فقط ولأجل إرشادك الشخصي. أنا أتكلم عن نفسي فقط وإليك كصديق مستفسر. أناشدك ألا تصبح ديكتاتوراً فيما يتعلق بالكيفية التي يجب أن ينظر بها الرجال الأثرياء إلى ثروتهم. أنصحك:
132:5.15 (1463.9) "1. بصفتك وكيلًا لثروة موروثة ينبغي أن تنظر في مصادرها. فأنت ملزم أخلاقيًا بتمثيل الجيل الماضي في النقل الأمين للثروة المشروعة إلى الأجيال التالية بعد خصم إيراد ضريبة عادلة لصالح الجيل الحالي. لكنك لست ملزماً بإدامة أي عدم أمانة أو ظلم ينطوي عليه التجميع غير المُنصف للثروة من قبل أسلافك. أي جزء من ثروتك الموروثة يتبيَن أنه تم الحصول عليه من خلال الاحتيال أو الظلم, يمكنك صرفه وفقاً لقناعاتك عن العدل, والكرَم, والتعويض. ما تبقى من ثروتك الموروثة شرعياً يمكنك استعمالها في استقامة ونقلها بأمان بصفتك وصيًا لجيل إلى آخر. التمييز الحكيم والقضاء السليم يجب أن يُملوا قراراتك بما يخص تركة الثروات لخلفائك.
132:5.16 (1463.10) "2. كل من يتمتع بالثروة نتيجة لاكتشاف يجب أن يتذكر بأنه يمكن لفرد واحد أن يعيش على الأرض لفصل قصير فقط ويجب, بالتالي, أن يقوم بتوفير كافٍ لمشاركة هذه الاكتشافات بطرق مفيدة من قِبل أكبر عدد ممكن من زملائه الناس. بينما لا ينبغي حرمان المكتشف من جميع المكافآت مقابل جهود الاكتشاف,أيضاُ يجب أن لا يفترض بأنانية أن يدعي كل الميزات والبركات التي يمكن الحصول عليها من اكتشاف المصادر المُخزنة للطبيعة.
132:5.17 (1464.1) "3. ما دام الناس يختارون إدارة أعمال العالَم عن طريق التجارة والمقايضة, فإنهم مخوَّلين إلى ربح عادل ومشروع. كل صاحب حِرفة يستحق أجوراً مقابل خدماته؛ يحق للتاجر أجره. إن نزاهة التجارة والمعاملة الأمينة الممنوحة لزملاء المرء في الأعمال التجارية المنظمة للعالَم تخلق العديد من أنواع ثروة الربح, ويجب الحكم على جميع مصادر الثروة هذه وفقًا لأعلى مبادئ العدالة, والأمانة, والإنصاف. لا ينبغي أن يتردد التاجر الأمين في جني الأرباح ذاتها التي يمنحها بسرور لزميله التاجر في صفقة مماثلة. في حين أن هذا النوع من الثروة لا يتطابق مع الدخل المكتسب بشكل فردي عند إجراء المعاملات التجارية على نطاق واسع, في الوقت نفسه, فإن هذه الثروة المتراكمة بأمانة تمنح مالكها حقوقًا كبيرة بما يخص الرأي في توزيعها اللاحق.
132:5.18 (1464.2) "4. لا يمكن لأي فاني يعرف الله ويسعى للقيام بالإرادة الإلهية أن ينحدر للانخراط في اضطهاد الثروة. لن يسعى أي رجل نبيل إلى تجميع الثروات وتكديس قوة-الثروة عن طريق الاستعباد أو الاستغلال غير العادل لإخوانه في الجسد. الثروات هي لعنة أخلاقية ووصمة روحية عند اشتقاقها من عرق الإنسان الفاني المضطهد. كل هكذا ثروة يجب إعادتها إلى أولئك الذين تعرضوا للسرقة أو إلى أولادهم وأولاد أولادهم. لا يمكن بناء حضارة مستديمة على ممارسة الاحتيال على العامل الذي يستخدمه.
132:5.19 (1464.3) "5. الثروة الصادقة مُخوَّلة إلى فائدة. ما دام الناس يقترضون ويُقرضون, يمكن تجميع هذه الفائدة المنصفة بشرط أن يكون رأس المال الذي تم إقراضه ثروة مشروعة. أولاً قم بتطهير رأس المال الخاص بك قبل أن تطالب بالفائدة. لا تصبح صغيراً جداً وجشعاً بحيث تنحدر إلى ممارسة الربا. لا تسمح لنفسك أبداً بأن تكون أنانياً للغاية بحيث توظف القوة-المالية لاكتساب ميزة غير عادلة على زملائك المكافحين. لا تستسلم لإغراء أخذ الربا من أخيك في ضائقة مالية.
132:5.20 (1464.4) "6. إذا صادف لتؤَّمْن ثروة من خلال تحليقات العبقرية, إذا كانت ثرواتك مستمدة من مكافآت موهبة إبتكارية, لا تطالب بجزء غير عادل من مثل هذه المكافآت. العبقري مدين ببعض الشيء إلى كِلا أسلافه وذريته؛ بالمثل فهو مُلزم تجاه العرق, والأمة, وظروف اكتشافاته الإبداعية؛ يجب أن يتذكر أيضًا بأنه كان كإنسان بين الناس عندما عمل وأنتج اختراعاته. سيكون من الظلم بنفس القدر حرمان العبقري من كل ازدياد للثروة. ودائماً سيكون من المستحيل على الناس وضع قواعد وأنظمة قابلة للتطبيق بالتساوي على كل هذه المشاكل المتعلقة بالتوزيع العادل للثروة. يجب عليك أولاً أن تعترف بالإنسان باعتباره أخوك, وإذا كنت ترغب بصدق أن تفعل إليه كما تود أن يُفعل إليك, فسوف ترشدك الإملاءات الشائعة للعدل, والأمانة, والإنصاف في التسوية العادلة والنزيهة لكل مشكلة متكررة من المكافآت الاقتصادية والعدالة الاجتماعية.
132:5.21 (1464.5) "7. باستثناء الأجور العادلة والشرعية المكتسبة في الإدارة, لا ينبغي لأي إنسان أن يطالب شخصياً بهذه الثروة التي قد يتسبب الوقت والفرصة بوقوعها في يديه. يجب اعتبار الثروات العرضية إلى حد ما في ضوء الأمانة لكي تُنفق لصالح فئة المرء الاجتماعية أو الاقتصادية. ينبغي منح أصحاب هذه الثروة الصوت الرئيسي في تحديد التوزيع الحكيم والفعال لهذه الموارد غير المكتسبة. لن ينظر الإنسان المتحضر دائماً إلى كل ما يسيطر عليه باعتباره ملكه الشخصي والخاص.
132:5.22 (1465.1) "8. إذا كان أي جزء من ثروتك مستمداً بعلم من احتيال؛ إذا تراكم أي قسم من ثروتك عن طريق ممارسات غير شريفة أو طرق غير عادلة؛ إذا كانت ثرواتك هي نتاج تعاملات غير عادلة مع زملائك, فأسرع في استعادة كل هذه المكاسب غير المشروعة إلى أصحابها الشرعيين. اجعل تعويضات كاملة وبهذا تنظف أموالك من كل ثروات غير شريفة.
132:5.23 (1465.2) "9. تعد وصاية ثروة شخص واحد لصالح الآخرين مسؤولية جسيمة ومقدسة. لا تجازف بهذه الثقة أو تعرضها للخطر. خذ لنفسك من أي أمانة فقط ما يسمح به كل الناس الشرفاء.
132:5.24 (1465.3) "10. ذلك الجزء من ثروتك الذي يمثل مكتسبات جهودك العقلية والبدنية ــ إذا كان عملك قد تم القيام به في إطار من الإنصاف والاستقامة ــ يكون حقاً خاصتك. لا يمكن لأي شخص مخالفة حقك في امتلاك واستخدام هذه الثروة التي قد تراها مناسبة شريطة ألا تؤدي ممارسة هذا الحق إلى إلحاق الضرر بزملائك."
132:5.25 (1465.4) عندما انتهى يسوع من تقديم المشورة له, نهض هذا الروماني الثري من مقعده, وفي قوله الوداع من أجل الليل, خلص نفسه بهذا الوعد: "يا صديقي الصالح, أشعر بأنك رجل ذو حكمة وصلاح عظيمين, وغداً سأبدأ في إدارة كل ثروتي وفقاً لمشورتك".
132:6.1 (1465.5) هنا في روما كذلك وقعت تلك الحادثة المؤثرة التي قضى فيها خالق الكون عدة ساعات في إعادة طفل ضائع إلى أُمه القلقة. كان هذا الصبي الصغير قد تجول بعيداً عن بيته, ووجده يسوع يبكي في ضيق. كان هو وكانيد في طريقهما إلى المكتبات, لكنهما كرسا نفسيهما لإعادة الطفل إلى البيت. لم ينسى كانيد أبداً تعليق يسوع: "تعلم, يا كانيد, أن معظم البشر مثل الطفل الضائع. إنهم يقضون الكثير من وقتهم في البكاء في خوف والمعاناة في حزن عندما, في الحقيقة, ما هم سوى على مسافة قصيرة من السلامة والأمان, حتى كما هذا الطفل كان على بعد مسافة قصيرة من البيت. ويجب على كل من يعرف طريق الحق ويتمتع بضمان معرفة الله أن يعتبروه امتيازاً, وليس واجباً, لتقديم الإرشاد إلى زملائهم في جهودهم للعثور على اكتفاءات العيش. ألَم نتمتع بامتياز بهذه الخدمة المتمثلة في إعادة الطفل إلى أُمه؟ كذلك أولئك الذين يقودون الناس إلى الله يختبرون الرضا الأسمى للخدمة الإنسانية". ومنذ ذلك اليوم وصاعداً, طوال الفترة المتبقية من حياته الطبيعية, كان كانيد يبحث باستمرار عن الأولاد الضائعين الذين قد يعيدهم إلى بيوتهم.
132:6.2 (1465.6) كان هناك أرملة مع خمسة أولاد قُتل زوجها بالخطأ. أخبر يسوع كانيد عن فقدان والده في حادث, وذهبا مراراً لمؤاساة هذه الأُم وأولادها, بينما طلب كانيد مالاً من والده لتوفير طعام وألبسة. لم يتوقفا في جهودهما حتى وجدا مركزاً للصبي الأكبر بحيث يتمكن من المساعدة في رعاية الأسرة.
132:6.3 (1465.7) تلك الليلة, عندما استمع كونود إلى تلاوة هذه التجارب, قال ليسوع, بلطف: "اقترح جعل علاَّمة أو رَجل أعمال من ابني, والآن بدأت تجعل منه فيلسوفاً أو فاعل خير". ويسوع أجاب مبتسماً: " لعلنا سنجعله الأربعة جميعًا؛ عند ذاك يمكنه أن يستمتع برضا رباعي الأضعاف في الحياة كما أن أُذنه للتعرف على اللحن البشري ستكون قادرة على التعرف على أربع نغمات بدلاً ومن واحدة". عندئذٍ قال كونود: "أنا أرى بأنك حقاً فيلسوف. يجب أن تكتب كتاباً لأجيال المستقبل". وأجاب يسوع: "ليس كتاباً ــ مهمتي هي أن أعيش حياة في هذا الجيل ومن أجل كل الأجيال. أنا ــ" لكنه توقف, قائلاً إلى كانيد, "يا بني, حان وقت الرقاد".
132:7.1 (1466.1) قام يسوع وكونود وكانيد بخمس رحلات بعيداً عن روما إلى نقاط ذات اهتمام في الإقليم المجاور. على زيارتهم إلى البحيرات الإيطالية الشمالية كان ليسوع حديث طويل مع كانيد بشأن استحالة تعليم إنسان عن الله إذا كان الإنسان لا يرغب في معرفة الله. كانوا قد التقوا صدفةّ بوثني عديم التفكير أثناء رحلتهم صعوداً إلى البحيرات, وكان كانيد مندهشاً بأن يسوع لم يتبع ممارسته المعتادة في تجنيد الرجل في محادثة من شأنها أن تؤدي بطبيعة الحال إلى مناقشة أسئلة روحية. عندما سأل كانيد معلمه عن سبب عدم اهتمامه بهذا الوثني, أجاب يسوع:
132:7.2 (1466.2) "كانيد, لم يكن الرجل جائعاً للحقيقة. لم يكن مستاءً من نفسه. لم يكن مستعدًا لطلب المساعدة, ولم تكن عيون عقله مفتوحة لاستلام النور من أجل النفـْس. لم يكن ذلك الرجل ناضجاً من أجل حصاد الخلاص؛ يجب أن يُسمح له بمزيد من الوقت لتجارب وصعوبات الحياة لإعداده لأجل تلقي الحكمة والتعليم الأعلى. أو, إذا أمكننا أن نُسكنه معنا, فقد نظهر له بمعيشتنا الأب في السماء, وبهذا سيصبح منجذباً للغاية بمعايشنا كأبناء الله بحيث سيكون مجبراً على الإستفسار عن أبينا. لا يمكنك كشف الله لأولئك الذين لا يسعون إليه؛ لا يمكنك أن تقود النفوس غير الراغبة نحو أفراح الخلاص. يجب أن يصبح الإنسان متعطشاً للحقيقة كنتيجة لتجارب الحياة, أو يجب أن يرغب في معرفة الله كنتيجة للتواصل مع معايش أولئك الذين لهم إلمام بالأب الإلَهي قبل أن يمكن لإنسان آخر أن يكون بمثابة وسيلة لقيادة مثل هذا الزميل الفاني إلى الأب في السماء. إذا عرفنا الله, فإن عملنا الحقيقي على الأرض هو بحيث نعيش للسماح للأب بالكشف عن ذاته في معايشنا, وبالتالي سيرى جميع الباحثين عن الله الأب ويطلبون مساعدتنا في معرفة المزيد عن الله الذي يجد بهذه الطريقة تعبيراً في حياتنا ".
132:7.3 (1466.3) لقد كان على الزيارة إلى سويسرا, عالياً في الجبال, حيث كان ليسوع كلام طوال النهار مع كل من الأب والابن عن البوذية. في كثير من الأحيان كان كانيد قد سأل يسوع أسئلة مباشرة عن بوذا, لكنه تلقى دائماً ردوداً أكثر أو أقل متملصة. الآن, في حضور الابن, سأل الأب يسوع سؤالاً مباشراً عن بوذا, وتلقى رداً مباشراً. قال كونود: "أود حقاً أن أعرف ما هو رأيك في بوذا". وأجاب يسوع:
132:7.4 (1466.4) "كان بوذا الخاص بكم أفضل بكثير من بوذيتكم. كان بوذا رجلاً عظيماً, حتى نبياً إلى شعبه, لكنه كان نبياً يتيماً؛ أعني بذلك أنه أضاع رؤية أباه الروحي في وقت مبكر, الأب في السماء. كانت تجربته مفجعة. لقد حاول أن يعيش ويعلم كرسول لله, لكن بدون الله. أرشد بوذا سفينته للخلاص مباشرة إلى المرفأ الآمن, مباشرة إلى مدخل ملاذ الخلاص البشري, وهناك, بسبب الرسوم البيانية الخاطئة للملاحة, جنحت السفينة الجيدة. هناك رقدت تلك الأجيال العديدة, بلا حراك وجانحة بدون أمل تقريباً. وعليه بقي الكثير من قومك كل هذه السنوات. إنهم يعيشون على مسافة تحية من المياه الآمنة للراحة, لكنهم يرفضون الدخول لأن السفينة النبيلة لبوذا الصالح لاقت سوء حظ التأريض خارج المرفأ مباشرة. ولن تدخل الشعوب البوذية هذا المرفأ أبداً ما لم تتخلَّ عن مركبة نبيهم الفلسفية ويتمسكوا بروحه النبيلة. لو بقي شعبكم مخلصًا لروح بوذا, لكنتم قد دخلتم منذ فترة طويلة ملاذكم لطمأنينة الروح, وراحة النفـْس, وضمان الخلاص.
132:7.5 (1467.1) "ترى, يا كونود, عرف بوذا الله في الروح, لكنه فشل بوضوح في اكتشافه في العقل؛ اليهود اكتشفوا الله في العقل لكنهم فشلوا إلى حد كبير في معرفته بالروح. اليوم, يتخبط البوذيون في فلسفة بدون الله, بينما شعبي مستعبد بشكل مثير للشفقة لخوف الله بدون فلسفة إنقاذ للحياة والحرية. لديكم فلسفة بدون الله؛ اليهود لديهم الله لكنهم إلى حد كبير دون فلسفة عيش تنسب إلى ذلك. بوذا, فاشلاً في تصّور الله كروح وكأب, فشل في تزويد تعاليمه بالطاقة المعنوية والقوة الدافعة الروحية التي يجب أن يمتلكها الدِين إذا كان ليغير العرق ويمجد الأمة".
132:7.6 (1467.2) عندئذٍ هتف كانيد: "يا معلم, لنصنع أنت وأنا دِيناً جديداً, واحد جيد بما فيه الكفاية من أجل الهند وكبير بما يكفي من أجل روما, ولربما يمكننا مقايضته مع اليهود من أجل يهوه". وأجاب يسوع: "كانيد, الأديان لا تُصنع. أديان البشر تنمو على فترات طويلة من الزمن, بينما تومض كشوفات الله على الأرض في حيوات الناس الذين يكشفون الله إلى زملائهم". لكنهما لم يستوعبا معنى هذه الكلمات النبوية.
132:7.7 (1467.3) تلك الليلة بعد تقاعدهم, لم يتمكن كانيد من النوم. تحدث لوقت طويل مع والده وأخيراً قال, "تعلم, يا أبي, أحياناً أعتقد بأن يشوع نبي". وأبوه نصف نائم أجاب فقط, "يا بني, هناك آخرون ــ"
132:7.8 (1467.4) من هذا اليوم, ولبقية حياته الطبيعية, واصل كانيد تطوير دِين خاص به. لقد تأثر بشدة في ذهنه باتساع عقل يسوع, وإنصافه, وطول أناته. في كل مناقشاتهما حول الفلسفة والدِين لم يقاسي هذا الشاب أبدًا مشاعر استياء أو ردود فعل عدائية.
132:7.9 (1467.5) أي مشهد كان للذكاءات السماوية لرؤية, هذا المشهد للفتى الهندي يقترح على خالق الكون بأن يصنعا دِيناً جديداً! وعلى الرغم من أن الشاب لم يكن يعرف, إلا أنهما كانا يصنعان ديناً جديداً ودائماً في ذلك الوقت وهناك ــ هذا الطريق الجديد للخلاص, وحي الله إلى الإنسان من خلال, يسوع, وفيه. ما أراد الفتى الأكثر أن يقوم به كان يفعله دون وعي في الواقع, وقد كان, ولا يزال هكذا, دائماً هكذا. ما تريد المخيلة البشرية المستنيرة والمتفكرة للتعليم الروحي والقيادة الروحية من كل القلب وبدون أنانية, القيام به وأن يكون, يصبح خلاَّقاً بشكل يمكن قياسه وفقاً لدرجة التكريس البشري للفعل الإلَهي لمشيئة الأب. عندما يسير الإنسان في شراكة مع الله, فإن أشياء عظيمة قد تحدث, وفعلاً, تحدث.
كِتاب يورانشيا
ورقة 133
133:0.1 (1468.1) عند الإستعداد لمغادرة روما, لم يقل يسوع وداعًا لأي من أصدقائه. ظهر الكاتب الدمشقي في روما دون إعلان واختفى بنفس الطريقة. لقد مر عام كامل قبل أن يفقد أولئك الذين عرفوه وأحبوه الأمل في رؤيته مرة أخرى. قبل نهاية السنة الثانية, جماعات صغيرة من الذين عرفوه وجدوا أنفسهم مجتمعين معاً من خلال اهتمامهم المشترَك في تعاليمه ومن خلال الذاكرة المتبادلة لأوقاتهم الطيبة معه. واستمرت هذه الجماعات الصغيرة من الرواقيين, والكلابيين, والطقوس الباطنية في عقد هذه الاجتماعات غير المنتظمة وغير الرسمية حتى وقت ظهور أول الدعاة للدِين المسيحي في روما.
133:0.2 (1468.2) كان كونود وكانيد قد اشتروا أشياء كثيرة للغاية في الإسكندرية وروما بحيث أرسلوا كل أمتعتهم قبلهم بقطار حمل إلى طارينتوم, بينما سار المسافرون الثلاثة على مهل عبر إيطاليا فوق طريق الأبيان العظيم. التقوا على هذه الرحلة بكل أنواع البشر. عاش العديد من المواطنين الرومان النبلاء والمستعمرين الإغريق على طول هذه الطريق, لكن سلالة أعداد كبيرة من العبيد الأقل شأنا كانوا يبدأون بالظهور.
133:0.3 (1468.3) ذات يوم بينما يستريحون عند الغذاء, في منتصف الطريق تقريبًا إلى طارينتوم, سأل كانيد يسوع سؤالاً مباشراً حول رأيه في نظام الهند الطبقي. قال يسوع: "على الرغم من اختلاف البشر في نواح كثيرة, الواحد عن الآخر, أمام الله وفي العالَم الروحي يقف كل البشر على قدم المساواة. هناك فئتان فقط من البشر في نظر الله: أولئك الذين يرغبون عمل مشيئته وأولئك الذين لا يرغبون في ذلك. بينما يتطلع الكون على عالَم مسكون, فإنه يميز بالمثل فئتين كبيرتين: أولئك الذين يعرفون الله وأولئك الذين لا يعرفونه. أولئك الذين لا يقدرون معرفة الله يُحسبون بين الحيوانات في أي عالم معين. يمكن تقسيم الجنس البشري بشكل مناسب إلى عدة طبقات وفقاً للمؤهلات المختلفة, كما قد يُنظر إليهم جسدياً, أو عقلياً, أو اجتماعياً, أو مهنياً, أو أخلاقياً, لكن عندما تظهر هذه الطبقات المختلفة من البشر أمام شريط محكمة دينونة الله, فإنهم يقفون على قدم المساواة؛ حقاً ليس عند الله محاباة أشخاص. مع أنك لا يمكنك الهروب من الاعتراف بالقدرات والمواهب البشرية المتفاوتة في الأمور الفكرية والاجتماعية والأخلاقية, إلا أنه ينبغي ألا تجعل مثل هذه التمييزات في أخوة الناس الروحية عندما يتجمعون للعبادة في حضور الله".
133:1.1 (1468.4) وقع حدث مثير جداً للإهتمام عصر أحد الأيام على جانب الطريق عندما اقتربوا من طارينتوم. لاحظوا شاباً فظاً ومشاغباً يهاجم بوحشية فتى أصغر. سارع يسوع إلى مساعدة الشاب المُعتدى عليه, وعندما أنقذه, أمسك المهاجم بإحكام حتى تمكن الفتى الأصغر من الهروب. في اللحظة التي أخلى فيها يسوع المشاغب الصغير, انقـَّض كانيد على الصبي وبدأ يضربه بقوة, وإلى دهشة كانيد تدَخَل يسوع على الفور. بعد أن كبح كانيد وسمح للصبي المرتعب بالهروب, صرخ الشاب, حالما استرجع نفَسه, بحماسة: "لا أستطيع أن أفهمك, يا معلم. إذا كانت الرحمة تتطلب منك إنقاذ الفتى الأصغر, ألا تقتضي العدالة معاقبة الشاب الأكبر والمسيء ؟" في الإجابة قال يسوع:
133:1.2 (1469.1) " كانيد, إنه صحيح, أنت لا تفهم. إسعاف الرحمة هو دائماً عمل الفرد, لكن عقوبة العدالة هي وظيفة الجماعات الإدارية الاجتماعية, أو الحكومية, أو الكونية. كفرد أنا مدين لأظهر الرحمة؛ يجب أن أذهب لإنقاذ الفتى المُعتدى عليه, وبكل ثبات قد أوظف القوة الكافية لكبح المعتدي. وهذا بالضبط ما فعلته. أنجزت تحرير الفتى المُعتدى عليه؛ كانت تلك نهاية إسعاف الرحمة. ثم احتجزت المعتدي قسراً مدة كافية لتمكين الطرف الأضعف في النزاع من الهروب, الذي بعده انسحبت من القضية. لم أشرع في إصدار حكم على المعتدي, بالتالي للمرور على دافعه ــ للفصل في كل ما دخل في هجومه على زميله ــ وبعدئذٍ آخذ على عاتقي تنفيذ القصاص الذي قد يمليه عقلي كتعويض عادل من أجل فعله الخاطئ. كانيد, قد تكون الرحمة سخية, لكن العدل مُحكم. ألا يمكنك أن تدرك أن لا شخصان يتفقان على الأرجح على العقوبة التي تفي بمتطلبات العدالة؟ قد يفرض أحدهم أربعين جلدة, وآخر عشرين, بينما لا يزال آخر سينصح بالحبس الانفرادي كعقاب عادل. ألا يمكنك أن ترى أنه في هذا العالَم من الأفضل أن تقع مثل هذه المسؤوليات على عاتق الجماعة أو أن تدار من قبل ممثلين مختارين من الجماعة؟ في الكون, يُخَّوَل القضاء لأولئك الذين يعرفون تماماً سوابق كل عمل خاطئ بالإضافة إلى دوافعه. في مجتمع متحضر وفي كون مُنظَم تفترض إقامة العدل مسبقاً إصدار حكم عادل يترتب على محاكمة منصفة, وهذه الامتيازات مخوَّلة للجماعات القضائية في العوالم وفي الإداريين الكليِو المعرفة من الأكوان الأعلى لكل الخلق".
133:1.3 (1469.2) تحدثا لأيام عن هذه المشكلة المتمثلة في إظهار الرحمة وإقامة العدل. وفهم كانيد, إلى حد ما على الأقل, لماذا لن يخوض يسوع في معركة شخصية. لكن كانيد طرح سؤالاً أخيراً, لم يتلقَ إجابة مرضية تماماً عليه؛ وذلك السؤال كان: "لكن, يا معلم, إذا قام مخلوق أقوى وسيئ الخلق بمهاجمتك وهدد بهلاكك, فماذا ستفعل؟ ألا تبذل أي جهد للدفاع عن نفسك؟" على الرغم من أن يسوع لم يستطع الإجابة بشكل كامل ومرضي على سؤال الفتى, حيث أنه لم يكن على استعداد للإفصاح له بأنه (يسوع) كان يعيش على الأرض كتجسيد لمحبة أب الفردوس إلى كون متطلع, فقد قال هذا المقدار:
133:1.4 (1469.3) "كانيد, يمكنني أن أفهم جيداً كيف تربكك بعض هذه المشاكل, وسأسعى للإجابة على سؤالك. أولاً, في جميع الاعتداءات التي قد تُجعل على شخصي, سأحدد ما إذا كان المعتدي هو ابن الله - أخي في الجسد - أم لا ــ وإذا اعتقدت أن مثل هذا المخلوق لا يملك حُكماً أخلاقياً وتعقلاً روحياً, فسأدافع عن نفسي دون تردد إلى أقصى استطاعة قدراتي في المقاومة, بدون اعتبار للعواقب المترتبة على المهاجـِم. لكنني لن أهاجم بهذا إنسان زميل ذا منزلة بنوة, حتى في الدفاع عن النفس. وهذا يعني, أنني لن أعاقبه مقدماً وبدون حكم على اعتدائه علي. سوف أسعى بكل حيلة ممكنة إلى منعه وثنيه عن القيام بمثل هذا الهجوم والتخفيف منه في حال فشلي في إجهاضه. كانيد, لدي ثقة مُطلقة في الرعاية الفوقية لأبي السماوي؛ أنا مكرس لفعل مشيئة أبي في السماء. لا أعتقد بأن ضررًا حقيقيًا يمكن أن يحل بي؛ لا أعتقد بأن عمل حياتي يمكن حقاً أن يتعرض للخطر بأي شيء قد يرغب أعدائي بافتقاده علي, وبالتأكيد ليس لدينا عنف نخافه من أصدقائنا. أنا مطمئن تماماً إلى أن الكون بأسره صديق لي ــ هذه الحقيقة القوية للغاية أصر على تصديقها بثقة من كل القلب بالرغم من كل المظاهر التي تتعارض مع ذلك."
133:1.5 (1470.1) لكن كانيد لم يكن راضياً تماماً. تحدثا مراراً عن هذه الأمور, وأخبره يسوع ببعض تجارب صباه وكذلك عن يعقوب ابن الحجار. عندما تعلم كيف عين يعقوب نفسه للدفاع عن يسوع, قال كانيد: "أه لقد بدأت أرى! في المقام الأول نادراً ما يرغب أي إنسان طبيعي في مهاجمة شخص لطيف مثلك, وحتى إذا كان أي واحد بدون تفكير للغاية للقيام بشيء من هذا القبيل, بالتأكيد الوافي سيكون هناك قريبًا منك بشري آخر ما الذي سيهب لمساعدتك, حتى كما أنت دائماً تذهب لإنقاذ أي شخص تراه في ضيق. في قلبي, يا معلم, أتفق معك, لكن في رأسي ما زلت أعتقد أنه لو كنت أنا يعقوب, كنت سأستمتع بمعاقبة أولئك الزملاء الوقحين الذين افترضوا أن يهاجموك لمجرد أنهم اعتقدوا أنك لن تدافع عن نفسك. أفترض أنك آمن إلى حد ما في رحلتك عبر الحياة لأنك تقضي الكثير من وقتك في مساعدة الآخرين وخدمة زملائك في الضيق ــ حسناً, على الأرجح سيكون هناك دائماً شخص ما حاضر يدافع عنك". وأجاب يسوع: "ذلك الاختبار لم يأت بعد, يا كانيد, وعندما يأتي, سيكون علينا أن نلتزم بمشيئة الأب". وكان هذا كل ما استطاع الفتى أن يجعل معلمه يقول حول هذا الموضوع الصعب المتمثل في الدفاع عن النفس وعدم المقاومة. في مناسبة أخرى استخلص من يسوع الرأي بأن المجتمع المنظَم له كل الحق في توظيف القوة لتنفيذ تفويضاته العادلة.
133:2.1 (1470.2) بينما يتمهلون عند مرسى السفينة, في انتظارالقارب ليُفرغ الحمولة, لاحظ المسافرون رجلاً يسيء معاملة زوجته. كما كانت عادته, تدخَل يسوع لمصلحة الشخص الذي تعرض للهجوم. خطى إلى خلف الزوج الغاضب, وناقراً على كتفه برفق, قال: "يا صديقي, هل لي أن أتحدث معك على انفراد للحظة"؟ كان الرجل الغاضب متحيراً من ذلك الاقتراب, وبعد لحظة من التردد المحرج, تلعثم ــ "إيه ــ لماذا ــ نعم, ماذا تريد مني؟" عندما قاده يسوع جانباً, قال: "يا صديقي, أشعر بأن شيئاً مريعاً لا بد قد حدث لك؛ أرغب بشدة أن تخبرني ماذا حدث لرجل قوي مثلك ليقوده إلى مهاجمة زوجته, أم أولاده, وذلك جهاراً هناك أمام كل العيون. أنا متأكد أنك تشعر بأن لديك سبباً وجيهاً لهذا الاعتداء. ماذا فعلَت المرأة لتستحق مثل هذه المعاملة من زوجها؟ عندما أنظر إليك, أعتقد أنني أميز في وجهك حب العدالة إن لم يكن الرغبة في إظهار الرحمة. أجرؤ على القول أنك, إذا وجدتني على جانب الطريق, وقد هوجمت من قبل اللصوص, بأنك ستندفع بلا تردد لإنقاذي. أجرؤ على القول إنك قمت بالكثير من هذه الأشياء الشجاعة في مجرى حياتك. الآن, يا صديقي, أخبرني ما الأمر؟ هل ارتكبت المرأة شيئاً خاطئاً, أو هل فقدت صوابك بحماقة واعتديت عليها بدون تفكير؟" لم يكن كثيراً ما قاله الذي لمس قلب هذا الرجل بقدر النظرة اللطيفة والابتسامة المتعاطفة التي أغدقها يسوع عليه في ختام عباراته. قال الرجل: "أشعر أنك كاهن للكلابيين, وأنا شاكر لك ردعي. لم ترتكب زوجتي خطأً جسيماً؛ إنها امرأة صالحة, لكنها تثيرني بالأسلوب الذي تنتقدني به في الأماكن العامة, وأنا أفقد أعصابي. أنا آسف لعدم تمكني من ضبط النفس, وأعد بمحاولة الوفاء بتعهدي السابق لأحد إخوانك الذي علمني الطريق الأفضل قبل عدة سنوات. أعِدك".
133:2.2 (1471.1) وبعد ذلك, في وداعه, قال يسوع: "يا أخي, تذكر دائماً أن الرجل ليس له سلطة شرعية على المرأة إلا إذا منحته المرأة عن طيب خاطر وطواعية مثل هذه السلطة. لقد تعهدت زوجتك أن تسير معك خلال الحياة, لمساعدتك في خوض معاركها, وتحمل النصيب الأكبر من عبء حمل أطفالك وتربيتهم؛ وفي مقابل هذه الخدمة الخاصة إنه فقط من العدل أن تحصل منك على تلك الحماية الخاصة التي يمكن أن يمنحها الرجل للمرأة كالشريكة التي يجب أن تحمل, وتلد, وتربي الأطفال. الرعاية المحبة والاعتبار الذي يرغب الرجل في منحها لزوجته وأولادهما هي مقياس إحراز ذلك الرجل لأعلى مستويات الوعي الذاتي الخلاَّق والروحي. ألا تعلم بأن الرجال والنساء هم شركاء مع الله من حيث أنهم يتعاونون لخلق كائنات تكبر لتمتلك إمكانات النفوس الخالدة؟ الأب في السماء يعامل الروح أم أولاد الكون كواحدة مساوية إلى ذاته. إنه لأمر الله أن تشارك حياتك وكل ما يتعلق بها على قدم المساواة مع الشريكة الأُم التي تُشاركك تماماً تلك التجربة الإلَهية في إعادة توالد أنفسكما في حياة أولادكما. إذا استطعت أن تحب أطفالك فقط كما يحبك الله, فسوف تحب زوجتك وتعتز بها كما الأب في السماء يُكرم ويمجد الروح اللانهائي, الأُم لكل أولاد الروح لكون شاسع".
133:2.3 (1471.2) حينما صعدوا على متن القارب, نظروا إلى الوراء إلى مشهد الزوجين الدامعي العيون يقفان في ضم صامت. حيث إنه سمع النصف الأخير من رسالة يسوع إلى الرجل, كان كونود مشغولاً طوال اليوم بالتأملات حول هذا الموضوع, وقرر إعادة تنظيم منزله عندما يعود إلى الهند.
133:2.4 (1471.3) كانت الرحلة إلى نيكوبولِس مُمتعة إنما بطيئة لأن الرياح لم تكن مواتية. أمضى الثلاثة ساعات طويلة في سرد تجاربهم في روما وتذكر كل ما حدث لهم منذ أن التقوا لأول مرة في أورشليم. كان كانيد قد أصبح مشبعاً بروح الإسعاف الشخصي. بدأ العمل على ربان السفينة, لكن في اليوم الثاني, عندما دخل المياه الدِينية العميقة, استدعى يشوع لمساعدته.
133:2.5 (1471.4) أمضوا عدة أيام في نيكوبولِس, المدينة التي أسسها أغسطس قبل حوالي خمسين عامًا كـ "مدينة النصر" في ذكرى معركة أكتيوم, هذا الموقع كائن الأرض التي خَّيم عليها مع جيشه قبل المعركة. مكثوا في منزل واحد اسمه يرامي, مهتدي إغريقي للعقيدة اليهودية, الذي كانوا قد التقوا به على متن السفينة. أمضى الرسول بولس كل الشتاء مع ابن يرامي في نفس المنزل خلال رحلته التبشيرية الثالثة. أبحروا من نيكوبولِس على نفس القارب إلى كورينثوس, عاصمة مقاطعة أشاعيا الرومانية.
133:3.1 (1471.5) بحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى كورينثوس, كان كانيد قد أصبح مهتماً جداً بالدِين اليهودي, ولذلك لم يكن غريباً أنه, في أحد الأيام عندما مروا بكنيس ورأوا الناس يدخلون, طلب من يسوع اصطحابه إلى الخدمة. ذلك اليوم سمعوا حاخاماً متعلماً يحاضر عن "مصير إسرائيل", وبعد الخدمة التقوا بواحد اسمه كريسباس, الحاكم الرئيسي لهذا الكنيس. عادوا عدة مرات إلى خدمات الكنيس, لكن بشكل رئيسي للقاء كريسباس. نما كانيد ليكون مولعاً جداً بكريسباس, وزوجته, وعائلتهما المكونة من خمسة أطفال. لقد استمتع كثيراً بملاحظة كيفية إدارة اليهودي لحياته العائلية.
133:3.2 (1472.1) بينما درس كانيد الحياة الأسرية, كان يسوع يعلم كريسباس أفضل السبل للعيش الدِيني. عقد يسوع أكثر من عشرين جلسة مع هذا اليهودي المتطلع إلى الأمام؛ ولا عجب, بعد سنوات, عندما كان بولس يعظ في هذا الكنيس بالذات, وعندما رفض اليهود رسالته وصوتوا لمنع المزيد من وعظه في الكنيس, وعندما ذهب بعد ذاك إلى الأمميين, كريسباس ذاك مع جميع أفراد عائلته اعتنقوا الدِين الجديد, وأصبح أحد الداعمين الرئيسيين للكنيسة المسيحية التي نظَمها بولس لاحقاً في كورينثوس.
133:3.3 (1472.2) خلال الشهور الثمانية عشر التي وعظ فيها بولس في كورينثوس, كائن فيما بعد متبوعاً بسيلاس وتيموثي, التقى بالعديد من الأشخاص الآخرين الذين كانوا قد عُلِّموا بواسطة "المعلم اليهودي لابن التاجر الهندي."
133:3.4 (1472.3) في كورينثوس التقوا بأناس من كل عرق قادمين من ثلاث قارات. بجانب الإسكندرية وروما, كانت أكبر مدينة عالمية في إمبراطورية البحر الأبيض المتوسط. كان هناك الكثير لجذب انتباه المرء في هذه المدينة, ولم يمل كانيد من زيارة القلعة المرتفعة حوالي ألفي قدم فوق سطح البحر. كما أمضى مقداراً كبيراً من وقت فراغه حول الكنيس وفي منزل كريسباس. كان في البداية مصدوماً, وفيما بعد مفتوناً, بمنزلة المرأة في البيت اليهودي؛ لقد كان هذا كشفاً لهذا الهندي الشاب.
133:3.5 (1472.4) غالبًا ما كان يسوع وكانيد ضيفان في منزل يهودي آخر, ذلك ليوستاس, تاجر متعبد, الذي سكن بجوار الكنيس. وفي كثير من الأحيان, لاحقاً, عندما مكث الرسول بولس في هذا المنزل, استمع إلى سرد هذه الزيارات مع الفتى الهندي ومعلمه اليهودي, بينما تساءل كل من بولس ويوستاس عما حل بمثل هذا المعلم العبري الحكيم واللامع.
133:3.6 (1472.5) أثناء وجوده في روما, لاحظ كانيد بأن يسوع رفض مرافقتهم إلى الحمامات العامة. عدة مرات بعدها سعى الشاب إلى حث يسوع أكثر للتعبير عن نفسه فيما يتعلق بالعلاقات بين الجنسين. ولو إنه سيجيب على أسئلة الفتى, إلا أنه لم يبدو ميالاً لمناقشة هذه المواضيع باستفاضة. في إحدى الأمسيات بينما يتجولان حول كورينثوس خارجاً حيث ينحدر حائط القلعة نحو البحر, اقتربت منهما امرأتان من العامة. كان كانيد قد تشرَب الفكرة, وبحق, بأن يسوع كان رجلاً ذا مُثل عليا, وبأنه مقت كل ما يتناول من النجس أو مُطـَّعم بالشر؛ بناء عليه تكلم بحدة مع هاتين المرأتين وبفظاظة أومأ لهن بالابتعاد. عندما رأى يسوع هذا, قال لكانيد: "أنت تعني حسناً, لكن لا ينبغي أن تفترض التكلم هكذا إلى أبناء الله, حتى ولو صادف ليكونوا أبناءه الضالين. من نحن حتى نجلس في حكم على هاتين المرأتين؟ هل صادف أنك تعلم كل الظروف التي قادتهما للجوء إلى مثل هذه الأساليب في كسب الرزق؟ توقف هنا معي بينما نتحدث عن هذه الأمور". كانت المحظيات مندهشات بما قاله حتى أكثر مما كان كانيد.
133:3.7 (1472.6) بينما وقفوا هناك في ضوء القمر, تابع يسوع قائلاً: "هناك يعيش داخل كل عقل بشري روح إلَهي, هِبة الأب في السماء. هذا الروح الصالح دائماً يجتهد ليقودنا إلى الله, لمساعدتنا في إيجاد الله ومعرفة الله؛ لكن كذلك في البشر هناك العديد من الميول الجسدية الطبيعية التي وضعها الخالق هناك لخدمة رفاهية الفرد والعِرق. الآن, في كثير من الأحيان, يصبح الرجال والنساء مرتبكين في جهودهم لفهم أنفسهم والتصدي للصعوبات المتنوعة لكسب العيش في عالَم مُسيطر عليه بالأنانية والخطيئة إلى حد كبير. أنا أشعر, يا كانيد, بأن أي من هاتين المرأتين ليست أثيمة عن عمد. أستطيع أن أخبر من وجهيهما بأنهما قد قاستا حزناً كثيراً؛ قد كابدتا الكثير على أيدي ما يبدو حظ قاسي؛ لم تختارا عمداً هذا النوع من الحياة, هما, في حالة من الإحباط تحد على اليأس, استسلمتا لضغط الساعة وقبلتا هذه الوسيلة المقيتة للحصول على مصدر رزق كأفضل وسيلة للخروج من وضع بدا لهما ميئوساً منه. كانيد, بعض الناس حقاً أثيمين في القلب؛ يختارون عمدًا أن يفعلوا أشياء لئيمة, لكن, اخبرني, وأنت تنظر إلى هذين الوجهين الملطخين بالدموع الآن, هل ترى أي شيء سيئ أو أثيم؟" وحينما توقف يسوع من أجل رده, غص صوت كانيد بينما تلعثم في إجابته: "لا, يا معلم, لا أرى. وأعتذر عن فظاظتي إليهما ــ أتوق إلى غفرانهما". عندئذٍ قال يسوع: "وأنا بالتكلم عنهما قد سامحتاك بينما أتكلم عن أبي في السماء بأنه قد غفر لهن. الآن تعالوا جميعاً معي إلى منزل صديق للحصول على منعشات والتخطيط لحياة جديدة وأفضل أمامنا". حتى هذا الوقت لم تتفوه المرأتان المندهشتان بكلمة؛ نظرتا إلى بعضهما وتبعتا بصمت بينما قاد الرجلان الطريق.
133:3.8 (1473.1) تصَّور دهشة زوجة يوستاس عندما, في هذه الساعة المتأخرة, ظهر يسوع مع كانيد وهاتين الغريبتين, قائلاً: "ستسامحيننا لمجيئنا في هذه الساعة, لكن كانيد وأنا نرغب لقمة للأكل, ونود مشاركتها مع هاتين الصديقتين الجديدتين, اللواتي هن كذلك في حاجة إلى الغذاء؛ وإلى جانب كل هذا, نأتي إليك بفكرة أنكِ ستكونين مهتمة في نصحنا بشأن أفضل طريقة لمساعدة هاتين المرأتين في الحصول على بداية جديدة في الحياة. يمكنهما إخبارك قصتهن, لكنني أظن أنهما قد واجهتا الكثير من المتاعب. وحضورهن هنا بالذات في منزلك يشهد بمدى رغبتهما في التعرف على أناس صالحين, ومدى استعدادهما لاحتضان الفرصة ليُظهرن إلى العالَم بأسره ــ وحتى ملائكة السماء ــ أي نساء شجاعات ونبيلات يمكن أن يصبحن".
133:3.9 (1473.2) عندما فرشت مارثا, زوجة يوستاس, الطعام على المائدة, يسوع, آخذاً استئذاناً غير متوقع, قال: "بما أنه أصبح متأخراً, وحيث إن والد الشاب سيكون منتظرنا, فإننا نصلي أن تُعذر بينما نترككن سوية ــ ثلاث نسوة ــ أبناء محبوبات للأعلى, وسأصلي من أجل إرشادكن الروحي بينما تضعن الخطط لحياة جديدة وأفضل على الأرض وحياة أبدية في الما-بعد العظيم".
133:3.10 (1473.3) هكذا استأذن يسوع وكانيد النساء. حتى الآن لم تقل المحظيتان شيئاً, بالمثل كان كانيد عاجزاً عن الكلام, وللحظات قليلة كانت مارثا كذلك, لكن في الوقت الحالي ارتقت إلى المناسبة وفعلت كل شيء من أجل هاتين الغريبتين ما كان يسوع يأمل فيه. توفيت الكبرى من المرأتين بعد ذلك بوقت قصير, مع أمل مشرق في البقاء الأبدي, وعملت المرأة الشابة في مكان عمل يوستاس وفيما بعد أصبحت عضواً مدى الحياة في أول كنيسة مسيحية في كورينثوس.
133:3.11 (1473.4) عدة مرات في بيت كريسباس, التقى يسوع وكانيد بشخص اسمه غايوس, الذي أصبح فيما بعد من المؤيدين المخلصين لبولس. أثناء هذين الشهرين في كورينثوس عقدوا محادثات ودية مع عشرات الأشخاص ذوي القيمة العالية, ونتيجة لكل هذه الاتصالات العابرة على ما يبدو أصبح أكثر من نصف الأفراد المتأثرين بذلك أعضاء في المجتمع المسيحي اللاحق.
133:3.12 (1473.5) عندما ذهب بولس لأول مرة إلى كورينثوس, لم يكن ينوي القيام بزيارة مطولة. لكنه لم يكن يعرف كم حسناً كان المعلم اليهودي قد هيأ الطريق من أجل جهوده. وبالإضافة, اكتشف بأن اهتمام كبير كان سابقاً قد أوقظ بأكيلا وبريسكيلا, أكيلا كائن واحد من الكلابيين الذين اتصل بهم يسوع عندما كان في روما. كان هذا الزوج يهوديين لاجئين من روما, وسرعان ما اعتنقا تعاليم بولس. عاش بولس وعمل معهما, لأنهما كانا أيضًا صانعي خيام. لقد كان بسبب هذه الظروف بأن بولس أطال مكوثه في كورينثوس.
133:4.1 (1474.1) كان لدى يسوع وكانيد المزيد من التجارب المثيرة للإهتمام في كورينثوس. لقد تحدثا عن كثب مع عدد كبير من الأشخاص الذين استفادوا كثيراً من الإرشاد الذي تلقوه من يسوع.
133:4.2 (1474.2) علـَّم الطحان عن طحن حبيبات الحق في طاحونة تجربة العيش بحيث يحيل الأشياء الصعبة للحياة الإلَهية قابلة للإستلام بطيب نفـْس حتى من قِبل الأضعف والأوهن من بين الزملاء البشر. قال يسوع: "أعط لبن الحق لأولئك الذين هم أطفال في الإدراك الروحي. في إسعافك الحي والمُحب قدم الطعام الروحي في شكل جذاب ومناسب لقدرة كل من مستفسريك على التقبل".
133:4.3 (1474.3) لقائد المئة الروماني قال: "أعط لقيصر ما لقيصر, ولله ما هو لله. الخدمة المخلصة لله والخدمة الموالية لقيصر لا تتعارضان ما لم يفترض قيصر أن ينتحل لنفسه هذا التكريم الذي يمكن أن يطالب به الإله وحده. إن الولاء لله, إذا كنت لتعرفه, سيجعلك أكثر ولاءً وإخلاصاً في تكريسك لإمبراطور جدير".
133:4.4 (1474.4) إلى قائد غيور للعقيدة الميثرانية قال: "تفعل حسناً بالسعي لدِين خلاص أبدي, لكنك تخطئ في البحث عن هذه الحقيقة المجيدة بين الألغاز التي من صنع الإنسان والفلسفات البشرية. ألا تعلم بأن سر الخلاص الأبدي يسكن داخل نفسْك؟ ألا تعلم بأن إله السماء قد أرسل روحه لتسكن داخلك, وأن هذا الروح سيقود جميع البشر المحبين للحق والذين يخدمون الله من هذه الحياة ومن خلال بوابات الموت صعوداً إلى الأعالي الأبدية للنور حيث ينتظر الله استلام أولاده؟ ولا تنسى أبداً: أنتم الذين تعرفون الله أنتم أبناء الله إن كنتم تتوقون حقاً إلى أن تكونوا مثله".
133:4.5 (1474.5) قال للمعلم الأبيقوري: "تفعل حسناً أن تختار الأفضل وتقـَّدر الخير, لكن هل أنت حكيم عندما تفشل في إدراك الأشياء الأعظم للحياة الفانية التي تتجسد في عوالم الروح المستمدة من إدراك حضور الله في قلب الإنسان؟ إن الشيء العظيم في كل التجربة البشرية هو إدراك معرفة الله الذي تعيش روحه في داخلك وتسعى إلى قيادتك على تلك الرحلة الطويلة والتي لا تنتهي تقريباً للوصول إلى الحضور الشخصي لأبينا المشترك, إله كل الخليقة, رب الأكوان".
133:4.6 (1474.6) قال للمقاول والبناء اليوناني: "يا صديقي, بينما تبني الهياكل المادية للناس, نمي صِفة روحية في مماثلة للروح الإلَهي داخل نفسك. لا تدع إنجازك كبنّاء مؤقت يفوق إحرازك كإبن روحي لملكوت السماء. بينما تبني منازل الزمن لآخر, لا تهمل تأمين وثيقة امتلاكك لقصور الأبدية لنفسك. دائماً تذكَّر, هناك مدينة أساسها البر والحق, وبانيها وصانعها هو الله".
133:4.7 (1474.7) للقاضي الروماني قال: "عندما تقاضي الناس, تذكَّر بأنك نفسك كذلك ستأتي يوماً ما إلى المحاكمة أمام محكمة حكام الكون. احكم بالعدل, حتى برحمة, حتى كما ستتوق هكذا يوماً لاعتبار رحيم على أيدي الحاكم الأعلى. حاكم كما ستُحاكَم في ظل ظروف مماثلة, بالتالي مسترشداً بروح القانون كما بنصه. وحتى كما تمنح العدالة التي يسودها الإنصاف في ضوء حاجة أولئك الذين يمثلون أمامك, هكذا سيكون لديك الحق في أن تتوقع عدالة ملطفة بالرحمة عندما تقف يوماً ما أمام قاضي كل الأرض".
133:4.8 (1475.1) قال لسيدة النزل اليوناني: "اخدمي ضيافتك كمن تُضيف أبناء الأعلى. ارفعي كد عنائك اليومي إلى المستويات العالية للفن الرفيع من خلال الإدراك المتزايد بأنك تخدمين الله في الأشخاص الذين يسكنهم بروحه التي نزلت لتسكن في قلوب الناس, بهذا تسعين لتحويل عقولهم وقيادة نفوسهم إلى معرفة آب الفردوس لكل تلك الهدايا المُغدقة للروح الإلَهي".
133:4.9 (1475.2) كان ليسوع الكثير من الزيارات مع تاجر صيني. في قوله وداعاً, حذره: "لا تعبد إلا الله, الذي هو سلف روحك الحقيقي. تذكَّر بأن روح الأب دائماً تسكن داخلك ودائماً توجه اتجاه-نفسك نحو السماء. إذا تبعت القيادة غير الواعية لهذا الروح الخالد, فمن المؤكد أنك ستستمر في الطريق الرافعة لإيجاد الله, وعندما تحرز الأب في السماء, سيكون ذلك لأنه بالبحث عنه قد أصبحت أكثر فأكثر مثله. وهكذا وداعاً, يا شانك, لكن إلى فصل فقط, لأننا سنلتقي مجدداً في عوالم النور حيث وفر أب نفوس الروح الكثير من أماكن التوقف المبهجة من اجل أولئك الملزمين-بالفردوس".
133:4.10 (1475.3) قال للمسافر من بريطانيا: "أخي, أشعر بأنك تبحث عن الحق, واقترح بأن روح أب كل الحق قد يصادف ليسكن داخلك. هل سعيت أبداً أن حاولت بصدق التحدث مع روح نفسك الخاصة؟ مثل هذا الشيء في الحقيقة صعب وقلما ينتج وعياً بالنجاح؛ لكن كل محاولة صادقة للعقل المادي في التواصل مع روحه الساكن تلقى نجاحاً أكيداً, بالرغم من أن غالبية كل هذه التجارب البشرية الرائعة يجب أن تبقى طويلاً كتسجيلات فائقة عن الوعي في نفوس مثل هؤلاء الفانين الذين يعرفون الله".
133:4.11 (1475.4) للفتى الهارب قال يسوع: "تذكَّر, هناك شيئان لا يمكنك الهروب منهما ــ الله ونفسك. حيثما تذهب, أنت تأخذ معك نفسك وروح الأب السماوي الساكن داخل قلبك. يا بني, توقف عن محاولة خداع نفسك؛ استقر على الممارسة الشجاعة المتمثلة في مواجهة حقائق الحياة؛ تمسك بثبات بضمانات البنوة مع الله ويقين الحياة الأبدية, كما علمتك. منذ هذا اليوم وصاعداً أهدف لتكون رَجلاً حقيقياً, رجل مصمم على مواجهة الحياة بشجاعة وذكاء".
133:4.12 (1475.5) للمجرم المدان قال في الساعة الأخيرة: " أخي, لقد وقعت على أوقات شريرة. ضللت طريقك؛ أصبحت متورطاً في شباك الجريمة. من الحديث معك, أعلم جيداً أنك لم تخطط لفعل الشيء الذي على وشك أن يكلفك حياتك الدنيوية. لكنك فعلت هذا الشر, وزملاؤك حكموا بأنك مذنب؛ قرروا بأنك يجب أن تموت. أنت أو أنا قد لا ننكر على الدولة هذا الحق في الدفاع عن الذات بالطريقة التي تختارها. لا يبدو أن هناك طريقة إنسانية للإفلات من عقوبة الإثم. يجب أن يحكم عليك زملاؤك من خلال ما فعلته, لكن هناك قاضي يمكنك أن تستأنف إليه من أجل الغفران, والذي سيحاكمك من خلال دوافعك الحقيقية ونواياك الأفضل. لا داعي للخوف من مواجهة دينونة الله إذا كانت توبتك صادقة وإيمانك مُخلْص. واقع أن خطأك يحمل معه عقوبة الموت التي فرضها الإنسان لا تُجحف بفرصة حصول روحك على العدالة والتمتع بالرحمة أمام المحاكم السماوية".
133:4.13 (1476.1) لقد تمتع يسوع بالعديد من المحادثات الحميمة مع عدد كبير من النفوس الجائعة, كثيرة جداً لإيجاد مكان في هذا السجل. استمتع المسافرون الثلاثة بإقامتهم في كورينثوس. باستثناء أثينا التي كانت أكثر شهرة كمركز تعليمي, كانت كورينثوس أهم مدينة في اليونان خلال هذه الحقبة الرومانية, وقد أتاحت إقامتهم لمدة شهرين في هذا المركز التجاري الفرصة لكل الثلاثة لاكتساب خبرة قيِّمة جداً. كانت إقامتهم في هذه المدينة واحدة من أكثر المحطات إثارة للاهتمام في طريق العودة من روما.
133:4.14 (1476.2) كان لدى كونود مصالح كثيرة في كورينثوس, لكن أخيراً تم الإنتهاء من عمله واستعدوا للإبحار إلى أثنيا. سافروا على متن قارب صغير يمكن نقله برا على طريق بري من أحد موانئ كورينثوس إلى الآخر, مسافة عشرة أميال.
133:5.1 (1476.3) بعد وقت قصير وصلوا إلى المركز القديم للعلوم والتعليم اليوناني, وكان كانيد مفتوناً بفكرة التواجد في أثنيا, لكونه في اليونان, المركز الحضاري للإمبراطورية الإسكندرانية في أحد الأوقات, التي امتدت حدودها حتى أرضه الهند. كان هناك القليل من الأعمال للتعامل فيها؛ لذلك أمضى كونود معظم وقته مع يسوع وكانيد, زائراً العديد من النقاط المثيرة للإهتمام ومستمعاً إلى المناقشات المشوقة للفتى ومعلمه المتعدد البراعات.
133:5.2 (1476.4) جامعة عظيمة كانت لا تزال مزدهرة في أثينا, وقام الثلاثي بزيارات متكررة إلى قاعاتها التعليمية. كان يسوع وكانيد قد ناقشا تعاليم أفلاطون باستفاضة عندما حضرا المحاضرات في المتحف عند الإسكندرية. لقد استمتعوا جميعًا بالفن اليوناني, الذي كانت أمثلة منه لا تزال موجودة هنا وهناك حول المدينة.
133:5.3 (1476.5) استمتع كل من الأب والابن كثيرًا بالنقاش حول العلوم التي أجراها يسوع عند فندقهم ذات مساء مع فيلسوف يوناني. بعد أن تحدث هذا المتحذلق لما يقرب من ثلاث ساعات, وعندما انتهى من محاضرته, قال يسوع, في مصطلحات الفِكرٍ الحديث:
133:5.4 (1476.6) "قد يقيس العلماء الطاقة يوماً ما, أو مظاهر القوة, للجاذبية, والنور, والكهرباء, لكن هؤلاء العلماء أنفسهم لن يستطيعوا (عِلمياً) إخبارك ما هي ظواهر الكون هذه. يتعامل العلم مع أنشطة الطاقة الفيزيائية؛ يتعامل الدِين مع القيم الأبدية. الفلسفة الصحيحة تنمو من الحكمة التي تبذل قصارى جهدها لربط هذه الملاحظات الكمية والنوعية. دائماً هناك الخطر بأن يصبح العالـِم الفيزيائي البحت مبتلى بالفخر الرياضي والغرور الإحصائي, ناهيك عن العمى الروحي.
133:5.5 (1476.7) المنطق مقنع في العالـَم المادي, والرياضيات يُركن إليها عندما تقتصر في تطبيقها على الأشياء المادية؛ لكن لا ينبغي اعتبار أي منهما موثوقًا به تمامًا أو معصومًا عن الخطأ عند تطبيقه على مشاكل الحياة. الحياة تضم ظواهر ليست مادية بالكامل. يقول الحساب أنه, إذا تمكن رَجل واحد من جز صوف خروف في عشر دقائق, فيمكن لعشرة رجال جزه في دقيقة واحدة. هذه رياضيات سليمة منطقياً, إنما ليست صحيحة, لأن الرجال العشرة لن يتمكنوا من القيام بذلك, سيكون بعضهم يعترضون طريق البعض بشكل سيئ للغاية بحيث سيتأخر العمل بشكل كبير.
133:5.6 (1477.1) تؤكد الرياضيات أنه, إذا كان شخص واحد يقف من أجل وحدة معينة ذات قيمة فكرية وأخلاقية, فإن عشرة أشخاص سيقفون لعشرة أضعاف هذه القيمة. لكن عند التعامل مع شخصية بشرية سيكون أقرب إلى الحقيقة القول بأن هكذا ارتباط شخصية هو مجموع مساوٍ لمربع عدد الشخصيات المعنية في المعادلة وليس المجموع الحسابي البسيط. تمثل مجموعة اجتماعية من البشر في تآلف عمل منسق قوة أكبر بكثير من مجرد مجموع أجزائها.
133:5.7 (1477.2) قد يُتعرف على الكمية على أنها حقيقة, وبالتالي تصبح تناسقاً عِلمياً. النوعية, كائنة مسألة تفسير للعقل, تمَّثل تقديراً للقيم, وبالتالي يجب, أن تظل تجربة الفرد. عندما يصبح كل من العلم والدين أقل جزماً وأكثر تسامحاً مع النقد, ستبدأ الفلسفة في تحقيق الوحدة في الفهم الذكي للكون.
133:5.8 (1477.3) توجد وحدة في الكون الفلكي إذا أمكنك فقط تمييز طرق عملها في الواقع. الكون الحقيقي ودود لكل ولد لله الأبدي. المشكلة الحقيقية هي: كيف يمكن لعقل الإنسان المحدود أن يحقق وحدة فكرية منطقية, وصحيحة, ومتوافقة؟ هذه الحالة العارفة الكون للعقل يمكن نيلها فقط بالإدراك بأن الواقع الكمي والقيمة النوعية لديهما مسبب مشترك في أب الفردوس. هكذا مفهوم للواقع ينتج بصيرة أوسع للوحدة الهادفة لظواهر الكون؛ حتى أنه يكشف هدفاً روحياً لتحقيق الشخصية التقدمي. ومثل هذا المفهوم للوحدة يمكن أن يستشعر الخلفية غير المتغيرة لكون حي ذا علاقات لا-شخصيه متغيرة باستمرار وعلاقات شخصيه تتطور.
133:5.9 (1477.4) المادة والروح والحالة المتداخلة بينهما هي ثلاثة مستويات متداخلة العلاقة ومترابطة للوحدة الحقيقية للكون الحقيقي. بغض النظر عن مدى تباين ظواهر الكون من حيث الواقع والقيمة, فإنها, بعد كل شيء, موحَّدة في الأسمى.
133:5.10 (1477.5) ترتبط واقعية الوجود المادي بالطاقة غير المتعرف عليها بالإضافة إلى المادة المرئية. عندما تتباطأ طاقات الكون للغاية بحيث تكتسب الدرجة المطلوبة للحركة, عندئذٍ, في ظل ظروف مؤاتية, تصبح هذه الطاقات نفسها كتلة. ولا تنس أن, العقل الذي يستطيع وحده إدراك حضور الحقائق الظاهرة, هو نفسه أيضاً حقيقي. والسبب الأساسي لهذا الكون من كتلة-طاقة, وعقل, وروح, هو أبدي ــ إنه موجود ويتألف في طبيعة وتفاعلات الأب الكوني وإحداثياته المُطلـَقة".
133:5.11 (1477.6) كانوا كلهم أكثر من مذهولين بكلمات يسوع, وعندما استأذنهم اليوناني, قال: "أخيراً شاهدت عيناي يهودياً يفكر بشيء ما على حدة من التفوق العنصري ويتكلم عن شيء ما غير الدِين". وتقاعدوا من أجل الليل.
133:5.12 (1477.7) كان الحلول في أثينا مُمتعاً ومربحاً, لكن لم يكن مثمراً بشكل خاص في اتصالاته البشرية. كان الكثير من الأثينيين في ذلك اليوم إما فخورين فكرياً بسمعتهم في يوم آخر أو أغبياء وجهلاء عقلياً, كونهم نسل عبيد وضيعين من تلك الفترات الأبكر عندما كان هناك مجد في اليونان وحكمة في عقول شعبها. حتى آنذاك, كان لا يزال هناك الكثير من العقول المتحمسة التي يمكن العثور عليها بين مواطني أثينا.
133:6.1 (1477.8) عند مغادرة أثينا, ذهب المسافرون عن طريق طرواس إلى إفسس, عاصمة مقاطعة آسيا الرومانية. قاموا برحلات عديدة إلى معبد أرطيمس الإفسسيين الشهير, على بعد حوالي ميلين من المدينة. كانت أرطيمس الآلهة الأكثر شهرة في كل آسيا الصغرى وإدامة للإلهة الأُم الأبكر من العصور الأناضولية القديمة. كان الصنم الخام المعروض في المعبد الضخم المكرس لعبادتها يُشتهر بأنه سقط من السماء. لم يكن قد تم القضاء على كل تدريب كانيد الباكر لاحترام الصور كرموز للألوهية, وكان يعتقد أنه من الأفضل شراء ضريح فضي صغير تكريماً لآلهة الخصوبة هذه لآسيا الصغرى. تلك الليلة تحدثوا باستفاضة عن عبادة الأشياء المصنوعة بأيدي بشرية.
133:6.2 (1478.1) في اليوم الثالث لمكوثهم ساروا نزولاً بجانب النهر ليراقبوا جرف فم المرفأ. في الظهيرة تحدثوا مع شاب فينيقي كان يشعر بالحنين إلى الوطن ومثبط الهمة كثيراً؛ لكن الأهم من ذلك كله أنه كان يغار من شاب معين حصل على ترقية فوق مركزه. تكلم يسوع بكلمات مؤاسية إليه واستشهد بالمثل العبري القديم: "هدية الرجل تفسح له مكانًا وتُحضره أمام رجال عظماء".
133:6.3 (1478.2) من بين جميع المدن الكبيرة التي زاروها في هذه الجولة للبحر الأبيض المتوسط, هنا أنجزوا الأقل قيمة للعمل اللاحق للمبشرين المسيحيين. ضمنت المسيحية بدايتها في إفسس إلى حد كبير من خلال جهود بولس, الذي أقام هنا أكثر من عامين, يصنع الخيام من أجل المعيشة ويدير محاضرات عن الدِين والفلسفة كل ليلة في قاعة الجمهور الرئيسية لمدرسة تيرانوس.
133:6.4 (1478.3) كان هناك مفكر تقدمي مرتبط بهذه المدرسة المحلية للفلسفة, وكان ليسوع عدة اجتماعات مفيدة معه. في سياق هذه المحادثات استخدم يسوع كلمة "النفـْس" مراراً. أخيراً سأله هذا الإغريقي المتعلم عما يعنيه بـ "النفـْس" فأجاب:
133:6.5 (1478.4) "النفـْس هي الجزء العاكس-للذات, الفاطن للحق, والشاعر بالروح من الإنسان والتي ترفع الكائن الإنساني إلى الأبد فوق مستوى عالـَم الحيوان. وعي-الذات, في ومن ذاته, ليس هو النفـْس. وعي الذات الأخلاقي هو تحقيق الذات البشري الحقيقي ويشكل أساس النفـْس البشرية, والنفـْس هي ذلك الجزء من الإنسان الذي يمثل قيمة البقاء الاحتمالي للتجربة البشرية. الاختيار الأخلاقي والتحصيل الروحي, والقدرة على معرفة الله والرغبة في الكيان مثله, هي خصائص النفـْس. لا يمكن لنفـْس الإنسان أن توجد بمعزل عن التفكير الأخلاقي والنشاط الروحي. النفـْس الراكدة هي نفـْس ميتة. لكن نفـْس الإنسان تختلف عن الروح الإلَهي الذي يسكن في العقل. إن الروح الإلَهي يصل بالتزامن مع أول نشاط أخلاقي للعقل البشري, وهي مناسبة مولد النفـْس".
133:6.6 (1478.5) إن إنقاذ أو خسارة نفـْس له علاقة بما إذا كان الوعي الأخلاقي ينال أو لا ينال وضع النجاة من خلال التحالف الأبدي مع هِبة الروح الخالد المرتبطة. الخلاص هو إضفاء الروحانية على الإدراك الذاتي للوعي الأخلاقي, الذي يصبح بهذا ممتلكاً لقيمة بقائية. تتألف كل أشكال صراعات النفـْس من عدم وجود انسجام بين وعي الذات الأخلاقي, أو الروحي ووعي الذات الفكري البحت.
133:6.7 (1478.6) "النفـْس البشرية, عندما تنضج, وتُشَّرَف, وتأخذ في الروحانية, تقارب المكانة السماوية من حيث أنها تقترب من كونها كياناً يتداخل بين المادي والروحي, الذات المادية والروح الإلَهي. النفـْس المتطورة لكائن بشري يصعب وصفها وأكثر صعوبة للإظهار لأنه لا يمكن اكتشافها بأساليب البحث المادي ولا بالبرهان الروحي. لا يمكن للعلم المادي إثبات وجود النفـْس, ولا الفحص الروحي الصافي يقدر. بالرغم من فشل كل من العلوم المادية والمعايير الروحية لاكتشاف وجود النفـْس البشرية, فإن كل بشري واعي أخلاقياً يعلم بوجود نفـْسه كتجربة شخصية وفعلية".
133:7.1 (1479.1) بعد وقت قصير أبحر المسافرون إلى قبرص, متوقفين في رودس. لقد استمتعوا برحلة المياه الطويلة ووصلوا إلى جزيرتهم المقصودة مرتاحين كثيراً في الجسد ومنتعشين في الروح.
133:7.2 (1479.2) كانت خطتهم للتمتع بفترة راحة حقيقية واللعب في هذه الزيارة إلى قبرص حيث كانت جولتهم في البحر الأبيض المتوسط تقارب الانتهاء. رسوا في بافوس وبدأوا في الحال في تجميع المؤن لإقامتهم لعدة أسابيع في الجبال القريبة. في اليوم الثالث بعد وصولهم ساروا قاصدين التلال مع حيوانات النقل المُحَمَلة جيداً.
133:7.3 (1479.3) لمدة أسبوعين استمتع الثلاثي للغاية, وبعدها, دون سابق إنذار, مَرِض كانيد الصغير فجأة بشكل خطر. لمدة أسبوعين كان يعاني من حمى مستعرة, وهذيان في كثير من الأحيان؛ بقي يسوع وكونود مشغولان برعاية الصبي المريض. اهتم يسوع بالصبي بمهارة وحنان, وكان الأب مندهشاً من اللطف والبراعة التي ظهرت في كل إسعافه إلى الشاب المصاب. كانوا بعيدين عن المساكن البشرية, وكان الصبي مريض جداً بحيث لا يمكن نقله؛ لذلك أعدوا قدر الإمكان لرعايته إلى الصحة هناك في الجبال.
133:7.4 (1479.4) أثناء فترة نقاهة كانيد التي دامت ثلاثة أسابيع أخبره يسوع بالعديد من الأشياء الشيقة عن الطبيعة وحالاتها المزاجية المتنوعة. وأي متعة كانت لديهم وهم يتجولون في الجبال, الصبي يسأل أسئلة, ويسوع يجيب عليها, والأب يتعجب من الأداء بأكمله.
133:7.5 (1479.5) الأسبوع الأخير من حلولهم في الجبال كان لدى يسوع وكانيد حديثاً طويلاً عن وظائف العقل البشري. بعد عدة ساعات من النقاش سأل الفتى هذا السؤال: "لكن, يا معلم, ماذا تقصد عندما تقول بأن الإنسان يختبر شكلاً أعلى من الوعي الذاتي مقارنةً بالحيوانات الأعلى؟" وكما يعاد بيانه في العبارات الحديثة, أجاب يسوع:
133:7.6 (1479.6) "يا بني, لقد أخبرتك بالفعل الكثير عن عقل الإنسان والروح الإلَهي الذي يسكن فيه, لكن دعني الآن أشدد بأن الوعي بالذات هو حقيقة. عندما يصبح أي حيوان واعياً للذات, إنه يصبح إنساناً بدائياً. مثل هذا الإنجاز ينتج عن تنسيق الوظيفة بين الطاقة اللا-شخصية والعقل المدرك للروح, وإنها هذه الظاهرة التي تستدعي الإغداق لنقطة محورية مُطلقة للشخصية البشرية, روح الأب في السماء".
133:7.7 (1479.7) "الأفكار ليست مجرد سجل للأحاسيس؛ الأفكار هي الأحاسيس بالإضافة إلى التفسيرات العاكسة للذات الشخصية؛ والنفس هي أكثر من مجموع أحاسيس المرء. هناك يبدأ ليكون شيء من المقاربة إلى الوحدة في الذات المتطورة, وتلك الوحدة مُستمدة من الحضور الساكن لجزء من الوحدة المُطلقة التي تنشط روحياً مثل هذا العقل الحيواني الأصل الواعي للذات.
133:7.8 (1479.8) لا يمكن لأي مجرد حيوان امتلاك وعي-ذاتي بالزمن. تمتلك الحيوانات تنسيقاً فيزيولوجياً فيما يتعلق بالتعرف على الإحساس والذاكرة المرتبطة به. لكن أي منها لا تختبر إدراكاً معنوياً للإحساس أو تظهر ارتباطاً هادفاً لهذه التجارب الفيزيائية المُركَّبة كما يتجلى في استنتاجات التفسيرات البشرية الذكية والعاكسة. وهذه الحقيقة المتمثلة في الوجود الواعي-ذاتياً, مرتبطة بواقع تجربته الروحية اللاحقة, تشكل الإنسان ابناً محتملاً للكون وتنذر مسبقاً بإحرازه النهائي للوحدة السامية للكون.
133:7.9 (1480.1) كما أن النفس الإنسانية ليست مجرد مجموع حالات الوعي المتعاقبة. بدون الأداء الفعّال لمصنف وملازم وعي لن تكون هناك وحدة كافية لتبرير تعيين الذاتية. مثل هذا العقل غير الموحَّد بالكاد يستطيع بلوغ مستويات وعي لوضع إنساني. إذا كانت ارتباطات الوعي مجرد مصادفة, عند ذاك ستعرض عقول كل الناس ارتباطات غير مُنضبطة وعشوائية لمراحل معينة من الجنون العقلي.
133:7.10 (1480.2) إن العقل البشري, المبنى فقط من وعي الأحاسيس الجسدية, لا يمكنه أبداً بلوغ المستويات الروحية؛ هذا النوع من العقل المادي سيكون مفتقراً تماماً إلى الإحساس بالقيم الأخلاقية وسيكون بدون إحساس توجيهي للسيطرة الروحية التي هي أمر ضروري للغاية لإنجاز وحدة شخصية متناسقة في الزمن, والتي لا يمكن فصلها عن نجاة الشخصية في الأبدية.
133:7.11 (1480.3) يبدأ العقل البشري مبكراً في إظهار الصفات الفائقة عن المادي؛ الفكر البشري العاكس حقاً ليس محدود تماماً بمحدودات الزمان. بأن الأفراد يختلفون جداً في أداءات حياتهم يدل, ليس فقط على المعطيات المتغيرة للوراثة والتأثيرات المختلفة للبيئة؛ بل أيضاً على درجة التوحيد مع الروح الساكن من الأب الذي حققته النفس, مقياس التعرف للواحد مع الآخر.
133:7.12 (1480.4) العقل البشري لا يطيق بشكل جيد صراع الولاء المزدوج, إنه إجهاد قاسي على النفـْس أن تتحمل تجربة جهد خدمة كل من الخير والشر. العقل الموحَّد بكفاءة والسعيد بسمو هو المُكَرَس بالكامل لفعل مشيئة الأب في السماء. الصراعات التي لم يتم حلها تُدَمر الوحدة وقد تنتهي في اضطراب العقل. لكن صِفة البقاء للنفـْس لا يتم تعزيزها من خلال محاولة تأمين راحة البال بأي ثمن, بالتخلي عن الطموحات النبيلة, أو بالتنازل عن المُثل الروحية؛ بالأحرى هكذا سلام يتم تحقيقه من خلال التأكيد القوي على انتصار ما هو حقيقي, وهذا الانتصار يتحقق في التغلب على الشر بالقوة المقتدرة للخير".
133:7.13 (1480.5) في اليوم التالي رحلوا إلى سَلاميس, حيث أبحروا قاصدين إنطاكية على الساحل السوري.
133:8.1 (1480.6) كانت إنطاكية عاصمة مقاطعة سوريا الرومانية, وهنا كان لدى الحاكم الإمبراطوري مركز إقامته. كانت إنطاكية تحوي نصف مليون نسمة؛ لقد كانت ثالث مدينة في الإمبراطورية من حيث الحجم والأولى في الإثم والفجور الفاحش. كان لدى كونود أعمال وافرة للتعامل معها؛ وهكذا كان يسوع وكانيد كثيراً بمفردهما. قاموا بزيارة كل شيء حول هذه المدينة المتعددة اللغات باستثناء بستان دافني. قام كونود وكانيد بزيارة مزار العار سيئ السمعة هذا, لكن يسوع رفض مرافقتهما. لم تكن مثل هذه المشاهد صادمة جداً للهنود, لكنها كانت بغيضة لعبراني مثالي.
133:8.2 (1480.7) أصبح يسوع صاحياً ومفكراً عندما اقتربوا من فلسطين ونهاية رحلتهم. زار مع عدد قليل من الناس في إنطاكية؛ نادراً ما ذهب حول المدينة, بعد الكثير من التساؤل حول سبب إبداء معلمه القليل من الاهتمام بإنطاكية, استدرج كانيد يسوع أخيراً ليقول: "هذه المدينة ليست بعيدة عن فلسطين؛ ربما سأعود هنا في وقت ما".
133:8.3 (1481.1) كان لدى كانيد تجربة شيقة جداً في إنطاكية. لقد أثبت هذا الشاب أنه تلميذ جدير وبدأ بالفعل في الاستفادة العملية من بعض تعاليم يسوع. كان هناك هندي معيَّن مرتبط بأعمال والده في إنطاكية والذي أصبح مزعجاً وساخطًاً لدرجة أنه تم النظر في فصله. عندما سمع كانيد بهذا, عكف بذاته إلى مكان شغل أبيه وعقد مؤتمراً طويلاً مع هذا الزميل من بلده. شعر هذا الرجل بأنه وُضع في الوظيفة الخطأ. أخبره كانيد عن الأب في السماء وفي نواح كثيرة وسع وجهات نظره عن الدين. لكن من كل ما قاله كانيد, فعل الاستشهاد بالمَثل العبري الخير الأكبر, وكانت كلمة الحكمة تلك: "ما تجده يدك لتفعله, افعله بكل مقدرتك".
133:8.4 (1481.2) بعد إعداد متاعهم من أجل قافلة الإبل, عبروا نزولاً إلى صيدا ومن هناك إلى دمشق, وبعد ثلاثة أيام استعدوا للرحلة الطويلة عبر رمال الصحراء.
133:9.1 (1481.3) لم تكن رحلة القافلة عبر الصحراء تجربة جديدة لهؤلاء الرجال الذين يسافرون كثيرًا. بعد أن راقب كانيد معلمه يساعد في تحميل جِمالهم العشرين ولاحظه يتطوع لقيادة حيواناتهم الخاصة, هتف, "يا معلم هل هناك أي شيء لا يمكنك فعله؟" ابتسم يسوع فقط, قائلاً, "المعلم, بالتأكيد ليس بدون كرامة في نظر تلميذ مجتهد". وهكذا انطلقوا إلى مدينة أور القديمة.
133:9.2 (1481.4) كان يسوع مهتماً جداً بالتاريخ المبكر لأور, مسقط رأس إبراهيم, وكان بنفس القدر معجباً بأطلال وتقاليد صوصا, كثيراً لدرجة أن كونود وكانيد مدَّدا إقامتهما في هذه الأنحاء لثلاثة أسابيع لمنح يسوع المزيد من الوقت لإجراء تحقيقاته وكذلك لتوفير فرصة أفضل لإقناعه بالعودة معهما إلى الهند.
133:9.3 (1481.5) لقد كان في أور حيث كان لكانيد حديث طويل مع يسوع بما يخص الفرق بين المعرفة, والحكمة, والحق. وكان مفتوناً جداً بقول الرجل العبري الحكيم: "الحكمة هي الشيء الرئيسي؛ لذلك اكتسب الحكمة. مع كل سعيك للمعرفة, حصّل الفهم. ارفع الحكمة وستقوم هي بترقيتك. ستحضرك إلى الشرف إذا كنت فقط ستحتضنها".
133:9.4 (1481.6) أخيراً جاء يوم الفراق. كانوا كلهم شجعان, خاصة الفتى, لكنها كانت محنة شاقة. كانوا دامعي العيون إنما شجعان القلوب. في توديع معلمه, قال كانيد: "الوداع, يا معلم, لكن ليس إلى الأبد. عندما أعود مرة أخرى إلى دمشق, سأبحث عنك. أنا أحبك, لأني أعتقد أن الأب في السماء يجب أن يكون شيئاً مثلك؛ على الأقل أعلم أنك تشبه كثيرًا ما أخبرتني عنه. سأتذكر تعليمك, لكن الأهم من ذلك كله, لن أنساك أبداً". قال الأب, "وداعاً لمعلم عظيم, واحد جعلنا أفضل وساعدنا على معرفة الله". ويسوع أجاب, "ليكن عليكم السلام, ولتظل بركات الأب في السماء معكم دائماً". ووقف يسوع على الشاطئ وشاهد بينما حملهم القارب الصغير إلى سفينتهم الراسية. هكذا ترك السيد أصدقاءه من الهند في شاراكس, لن يراهم مرة أخرى في هذا العالَم؛ ولا هم, في هذا العالَم كانوا أبداً ليعلموا بأن الرجل الذي ظهر فيما بعد باسم يسوع الناصري كان هذا الصديق ذاته الذي ودَّعوه للتو ــ يشوع معلمهم.
133:9.5 (1481.7) في الهند, نشأ كانيد ليصبح رجلاً مؤثرًا, وخليفة جديراً لوالده الرفيع الشأن, ونشر في الخارج الكثير من الحقائق النبيلة التي تعلمها من يسوع, معلمه المحبوب. فيما بعد في الحياة, عندما سمع كانيد عن المعلم الغريب في فلسطين الذي أنهى مهمته على صليب, على الرغم من أنه أدرك التشابه بين إنجيل ابن الإنسان هذا وتعاليم معلمه اليهودي, لم يخطر بباله مطلقاً بأن هذين الاثنين كانا في الواقع نفس الشخص.
133:9.6 (1482.1) بهذا انتهى ذلك الفصل من حياة ابن الإنسان الذي يمكن تسميته: مهمة يشوع المعلم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 134
134:0.1 (1483.1) أثناء رحلة البحر الأبيض المتوسط كان يسوع قد درس باهتمام الناس الذين التقى بهم والبلدان التي مر بها, وفي هذا الوقت تقريبًا كان قد توصل إلى قراره النهائي بالنسبة لبقية حياته على الأرض. كان قد أخذ بعين الاعتبار كلياً وأقر أخيراً الخطة التي نصت على أن يولد لأبوين يهوديين في فلسطين, ولذلك عاد عمداً إلى الجليل لانتظار بداية عمل حياته كمعلم علني للحق؛ بدأ في وضع خطط من أجل مهمة علنية في أرض شعب أبيه يوسف, وفعل هذا بمحض إرادته.
134:0.2 (1483.2) كان يسوع قد وجد من خلال التجربة الشخصية والبشرية بأن فلسطين كانت أفضل مكان في العالَم الروماني ليعرض فيها الفصول الختامية, ويُجري المشاهد الأخيرة, لحياته على الأرض. للمرة الأولى أصبح راضياً تماماً عن برنامج إظهار طبيعته الحقيقية بشكل علني والكشف عن هويته الإلَهية بين اليهود والأمميين في موطنه فلسطين. لقد قرر بالتأكيد إنهاء حياته على الأرض وإكمال مسيرته في الوجود البشري في نفس الأرض التي دخل فيها التجربة البشرية كطفل عاجز. بدأت مهمته اليورانشية هذه بين اليهود في فلسطين, واختار أن يُنهي حياته في فلسطين بين اليهود.
134:1.1 (1483.3) بعد ترك كونود وكانيد عند شاراكس (في كانون الأول من عام 23 م.), عاد يسوع بطريق أور إلى بابل, حيث التحق بقافلة صحراوية كانت في طريقها إلى دمشق. من دمشق ذهب إلى الناصرة, وتوقف لساعات قليلة فقط في كفرناحوم, حيث تمهل لزيارة عائلة زَبـِدي. هناك التقى شقيقه يعقوب, الذي كان في وقت ما قد حضر للعمل في مكانه في ورشة قوارب زَبـِدي. بعد التحدث مع يعقوب ويهوذا (الذي صادف أيضاً ليكون في كفرناحوم) وبعد أن حول إلى شقيقه يعقوب المنزل الصغير الذي كان يوحنا زَبـِدي قد دبر شراءه, تابع يسوع إلى الناصرة.
134:1.2 (1483.4) عند نهاية رحلة البحر الأبيض المتوسط هذه, كان يسوع قد حصل على ما يكفي من المال لتغطية نفقات معيشته تقريباً حتى إلى وقت بداية إسعافه العلني. لكن على حدة من زَبـِدي كفرناحوم والناس الذين التقى بهم على هذه الرحلة الاستثنائية, لم يعرف العالم قط أنه قام بهذه الرحلة. اعتقدت عائلته دائماً بأنه قضى هذا الوقت في الدراسة في الإسكندرية. لم يؤكد يسوع أبداً هذه المعتقدات, ولم ينكر صراحةً سوء الفهم هذا.
134:1.3 (1483.5) خلال إقامته التي استمرت بضعة أسابيع في الناصرة, زار يسوع عائلته وأصدقائه, أمضى بعض الوقت عند دكان التصليح مع شقيقه يوسف, لكنه كَرَسَ معظم اهتمامه لمريم وراعوث. كانت راعوث عند ذاك في الخامسة عشرة من عمرها تقريباً, وهذه كانت أول مناسبة ليسوع لإجراء محادثات طويلة معها منذ أن أصبحت شابة.
134:1.4 (1484.1) أراد كل من سمعان ويهوذا لبعض الوقت أن يتزوجا, لكنهما لم يرغبا في القيام بذلك دون موافقة يسوع؛ بناء عليه قاما بتأجيل هذه الأحداث أملين برجوع شقيقهم الأكبر. على الرغم من أنهم جميعاً اعتبروا يعقوب رب الأسرة في معظم الأمور, عندما تعلق الأمر بالزواج, أرادوا بَرَكة يسوع. هكذا تزوج سمعان ويهوذا في حفل زفاف مزدوج في أوائل آذار هذا العام 24 م. جميع الأولاد الأكبر سنا كانوا متزوجين الآن؛ فقط راعوث, الصغرى, بقيت في البيت مع مريم.
134:1.5 (1484.2) زار يسوع مع أفراد عائلته بشكل اعتيادي وطبيعي تماماً, لكن عندما كانوا كلهم معاً, كان لديه القليل جداً ليقوله بحيث أنهم علقوا على ذلك فيما بينهم. كانت مريم بشكل خاص قلقة من هذا السلوك الغريب غير المعتاد لابنها البكر.
134:1.6 (1484.3) في الوقت الذي كان فيه يسوع يستعد لمغادرة الناصرة, أصيب القائد لقافلة كبيرة كانت تمر خلال المدينة بمرض شديد, وتطوع يسوع, لكونه لغوي, ليحل مكانه. نظراً لأن هذه الرحلة تتطلب غيابه لمدة سنة, وبما أن جميع إخوانه كانوا قد تزوجوا وكانت أُمه تعيش في البيت مع راعوث, دعا يسوع إلى مؤتمر عائلي اقترح فيه أن تذهب أمه وراعوث إلى كفرناحوم للعيش في المنزل الذي أعطاه مؤخراً ليعقوب. تبعاً لذلك, بعد أيام قليلة من مغادرة يسوع مع القافلة, انتقلت مريم وراعوث إلى كفرناحوم, حيث عاشتا لبقية حياة مريم في البيت الذي زوده يسوع. انتقل يوسف وعائلته إلى بيت الناصرة القديم.
134:1.7 (1484.4) كان هذا أحد أكثر الأعوام غير العادية في التجربة الداخلية لابن الإنسان؛ تم إحراز تقدم عظيم في إحداث انسجام العمل بين عقله البشري والضابط الساكن. كان الضابط منخرطًا بنشاط في إعادة تنظيم التفكير وفي التدرب على الأحداث العظيمة التي كانت في المستقبل غير البعيد. كانت شخصية يسوع تستعد من أجل تغييره العظيم في الموقف تجاه العالَم. كانت هذه هي الأوقات الفاصلة, المرحلة الانتقالية لذلك الكائن الذي بدأ الحياة كإله يظهر كإنسان, والذي كان يستعد الآن لإكمال مهمته الأرضية كإنسان يظهر مثل إله.
134:2.1 (1484.5) كان الأول من نيسان,عام 24 م., عندما غادر يسوع الناصرة في رحلة القافلة إلى منطقة بحر قزوين. كانت القافلة التي التحق بها يسوع كقائد لها ذاهبة من أورشليم بطريق دمشق وبحيرة أورميا خلال أشور, وميديا, وبارثيا إلى المنطقة الجنوبية الشرقية لبحر قزوين. لقد مر عام كامل قبل أن يعود من هذه الرحلة.
134:2.2 (1484.6) بالنسبة إلى يسوع, كانت رحلة القافلة هذه مغامرة أخرى للاستكشاف والخدمة الشخصية. كان لديه تجربة مثيرة للإهتمام مع عائلة قافلته ــ مسافرين, وحُراس, وسائقي جـِمال. عشرات من الرجال والنساء والأولاد الذين يقيمون على جانب الطريق الذي تتبعه القافلة عاشوا حياة أكثر ثراءً نتيجة لاتصالهم مع يسوع, بالنسبة لهم, القائد الاستثنائي لقافلة اعتيادية. ليس كل الذين تمتعوا بتلك المناسبات لإسعافه الشخصي كسبوا بها, لكن الغالبية العظمى من الذين التقوا به وتحدثوا معه جُعلوا أفضل لبقية حياتهم الطبيعية.
134:2.3 (1484.7) من بين جميع رحلاته في العالَم, هذه الرحلة إلى بحر قزوين حملت يسوع الأقرب إلى المشرق ومكنته من اكتساب تفهم أفضل لشعوب الشرق الأقصى. أجرى اتصالاً ودياً وشخصياً مع كل واحد من أعراق يورانشيا الباقية باستثناء الأحمر. بنفس القدر تمتع بإسعافه الشخصي لكل من هذه الأعراق المتنوعة والشعوب المختلطة, وكلهم كانوا متلقين للحقيقة الحية التي أحضرها إليهم. اهتم الأوروبيون من أقصى الغرب والأسيويون من أقصى الشرق على حد سواء بكلماته من الأمل والحياة الأبدية وكانوا بنفس القدر متأثرين بحياة الخدمة المحبة والإسعاف الروحي التي عاشها بلطفٍ كبير في وسطهم.
134:2.4 (1485.1) كانت رحلة القافلة ناجحة بكل الطرق. كان هذا الحدث الأكثر إثارة للاهتمام في حياة يسوع البشرية, لأنه عمل خلال هذه السنة باستطاعة إدارية, بصفته مسؤولاً عن الاستئمان المادي في عهدته وعن الإدارة السليمة للمسافرين الذين يشكلون زمرة القافلة. وبأكثر الإخلاص, والكفاءة, والحكمة أدّى واجباته المتعددة.
134:2.5 (1485.2) عند العودة من منطقة قزوين, تخلى يسوع عن توجيه القافلة في بحيرة أورميا, حيث مكث لأكثر من أسبوعين بقليل. عاد كمسافر مع قافلة أخرى فيما بعد إلى دمشق, حيث ناشده مالكي الجِمال أن يبقى في خدمتهم. رافض هذا العرض, تابع السفر مع قطار القافلة إلى كفرناحوم, واصل في الأول من نيسان, عام 25 م. لم يعد يعتبر الناصرة موطنه. أصبحت كفرناحوم موطن يسوع, ويعقوب, ومريم, وراعوث. لكن يسوع لم يسكن مرة أخرى مع عائلته, عندما كان في كفرناحوم كان يجعل بيته مع أل زَبـِدي.
134:3.1 (1485.3) على الطريق إلى بحر قزوين, توقف يسوع عدة أيام من أجل الراحة والاستجمام في مدينة أورميا الفارسية القديمة على الشواطئ الغربية لبحيرة أورميا. على الأكبر من مجموعة جزر واقعة على مسافة قصيرة من الشاطئ بالقرب من أورميا كان هناك مبنى كبير ــ مدرج محاضرة ــ مُكرس إلى "روح الدِين". كان هذا الهيكل في الحقيقة معبدًا لفلسفة الأديان.
134:3.2 (1485.4) بُني هذا المعبد الديني من قبل تاجر ثري مواطن من أورميا وأبناؤه الثلاثة. هذا الرجل كان سيمبويتون, وكان بين أسلافه العديد من الشعوب المتنوعة.
134:3.3 (1485.5) بدأت المحاضرات والمناقشات في هذه المدرسة الدينية عند الساعة العاشرة كل صباح في الأسبوع. بدأت اجتماعات بعد الظهر عند الساعة الثالثة, وافتتحت مناقشات المساء عند الساعة الثامنة. دائماً ترأس سيمبويتون أو أحد أبنائه الثلاثة جلسات التدريس, والمناقشة, والمناظرة هذه. عاش مؤسس هذه المدرسة الفريدة للأديان وتوفي دون أن يكشف أبداً معتقداته الدِينية الشخصية.
134:3.4 (1485.6) في عدة مناسبات شارك يسوع في هذه المناقشات وقبل مغادرته أورميا رتب سيمبويتون مع يسوع ليمكث معهم لمدة أسبوعين في رحلة عودته ويلقي أربع وعشرين محاضرة حول "أخوة الناس", وليدير اثنتي عشرة جلسة مسائية للأسئلة, والمناقشات, والمناظرات حول محاضراته بشكل خاص وأخوة الناس بشكل عام.
134:3.5 (1485.7) وفقاً لهذا الترتيب, توقف يسوع على رحلة عودته وألقى هذه المحاضرات. كان هذا هو الأكثر منهجية ورسمية من كل تعليم السيد على يورانشيا. لا قبل ولا بعد قال الكثير جداً عن موضوع واحد كما اورد في هذه المحاضرات والمناقشات حول أخوة الناس. في الواقع, كانت هذه المحاضرات حول "ملكوت الله" و "ممالك الناس".
134:3.6 (1486.1) تم تمثيل أكثر من ثلاثين ديانة وعقيدة دِينية في كلية معبد الفلسفة الدِينية هذا. تم اختيار هؤلاء المعلمين, ودعمهم, واعتمادهم بالكامل من قبل جماعاتهم الدِينية المختصة. في هذا الوقت كان هناك حوالي خمسة وسبعين معلماً في الكلية, وسكنوا في أكواخ يستوعب كل منها حوالي اثني عشر شخصًا. كان يتم تغيير هذه المجموعات من خلال إلقاء القرعة. أي تعصب, أو روح خصام, أو أي تصرف آخر للتدخل بالسير السلس للمجموعة من شأنه أن يؤدي إلى الفصل الفوري والمقتضب للمعلم المخالف. سيتم فصله بدون رسميات, وسيتم تعيين بديله في الانتظار في مكانه على الفور.
134:3.7 (1486.2) بذل هؤلاء المعلمون من الديانات المختلفة جهداً كبيراً لإظهار مدى تشابه أديانهم فيما يتعلق بالأمور الأساسية لهذه الحياة والتالية. لم يكن هناك سوى مبدأ واحد كان لا بد من قبوله من أجل الحصول على مقعد في هذه الكلية ــ يجب أن يمثل كل معلم ديناً يعترف بالله ــ نوعاً ما من إلَه سامي. كان هناك خمسة معلمين مستقلين في الكلية الذين لم يمَّثلوا أي دِين مُنظَم, وكان مثل هذا المعلم المستقل أن ظهر يسوع أمامهم.
134:3.8 (1486.3) [ عندما نحن, منتصفو الطريق, أعددنا أولاً ملخص تعاليم يسوع في أورميا, نشأ هناك عدم اتفاق بين سيرافيم الكنائس وسيرافيم التقدم فيما يتعلق بالحكمة من تضمين هذه التعاليم في الوحي اليورانشي. إن ظروف القرن العشرين, السائدة في كل من الدِين والحكومات البشرية, تختلف جداً عن تلك السائدة في يوم يسوع بحيث كان من الصعب بالفعل تكييف تعاليم السيد في أورميا إلى مشاكل ملكوت الله وممالك الناس كما هذه الأعمال العالمية موجودة في القرن العشرين. لم نتمكن أبداً من صياغة بيان عن تعاليم السيد مقبول لكلتا المجموعتين من هؤلاء السيرافيم لحكومة الكواكب. أخيراً, عيّن الرئيس الملكيصادق للجنة الوحي لجنة من ثلاثة من أعدادنا لإعداد وجهة نظرنا حول تعاليم السيد في أورميا كما وفـِّقت إلى الشروط الدينية والسياسية للقرن العشرين على يورانشيا. بناء على ذلك, نحن منتصفو الطريق الثانويين الثلاثة أتممنا مثل هذا التعديل لتعاليم يسوع, معيدين بيان تصريحاته كما سنطبقها على ظروف العالَم الحالية, والآن نقدم هذه البيانات كما هي بعد أن نُقـِّحت من قبل الرئيس الملكيصادق للجنة الوحي.]
134:4.1 (1486.4) أخوة الناس مؤسسة على أبوة الله. عائلة الله مشتقة من محبة الله ــ الله محبة. الله الأب يحب إلَهياً أولاده, كلهم.
134:4.2 (1486.5) ملكوت السماء, الحكومة الإلَهية, مؤسس على واقع السيادة الإلَهية ــ الله روح. بما أن الله روح, فهذا الملكوت روحاني. ملكوت السماء ليس مادي ولا مجرد فكري؛ إنه علاقة روحية بين الله والإنسان.
134:4.3 (1486.6) إذا اعترفت ديانات مختلفة بالسيادة الروحية لله الأب, عندئذٍ ستبقى كل هذه الديانات في سلام. فقط عندما يزعم أحد الأديان أنه متفوق بطريقة ما على كل الآخرين, وأنه يمتلك سُلطة حصرية على الأديان الأخرى, فإن هذا الدين يفترض أنه غير متسامح مع الديانات الأخرى أو يتجرأ على اضطهاد المؤمنين في أديان أخرى.
134:4.4 (1487.1) السلام الديني ــ الأخوة ــ لا يمكن أن توجد ما لم تكن جميع الديانات على استعداد لتجريد نفسها تماماً من كل سُلطة كنسية وتتنازل كلياً عن كل مفهوم للسيادة الروحية. الله وحده صاحب السيادة للروح.
134:4.5 (1487.2) لا يُمكن أن يكون لديكم مساواة بين الأديان (الحرية الدِينية) بدون أن يكون لديكم حروب دِينية إلا إذا وافقت جميع الأديان على نقل كل السُلطة الدِينية إلى مستوى ما فائق عن الإنساني, إلى الله نفسه.
134:4.6 (1487.3) سيخلق ملكوت السماء في قلوب الناس وحدة دِينية (ليس بالضرورة توحيد) لأن أي من وكل الجماعات الدِينية المكونة من هؤلاء المؤمنين الدينيين ستكون خالية من جميع مفاهيم السلطة الكنسية - السيادة الدينية.
134:4.7 (1487.4) الله روح, والله يعطي شظية من روح ذاته لتسكن في قلب الإنسان. روحياً, كل الناس متساوون. ملكوت المساء خالٍ من الطبقات, والأصناف, والمستويات الاجتماعية, والجماعات الاقتصادية. أنتم جميعاً إخوة.
134:4.8 (1487.5) لكن في اللحظة التي تغفلون فيها عن سيادة روح الله الأب, سيبدأ دِين ما في تأكيد تفوقه على الأديان الأخرى؛ وعند ذاك, بدلاً من السلام على الأرض والنوايا الحسنة بين الناس, ستبدأ خصومات, ومهاترات, وحتى حروب دِينية, على الأقل حروب بين المتدينين.
134:4.9 (1487.6) كائنات المشيئة الحرة الذين يعتبرون أنفسهم متساوين, ما لم يعتبروا أنفسهم بشكل متبادل بأنهم خاضعون لسُلطة فائقة ما, سُلطة على أنفسهم وفوقها, عاجلاً أو آجلاً يتم إغراءهم لتجربة قدرتهم على اكتساب القدرة والسلطة على الأشخاص والجماعات الأخرى. إن مفهوم المساواة لا يجلب السلام أبداً إلا في الاعتراف المتبادل ببعض النفوذ المسيطر للسيادة الفائقة.
134:4.10 (1487.7) عاش متدينو أورميا سوية في سلام واطمئنان نسبي لأنهم تخلوا كلياً عن كل مفاهيمهم عن السيادة الدِينية. روحياً, كانوا جميعا يؤمنون بإله ذا سيادة؛ اجتماعياً, وُضعت السُلطة الكلية وغير القابلة للتحدي على عاتق رئيسهم المترئس ــ سيمبويتون. كانوا يعلمون جيداً ما سيحدث لأي معلم يفترض أن يسيطر على زملائه المعلمين. لا يمكن أن يكون هناك سلام دِيني دائم على يورانشيا حتى تتنازل كل الفئات الدينية بحرية عن كل مفاهيمها عن الحظوة الإلَهية, والشعب المختار, والسيادة الدِينية. فقط عندما يصبح الله الأب هو الأسمى سيصبح الناس إخوة متدينين ويعيشون معاً في سلام دِيني على الأرض.
134:5.1 (1487.8) [في حين أن تعليم السيد فيما يتعلق بسيادة الله هو حقيقة ــ فقد تعقدت فقط بالظهور اللاحق للدِين عنه بين ديانات العالَم ــ إن عروضه المتعلقة بما يخص السيادة السياسية تعقدت بشكل كبير بسبب التطور السياسي لحياة الأُمة أثناء التسعة عشر قرناً وأكثر الأخيرة. في زمن يسوع كان هناك قدرتان عالميتان كبيرتان فقط ــ الإمبراطورية الرومانية في الغرب, وإمبراطورية الهان في الشرق وكانت هاتان منفصلتان على نطاق واسع بالمملكة البارثية وغيرها من الأراضي المتداخلة في منطقتي قزوين وتركستان. نحن, لذلك, في التقديم التالي انحرفنا على نطاق واسع عن جوهر تعاليم السيد عند أورميا فيما يتعلق بالسيادة السياسية, في ذات الوقت محاولين وصف أهمية مثل هذه التعاليم كما تُطبَق على المرحلة الحرجة الخاصة لتطور السيادة السياسية في القرن العشرين بعد المسيح. ]
134:5.2 (1487.9) لن تنتهي الحرب على يورانشيا أبداً طالما تتشبث الأمم بالمفاهيم الوهمية المتمثلة في السيادة الوطنية غير المحدودة. هناك مستويان فقط من السيادة النسبية على عالم مأهول: المشيئة الروحية الحرة للفرد البشري والسيادة الجماعية لجنس الإنسان ككل. بين مستوى الكائن الإنساني الفرد ومستوى كامل جنس الإنسان, كل التجمعات والجمعيات هي نسبية, وعابرة, وذات قيمة فقط بقدر ما تعزز رفاه الفرد وخير وتقدم الفرد, والمجموع الكوكبي الإجمالي ــ الإنسان وجنس الإنسان.
134:5.3 (1488.1) يجب أن يتذكر المعلمون الدِينيون دائماً بأن سيادة الله الروحية تعلو على جميع الولاءات الروحية المتداخلة والوسيطة. يوماً ما سيتعلم الحكام المدنيون بأن الأعلون يحكمون في ممالك الناس.
134:5.4 (1488.2) هذا الحُكم للأعلون في ممالك الناس ليس من أجل منفعة خاصة لأي فئة من البشر مُفـَّضلة بشكل خاص. لا يوجد شيء اسمه "الشعب المختار". حُكم الأعلون, المتحكمون الفوقيون للتطور السياسي هو حُكم مُصمم لرعاية أكبر قدر من الخير إلى أكبر عدد من كل الناس ولأطول فترة زمنية.
134:5.5 (1488.3) السيادة قدرة وتنمو بالتنظيم. هذا النمو في تنظيم السلطة السياسية أمر جيد وسليم, لأنه يميل إلى أن يشمل قطاعات دائمة التوسع لمجموع البشرية. لكن هذا النمو ذاته للتنظيمات السياسية يخلق مشكلة عند كل مرحلة من مراحل التداخل بين التنظيم الأولي والطبيعي للسلطة السياسية ــ الأسرة ــ والإتمام النهائي للنمو السياسي ــ حكومة البشرية جمعاء, من قبل البشرية جمعاء, ومن أجل جميع البشر.
134:5.6 (1488.4) بدءًا من السلطة الأبوية في المجموعة العائلية, تتطور السيادة السياسية من خلال التنظيم عندما تلتحم عائلات نحو عشائر تربطهم قرابة عصبية التي تصبح موَّحَدة, لأسباب متنوعة, نحو وحدات قبلية ــ تجمعات سياسية فائقة ذات قرابة عصبية. وبعد ذلك, عن طريق التجارة, والصناعة, والغزو, تصبح القبائل موَّحَدة كأُمة, بينما تتوحد الأمم نفسها في بعض الأحيان بواسطة الإمبراطورية.
134:5.7 (1488.5) مع انتقال السيادة من جماعات أصغر إلى جماعات أكبر, تقل الحروب. وهذا يعني, أن الحروب الصغرى بين أمم أصغر تقل, لكن احتمالية نشوب حروب أكبر تزداد عندما تصبح الأمم التي تُحسِن استعمال السيادة أكبر وأكبر. في الوقت الحاضر, عندما يكون قد تم استكشاف واحتلال كل العالم, عندما تكون الأمم قليلة, وقوية, وقديرة, عندما هذه الدول العظيمة وذات السيادة المفترضة تلمس حدود بعضها, عندما تفصل بينها المحيطات فقط, عندئذٍ ستكون المرحلة مهيأة لحروب كُبرى, نزاعات تعم العالَم. لا يمكن لما يسمى بالدول ذات السيادة أن تحتك بدون إثارة الصراعات وإشعال الحروب.
134:5.8 (1488.6) تكمن الصعوبة في تطور السيادة السياسية من الأسرة إلى البشرية جمعاء, في مقاومة القصور الذاتي المعروضة على كل المستويات المتداخلة. في بعض الأحيان, تحدت العائلات عشيرتها, في حين أن العشائر والقبائل كانوا في كثير من الأحيان هادمين لسيادة الدولة الإقليمية. إن كل تطور جديد ومستقبلي للسيادة السياسية يكون (ولطالما كان) مُحرَجاً ومعَرقلاً من قبل "المراحل السقالية" للتطورات السابقة في التنظيم السياسي. وهذا صحيح لأن الولاءات البشرية, عندما تُعبأ مرة, يصعب تغييرها. ذات الولاء الذي يجعل تطور القبيلة ممكناً, يجعل من الصعب تطور القبيلة الفائقة ــ الدولة الإقليمية. ونفس الولاء (الوطنية) الذي يجعل تطور الدولة الإقليمية ممكناً, يُعقد بشكل كبير النشوء التطوري لحكومة البشرية جمعاء.
134:5.9 (1488.7) السيادة السياسية تنشأ من إخضاع تقرير المصير, أولاً من قبل الفرد داخل الأسرة ثم من قبل العائلات والعشائر في علاقة إلى القبيلة والتجمعات الأكبر. إن هذا الانتقال التدريجي لتقرير المصير من المنظمات السياسية الأصغر إلى الأكبر حجماً قد استمرت عموماً بدون انقطاع في الشرق منذ تأسيس سلالات المنغ والمغول. في الغرب حصل ذلك على مدى أكثر من ألف عام نزولاً إلى نهاية الحرب العالمية, عندما عكست حركة رجعية مؤسفة هذا الاتجاه الطبيعي مؤقتاً بإعادة تأسيس سيادة سياسية مغمورة لجماعات صغيرة متعددة في أوروبا.
134:5.10 (1489.1) لن تتمتع يورانشيا بسلام دائم إلى أن تتنازل ما يسمى بالأمم ذات السيادة بذكاء وكلياً عن قدراتها السيادية إلى أيدي أخوة الناس ــ حكومة جنس الإنسان. إن الأممية ــ إتحادات الأُمم ــ لن تتمكن أبداً من أن تجلب سلام دائم للبشرية. ستمنع الاتحادات الكونفدرالية العالمية بشكل فعال الحروب الصغيرة وتسيطر بشكل مقبول على الدول الأصغر, لكنها لن تمنع الحروب العالمية ولن تسيطر على الحكومات الثلاث أو الأربع أو الخمس الأقوى. في مواجهة النزاعات الحقيقية, ستنسحب إحدى هذه القوى العالمية من العصبة وتعلن الحرب. لا يمكنكم منع الدول من خوض الحرب طالما بقيت مصابة بالفيروس الوهمي المتمثل في السيادة الوطنية. الأممية هي خطوة في الاتجاه الصحيح. ستمنع قوة شرطة دولية العديد من الحروب الصغرى, لكنها لن تكون فعالة في منع الحروب الكبرى, الصراعات بين الحكومات العسكرية الكبرى في الأرض.
134:5.11 (1489.2) بينما يتناقص عدد الأمم ذات السيادة الحقيقية (القوى العظمى), كذلك تزداد كل من الفرصة والحاجة للحكومة البشرية. عندما لا يكون هناك سوى عدد قليل من القوى ذات السيادة (الكبرى) فعلياً, فإما أنه يتعين عليها الشروع في صراع الحياة والموت من أجل السيادة الوطنية (الإمبريالية), أو غير ذلك, من خلال التنازل الطوعي عن بعض امتيازات السيادة, يجب أن يخلقوا النواة الأساسية للقومية الفائقة. القوة التي ستكون بمثابة بداية السيادة الحقيقية للبشرية جمعاء.
134:5.12 (1489.3) لن يأتي السلام إلى يورانشيا حتى تتنازل كل من المدعوة أمم ذات سيادة عن سلطتها في شن الحرب إلى أيادي حكومة تمثيلية للبشرية جمعاء. السيادة السياسية فطرية لدى شعوب العالَم. عندما تقوم جميع شعوب يورانشيا بإنشاء حكومة عالمية, يكون لديهم الحق والسلطة على تشكيل مثل هذه الحكومة ذات السيادة؛ وعندما تسيطر مثل هذه القدرة العالمية التمثيلية أو الديمقراطية على القوات البرية, والجوية, والبحرية في العالم, يمكن أن يسود السلام على الأرض وحسن النية بين الناس ــ لكن ليس حتى ذلك الحين.
134:5.13 (1489.4) لاستخدام رسم توضيحي هام للقرنين التاسع عشر والعشرين: تمتعت الولايات الثمانية والأربعون للاتحاد الفيدرالي الأميركي بالسلام منذ وقت طويل. لم يعد لديها حروب فيما بينها. لقد أخضعت سيادتها إلى الحكومة الفيدرالية, ومن خلال التحكيم في الحرب, تخلت عن جميع المطالبات بأوهام تقرير المصير. في حين أن كل ولاية تنظم شؤونها الداخلية, فإنها لا تهتم بالعلاقات الخارجية, أو الجمارك, أو الهجرة, أو الشؤون العسكرية, أو التجارة بين الولايات. ولا الولايات الفردية تهتم بأمور المواطنية. تعاني الولايات الثمانية والأربعون من ويلات الحرب فقط عندما تتعرض سيادة الحكومة الفدرالية للخطر بطريقة ما.
134:5.14 (1489.5) هذه الولايات الثمانية والأربعون, بما أنها تخَّلت عن المغالطات المزدوجة للسيادة وتقرير المصير, تتمتع بسلام وطمأنينة بين الولايات. هكذا ستبدأ أُمم يورانشيا في التمتع بالسلام عندما تتنازل بحُرية عن سياداتها المختصة إلى أيدي حكومة عالمية ــ سيادة أخوة الناس. في هذه الدولة العالمية ستكون الأمم الصغيرة قديرة مثل الأمم الكبرى, حتى كما ولاية رود-أيلاند لديها عضوين في الكونغرس الأميركي تماماً مثل ولاية نيويورك المكتظة بالسكان أو ولاية تكساس الكبيرة.
134:5.15 (1490.1) سيادة (الولاية) المحدودة لهذه الولايات الثمانية والأربعين تم إنشاؤها من قبل الناس من أجل الناس. تم إنشاء سيادة الولاية الفائقة (الوطنية) للاتحاد الفيدرالي الأميركي من قِبل الولايات الثلاثة عشر الأساسية لمصلحتها الخاصة ولنفع الناس. يوماً ما سيتم إنشاء السيادة القومية الفائقة للحكومة الكوكبية لجنس الإنسان بالمثل من قِبل أُمم من أجل مصلحتها الخاصة ولصالح جميع البشر.
134:5.16 (1490.2) لا يولد المواطنون من أجل منفعة الحكومات؛ الحكومات هي منظمات تم إنشاؤها وإعدادها لصالح الناس. لا يمكن أن تكون هناك نهاية لتطور السيادة السياسية إلا بظهور حكومة ذات سيادة لكل الناس. كل السيادات الأخرى نسبية في القيمة, ومتوسطة في المعنى, وتابعة في الحالة.
134:5.17 (1490.3) مع التقدم العِلمي, ستصبح الحروب مدمرة أكثر فأكثر حتى تصبح شبه انتحارية عنصرياً. كم من الحروب العالمية التي يجب خوضها وعدد اتحادات الدول التي يجب أن تفشل قبل أن يكون الناس على استعداد لتأسيس حكومة جنس الإنسان والبدء في التمتع ببركات السلام الدائم والازدهار على طمأنينة النوايا الصالحة ــ نوايا صالحة تعم العالَم ــ بين الناس؟
134:6.1 (1490.4) إذا تاق إنسان ما للحرية ــ التحرر ــ فعليه أن يتذكَّر بأن جميع الناس الآخرين يتوقون لنفس الحرية. لا يمكن لمجموعات من هؤلاء البشر المحبين للحرية العيش معًا في سلام دون الخضوع للقوانين, والقواعد, واللوائح التي ستمنح كل شخص نفس الدرجة من الحرية مع الحفاظ في الوقت نفسه على درجة متساوية من الحرية لجميع زملائه البشر. إذا كان لإنسان أن يكون حراً بشكل مطلق, عندئذٍ يجب أن يصبح آخر عبداً مُطلقاً. والطبيعة النسبية للحرية صحيحة اجتماعياً, واقتصادياً, وسياسياً. الحرية هي هبة الحضارة التي أمكن تحقيقها من خلال تطبيق القانون.
134:6.2 (1490.5) الدِين يجعل من الممكن روحياً تحقيق أخوة الناس, لكن سيتطلب الأمر الحكومة البشرية لتنظيم المشاكل الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية المرتبطة بهذا الهدف المتمثل في سعادة الإنسان وكفاءته.
134:6.3 (1490.6) ستكون هناك حروب وشائعات عن حروب ــ أمة ستقوم ضد أمة ــ ما دامت سيادة العالَم السياسية منقسمة وممسكة بدون عدل بجماعة من ولايات-أمم. إنكلترا, وسكوتلندا, وويلز كانت دائماً تحارب بعضها البعض حتى تخلت عن سيادتها المختصة, مستودعينها في المملكة المتحدة.
134:6.4 (1490.7) إن حرباً عالمية أخرى ستُعَّلم ما يسمى بالدول ذات السيادة أن تشكل نوعاً من الاتحاد, بهذا خالقة آلية لمنع الحروب الصغيرة, الحروب بين الأُمم الأقل. لكن الحروب العالمية ستستمر إلى أن يتم إنشاء حكومة جنس الإنسان. السيادة العالمية ستمنع حروباً عالمية ــ لا شيء آخر يمكنه ذلك.
134:6.5 (1490.8) الولايات الأميركية الحرة الثمانية والأربعون تعيش معاً في سلام. يوجد بين مواطني هذه الولايات الثمانية والأربعون جميع القوميات والأعراق المتنوعة التي تعيش في دول أوروبا المتحاربة باستمرار. يمثل هؤلاء الأميركيون تقريباً كل الديانات والشيَّع والطوائف الدينية للعالَم الواسع بأسره, ومع ذلك هنا في شمال أميركا يعيشون معاً في سلام. وكل هذا جُعل ممكناً لأن هذه الولايات الثمانية والأربعين أخضعت سيادتها وتخلت عن جميع مفاهيم الحقوق المفترضة لتقرير المصير.
134:6.6 (1490.9) إنها ليست مسألة تسلح أو نزع سلاح. ولا مسألة تجنيد إلزامي أو خدمة عسكرية طوعية تدخل في هذه المشاكل للمحافظة على السلام في جميع أنحاء العالَم. إذا أُخذت كل شكل من أشكال الأسلحة الآلية الحديثة وكل أنواع المتفجرات من الأمم القوية, فسوف يتقاتلون بالقبضات, والحجارة, والهراوات, ما داموا يتشبثون بأوهامهم عن الحق الإلهي في السيادة القومية.
134:6.7 (1491.1) ليست الحرب مرض الإنسان العظيم والمريع؛ الحرب هي عرَض, نتيجة. المرض الحقيقي هو فيروس السيادة القومية.
134:6.8 (1491.2) لم تمتلك أمم يورانشيا سيادة حقيقية؛ لم يكن لديها مطلقًا سيادة تقدر حمايتها من ويلات ودمار الحروب العالَمية. عند إنشاء حكومة عالمية لجنس الإنسان, لا تتخلى الأمم عن سيادتها بقدر ما تقوم في الواقع بإنشاء سيادة عالمية حقيقية, لا غبن فيها, ودائمة التي من الآن فصاعدا ستكون قادرة تماما على حمايتهم من كل حرب. سيتم التعامل مع الشؤون المحلية من قبل الحكومات المحلية؛ والشؤون الوطنية من قبل الحكومات الوطنية؛ والشؤون الدولية سوف تدار من قبل الحكومة العالمية.
134:6.9 (1491.3) لا يمكن الحفاظ على السلام العالمي من خلال المعاهدات, والدبلوماسية, والسياسات الخارجية, والتحالفات, وموازين القوى, أو أي شكل آخر من المناورات المؤقتة مع السيادات القومية. يجب أن يأتي القانون العالمي إلى حيز الوجود ويجب أن تطبقه الحكومة العالمية ــ سيادة البشرية جمعاء.
134:6.10 (1491.4) سيتمتع الفرد بحُرية أبعد بكثير في ظل الحكومة العالَمية. اليوم, يخضع مواطنو القوى العظمى للضريبة, والتنظيم, والسيطرة بشكل شبه قمعي, وسيختفي الكثير من هذا التدخل الحالي في الحريات الفردية عندما تكون الحكومات الوطنية على استعداد لإستئمان سيادتها فيما يتعلق بالشؤون الدولية في أيدي الحكومة العالمية.
134:6.11 (1491.5) في ظل الحكومة العالَمية ستُمنح الفئات القومية فرصة حقيقية لتحقيق الحريات الشخصية للديمقراطية الحقيقية والتمتع بها. سوف تنتهي مغالطة تقرير المصير. مع التنظيم العالمي للمال والتجارة سيأتي عصر جديد من السلام في جميع أنحاء العالم. قريباً قد تتطور لغة عالمية, وسيكون هناك على الأقل بعض الأمل في دِين عالمي في وقت ما ــ أو ديانات ذات وجهة نظر عالَمية.
134:6.12 (1491.6) الأمن الجماعي لن يمنح السلام أبداً حتى تشمل المجموعية البشرية جمعاء.
134:6.13 (1491.7) إن السيادة السياسية للحكومة التمثيلية للبشرية ستجلب سلاماً دائماً على الأرض, والأخوة الروحية للإنسان ستضمن إلى الأبد حسن النية بين جميع الناس. ولا توجد طريقة أخرى يمكن بواسطتها تحقيق السلام على الأرض والنوايا الحسنة بين الناس.
* * *
134:6.15 (1491.8) بعد وفاة سيمبويتون, واجَه أبناؤه صعوبات كبيرة في المحافظة على كلية مسالمة. كانت تداعيات تعاليم يسوع ستكون أعظم بكثير لو أظهر المعلمون المسيحيون اللاحقون الذين انضموا إلى كلية أورميا مزيدًا من الحكمة ومارسوا المزيد من التسامح.
134:6.16 (1491.9) التجأ ابن سيمبويتون الأكبر إلى أبنير في فيلادلفيا من أجل المساعدة, لكن اختيار أبنير للمعلمين كان مؤسفاً للغاية حيث تبين أنهم متصلبين وعنيدين. سعى هؤلاء المعلمون إلى جعل دينهم مهيمناً على المعتقدات الأخرى. لم يشتبهوا أبداً بأن المحاضرات المُشار إليها غالباً لمدير القافلة ألقاها يسوع نفسه.
134:6.17 (1491.10) مع تزايد الارتباك في الكلية, سحب الأخوة الثلاثة دعمهم المالي, وبعد خمس سنوات أغلقت المدرسة. فيما بعد أُعيد فتحها كمعبد ميثراني وفي نهاية المطاف احترقت في علاقة مع أحد احتفالاتهم الماجنة.
134:7.1 (1492.1) عندما عاد يسوع من الرحلة إلى بحر قزوين, علم بأن رحلاته حول العالم كانت على وشك الانتهاء. قام برحلة إضافية واحدة فقط خارج فلسطين, وتلك كانت إلى سوريا. بعد زيارة قصيرة إلى كفرناحوم, ذهب إلى الناصرة, متوقفاً لأيام قليلة للزيارة. في منتصف نيسان غادر الناصرة متوجهاً إلى صور. من هناك سافر شمالاً, متوانياً لأيام قليلة في صيدا, لكن وجهته كانت إنطاكية.
134:7.2 (1492.2) هذا كان عام تجولات يسوع الانفرادية في فلسطين وسوريا. طوال هذه السنة من السفر كان معروفاً بأسماء متعددة في أجزاء مختلفة من البلاد: نجار الناصرة, وصانع قوارب كفرناحوم, والكاتب الدمشقي, ومعلم الإسكندرية.
134:7.3 (1492.3) عاش ابن الإنسان في إنطاكية لأكثر من شهرين, يعمل, ويراقب, ويدرس, ويزور, ويُسعف, وأثناء كل هذا يتعلم كيف يعيش الإنسان, وكيف يُفكر, ويشعر, ويتفاعل مع بيئة الوجود البشري. لمدة ثلاثة أسابيع من هذه الفترة عمل كصانع خيام. بقي في إنطاكية لفترة أطول من أي مكان آخر زاره في هذه الرحلة. بعد عشر سنوات, عندما كان الرسول بولس يعظ في إنطاكية وسمع أتباعه يتحدثون عن تعاليم الكاتب الدمشقي, قليلاً عرف بأن تلاميذه سمعوا صوت السيد نفسه واستمعوا إلى تعاليمه.
134:7.4 (1492.4) سافر يسوع من إنطاكية جنوباً على طول الساحل إلى قيصرية, حيث توانى لأسابيع قليلة, مستمراً نزولاً عبر الساحل إلى يافا. من يافا سافر داخلياً إلى يمنية, وأشدود, وغزه. من غزه أخذ الدرب الداخلي إلى بئر-سبع, حيث مكث لمدة أسبوع.
134:7.5 (1492.5) بعدئذٍ بدأ يسوع جولته النهائية, كفرد وحده, عبر قلب فلسطين, ذاهب من بئرسبع في الجنوب إلى دان في الشمال. في هذه الرحلة باتجاه الشمال توقف عند حبرون, وبيت-لحم (حيث رأى مسقط رأسه), وأورشليم (لم يزر بيت-عنيا), وبئروث, ولبونه, وسيخار, وشيكيم, والسامره, وجبع, وعين-غانم, وعندور, ومادون؛ مرورا بمجدلا وكفرناحوم, تابع السفر إلى الشمال؛ وعابراً شرقي مياه ميروم, مضى بطريق كاراهتا إلى دان, أو قيصرية فيليبي.
134:7.6 (1492.6) قاد ضابط الفكر الساكن الآن يسوع ليهجر أماكن إقامة الناس ويعمَد صعوداً إلى جبل حرمون لكي يُنهي عمله لسيادة عقله البشري وإتمام مهمة تنفيذ تكريسه الكامل لما تبقى من عمل حياته على الأرض.
134:7.7 (1492.7) كانت هذه إحدى تلك الحِقب غير العادية والاستثنائية في حياة السيد الأرضية على يورانشيا. حقبة أخرى مماثلة للغاية كانت التجربة التي مر بها عندما كان وحده في التلال قرب بـِلا بعد معموديته مباشرة. كانت هذه الفترة من العزلة على جبل حرمون إيذاناً بانتهاء مهمته البشرية البحتة, أي, الانتهاء التقني للإغداق البشري, في حين أن العزلة اللاحقة كانت بمثابة بداية المرحلة الأكثر إلَهيةً للإغداق. وعاش يسوع وحده مع الله لمدة ستة أسابيع على سُفوح جبل حرمون.
134:8.1 (1492.8) بعد أن أمضى بعض الوقت على مقربة من قيصرية فيليبي, جهز يسوع مؤنه, وأمَّن دابة نقل وفتى اسمه تِغلاف, سار على طول طريق دمشق إلى قرية كانت معروفة في وقت ما باسم بيت-جن في سفوح جبل حرمون. هنا, قرب منتصف شهر آب, عام 25 م., أسس مقره, وتارك مؤنه في عهدة تِغلاف, ارتقى السفوح المنعزلة للجبل. رافق تِغلاف يسوع في اليوم الأول إلى أعلى الجبل إلى نقطة معينة على ارتفاع 6000 قدم فوق مستوى سطح البحر, حيث بنوا وعاءً حجرياً كان تِغلاف يودع فيه الطعام مرتين في الأسبوع.
134:8.2 (1493.1) في اليوم الأول, بعد أن ترك تِغلاف, ارتقى يسوع الجبل مسافة قصيرة فقط عندما توقف للصلاة. من بين أمور أخرى سأل أباه أن يُعيد السيرافيم الحارسة "لتكون مع تِغلاف". طلب السماح له بالصعود إلى صراعه الأخير مع حقائق الوجود البشري وحده. ومُنح طلبه. ذهب إلى الإختبار العظيم مع فقط ضابطه الساكن ليرشده ويعضده.
134:8.3 (1493.2) أكل يسوع باقتصاد بينما على الجبل؛ امتنع عن كل طعام ليوم أو يومين فقط عند أي وقت. الكائنات الخارقة التي واجهته على هذا الجبل, والتي تصارع معها في الروح, والتي هزمها في القدرة, كانت حقيقية؛ كانوا ألد أعدائه في نظام ساتانيا؛ لم يكونوا أشباح مخيلة تطوروا من الشرود الذهني لبشري مستضعف وجائع لا يستطيع التمييز بين الواقع ورؤى العقل المضطرب.
134:8.4 (1493.3) أمضى يسوع الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر آب والأسابيع الثلاثة الأولى من شهر أيلول على جبل حرمون. أثناء هذه الأسابيع أنهى المهمة البشرية المتمثلة في إنجاز دوائر تفهم العقل وتحكم الشخصية. طوال هذه الفترة من التواصل مع أبيه السماوي أكمل الضابط الساكن أيضًا الخدمات المعَّينة. الهدف البشري لهذا المخلوق الأرضي أُحرز هناك. فقط المرحلة النهائية لدوزنة العقل والضابط بقيت لتُتمم.
134:8.5 (1493.4) بعد أكثر من خمسة أسابيع من التواصل المتواصل مع أبيه الفردوسي, أصبح يسوع متأكداً تماماً من طبيعته ومن يقين ظفره على المستويات المادية لتجلي الشخصية في الزمان-الفضاء. لقد آمن تماماً في ارتقاء طبيعته الإلَهية فوق طبيعته البشرية, ولم يتردد في تأكيدها.
134:8.6 (1493.5) قرب نهاية الحلول على الجبل سأل يسوع أباه عما إذا كان مسموحًا له أن يعقد مؤتمرًا مع أعدائه في ساتانيا باعتباره ابن الإنسان, كيشوع بن يوسف. تم قبول هذا الطلب. أثناء الأسبوع الأخير على جبل حرمون, حدثت التجربة الكبرى, تجربة الكون. كان الشيطان (يمثل لوسيفر) والأمير الكوكبي المتمرد, كاليغاسشيا, حاضرين مع يسوع وجُعلا مرئيين تماماً إليه. وهذه "الإستمالة", هذه التجربة النهائية للولاء البشري في مواجهة تحريفات الشخصيات المتمردة, لم يكن لديها علاقة بالطعام, أو قمة الهيكل, أو أعمال متغطرسة. لم يكن لها علاقة بممالك هذا العالَم لكن بسيادة كون عظيم ومجيد. كانت رمزية سجلاتكم مقصودة من أجل العصور الرجعية من التفكير الطفولي للعالم. وينبغي على الأجيال اللاحقة أن تفهم أي كفاح عظيم مر به ابن الإنسان في ذلك اليوم الحافل بالأحداث على جبل حرمون.
134:8.7 (1493.6) إلى المقترحات الكثيرة والمقترحات المضادة من مبعوثي لوسيفر, أجاب يسوع فقط: "لتسود مشيئة أبي الفردوسي, وأنت, يا بني المتمرد, ليحاكمك قدماء الأيام إلَهياً. أنا أبوك-الخالق؛ بالكاد أستطيع مقاضاتك بعدل, ورحمتي قد سبق وازدريت بها. أحيلك إلى محاكمة قضاة كون أعظم".
134:8.8 (1494.1) إلى كل التسويات والذرائع التي اقترحها لوسيفر, إلى كل تلك الاقتراحات المزخرفة حول إغداق التجسد, أجاب يسوع فقط, " ستتم مشيئة أبي في الفردوس". وعندما انتهت المحنة المجربة, عادت السيرافيم الحارسة المنفصلة إلى جانب يسوع وأسعفت إليه.
134:8.9 (1494.2) على عصر في أواخر الصيف, وسط الأشجار وفي صمت الطبيعة, فاز ميخائيل نِبادون بالسيادة المطلقة لكونه. على ذلك اليوم أتم المهمة المحددة للأبناء الخالقين كي يعيشوا إلى الملئ حياة التجسد في شبه جسد فاني على العوالم التطورية للزمان والفضاء. لم يتم إعلان الكون لهذا الإنجاز الهام حتى يوم معموديته, بعدها بشهور, لكن كل ذلك حصل في الحقيقة ذلك اليوم على الجبل. وعندما نزل يسوع من حلوله على جبل حرمون, تمت تسوية تمرد لوسيفر في ساتانيا وانشقاق كاليغاسشيا على يورانشيا بشكل فعلي. دفع يسوع الثمن الأخير المطلوب منه لإحراز سيادة كونه, الذي ينظم في حد ذاته وضع كل المتمردين ويقرر بأن كل هكذا اضطرابات مستقبلية (إذا حدثت أبداً) يمكن التعامل معها بشكل موجز وفعال. وفقاً لذلك, قد يُرى بأن ما يسمى بـ "التجربة الكبرى" ليسوع حدثت بعض الوقت قبل معموديته وليس بعد تلك الحادثة مباشرة.
134:8.10 (1494.3) عند نهاية هذا المكوث على الجبل, بينما كان يسوع يقوم بهبوطه, التقى بتِغلاف آتياً لملاقاته مع الطعام. أرجعه, قائلاً فقط: "فترة الراحة قد انتهت؛ يجب أن أعود إلى شغل أبي". كان رَجلاً صامتاً ومتغيراً كثيراً أثناء عودتهما إلى دان, حيث ترك الفتى, معطياً إياه الحمار. ثمٍ سار جنوباً بنفس الطريق التي أتى بها, إلى كفرناحوم.
134:9.1 (1494.4) كان الآن قرب نهاية الصيف, حوالي وقت يوم الكفارة وعيد المظال. كان لدى يسوع اجتماعاً عائلياً في كفرناحوم يوم السبت وفي اليوم التالي سار لأورشليم مع يوحنا بن زَبـِدي, متجهًا إلى الشرق من البحيرة وجيراسا ونزولاً في وادي الأردن. بينما زار بعض رفاقه على الطريق, لاحظ يوحنا تغييراً كبيراً في يسوع.
134:9.2 (1494.5) توقف يسوع ويوحنا لليلة عند بيت-عنيا مع لِعازر وشقيقتيه. متوجهين باكراً في الصباح التالي إلى أورشليم. أمضيا ما يقرب من ثلاثة أسابيع في المدينة وحولها, على الأقل يوحنا فعل. لأيام كثيرة كان يوحنا يذهب إلى أورشليم بمفرده بينما يسوع يمشي حول التلال القريبة ومتعاطياً في فصول كثيرة من التواصل الروحي مع أبيه في السماء.
134:9.3 (1494.6) كِلاهما كانا حاضرين عند الخدمات الرسمية ليوم الكفارة. كان يوحنا متأثراً للغاية باحتفالات هذا اليوم من كل الأيام في الطقوس الدينية اليهودية, لكن يسوع بقي متفرجًا مفكراً وصامتاً. بالنسبة لابن الإنسان كان هذا الأداء مثيراً للشفقة ويُرثى له. نظر إلى ذلك كله كتحريف لطبع وسجايا أبيه في السماء. تطلع على أفعال هذا اليوم كتحريف لحقائق العدالة الإلهية وحقائق الرحمة اللانهائية. لقد احترق للتنفيس عن إعلان الحقيقة الصحيحة عن طبع أبيه المُحب وتصرفه الرحيم في الكون, لكن مرقابه الأمين حذره بأن ساعته لم تأت بعد. لكن تلك الليلة, عند بيت-عنيا أسقط يسوع ملاحظات عديدة التي أقلقت يوحنا بشدة؛ ويوحنا لم يفهم تماماً المغزى الحقيقي لما قاله يسوع لمسامعهم تلك الليلة.
134:9.4 (1495.1) خطط يسوع للبقاء طوال أسبوع عيد المظال مع يوحنا. كان هذا العيد العطلة السنوية لكل فلسطين؛ لقد كان وقت العطلة اليهودية. مع أن يسوع لم يشارك في فرح المناسبة, إلا أنه كان واضحاً بأنه استمد مسرة وشعر بالرضا عندما شاهد خفة الروح والتخلي المرح للصغار والكبار.
134:9.5 (1495.2) في وسط أسبوع الاحتفال وقبل انتهاء الاحتفالات, استأذن يسوع من يوحنا, قائلاً بأنه يرغب في التقاعد إلى التلال حيث يمكنه التواصل بشكل أفضل مع أبيه الفردوسي. كان يوحنا سيذهب معه, لكن يسوع أصَّر بأن يبقى في الأعياد, قائلاً: "ليس مطلوبًا منك أن تحمل عبئ ابن الإنسان؛ فقط الحارس يجب أن يبقى متيقظاً بينما تنام المدينة في سلام". لم يعد يسوع إلى أورشليم. بعد حوالي أسبوع وحده في التلال القريبة من بيت-عنيا, غادر إلى كفرناحوم. على الطريق إلى المنزل أمضى يوماً وليلة بمفرده على سفوح الجلبوع, بالقرب من حيث انتحر الملك شاول؛ وعندما وصل إلى كفرناحوم, بدا أكثر مرحاً مما كان عليه عندما ترك يوحنا في أورشليم.
134:9.6 (1495.3) في صباح اليوم التالي ذهب يسوع إلى الصندوق المحتوي أمتعته الشخصية, التي كانت قد بقيت في ورشة زَبـِدي, ووضع مئزره, وتقدم من أجل العمل قائلاً, "ينبغي لي أن أبقى منشغلاً بينما أنتظر ساعتي لتأتي". وعمل عدة أشهر, حتى كانون الثاني من العام التالي, في ورشة القوارب, إلى جانب شقيقه يعقوب. بعد هذه الفترة من العمل مع يسوع, وبغض النظر عن الشكوك التي غيَّمت على تفهم يعقوب لعمل حياة ابن الإنسان, لم يتخلى أبداً كلياً وحقاً مرة أخرى عن إيمانه في مهمة يسوع.
134:9.7 (1495.4) أثناء هذه الفترة النهائية من عمل يسوع في ورشة القوارب, أمضى معظم وقته في الإنهاء الداخلي لبعض المراكب الأكبر. لقد بذل جهداً كبيراً في كل عمله اليدوي وبدا يختبر رضى الإنجاز البشري عندما كان يتمم قطعة من العمل جديرة بالثناء. ولو إنه أهدر وقتاً قليلاً على التافهات, كان عاملاً مجتهدًا عندما يتعلق الأمر بأي تعهد معطى.
134:9.8 (1495.5) بمرور الوقت, وصلت شائعات إلى كفرناحوم عن واحد اسمه يوحنا كان يعظ بينما يُعَّمد التائبين في الأردن, وكان يوحنا يكرز: "اقترب ملكوت السماء؛ توبوا وتعمدوا". استمع يسوع إلى هذه التقارير بينما كان يوحنا يشق طريقه ببطء صعوداً في وادي الأردن من معبر النهر الضحل الأقرب إلى أورشليم. لكن يسوع تابع العمل, يصنع قوارب, حتى رحل يوحنا صعوداً بجانب النهر إلى نقطة بالقرب من بـِلا في شهر كانون الثاني من العام التالي, 26 م., عندما ألقى عُدّته معلناً, "لقد أتت ساعتي", وقدَّم نفسه في الوقت الحاضر ليوحنا من أجل المعمودية.
134:9.9 (1495.6) لكن تغييراً كبيراً كان قد أتى على يسوع. قلة من الناس الذين تمتعوا بزياراته وإسعافاته عندما ذهب صعوداً ونزولاً في الأرض تعَّرفوا أبداً لاحقاً في المعلم العلني نفس الشخص الذي كانوا قد عرفوه وأحبوه كفرد خاص في السنوات السابقة. وكان هناك سبب لهذا الفشل للمنتفعين الأوائل منه في التعرف عليه في دوره اللاحق كمعلم علني وذو سُلطة. لسنوات طويلة كان هذا التحول في العقل والروح قيد التقدم, وتم الانتهاء منه خلال حلوله الحافل بالأحداث على جبل حرمون.
كِتاب يورانشيا
ورقة 135
135:0.1 (1496.1) ولد يوحنا المعمدان في 25 آذار, عام 7 ق.م. وفقاً للوعد الذي قطعه جبرائيل إلى أليصابات في حزيران من العام السابق. حفظت أليصابات سر زيارة جبرائيل لخمسة أشهر؛ وعندما أخبرت زوجها, زكريا, كان مضطرباً للغاية ولم يصدق روايتها تمامًا إلا بعد أن رأى حلمًا غير عادي قبل حوالي ستة أسابيع من ولادة يوحنا. باستثناء زيارة جبرائيل إلى أليصابات وحُلم زكريا, لم يكن هناك شيئاً غير عادي أو خارق للطبيعة مرتبط بمولد يوحنا المعمدان.
135:0.2 (1496.2) في اليوم الثامن تم ختان يوحنا وفقاً للعادة اليهودية. نشأ كطفل عادي, يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة, في القرية الصغيرة المعروفة في تلك الأيام بمدينة يهوذا, على بعد حوالي أربعة أميال غرب أورشليم.
135:0.3 (1496.3) كان الحدث الأكثر أهمية في طفولة يوحنا المبكرة, الزيارة بصحبة والديه, إلى يسوع وعائلة الناصرة. تمت هذه الزيارة في شهر حزيران عام 1 ق.م., عندما كان عمره يزيد قليلاً عن ست سنوات.
135:0.4 (1496.4) بعد عودتهم من الناصرة, بدأ والدا يوحنا التعليم المنهجي للفتى. لم تكن هناك مدرسة كنيس في هذه القرية الصغيرة؛ ومع ذلك, نظرًا لأنه كان كاهناً, كان زكرياً متعلماً جيدًا إلى حد ما, وكانت أليصابات أفضل تعليماً بكثير من المرأة اليهودية المتوسطة؛ كانت أيضاً من الكهنوت, كونها من نسل "بنات هارون". بما أن كان يوحنا طفلاً وحيداً, أمضيا مقداراً كبيراً من الوقت على تدريبه العقلي والروحي. لم يكن لزكريا سوى فترات قصيرة من الخدمة عند الهيكل في أورشليم بحيث كرَّس الكثير من وقته لتعليم ابنه.
135:0.5 (1496.5) كان لدى زكريا وأليصابات مزرعة صغيرة يربون فيها الأغنام. بالكاد كانوا يكسبون معيشتهم على هذه الأرض, لكن زكريا حصل على إعانة منتظمة من أموال الهيكل المخصصة للكهنوت.
135:1.1 (1496.6) لم يكن لدى يوحنا مدرسة يتخرج منها في سن الرابعة عشرة, لكن والديه اختارا هذه على أنها السنة المناسبة له لأخذ النذر النصراني الرسمي. وفقاً لذلك, أخذ زكريا وأليصابات ابنهما إلى عين-جدي, نزولاً بجانب البحر الميت. كان هذا المقر الجنوبي لأخوية النصارى, وهناك تم إدخال الفتى في حينه وبشكل رسمي في هذا النظام لمدى الحياة. بعد هذه الطقوس وجعل النذور للامتناع عن جميع المشروبات المسكرة, والسماح بنمو الشعر, والامتناع عن لمس الموتى, سارت العائلة إلى أورشليم, حيث أمام الهيكل, أتم يوحنا تقديم القرابين المطلوبة من أولئك الذين يأخذون النذور النصرانية.
135:1.2 (1496.7) أخذ يوحنا نفس نذور الحياة التي قُدّمت لأسلافه اللامعين شمشون والنبي صموئيل. كان ينظر إلى حياة النصراني كشخصية مطهرة ومقدسة. كان اليهود ينظرون إلى النصراني تقريباً بنفس الاحترام والتوقير الذي يحظى به رئيس الكهنة, ولم يكن هذا غريباً حيث إن النصارى المكرسين مدى الحياة كانوا الأشخاص الوحيدين, باستثناء كبار الكهنة, الذين ُسمح لهم أبداً بدخول قدس الأقداس في الهيكل.
135:1.3 (1497.1) عاد يوحنا إلى البيت من أورشليم ليرعى خراف أبيه ونشأ ليكون رجلاً قوياً ذا طبع نبيل.
135:1.4 (1497.2) عندما صار عمره ستة عشر سنة, كنتيجة لقراءته عن إيليا, أصبح يوحنا متأثراً كثيراً بنبي جبل الكرمل وقرر تبنى أسلوبه في اللباس. منذ ذلك اليوم وصاعداً كان يوحنا يرتدي دائمًا حُلة بشعر مع حزام جلدي. عند السادسة عشر كان طوله أكثر من ستة أقدام وتقريباً كامل النمو. مع شَعره المنساب وأسلوبه الفريد في اللباس كان في الواقع شاباً رائعاً. وتوقع والداه أشياء عظيمة من ابنهما الوحيد هذا, ابن الوعد, ونصراني مدى الحياة.
135:2.1 (1497.3) بعد مرض دام عدة أشهر توفي زكريا في تموز, عام 12 م., عندما تجاوز يوحنا تواً الثامنة عشر من عمره. كان هذا وقتاً مُربكاً جداً ليوحنا نظراً لأن النذر النصراني منع لمس الموتى, حتى في عائلة المرء الخاصة. مع أن يوحنا سعى إلى الامتثال لقيود نذره بما يخص التلوث بالموتى, إلا أنه شكك بأنه كان مطيعاً تماماً لمتطلبات الأخوية النصرانية؛ لذلك, بعد دفن والده ذهب إلى أورشليم, حيث, في الزاوية النصرانية لرواق النساء, قدَّم التضحيات اللازمة لتطهيره.
135:2.2 (1497.4) في أيلول من هذا العام قامت أليصابات ويوحنا برحلة إلى الناصرة لزيارة مريم ويسوع. كان يوحنا قد قرر للتو أن يشرع في عمل حياته, لكنه حُذر, ليس فقط بكلمات يسوع ولكن أيضاً بالتمثل به, بأن يرجع إلى البيت, ويهتم بأُمه, وينتظر "مجيء ساعة الأب". بعد وداع يسوع ومريم في نهاية هذه الزيارة الممتعة, لم يرى يوحنا يسوع مرة ثانية حتى حدث معموديته في الأردن.
135:2.3 (1497.5) عاد يوحنا وأليصابات إلى بيتهما وشرعا في وضع الخطط من أجل المستقبل. حيث إن يوحنا رفض نفقة الكاهن المستحقة إليه من أموال الهيكل, فقد خسرا كل شيء بحلول نهاية عامين سوى بيتهم؛ لذلك قرروا الذهاب جنوباً مع قطيع الغنم. تبعاً لذلك, شهد الصيف الذي بلغ فيه يوحنا العشرين من عمره انتقالهم إلى حبرون. في ما يُسمى "برية يهوذا" قام يوحنا برعاية غنمه, إلى جانب جدول كان رافداً لمجرى أكبر يصب في البحر الميت عند عين-جدي. شملت مستعمرة عين-جدي ليس فقط النصارى المكرسين لمدى الحياة ولفترة زمنية بل شملت أيضاً العديد من الرعاة المتنسكين الذين تجمعوا في هذه المنطقة مع قطعانهم وتآخوا مع الأخوية النصرانية. أعالوا أنفسهم بتربية الأغنام ومن الهدايا التي قدمها أثرياء يهود إلى الأخوية.
135:2.4 (1497.6) مع مرور الوقت, رجع يوحنا بشكل أقل إلى حبرون, في حين قام بزيارات أكثر تواتراً إلى عين-جدي. لقد كان مختلفاً تماماً عن غالبية النصارى بحيث وجد صعوبة بالغة في التآخي كلياً مع الأخوية. لكنه كان مولعاً جداً بأبنير, الزعيم المُعترَف به ورئيس مستعمرة عين-جدي.
135:3.1 (1497.7) على طول وادي هذا الجدول الصغير بنى يوحنا ما لا يقل عن دزينة ملاجئ حجرية وحظائر ليلية, تتكون من حجارة مكدسة, حيث كان بإمكانه أن يراقب ويحمي قطعانه من الأغنام والماعز. حياة يوحنا كراعٍ منحته مقداراً كبيراً من الوقت للتفكير. تحدث كثيراً مع عِزدا, فتى يتيم من بيت-زور, الذي تبناه بطريقة ما, والذي اهتم بالقطعان عندما قام برحلاته إلى حبرون لرؤية أُمه وبيع الأغنام, وكذلك عندما نزل إلى عين-جدي لخدمات السبت. عاش يوحنا والفتى بكل بساطة, يقتاتان على لحم الضأن, وحليب الماعز, والعسل البري, والجراد الصالح للأكل في تلك المنطقة. طعامهم المعتاد هذا, كان يُضاف إليه مؤن تم جلبها من حبرون وعين-جدي من وقت لآخر.
135:3.2 (1498.1) أبقت أليصابات يوحنا على عِلم بالشؤون الفلسطينية والعالمية, ونمَت قناعاته أعمق وأعمق بأن الوقت كان يقترب سريعاً من انتهاء النظام القديم؛ بأنه كان ليصبح بشير اقتراب عهد جديد, "ملكوت السماء". كان هذا الراعي الخشن متحيزاً جداً لكتابات النبي دانيال. قرأ ألف مرة وصف دانيال للصورة العظيمة, التي أخبره زكريا بأنها تمثل تاريخ الممالك العظيمة للعالَم, بدءاً من بابل, بعد ذلك فارس, واليونان, وأخيراً روما. أدرك يوحنا بأن روما تتكون بالفعل من شعوب وأجناس متعددة اللغات بحيث لا يمكنها أبداً أن تصبح إمبراطورية راسخة ومتينة. اعتقد بأن حتى روما كانت منقسمة آنذاك, مثل سوريا, ومصر, وفلسطين, ومحافظات أخرى؛ وبعد ذلك قرأ أيضًا "في أيام هؤلاء الملوك سيقيم إله السماء مملكة لن تفنى أبداً. وهذه المملكة لن تُترك لشعب آخر لكنها ستتحطم في قطع وتلتهم كل هذه الممالك, وستقوم إلى الأبد". "وأُعطي إليه السُلطان والمجد والملكوت بحيث ستخدمه كل الشعوب, والأمم, والألسن. سُلطانه سُلطان أزلي, لن يزول أبداً, ومملكته لن تُدمر أبداً". "والمملكة والسُلطان وعظَّمة المملكة تحت كل السماء ستكون معطاة إلى شعب قديسي الأعلى, الذي ملكوته ملكوت أزلي, وكل السلاطين ستخدمه وتطيعه".
135:3.3 (1498.2) لم يكن يوحنا قادراً تماماً على الارتقاء فوق الارتباك الناتج عما كان قد سمع من والديه بما يخص يسوع وبهذه المقاطع التي قرأها في الكتابات المقدسة. قرأ في دانيال: "رأيت في رؤى الليل, وشاهدت, واحد مثل ابن الإنسان أتي مع غيوم السماء, وهناك أُعطي إليه سُلطان ومجد وملكوت". لكن هذه الكلمات عن النبي لم تتوافق مع ما علمه والداه. ولا حديثه مع يسوع, عند وقت زيارته عندما كان في الثامنة عشرة من عمره, يتوافق مع هذه البيانات من الكتابات المقدسة. بالرغم من هذا الالتباس, أكدت أمه له في كل أثناء حيرته بأن نسيبه البعيد, يسوع الناصري, كان المسيح الحقيقي, أنه جاء ليجلس على عرش داود, وبأنه (يوحنا) ليصبح بشيره المتقدم وداعمه الرئيسي.
135:3.4 (1498.3) من كل ما سمعه يوحنا عن رذيلة وإثم روما والفساد والعقم الأخلاقي للإمبراطورية, مما كان يعرفه عن الأفعال الشريرة التي ارتكبها هيرودس أنتيباس وحكام يهودا, كان يميل إلى الاعتقاد بأن نهاية العصر وشيكة. لقد بدا لهذا الولد الخشن والنبيل للطبيعة بأن العالَم كان ناضجاً من أجل نهاية عصر الإنسان وفجر عصر جديد وإلَهي ــ ملكوت السماء. نما الشعور في قلب يوحنا بأنه ليكون الأخير من الأنبياء القدماء والأول من الجدد. واهتز إلى حد ما بالدافع المتصاعد للانطلاق والإعلان إلى كل الناس: توبوا! كونوا أبراراً مع الله! استعدوا للنهاية؛ أعدوا أنفسكم من أجل ظهور النظام الجديد والأبدي لشؤون الأرض, ملكوت السماء".
135:4.1 (1499.1) في 17 آب, عام 22 م., عندما كان يوحنا في الثامنة والعشرين من العمر, توفيت والدته فجأة. قام أصدقاء أليصابات بكل الترتيبات لدفن أليصابات قبل الإرسال من أجل يوحنا, عالمين بالقيود النصرانية المتعلقة بلمس الموتى, حتى في عائلة المرء الخاصة. عندما تلقى نبأ وفاة والدته, وجَّه عِزدا ليسوق قطعانه إلى عين-جدي وسار إلى حبرون.
135:4.2 (1499.2) عند الرجوع إلى عين-جدي من جنازة والدته, قدَّم قطعانه إلى الأخوية وانفصل لفصلِ عن العالَم الخارجي بينما صام وصَّلى. عرف يوحنا فقط بالطرق القديمة للاقتراب إلى الألوهية؛ كان يعرف فقط عن السجلات مثل تلك لإيليا, وصموئيل, ودانيال. كان إيليا مثاله الأعلى لنبي. كان إيليا الأول من معلمي إسرائيل ليُعتبَر بمثابة نبي, وآمن يوحنا حقاً بأنه كان ليكون الأخير من هذا الخط الطويل واللامع من رسل السماء.
135:4.3 (1499.3) لمدة عامين ونصف عاش يوحنا في عين-جدي, وأقنع معظم الأخوية بأن "نهاية العصر في متناول اليد"؛ وبأن "ملكوت السماء كان على وشك الظهور". واستندت كل تعاليمه المبكرة على فكرة ومفهوم اليهودية الحالية عن المسيح باعتباره المخَلص الموعود للأُمة اليهودية من سيطرة حكامها الأمميين.
135:4.4 (1499.4) طوال هذه الفترة قرأ يوحنا الكثير في الكتابات المقدسة التي وجدها في موطن عين-جدي للنصارى. كان متأثراً بشكل خاص بإشعياء وبملاخي, الأخير من الأنبياء حتى ذلك الوقت. قرأ وأعاد قراءة الفصول الخمسة الأخيرة من كتاب إشعياء, وآمن بهذه النبؤات. ثم قرأ في ملاخي: "انظروا, سأرسل لكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمريع؛ وسيُرجع قلوب الآباء نحو الأبناء وقلوب الأبناء تجاه آبائهم, لئلا آتي وأضرب الأرض بلعنة". ولقد كان فقط هذا الوعد لملاخي بأن إيليا سيرجع ما أعاق يوحنا من الانطلاق فوراً ليعظ عن الملكوت الآتي ولحث زملائه اليهود على الفرار من السخط القادم. كان يوحنا ناضجاً لإعلان رسالة الملكوت الآتي, لكن هذا التوقع عن مجيء إيليا أعاقه لأكثر من عامين. كان يعلم أنه لم يكن إيليا. ماذا يعني ملاخي؟ هل النبوءة حرفية أو مجازية؟ كيف سيمكنه معرفة الحقيقة؟ أخيراً تجرأ على التفكير بأنه, حيث إن الأول من الأنبياء كان يدعى إيليا, هكذا الأخير يجب أن يُعرف, في النتيجة بنفس الاسم. مع ذلك, كانت لديه شكوكه, شكوك كافية لمنعه أبداً من أن يدعو نفسه إيليا.
135:4.5 (1499.5) لقد كان تأثير إيليا ما سبب ليوحنا أن يتبنى أساليبه في الهجوم المباشر والصريح على خطايا ورذائل معاصريه. سعى ليلبس مثل إيليا, وحاول أن يتكلم مثل إيليا؛ كان في كل مظهر خارجي مثل النبي القديم. لقد كان بالضبط مثل هذا الطفل القوي والرائع للطبيعة, بالضبط مثل هذا الواعظ الجريء والشجاع للبر. لم يكن يوحنا أُمياً, كان يعرف جيداً الكتابات المقدسة اليهودية, لكنه بالكاد كان مثقفاً. كان مفكراً صافياً, ومتكلماً قديراً, وشاجباً نارياً. بالكاد كان نموذجًا لعصره, لكنه كان موبخاً بليغاً.
135:4.6 (1499.6) أخيراً فَكَر بأسلوب إعلانه العهد الجديد, ملكوت الله؛ واستقر بأنه كان ليصبح بشير المسيح؛ مسح جانباً كل شكوكه ورحل من عين-جدي ذات يوم في آذار من عام 25 م. ليبدأ مهمته القصيرة إنما اللامعة كواعظ علني.
135:5.1 (1500.1) من أجل فهم رسالة يوحنا, يجب أن يُؤخذ في الإعتبار وضع الشعب اليهودي عند وقت ظهوره على ساحة العمل. لما يقرب من مائة سنة كانت إسرائيل كلها في مأزق؛ كانوا في حيرة لتفسير خضوعهم المستمر إلى سادة الأمميين. ألَم يُعلم موسى بأن البر يكافأ دائماً بالازدهار والقوة؟ ألَم يكونوا شعب الله المختار؟ لماذا كان عرش داود خاويا وخاليا؟ في ضوء المذاهب الموسوية وسنن الأنبياء وجد اليهود أنه من الصعب تفسير وحشتهم القومية المستمرة منذ أمد طويل.
135:5.2 (1500.2) حوالي مائة عام قبل أيام يسوع ويوحنا, ظهرت مدرسة جديدة للمعلمين الدينيين في فلسطين. الكاشفو الرؤيا. طوَرَ هؤلاء المعلمون الجدد نظاماً من المعتقدات يفسر معاناة اليهود وإذلالهم على أساس أنهم كانوا يدفعون ثمن خطايا الأُمة. اتكئوا على أسباب معروفة جيداً المعينة لشرح الأسر البابلي وعبوديات أخرى من أزمنة سابقة. لكن, هكذا علـَّم كاشفو الرؤيا, أنه يجب على إسرائيل أن تتشجع؛ كانت أيام البلاء تقريباً على وشك الانتهاء؛ تأديب شعب الله المختار قارب على الانتهاء؛ كان صبر الله مع الأجانب الأمميين على وشك النفاذ. كانت نهاية الحكم الروماني مرادفة لنهاية العصر, وبمعنى ما, مع نهاية العالَم. اعتمد هؤلاء المعلمون الجدد بثقل على تنبؤات دانيال, وعلـَّموا باستمرار بأن الخليقة على وشك الإنتقال إلى مرحلتها النهائية؛ ممالك هذا العالَم على وشك أن تصبح ملكوت الله. بالنسبة للعقل اليهودي في ذلك اليوم كان هذا هو معنى تلك العبارة ـ ملكوت السماء ـ التي تسري في جميع تعاليم كل من يوحنا ويسوع. بالنسبة ليهود فلسطين لم يكن لعبارة "ملكوت السماء" سوى معنى واحد: دولة بارة بشكل مُطلق فيها سيحكم الله (المسيح) أمم الأرض في كمال قدرة تماماً كما حَكمَ في السماء ــ "لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء".
135:5.3 (1500.3) في أيام يوحنا كان جميع اليهود يسألون بترقب, "متى سيأتي الملكوت؟" كان هناك شعور عام بأن نهاية حُكم الأمم الأممية كانت تقترب. كان هناك في كل أنحاء اليهودية أمل حي وتوقع قوي بأن تحقيق رغبة العصور سيحدث خلال حياة ذلك الجيل.
135:5.4 (1500.4) بينما اختلف اليهود اختلافًا كبيراً في تقديراتهم لطبيعة الملكوت الآتي, فقد كانوا متشابهين في اعتقادهم بأن الحدث كان وشيكاً, قريباً, حتى عند الباب. كثيرون من الذين قرأوا العهد القديم حرفياً تطلعوا بترقب إلى ملك جديد في فلسطين, من أجل أمة يهودية متجددة مُخَّلصَة من أعدائها ويرأسها خليفة الملك داود, المسيح, الذي سرعان ما يتم الاعتراف به باعتباره الحاكم الحق والبار لكل العالَم. آخرون, ولو فئة أصغر, من اليهود المتدينين تمسكوا بوجهة نظر مختلفة تماماً عن ملكوت الله هذا. علـَّموا بأن الملكوت الآتي لم يكن من هذا العالَم, بأن العالَم يقارب نهايته المؤكدة, وبأن, "سماء جديدة وأرض جديدة" كانتا تستهلان في تأسيس ملكوت الله؛ وبأن هذا الملكوت ليكون ملكًا أبديًا, بأن الخطيئة ستكون منتهية, وبأن مواطني الملكوت الجديد سيصبحون خالدين في تمتعهم بهذا النعيم الذي لا ينتهي.
135:5.5 (1500.5) كلهم اتفقوا بأن تطهير جذري ما أو انضباط مُطهر سوف يسبق بالضرورة تأسيس الملكوت الجديد على الأرض. علـَّم الحَرفيون بأن حرباً تعم العالَم ستنشب وستهلك جميع غير المؤمنين, في حين أن المؤمنين سوف يكتسحون النصر الشامل والأبدي. علـَّمَ الروحانيون بأن الملكوت سيكون مُستهلاً بدينونة عظيمة من الله التي من شأنها أن تُنزل الأشرار إلى دينونتهم المستحقة بالعقاب والتدمير النهائي, عند ذات الوقت رافع القديسين المؤمنين من الشعب المختار إلى مقاعد شرف عُليا وسُلطة مع ابن الإنسان, الذي سيحكم فوق الأمم المفداة باسم الله. وهذه الفئة الأخيرة حتى اعتقدت بأن العديد من الأمميين الأتقياء قد يُقبلون في زمالة الملكوت الجديد.
135:5.6 (1501.1) تمسك بعض اليهود بالرأي بأن الله ربما يؤسس هذا الملكوت الجديد بتدخل مباشر وإلَهي, لكن الغالبية العظمى اعتقدت بأنه سوف يوسط ممثل وسيط ما, المسيح. وذلك كان المعنى الممكن الوحيد لمصطلح المسيح الذي يمكن أن يكون في أذهان اليهود في جيل يوحنا ويسوع. لا يمكن أن يشير المسيح إلى شخص الذي علم صرفاً مشيئة الله أو أعلن ضرورة العيش البار. إلى كل مثل هؤلاء الأشخاص المقدسين أعطى اليهود لقب النبي. كان المسيح ليكون أكثر من مجرد نبي؛ كان على المسيح أن يؤسس الملكوت الجديد, ملكوت الله. لا يمكن لأي شخص فشل في القيام بذلك أن يكون المسيح بالمعنى اليهودي التقليدي.
135:5.7 (1501.2) من سيكون هذا المسيح؟ مرة أخرى اختلف المعلمون اليهود. تمسك الأقدمون بعقيدة ابن داود. علـَّم الأحدث أنه, حيث إن الملكوت الجديد كان ملكوتاً سماوياً, فإن الحاكم الجديد قد يكون أيضًا شخصية إلَهية, شخص كان قد جلس طويلاً عند يد الله اليمنى في السماء. وغريب كما قد يبدو, أولئك الذين تصوروا على هذا النحو حاكم الملكوت الجديد لم ينظروا إليه على أنه مسيح بشري, ليس كمجرد إنسان, لكن بصفته "إبن الإنسان" ــ ابن الله ــ أمير سماوي, ظل طويلاً في الانتظار ليتقلد حكم الأرض التي جُعلت جديدة. كانت هذه الخلفية الدينية للعالَم اليهودي عندما انطلق يوحنا معلناً: "توبوا, لأن ملكوت السماء قريب!"
135:5.8 (1501.3) لقد أصبح بادياً, إذن, بأن إعلان يوحنا لمجيء الملكوت كان لديه ما لا يقل عن نصف دزينة من المعاني المختلفة في عقول أولئك الذين استمعوا إلى وعظه الحماسي. لكن بصرف النظر عن الأهمية التي علـَّقوا على العبارات التي استخدمها يوحنا, فإن كل مجموعة من هذه المجموعات المختلفة من متوقعي المملكة اليهودية كانت مفتونة بتصريحات هذا الواعظ المُخْلص, المتحمس, الخشن-والجاهز للبر والتوبة, الذي حذر سامعيه بحزم للغاية على "الفرار من الغضب الآتي".
135:6.1 (1501.4) في وقت مبكر من شهر آذار, عام 25 م., سافر يوحنا حول الساحل الغربي للبحر الميت وصعوداً في نهر الأردن إلى مقابل أريحا, المعبر الضحل القديم الذي مر عليه يشوع وبنو إسرائيل عندما دخلوا لأول مرة الأرض الموعودة؛ وعابراً إلى الجانب الآخر من النهر, أسس نفسه قرب مدخل المعبر الضحل وبدأ يعظ إلى الناس الذين مروا في طريقهم ذهاباً وإياباً عبر النهر. هذا كان الأكثر ارتياداً من كل معابر الأردن.
135:6.2 (1501.5) كان واضحاً لكل من سمع يوحنا بأنه أكثر من واعظ. الغالبية العظمى من أولئك الذين استمعوا لهذا الرجل الغريب الذي صعد من برية يهودا ذهبوا معتقدين بأنهم سمعوا صوت نبي. لا عجب أن كانت نفوس هؤلاء اليهود المتعبين والمرتقبين مثارة بشدة بهذه الظاهرة. أبداً في كل التاريخ اليهودي لم يشتاق أولاد إبراهيم المتدينين هكذا من أجل "عزاء إسرائيل" أو توقعوا بحماس أكبر "استعادة المملكة". أبداً في كل التاريخ اليهودي استطاعت رسالة يوحنا, "اقترب ملكوت السماء", أن تلقى مثل هذا الإعجاب العميق والشامل كما عند ذلك الوقت بالذات حينما ظهر بغموض على ضفة هذا المعبر الجنوبي لنهر الأردن.
135:6.3 (1502.1) لقد جاء من الرعاة مثل عاموس, ولبس مثل إيليا القديم, وأرعد تحذيراته وصَبَ إنذاراته "بروح إيليا وقدرته". لم يكن مستغرباً أن هذا الواعظ الغريب أحدث هرجاً قوياً في كل أنحاء فلسطين بينما حمل المسافرون إلى الخارج أخبار وعظه على جانب الأردن.
135:6.4 (1502.2) كان لا يزال هناك ميزة أخرى وجديدة بخصوص عمل هذا الواعظ النصراني: لقد عمَّد كل واحد من المؤمنين به في الأردن "من أجل مغفرة الخطايا". مع أن المعمودية لم تكن طقساً جديداً بين اليهود, هم لم يروها أبداً توظَف كما استخدمها يوحنا الآن. كانت الممارسة المعمول بها منذ فترة طويلة هي تعميد المهتدين الأمميين في زمالة الفناء الخارجي للهيكل, لكن اليهود أنفسهم لم يُطلب منهم أبداً الخضوع لمعمودية التوبة. فقط خمسة عشر شهراً تداخلت بين الوقت الذي بدأ فيه يوحنا بالوعظ والتعميد واعتقاله وسجنه بتحريض من هيرودس أنتيباس, لكن في هذا الوقت القصير عمَّد أكثر من مائة ألف تائب.
135:6.5 (1502.3) وعظ يوحنا لأربعة أشهر عند معبر بيت-عنيا قبل البدء بصعود الأردن شمالاً. عشرات الآلاف من المستمعين, بعضهم فضوليين ولكن كثيرون غيورون وجادون, جاؤوا لسماعه من جميع أنحاء يهودا, وبيريا, والسامرة. حتى قلة أتوا من الجليل.
135:6.6 (1502.4) في شهر أيار من هذا العام, بينما كان لا يزال يتوانى عند معبر بيت-عنيا, أرسل الكهنة واللاويون وفداً للاستفسار من يوحنا عما إذا كان يدَّعي أنه المسيح, وبأي سُلطة يعظ. أجاب يوحنا هؤلاء السائلين بقوله: "اذهبوا أخبروا أسيادكم بأنكم قد سمعتم صوت صارخ في البرية,‘ كما تكلم النبي, قائلاً, ’هيئوا طريق الرب, اصنعوا طريقاً مستقيماً لإلَهنا. سيمتلئ كل واد, وكل جبل وتل سينخفض؛ الأرض غير المستوية ستصبح سهلاً, بينما تصبح الأماكن الوعرة وادياً سلساً, وكل جسد سيرى خلاص الله‘".
135:6.7 (1502.5) كان يوحنا واعظاً بطولياً إنما عديم الكياسة. ذات يوم بينما كان يعظ ويعَّمد على الضفة الغربية للأردن, تقدمت جماعة من الفريسيين وعدد من الصدوقيين إلى الأمام وقدموا أنفسهم للمعمودية. قبل أن يقودهم نزولاً نحو الماء, مخاطباً إياهم كجماعة, قال يوحنا: "من أنذركم لتهربوا, كالأفاعي من أمام النار, من السخط الآتي؟ أنا سأعمدكم, لكن أنذركم لتُحضروا ثماراً تستحق التوبة الصادقة إذا كنتم لتنالوا غفراناً لخطاياكم. لا تقولوا لي بأن إبراهيم أباكم. أُعلن بأن الله قادر بهذه الحجارة الاثني عشر أمامكم أن يرفع أولاد جديرين لإبراهيم. وحتى الآن الفأس موضوع على جذور الأشجار بالذات. كل شجرة لا تنتج ثماراً صالحة مُقَدَّر لها أن تُقطع وتُلقى في النار". (الحجارة الاثني عشر التي أشار إليها كانت الحجارة التذكارية الشهيرة التي وُضعت من قبل يشوع لذكرى عبور "الاثني عشر سبطًا" عند هذه المرحلة بالذات عندما دخلوا أرض الميعاد لأول مرة.)
135:6.8 (1502.6) أدار يوحنا دروساً من أجل تلاميذه, قام خلالها بإرشادهم في تفاصيل حياتهم الجديدة وسعى للإجابة عن أسئلتهم العديدة. نصح المعلمين بتوجيه الروح بالإضافة إلى نص الشريعة. أمر الأغنياء بإطعام الفقراء؛ ولجُباة الضرائب قال: "لا تبتزوا أكثر مما تم تعيينه لكم".قال للجنود: " لا تمارسوا العنف ولا تستوجبوا بدون حق ــ كونوا مقتنعين بأجوركم". بينما نصح الجميع: "استعدوا لانتهاء العصر ــ ملكوت السماء في متناول اليد".
135:7.1 (1503.1) كان يوحنا لا يزال مشوش الأفكار حول الملكوت الآتي وملِكه. كلما وعظ أكثر ازدادت حيرته, لكن عدم اليقين الفكري هذا بما يخص طبيعة الملكوت الآتي لم يقلل أبداً في أقل تقدير من اقتناعه بيقين ظهور الملكوت العاجل. في العقل ربما يكون يوحنا مرتبكاً, لكن في الروح أبداً. لم يكن لديه شك في الملكوت القادم, لكنه كان بعيداً عن اليقين فيما إذا كان يسوع سيصبح حاكم ذلك الملكوت أم لا. ما دام يوحنا متمسكاً بفكرة استعادة عرش داود, فإن تعاليم والديه بأن يسوع, المولود في مدينة داود, سيكون المخلص الذي طال انتظاره, بدا موافقاً؛ ولكن في تلك الأوقات التي كان يميل فيها أكثر نحو عقيدة الملكوت الروحي ونهاية العصر الزمني على الأرض, كان بمرارة في شك بالنسبة إلى الدور الذي سيلعبه يسوع في مثل هذه الأحداث. في بعض الأحيان شك بكل شيء, لكن ليس لفترة طويلة. حقاً تمنى لو يتحدث عن كل شيء مع نسيبه, لكن ذلك كان مخالفًا لاتفاقهما المعلن.
135:7.2 (1503.2) بينما كان يوحنا يسافر إلى الشمال فَكَر كثيراً في يسوع. توقف في أكثر من اثني عشر مكانًا بينما سافر صعوداً في الأردن. لقد كان عند آدم حيث أشار أول مرة إلى "الشخص الآخر الذي سيأتي بعدي" رداً على السؤال المباشر الذي طرحه تلاميذه, هل أنت المسيح؟ ومضى ليقول: "سيأتي بعدي من هو أعظم مني, الذي لست جديراً أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا أعمدكم بماء, لكنه سيعمدكم بالروح القدس. مجرفته في يده لينظف تمامًا أرضية بيدره؛ هو سيجمع الحنطة في مخزنه, أما الزوان فسيحرقه بنار الدينونة".
135:7.3 (1503.3) رداً على أسئلة تلاميذه استمر يوحنا في توسيع تعاليمه, من يوم لآخر مضيفاً المزيد مما كان مفيدًا ومؤاسياً مقارنةً برسالته المبكرة والمشفرة: "توبوا وتعمَّدوا". بحلول هذا الوقت كانت الحشود تصل من الجليل والمدن العشرة. عشرات من المؤمنين الغيورين توانوا مع معلمهم المحبوب يوماً بعد يوم.
135:8.1 (1503.4) بحلول كانون الأول من عام 25 م., عندما وصل يوحنا إلى جوار بـِلا في رحلته صعوداً في الأردن, كانت شهرته قد امتدت إلى كل أنحاء فلسطين, وأصبح عمله موضوع الحديث الرئيسي في جميع المدن حول بحيرة الجليل, كان يسوع قد تكلم بشكل إيجابي عن رسالة يوحنا, وقد دفع هذا الكثيرين من كفرناحوم للانضمام إلى عقيدة يوحنا للتوبة والمعمودية. نزل يعقوب ويوحنا صيادا السمك أبناء زَبـِدي في كانون الأول, حالاً بعدما اتخذ يوحنا مركز وعظه بالقرب من بـِلا, وتقدّما من أجل المعمودية. ذهبا لرؤية يوحنا مرة في الأسبوع وجلبا ليسوع تقارير جديدة, مباشرة عن عمل الإنجيلي.
135:8.2 (1503.5) تحدث شقيقا يسوع يعقوب ويهوذا عن النزول إلى يوحنا من أجل المعمودية؛ والآن بما أن يهوذا كان قد أتى إلى كفرناحوم من أجل خدمات السبت, كلاهما هو ويعقوب, بعد الاستماع لمحاضرة يسوع في الكنيس, قررا التشاور معه بشأن خططهما. كان هذا في ليلة السبت, في 12 كانون الثاني, عام 26 م. طلب يسوع منهم تأجيل المناقشة حتى اليوم التالي, حيث سيجيبهم. نام قليلاً جداً تلك الليلة, كائن في اتصال وثيق مع الأب في السماء. كان قد رتـَّب لتناول الغذاء مع شقيقيه ونصحهما بشأن المعمودية بواسطة يوحنا. صباح ذلك الأحد كان يسوع يعمل كالمعتاد في ورشة القوارب. وصل يعقوب ويهوذا مع الغذاء وكانا ينتظرانه في غرفة الأخشاب, حيث لم يكن حتى الآن قد حان الوقت لراحة منتصف النهار, وكانا يعلمان بأن يسوع كان نظامياً جداً حول هذه الأمور.
135:8.3 (1504.1) قبل فترة راحة الظهيرة بقليل, ألقى يسوع أدواته, ونزع مئزر عمله, وأعلن فقط إلى العمال الثلاثة الموجودين في الغرفة معه, "أتت ساعتي". ذهب إلى شقيقيه يعقوب ويهوذا, مكرراً, " لقد أتت ساعتي ـ لنذهب إلى يوحنا". وساروا في الحال نحو بـِلا, متناولين طعام الغداء أثناء رحلتهم. كان هذا يوم الأحد, في 13 كانون الثاني. مكثوا من أجل الليل في وادي الأردن ووصلوا مكان تعميد يوحنا حوالي ظهر اليوم التالي.
135:8.4 (1504.2) كان يوحنا قد بدأ للتو تعميد المرشَحين لهذا اليوم. كان العشرات من التائبين يقفون في الطابور في انتظار دورهم عندما استلم يسوع وشقيقيه مراكزهم في هذا الخط من الرجال والنساء الجادين الذين أصبحوا مؤمنين بوعظ يوحنا عن الملكوت الآتي. كان يوحنا يستفسر عن يسوع من أبناء زَبـِدي. كان قد سمع عن ملاحظات يسوع بشأن وعظه, وكان يتوقع يوماً بيوم رؤيته يصل إلى مكان الحدث, لكنه لم يتوقع أن يحييه في صف المرشحين للمعمودية.
135:8.5 (1504.3) نظرًا لانشغاله بتفاصيل التعميد السريع لمثل هذا العدد الكبير من المهتدين, لم يتطلع يوحنا لمشاهدة يسوع حتى وقف ابن الإنسان في حضوره المباشر. عندما تعرَّف يوحنا على يسوع, توقفت الرسميات للحظة بينما كان يحيي ابن عمه في الجسد وسأل, "لكن لماذا نزلت إلى الماء لتحييني؟" وأجاب يسوع, "لأكون خاضعاً لمعموديتك". أجاب يوحنا: "لكنني بحاجة لأعتمد بك. لماذا تأتي إلي؟" ثم همس يسوع ليوحنا: "تحَّمل معي الآن, لأننا سنضرب هذا المَثل لإخوتي الواقفين هنا معي, ولكي يعرف الناس بأن ساعتي قد أتت".
135:8.6 (1504.4) كان هناك نبرة نهائية وسُلطة في صوت يسوع. كان يوحنا مهتزاً بالعاطفة عندما استعد لتعميد يسوع الناصري في الأردن ظهر يوم الاثنين, في 14 كانون الثاني, عام 26 م. هكذا عمَّد يوحنا يسوع وشقيقيه يعقوب ويهوذا. وعندما عمَّد يوحنا هؤلاء الثلاثة, صرف الآخرين لليوم, معلناً أنه سيستأنف المعمودية ظهر اليوم التالي. بينما كان الناس يغادرون, سمع الرجال الأربعة الذين ما زالوا واقفين في الماء صوتاً غريباً وفي الحاضر ظهر للحظة ظهور مباشرة فوق رأس يسوع, وسمعوا صوتاً يقول, "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت حسناً". غمر تغيير عظيم مُحيا يسوع, وخرج من الماء في صمت, استأذنهم, متجهًا نحو التلال إلى الشرق. ولم ير أحدُ يسوع مرة أخرى لأربعين يوم.
135:8.7 (1504.5) تبع يوحنا يسوع مسافة كافية ليخبره بقصة زيارة جبرائيل لأُمه قبل أن يولد أي منهما, كما سمعها مرات عديدة من شفتي أُمه. سمح ليسوع بأن يستمر في طريقه بعد أن قال, "الآن أعلم يقيناً بأنك المخَّلص". لكن يسوع لم يجيب.
135:9.1 (1505.1) عندما عاد يوحنا إلى تلاميذه (كان لديه الآن حوالي خمسة وعشرين أو ثلاثين الذين أقاموا معه باستمرار), وجدهم في مؤتمر جاد, يناقشون ما حدث للتو فيما يتعلق بمعمودية يسوع. كانوا كلهم أكثر ذهولاً عندما أخبرهم يوحنا بقصة زيارة جبرائيل لمريم قبل ولادة يسوع, وأيضاً أن يسوع لم يتكلم معه بكلمة حتى بعد أن اخبره بهذا. لم يكن هناك مطر ذلك المساء, وتحدثت هذه الجماعة من ثلاثين أو أكثر طويلاً نحو الليل المضاء بالنجوم. تساءلوا أين ذهب يسوع, ومتى سيشاهدونه مرة أخرى.
135:9.2 (1505.2) بعد تجربة هذا اليوم أخذ وعظ يوحنا ملاحظات جديدة ومحددة في الإعلان المختص بالملكوت الآتي والمسيح المنتظر. لقد كان وقتاً عصيبًا, هذه الأربعون يوماً من التباطؤ, في انتظار عودة يسوع. لكن يوحنا استمر في الوعظ إلى الحشود بقدرة عظيمة, وبدأ تلاميذه حوالي هذا الوقت بالوعظ إلى الحشود المتدفقة التي تجمعت حول يوحنا عند الأردن.
135:9.3 (1505.3) خلال هذه الأربعين يوماً من الانتظار, انتشرت الكثير من الشائعات حول الريف وحتى طبريا وأورشليم. جاء الآلاف لمشاهدة الانجذاب الجديد في مخيم يوحنا, المسيح المشهور, لكن لم يكن من الممكن رؤية يسوع. عندما أكَّد تلاميذ يوحنا بأن رجل الله الغريب قد ذهب إلى التلال, شكك الكثيرون في القصة بأكملها.
135:9.4 (1505.4) بعد حوالي ثلاثة أسابيع منذ تركهم يسوع, وصل إلى المشهد في بـِلا وفد جديد من الكهنة والفريسيين في أورشليم. سألوا يوحنا مباشرة عما إذا كان إيليا أو النبي الذي وعد به موسى؛ ولما قال يوحنا, "أنا لست كذلك," فتجرأوا على السؤال, "هل أنت المسيح؟" ويوحنا أجاب, "أنا لست كذلك". عندئذٍ قال هؤلاء الرجال من أورشليم: "إذا لم تكن إيليا, ولا النبي, ولا المسيح, فلماذا تعَّمد الشعب وتختلق كل هذه الضجة؟" فأجاب يوحنا: "يجب أن يكون لمن سمعوني وتلقوا معموديتي أن يقولوا من أنا, لكن أعلن لكم بأنه, بينما أنا أُعمد بالماء, كان بيننا من سيعود ليعَّمدكم بالروح القدس".
135:9.5 (1505.5) كانت هذه الأربعين يوماً فترة صعبة ليوحنا وتلاميذه. ماذا كانت ستكون علاقة يوحنا بيسوع؟ مائة سؤال طُرح للمناقشة. بدأت السياسة والتفضيل الأناني في الظهور. نشأت مناقشات حامية حول الأفكار والمفاهيم المختلفة عن المسيح. هل سيصبح قائداً عسكرياً وملكاً داودياً؟ هل سيضرب الجيوش الرومانية كما ضرب يشوع الكنعانيين؟ أو هل سيأتي ليؤسس ملكوت روحي؟ قرر يوحنا بالأحرى, مع الأقلية, بأن يسوع قد أتى ليؤسس ملكوت السماء, على أنه لم يكن جملةً واضح في عقله عما ليكون مشمولاً بالضبط في إطار هذه المهمة لتأسيس ملكوت السماء.
135:9.6 (1505.6) كانت هذه أيام شاقة في تجربة يوحنا, وصَّلى من أجل عودة يسوع. بعض من تلاميذ يوحنا نظـَّموا حملات استكشافية للبحث عن يسوع, لكن يوحنا منعهم قائلاً: "أوقاتنا في يدي إله السماء؛ هو سيوَّجه ابنه المختار".
135:9.7 (1505.7) لقد كان في وقت مبكر من صباح يوم السبت, 23 شباط, حينما جماعة يوحنا, منهمكين في تناول وجبتهم الصباحية, تطلعوا صعوداً نحو الشمال وشاهدوا يسوع آتياً إليهم. عندما اقترب منهم, وقف يوحنا على صخرة كبيرة, ورافعاً صوته الجهوري, قال: "هوذا ابن الله, مخلص العالَم! هذا هو الذي قلت عنه, ’سيأتي بعدي من هو أفضل مني لأنه كان قبلي‘. لهذا خرجت من البرية لأعظ التوبة وأعمد بالماء, معلناً بأن ملكوت السماء قد اقترب. والآن أتى مَن سيعمدكم بالروح القدس. وأنا رأيت الروح الإلَهي يتنزل على هذا الرجل, وسمعت صوت الله يعلن, ’هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت حسناً‘".
135:9.8 (1506.1) أمَرهم يسوع بالرجوع إلى طعامهم بينما جلس لتناول الطعام مع يوحنا, كان شقيقاه يعقوب ويهوذا قد عادا إلى كفرناحوم.
135:9.9 (1506.2) باكراً في صباح اليوم التالي استأذن يسوع من يوحنا وتلاميذه, عائداً إلى الجليل. لم يعطهم أي كلمة عن متى سيشاهدونه مرة أخرى. إلى استفسارات يوحنا عن وعظه ومهمته, قال يسوع فقط, "أبي سيرشدك الآن وفي المستقبل كما فعل في الماضي". وانفصل هذان الرجلان العظيمان ذلك الصباح على ضفاف الأردن, ليس ليحييا بعضهما مرة أخرى في الجسد.
135:10.1 (1506.3) حيث أن يسوع ذهب شمالاً إلى الجليل, شعر يوحنا أنه منقاد لتتبع خطواته جنوباً. بناء على ذلك, في صباح الأحد, 3 آذار, بدأ يوحنا وبقية تلاميذه رحلتهم جنوباً. في هذه الأثناء رحل حوالي ربع أتباع يوحنا المباشرين إلى الجليل في طلب يسوع. كان هناك حزن من الارتباك حول يوحنا. لم يعظ أبداً مرة أخرى كما فعل قبل أن يعمد يسوع. شعر بطريقة ما أن مسؤولية الملكوت الآتي لم تعد على عاتقه. شعر أن عمله أوشك على الانتهاء؛ كان كئيباً ومستوحداً. لكنه وعظ, وعمَّد, وارتحل جنوباً.
135:10.2 (1506.4) بالقرب من قرية آدم, تمهل يوحنا لعدة أسابيع, وكان هنا حيث قام بهجومه التذكاري على هيرودس أنتيباس لاتخاذه بدون حق زوجة رَجل آخر. بحلول حزيران من هذا العام (26 م.) كان يوحنا قد عاد إلى مقطع بيت-عنيا في الأردن, حيث كان قد بدأ وعظه عن الملكوت الآتي قبل أكثر من سنة. في الأسابيع التي أعقبت معمودية يسوع, تغيَّرت طبيعة وعظ يوحنا تدريجياً نحو إعلان الرحمة لعامة الناس, بينما استنكر بقوة متجددة الحكام الدينيين والسياسيين الفاسدين.
135:10.3 (1506.5) أصبح هيرودس انتيباس الذي كان يوحنا يعظ في إقليمه, يشعر بالقلق خشية أن يبدأ هو وتلاميذه تمرد. استاء هيرودس أيضًا من انتقادات يوحنا العلنية لشؤونه الداخلية. في ضوء كل هذا, قرر هيرودس أن يسجن يوحنا. بناء على ذلك, في وقت مبكر جداً من صباح 12 حزيران, قبل وصول الجموع لسماع الوعظ وشهادة التعميد, ألقى عملاء هيرودس القبض على يوحنا. عندما مَرَت الأسابيع ولم يطلق سراحه, انتشر تلاميذه في جميع أنحاء فلسطين, الكثير منهم ذاهبون إلى الجليل للالتحاق بأتباع يسوع.
135:11.1 (1506.6) كان لدى يوحنا تجربة منعزلة ومريرة إلى حد ما في السجن. قلة من أتباعه سُمح لهم برؤيته. اشتاق لرؤية يسوع لكن كان عليه أن يقنع بالسماع عن عمله من خلال أولئك من أتباعه الذين أصبحوا مؤمنين بابن الإنسان. كان غالباً ما يُغرى بالشك بيسوع ومهمته الإلَهية. إذا كان يسوع المسيح, لماذا لم يفعل شيئاً لإنقاذه من هذا السجن الذي لا يُطاق؟ لأكثر من عام ونصف وهن رجل الله الخشن هذا ذا العيش في الهواء الطلق في ذلك السجن الحقير. وكانت هذه المقاساة اختباراً كبيراً لإيمانه بيسوع, وولائه له. في الواقع, كانت هذه التجربة برمتها بمثابة اختبار كبير لإيمان يوحنا حتى بالله. مرات عديدة كان يُغري بالشك حتى في صحة مهمته وتجربته الخاصة.
135:11.2 (1507.1) بعد أن كان في السجن لعدة أشهر, جاءت إليه مجموعة من تلاميذه, وبعد أن أبلغوا عن أنشطة يسوع العلنية, قالوا: "هكذا ترى, يا معلم, بأن الذي كان معك عند الأردن الأعلى يزدهر ويستلم جميع الذين يأتون إليه. هو حتى يأكل مع عشارين وخطاة. أنت شهدت بشجاعة له, ومع ذلك لا يفعل شيئاً لتأثير خلاصك". لكن يوحنا أجاب أصدقاءه: "هذا الرجل لا يستطيع فعل شيء ما لم يكن قد أعطاه إياه أبوه في السماء. تتذكرون جيداً بأنني قلت, ’أنا لست المسيح, لكنني الذي أُرسلت أمامه لكي أهيئ الطريق من أجله‘. وذلك أنا فعلت. من كانت له العروس فهو العريس, لكن صديق العريس الذي يقف بالقرب ويسمعه يفرح كثيراً بسبب صوت العريس. هذا, فرحي, لذلك قد تحقق. هو يجب أن يزيد بينما أنا يجب أن أنقص. أنا من هذه الأرض وقد أعلنت رسالتي. يسوع الناصري ينزل إلى الأرض من السماء وهو فوقنا جميعًا. ابن الإنسان قد نزل من الله, وكلمات الله سيعلنها لكم. لأن الأب في السماء لا يعطي الروح بمكيال لابنه الخاص. الأب يحب ابنه وفي الحاضر سيضع كل الأشياء في يدي هذا الابن. الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية. وهذه الكلمات التي أتكلم بها صادقة ودائمة ".
135:11.3 (1507.2) كان هؤلاء التلاميذ مندهشين ببيانات يوحنا, كثيراً لدرجة أنهم غادروا في صمت. كان يوحنا كذلك مضطربًا جداً, لأنه أدرك أنه نطق بنبوءة. لم يعد مرة أخرى يشك مطلقاً في رسالة يسوع وألوهيته. لكنها كانت خيبة أمل مؤلمة ليوحنا بأن يسوع لم يرسل له أية كلمة, وبأنه لم يأت لرؤيته, وبأنه لم يمارس أياً من قدرته العظيمة لتخليصه من السجن. لكن يسوع علم بكل هذا. كان لديه محبة عظيمة ليوحنا, لكن كونه الآن يدرك طبيعته الإلَهية ويعرف تماماً الأشياء العظيمة في التحضير من أجل يوحنا عندما رحل من هذا العالَم وعالم أيضاً بأن عمل يوحنا على الأرض قد انتهى, ألزم نفسه بألا يتدخل في العمل الظاهري الطبيعي لمهمة الواعظ-النبي العظيم.
135:11.4 (1507.3) هذا الترقب الطويل في السجن كان لا يُطاق من الناحية الإنسانية. بالضبط قبل أيام قليلة من وفاته أرسل يوحنا مرة أخرى مبعوثيه الموثوقين إلى يسوع مستفسرًا: "هل انتهى عملي؟ لماذا أذبل في السجن؟ هل أنت حقاً المسيح, أو أننا سنبحث عن آخر؟" وعندما أعطى هذان التلميذان هذه الرسالة إلى يسوع, أجاب ابن الإنسان: "ارجعا إلى يوحنا واخبراه بأني لم أنس لكن ليأذن لي هذا أيضاً, لأنه يصبح لنا أن نتمم كل بر. اخبرا يوحنا بما شاهدتماه وسمعتماه ــ بأن الفقراء لديهم بشائر جيدة توعظ لهم ــ وأخيراً, أخبرا المبشر المحبوب بمهمتي الأرضية بأنه سيكون مباركاً بوفرة في الدهر الآتي إذا لم يجد فرصة للشك والتعثر علي". وكانت هذه الكلمة الأخيرة التي تلقاها يوحنا من يسوع. لقد واسته هذه الرسالة كثيراً وفعلت الكثير لتـُرسخ إيمانه وتهيئه من أجل النهاية المأساوية لحياته في الجسد التي سرعان ما تبعت في أعقاب هذه المناسبة التي لا تُنسى.
135:12.1 (1508.1) حيث إن يوحنا كان يعمل في جنوب بيريا عندما ألقي القبض عليه, اقتيد على الفور إلى سجن قلعة ماخايروس, حيث سُجن حتى إعدامه. حَكمَ هيرودس بيريا وكذلك الجليل, وأقام في ذلك الوقت مقرا له في كل من يولياس وماخايروس في بيريا. في الجليل كان مكان الإقامة الرسمي قد نُقل من صفوريه إلى العاصمة الجديدة في طبريا.
135:12.2 (1508.2) خاف هيرودس أن يطلق سراح يوحنا لئلا يحرض على التمرد. وخاف أن يعدمه خشية اندلاع أعمال شغب في العاصمة, لأن الآلاف من البيريين كانوا يؤمنون بأن يوحنا رجل مقدس, نبي. لذلك أبقى هيرودس الواعظ النصراني في السجن, دون أن يعرف ماذا يفعل به. امتثل يوحنا أمام هيرودس عدة مرات, لكنه لم يوافق أبداً على إما ترك مناطق هيرودس أو الإمتناع عن كل النشاطات العلنية إذا أُخلي سبيله. وهذا التحريض الجديد بشأن يسوع الناصري, الذي كان يتزايد باطراد, حذر هيرودس بأنه لم يكن الوقت لإخلاء سبيل يوحنا. إلى جانب ذلك, كان يوحنا أيضًا ضحية الكراهية الشديدة والمريرة من هيروديا, زوجة هيرودس غير الشرعية.
135:12.3 (1508.3) في مناسبات عديدة تحدث هيرودس مع يوحنا عن ملكوت السماء, وبينما كان متأثرًا بشدة برسالته في بعض الأحيان, كان يخشى إطلاق سراحه من السجن.
135:12.4 (1508.4) حيث إن الكثير من البناء كان لا يزال جاريًا في طبريا, فقد أمضى هيرودس وقتاً معتبراً عند مساكنه في بيريا, وكان متحيزاً إلى قلعة ماخايروس. لقد مرت عدة سنوات قبل أن يتم الانتهاء بالكامل من جميع المباني العامة والمقر الرسمي في طبريا.
135:12.5 (1508.5) في الاحتفال بعيد ميلاده أقام هيرودس وليمة كبيرة في القصر الماخايري لكبار ضباطه ورجال آخرين رفيعي المستوى في مجالس حكومة الجليل وبيريا. حيث إن هيروديا كانت قد فشلت في تحقيق موت يوحنا بطلب مباشر إلى هيرودس, فقد وضعت الآن على عاتقها مهمة جلب موت يوحنا بالتخطيط الماكر.
135:12.6 (1508.6) في سياق احتفالات وتسلية الأمسيات, قدَّمت هيروديا ابنتها للرقص أمام المدعوين. كان هيرودس مسروراً جداً بأداء الصبية, وداعياً إياها أمامه قال: "أنتِ فاتنة. أنا مسرور جداً بك. اسأليني على عيد ميلادي هذا عن أي شيء ترغبينه, وسأعطيك إياه, حتى نصف مملكتي". وفعل هيرودس كل هذا بينما كان تحت تأثير نبيذه الكثيف. انسحبت الآنسة الصغيرة جانباً واستفسرت من والدتها عما ينبغي أن تطلبه من هيرودس. قالت هيروديا, "اذهبي إلى هيرودس واطلبي رأس يوحنا المعمدان". والمرأة الشابة, راجعة إلى مأدبة المدعوين, قالت لهيرودس, "أطلب أن تعطيني على الفور رأس يوحنا المعمدان على طبق".
135:12.7 (1508.7) كان هيرودس ممتلئاً بالخوف والأسف, لكن بسبب قسمه وبسبب كل أولئك الذين جلسوا معه, لن ينكر الطلب. وأرسل هيرودس أنتيباس جندياً, آمراً إياه أن يحضر رأس يوحنا. هكذا قُطع رأس يوحنا تلك الليلة في السجن, أحضر الجندي رأس النبي على طبق وقدَّمه للمرأة الشابة في مؤخرة قاعة المأدبة. وأعطت الصبية الطبق لأُمها. عندما سمع تلاميذ يوحنا بهذا, جاؤوا إلى السجن من أجل جسد يوحنا, وبعد أن وضعوه في قبر, ذهبوا وأخبروا يسوع.
كِتاب يورانشيا
ورقة 136
136:0.1 (1509.1) بدأ يسوع عمله العلني عند ذروة الاهتمام العام في وعظ يوحنا وفي وقت عندما كان الشعب اليهودي في فلسطين يتطلع بتلهف من أجل ظهور المسيح. كان هناك تباين كبير بين يوحنا ويسوع. كان يوحنا عاملاً متلهفاً وجاداً, لكن يسوع كان شغيلاً هادئاً وسعيداً؛ فقط مرات قليلة في حياته كلها كان أبداً على عَجَل. كان يسوع عزاءً مؤاسياً إلى العالَم ومثالاً إلى حد ما ؛ بالكاد كان يوحنا مؤاسياً أو مثالاً. لقد وعظ عن ملكوت المساء لكنه بالكاد دخل في سعادة ذلك الملكوت. على الرغم من أن يسوع تكلم عن يوحنا باعتباره أعظم أنبياء النظام القديم, إلا أنه قال أيضًا بأن الأقل من أولئك الذين رأوا النور العظيم للطريق الجديدة ودخلوا بذلك نحو ملكوت السماء كانوا حقًا أعظم من يوحنا.
136:0.2 (1509.2) عندما بشر يوحنا بالملكوت الآتي, كان عبء رسالته: توبوا! اهربوا من الغضب الآتي. عندما بدأ يسوع بالوعظ, بقي هناك الحث على التوبة, لكن مثل هذه الرسالة كانت دائماً تُتبع بالإنجيل, البشائر الجيدة عن فرح وحرية الملكوت الجديد.
136:1.1 (1509.3) استضاف اليهود العديد من الأفكار حول المخَّلص المتوقع, وكل من هذه المدارس المختلفة للتعاليم عن المسيح كانت قادرة على الإشارة إلى عبارات في الكتابات المقدسة العبرية كبرهان على قناعاتهم. بشكل عام, اعتبر اليهود أن تاريخهم القومي يبدأ بإبراهيم ويبلغ ذروته في المسيح والعصر الجديد لملكوت الله. في أوقات سابقة كانوا قد تصوروا أن هذا المخَّلص "خادم الرب", بعدئذٍ "كابن الإنسان", بينما مؤخراً ذهب البعض إلى حد الإشارة إلى المسيح باعتباره "ابن الله". لكن بصرف النظر عما إذا دُعي "نسل إبراهيم" أو "ابن داود", فقد اتفق الجميع على أنه سيكون المسيح, "الممسوح بالدهن". لهذا, تطور المفهوم من "خادم الرب" إلى "ابن داود" و "ابن الإنسان", و "ابن الله".
136:1.2 (1509.4) في أيام يوحنا ويسوع, طور اليهود الأكثر تعلما فكرة عن المسيح الآتي على أنه الإسرائيلي المكّمَل والممثل, جامعاً في نفسه كـ "خادم الرب" المنصب الثلاثي الثنايا لنبي, وكاهن, وملك.
136:1.3 (1509.5) اعتقد اليهود بإخلاص بأنه, كما خلصَ موسى آباءهم من الاستعباد المصري بمعجزات عجائبية, هكذا سوف يخلص المسيح الآتي الشعب اليهودي من السيطرة الرومانية حتى بمعجزات أعظم وأعاجيب من النصر العنصري. كان الحاخامات قد جمعوا معاً ما يقرب من خمسمائة فقرة من الكتابات المقدسة التي, على الرغم من تناقضاتها الواضحة, جزموا أنها تنبؤات عن المسيح الآتي. ووسط كل هذه التفاصيل المتعلقة بالزمن, والتقنية, والوظيفة, تقريباً فقدوا تماماً الرؤية لشخصية المسيح الموعود. كانوا يتطلعون من أجل استعادة المجد القومي اليهودي ــ تمجيد إسرائيل الدنيوي ــ بدلاً من خلاص العالَم. لذلك يصبح من الواضح أن يسوع الناصري لا يمكنه أبداً إرضاء هذا المفهوم عن المسيح المادي للعقل اليهودي. الكثير من تنبؤاتهم المشهورة عن المسيح, لو أنهم نظروا إلى تلك البيانات النبوية من منظور مختلف, لكانوا قد أعدوا عقولهم بشكل طبيعي للغاية من أجل التعرف على يسوع باعتباره المُنهي لعصر واحد والمفتتح لعصر جديد وافتقاد إلَهي أفضل من الرحمة والخلاص لكل الأمم.
136:1.4 (1510.1) كان اليهود قد تربوا على الإيمان بعقيدة الشيكينا. لكن هذا الرمز المشهور للحضور الإلَهي لم يكن من الممكن رؤيته في الهيكل. اعتقدوا بأن مجيء المسيح سيدخل استعادته حيز التنفيذ. لقد حملوا أفكاراً مربكة حول الخطيئة العرقية والطبيعة الشريرة المفترضة للإنسان. علـَّم البعض بأن خطيئة آدم لعنت الجنس البشري, وبأن المسيح سيزيل هذه اللعنة ويرد الإنسان إلى الحظوة الإلَهية. علم آخرون أن الله, بخلقه الإنسان, وضع في كيانه طبيعتي الخير والشر على حد سواء؛ وبأنه عندما راقب تنفيذ هذا الترتيب, كان خائب الأمل جداً, وبأنه "ندم لأنه هكذا صنع الإنسان". وأولئك الذين علـَّموا هذا اعتقدوا بأن المسيح كان سيأتي ليخلص الإنسان من هذه الطبيعة الشريرة المتأصلة.
136:1.5 (1510.2) اعتقد غالبية اليهود أنهم استمروا في المعاناة في ظل الحكم الروماني بسبب خطاياهم القومية وبسبب فتور نية المهتدين الأمميين. لم تتوب الأمة اليهودية بكل إخلاص؛ لذلك أخَّر المسيح قدومه. كثر الحديث عن التوبة؛ لأجل ذلك كان النداء القدير والمباشر لوعظ يوحنا, "توبوا وتعَّمدوا, لأن ملكوت السماء قد اقترب". وملكوت السماء يمكن أن يعني شيئاً واحداً فقط لأي يهودي متدين: مجيء المسيح.
136:1.6 (1510.3) كان هناك سمة واحدة لإغداق ميخائيل التي كانت غريبة تماماً على المفهوم اليهودي عن المسيح, وتلك كانت إتحاد الطبيعتين, البشرية والإلَهية. كان اليهود قد تصوروا المسيح بطريقة مختلفة كإنسان مُكمل, فائق عن الإنساني, وحتى كإلَهي, لكنهم لم يخالجوا أبداً مفهوم الإتحاد الإنساني والإلَهي. وهذا كان حجر العثرة الكبير لتلاميذ يسوع الأوائل. لقد فهموا المفهوم البشري للمسيح على أنه ابن داود, كما قدمه الأنبياء الأوائل؛ بصفته ابن الإنسان, فكرة الفائق عن الإنساني لدانيال وبعض من الأنبياء اللاحقين, وحتى كابن الله, كما صُور من قِبل مؤلف كتاب إنوش وبعض معاصريه؛ لكنهم ولا للحظة واحدة خالجوا المفهوم الحقيقي للوحدة في شخصية أرضية واحدة للطبيعتين, البشرية والإلَهية. إن تجسد الخالق في شكل المخلوق لم يتم الكشف عنه مسبقا. لقد كُشف فقط في يسوع؛ لم يعرف العالَم شيئاً عن مثل هذه الأشياء إلى أن جُعل الابن الخالق جسداً وسكنَ بين بشر الحيز.
136:2.1 (1510.4) تم تعميد يسوع في ذروة وعظ يوحنا عندما كانت فلسطين مشتعلة بتوقع رسالته ـ "اقترب ملكوت الله" ـ عندما كان جميع اليهود منهمكين في فحص-ذاتي جدي وحازم. كان الشعور اليهودي بالتضامن العنصري عميقاً جداً. لم يعتقد اليهود فقط بأن خطايا الأب قد تصيب أولاده, لكنهم اعتقدوا اعتقادا راسخا بأن خطيئة فرد واحد قد تلعن الأُمة. بناءً على ذلك, لم يعتبر كل من خضعوا لمعمودية يوحنا أنفسهم مذنبين بالخطايا المحددة التي شجبها يوحنا. العديد من النفوس المتعبدة عُمّدت بواسطة يوحنا لأجل خير إسرائيل. خافوا أن تؤدي بعض خطايا الجهل من جانبهم إلى تأخير قدوم المسيح. شعروا بأنهم ينتمون إلى أُمة مذنبة وملعونة بالخطيئة, وتقدموا للمعمودية حتى يتمكنوا من خلال ذلك من إظهار ثمار التوبة العرقية. لذلك كان من الواضح بأن يسوع لم يستلم معمودية يوحنا بأي حال من الأحوال كطقس للتوبة أو لمغفرة الخطايا. في قبول المعمودية على يد يوحنا, كان يسوع يتبع فقط مَثل الكثيرين من الإسرائيليين الأتقياء.
136:2.2 (1511.1) عندما نزل يسوع الناصري إلى الأردن ليتعمد, كان فانياً من الحيز الذي أحرز قمة ارتقاء التطور البشري في كل الأمور المتعلقة بغزو العقل وتعريف الذات مع الروح. وقف في الأردن في ذلك اليوم فانياً مثالياً من العوالم التطورية للزمان والفضاء. لقد تم تأسيس التزامن التام والتواصل الكامل بين عقل يسوع البشري وضابط الروح الساكن, الهدية الإلَهية من أبيه في الفردوس. وتماماً مثل هذا الضابط يسكن كل الكائنات العادية التي تعيش على يورانشيا منذ ارتقاء ميخائيل إلى رئاسة كونه, باستثناء أن ضابط يسوع كان قد تم إعداده مسبقاً لهذه المهمة الخاصة بالسكن بشكل مماثل في فائق عن الإنساني آخر تجسد في شبه الجسد الفاني, ماﻜﻴﭭِنتا ملكيصادق.
136:2.3 (1511.2) عادةً, عندما يُحرز بشري من الحيز هذه المستويات العالية من كمال الشخصية, تحدث تلك الظواهر الأولية للسمو الروحي التي تنتهي في الانصهار الحتمي لنفـْس البشري الناضجة مع ضابطها الإلَهي المرتبط. ويبدو أن مثل هذا التغيير كان من المقرر أن يحدث في تجربة شخصية يسوع الناصري في ذلك اليوم بالذات عندما نزل إلى الأردن مع شقيقيه كي يتعمدوا على يد يوحنا. كان هذا الاحتفال العمل النهائي لحياته البشرية البحتة على يورانشيا, وتوقع الكثير من المراقبين الفائقين أن يشهدوا انصهار الضابط مع عقله المسكون, لكنهم كانوا جميعاً مقدَّرين لخيبة الأمل. حدث شيء جديد وحتى أعظم. حينما وضع يوحنا يديه على يسوع ليعَّمده, استأذن ضابط الفكر النفـْس البشرية المثالية ليشوع بن يوسف. وفي غضون لحظات قليلة عادت هذه الكينونة الإلَهية من دِفننغتون كضابط مُشَّخَص ورئيس لنوعه في جميع أنحاء الكون المحلي نِبادون بأكمله. هكذا عاين يسوع روحه الإلَهي السابق يهبط عند رجوعه إليه بشكل مُشَّخَص. وسمع هذا الروح ذاته من الأصل الفردوسي يتكلم الآن قائلاً, "هذا هو ابني المحبوب الذي به سررت حسناً". ويوحنا, مع شقيقي يسوع, سمعوا هذه الكلمات أيضاً. أما تلاميذ يوحنا الواقفين على حافة الماء, فلم يسمعوا هذه الكلمات, ولا رأوا شبح الضابط المُشَّخَص. فقط عينا يسوع شاهدت الضابط المُشَّخَص.
136:2.4 (1511.3) عندما تكلم الضابط المُشَّخَص المُمَجَد الراجع الآن بهذا, كان الكل صامتاً. وبينما بقي الأربعة منهم في الماء, يسوع, متطلع صعوداً إلى الضابط القريب, صَّلى: "يا أبتاه الذي يحكم في السماء, ليتقدس اسمك. ليأتي ملكوتك! لتكن مشيئتك على الأرض, حتى كما هي في السماء". ولما صَّلى, "انفتحت السماوات", وابن الإنسان شاهد الرؤيا, التي قدمها الضابط المُشَّخَص الآن, عن نفسه باعتباره إبن الله كما كان قبل أن يأتي إلى الأرض في شبه جسد فاني, وكما سيكون عندما تنتهي حياة التجسد. هذه الرؤيا السماوية لم يرها إلا يسوع.
136:2.5 (1512.1) لقد كان صوت الضابط المُشَّخَص الذي سمعه يوحنا ويسوع, متكلم نيابة عن الأب الكوني, لأن الضابط هو من أب الفردوس, ومثله. طوال ما تبقى من حياة يسوع الأرضية كان هذا الضابط المُشَّخَص ملازماً له في جميع أعماله؛ كان يسوع في صلة مستمرة مع هذا الضابط الممجَد.
136:2.6 (1512.2) عندما تعَّمد يسوع, لم يتوب عن آثام؛ لم يعترف بخطيئة. كانت معموديته للتكريس لأداء مشيئة الأب السماوي. عند تعميده سمع نداء أبيه الذي لا لبس فيه, الإستدعاء النهائي ليكون عند شغل أبيه, وذهب بعيداً في عزلة انفرادية لأربعين يوماً ليتفكر في هذه المشاكل المتعددة. في تقاعده على هذا النحو لفصل من اتصال شخصية نشط مع رفاقه الأرضيين, يسوع, كما كان وعلى يورانشيا, كان يتبع نفس الإجراء الذي يحصل على العوالم المورونشية كلما انصهر فاني صاعد مع الحضور الداخلي للأب الكوني.
136:2.7 (1512.3) أنهى يوم المعمودية هذا حياة يسوع البشرية البحتة. وجد الابن الإلَهي أبيه, وجد الأب الكوني ابنه المتجسد, وتكلما الواحد مع الآخر.
136:2.8 (1512.4) ( كان يسوع يبلغ من العمر واحد وثلاثين عامًا ونصف تقريبًا عندما تعَّمد. في حين أن لوقا يقول بأن يسوع تعَّمد في العام الخامس عشر من حُكم طيباريوس قيصر, الذي سيكون عام 29 م., بما أن أغسطس قيصر مات في عام 14 م., يجب التذكر بأن طيباريوس كان إمبراطوراً مشاركاً مع أغسطس لمدة عامين ونصف قبل موت أغسطس, بعد أن صُكت عملات معدنية تكريما له في تشرين الأول عام 11 م., لذلك, كان العام الخامس عشر لحكمه الفعلي, هذا العام ذاته عام 26 م., ذلك لمعمودية يسوع. وهذا كان أيضاً العام الذي بدأ فيه بيلاطس البنطي حُكمه على اليهودية.)
136:3.1 (1512.5) كان يسوع قد تحمَّل التجربة العظيمة لإغداقه البشري قبل معموديته عندما كان مبتلاً بندى جبل حرمون لستة أسابيع. هناك على جبل حرمون, كبشري من الحيز دون مساعدة, التقى وهزم المدَّعي اليورانشي, كاليغاسشيا, أمير هذا العالَم. في ذلك اليوم الحافل بالأحداث, في سجلات الكون, قد أصبح يسوع الناصري الأمير الكوكبي ليورانشيا. وأمير يورانشيا هذا, الذي سرعان ما سيُعلن السُلطان السامي لنِبادون, ذهب الآن نحو أربعين يوماً من التقاعد لصياغة الخطط وتقرير الأسلوب الذي سيعلن به ملكوت الله الجديد في قلوب الناس.
136:3.2 (1512.6) بعد معموديته دخل على الأربعين يوماً من التكيف مع العلاقات المتغيرة للعالَم والكون الناجمة عن تشخيص ضابطه. أثناء هذه العزلة في التلال البيرية حدد السياسة التي يجب اتباعها والأساليب التي يجب استخدامها في المرحلة الجديدة والمتغيرة من الحياة على الأرض التي كان على وشك افتتاحها.
136:3.3 (1512.7) لم يذهب يسوع للتقاعد من أجل الصوم ومن أجل ابتلاء نفـْسه. لم يكن متنسكاً, وقد جاء ليدمر إلى الأبد كل هذه المفاهيم فيما يتعلق بالاقتراب من الله. كانت أسبابه من أجل طلب هذا التقاعد مختلفة تماما عن تلك التي حَرَكَت موسى وإيليا, وحتى يوحنا المعمدان. كان يسوع حينها واعياً للذات تماماً فيما يتعلق بعلاقته بالكون الذي من صنعه وأيضًا بكون الأكوان, الذي يُشرف عليه أب الفردوس, أبوه في السماء. الآن تذكَر بشكل كامل عهدة الإغداق وإرشاداتها التي يديرها شقيقه الأكبر, عمانوئيل, قبل أن يدخل في تجسده اليورانشي. لقد فهم الآن كلياً وبوضوح كل هذه العلاقات البعيدة المدى, ورغب في أن يكون بعيداً لفصل من التأمل الهادئ حتى يتمكن من التفكير في الخطط واتخاذ قرار بشأن الإجراءات من أجل تنفيذ أشغاله العلنية نيابة عن هذا العالَم ولأجل كل العوالم الأخرى في كونه المحلي.
136:3.4 (1513.1) أثناء تجواله في التلال, باحثاً عن ملجأ مناسب, التقى يسوع بالرئيس التنفيذي لكونه, جبرائيل, نجم الصباح واللامع لنِبادون. أعاد جبرائيل الآن تأسيس تواصله الشخصي مع الابن الخالق للكون؛ التقيا مباشرة للمرة الأولى منذ أن استأذن ميخائيل مساعديه في ساﻟﭭينغتون عندما ذهب إلى عدنشيا استعدادًا للدخول على الإغداق اليورانشي. جبرائيل, بتوجيه من عمانوئيل, وبسُلطة من قدماء الأيام في يوﭭرسا, وضع الآن أمام يسوع معلومات تفيد بأن تجربة إغداقه على يورانشيا قد انتهت عملياً لغاية ما يتعلق الأمر بكسب السيادة الكاملة لكونه وإنهاء تمرد لوسيفر. تم تحقيق السابق في يوم معموديته عندما أشار تشخيص ضابطه إلى كمال وإتمام إغداقه في شبه الجسد الفاني, والأخير كان حقيقة تاريخية في ذلك اليوم عندما نزل من جبل حرمون ليلتحق بالفتى المنتظر, "تغلاف", تم إبلاغ يسوع الآن, بناء على أعلى سُلطة في الكون المحلي والكون العظيم, بأن عمل إغداقه قد انتهى لغاية ما يخص وضعه الشخصي فيما يتعلق بالسيادة والتمرد. كان قد حصل بالفعل على هذا التأكيد مباشرة من الفردوس في رؤيا المعمودية وفي ظاهرة تشخيص ضابط فكره الساكن.
136:3.5 (1513.2) بينما انتظر على الجبل, يتحدث مع جبرائيل, ظهر أب البرج لعدنشيا إلى يسوع وجبرائيل شخصياً, قائلاً: "تمَت السجلات. سيادة ميخائيل رقم 611121 على كونه نِبادون تقع في الإكتمال عند اليد اليمنى للأب الكوني. أنا أجلب إليك إخلاء الإغداق من عمانوئيل, أخوك-الكفيل من أجل تجسد يورانشيا. أنت مطلق الحرية الآن أو في أي وقت لاحق, على النحو الذي تختاره, لإنهاء إغداق تجسدك, ولترتقي إلى اليد اليمنى لأبيك, وتستلم سيادتك, وتتقلد حُكمك المُكتسب بجدارة وغير المشروط لكل نِبادون. كما أشهد على إتمام سجلات الكون العظيم, بتفويض من قدماء الأيام, فيما يتعلق بإنهاء كل تمرد-خطيئة في كونك ومنحك السُلطة الكاملة وغير المحدودة للتعامل مع أي وكل مثل هذه الاضطرابات المحتملة في المستقبل. من الناحية التقنية, انتهى عملك على يورانشيا وفي جسد مخلوق بشري. مسارك من الآن وصاعداً هو أمر من اختيارك الخاص".
136:3.6 (1513.3) عندما استأذن الأب الأعلى لعدنشيا, عقد يسوع محادثة طويلة مع جبرائيل بشأن رفاهية الكون, ومرسلاً التحيات إلى عمانوئيل, قدَّم تأكيده بأنه, في العمل الذي هو على وشك القيام به على يورانشيا, سيكون أبداً مراعياً للشورى التي تلقاها فيما يتعلق بعهدة ما قبل الإغداق التي تُدار على ساﻟﭭينغتون.
136:3.7 (1514.1) طوال هذه الأربعين يوماً من العزلة, كان يعقوب ويوحنا ابنا زَبـِدي منشغلين في البحث عن يسوع. مرات كثيرة لم يكونا بعيدين عن مكان إقامته, لكنهما لم يجداه أبداً.
136:4.1 (1514.2) يومًا بعد يوم, عالياً في التلال, صاغ يسوع الخطط من أجل بقية إغداقه اليورانشي. قرر أولاً عدم التدريس بالتزامن مع يوحنا. خططَ للبقاء في تقاعد نسبي إلى أن يُنجز عمل يوحنا الغرض منه, أو إلى أن يتوقف يوحنا فجأة بالسجن. علم يسوع جيداً بأن وعظ يوحنا الذي لا يعرف الخوف وتعوزه اللباقة سيثير في الوقت الحاضر مخاوف وعداوة الحكام المدنيين. في ضوء وضع يوحنا غير المستقر, بدأ يسوع بالتأكيد في التخطيط لبرنامجه من الأشغال العلنية لمصلحة شعبه والعالَم, نيابة عن كل عالَم مأهول في جميع أنحاء كونه الشاسع. كان إغداق ميخائيل البشري على يورانشيا لكن من أجل كل عوالم نِبادون.
136:4.2 (1514.3) أول شيء فعله يسوع, بعد التفكير في الخطة العامة لتنسيق برنامجه مع حركة يوحنا, هو مراجعة إرشادات عمانوئيل في عقله. فكر بعناية في النصيحة المقدمة له فيما يتعلق بأساليب عمله, وأنه كان عليه ألا يترك أي كتابة دائمة على الكوكب. لم يكتب يسوع مرة أخرى على أي شيء سوى الرمل. في زيارته التالية إلى الناصرة, كثيراً لحزن شقيقه يوسف, أتلف يسوع كل كتاباته المحفوظة على الألواح حول ورشة النجارة, والتي كانت معلقة على جدران المنزل القديم. وتفكر يسوع جيداً في نصيحة عمانوئيل المتعلقة بموقفه الاقتصادي, والاجتماعي, والسياسي تجاه العالَم كما ينبغي أن يجده.
136:4.3 (1514.4) لم يصم يسوع أثناء عزلة الأربعين يوم هذه. أطول فترة أمضاها بدون طعام كانت أول يومين له في التلال عندما كان غارقًا في تفكيره لدرجة أنه نسي كل شيء يتعلق بالأكل. لكن في اليوم الثالث ذهب باحثا عن الطعام. ولا كان مُجَرَباً خلال هذا الوقت من قبل أي أرواح شريرة أو شخصيات متمردة ذات مركز على هذا العالَم أو من أي عالَم آخر.
136:4.4 (1514.5) كانت هذه الأربعون يوماً مناسبة للمؤتمر النهائي بين العقلين البشري والإلَهي, أو بالأحرى أول عمل حقيقي لهذين العقلين حيث جُعلا الآن عقلاً واحداً. أظهرت نتائج هذا الموسم الهام من التأمل بشكل قاطع أن العقل الإلهي قد انتصر وسيطر روحياً على العقل البشري. لقد أصبح عقل الإنسان عقل الله منذ هذا الوقت وصاعداً, ولو إن ذاتية عقل الإنسان دائماً موجودة, كان هذا العقل البشري الآخذ في الروحانية يقول دائماً, "ليس مشيئتي بل مشيئتك لتـُفعل".
136:4.5 (1514.6) تعاملات هذا الوقت الحافل بالأحداث لم تكن الرؤى الخيالية لعقل جائع ومستضعف, ولا كانت أبداً الرمزية المشوشة والصبيانية التي سُجلت فيما بعد كسجل "تجارب يسوع في البرية". بالأحرى كان هذا فصل للتفكير في كامل المهمة الحافلة بالأحداث والمتنوعة للإغداق اليورانشي وللإعداد الدقيق لتلك الخطط من الإسعاف الإضافي الذي من شأنه أن يخدم هذا العالم على أفضل وجه مع المساهمة أيضاً في تحسين جميع الأجواء الأخرى المعزولة بالتمرد. تفَكَرَ يسوع بكامل فترة الحياة البشرية على يورانشيا, من أيام أندون وفونتا, نزولاً خلال تقصير آدم, واستمراراً إلى إسعاف ملكيصادق في شاليم.
136:4.6 (1514.7) كان جبرائيل قد ذكَّر يسوع بأن هناك طريقتين يمكن من خلالها أن يُظهر نفسه للعالم في حال اختار أن يتمهل على يورانشيا لفترة. وقد جُعل واضحاً إلى يسوع بأن اختياره في هذا الشأن لن يكون له أي علاقة لا بسيادة كونه ولا بإنهاء تمرد لوسيفر. هاتان الطريقتان للإسعاف العالمي كانتا:
136:4.7 (1515.1) 1. طريقته الخاصة ــ الطريقة التي قد تبدو ممتعة ومربحة أكثر من وجهة نظر الاحتياجات الفورية لهذا العالَم والتنوير الحالي لكونه الخاص.
136:4.8 (1515.2) 2. طريقة الأب ــ ضرْب المثل لمثال أعلى بعيد المدى لحياة المخلوق الذي تتصوره الشخصيات العليا لإدارة الفردوس لكون الأكوان.
136:4.9 (1515.3) بهذا جُعل واضحاً ليسوع بأن هناك طريقتين يمكنه من خلالها أن يرتب ما تبقى من حياته الأرضية. كان لكل من هاتين الطريقتين ما يقال في تفضيلها كما قد يتم النظر إليها في ضوء الوضع الحالي. رأى ابن الإنسان بوضوح أن اختياره بين هذين الأسلوبين للتصرف لن يكون له أي علاقة باستلامه لسيادة الكون؛ ذلك الشأن كان قد حُسم بالفعل وخُتم على سجلات كون الأكوان وينتظر فقط طلبه شخصياً. لكنه كان مُبَيناً ليسوع بأنه سيمنح أخاه الفردوسي, عمانوئيل, رضاً كبيراً إذا كان هو, يسوع, سيرى أنه من اللائق إنهاء مهمته الأرضية من التجسد كما كان قد بدأها بنـُبل, دائماً خاضع لمشيئة الأب. في اليوم الثالث من هذه العزلة وعد يسوع نفسه بأنه سيعود إلى العالَم ليُنهي مهمته الأرضية, وإنه في أي حالة تنطوي على أي طريقتين سيختار دائماً مشيئة الأب. وعاش بقية حياته الأرضية دائماً وفياً لذلك الوعد. حتى إلى النهاية المُرة وأخضع بدون تغيير مشيئته السيادية إلى تلك لأبيه السماوي.
136:4.10 (1515.4) لم تكن الأيام الأربعون في البرية الجبلية فترة من الإغراء العظيم لكن بالأحرى فترة من قرارات السيد العظيمة. خلال هذه الأيام من الصِلة الحميمة المستوحدة مع نفسه ومع حضور أبيه المباشر ـ الضابط المُشَّخَص ( لم تعد لديه بعد الآن حارسة سيرافية شخصية) ـ وصل أولاً بأول, إلى القرارات العظيمة التي كانت ستتحكم بسياساته وتصرفه لبقية مهمته الأرضية. لاحقاً أصبحت التقاليد عن التجربة العظيمة مُرتبطة بهذه الفترة من العزلة من خلال الخلط مع الروايات المجزأة لصراعات جبل حرمون, وإضافة لأنه كان من المعتاد أن يبدأ جميع الأنبياء والقادة البشريين العظماء مهماتهم العلنية بالخضوع لتلك الفصول المفترضة من الصوم والصلاة. لقد كانت دائماً ممارسة يسوع عند مواجهة أي قرارات جديدة أو جادة, أن ينسحب من أجل التواصل الحميم مع روحه الخاص بحيث يسعى لمعرفة مشيئة الله.
136:4.11 (1515.5) في كل هذا التخطيط لما تبقى من حياته الأرضية, كان يسوع دائماً ممزقاً في قلبه البشري بمسارين متعارضين من التصرف:
136:4.12 (1515.6) 1ـ كانت لديه رغبة قوية في كسب شعبه ـ والعالم بأسره - للإيمان به وقبول ملكوته الروحي الجديد. وكان يعرف جيدا أفكارهم بشأن المسيح الآتي.
136:4.13 (1515.7) 2 ـ أن يعيش ويعمل كما كان يعلم أن أباه سيوافق عليه, ليدير عمله لمصلحة عوالم أخرى محتاجة, وأن يستمر, في تأسيس الملكوت, لكشف أبيه ولإظهار طبعه الإلَهي من المحبة.
136:4.14 (1515.8) طوال هذه الأيام الزاخرة بالأحداث عاش يسوع في كهف صخري قديم, ملجأ على جانب التلال بالقرب من قرية كانت تُسمى في وقت ما بيت-عدِس. شرب من نبع صغير جاء من جانب التل قرب هذا الملجأ الصخري.
136:5.1 (1516.1) في اليوم الثالث بعد بداية هذا المؤتمر مع نفسه ومع ضابطه المُشَّخَص, قُدِّمت إلى يسوع رؤيا الجيوش السماوية المتجمعة لنِبادون أالمرسلين بقادتهم للانتظار بناءً على مشيئة سُلطانهم المحبوب. ضَمَت هذه الجيوش القديرة اثني عشر فيلقاً من السيرافيم وأعداد مناسبة من كل مرتبة من ذكاءات الكون. وكان أول قرار عظيم بشأن عزلة يسوع يتعلق بما إذا كان سيستفيد من هذه الشخصيات الجليلة أم لا فيما يتعلق بالبرنامج المترتب على عمله العلني على يورانشيا.
136:5.2 (1516.2) قرر يسوع أنه لن يستخدم شخصية واحدة من هذا التجمع الشاسع ما لم يتضح بأن هذه كانت مشيئة أبيه. بالرغم من هذا القرار العام, بقي هذا الجيش الهائل معه طوال بقية حياته الأرضية, دائماً على استعداد لإطاعة أقل قدر من التعبير لمشيئة سُلطانهم. مع أن يسوع لم يشاهد على الدوام هذه الشخصيات الملازمة بعيونه البشرية, إلا أن ضابطه المُشَّخَص المرتبط كان يشاهدهم باستمرار, وكان يمكنه التواصل معهم, جميعًا.
136:5.3 (1516.3) قبل النزول من عزلة الأربعين يوم في التلال, عيَّن يسوع القيادة المباشرة لهذا الجيش الملازم من شخصيات الكون إلى ضابطه المُشَّخَص حديثاً, ولأكثر من أربع سنوات من زمن يورانشيا عملت هذه الشخصيات المختارة من كل قسم من ذكاءات الكون بطاعة واحترام تحت الإرشاد الحكيم لمرقاب الغموض المُشَّخَص الممَجَد والخبير هذا. في تولي قيادة هذا الجمع العظيم, فإن الضابط, كائن في وقت ما جزءًا وجوهراً من أب الفردوس, أكد ليسوع أنه لن يُسمح بأي حال من الأحوال لهذه الوكالات الفائقة أن تخدم, أو تتجلى في علاقة مع مهمته الأرضية, أو لمصلحتها إلا إذا طرأ بأن الأب شاء مثل هذا التدخل. هكذا بقرار عظيم واحد حرم يسوع نفسه طواعية من كل أشكال التعاون الخارق في جميع الأمور التي تتعلق ببقية مهمته البشرية ما لم يكن الأب قد اختار بشكل مستقل المشاركة في عمل أو حدث ما من أعمال الابن الأرضية.
136:5.4 (1516.4) في قبول هذه القيادة لجيوش الكون الملازمة للمسيح ميخائيل, بذل الضابط المُشَّخَص جهداً كبيراً ليشير إلى يسوع بأنه, في حين أن مثل هذا التجمع لمخلوقات الكون قد يكون محدوداً في نشاطاته الفضائية بالسُلطة المنتدبة لخالقه, فإن هذه القيود لن تكون فعالة فيما يتعلق بوظيفتها في الزمان. وكان هذا القيد معتمداً على حقيقة أن الضباط هم كائنات لا-زمنية عندما مرة يتشَّخَصون. بناء على ذلك نُبه يسوع بأنه, في حين أن سيطرة الضابط على الذكاءات الحية الموضوعة تحت إمرته سيكون تاماً ومثالياً فيما يتعلق بجميع الأمور المتعلقة بالفضاء, لا يمكن أن تكون هناك قيود مثالية مفروضة فيما يتعلق بالزمن. قال الضابط: "كما أنت أوصيت, سوف أمنع توظيف هذا الجيش الملازم من ذكاءات الكون بأي شكل من الأشكال فيما يتعلق بمهمتك الأرضية ما عدا في تلك الحالات حين يوَّجهني أب الفردوس لإطلاق هذه الوكالات من أجل تحقيق مشيئته الإلهية التي تختارها, وفي تلك الحالات التي يمكنك فيها أن تتعاطى في أي اختيار أو تصرف من مشيئتك البشرية-الإلَهية التي ستشمل فقط الرحيل من نظام الأرض الطبيعي بالنسبة إلى الزمان. في كل هذه الأحداث أنا بدون قدرة, ومخلوقاتك المتجمعة هنا في كمال ووحدة قدرة هي عاجزة بالمثل. إذا خالجت طبيعتيك الموحدتين ذات مرة مثل هذه الرغبات, فسيتم تنفيذ هذه التفويضات التي تختارها على الفور. رغبتك في كل هذه الأمور ستشكل اختصاراً للزمن, والشيء المشروع موجود. تحت إمرتي يشكل هذا أقصى قيد ممكن يمكن فرضه على سيادتك المحتملة. في وعيي الذاتي الزمن غير موجود, وبالتالي لا يمكنني تقييد مخلوقاتك في أي شيء متعلق بها.
136:5.5 (1517.1) لهذا أصبح يسوع على دراية بعمل قراره بالاستمرار في العيش كرجل بين الناس. لقد استبعد بقرار واحد كل جيوش الكون المصاحبين له من الذكاءات المتنوعة من المشاركة في إسعافه العلني اللاحق باستثناء تلك الأمور التي تخص الزمان فقط. لذلك يصبح من الواضح بأن أي مرافقات خارقة للطبيعة أو خارقة للطبيعة محتملة لإسعاف يسوع تتعلق كلياً بإلغاء الزمان ما لم يحكم الأب في السماء خلاف ذلك على وجه التحديد. لا معجزة, أو إسعاف رحمة, أو أي حدث آخر محتمل فيما يتعلق بأعمال يسوع المتبقية على الأرض يمكن أن يكون من طبيعة أو صفة عمل يتجاوز القوانين الطبيعية المؤسسة والعاملة بانتظام في شؤون الإنسان كما يعيشها على يورانشيا باستثناء هذه المسألة الزمنية المنصوص عليها صراحة. لا قيود, بالطبع, يمكن وضعها على تجليات "مشيئة الأب". لا يُمكن تجنب إلغاء الزمان فيما يتعلق بالرغبة المعلنة لهذه السيادة المحتملة للكون إلا من خلال الفعل المباشر والصريح لمشيئة هذا الإله-الإنسان بحيث أن تأثير الزمن, فيما يتعلق بالفعل أو الحدث المعني, لا يجب أن يُقـَّصر أو يُلغى. من أجل منع ظهور المعجزات الزمنية الواضحة, كان من الضروري أن يبقى يسوع واعياً للزمن على الدوام. أي فوات لوعي الزمن من جانبه, فيما يتعلق بمخالجة رغبة معينة, كان معادلاً لتفعيل الشيء المتصور في عقل هذا الابن الخالق, ودون تدخل الزمن.
136:5.6 (1517.2) من خلال التحكم الإشرافي لضابطه المُشَّخَص والمرتبط كان من الممكن لميخائيل أن يحد تمامًا من نشاطاته الأرضية الشخصية بالنسبة إلى الفضاء, لكن لم يكن من الممكن لابن الإنسان أن يحد بهذا من وضعه الأرضي الجديد بصفته سُلطاناً محتملاً لنِبادون فيما يتعلق بالزمن. وكان هذا هو الوضع الفعلي ليسوع الناصري عندما انطلق لبدء إسعافه العلني على يورانشيا.
136:6.1 (1517.3) حيث إنه قرر سياسته بما يخص كل الشخصيات من جميع أصناف الذكاءات المخلوقة الخاصة به, بقدر ما يمكن تحديد هذا في ضوء الإمكانات الكامنة لمكانته الجديدة من الألوهية, حَّول يسوع أفكاره الآن نحو نفسه. الآن هو الخالق الواعي-الذات كلياً لكل الأشياء والكائنات الموجودة في هذا الكون, ماذا سيفعل بصلاحيات الخالق هذه في مواقف الحياة المتكررة التي ستواجهه فور عودته إلى الجليل لاستئناف عمله بين الناس؟ في الواقع, بالفعل, وحيث كان في تلك التلال المنعزلة, فرضت هذه المشكلة ذاتها بالقوة في مسألة تحصيل الطعام. بحلول اليوم الثالث من تأملاته الانفرادية أصبح الجسد البشري جائعاً. هل يجب أن يذهب في طلب الطعام كما سيفعل أي إنسان عادي, أم يجب عليه فقط أن يمارس قدراته الخلاَّقة العادية وينتج تغذية جسمانية ملائمة في متناول اليد؟ وقد تم تصوير هذا القرار العظيم للسيد كإغراء كتجربة ـ كتحدي من قبل أعداء مفترضين بأن "يأمر أن تصبح هذه الحجارة أرغفة خبز".
136:6.2 (1518.1) هكذا استقر يسوع على سياسة أخرى وثابتة من أجل بقية أعماله الأرضية. لغاية ما يتعلق الأمر بضرورياته الشخصية, وبشكل عام حتى في علاقاته مع شخصيات أخرى, اختار الآن عمدًا أن يسلك مسار الوجود الأرضي الطبيعي؛ لقد قرر بالتأكيد ضد سياسة من شأنها أن تتجاوز, أو تخالف, أو تنتهك قوانينه الطبيعية المؤسسة بواسطته. لكنه لم يستطع أن يعد نفسه, حيث إنه سابقاً قد حُذر من قبل ضابطه المُشَّخَص, بأن هذه القوانين الطبيعية قد لا يمكن تسريعها بشكل كبير, في ظروف معينة يمكن تصورها. من حيث المبدأ, قرر يسوع بأن عمل حياته يجب أن يكون منظماً ومنفذاً وفقاً للقانون الطبيعي وفي انسجام مع التنظيم الاجتماعي القائم. بهذا اختار السيد برنامجاً من العيش كان المعادل لاتخاذ قرار ضد المعجزات والعجائب. مرة أخرى قرر لصالح "مشيئة الأب"؛ مرة أخرى أسلم كل شيء لأيدي أبيه الفردوسي.
136:6.3 (1518.2) أمْلت طبيعة يسوع البشرية بأن واجبه الأول كان الحفاظ على الذات؛ ذلك هو الموقف الاعتيادي لإنسان طبيعي على عوالم الزمان والفضاء, وإنه, بالتالي, رد فعل مشروع لبشري من يورانشيا. لكن يسوع لم يكن معنيًا فقط بهذا العالَم ومخلوقاته؛ كان يعيش حياة مصممة لإرشاد وإلهام المخلوقات المتنوعة لكون نائي.
136:6.4 (1518.3) قبل استنارة معموديته عاش في خضوع تام لمشيئة وإرشاد أبيه السماوي. قرر بشكل قاطع الاستمرار في مثل هذا الاعتماد البشري الضمني على إرادة الأب. كان يعتزم اتباع المسار غير الطبيعي ــ قرر ألا يسعى للمحافظة على الذات. اختار الاستمرار في اتباع سياسة رفض الدفاع عن نفسه. لقد صاغ استنتاجاته في كلمات من الكتابات المقدسة المألوفة لعقله البشري: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله". في التوصل إلى هذا الاستنتاج فيما يتعلق بشهية الطبيعة الفيزيائية كما يتم التعبير عنها في الجوع للطعام. جعل ابن الإنسان إعلانه النهائي فيما يتعلق بجميع دوافع الجسد الأخرى والدوافع الطبيعية للطبيعة البشرية.
136:6.5 (1518.4) قدرته الفائقة يمكنه استخدامها من أجل الآخرين, لكن لنفسه أبداً. واتبع هذه السياسة بثبات حتى النهاية, عندما قيل عنه بتهكم: "خلص آخرين؛ لم يستطع تخليص نفسه" ــ لأنه لن يفعل.
136:6.6 (1518.5) كان اليهود يتوقعون مسيحاً من شأنه أن يصنع عجائب حتى أعظم من موسى, الذي اشتهر بأنه أحضر الماء من الصخر في مكان صحراوي وأنه أطعم آباءهم المن في البرية. عرف يسوع نوع المسيح الذي توقعه معاصريه, وكانت لديه كل القدرات والامتيازات لتتوافق مع توقعاتهم الأكثر تفاؤلاً, لكنه قرر ضد مثل هذا البرنامج العظيم من القدرة والمجد. نظر يسوع إلى مثل هذا المسار المتوقع لعمل المعجزة على أنه عودة إلى الأيام الخوالي للسحر الجاهل والممارسات المهينة لرجال الطب المتوحشين. ربما, لأجل إنقاذ مخلوقاته, هو قد يُسرع القانون الطبيعي, لكن لتجاوز قوانينه الخاصة, إما لصالح نفسه أو لإرهاب زملائه الناس, هو ما لن يفعله. وكان قرار السيد نهائياً.
136:6.7 (1518.6) حزن يسوع على شعبه؛ فهم تماماً كيف اقتيدوا إلى توقع المسيح القادم, الوقت عندما "ستنتج الأرض عشرة آلاف ضعف أثمارها, وعلى كرمة واحدة سيكون عشرة آلاف غصن, وكل غصن سينتج ألف عنقود, وكل عنقود سينتج ألف حبة عنب, وكل حبة عنب ستنتج غالوناً من النبيذ." اعتقد اليهود بأن المسيح سيدشن عهداً من الوفرة العجائبية. لطالما نشأ العبرانيون على تقاليد المعجزات وأساطير العجائب.
136:6.8 (1519.1) هو لم يكن مسيحاً قادماً لمضاعفة الخبز والنبيذ. لم يأتِ للإسعاف إلى الحاجات الدنيوية فقط؛ لقد أتى ليكشف أباه في السماء لأولاده على الأرض, بينما سعى لقيادة أولاده على الأرض للانضمام إليه في جهد مخْلص بحيث يعيشوا ليفعلوا مشيئة الأب في السماء.
136:6.9 (1519.2) بهذا القرار, صور يسوع الناصري لكون متطلع حماقة وخطيئة بغاء المواهب الإلَهية والقدرات المعطاة من الله من أجل تعظيم شخصي أو من أجل تمجيد ومكاسب أنانية بحتة. تلك كانت خطيئة لوسيفر وكاليغاسشيا.
136:6.10 (1519.3) هذا القرار العظيم ليسوع صَّور بشكل دراماتيكي حقيقة أن الإشباع الأناني والتمتع الحسي, وحدهما ومن ذاتهما, لا يمكنهما منح السعادة لكائنات بشرية تتطور. هناك قيم أعلى في الوجود البشري ــ التمكن الفكري والإنجاز الروحي ــ اللذان يتجاوزان إلى حد بعيد التمتع الضروري لشهوات الإنسان ودوافعه الجسدية البحتة. هِبة الإنسان الطبيعية من الموهبة والمقدرة يجب أن تكون مكرسة بشكل أساسي لتنمية وتشريف قواه العقلية والروحية الأعلى.
136:6.11 (1519.4) بهذا كشف يسوع إلى مخلوقات كونه عن أسلوب الطريق الجديد والأفضل, القيم الأخلاقية الأعلى للعيش والإرضاء الروحي الأعمق للوجود البشري التطوري على عوالم الفضاء.
136:7.1 (1519.5) بعد أن اتخذ قراراته فيما يتعلق بأمور مثل الطعام والإسعاف الفيزيائي لحاجات جسده المادي, الاهتمام بصحته وصحة زملائه, بقيت هناك مشاكل أخرى يتعين حلها. ماذا سيكون موقفه عندما يواجه خطرًا شخصيًا؟ قرر أن يمارس الحذر المعتاد على سلامته البشرية وأن يتخذ الاحتياطات المعقولة لمنع الإنهاء في غير وقته لمهمته في الجسد لكن أن يمتنع عن كل تدخل فائق عندما تأتي أزمة حياته في الجسد. بينما كان يصيغ هذا القرار, كان يسوع جالساً تحت ظل شجرة على حافة صخرة ناتئة مع هاوية هناك أمامه. أدرك تماماً بأنه يستطيع إلقاء نفسه من الإفريز الصخري نحو الفضاء, وبأنه لا يمكن أن يحدث أي شيء يضر به بشرط أن يلغي قراره العظيم الأول ألا يستحضر تداخل ذكاءاته السماوية في تنفيذ عمل حياته على يورانشيا, وشرط أنه سيلغي قراره الثاني بشأن موقفه من الحفاظ على الذات.
136:7.2 (1519.6) عرف يسوع أن أبناء وطنه كانوا يتوقعون مسيحاً سيكون فوق القانون الطبيعي. حسناً أنه كان قد عُلـِّم في تلك الكتابات المقدسة: "لا يحل بك شر, ولا يدنو أي وباء من مسكنك. لأنه سيوصي ملائكته بك, لكي يحفظوك في جميع طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصطدم قدمك بحجر". هل هذا النوع من الافتراض, هذا التحدي لقانون الجاذبية لأبيه, سيكون مبرراً من أجل حماية نفسه من أذى محتمل أو, لعله, لكسب ثقة شعبه المُساء تعليمه والمشتت؟ لكن مثل هذا المسار, مهما كان مُرضيًا لليهود الباحثين عن علامة, لن يكون كشفاً لأبيه, إنما عبث مريب مع القوانين المعمول بها في كون الأكوان.
136:7.3 (1519.7) في فهم كل هذا ومعرفة أن السيد رفض أن يعمل في تحدي لقوانينه المؤسسة للطبيعة لغاية ما يتعلق بسلوكه الشخصي, فأنت تعلم يقينًا أنه لم يمشي أبداً على الماء ولم يفعل أي شيء آخر كان انتهاكاً لقانونه المادي لإدارة العالَم؛ دائماً, بالطبع, مع الأخذ بعين الإعتبار, بأنه مع ذلك, حتى الآن لم يتم العثور على طريقة يمكنه بواسطتها التخلص كلياً من عدم السيطرة على عنصر الزمن فيما يتعلق بتلك الأمور الموضوعة تحت اختصاص الضابط المُشَّخَص.
136:7.4 (1520.1) طوال حياته الأرضية كلها كان يسوع مخلصاً باستمرار لهذا القرار. بغض النظر سواء عيَّره الفريسيون من أجل علامة, أو تحداه المتفرجين عند جبل الجلجثة لينزل عن الصليب, فقد التزم بثبات بقرار هذه الساعة على جانب التل.
136:8.1 (1520.2) المشكلة الكبيرة التالية التي تصارع معها هذا الإله-الإنسان والتي قررها حاليًا وفقاً لمشيئة الأب في السماء, تعلقت بمسألة ما إذا كان ينبغي أو لا توظيف أي من قدراته الفائقة بهدف جذب الانتباه وكسب تقيد زملائه الناس. هل ينبغي له بأي حال من الأحوال أن يعير قدرات كونه لإرضاء تقيد اليهودي للمذهل والعجائبي؟ قرر أنه لن يفعل. استقر على سياسة إجرائية التي ألغت كل مثل هذه الممارسات كأسلوب لجلب مهمته إلى انتباه الناس. وبقي صادقاً بثبات إلى هذا القرار العظيم. حتى عندما سمح بتجلي إسعافات متعددة من الرحمة المقصرة للزمن, هو تقريباً بدون تغيير حذر المستلمين لإسعافه الشافي بعدم إخبار أي شخص عن الفوائد التي تلقوها. ودائماً رفض التحدي المُعنِف من أعدائه "لإظهار علامة لنا" في برهان وإظهار ألوهيته.
136:8.2 (1520.3) تنبأ يسوع بحكمة كبيرة بأن عمل المعجزات وتنفيذ العجائب لن يستدعي سوى الولاء الخارجي من خلال الإفراط في تهيب العقل المادي؛ مثل هذه العروض لن تكشف الله ولا تنقذ الناس. رفض أن يصبح مجرد صانع عجائب. قرر أن يصبح مشغولاً بمهمة واحدة فقط ــ تأسيس ملكوت السماء.
136:8.3 (1520.4) طوال هذا الحوار الهام لتواصل يسوع مع نفسه, كان هناك حاضراً العنصر البشري للتساؤل وقرب-الشك, لأن يسوع كان إنساناً كما كان إلهاً. كان من الثابت أنه لن يتم قبوله من قبل اليهود على أنه المسيح إذا لم يصنع العجائب. إضافة إلى ذلك, إن هو وافق على فعل مجرد شيء واحد غير طبيعي, فإن العقل البشري سيعرف بيقين بأنه كان في خضوع لعقل إلَهي حقيقي. هل سيكون موافقاً مع "مشيئة الأب" للعقل الإلَهي أن يقدم هذا التنازل إلى الطبيعة الشاكة للعقل البشري؟ قرر يسوع بأنه لن يفعل, واستشهد بحضور الضابط المُشَّخَص كبرهان كافي على الألوهية في شراكة مع البشرية.
136:8.4 (1520.5) كان يسوع قد سافر كثيراً؛ تذكَّر روما, والإسكندرية, ودمشق. عرف أساليب العالَم ـ كيف كسب الناس غاياتهم في السياسة والتجارة عن طريق التسوية والدبلوماسية. هل سيستغل هذه المعرفة في تعزيز مهمته على الأرض؟ لا! قرر بالمثل ضد كل مساومة مع حكمة العالَم ونفوذ الثروات في تأسيس الملكوت. اختار مرة أخرى الإعتماد حصرياً على مشيئة الأب.
136:8.5 (1520.6) كان يسوع دارياً كلياً بالطرق المختصرة المفتوحة لإحدى قدراته. كان يعرف الكثير من الطرق التي يمكن من خلالها تركيز انتباه الأمة, والعالم بأسره, في الحال على نفسه. قريباً سيتم الإحتفال بالفصح في أورشليم؛ ستكون المدينة مزدحمة بالزائرين. كان بإمكانه ارتقاء قمة الهيكل وأمام الجموع المذهولة يمشي في الهواء؛ ذلك سيكون نوع المسيح الذي كانوا يبحثون عنه. لكنه سيخيب آمالهم فيما بعد حيث أنه لم يأت لإعادة تأسيس عرش داود. وكان يعرف عقم أسلوب كاليغاسشيا في محاولة استباق الطريقة الطبيعية, البطيئة, والمؤكدة لتحقيق الهدف الإلهي. مرة أخرى انحنى ابن الإنسان بخضوع إلى طريقة الأب, مشيئة الأب.
136:8.6 (1521.1) اختار يسوع أن يؤسس ملكوت السماء في قلوب البشرية بأساليب طبيعية, واعتيادية, وصعبة, ومُجرَبة, تمامًا مثل هذه الإجراءات كالتي ينبغي أن يتبعها أولاده الأرضيين لاحقاً في عملهم لتكبير وتوسيع ذلك الملكوت السماوي. لأن ابن الإنسان عرف حسناً بأنه سيكون "من خلال المحن الكثيرة بأن الكثير من أولاد كل العصور سيدخلون نحو الملكوت". كان يسوع يمر الآن خلال الإختبار العظيم للإنسان المتحضر, أن تكون لديه قدرة ويرفض بثبات استخدامها لأهداف أنانية أو شخصية بحتة.
136:8.7 (1521.2) في اعتباركم لحياة وتجربة ابن الإنسان, ينبغي ألا يغيب عن البال أبدًا أن ابن الله كان متجسداً في عقل كائن إنساني من القرن الأول ميلادي, ليس في عقل فاني من القرن العشرين أو قرن آخر. نقصد بهذا أن ننقل فكرة أن مواهب يسوع البشرية كانت من اكتساب طبيعي. لقد كان نتاج العوامل الوراثية والبيئية في عصره. بالإضافة إلى تأثير تدريبه وتعليمه. كانت إنسانيته أصلية, وطبيعية, ومستمدة بالكامل من سوابق الأوضاع الفكرية الفعلية والظروف الاجتماعية والاقتصادية في ذلك اليوم والجيل, وبمراعاتها. بينما في تجربة هذا الإله-الإنسان, كان هناك دائماً احتمال أن يتجاوز العقل الإلهي العقلية البشرية, مع ذلك, عندما, وكما, عمل عقله البشري, فقد أدى كما سيفعل عقل فاني حقيقي في ظل ظروف البيئة البشرية لذلك اليوم.
136:8.8 (1521.3) صَوَّرَ يسوع لكل العوالم في كونه الشاسع حماقة خلق مواقف مصطنعة بهدف إظهار سُلطة تعسفية أو الانغماس في قدرة استثنائية لغرض تعزيز القيم الأخلاقية أو تسريع التقدم الروحي. قرر يسوع بأنه لن يعير مهمته على الأرض لتكرار خيبة الأمل في عهد المكابيين. رفض بغاء سجاياه الإلَهية بغرض اكتساب شعبية غير مكتسبة أو لاكتساب مكانة سياسية. لن يستصوب تحويل الطاقة الإلَهية والخلاَّقة إلى قدرة قومية أو مكانة دولية. رفض يسوع الناصري المساومة مع الشر, كم بالأحرى أن يقترن بالخطيئة. وضع السيد بظفر الولاء لمشيئة أبيه فوق كل اعتبار أرضي ودنيوي آخر.
136:9.1 (1521.4) حيث أنه حسم مسائل السياسة هذه المتعلقة بعلاقاته الفردية بالقانون الطبيعي والقدرة الروحية, حَوَّل انتباهه إلى اختيار الأساليب التي سوف توَظَف في إعلان وتأسيس ملكوت الله. كان يوحنا قد بدأ هذا العمل بالفعل؛ كيف يمكنه أن يستمر في الرسالة؟ كيف يجب أن يأخذ المهمة من يوحنا؟ كيف يجب أن ينظم أتباعه من أجل الجهد الفعّال والتعاون الذكي؟ كان يسوع يتوصل الآن للقرار النهائي الذي سيمنع بأن يعتبر نفسه المسيح اليهودي, على الأقل كما كان المسيح مُتصوراً بشكل عام في ذلك اليوم.
136:9.2 (1522.1) تصور اليهود منقذاً سيأتي بقدرة خارقة لإسقاط أعداء إسرائيل وتأسيس اليهود كحكام العالَم, متحررين من العوز والاضطهاد. عرف يسوع بأن هذا الرجاء لن يتحقق أبداً. كان يعلم أن ملكوت السماء له علاقة بالإطاحة بالشر في قلوب الناس, وبأنه كان شأن اهتمام روحي بحت. فَكَرَ في استصواب افتتاح الملكوت الروحي بعرض لامع وباهر للقدرة ــ ومثل هذا المسار سيكون مسموحاً به وكلياً ضمن الحكم الشرعي لميخائيل ــ لكنه قرر كلياً ضد مثل هذه الخطة. لن يساوم مع الأساليب الثورية لكاليغاسشيا. لقد كسب العالَم في الاحتمال من خلال الخضوع لمشيئة الأب, واقترح أن ينهي عمله كما بدأه, وكابن الإنسان.
136:9.3 (1522.2) بالكاد يمكنكم تصور ما كان يمكن أن يحدث على يورانشيا لو أن هذا الله-الإنسان, الآن في امتلاك محتمل لكل قدرة في السماء وعلى الأرض, متى قرر أن يرفع راية السيادة, لحشد فيالقه التي تعمل العجائب في صف عسكري! لكنه لن يوافق على حل وسط. لن يخدم الشر بحيث أن عبادة الله قد تستمد من ذلك بافتراض. سوف يلتزم بمشيئة الأب. سيُعلن إلى كون متطلع, "يجب أن تعبد الرب إلَهك ووحده فقط سوف تخدم".
136:9.4 (1522.3) بمرور الأيام, مع وضوح دائم التزايد أدرك يسوع أي نوع من كاشفي الحق كان سيصبح. فطن بأن طريقة الله لن تكون الطريقة السهلة. بدأ يدرك بأن كأس ما تبقى من تجربته البشرية قد يكون مريراً ربما, لكنه قرر أن يشربه.
136:9.5 (1522.4) حتى عقله البشري يقول وداعاً لعرش داود. خطوة بخطوة تبع هذا العقل البشري في المسار الإلَهي. لا يزال العقل البشري يطرح الأسئلة لكنه يقبل بلا كلل الإجابات الإلَهية كأحكام نهائية في هذه الحياة المُشتركة من العيش كإنسان في العالَم بينما خاضع قطعياً كل الوقت إلى فعل مشيئة الأب الأبدية والإلَهية.
136:9.6 (1522.5) كانت روما عشيقة العالَم الغربي. ابن الإنسان, الذي أصبح الآن في عزلة وينجز هذه القرارات الهامة, مع جيوش السماء عند إمرته, يمثل الفرصة الأخيرة لليهود لنيل سيطرة عالمية؛ لكن مولود الأرض اليهودي هذا, الذي امتلك مثل هذه الحكمة والقدرة الهائلة, رفض استخدام معطيات كونه إما لتعظيم نفسه أو لتتويج شعبه. لقد رأى, كما كان, "ممالك هذا العالَم", وكان يمتلك القدرة لأخذها. استودع الأعلون لعدنشيا كل هذه القدرات بين يديه, لكنه لم يكن يريدها. كانت ممالك الأرض أشياء تافهة لتـهم خالق وحاكم الكون. كان لديه هدف واحد فقط, المزيد من الكشف عن الله إلى الإنسان, تأسيس الملكوت, حُكم الأب السماوي في قلوب البشرية.
136:9.7 (1522.6) كانت فكرة المعركة, والنزاع, والذبح بغيضة إلى يسوع؛ لن يكون لديه أي منها. سيظهر على الأرض كأمير السلام ليكشف إله المحبة. كان قد رفض مرة أخرى قبل معموديته عرْض الغيورين لقيادتهم في تمرد ضد الظالمين الرومان. والآن اتخذ قراره النهائي بشأن تلك الكتابات المقدسة التي علـَّمته إياها أُمه, مثل: "قال الرب لي, ’أنت ابني؛ هذا اليوم ولدتك. اسألني وسأعطيك الكفار ميراثاً لك وأقصى أجزاء الأرض لامتلاكك. ستكسرهم بقضيب من حديد؛ ستحطمهم إلى قطع مثل إناء الخزاف‘".
136:9.8 (1522.7) وصل يسوع الناصري إلى الإستنتاج أن مثل هذه البيانات لم تشير إليه. في النهاية, وأخيراً, قام العقل البشري لابن الإنسان بكنس نظيف لكل تلك الصعوبات والتناقضات عن مسيح ـ الكتابات المقدسة العبرية, وتدريب الوالدين, وتعليم الشازان, والتوقعات اليهودية, والأشواق البشرية الطموحة؛ مرة واحدة وإلى الأبد قرر مساره. سيعود إلى الجليل ويبدأ بهدوء إعلان الملكوت ويثق بأبيه (الضابط المُشَّخَص) ليعمل تفاصيل الإجراء يوماً بيوم.
136:9.9 (1523.1) من خلال هذه القرارات وضع يسوع مثالاً جديراً لكل شخص على كل عالَم في كل أنحاء كون شاسع عندما رفض تطبيق الاختبارات المادية لإثبات المشكلات الروحية, عندما رفض تحدي القوانين الطبيعية بتكبر. وقدم مثالاً ملهماً لولاء الكون والنبل الأخلاقي عندما رفض أن يقبض القدرة الدنيوية كمقدمة للمجد الروحي.
136:9.10 (1523.2) إذا كان لدى ابن الإنسان أية شكوك حول مهمته وطبيعتها عندما صعد إلى التلال بعد معموديته, فلم يكن لديه أي منها عندما رجع إلى زملائه بعد الأربعين يوماً من العزلة والقرارات.
136:9.11 (1523.3) كان يسوع قد صاغ برنامجاً لأجل تأسيس ملكوت الأب. هو لن يلبي الإرضاء الجسدي للشعب. لن يوزع الخبز إلى الجموع كما شاهد مؤخرًا يُصنع في روما. لن يجذب الانتباه إلى نفسه بأعمال مدهشة حتى ولو كان اليهود يتوقعون بالضبط مثل هذا النوع من المخَلِص. ولن يسعى لكسب قبول رسالة روحية بإظهار السُلطة السياسية أو القوة الدنيوية.
136:9.12 (1523.4) في رفض هذه الأساليب لتعزيز الملكوت الآتي في نظر اليهود المرتقبين, تأكد يسوع بأن هؤلاء اليهود أنفسهم سيرفضون بالتأكيد وفي النهاية كل ادعاءاته بالسُلطة والألوهية. عارف بكل هذا, سعى يسوع لفترة طويلة إلى منع أتباعه الأوائل من الإشارة إليه باعتباره المسيح.
136:9.13 (1523.5) طوال فترة إسعافه العلني كان مواجَهاً بضرورة التعامل مع ثلاث حالات متكررة على الدوام: الصخب من أجل الطعام, والإصرار على المعجزات, والطلب الأخير بأن يسمح لأتباعه بجعله ملكاً. لكن يسوع لم يحيد أبداً عن القرارات التي اتخذها أثناء هذه الأيام لعزلته في التلال البيرية.
136:10.1 (1523.6) في اليوم الأخير من هذه العزلة التي لا تنسى, قبل البدء بنزول الجبل للالتحاق بيوحنا وتلاميذه, اتخذ ابن الإنسان قراره النهائي. وهذا القرار نقله إلى الضابط المُشَّخَص بهذه الكلمات, "وفي جميع الأمور الأخرى, كما في هذه الآن من سجل-قرار, أتعهد لك بأنني سأكون خاضعاً لمشيئة أبي". وعندما تكلم هكذا, ارتحل نزولاً في الجبل, وأشرق وجهه بمجد النصر الروحي والإنجاز الأخلاقي.
كِتاب يورانشيا
ورقة 137
137:0.1 (1524.1) في وقت مبكر من صباح يوم السبت, 23 شباط, عام 26 م., نزل يسوع من التلال لينضم مجددًا إلى زمرة يوحنا المخيمة في بـِلا. كل ذلك النهار اختلط يسوع بالجموع. أسعف إلى فتى تأذى في سقوط وسافر إلى قرية بـِلا القريبة لكي يُسلم الصبي بأمان إلى أيدي والديه.
137:1.1 (1524.2) خلال هذا السبت أمضى اثنان من تلاميذ يوحنا الرئيسيين الكثير من الوقت مع يسوع, من بين جميع أتباع يوحنا واحد يُدعى أندراوس كان الأكثر تأثراً بيسوع؛ رافقه في الرحلة إلى بـِلا مع الصبي المصاب. في طريق العودة إلى موعد يوحنا سأل يسوع العديد من الأسئلة, وبالضبط قبل أن يصلا إلى وجهتهما, توقف الاثنان لحديث قصير, في أثنائه قال أندراوس: "لقد لاحظتك منذ أن أتيت إلى كفرناحوم, واعتقد بأنك المعلم الجديد, ولو إنني لا أفهم كل تعاليمك, فقد استقر عقلي كلياً على اتباعك؛ سأجلس عند قدميك وأتعلم الحقيقة الكاملة عن الملكوت الجديد. ويسوع, بتأكيد قلبي, رَحَبَ بأندراوس كالأول من رُسله, تلك الجماعة المكونة من اثني عشر الذين كانوا سيشتغلون معه في عمل تأسيس الملكوت الجديد لله في قلوب الناس.
137:1.2 (1524.3) كان أندراوس مراقباً صامتاً, ومؤمناً مُخْلصاً في عمل يوحنا, وكان لديه شقيق قادر جداً ومتحمس, يُدعى سمعان, كان أحد تلاميذ يوحنا الأوائل. لن يكون في غير موضعه القول بأن سمعان كان أحد مؤيدي يوحنا الرئيسيين.
137:1.3 (1524.4) بعد فترة وجيزة من عودة يسوع و أندراوس إلى المخيم, بحث أندراوس عن شقيقه, سمعان, وآخذاً إياه جانباً, أعلَمه بأنه قد استقر في عقله بأن يسوع هو المعلم العظيم, وأنه قد تعهد نفسه كتلميذ. ومضى ليقول بأن يسوع قد قبِل هذا العرض منه للخدمة واقترح بأن هو (سمعان) يذهب بالمثل إلى يسوع ويقدم نفسه من أجل الزمالة في خدمة الملكوت الجديد. قال سمعان: "منذ أن جاء هذا الرجل ليعمل في مصنع زَبـِدي, أنا اعتقدت بأنه قد أُرسل من قِبل الله, لكن ماذا عن يوحنا؟ هل سنتخلى عنه؟ هل هذا هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله؟" عند ذاك اتفقا على الذهاب في الحال لاستشارة يوحنا. كان يوحنا حزيناً لفكرة خسارة اثنين من مستشاريه الأكفاء وتلاميذه الواعدين للغاية, لكنه أجاب بشجاعة على استفساراتهم, قائلاً: "ما هذه سوى البداية؛ في الوقت الحالي سوف ينتهي عملي, وجميعنا سنصبح تلاميذه". عند ذاك طلب أندراوس من يسوع التنحي جانباً بينما أعلن بأن شقيقه يرغب في الالتحاق بخدمة الملكوت الجديد. وفي الترحيب بسمعان كرسوله الثاني, قال يسوع: "سمعان, حماسك جدير بالثناء, لكنه خطر على عمل الملكوت. أنصحك بأن تكون أكثر تفكيراً في حديثك. أود تغيير اسمك إلى بطرس".
137:1.4 (1525.1) كان والدا الفتى الجريح اللذان عاشا في بـِلا قد طلبا من يسوع قضاء الليلة معهما, ليجعل منزلهم بيته, وقد وعد بذلك. قبل أن يغادر أندراوس وشقيقه, قال يسوع, "باكراً في الغد نذهب إلى الجليل".
137:1.5 (1525.2) بعد أن عاد يسوع إلى بـِلا من أجل الليل, وبينما كان أندراوس وسمعان لا يزالان يناقشان طبيعة خدمتهما في تأسيس الملكوت القادم, وصل يعقوب ويوحنا ابنا زِبـِدي على المشهد, بعد أن عادا للتو من بحثهما الطويل وغير المجدي في التلال عن يسوع. عندما سمعا سمعان بطرس يخبرهما كيف أصبح هو وشقيقه, أندراوس, أول مستشارين مقبولين للملكوت الجديد, وبأنهما كانا سيغادران مع سيدهما الجديد غدًا إلى الجليل, كان كل من يعقوب ويوحنا حزينين. لقد عرفا يسوع لبعض الوقت, وأحباه. كانا قد بحثا عنه أياماً عديدة في التلال, والآن رجعا ليعلما أنه قد تم تفضيل الآخرين قبلهما. استفسرا عن المكان الذي ذهب إليه يسوع وأسرعا للعثور عليه.
137:1.6 (1525.3) كان يسوع نائماً عندما وصلا إلى مكان مكوثه, لكنهما أيقظاه, قائلين: "كيف ذلك, بينما نحن اللذان عشنا معك طويلاً نبحث عنك في التلال, فضَّلت آخرين قبلنا واخترت أندراوس وسمعان ليكونا أول مرافقين لك في الملكوت الجديد؟" أجابهما يسوع, "كونا هادئين في قلبيكما واسألا أنفسكما, ’من وجَّهكما بأنه يجب أن تبحثا عن ابن الإنسان عندما كان عند شغل أبيه؟‘" بعد أن قاما بتلاوة تفاصيل بحثهما الطويل في التلال, أرشدهما يسوع إضافياً: "يجب أن تتعلما البحث عن سِر الملكوت الجديد في قلبيكما وليس في التلال. ما كنتما تبحثان عنه كان موجوداً بالفعل في أنفسكما. أنتما في الحقيقة إخوتي ــ لا تحتاجان أن تكونا مُستلمين بي ــ كنتما بالفعل في الملكوت, ويجب أن تبتهجا جيداً, استعدا كذلك للذهاب معنا غداً إلى الجليل". عند ذاك تجرأ يوحنا على أن يسأل, "لكن, يا سيد, هل يعقوب وأنا سنكون زملاء معك في الملكوت الجديد, حتى مثل أندراوس وسمعان؟" ويسوع, واضع يد على كتف كل منهما, قال: "يا إخوتي, كنتما بالفعل معي في روح الملكوت, حتى قبل أن يطلب هذان الآخران أن يتم قبولهما. أنتما إخوتي, لا حاجة لكما لتقديم طلب للدخول في الملكوت؛ لقد كنتما معي في الملكوت منذ البداية. أمام الناس, قد يسبقكما آخرون, لكن في قلبي لقد عددتكما كذلك من مستشاري الملكوت, حتى قبل أن تفكرا بتقديم هذا الطلب لي, وحتى مع هذا كان بإمكانكما أن تكونا الأولين أمام الناس لو لم تكونا غائبين تتعاطيان في المهمة الحسنة النية إنما المعينة ذاتياً للبحث عن شخص لم يكن ضائعاً. في الملكوت الآتي, لا تهتما بتلك الأشياء التي تزيد من قلقكما بل بالأحرى اشغلا أنفسكما عند كل الأوقات فقط بفعل مشيئة الأب الذي في السماء".
137:1.7 (1525.4) تلقى يعقوب ويوحنا التوبيخ بقبول جيد؛ ولم يعودا أبداً حسودين لأندراوس وسمعان, واستعدا, مع الرسولين رفاقهما للرحيل إلى الجليل في صباح اليوم التالي. من هذا اليوم وصاعداً تم استخدام مصطلح الرسول لتميز العائلة المختارة لمستشاري يسوع من الجموع الهائلة من التلاميذ المؤمنين الذين تبعوه فيما بعد.
137:1.8 (1525.5) في وقت متأخر من ذلك المساء, عقد يعقوب, ويوحنا, وأندراوس, وسمعان حواراً مع يوحنا المعمدان, وبعيون دامعة إنما بصوت ثابت سَلَمَ النبي اليهودي الضليع اثنين من تلاميذه الرئيسيين ليصبحا رُسل أمير الجليل للملكوت الآتي.
137:2.1 (1526.1) صباح الأحد, 24 شباط, عام 26 م., استأذن يسوع يوحنا المعمدان بجانب النهر قرب بـِلا, لن ليراه مرة أخرى في الجسد.
137:2.2 (1526.2) ذلك اليوم, عندما رحل يسوع ورُسله-تلاميذه الأربعة إلى الجليل, كان هناك اضطراب كبير في مخيم أتباع يوحنا. كان الانقسام الكبير الأول على وشك الحدوث. في اليوم السابق, أدلى يوحنا بتصريحه الإيجابي لأندراوس وعزرا بأن يسوع كان المُخَلِص. قرر أندراوس أن يتبع يسوع, لكن عزرا رفض نجار الناصرة الوديع الأخلاق, معلناً لزملائه: "يعلن النبي دانيال بأن ابن الإنسان سيأتي مع غيوم السماء, في قدرة ومجد عظيم. هذا النجار الجليلي, صانع القوارب في كفرناحوم, لا يمكن أن يكون المخَلِص. هل يمكن أن تأتي هدية كهذه من الله من الناصرة؟ يسوع هذا هو نسيب ليوحنا, ومن خلال الكثير من لطف القلب قد ضُلل معلمنا. دعونا نبقى بمعزل عن هذا المسيح المزوَر". عندما انتهر يوحنا عزرا على هذه الأقوال, انسحب مع العديد من التلاميذ وسارعوا جنوباً. واستمرت هذه الفئة بالتعميد باسم يوحنا وفي النهاية أسسوا طائفة من أولئك الذين آمنوا بيوحنا لكنهم رفضوا قبول يسوع. لا تزال بقايا من هذه الجماعة باقية في بلاد ما بين النهرين حتى هذا اليوم.
137:2.3 (1526.3) بينما كانت هذه المشكلة تختمر بين أتباع يوحنا, كان يسوع ورُسله-التلاميذ الأربعة, في طريقهم إلى الجليل. قبل أن يعبروا الأردن, للذهاب بطريق ناعين إلى الناصرة, تطلع يسوع أمامه وصعوداً في الطريق, رأى واحداً اسمه فيليبُس من بيت-صيدا مع صديق قادمان نحوهم. كان يسوع قد عرف فيليبُس من قبل وكان أيضاً معروفاً جيداً لكل الرُسل الأربعة الجدد. كان في طريقه مع صديقه نثانئيل لزيارة يوحنا في بـِلا لمعرفة المزيد عن مجيء ملكوت الله المُخبر عنه, وكان مبتهجاً ليُحيي يسوع. كان فيليبُس مُعجباً بيسوع منذ أن جاء أول مرة إلى كفرناحوم. لكن نثانئيل, الذي عاش في قانا الجليل, لم يعرف يسوع. تقدم فيليبُس لتحية أصدقائه بينما ارتاح نثانئيل تحت ظل شجرة على جانب الطريق.
137:2.4 (1526.4) أخذ بطرس فيليبُس جانباً وشرع في توضيح أنهم, في إشارة إلى نفسه, وأندراوس, ويعقوب, ويوحنا, قد أصبحوا جميعًا مرافقين ليسوع في الملكوت الجديد وحث فيليبُس بشدة على التطوع للخدمة. كان فيليبُس في مأزق. ماذا يجب أن يفعل؟ هنا, بدون إنذار لحظة ــ على جانب الطريق بالقرب من الأردن ــ جاء من أجل القرار الحاسم السؤال الأكثر أهمية لمدى حياة. بحلول هذا الوقت كان في محادثة جادة مع بطرس, وأندراوس, ويوحنا بينما كان يسوع يحدد ليعقوب معالم الرحلة خلال الجليل واستمراراً إلى كفرناحوم. أخيراً اقترح أندراوس على فيليبُس, "لماذا لا تسأل المعلم؟"
137:2.5 (1526.5) فجأة لاح إلى فيليبُس بأن يسوع كان حقاً رَجلاً عظيماً, ربما المسيح, وقرر الإمتثال لقرار يسوع في هذا الشأن؛ وذهب رأساً إليه, سائلاً, "يا معلم, هل أنزل إلى يوحنا أو هل ألتحق بأصدقائي الذين يتبعونك ؟" ويسوع أجاب, "اتبعني". شعر فيليب بسعادة غامرة للتأكيد على أنه وجد المخلص.
137:2.6 (1526.6) أومأ فيليبُس الآن إلى الجماعة للبقاء حيث هم في حين سارع للعودة ليُبلغ أخبار قراره إلى صديقه نثانئيل, الذي لا يزال يتخلف تحت شجرة التوت, يقلب في عقله العديد من الأشياء التي سمعها بشأن يوحنا المعمدان, والملكوت الآتي, والمسيح المتوقَع. اقتحم فيليبُس هذه التأملات, هاتفاً, "لقد وجدت المُخَلِص, الذي كتب عنه موسى والأنبياء والذي أعلنه يوحنا." نثانئيل متطلع صعوداً, تساءل, "من أين أتى هذا المعلم؟" فأجاب فيليبُس, "هو يسوع الناصري, ابن يوسف, النجار, الذي سكن مؤخرًا في كفرناحوم." وعندئذٍ, نثانئيل مصدوم نوعاً ما, سأل, "أيمكن لأي شيء صالح كهذا أن يأتي من الناصرة؟" لكن فيليبُس, آخذاً إياه بذراعه, قال, "تعال وانظر."
137:2.7 (1527.1) قاد فيليبُس نثانئيل إلى يسوع, الذي, متطلع برأفة في وجه المتشكك المُخْلص قال: "هوذا إسرائيلي أصلي, لا غش فيه. اتبعني." ونثانئيل, ملتفت إلى فيليبُس, قال: "أنت على حق. إنه بالفعل سيد الرجال. أنا أيضًا سأتبع, إذا كنت جديراً." ويسوع أومأ برأسه إلى نثانئيل, قائلاً مرة أخرى, "اتبعني."
137:2.8 (1527.2) لقد جمع يسوع الآن نصف فيلقه المستقبلي من رفاقه المقربين, خمسة من الذين عرفوه لبعض الوقت وواحد غريب, نثانئيل. بدون مزيد من التأخير عبروا الأردن, وذاهبين بطريق قرية ناعين, وصلوا الناصرة في وقت متأخر من ذلك المساء.
137:2.9 (1527.3) مكثوا جميعاً الليلة مع يوسف في بيت صِبا يسوع. قليلاً فهم رفاق يسوع لماذا كان معلمهم الذي عثروا عليه-حديثاً مهتماً للغاية بالإتلاف التام لكل آثار كتاباته الباقية حول المنزل في شكل الوصايا العشر وغيرها من الشعارات والأقوال. لكن هذا الإجراء, إلى جانب حقيقة أنهم لم يروه أبداً يكتب فيما بعد ــإلا على التراب أو في الرمل ــ ترك انطباعاً عميقاً في أذهانهم.
137:3.1 (1527.4) في اليوم التالي أرسل يسوع رُسله إلى قانا, حيث كانوا جميعاً مدعوين لحضور حفل زفاف شابة بارزة في تلك البلدة, بينما كان يستعد للقيام بزيارة مستعجلة إلى أُمه في كفرناحوم, متوقف عند مجدلا لرؤية شقيقه يهوذا.
137:3.2 (1527.5) قبل مغادرة الناصرة, أخبر رفاق يسوع الجدد يوسف وأعضاء آخرين من عائلة يسوع عن الأحداث الرائعة من الماضي القريب وعبّروا بحرية عن اعتقادهم بأن يسوع كان المخَلِص المتوقع-منذ أمد طويل. وتحدث أعضاء عائلة يسوع هؤلاء عن كل هذا, وقال يوسف: "ربما, بعد كل شيء, كانت أُمنا على حق ــ ربما يكون أخونا الغريب هو الملك القادم".
137:3.3 (1527.6) كان يهوذا حاضراً في معمودية يسوع, ومع شقيقه يعقوب, أصبحا مؤمنين راسخين بمهمة يسوع على الأرض. مع أن كلا من يعقوب ويهوذا كانا في حيرة كبيرة بالنسبة إلى طبيعة مهمة شقيقهما, إلا أن أمهما أحيت كل آمالها المبكرة في أن يكون يسوع هو المسيح, ابن داود, وشجعت أبناءها على الإيمان بشقيقهم باعتباره مخَلِص إسرائيل.
137:3.4 (1527.7) وصل يسوع إلى كفرناحوم ليلة الاثنين, لكنه لم يذهب إلى بيته, حيث عاش يعقوب وأُمه؛ ذهب مباشرة إلى بيت زَبـِدي. رأى جميع أصدقائه في كفرناحوم تغييراً رائعًا ومُسراً فيه. مرة أخرى بدا مبتهجاً نسبيًا وأكثر كما كان خلال السنوات السابقة في الناصرة. لسنوات سابقاً لمعموديته وفترات العزلة التي سبقتها وبعدها مباشرة, كان قد أصبح أكثر جدية واكتفاءً ذاتيًا. لقد بدا الآن تمامًا مثل نفسه القديمة بالنسبة لهم جميعًا. كان هناك شيء ما حوله من الأهمية المهيبة والهيئة المجيدة, لكنه مرة أخرى كان خفيف القلب ومرح.
137:3.5 (1528.1) كانت مريم مأخوذة بالتوقع. توقعت أن وعد جبرائيل يقارب الاستيفاء. توقعت أن تكون كل فلسطين قريباً مذهولة ومندهشة بالوحي المُعجز لابنها كملك اليهود الخارق. لكن لكل الأسئلة العديدة التي طرحتها أُمه, ويعقوب, ويهوذا, وزَبـِدي, أجاب يسوع مبتسماً فقط: "الأفضل أن أنتظر هنا لفترة من الوقت؛ يجب أن أفعل مشيئة أبي الذي في السماء".
137:3.6 (1528.2) في اليوم التالي, الثلاثاء, سافروا جميعاً إلى قانا لحضور زفاف ناعومي, الذي كان من المقرر أن يتم في اليوم التالي. وبالرغم من تحذيرات يسوع المتكررة بأن لا يخبروا أي إنسان عنه "إلى أن تأتي ساعة الأب, " فقد أصّروا على نشر الأخبار بهدوء في الخارج بأنهم وجدوا المخَلِص. لقد توقع كل منهم بثقة أن يفتتح يسوع توليه للسُلطة المسيحية في الزفاف المقبل في قانا, وبأنه سيفعل هذا بقدرة عظيمة ومجد سَني. تذكروا ما قيل لهم عن الظواهر التي صاحبت معموديته, واعتقدوا بأن مساره المستقبلي على الأرض سوف يتسم بتجليات متزايدة من العجائب الخارقة للطبيعة والإظهارات المُعجزة. تبعاً لذلك, كان الريف بأكمله يستعد للاجتماع معاً في قانا من أجل زفاف ناعومي ويوآب ابن ناثان.
137:3.7 (1528.3) لم تكن مريم مرحة للغاية بهذا القدر منذ سنوات. سافرت إلى قانا بروح الأُم الملكة في طريقها لتشهد تتويج ابنها. ليس منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره رأته عائلة يسوع ورآه أصدقاؤه سعيداً وخالٍ من الهم للغاية, مراعياً جداً لمشاعر الغير ومتفهماً لمقاصد ورغبات رفاقه, ومتعاطفاً بشكل مؤثر للغاية. وهكذا تهامسوا جميعاً فيما بينهم, في جماعات صغيرة, متسائلين عما سيحدث. ماذا سيفعل تالياً هذا الشخص الغريب؟ كيف سيفتتح مجد الملكوت الآتي؟ وكانوا جميعاً مبتهجين بالتفكير بأنهم سيكونون حاضرين لرؤية كشف جبروت وقدرة إله إسرائيل.
137:4.1 (1528.4) بحلول ظهر يوم الأربعاء كان قُرابة ألف ضيف قد وصلوا إلى قانا, أكثر من أربعة أضعاف العدد المدعو إلى حفل الزفاف. كانت العادة اليهودية للاحتفال بالزفاف يوم الأربعاء, وكانت تُرسل الدعوات من أجل حضور الزفاف قبل شهر. عند الظيهرة وباكراً بعد الظهر بدا الأمر أشبه باستقبال علني ليسوع أكثر من زفاف. أراد الجميع الترحيب بهذا الجليلي القريب الشهرة, وكان الأكثر مودة إلى الجميع, صغاراً وكباراً, يهود وأمميين. وقد ابتهج الجميع عندما وافق يسوع أن يقود موكب الزفاف الأولي.
137:4.2 (1528.5) كان يسوع الآن واعياً تماماً للذات فيما يتعلق بوجوده البشري, ولسابق وجوده الإلَهي, ووضع طبيعته المُركَّبة, أو المنصهرة, البشرية والإلَهية. باتزان مثالي كان يمكنه في لحظة واحدة أن يقوم بدور الإنسان أو يتقلد في الحال امتيازات الشخصية للطبيعة الإلَهية.
137:4.3 (1528.6) بينما كان النهار يندثر, أصبح يسوع واعياً بشكل متزايد بأن الناس كانوا يتوقعون منه أن يُؤدي معجزة ما؛ وبشكل خاص أدرك أن عائلته ورُسله-التلاميذ الستة كانوا يتطلعون إليه ليعلن بشكل مناسب ملكوته القادم من خلال بعض التجلي المذهل والخارق للطبيعة.
137:4.4 (1529.1) في وقت مبكر من بعد الظهر استدعت مريم يعقوب, ومعاً تجرآ على الإقتراب من يسوع للاستفسار عما إذا كان سيدخلهما في ثقته إلى حد إعلامهما عند أي ساعة وعند أي نقطة في علاقة مع احتفالات الزفاف كان قد خطط لإظهار نفسه على أنه " الشخص الخارق." ما إن تحدثوا عن هذه الأمور إلى يسوع رأيا بأنهما قد أيقظا غيظه المميز. قال فقط: "إذا كنتم تحبونني, فكونوا مستعدين للانتظار معي بينما انتظر مشيئة أبي الذي في السماء". لكن بلاغة انتهاره كمنت في تعبير وجهه.
137:4.5 (1529.2) كانت هذه الخطوة من أُمه خيبة أمل كبيرة ليسوع البشري, وقد استيقظ كثيراً بردة فعله إلى اقتراحها الموحي بأن يسمح لنفسه بالانغماس في إظهار خارجي ما لألوهيته. كان ذلك أحد الأشياء الكثيرة التي قرر عدم القيام بها عندما كان منعزلاً مؤخراً في التلال. لعدة ساعات كانت مريم شديدة الاكتئاب. قالت ليعقوب: "لا أستطيع أن أفهمه؛ ماذا يمكن أن يعني كل هذا؟ أليس هناك نهاية لسلوكه الغريب؟" حاول يعقوب ويهوذا مؤاساة والدتهما, بينما انسحب يسوع لساعة من العزلة. لكنه عاد إلى الجمع ومرة أخرى كان خفيف القلب ومرح.
137:4.6 (1529.3) استمر الزفاف مع صمت من التوقع, لكن الحفل بأكمله انتهى وليس حركة, ولا كلمة, من الضيف المُشَّرَف. بعدئذٍ هُمس بأن النجار وباني القوارب, المُعلن بيوحنا "كالمُخَلِص", سيُظهر يده أثناء احتفالات المساء, ربما عند عشاء الزفاف, لكن كل توقع لمثل هذا الإظهار أُزيل بفعالية من عقول رُسله-تلاميذه الستة عندما دعاهم معاً بالضبط قبل عشاء الزفاف, وبجدية كبيرة, قال: "لا تظنوا بأني جئت إلى هذا المكان لأقوم بمعجزة ما لإرضاء الفضوليين أو من أجل إقناع أولئك الذين يُشككون. بالأحرى نحن هنا لانتظار مشيئة أبينا الذي في السماء". لكن عندما رأته مريم والآخرون في شورى مع زملائه, اقتنعوا تمامًا في عقولهم الخاصة بأن شيئًا غير عادي على وشك الحدوث. وجلسوا جميعًا للاستمتاع بعشاء الزفاف ومساء من الزمالة الاحتفالية الطيبة.
137:4.7 (1529.4) كان والد العريس قد وفر الكثير من النبيذ لكل الضيوف المدعوين إلى وليمة الزواج, لكن كيف كان له أن يعرف بأن زواج ابنه كان سيصبح حدثاً وثيق الصلة بالتجلي المتوقع ليسوع باعتباره المُخَلِص المسيحي؟ كان مبتهجاً بأن يكون لديه شرف وجود الجليلي المحتفل به بين ضيوفه, لكن قبل انتهاء عشاء الزفاف, أحضر الخدم إليه الأخبار المقلقة بأن النبيذ على وشك النفاذ. بحلول الوقت الذي انتهى فيه العشاء الرسمي وكان الضيوف يتجولون حول الحديقة, أسَّرت أُم العريس إلى مريم بأن مؤونة النبيذ قد نفذت. ومريم قالت بثقة: "لا تقلقي ــ سأتكلم مع ابني. هو سيساعدنا". وهكذا افترضت أن تتكلم, بصرف النظر عن التوبيخ الذي حدث قبل ساعات قليلة.
137:4.8 (1529.5) طوال فترة من سنوات عديدة, كانت مريم تلجأ دائماً إلى يسوع للمساعدة في كل أزمة في حياتهم المنزلية في الناصرة بحيث كان فقط من الطبيعي بالنسبة لها أن تفكر به في هذا الوقت. لكن هذه الأُم الطموحة كانت لا تزال لديها دوافع أخرى لمناشدة ابنها البكر في هذه المناسبة. بينما كان يسوع واقفاً بمفرده في ركن من أركان الحديقة, اقتربت منه والدته, قائلة, "يا بني, ليس لديهم نبيذ". ويسوع أجاب, "يا سيدتي الصالحة, ما علاقتي بذلك؟" قالت مريم, "لكنني أعتقد بأن ساعتك قد أتت؛ ألا يمكنك مساعدتنا؟" أجاب يسوع: "مرة أخرى أعلن بأني لم آت لأفعل أشياء بهذه الطريقة. لماذا تزعجينني مرة أخرى بهذه الأمور؟" وبعدئذٍ, لم تقوى على الدموع, توسلت مريم إليه, "لكن, يا بني, أنا وعدتهم بأنك ستساعدنا؛ ألا تفعل شيئاً من أجلي من فضلك؟" وعندئذٍ تكلم يسوع: "يا امرأة, ماذا عليكِ لتجعلي مثل هذه الوعود؟ انظري ألا تفعلي ذلك مرة أخرى. يجب علينا في كل الأشياء أن ننتظر مشيئة الأب في السماء".
137:4.9 (1530.1) سُحقت مريم أُم يسوع؛ ذهلت! بينما وقفت أمامه بلا حراك, بدموع منهمرة على وجهها, كان قلب يسوع البشري مغلوباً بالشفقة على المرأة التي حملته في الجسد؛ ومنحنياً إلى الأمام, وضع يده بحنان على رأسها قائلاً: "الآن, الآن, يا أُمي مريم, لا تتكدري على ما يبدو أقوالي القاسية, ألم أقل لك عدة مرات بأني جئت فقط لأفعل مشيئة أبي السماوي؟ بأكثر السرور سأفعل ما سألتِني إذا كان جزءًا من مشيئة أبي" ــ وتوقف يسوع قصيراً, تردد. بدت مريم لتشعر بأن شيئاً ما كان يحدث. قافزة رمَت ذراعيها حول عنق يسوع, قبَّلته, واندفعت إلى مأوى الخدم, قائلة, "أي كان ما يقوله ابني, افعلوه". لكن يسوع لم يقل شيئاً. أدرك الآن بأنه تواً قد قال بالفعل ـ أو بالأحرى فَكَرَ برغبة ـ أكثر من اللازم.
137:4.10 (1530.2) كانت مريم ترقص فرحاً. لم تعرف كيف سيتم إنتاج النبيذ, لكنها اعتقدت بثقة بأنها أخيراً أقنعت ابنها البكر لتأكيد سُلطته, أن يتجرأ ليخطو إلى الأمام ويطالب بمركزه ويعرض قدرته المسيحية. وبسبب حضور ومشاركة بعض شخصيات وقدرات الكون, كان كل أولئك الحاضرين جاهلين عنها كلياً, هي ما كانت لتكون خائبة الأمل. النبيذ الذي رغبت به مريم والذي يسوع, الإله-الإنسان, بإنسانية وبعين العطف رغب به, كان آت.
137:4.11 (1530.3) على مقربة من متناول اليد وقفت ستة أوعية ماء حجرية, مملوءة بالماء, كل منها تحوي حوالي عشرين غالوناً. كان الماء مخصصاً للاستخدام اللاحق في مراسم التطهير النهائية لحفل الزفاف. هرج ومرج الخدم حول هذه الأوعية الحجرية الضخمة, تحت التوجيه المشغول لأُمه, جذبت انتباه يسوع, ولما ذهب هناك, لاحظ أنهم كانوا يصّبون النبيذ منها بملء الأباريق.
137:4.12 (1530.4) لاح تدريجياً ليسوع ما حدث. من بين جميع الأشخاص الحاضرين في حفل الزواج في قانا, كان يسوع الأكثر دهشةً. توقع الآخرون منه القيام بمعجزة. لكن ذلك بالضبط ما كان ينوي عدم القيام به. وعندئذٍ تذكَّر ابن الإنسان تحذير ضابط فكره المُشَّخَص في التلال. تذكَّر كيف حذره الضابط عن عدم مقدرة أي قدرة أو شخصية من حرمانه من امتياز الخالق في الاستقلالية عن الزمن. في هذه المناسبة كانت محولات القدرة, ومنتصفي الطريق, وكل الشخصيات الأخرى المُتطلبة متجمعة قرب الماء وعناصر ضرورية أخرى, وفي مواجهة الرغبة المعلنة للسُلطان خالق الكون, لم يكن هناك مفر من الظهور الآني للنبيذ. وهذا الحدث جُعل مؤكداً بشكل مُضاعف حيث إن الضابط المُشَّخَص قد دل بأن تنفيذ رغبة الابن لم تكن بأي حال من الأحوال مخالفة لمشيئة الأب.
137:4.13 (1530.5) لكن هذه لم تكن بأي حال معجزة. لم يتم تعديل أي قانون من قوانين الطبيعة, أو إلغاؤه, أو حتى تجاوزه. لا شيء حدث سوى إلغاء الزمان بالتزامن مع التجميع السماوي للعناصر الكيميائية اللازمة لصنع النبيذ. في قانا بهذه المناسبة صنع وكلاء الخالق نبيذاً تماماً كما يفعلون من خلال العمليات الطبيعية الاعتيادية باستثناء أنهم فعلوا ذلك بشكل مستقل عن الزمان ومع تدَّخل وكالات خارقة في شأن تجميع الفضاء للمكونات الكيميائية اللازمة.
137:4.14 (1531.1) علاوة على ذلك كان من الواضح أن سن هذه المدعوة معجزة لم يكن متعارضاً مع مشيئة الأب الفردوسي, وإلا لما بانت, حيث إن يسوع أخضع نفسه بالفعل في كل الأشياء لمشيئة الأب.
137:4.15 (1531.2) عندما استخرج الخدم هذا النبيذ الجديد وحملوه إلى شاهد العريس, "عاهل الوليمة", وعندما تذوقه, نادى على العريس, قائلاً: "إنها العادة لتقديم الخمر الجيد أولاً, ومتى شرب الضيوف جيداً, لإحضار ثمر الكرمة الوضيعة؛ لكنك حفظت أفضل النبيذ حتى أخر الوليمة."
137:4.16 (1531.3) كانت مريم وتلاميذ يسوع مبتهجين كثيرًا بالمعجزة المفترضة التي اعتقدوا بأن يسوع قد أداها عمداً, لكن يسوع انسحب إلى ركن محمي في الحديقة وانشغل بتفكير جاد لبضع لحظات. قرر في النهاية بأن الواقعة الهامة كانت ما بعد تحَّكمه الشخصي في ظل الظروف, ولم تكن معارضة لمشيئة أبيه, كانت لا مفر منها. فلما رجع إلى الناس, اعتبروه برهبة؛ آمنوا به جميعًا على أنه المسيح. لكن يسوع كان في حيرة مريرة, لعلمه أنهم آمنوا به بسبب الحدث غير العادي الذي شهدوه للتو عن غير قصد. مرة أخرى تقاعد يسوع لفصل إلى سطح المنزل بحيث يمكنه التفكير بما جرى.
137:4.17 (1531.4) أدرك يسوع الآن تماماً بأنه يجب أن يكون دائمًا على أهبة الاستعداد لئلا يصبح انغماسه في التعاطف والشفقة مسؤولاً عن وقائع متكررة من هذا القبيل. مع ذلك, وقعت العديد من الأحداث المماثلة قبل يأخذ ابن الإنسان الإذن النهائي لحياته الفانية في الجسد.
137:5.1 (1531.5) على الرغم من أن العديد من الضيوف بقوا للأسبوع الكامل من احتفالات الزفاف, إلا أن يسوع, مع رُسله-التلاميذ المختارين حديثاً ــ يعقوب, ويوحنا, وأندراوس, وبطرس, وفيليبُس, ونثانئيل ــ غادروا في وقت مبكر جداً في الصباح التالي إلى كفرناحوم, انصرفوا دون استئذان أحد. كانت عائلة يسوع وكل أصدقائه في قانا يشعرون بالأسى الشديد لأنه تركهم فجأة, ويهوذا شقيق يسوع الأصغر, انطلق للبحث عنه. ذهب يسوع ورُسله مباشرة إلى منزل زَبـِدي في بيت-صيدا. تحدث يسوع في هذه الرحلة حول العديد من الأشياء المهمة للملكوت الآتي مع زملائه المختارين حديثاً وحذرهم بشكل خاص ألا يجعلوا أي ذِكر لتحول الماء إلى نبيذ. كما نصحهم بتجنب مدينتي صفوريه, وطبريا في عملهم المستقبلي.
137:5.2 (1531.6) بعد العشاء ذلك المساء, في منزل زَبـِدي وصالومي هذا, عُقد هناك أحد أهم المؤتمرات في كل مهمة يسوع الأرضية. فقط الرُسل الستة كانوا حاضرين في هذا الاجتماع؛ وصل يهوذا بينما كانوا على وشك الإنفصال. كان هؤلاء الرجال الستة المختارين قد سافروا من قانا إلى بيت-صيدا مع يسوع, سائرين, كما كان الأمر, على الهواء, كانوا أحياء بالتوقع ومتحمسين لفكرة أنه تم اختيارهم ليكونوا رفاق مقربين لابن الإنسان. لكن عندما باشر يسوع ليوضح لهم من هو وماذا سيكون من مهمته على الأرض وكيف يمكن أن تنتهي, أصيبوا بالذهول. لم يتمكنوا من فهم ما كان يقوله لهم. كانوا عاجزين عن الكلام؛ حتى بطرس كان محطَماً ما فوق التعبير. فقط أندراوس العميق التفكير تجرأ على الرد على كلمات يسوع من الشورى. عندما أدرك يسوع أنهم لم يستوعبوا رسالته, عندما رأى أن أفكارهم عن المسيح اليهودي كانت مبلورة تماماً, أرسلهم إلى راحتهم بينما تمشى وتحدث مع شقيقه يهوذا. وقبل أن يستأذن يهوذا يسوع, قال بعاطفة كبيرة: "يا أخي-أبي, لم أفهمك أبداً. لا أعرف يقينًا ما إذا كنت أنت ما علمتنا إياه أُمي, ولا أفهم تماماً الملكوت الآتي, لكنني أعرف أنك رجل قدير لله. أنا سمعت الصوت عند الأردن, وأنا مؤمن بك, بغض النظر عمن أنت". وعندما تكلم, رحل, متوجهاً إلى منزله في مجدلا.
137:5.3 (1532.1) لم ينم يسوع تلك الليلة, مرتديًا دثاره المسائي, جلس على شاطئ البحيرة يفكر, يفكر حتى فجر اليوم التالي. في الساعات الطويلة لتلك الليلة من التأمل أدرك يسوع بوضوح بأنه لن يكون قادراً على جعل أتباعه يرونه في أي ضوء آخر غير المسيح المتوَقَع منذ زمن طويل. أخيراً أدرك أنه لا توجد طريقة لإطلاق رسالته عن الملكوت إلا كتحقيق لنبوءة يوحنا وبصفته الشخص الذي يبحث عنه اليهود. بعد كل شيء, ولو إنه لم يكن من النوع الداودي من المسيح, فقد كان حقًا تحقيقًا للكلمات النبوية لمن هم أكثر عقلانية روحياً من الرائين القدماء. لم ينكر بتاتاً مرة أخرى أنه كان المسيح. قرر أن يترك الحل النهائي لهذا الوضع المعقد إلى إتمام مشيئة الأب.
137:5.4 (1532.2) في صباح اليوم التالي انضم يسوع إلى أصدقائه على الإفطار, لكنهم كانوا جماعة كئيبة. زار معهم وعند نهاية وجبة الطعام جَمَعهم حوله, قائلاً: "إنها مشيئة أبي أن ننتظر في هذا الجوار لفصل. لقد سمعتم يوحنا يقول بأنه جاء ليهيئ الطريق من أجل الملكوت؛ لذلك ينبغي لنا أن ننتظر اكتمال وعظ يوحنا. عندما يكون البشير لابن الإنسان قد أنهى عمله, سنبدأ إعلان بشائر الخير للملكوت". وجَّه رُسله ليعودوا إلى شباكهم بينما يستعد للذهاب مع زَبـِدي إلى ورشة القوارب, واعداً برؤيتهم في اليوم التالي عند الكنيس, حيث كان سيتكلم, ومعينّا مؤتمراً معهم بعد ظهر ذلك السبت.
137:6.1 (1532.3) كان ظهور يسوع العلني الأول بعد معموديته في كنيس كفرناحوم يوم السبت, 2 آذار, عام 26 م. كان الكنيس مزدحمًا للغاية. كانت قصة المعمودية في الأردن مُزاد عليها الآن بالأخبار الطازجة من قانا عن الماء والنبيذ. أعطى يسوع مقاعد الشرف لرُسله الستة, وأجلس معهم شقيقيه في الجسد يعقوب ويهوذا. كانت والدته, بعد أن عادت إلى كفرناحوم مع يعقوب في الليلة السابقة, حاضرة أيضاً, حيث كانت جالسة في قسم النساء في الكنيس. كان الحضور بأكمله منفعلين؛ لقد توقعوا أن يشاهدوا تجلياً ما غير عادي لقدرة خارقة الذي سيكون شهادة مناسبة على طبيعة وسُلطة مَن كان سيتكلم إليهم ذلك اليوم. لكنهم كانوا مقـَّدرين لخيبة الأمل.
137:6.2 (1532.4) عندما وقف يسوع, سلمه حاكم الكنيس سفر الكتابات المقدسة, وقرأ من النبي إشعياء: "هكذا يقول الرب: ’السماء عرشي, والأرض موطئ قدمي. أين البيت الذي بنيتموه لي؟ وأين مكان مسكني؟ كل هذه الأشياء صنعتها يداي,‘ يقول الرب. ’لكن إلى هذا الرجل سأنظر, حتى إليه مَن هو فقير وذو روح مُنسحقة, والذي يرتعد من كلمتي‘. اسمعوا كلمة الرب, أنتم المرتعدون والخائفون: ’إخوتكم كرهوكم وطردوكم من أجل اسمي‘. لكن ليتمجد الرب. سيظهر إليكم في فرح, وسيخجل كل الآخرين. صوت من المدينة, صوت من الهيكل, صوت من الرب يقول: ’قبل أن يأتيها المخاض ولدت؛ قبل أن تتألم, ولدت طفلاً ذكر‘. من سمع شيئاً كهذا؟ هل تُجعل الأرض لتلد في يوم واحد؟ أو هل يمكن أن تولد أمة دفعة واحدة؟ لكن هكذا يقول الرب: ’ها أنا ذا سأبسط السلام كنهر, والمجد حتى للأمميين سيكون مثل جدول متدفق. مثل واحد تؤاسيه أمه, هكذا سأواسيكم. وستكونون مؤاسين حتى في أورشليم. وعندما ترون هذه الأشياء, سيفرح قلبكم.‘"
137:6.3 (1533.1) عندما انهى هذه القراءة, أعاد يسوع السفر إلى حافظه. قبل أن يجلس, قال ببساطة: "كونوا صبورين وسترون مجد الله؛ وهكذا سيكون مع كل أولئك الذين ينتظرون معي وبهذا يتعلمون أن يفعلوا مشيئة أبي الذي في السماء". وذهب الناس إلى منازلهم, متسائلين عما كان معنى كل هذا.
137:6.4 (1533.2) عصر ذلك اليوم دخل يسوع ورُسله, مع يعقوب ويهوذا قارباً وابتعدوا عن الشاطئ قليلاً, حيث رسوا بينما حدثهم عن الملكوت الآتي. وفهموا أكثر مما فهموا على ليلة الخميس.
137:6.5 (1533.3) أوعز إليهم يسوع بأداء واجباتهم المعتادة حتى "تأتي ساعة الملكوت". ولتشجيعهم, قدم لهم قدوة من خلال العودة بانتظام للعمل في ورشة القوارب. في توضيحه أنه ينبغي عليهم قضاء ثلاث ساعات كل مساء في الدراسة والتحضير من أجل عملهم المستقبلي, قال يسوع مضيفاً: "سنبقى جميعنا هنا حتى يطلب مني الأب أن أدعوكم. يجب أن يعود كل واحد منكم الآن إلى عمله المعتاد تماماً كما لو لم يحدث شيء. لا تخبروا أي إنسان عني وتذكَّروا بأن ملكوتي ليس ليأتي مع ضوضاء وفتنة, بل بالأحرى يجب أن يأتي من خلال التغيير الكبير الذي سيطوعه أبي في قلوبكم وفي قلوب أولئك الذين سيتم استدعاؤهم للانضمام إليكم في مجالس الملكوت. أنتم الآن أصدقائي؛ أنا أثق بكم وأحبكم؛ قريباً ستصبحون رفاقي الشخصيين. كونوا صبورين, كونوا لطيفين. كونوا دائماً مطيعين لمشيئة الأب. استعدوا من أجل دعوة الملكوت. بينما ستختبرون فرحاَ عظيماً في خدمة أبي, يجب أن تكونوا مستعدين أيضاً للمتاعب, لأني أنذركم بأنه سيكون فقط من خلال الكثير من المحن حيث كثيرون سيدخلون الملكوت. لكن أولئك الذين وجدوا الملكوت, سيكون فرحهم كاملاً, وسيُدعون المباركين من كل الأرض. لكن لا تخالجوا أملاً زائفاً؛ سوف يتعثر العالَم عند كلماتي. حتى أنتم, يا أصدقائي, لا تدركون تماماً ما أكشفه لعقولكم المشوشة. لا تخطئوا؛ نحن ننطلق إلى العمل من أجل جيل من الباحثين عن آية. سيطلبون أعمالاً-عجائبية كبرهان بأنني أُرسلت من قِبل أبي, وسيكونون بطيئين في إدراك أوراق اعتماد مهمتي في كشف محبة أبي."
137:6.6 (1533.4) ذلك المساء, عندما عادوا إلى اليابسة, قبل أن يمضوا في طريقهم, يسوع, واقف بجانب حافة الماء, صَّلى: "يا أبتاه, أشكرك على هؤلاء الصغار الذين, بالرغم من شكوكهم, حتى الآن يؤمنون. ومن أجل خاطرهم خصصت نفسي لأفعل مشيئتك. والآن لعلهم يتعلمون أن يكونوا واحداً, حتى كما نحن واحد."
137:7.1 (1533.5) لأربعة أشهر طويلة ــ آذار, ونيسان, وأيار, وحزيران ــ استمر وقت التواني هذا؛ عقد يسوع أكثر من مائة جلسة طويلة وجادة, وإن كانت مبهجة ومفرحة, مع هؤلاء الرفاق الستة وشقيقه يعقوب. نظراً إلى مرض في عائلته, قلما كان يهوذا قادراً على حضور هذه الدروس. يعقوب شقيق يسوع, لم يفقد إيمانه به, لكن أثناء هذه الأشهر من التأخير وعدم العمل كادت مريم أن تيأس من ابنها. إيمانها, الذي ارتفع إلى مثل هذه الأعالي في قانا, غاص الآن إلى مستويات منخفضة جديدة. لم يكن بإمكانها سوى الارتداد على تعجبها المتكرر غالباً: "لا أستطيع أن أفهمه. لا يمكنني فهم معنى كل ذلك". لكن زوجة يعقوب فعلت الكثير لتعزيز شجاعة مريم.
137:7.2 (1534.1) طوال هذه الأشهر الأربعة كان هؤلاء المؤمنون السبعة, واحد شقيقه في الجسد, يتعرفون على يسوع؛ كانوا يعتادون على فكرة العيش مع هذا الإله-الإنسان. ولو إنهم دعوه حاخام, كانوا يتعلمون ألا يخافوا منه. امتلك يسوع تلك النعمة التي لا مثيل لها في الشخصية والتي مكنته من العيش بينهم بحيث لا ترعبهم ألوهيته. لقد وجدوا أنه من السهل حقاً أن يكونوا "أصدقاء مع الله", الله المتجسد في شبه جسد فاني. كان وقت الانتظار هذا اختبارًا قاسيًا لجماعة المؤمنين بأكملها. لا شيء, إطلاقاً لا شيء, معجز حدث. يوماً بيوم ذهبوا حول عملهم المعتاد, بينما ليلة بعد ليلة جلسوا عند قدمي يسوع. وقد جمعتهم شخصيته التي لا تضاهى والكلمات الكريمة التي حدثهم بها مساء على مساء.
137:7.3 (1534.2) كانت هذه الفترة من الانتظار والتعليم صعبة بشكل خاص على سمعان بطرس. سعى مراراً لإقناع يسوع بالبدء فوراً في وعظ الملكوت في الجليل بينما استمر يوحنا في الوعظ في يهودا. لكن جواب يسوع لبطرس دائماً كان: "كن صبوراً, يا سمعان. أحرز تقدماً. لن نكون مستعدين للغاية عندما يدعو الأب." وأندراوس سيهدئ بطرس من حين لآخر بمشورته الفلسفية الأكثر حنكة. كان أندراوس متأثراً بشكل كبير بالطبيعة البشرية ليسوع. لم يكل أبداً من التفكير في كيف يمكن لمن يعيش قريباً جداً من الله أن يكون ودوداً ومراعياً للناس على هذا النحو.
137:7.4 (1534.3) طوال هذه الفترة لم يتكلم يسوع في الكنيس سوى مرتين. بحلول نهاية هذه الأسابيع العديدة من الانتظار كانت التقارير عن معموديته ونبيذ قانا قد بدأت تهدأ. ورأى يسوع بأن لا يحدث مزيد من المعجزات الظاهرة خلال هذا الوقت. لكن مع أنهم عاشوا بهدوء شديد في بيت-صيدا, فقد حُملت تقارير عن أفعال يسوع الغريبة إلى هيرودس أنتيباس, الذي أرسل بدوره جواسيس ليتحققوا من شأنه. لكن هيرودس كان أكثر قلقاً من وعظ يوحنا. قرر ألا يضايق يسوع, الذي استمر عمله بهدوء بالغ في كفرناحوم.
137:7.5 (1534.4) في وقت الانتظار هذا سعى يسوع لتعليم رفاقه ما ينبغي أن يكون موقفهم تجاه مختلف الجماعات الدينية والأحزاب السياسية في فلسطين. كانت كلمات يسوع دائماً: "نحن نسعى لنكسبهم كلهم, لكننا لسنا من أي منهم".
137:7.6 (1534.5) الكتبة والحاخامات, مجتمعين, كانوا يُدعون فريسيين. أشاروا إلى أنفسهم باسم "الزملاء". من نواحٍ عديدة كانوا المجموعة التقدمية بين اليهود, حيث إنهم تبَّنوا العديد من التعاليم غير الموجودة بوضوح في الكتابات المقدسة العبرية, مثل الايمان بقيامة الأموات, وهي عقيدة لم يذكرها إلا نبي متأخر, دانيال.
137:7.7 (1534.6) تألف الصدوقيون من الكهنوت وبعض اليهود الأثرياء. لم يكونوا مثل هؤلاء المتشددين بتفاصيل تطبيق القانون. كان الفريسيون والصدوقيون في الحقيقة أحزاباً دينية, وليس طوائف.
137:7.8 (1534.7) كان الإسينيون طائفة دينية حقيقية, نشأت أثناء ثورة المكابيين, الذين كانت متطلباتهم في بعض النواحي أكثر صرامة من تلك للفريسيين. لقد تبَّنوا العديد من المعتقدات والممارسات الفارسية, عاشوا كأخوية في أديرة, ممتنعين عن الزواج, ولديهم كل الأشياء مشايعة. اختصوا في التعاليم عن الملائكة.
137:7.9 (1535.1) كان الغيورون فئة من الوطنيين اليهود الأشداء. لقد أيدوا أن أي وكل الأساليب كانت مبررة في الكفاح للهروب من استعباد النير الروماني.
137:7.10 (1535.2) كان الهيروديون حزباً سياسياً خالصاً أيد الانعتاق من الحكم الروماني المباشر من خلال استعادة السلالة الحاكمة الهيرودية.
137:7.11 (1535.3) في وسط فلسطين عاش السامريون, الذين "لم يكن لليهود أي تعاطيات معهم" على الرغم من أنهم كانوا يعتقدون بالعديد من الآراء المشابهة للتعاليم اليهودية.
137:7.12 (1535.4) كل هذه الأحزاب والطوائف, بما فيهم الأخوية النصرانية الأصغر, اعتقدوا في المجيء في وقت ما للمسيح. لقد بحثوا جميعًا عن منقذ قومي. لكن يسوع كان إيجابياً جداً في توضيح أنه وتلاميذه لن يصبحوا حلفاء لأي من هذه المدارس من الفكر أو الممارسة. كان ابن الإنسان ليكون لا نصرانياً ولا إسينياً.
137:7.13 (1535.5) بينما وجَّه يسوع فيما بعد بأن الرُسل يجب أن ينطلقوا, كما فعل يوحنا, للتبشير بالإنجيل وإرشاد المؤمنين, فقد أكد على إعلان "البشائر الجيدة لملكوت السماء". أثـَّر بلا كلل على رفقائه بأنهم يجب "أن يُظهروا المحبة, والرحمة, والتعاطف". علـَّم أتباعه في وقت مبكر بأن ملكوت السماء كان تجربة روحية تتعلق بتتويج الله في قلوب الناس.
137:7.14 (1535.6) بينما ينتظرون قبل الشروع في وعظهم العلني النشيط, أمضى يسوع والسبعة أمسيتين من كل أسبوع عند الكنيس في دراسة الكتابات المقدسة العبرية. في سنوات لاحقة بعد فصول من العمل العلني المكثف, نظر الرُسل رجوعاً على تلك الأشهر الأربعة باعتبارها الأثمن والأكثر مكسباً من كل علاقتهم مع السيد. علـَّم يسوع هؤلاء الرجال كل ما أمكنهم فهمه. لم يرتكب خطأ التعليم الزائد لهم. لم يعجل الارتباك بتقديم حقيقة أبعد بكثير من استطاعتهم للإدراك.
137:8.1 (1535.7) على السبت, 22 حزيران, قبل فترة وجيزة من خروجهم في جولتهم الوعظية الأولى وبعد حوالي عشرة أيام من سجن يوحنا, شغل يسوع منبر وعظ الكنيس للمرة الثانية منذ إحضار رُسله إلى كفرناحوم.
137:8.2 (1535.8) قبل أيام قليلة من وعظ هذه الموعظة حول "الملكوت", عندما كان يسوع عند العمل في ورشة القوارب, أحضر بطرس إليه نبأ إلقاء القبض على يوحنا. ألقى يسوع عدته مرة أخرى, أزال مئزره, وقال لبطرس: "أتت ساعة الأب. لنستعد لإعلان إنجيل الملكوت".
137:8.3 (1535.9) أدى يسوع عمله الأخير عند طاولة النجارة هذا الثلاثاء, في 18 حزيران, عام 26 م. اندفع بطرس من الورشة وبحلول منتصف العصر كان قد جمَّع كل رفاقه, وبعد أن تركهم في بستان بجوار الشاطئ, ذهب في طلب يسوع. لكنه لم يستطع العثور عليه, لأن السيد كان قد ذهب إلى بستان آخر للصلاة. ولم يروه حتى وقت متأخر من ذلك المساء عندما عاد إلى منزل زَبـِدي وطلب الطعام. في اليوم التالي أرسل شقيقه يعقوب ليسأل من أجل حق التكلم في الكنيس يوم السبت القادم. وكان حاكم الكنيس مسروراً جداً برغبة يسوع في إدارة الخدمة مرة أخرى.
137:8.4 (1536.1) قبل أن يعظ يسوع هذه الخطبة التي لا تنسى عن ملكوت الله, أول جهد طموح لمهمته العلنية, قرأ من الكتابات المقدسة هذه الفقرات: "ستكونون لي مملكة من الكهنة, شعباً مقدساً, يهوه قاضينا, يهوه معطي شريعتنا, يهوه ملكنا؛ هو سيخلصنا. يهوه ملكي وإلَهي. إنه ملك عظيم على كل الأرض. حنان مُحب على إسرائيل في هذه المملكة. مبارك مجد الرب لأنه ملكنا".
137:8.5 (1536.2) عندما انتهى من القراءة, قال يسوع:
137:8.6 (1536.3) "لقد أتيت لأُعلن تأسيس ملكوت الأب, سيشمل هذا الملكوت النفوس العابدة ليهودي وأممي, غني وفقير, حرٌ وعبد, لأن أبي ليس عنده محاباة أشخاص؛ محبته ورحمته على الجميع.
137:8.7 (1536.4) "يرسل الأب في السماء روحه لتسكن عقول الناس, وعندما أكون قد انتهيت من عملي على الأرض, سوف ينسكب روح الحق بالمثل على كل جسد. وروح أبي وروح الحق سيؤسسانكم في الملكوت الآتي من التفـَّهم الروحي والبر الإلَهي. مملكتي ليست من هذا العالَم. لن يقود ابن الإنسان جيوشاً في معركة لأجل تأسيس عرش قوة أو مملكة مجد دنيوي. عندما تأتي مملكتي, ستعرفون ابن الإنسان كأمير السلام, وحي الأب الأبدي. أولاد هذا العالَم يحاربون من أجل إنشاء وتوسيع ممالك هذا العالَم, لكن تلاميذي سيدخلون ملكوت السماء بقراراتهم الأخلاقية وبانتصاراتهم الروحية؛ وعندما يدخلون مرة فيها, سيجدون فرحاً, وبراً, وحياة أبدية.
137:8.8 (1536.5) "أولئك الذين يسعون أولاً للدخول إلى الملكوت, بهذا يبدأون في النضال من أجل نُبل الطبع مثل ذلك لأبي, سيمتلكون في الوقت الحالي كل ما هو ضروري. لكني أقول لكم بكل إخلاص: ’ما لم تسعوا لدخول الملكوت بالإيمان والاعتماد الواثق لطفل صغير, لن تكسبوا بأي كيفية إذناً بالدخول‘".
137:8.9 (1536.6) "لا تكونوا مضللين بأولئك الذين يأتون قائلين الملكوت هنا أو هناك الملكوت, لأن ملكوت أبي لا يتعلق بالأشياء المرئية والمادية. وهذا الملكوت هو الآن حتى بينكم, لأنه حيث روح الله يُعلَم ويقود نفـْس الإنسان, هناك في الواقع يكون ملكوت السماء. وملكوت الله هذا هو بر, وسلام, وفرح, في الروح القدس.
137:8.10 (1536.7) "يوحنا حقاً قد عمَّدكم علامة للتوبة ولغفران خطاياكم, لكن عندما تدخلون الملكوت السماوي, ستتعمدون بالروح القدس.
137:8.11 (1536.8) "في ملكوت أبي لن يكون هناك يهودي أو أُممي, فقط أولئك الذين يسعون إلى الكمال من خلال الخدمة, لأني أُعلن بأن مَن يود أن يكون عظيماً في ملكوت أبي يجب أن يصبح أولاً خادماً للجميع. إذا كنت على استعداد لخدمة زملائك, ستجلس معي في ملكوتي, حتى كما, من خلال الخدمة في شبه المخلوق, سأجلس في الحاضر مع أبي في ملكوته.
137:8.12 (1536.9) "هذا الملكوت الجديد يشبه حبة تنمو في تربة حقل جيدة. لا تبلغ الثمر الكامل بسرعة. هناك فترة متداخلة بين تأسيس الملكوت في نفـْس الإنسان وتلك الساعة عندما ينضج الملكوت إلى ثمرة كاملة من البر الأزلي والخلاص الأبدي.
137:8.13 (1536.10) "وهذا الملكوت الذي أعلنه لكم ليس حُكم قدرة ووفرة. ملكوت السماء ليس مسألة لحوم وشراب بل بالأحرى حياة بر تقدمي وفرح متزايد في الخدمة المثالية لأبي الذي في السماء. لأنه ألم يقل الأب عن أولاده في العالَم, ’إنها مشيئتي بأنهم في نهاية المطاف يجب أن يكونوا مثاليين, حتى كما أنا مثالي‘.
137:8.14 (1537.1) "جئت لأعظ البشائر البهيجة للملكوت. لم آتي لأضيف إلى الأعباء الثقيلة لأولئك الذين سيدخلون هذا الملكوت. إنني أُعلن الطريق الجديدة والأفضل, وسيتمتع وأولئك القادرين لدخول الملكوت الآتي بالراحة الإلَهية. ومهما ستكلفكم في أشياء هذا العالَم, بغض النظر عن الثمن الذي قد تدفعونه لدخول ملكوت السماء, فإنكم ستنالون أضعافاً أكثر من الفرح والتقدم الروحي في هذا العالَم, وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية.
137:8.15 (1537.2) "الدخول إلى ملكوت الأب لا ينتظر زحف الجيوش, ولا ممالك مقلوبة لهذا العالَم, ولا على كسر نير الأسير. ملكوت السماء قريب, وسيجد كل الذين يدخلون فيه حرية وافرة, وخلاص فرِح.
137:8.16 (1537.3) "هذا الملكوت هو سلطان أبدي, أولئك الذين يدخلون الملكوت سيصعدون إلى أبي؛ بالتأكيد سيبلغون اليد اليمنى لمجده في الفردوس. وكل من يدخل ملكوت السماء سيصبحون أبناء الله, وفي الدهر الآتي سيصعدون إلى الأب. وأنا لم آتي لأدعو الذين سيكونون من الأبرار بل الخطاة وكل الجياع والعطشى إلى بر الكمال الإلَهي.
137:8.17 (1537.4) "جاء يوحنا يعظ التوبة ليهيئكم للملكوت؛ الآن أنا أتيت معلناً الإيمان, عطية الله, كثمن الدخول نحو ملكوت السماء. إذا أنت فقط ستؤمن بأن أبي يحبك بمحبة لانهائية, عندئذٍ أنت في ملكوت الله."
137:8.18 (1537.5) وعندما تكلم بهذا, جلس. وكل الذين سمعوه كانوا مذهولين من كلماته. تعجب تلاميذه. لكن الناس لم يكونوا مستعدين لتلقي البشارة من شفاه هذا الإله-الإنسان. حوالي ثلث الذين سمعوه آمنوا بالرسالة رغم أنهم لم يتمكنوا من فهمها بالكامل؛ حوالي الثلث استعدوا في قلوبهم لرفض مثل هذا المفهوم الروحي البحت للمملكة المتوقعة, بينما لم يتمكن الثلث المتبقي من فهم تعاليمه, كثيرون في الحقيقة اعتقدوا بأنه كان "يهذي".
كِتاب يورانشيا
ورقة 138
138:0.1 (1538.1) بعد خطاب الموعظة عن "الملكوت", دعا يسوع الرُسل الستة معاً بعد ظهر ذلك اليوم وبدأ في الكشف عن خططه لزيارة المدن المحيطة وحول بحر الجليل. تأذى شقيقاه يعقوب ويهوذا كثيراً بسبب عدم دعوتهما إلى هذا المؤتمر. حتى هذا الوقت اعتبرا أنفسهما منتمين إلى دائرة المقربين ليسوع من الزمالة. لكن يسوع خطط أن لا يكون أقرباء مقربين كأعضاء في هذا السِلك من الموَّجهين الرسوليين للملكوت. هذا الإخفاق في شمل يعقوب ويهوذا بين القلة المختارة, سوية مع تباعده الظاهر عن أُمه منذ التجربة في قانا, كانت نقطة البداية في هوة دائمة الاتساع بين يسوع وعائلته. استمر هذا الوضع طوال فترة إسعافه العلني ــ هم تقريباً رفضوه ــ ولم تتم إزالة هذه الخلافات بالكامل إلا بعد وفاته وقيامته. تأرجحت أُمه باستمرار بين مواقف الأمل والإيمان المتذبذب, وعواطف متزايدة من خيبة الأمل, والإهانة, واليأس. فقط راعوث, الصغرى, بقيت موالية بثبات لأبيها-أخيها.
138:0.2 (1538.2) حتى بعد القيامة, كان لعائلة يسوع بأكملها علاقة قليلة جداً بإسعافه. إذا كان نبي لا يخلو من الشرف إلا في بلده, فهو لا يخلو من التقدير المتفهم إلا في عائلته.
138:1.1 (1538.3) في اليوم التالي, الأحد, 23 حزيران عام 26 م., أبلغ يسوع إرشاداته النهائية إلى الستة. وجَههم للانطلاق, اثنان واثنان, ليعَّلموا البشائر عن الملكوت. نهاهم أن يُعمدوا ونصحهم بعدم الوعظ العلني. ثم تابع موضحًا بأنه سيسمح لهم لاحقاً بالوعظ علناً, لكن ذلك إلى فصل, ولأسباب عديدة, رغب بأن يكتسبوا خبرة عملية في التعامل شخصياً مع زملائهم الناس. قصد يسوع أن يجعل جولتهم الأولى واحدة من العمل الشخصي بالكامل. مع أن هذا الإعلان كان بمثابة خيبة أمل إلى الرُسل, إلا أنهم لا يزال رأوا, على الأقل جزئياً, سبب يسوع من أجل إعلان الملكوت هكذا, وبدأوا بقلب سليم وحماس واثق. أرسلهم اثنان واثنان, يعقوب ويوحنا ذاهبان إلى خِريسا, أندراوس وبطرس إلى كفرناحوم, بينما ذهب فيليبُس ونثانئيل إلى تاريشيا.
138:1.2 (1538.4) قبل أن يبدأوا الأسبوعين الأولين من الخدمة, أعلن يسوع لهم بأنه كان يرغب في تعيين اثني عشر رسولاً لمواصلة عمل الملكوت بعد رحيله وفوض لكل منهم أن يختار رَجلاً واحداً من بين المهتدين المبكرين للعضوية في كتيبة الرُسل المتوقعة. وتكلم يوحنا, متسائلاً: "لكن يا سيد, هل سيأتي هؤلاء الرجال الستة بيننا ويشاركوننا كل الأشياء بالتساوي نحن الذين كنا معك منذ الأردن واستمعنا لكل تعليمك في التحضير لهذا, عملنا الأول للملكوت؟" ويسوع أجاب: "نعم يا يوحنا, الرجال الذين تختارونهم سيصبحون واحداً معنا, وستعَّلمونهم كل ما يتعلق بالملكوت, حتى كما علمّتكم." بعد هذا الكلام, تركهم يسوع.
138:1.3 (1539.1) لم ينفصل الستة للذهاب إلى عملهم حتى تبادلوا كلمات كثيرة في مناقشة تعليمات يسوع بأن يختار كل منهم رسولاً جديداً. أخيراً سادت مشورة أندراوس, وانطلقوا إلى أعمالهم. قال أندراوس من حيث الجوهر: "السيد على حق"؛ نحن قليلون جداً لنكتنف هذا العمل. هناك حاجة لمزيد من المعلمين, وقد أبدى السيد ثقة كبيرة فينا نظراً إلى أنه استأمننا باختيار هؤلاء الرُسل الستة الجُدد." هذا الصباح, بينما ينفصلون للذهاب إلى عملهم كان هناك القليل من انقباض النفس المستور في كل قلب. كانوا يعلمون أنهم سيفتقدون يسوع, وإلى جانب خوفهم وحذرهم, لم تكن هذه الطريقة التي تصوروا بها افتتاح ملكوت السماء.
138:1.4 (1539.2) كان مُرَّتباً أن الستة كانوا ليعملوا لمدة أسبوعين, بعدها سيعودون إلى بيت زَبـِدي من أجل مؤتمر. في هذه الأثناء ذهب يسوع إلى الناصرة لزيارة يوسف وسمعان وأفراد آخرين من عائلته يعيشون في ذلك الجوار. فَعَل يسوع كل ما هو ممكن إنسانياً, بما يتفق مع تكريسه لفعل مشيئة أبيه ليسترد ثقة عائلته ومحبتها. في هذا الشأن قام بواجبه الكامل وأكثر.
138:1.5 (1539.3) بينما كان الرُسل خارجاً في هذه المهمة, فَكَرَ يسوع كثيراً في يوحنا, الآن في السجن. لقد كان اختباراً عظيماً أن يستخدم قدراته المحتملة لإطلاق سراحه, لكنه استسلم مرة أخرى "لانتظار مشيئة الأب."
138:2.1 (1539.4) كانت هذه الجولة التبشيرية الأولى للستة ناجحة بشكل بارز. اكتشفوا جميعًا القيمة العظيمة للتواصل المباشر والشخصي مع الناس. عادوا إلى يسوع مدركين تماماً بأن الدين, بعد كل شيء, هو مسألة تجربة شخصية بحتة وكلياً. بدأوا يشعرون بمدى جوع عامة الناس لسماع كلمات المؤاساة الدينية وتطييب النفـْس الروحي. عندما تجَّمعوا حول يسوع, أرادوا جميعًا أن يتكلموا مرة واحدة, لكن أندراوس تولى المسؤولية, وبينما دعاهم واحداً تلو الآخر, قدموا تقاريرهم الرسمية إلى السيد وقدموا ترشيحاتهم للرُسل الستة الجُدد.
138:2.2 (1539.5) بعد أن قدم كل رَجل اختياره من أجل الرسولية الجديدة, طلب يسوع من كل الآخرين التصويت على الترشيح؛ وهكذا تم قبول جميع الرُسل الستة الجُدد رسمياً من قِبل كل الستة الأقدم. بعد ذلك أعلن يسوع بأنهم سيزورون جميعاً هؤلاء المرشحين ويدعوهم للخدمة.
138:2.3 (1539.6) الرُسل المختارون حديثاً كانوا:
138:2.4 (1539.7) 1. متـّى لاوي, جابي الجمارك لكفرناحوم, الذي كان مكتبه مباشرة إلى شرق المدينة, قرب حدود باتانيا. تم اختياره من قبل أندراوس.
138:2.5 (1539.8) 2. توما ديدايموس, صياد سمك من تاريشيا وفي أحد الأوقات نجار وحجار في غادارا. تم اختياره من قبل فيليبُس.
138:2.6 (1539.9) 3. يعقوب ألفيوس, صياد سمك ومزارع من خِريسا, تم اختياره من قبل يعقوب زَبـِدي.
138:2.7 (1539.10) 4. يوداص ألفيوس, الأخ التوأم ليعقوب ألفيوس, وهو أيضاً صياد سمك تم اختياره من قبل يوحنا زَبـِدي.
138:2.8 (1540.1) 5. سمعان زيلوطس, كان ضابطاً رفيعاً في التنظيم الوطني للغيورين, المركز الذي تخلى عنه ليلتحق برُسل يسوع. قبل الانضمام إلى الغيورين, كان سمعان تاجراً. تم اختياره من قبل بطرس.
138:2.9 (1540.2) 6. يوداص إسخريوط, كان ابناً وحيداً لأبوين يهوديين ثريين يعيشان في أريحا. أصبح متعلقًا بيوحنا المعمدان, ووالديه الصدوقيين قد تبرأوا منه. كان يبحث على وظيفة في تلك المناطق عندما وجده رُسل يسوع, وبشكل رئيسي بسبب خبرته في الشؤون المالية, دعاه نثانئيل للانضمام إلى صفوفهم. كان يوداص إسخريوط الوحيد الذي من يهودا بين الرُسل الاثني عشر.
138:2.10 (1540.3) أمضى يسوع يوماً كاملاً مع الستة, يجيب على أسئلتهم ويستمع إلى تفاصيل تقاريرهم, لأنه كان لديهم الكثير من التجارب الشيقة والمفيدة لروايتها. لقد رأوا الآن حكمة خطة السيد في إرسالهم خارجاً للعمل بأسلوب هاديء وشخصي قبل إطلاق جهودهم العلنية الأكثر طموحاً.
138:3.1 (1540.4) في اليوم التالي ذهب يسوع والستة لدعوة متـّى, جابي الجمارك. كان متـّى في انتظارهم, حيث إنه وازن دفاتره واستعد لتسليم شؤون مكتبه إلى أخيه. بينما اقتربوا من منزل جباية الضريبة, خطى أندراوس إلى الأمام مع يسوع, الذي متطلعاً في وجه متـّى, قال, "اتبعني." فقام متـّى وذهب إلى بيته مع يسوع والرُسل.
138:3.2 (1540.5) أخبر متـّى يسوع عن المأدبة التي أعَّدها لتلك الأمسية, على الأقل بأنه كان يرغب في تقديم مثل هذا العشاء لعائلته وأصدقائه إذا كان يسوع سوف يؤيد ويوافق أن يكون ضيف الشرف. ويسوع أومأ بموافقته. ثم أخذ بطرس متـّى جانباً وأوضح أنه دعا واحداً اسمه سمعان للالتحاق بالرُسل وأمَّن موافقته على دعوة سمعان أيضًا إلى هذه الوليمة.
138:3.3 (1540.6) بعد مأدبة غداء في وقت الظهيرة في منزل متـّى ذهبوا جميعاً مع بطرس لدعوة سمعان الغيور, الذي وجدوه في مكان عمله القديم, والذي كان يديره الآن ابن أخيه. عندما قاد بطرس يسوع إلى سمعان, حيا السيد الوطني الناري وفقط قال "اتبعني."
138:3.4 (1540.7) عادوا جميعاً إلى بيت متـّى, حيث تحدثوا كثيراً عن السياسة والدِين حتى ساعة وجبة المساء. كانت عائلة اللاوي تتعاطى منذ فترة طويلة في الأعمال التجارية وجمع الضرائب؛ لذلك فإن العديد من الضيوف المدعوين إلى هذه المأدبة من قبل متـّى يمكن تسميتهم "عشارين وخطاة" بالفريسيين.
138:3.5 (1540.8) في تلك الأيام, عندما أقيمت مأدبة استقبال من هذا النوع لشخص بارز, كانت العادة أن يتوانى كل الأشخاص المهتمين حول غرفة المأدبة لمراقبة الضيوف أثناء تناول اللحوم والاستماع إلى محادثة وخطابات رجال الشرف. بناء على ذلك, كان معظم فريسيي كفرناحوم حاضرين في هذه المناسبة لمراقبة سلوك يسوع في هذا التجمع الإجتماعي غير العادي.
138:3.6 (1540.9) مع تقدم العشاء, تصاعد فرح المدعوين إلى أعالي انبساط الأسارير, وكان الجميع يقضون وقتاً رائعاً بحيث بدأ الفريسيون المتطلعين, في قلوبهم, بانتقاد يسوع لمشاركته في مثل هذا الشأن من خفة الروح والخلو من الهموم. في وقت لاحق من المساء, عندما كانوا يلقون الخطابات, ذهب أحد الفريسيين الأكثر خبثاً إلى حد انتقاد سلوك يسوع لبطرس قائلاً: "كيف تجرؤ على أن تعلم أن هذا الرجل بار عندما يأكل مع العشارين والخطاة وهكذا يعير حضوره لمثل هذه المشاهد من المتعة اللا مبالية." همس بطرس بهذا الانتقاد ليسوع قبل أن يتكلم بركة الوداع على أولئك المتجمعين. عندما بدأ يسوع في الكلام, قال: "في مجيئي هنا الليلة للترحيب بمتـّى وسمعان في زمالتنا, يسعدني أن أشهد خفة روحكم وابتهاجكم الاجتماعي الجيد, لكن لا يزال يجب أن تفرحوا أكثر لأن كثيرين منكم سيجدون مدخلاً إلى الملكوت الآتي للروح, حيث ستستمتعون بوفرة أكثر بالأشياء الصالحة لملكوت السماء. وإليكم الواقفون حولي تنتقدونني في قلوبكم لأني جئت إلى هنا لأمرح مع هؤلاء الأصدقاء, دعوني أقول بأني جئت لأعلن الفرح للمضطهدين اجتماعياً والحرية الروحية للأسرى الأخلاقيين. هل أنا بحاجة لأذكّركم بأن الأصحاء ليسوا بحاجة إلى طبيب, بل بالأحرى السقيمين؟ لقد أتيت, ليس لأدعو الأبرار, بل الخطاة".
138:3.7 (1541.1) وكان هذا حقًا مشهداً غريباً في كل العالَم اليهودي: لرؤية رَجل ذا طبع بار ومشاعر نبيلة يختلط بحرية وفرح مع عامة الناس, حتى مع حشد غير متدين وباحث عن المسرة من عشارين وخطاة ذوي سمعة. رغب سمعان زيلوطس في إلقاء خطاب في هذا التجمع في منزل متـّى, لكن أندراوس, عارف بأن يسوع لا يريد أن يصبح الملكوت الآتي مُربكاً مع حركة الغيورين, أقنعه بالامتناع عن الإدلاء بأي تصريحات علنية.
138:3.8 (1541.2) بقي يسوع والرُسل تلك الليلة في بيت متـّى, وبينما ذهب الناس إلى منازلهم, تحدثوا عن شيء واحد فقط: صلاح يسوع ووده.
138:4.1 (1541.3) في الغد ذهب التسعة منهم جميعًا بالقارب إلى خِريسا لتنفيذ الدعوة الرسمية للرسولين التاليين, يعقوب ويوداص الابنان التوأم لألفيوس, المُرَشَحين من يعقوب ويوحنا زَبـِدي. كان التوأم صيادي الأسماك يتوقعان يسوع ورُسله وكانا لذلك ينتظرانهم على الشاطئ, قـَّدم يعقوب زَبـِدي السيد إلى صيادي الأسماك في خِريسا, ويسوع شاخصاً عليهم, أومأ وقال, "اتبعاني."
138:4.2 (1541.4) عصر ذلك اليوم, الذي أمضوه معاً, أرشدهم يسوع تمامًا بشأن حضور التجمعات الاحتفالية, مختتماً ملاحظاته بالقول: "كل الناس هم إخوتي. أبي في السماء لا يحتقر أي مخلوق من صنعنا. ملكوت المساء مفتوح لجميع الرجال والنساء. لا يجوز لإنسان أن يغلق باب الرحمة في وجه أي نفـْس جائعة قد تسعى لكسب دخول إليه. وسنجلس مع كل من يرغب في سماع الملكوت. عندما يتطلع أبانا في السماء على الناس, فكلهم متشابهون. لذلك لا ترفض أن تكسر الخبز مع فريسي أو خاطئ, صدوقي أو عشار, روماني أو يهودي, غني أو فقير, حر أو مُستعبَد. باب الملكوت مفتوح على مصراعيه لكل الراغبين في معرفة الحقيقة وإيجاد الله."
138:4.3 (1541.5) تلك الليلة عند عشاء بسيط في منزل الألفيوس, تم استلام الشقيقين التوأم في العائلة الرسولية. في وقت لاحق من المساء أعطى يسوع رُسله درسهم الأول الذي يتعلق بأصل, وطبيعة, ومصير الأرواح النجسة, لكنهم لم يتمكنوا من فهم أهمية ما قاله لهم. لقد وجدوا أنه من السهل جداً أن يحبوا يسوع ويعجبوا به, لكن من الصعب جداً فهم الكثير من تعاليمه.
138:4.4 (1542.1) بعد ليلة من الراحة ذهبت الفرقة بأكملها, الآن يعدون أحد عشر, بالقارب إلى تاريشيا.
138:5.1 (1542.2) التقى توما صياد السمك ويوداص المتجول بيسوع والرُسل عند مرسى قوارب الصيد في تاريشيا, وقاد توما الفرقة إلى بيته القريب. قَدَمَ فيليبُس الآن توما كمرشحه للرسولية ونثانئيل قَدَمَ يوداص أسخريوط, الذي من يهودا, من أجل شرف مماثل. نظر يسوع إلى توما وقال: "توما, أنت تفتقر إلى الإيمان؛ على كل, سأستلمك. اتبعني". إلى يوداص أسخريوط قال السيد: "يوداص, نحن جميعًا من جسد واحد, وبينما استلمك بيننا, أصَّلي أنك ستكون دائماً مخاصاً لإخوتك الجليليين. اتبعني."
138:5.2 (1542.3) عندما انتعشوا, أخذ يسوع الاثني عشر على حدة لفصل ليصَّلي معهم ويرشدهم في طبيعة وعمل الروح القدس, لكنهم فشلوا مجدداً إلى حد كبير في إدراك معنى تلك الحقائق الرائعة التي سعى لتعليمها لهم. أحدهم قد يدرك نقطة والآخر قد يستوعب أخرى, لكن ولا أحد منهم أمكنه حصر تعليمه بالكامل. كانوا دائماً يرتكبون خطأ محاولة مطابقة إنجيل يسوع الجديد مع أشكال معتقداتهم الدينية القديمة. لم يستوعبوا فكرة أن يسوع قد جاء ليعلن إنجيلاً جديداً للخلاص ويؤسس طريقة جديدة لإيجاد الله؛ لم يشعروا بأنه كان وحياً جديداً للأب في السماء.
138:5.3 (1542.4) في اليوم التالي ترك يسوع رُسله الاثني عشر وحدهم تماماً؛ أرادهم أن يتعارفوا ورغب أن يكونوا وحدهم ليتحدثوا عما علمهم إياه. عاد السيد لتناول وجبة المساء, وأثناء الساعات بعد العشاء تحدث إليهم عن إسعاف السيرافيم, وفهم بعض الرسل تعليمه. استراحوا من أجل الليل ورحلوا في اليوم التالي على متن قارب إلى كفرناحوم.
138:5.4 (1542.5) كان زَبـِدي وصالومي قد ذهبا للعيش مع ابنهما داود بحيث يمكن تسليم منزلهم الكبير ليسوع ورُسله الاثني عشر. أمضى يسوع هنا سبتاً هادئاً مع رُسله المختارين؛ لقد أوجز بعناية الخطط من أجل إعلان الملكوت وشرح بشكل كامل أهمية تجنب أي صدام مع السُلطات المدنية, قائلاً: "إذا كان ينبغي توبيخ الحكام المدنيين, اتركوا تلك المهمة لي. انظروا ألا تنددوا بقيصر أو خدمه." لقد كان هذا المساء بالذات حينما أخذ يوداص أسخريوط يسوع جانباً للاستفسار لماذا لم يتم فعل أي شيء لإخراج يوحنا من السجن. ويوداص لم يكن راضياً تماماً عن موقف يسوع.
138:6.1 (1542.6) كان الأسبوع التالي مكرساً لبرنامج تدريب مكثف. كل يوم كان الرُسل الستة الجدد يوضعون في أيدي مرشحيهم المختصين من أجل مراجعة شاملة لكل ما تعلموه واختبروه في التحضير لعمل الملكوت. راجع الرُسل الأقدم بعناية, لفائدة الستة الأحدث, تعاليم يسوع حتى تلك الساعة. في الأمسيات اجتمعوا جميعًا في حديقة زَبـِدي لتلقي إرشاد يسوع.
138:6.2 (1542.7) كان في هذا الوقت حين أسس يسوع عطلة منتصف الأسبوع من أجل الراحة والاستجمام. واتبعوا خطة الاسترخاء هذه ليوم واحد كل أسبوع طوال ما تبقى من حياته المادية. كقاعدة عامة, لم يلاحقوا أبداً نشاطاتهم المعتادة يوم الأربعاء. في هذه العطلة الأسبوعية كان يسوع عادة يبتعد عنهم, قائلاً: "يا أولادي, اذهبوا ليوم من اللعب. اريحوا أنفسكم من أعباء الملكوت الشاقة واستمتعوا بالانتعاش الذي يأتي من العودة إلى مهنكم السابقة أو اكتشاف أنواع جديدة من الأنشطة الترفيهية." في حين أن يسوع, في هذه الفترة من حياته الأرضية, لم يكن في الواقع يتطلب يوم الراحة هذا, فقد التزم بهذه الخطة لأنه كان يعلم أنها كانت أفضل لزملائه البشر. كان يسوع المعلم ــ السيد؛ كان زملاؤه طلابه ــ تلاميذه.
138:6.3 (1543.1) سعى يسوع ليوضح لرسله الفرق بين تعاليمه وحياته بينهم والتعاليم التي قد تنشأ عنه فيما بعد. قال يسوع: "ستكون مملكتي والإنجيل المتعلق بها عبئ رسالتكم. لا تنحرفوا نحو الوعظ عني وعن تعاليمي. أعلنوا إنجيل الملكوت وصوروا كشفي عن الأب في السماء لكن لا تضلوا نحو الممرات الجانبية لخلق الأساطير وبناء عقيدة لها علاقة بمعتقدات وتعاليم حول معتقداتي وتعاليمي." لكن مرة أخرى لم يفهموا لماذا تكلم بهذا, لم يجرؤ أحد على السؤال لماذا علَّمهم هكذا.
138:6.4 (1543.2) في هذه التعاليم المبكرة سعى يسوع إلى تجنب الخلافات مع رُسله بقدر الإمكان باستثناء تلك التي تنطوي على مفاهيم خاطئة عن أبيه في السماء. في كل هذه الأمور لم يتردد أبداً في تصحيح معتقدات خاطئة. كان هناك دافع واحد فقط في حياة يسوع ما-بعد-المعمودية على يورانشيا, وكان ذلك كشف أفضل وأصح عن أبيه الفردوسي؛ كان الرائد للطريق الجديد والأفضل إلى الله, طريق الإيمان والمحبة. دائماً كان نصحه للرسل: "اذهبوا وابحثوا عن الخطاة؛ جِدوا المغتمين وعزوا القلقين."
138:6.5 (1543.3) كان يسوع على دراية مثالية بالوضع؛ كان يمتلك قدرة غير محدودة, التي كان من الممكن استخدامها في تعزيز مهمته, لكنه كان مكتفياً تماماً بالوسائل والشخصيات التي كان معظم الناس يعتبرونها غير كافية وكانوا ينظرون إليها على أنها غير ذات أهمية. كان منخرطاً في مهمة ذات إمكانيات دراماتيكية هائلة, لكنه أصَّر على الاستمرار حول شغل أبيه في الأسلوب الأكثر هدوءاً وغير دراميتيكي؛ بشكل مثابر تجنب كل إظهار للقدرة. والآن خطط لأن يعمل بهدوء.على الأقل لعدة أشهر, مع رُسله الاثني عشر حول وحوالي بحر الجليل.
138:7.1 (1543.4) كان يسوع قد خطط لحملة تبشيرية هادئة لمدة خمسة أشهر من العمل الشخصي. لم يخبر الرسل كم من الوقت سيستمر هذا؛ عملوا من أسبوع لآخر. وفي وقت مبكر على هذا اليوم الأول من الأسبوع, تماماً عندما كان على وشك إعلان ذلك لرسله الاثني عشر, جاء سمعان بطرس ويعقوب زَبـِدي, ويوداص أسخريوط للتحدث معه على انفراد. آخذين يسوع جانباً, تجرأ بطرس قائلاً: "يا سيد, لقد أتينا بناء على إيعاز من زملائنا لنسأل عما إذا كان الوقت قد حان الآن للدخول إلى الملكوت. وهل ستعلن الملكوت في كفرناحوم, أم نحن سننتقل إلى أورشليم؟ ومتى سنعلم, كل واحد منا, المناصب التي سوف نشغلها معك في تأسيس الملكوت ــ" وكان بطرس سيستمر في طرح المزيد من الأسئلة, لكن يسوع رفع يداً تحذيرية وأوقفه. ومشيراً للرُسل الآخرين الواقفين بالقرب للانضمام إليهم, قال يسوع: "يا أولادي الصغار, إلى متى سأتحمل معكم! ألم أوضح لكم بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم؟ لقد أخبرتكم مرات كثيرة بأنني لم آتي لأجلس على عرش داود, والآن كيف تسألون عن المكان الذي سيشغله كل واحد منكم في ملكوت الأب؟ ألا يمكنكم أن تدركوا أنني دعوتكم كسفراء لملكوت روحي؟ ألا تفهمون بأنه قريباً, قريباً جداً, أنتم ستمثلونني في العالَم وفي إعلان الملكوت, حتى كما أنا الآن أمثل أبي الذي في السماء؟ هل يمكن أن يكون أنني اخترتكم وأرشدتكم كرسل للملكوت, ومع ذلك فأنتم لا تستوعبون طبيعة وأهمية هذا الملكوت الآتي من رفعة شأن إلَهية في قلوب الناس؟ يا أصدقائي, اسمعوني مرة أخرى. أبعدوا عن أذهانكم هذه الفكرة بأن ملكوتي هو حُكم قوة أو مُلك مجد. في الواقع, سوف يتم تسليم كل قدرة في السماء وعلى الأرض في الوقت الحاضر بين يدي, لكنها ليست مشيئة الأب أن نستخدم هذه الهبة الإلَهية لتمجيد أنفسنا أثناء هذا العصر. في عصر آخر ستجلسون معي بالفعل في قدرة ومجد, لكن يتعين علينا الآن أن نخضع لمشيئة الأب وننطلق في طاعة متواضعة لتنفيذ أوامره على الأرض."
138:7.2 (1544.1) مرة أخرى أصيب رفاقه بالصدمة, والذهول. أرسلهم يسوع بعيداً اثنين واثنين للصلاة, وطلب منهم العودة إليه وقت الظهيرة. على هذا الظهر الحاسم سعى كل منهم إلى إيجاد الله, وكلٌ سعى لأن يُبهج ويقـَّوي الآخر, وعادوا إلى يسوع كما أمرهم.
138:7.3 (1544.2) روى يسوع لهم الآن مجيء يوحنا, والمعمودية في الأردن, وحفل الزواج في قانا, واختيار الستة مؤخرًا, وانسحاب إخوته في الجسد عنهم, وحذرهم بأن عدو الملكوت سيسعى أيضاً لجرِهم بعيداً. بعد هذا الحديث القصير إنما الجاد قام الرُسل جميعًا, تحت قيادة بطرس, للإعلان عن إخلاصهم الذي لا يلين لسيدهم والتعهد بولائهم الذي لا يتزعزع للملكوت, كما عبَّر عنه توما, "لهذا الملكوت الآتي, بغض النظر عن ماهيته وحتى لو أنني لا أفهمه تماماً." لقد آمنوا جميعًا بيسوع حقًا, رغم أنهم لم يفهموا تعاليمه تماماً.
138:7.4 (1544.3) سألهم يسوع الآن عن مقدار المال الذي كان بحوزتهم فيما بينهم, كما استفسر عما تم توفيره لعائلاتهم. عندما تبين بأنهم بالكاد لديهم ما يكفي من الأموال للحفاظ على أنفسهم لمدة أسبوعين, قال: "إنها ليست مشيئة أبي أن نبدأ عملنا على هذا النحو. سنبقى هنا بالقرب من البحر لمدة أسبوعين ونصطاد السمك أو نفعل ما تجده أيدينا؛ وفي هذه الأثناء, وبتوجيه من أندراوس, أول الرُسل المختارين, يجب أن تنظموا أنفسكم بحيث توفرون كل ما هو ضروري في عملكم المستقبلي, سواء للإسعاف الشخصي الحالي وكذلك عندما سأعينكم لاحقاً للتبشير بالإنجيل وإرشاد المؤمنين." كلهم ابتهجوا للغاية بهذه الكلمات؛ كان هذا أول إيعاز واضح المعالم وإيجابي لهم بأن يسوع صمم الدخول فيما بعد على جهود علنية أكثر عدوانية وطموحاً.
138:7.5 (1544.4) أمضى الرسل ما تبقى من اليوم في اتقان تنظيمهم واستكمال الترتيبات للقوارب والشباك للشروع في صيد الغد حيث قرروا جميعاً تكريس أنفسهم لصيد الأسماك؛ كان معظمهم صيادي أسماك, حتى يسوع كان ملاحًا وصيادًا متمرسًا. العديد من القوارب التي استخدموها في السنوات القليلة التالية كانت قد بُنيت بأيدي يسوع. وكانت قوارب جيدة وجديرة بالثقة.
138:7.6 (1544.5) أوصاهم يسوع أن يكرسوا أنفسهم لصيد السمك لأسبوعين, مضيفاً, "وبعدئذٍ ستنطلقون لتصبحوا صيادي ناس." قاموا بالصيد في ثلاث مجموعات وكان يسوع يخرج مع جماعة مختلفة كل ليلة. وكلهم استمتعوا كثيراً بيسوع! كان صياد سمك جيد, ورفيق مرح, وصديق مُلهم؛ كلما عملوا معه أكثر, زاد حبهم له. قال متـّى ذات يوم: "كلما زاد فهمك لبعض الناس, قل إعجابك بهم, لكن عن هذا الرَجل, حتى كلما قل فهمي له, أحببته أكثر."
138:7.7 (1545.1) خطة صيد السمك هذه لأسبوعين والخروج لأداء العمل الشخصي في مصلحة الملكوت لأسبوعين تم اتباعها لأكثر من خمسة أشهر, حتى نهاية هذه السنة 26 م., إلى ما بعد توقف تلك الاضطهادات الخاصة التي وُجِّهت ضد تلاميذ يوحنا لاحقاً إلى سَجنه.
138:8.1 (1545.2) بعد التخلص من صيدهم لأسبوعين, قام يوداص إسخريوط, الذي اختير ليكون أمين صندوق للاثني عشر, بتقسيم الأموال الرسولية إلى ستة أجزاء متساوية, ومن قبل كان قد تم توفير أموال لرعاية الأسر التابعة. ثم قرب منتصف شهر آب, في العام 26 م., انطلقوا اثنين واثنين إلى مجالات العمل التي عينها أندراوس. في أول أسبوعين خرج يسوع مع أندراوس وبطرس, وثاني أسبوعين مع يعقوب ويوحنا, وهكذا مع الأزواج الآخرين حسب الترتيب الذي يختارونه. بهذه الطريقة كان قادراً على الخروج مرة على الأقل مع كل زوج قبل أن يدعوهم معاً لبدء إسعافهم العلني.
138:8.2 (1545.3) علـَّمهم يسوع أن يعظوا غفران الخطايا من خلال الإيمان بالله بدون كفارة أو تضحية, وبأن الأب في السماء يحب كل أولاده بذات المحبة الأبدية. أمر رسله بالامتناع عن مناقشة:
138:8.3 (1545.4) 1. عمل يوحنا المعمدان وسجنه.
138:8.4 (1545.5) 2. الصوت عند المعمودية, قال يسوع: "فقط أولئك الذين سمعوا الصوت يمكنهم الإشارة إليه. تكلموا فقط بما سمعتموه مني؛ لا تتكلموا بالإشاعات."
138:8.5 (1545.6) 3. تحويل الماء إلى نبيذ في قانا. تعهدهم يسوع بجدّية, قائلاً, "لا تخبروا أحدًا عن الماء والنبيذ."
138:8.6 (1545.7) لقد أمضوا أوقاتًا رائعة طوال هذه الأشهر الخمسة أو الستة التي عملوا خلالها كصيادي سمك متناوبين كل أسبوعين, وبالتالي كسبوا ما يكفي من المال لإعالة أنفسهم في الميدان لكل أسبوعين متتاليين من العمل التبشيري من أجل الملكوت.
138:8.7 (1545.8) تعجب عامة الناس من تعليم وإسعاف يسوع ورُسله. كان الحاخامات يعلمون اليهود منذ فترة طويلة بأن الجاهل لا يمكنه أن يكون تقياً أو باراً. لكن رُسل يسوع كانوا أتقياء وأبرار؛ مع أنهم كانوا ببهجة جاهلين بالكثير مما تعلمه الحاخامات وحكمة العالَم.
138:8.8 (1545.9) لقد أوضح يسوع لرسله الفرق بين التوبة لما يسمى بالأعمال الصالحة كما علمها اليهود وتغيير الفكر بالإيمان ــ الولادة الجديدة ــ التي تطلبها كثمن الدخول إلى الملكوت. علـَّم رُسله بأن الإيمان كان المطلب الوحيد لدخول ملكوت الأب. كان يوحنا قد علـَّمهم "التوبة ــ ليهربوا من الغضب الآتي." علـَّم يسوع, "الإيمان هو الباب المفتوح للدخول في محبة الله الحالية, والمثالية, والأبدية". لم يتكلم يسوع كنبي, واحد الذي يأتي ليعلن كلمة الله. بدا أنه يتكلم عن نفسه كواحد لديه سُلطة. سعى يسوع إلى تحويل أذهانهم من طلب المعجزات إلى إيجاد تجربة حقيقية وشخصية في الرضا واليقين من سكن روح الله من المحبة والنعمة المخَّلصة.
138:8.9 (1545.10) تعلـَّم التلاميذ في وقت مبكر بأن السيد كان لديه احترام عميق واعتبار متعاطف لكل كائن إنساني التقى به, وكانوا متأثرين بشكل كبير بهذا الاعتبار الموحد وغير المتغير الذي أعطاه بثبات لكل أنواع الرجال, والنساء, والأطفال. كان يتوقف في خضم خطاب عميق بحيث أنه قد يخرج في الطريق للتحدث بطيبة نفس إلى امرأة مارة مثقلة بعبء جسدها ونفـْسها. كان يقاطع مؤتمراً جاداً مع رُسله للتآخي مع طفل دخيل. لا شيء أبداً بدا مهماً للغاية ليسوع مثل الإنسان الفردي الذي صادف أن يكون في حضوره المباشر. كان سيداً ومعلماً, لكنه كان أكثر من ذلك ــ كان أيضاً صديقاً وجاراً, ورفيقًا متفهمًا.
138:8.10 (1546.1) مع أن تعليم يسوع العلني كان يتألف أساساً من الأمثال والمحاضرات القصيرة, إلا أنه علّم رسله دائمًا من خلال الأسئلة والأجوبة. كان دائمًا يتوقف للإجابة على الأسئلة الصادقة أثناء خطاباته العامة اللاحقة.
138:8.11 (1546.2) كان الُرسل في البداية مصدومين بمعاملة يسوع للنساء, لكنهم اعتادوا عليها في وقت مبكر؛ لقد أوضح لهم تمام الوضوح أنه يجب منح النساء حقوقًا متساوية مع الرجال في الملكوت.
138:9.1 (1546.3) هذه الفترة الرتيبة نوعاً ما من صيد السمك المتناوب مع العمل الشخصي أثبتت أنها كانت تجربة مرهقة للرسل الاثني عشر, لكنهم تحَّملوا الإختبار. مع كل تذمرهم, وشكوكهم, وعدم رضاهم العابر ظلوا أوفياء لوعودهم بالإخلاص والولاء للسيد. لقد كانت علاقتهم الشخصية مع يسوع خلال هذه الأشهر من الإختبار التي جعلته عزيزاً جداً إليهم لدرجة أنهم جميعًا (باستثناء يوداص إسخريوط) ظلِوا أوفياء ومخلصين له حتى في الساعات المظلمة من المحاكمة والصلب. الرجال الحقيقيون ببساطة لا يستطيعون في الواقع أن يهجروا معلمًا محترمًا عاش بالقرب منهم وكان مكرساً جداً لهم مثلما كان يسوع. خلال الساعات المظلمة من موت السيد, في قلوب هؤلاء الرُسل وُضع جانباً كل تعقل, وحكم, ومنطق في مراعاة لمجرد عاطفة إنسانية واحدة غير عادية ــ الشعور الأسمى للصداقة والولاء. هذه الأشهر الخمسة من العمل مع يسوع قادت هؤلاء الرُسل, كل واحد منهم, إلى اعتباره أفضل صديق له في كل العالَم. ولقد كانت هذه المشاعر الإنسانية, وليس تعاليمه الرائعة أو أفعاله العجائبية, التي أبقتهم معاً حتى بعد القيامة والتجديد لإعلان إنجيل الملكوت.
138:9.2 (1546.4) هذه الأشهُر من العمل الهادئ لم تكن فقط إختباراً عظيمًا للرُسل, الإختبار الذي نجوا منه, لكن هذا الفصل من عدم النشاط العلني كان إختباراً عظيمًا لعائلة يسوع. بحلول الوقت الذي كان فيه يسوع مستعداً لإطلاق عمله العلني, كانت عائلته بأكملها (باستثناء راعوث) قد هجروه عملياً. في مناسبات قليلة فقط حاولوا الاتصال به لاحقاً, وعند ذاك كان لإقناعه بالعودة إلى المنزل معهم, لأنهم اقتربوا من الاعتقاد بأنه كان يهذي. ببساطة لم يتمكنوا من سبر غور فلسفته أو فهم تعاليمه ؛ كان الأمر أكثر من اللازم لأولئك الذين من لحمه ودمه.
138:9.3 (1546.5) قام الرسل بعملهم الشخصي في كفرناحوم, وبيت-صيدا-يوليوس, وخورازين, وجِراسا, وهيبوس, ومجدلا, وقانا, وبيت-لحم الجليل, ويوتاباطا, وراما, وصفد, وغيشالا, وغادارا, وعبيلا. إلى جانب هذه المدن عملوا في العديد من القرى وكذلك في الريف. بحلول نهاية هذه الفترة, كان الاثني عشر قد وضعوا خططًا مرضية إلى حد ما لرعاية أسرهم الخاصة. كان معظم الرُسل متزوجين, بعضهم لديه العديد من الأطفال, لكنهم اتخذوا مثل هذه الترتيبات لدعم أهل بيتهم حتى يتمكنوا من تكريس طاقاتهم بالكامل بحيث, مع القليل من المساعدة من الأموال الرسولية, تمكنوا من تكريس طاقاتهم بالكامل إلى عمل السيد دون الحاجة إلى القلق بشأن الرفاهية المالية لأسرهم.
138:10.1 (1547.1) نظـَّم الرُسل أنفسهم مبكرًا على النحو التالي:
138:10.2 (1547.2) 1. أندراوس, الرسول المختار الأول, تم تعيينه رئيساً وموَّجهاً عاماً للاثني عشر.
138:10.3 (1547.3) 2. بطرس, ويعقوب, ويوحنا تم تعيينهم مرافقين شخصيين ليسوع. كان عليهم أن يلازموه نهاراً وليلاً, ليخدموا احتياجاته الجسدية والمتنوعة, ولمرافقته على ليالي الصحو تلك من الصلاة والصِلة الغامضة مع الأب في السماء.
138:10.4 (1547.4) 3. جُعل فيليبُس مُضيفاً للجماعة. كان واجبه تزويد الطعام ورؤية بأن الزائرين, وحتى الجموع من المستمعين في بعض الأوقات, كان لديهم ما يأكلونه.
138:10.5 (1547.5) 4. سهر نثانئيل على احتياجات عائلات الاثني عشر. كان يتلقى تقارير منتظمة حول متطلبات كل من عائلات الرُسل, وعامل طلب إلى يوداص, أمين الصندوق, سيرسل أموالاً كل أسبوع للمحتاجين.
138:10.6 (1547.6) 5. كان متـّى الوكيل المالي للكتيبة الرسولية. كان من واجبه أن يرى بأن الميزانية كانت متوازنة, والخزينة تتجدد. إذا لم تكن أموال الدعم المتبادل وشيكة القدوم, إذا لم يتم تلقي التبرعات الكافية للحفاظ على الزمرة, كان متـّى مخولاً أن يأمر الاثني عشر بالعودة إلى شباكهم لفصل. لكن هذا لم يكن ضرورياً أبداً بعد أن بدأوا عملهم العلني, كان لديه دائماً أموالاً كافية في يدي أمين الصندوق لتمويل نشاطاتهم.
138:10.7 (1547.7) 6. كان توما مدير خط سير الرحلة. عاد إليه ترتيب أماكن المكوث واختيار أماكن التعليم والوعظ بشكل عام, بالتالي تأمين جدول سفر سلس وسريع.
138:10.8 (1547.8) 7. تم تكليف يعقوب ويوداص الابنان التوأم لألفيوس بإدارة الجموع. كانت مهمتهما انتداب عدد كافٍ من المُرشدين المساعدين لتمكينهم من الحفاظ على النظام بين الجماهير أثناء الوعظ.
138:10.9 (1547.9) 8. أُعطِي سمعان زيلوطس عهدة الترفيه واللعب. أدار برامج يوم الأربعاء وسعى أيضاً إلى توفير بضع ساعات من الاسترخاء والتسلية كل يوم.
138:10.10 (1547.10) 9. تم تعيين يوداص إسخريوط أميناً للصندوق. هو حمل الحقيبة. دفع جميع المصاريف وحفظ السجلات. قدم موازنة تقديرية لمتـّى من أسبوع لآخر كما قدم تقاريرً أسبوعية لأندراوس. دفع يوداص الأموال بناء على تصريح أندراوس.
138:10.11 (1547.11) بهذه الطريقة عمِل الاثنا عشر منذ تنظيمهم الباكر حتى وقت إعادة التنظيم التي جُعلت ضرورية بسبب هجر يوداص, الخائن. استمر السيد وتلاميذه-الرُسل بهذا الوضع البسيط حتى يوم الأحد, 12 كانون الثاني عام 27 م., عندما دعاهم معاً وعيَّنهم رسمياً كسفراء للملكوت وواعظين لبشائره الطيبة. وحالاً بعد ذلك استعدوا للانطلاق إلى أورشليم ويهودا في أول جولة وعظ علنية لهم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 139
139:0.1 (1548.1) إنها شهادة بليغة لسحر حياة يسوع على الأرض وبرها بأنه, مع أنه حطم آمال رُسله تكراراً إلى قطع ومزق إلى فتات كل طموح لهم من أجل التمجيد الشخصي, إلا أن واحدًا فقط هجره.
139:0.2 (1548.2) تعلم الرُسل من يسوع عن ملكوت السماء, وتعلم يسوع منهم الكثير عن مملكة الناس, الطبيعة البشرية كما تعيش على يورانشيا والعوالم التطورية الأخرى للزمان والفضاء. مَثـَّلَ هؤلاء الرجال الاثنا عشر عدة أنواع مختلفة من المزاج البشري, ولم يكونوا متشابهين بالتعليم. حمل الكثير من صيادي السمك الجليلين هؤلاء سلالات ثقيلة من الدم الأممي نتيجة للتحويل القسري لسكان الجليل الأمميين قبل مائة سنة.
139:0.3 (1548.3) لا تخطئوا في اعتبار أن الرُسل جاهلين تمامًا وغير متعلمين. كلهم, باستثناء توأم الألفيوس كانوا من خريجي مدارس الكنيس, مدربين تدريباً شاملاً في الكتابات المقدسة العبرية وفي الكثير من المعرفة الجارية لذلك اليوم. سبعة كانوا من خريجي مدارس كنيس كفرناحوم, ولم تكن هناك مدارس يهودية أفضل في كل الجليل.
139:0.4 (1548.4) عندما تشير سجلاتكم إلى رسل المملكة هؤلاء على أنهم "جهلاء وغير متعلمين", كان القصد من ذلك إيصال الفكرة بأنهم كانوا من العامة, غير متعلمين في تقاليد الحاخامات وغير مدربين في أساليب التفسيرات الحاخامية للكتابات المقدسة. كانوا يفتقرون إلى ما يسمى بالتعليم العالي. في الأزمنة الحديثة هم بالتأكيد سيُعتبرون غير متعلمين, وفي بعض دوائر المجتمع حتى غير متحضرين. هناك شيء واحد مؤكد: لم يتم إخضاعهم جميعًا لنفس المنهاج التعليمي المتزمت والنمطي. من فترة البلوغ وصاعداً تمتعوا بخبرات منفصلة في تعلم كيفية العيش.
139:1.1 (1548.5) أندراوس رئيس الكتيبة الرسولية للملكوت, وُلد في كفرناحوم. كان الولد الأكبر لعائلة من خمسة أفراد ـ هو, وشقيقه سمعان, وثلاث أخوات. والده المتوفى الآن, كان شريكاً لزَبـِدي في مصلحة تجفيف الأسماك في بيت-صيدا, ميناء صيد كفرناحوم. عندما أصبح رسولاً, كان أندراوس عازباً لكن جعل مسكنه مع شقيقه المتزوج, سمعان بطرس. كانا كِلاهما صيادي أسماك وشركاء ليعقوب ويوحنا ابنا زَبـِدي.
139:1.2 (1548.6) في عام 26 م. العام الذي اختير فيه كرسول, كان أندراوس يبلغ من العمر 33 عامًا, سنة كاملة أكبر من يسوع والأكبر بين الرُسل. انحدر من خط ممتاز من الأسلاف وكان الرجل الأقدر بين الاثني عشر. باستثناء الخطابة, كان نظير زملائه في كل مقدرة يمكن تصورها تقريباً. يسوع, لم يعطِ أندراوس لقباً, دلالة أخوية. لكن حتى عندما سرعان ما بدأ الرُسل في دعوة يسوع سيد, هكذا هم كذلك دلوا على أندراوس بمصطلح يعادل الرئيس.
139:1.3 (1549.1) كان أندراوس منظماً جيداً لكن إداري أفضل. كان واحداً من الدائرة الداخلية لأربعة رُسل, لكن تعيينه من قِبل يسوع كرئيس للجماعة الرسولية جعل من الضروري له أن يبقى عند الواجب مع إخوانه بينما تمتع الثلاثة الآخرون بصِلة وثيقة مع السيد. بقي أندراوس حتى النهاية عميداً للكتيبة الرسولية.
139:1.4 (1549.2) مع أن أندراوس لم يكن أبداً واعظاً مؤثراً, فقد كان عاملاً شخصياً فعّالاً, كائن المبشر الرائد للملكوت بأنه, كالرسول الأول المختار, أحضر على الفور إلى يسوع شقيقه, سمعان, الذي أصبح فيما بعد أحد أعظم المبشرين بالملكوت. كان أندراوس المؤيد الرئيسي لسياسة يسوع في استخدام برنامج العمل الشخصي كوسيلة لتدريب الاثني عشر كرُسل للملكوت.
139:1.5 (1549.3) سواء علـَّم يسوع الرُسل على انفراد أو وعظ إلى الجموع, كان أندراوس عادة على دراية بما يجري؛ كان تنفيذياً متفهماً وإدارياً فعّالاً. أصدر قراراً فورياً بشأن كل مسألة تُجلب إلى انتباهه ما لم يرتأي أن المشكلة خارج نطاق سُلطته, وفي هذه الحالة سيأخذها فوراً إلى يسوع.
139:1.6 (1549.4) كان أندراوس وبطرس مختلفين تمامًا في السجية والمزاج, لكن يجب أن يُسجَّل بشكل أبدي لصالحهما أنهما تلاقا بشكل رائع. لم يكن أندراوس غيوراً أبداً من مقدرة بطرس الخطابية. ليس غالباً سيتم ملاحظة رجل كبير السن من نوع أندراوس يمارس مثل هذا التأثير العميق على أخ أصغر وموهوب. لم يبد أن أندراوس وبطرس كانا بأقل قدر غيورين من قدرات أو إنجازات بعضهما البعض. في وقت متأخر من مساء يوم العنصرة, عندما إلى حد كبير من خلال الوعظ النشيط والمُلهم لبطرس, تم إضافة ألفي نفـْس إلى الملكوت, قال أندراوس لشقيقه: "لم أستطع القيام بذلك, لكنني مسرور بأن لدي أخًا يمكنه ذلك." فأجابه بطرس: "ولكن لو لم يكن لإحضارك لي إلى السيد وثباتك في إبقائي معه, لما كنت هنا للقيام بهذا". كان أندراوس وبطرس استثناءً للقاعدة, مما يثبت أنه حتى الإخوة يمكنهم العيش معاً بسلام والعمل معاً على نحو فعال.
139:1.7 (1549.5) بعد العنصرة كان بطرس مشهوراً, لكن ذلك لم يزعج أندراوس الأكبر أبداً أن يمضي بقية حياته يُقدَّم على أنه "شقيق سمعان بطرس".
139:1.8 (1549.6) من بين كل الرُسل, كان أندراوس أفضل قاضي للناس. كان يعلم أن المشاكل كانت تختمر في قلب يوداص إسخريوط حتى عندما لم يشتبه أي من الآخرين أن هناك شيئًا خاطئأ مع أمين صندوقهم؛ لكنه لم يُخبر أياً منهم بمخاوفه. كانت خدمة أندراوس العظيمة للملكوت في نصح بطرس, ويعقوب, ويوحنا فيما يتعلق باختيار المبشرين الأوائل الذين أُرسلوا لإعلان الإنجيل, وكذلك في إسداء المشورة لهؤلاء القادة الأوائل بشأن تنظيم الشؤون الإدارية للملكوت. كان لدى أندراوس موهبة رائعة لاكتشاف الموارد الخفية والمواهب الكامنة للشباب.
139:1.9 (1549.7) بعد فترة وجيزة من صعود يسوع على العُلى, بدأ أندراوس كتابة سجل شخصي لكثير من أقوال وأفعال سيده الراحل. بعد وفاة أندراوس تم عمل نسخ أخرى لهذا السجل الخاص وتم تداولها بحرية بين المعلمين الأوائل للكنيسة المسيحية. تم في وقت لاحق تنقيح هذه الملاحظات غير الرسمية لأندراوس, وتعديلها, وتبديلها, والإضافة إليها إلى أن شكلت سردًا متتاليًا لا بأس بها لحياة السيد على الأرض. تم إتلاف الأخيرة من هذه النسخ القليلة المبَّدلة والمعَّدلة بحريق في الإسكندرية بعد حوالي مائة عام من كتابة النسخة الأصلية من قبل المختار الأول من الرُسل الاثني عشر.
139:1.10 (1550.1) كان أندراوس رَجلاً ذا بصيرة واضحة, وتفكير منطقي, وقرار حازم, الذي تكونت قوته العظيمة للسجية في ثباته الرائع. كان عائقه المزاجي افتقاره للحماس؛ فشل مرات عديدة في تشجيع زملائه من خلال الثناء الحكيم. وهذا التحفظ في مدح الإنجازات الجديرة لأصدقائه نمَا من مقته للتملق وعدم الإخلاص. كان أندراوس واحداً من أولئك الرجال ذوي البراعات المتعددة, والمتوازني الطبع, والعصاميين, والناجحين ذوي الشؤون المتواضعة.
139:1.11 (1550.2) كل واحد من الرُسل أحب يسوع, لكن يبقي صحيحاً بأن كل واحد من الاثني عشر كان مشدوداً إليه بسبب ميزة معينة ما من الشخصية التي جعلت جاذبية خاصة للرسول الفرد. أعجب أندراوس بيسوع بسبب إخلاصه الثابت, وكرامته غير المتأثرة. متى ما عرف الناس مرة يسوع, كانوا مُمتلَكين بالرغبة في مشاركته مع أصدقائهم؛ لقد أرادوا حقاً أن يعرفه العالم بأسره.
139:1.12 (1550.3) عندما تسببت الاضطهادات اللاحقة في تشتيت الرُسل أخيراً من أورشليم, سافر أندراوس عبر أرمينيا, وآسيا الصغرى, ومقدونيا, وبعد أن جلب عدة آلاف إلى الملكوت, أخيراً تم القبض عليه وصُلب في باتري في أشاعيا. لقد مر يومان كاملان قبل أن يتوفى هذا الرَجل القوي على الصليب, وطوال هذه الساعات المأساوية واصل بفعالية إعلان البشائر السارة عن الخلاص لملكوت السماء.
139:2.1 (1550.4) عندما انضم سمعان إلى الرُسل, كان في الثلاثين من عمره. كان متزوجاً ولديه ثلاثة أولاد, وعاش في بيت-صيدا, قرب كفرناحوم. عاش معه شقيقه أندراوس ووالدة زوجته. كان كل من بطرس وأندراوس شركاء في صيد السمك مع أبناء زَبـِدي.
139:2.2 (1550.5) كان السيد قد عرف سمعان لبعض الوقت قبل أن يقَدمه أندراوس كالثاني من الرُسل. عندما أطلق يسوع على سمعان اسم بطرس, فعل ذلك بابتسامة؛ كان ليكون نوعاً من اللقب. كان سمعان معروفاً جيداً لجميع أصدقائه باعتباره زميلًا غريب الأطوار ومندفعًا. صحيح, أنه فيما بعد, ألصق يسوع أهمية جديدة وذات مغزى إلى هذا اللقب المُغدق بخفة.
139:2.3 (1550.6) كان سمعان بطرس رَجُلاً مندفعاً, متفائلاً. كبر وهو يسمح لنفسه بحرية الانغماس في مشاعر قوية؛ كان على الدوام يواجه صعوبات لأنه أصَّر على التكلم بدون تفكير. هذا النوع من عدم التفكير أيضاً تسبب بمتاعب مستمرة لجميع أصدقائه ومرافقيه وكان السبب في تلقيه الكثير من التوبيخ اللطيف من سيده. السبب الوحيد بأن بطرس لم يتورط في المزيد من المتاعب بسبب حديثه الطائش هو أنه تعلم في وقت مبكر للغاية التحدث حول العديد من خططه ومشاريعه مع شقيقه أندراوس, قبل أن يجازف بتقديم اقتراحات علنية.
139:2.4 (1550.7) كان بطرس متكلماً فصيحًا, وبليغًا ودراميًا. كان أيضاً قائداً طبيعياً وملهماً للرجال, مفـَّكر سريع إنما ليس متعقل عميق. طرح الكثير من الأسئلة, أكثر من كل الرُسل مجتمعين, وبينما كانت غالبية هذه الأسئلة جيدة وذات صلة, كان الكثير منها بدون تفكير وحمقاء. لم يكن لدى بطرس عقل عميق, لكنه كان يعرف عقله جيداً. كان لذلك رَجل قرار سريع وعمل مفاجئ. بينما تكلم الآخرون عن دهشتهم لرؤية يسوع على الشاطئ, قفز بطرس وسبح إلى الشاطئ للقاء السيد.
139:2.5 (1551.1) الميزة الواحدة التي كان بطرس أكثر إعجاباً بها في يسوع كانت حنانه الفائق. لم يكل بطرس أبداً من التأمل في صبر يسوع. لم ينس أبداً الدرس عن مسامحة الخاطئ, ليس فقط سبع مرات بل سبع وسبعون مرة. لقد فَكَرَ كثيراً في هذه الانطباعات عن سجية السيد المتسامحة أثناء تلك الأيام المظلمة والكئيبة التي تلت مباشرة إنكاره الطائش وغير المقصود ليسوع في فناء دار رئيس الكهنة.
139:2.6 (1551.2) كان سمعان بطرس متردداً بشكل مفجع؛ قد يتأرجح فجأة من تطرف إلى آخر. أولاً رفض أن يدع يسوع يغسل قدميه وبعدها, عند سماع إجابة السيد توسل أن يُغسل كله. لكن, بعد كل شيء, عَرِف يسوع بأن هفوات بطرس كانت من الرأس وليس من القلب. كان واحداً من التركيبات الأكثر عدم قابلية للتفسير من الشجاعة والجبن التي عاشت أبداً على وجه الأرض. كانت قوة سجيته العظيمة هي الولاء, والصداقة. بطرس حقاً وصدقاً أحب يسوع. ومع ذلك بالرغم من قوة الإخلاص الهائلة هذه إلا أنه كان غير مستقر وغير ثابت لدرجة أنه سمح لخادمة أن تستفزه لإنكار ربه وسيده. كان بإمكان بطرس أن يتحمل الاضطهاد وأي شكل آخر من أشكال الاعتداء المباشر, لكنه ذبل وانكمش أمام الاستهزاء. كان جندياً شجاعاً عندما يواجَه بهجوم أمامي, لكنه كان جباناً متذللاً بالخوف عندما يفاجأ باعتداء من الخلف.
139:2.7 (1551.3) كان بطرس الأول من رُسل يسوع ليتقدم للدفاع عن عمل فيليبُس بين السامريين وبولس بين الأمميين؛ مع ذلك في وقت لاحق في إنطاكية عكس نفسه عندما واجهه المتهكمون من يهودا, منسحب مؤقتاً من الأمميين فقط ليُنزل على رأسه تشهير بولس الجريئ.
139:2.8 (1551.4) كان الأول من الرُسل ليجعل اعترافاً من كل القلب لإنسانية وألوهية يسوع المُركَّبة والأول ــ باستثناء يوداص ــ لينكره. لم يكن بطرس حالِماً للغاية, لكنه كره أن ينحدر من غيوم النشوة وحماس الانغماس الدراماتيكي إلى عالَم الواقع الواضح والواقعي.
139:2.9 (1551.5) في اتباع يسوع, كان بالمعنى الحرفي والمجازي, إما يقود الموكب وإلا يتخلف وراءه ــ "يتبع من بعيد". لكنه كان الواعظ البارز من الاثني عشر؛ فعل أكثر من أي إنسان آخر, باستثناء بولس, لتأسيس الملكوت وإرسال رسله إلى أركان الأرض الأربعة في جيل واحد.
139:2.10 (1551.6) بعد إنكاره المتهور للسيد وجد نفسه, وبتوجيه أندراوس المتعاطف والمتفهم قاد طريق العودة مرة أخرى إلى شباك الصيد بينما انتظر الرُسل لمعرفة ما سيحدث بعد الصلب. عندما تم طمأنته تماماً بأن يسوع قد سامحه وعلم بأنه قد تم استلامه مرة أخرى في حظيرة السيد, اشتعلت نيران الملكوت بوهج للغاية داخل نفـْسه بحيث أصبح نوراً عظيماً ومخَّلصاً إلى ألوف الجالسين في الظلمة.
139:2.11 (1551.7) بعد مغادرته أورشليم وقبل أن يصبح بولس الروح الرائد بين كنائس المسيحيين الأمميين, سافر بطرس على نطاق واسع, زائراً جميع الكنائس من بابل إلى كورينثوس. حتى زار وأسعف إلى كثير من الكنائس التي أقامها بولس, على الرغم من اختلاف بطرس وبولس كثيرًا في المزاج والتعليم, حتى في عِلم اللاهوت, فقد عملا معاً بانسجام من أجل بناء الكنائس خلال سنواتهم اللاحقة.
139:2.12 (1552.1) بعض من أسلوب بطرس وتعليمه مبين في المواعظ التي سجلها لوقا جزئياً وفي إنجيل مرقس. أسلوبه الضليع مبين بشكل أفضل في رسالته المعروفة برسالة بطرس الأولى؛ على الأقل هذا كان صحيحاً قبل أن يتم تغييره لاحقاً بواسطة تلميذ لبولس.
139:2.13 (1552.2) لكن بطرس أصر على ارتكاب خطأ محاولة إقناع اليهود بأن يسوع كان, بعد كل شيء, في الحقيقة وحقاً المسيح اليهودي. حتى إلى يوم وفاته, استمر سمعان بطرس ليكابد ارتباكاً في عقله بين المفاهيم عن يسوع باعتباره المسيح اليهودي, والمسيح باعتباره مُخَلص العالَم, وابن الإنسان باعتباره وَّحياً لله, الأب المحب لكل جنس الإنسان.
139:2.14 (1552.3) كانت زوجة بطرس امرأة قديرة جداً, عملت لسنوات بشكل مقبول كعضو في كتيبة النساء. وعندما أُبعد بطرس عن أورشليم, رافقته على كل رحلاته إلى الكنائس وكذلك في جميع حملاته التبشيرية. ويوم أسلم زوجها اللامع حياته, رُميَت إلى الوحوش البرية في ساحة الألعاب الرياضية في روما.
139:2.15 (1552.4) وهكذا هذا الرَجل بطرس, أليف يسوع, وواحد من الدائرة المقربة, انطلق من أورشليم يعلن البشائر المبهجة للملكوت بقدرة ومجد إلى أن تم ملء إسعافه؛ واعتبر نفسه كمتلقي لشرف عالي عندما أعلمه آسِروه بأنه يجب أن يموت كما مات سيده ــ على الصليب. وهكذا صُلب سمعان بطرس في روما.
139:3.1 (1552.5) يعقوب, الأكبر من ابني زبدي الرسولين الذين لقبهما يسوع "أبناء الرعد", كان في الثلاثين من عمره عندما أصبح رسولاً. كان متزوجاً, لديه أربعة أولاد, وعاش قرب والديه في ضواحي كفرناحوم, بيت-صيدا. كان صياد سمك, يلاحق دعوته برفقة شقيقه الأصغر يوحنا وبالتعاون مع أندراوس وسمعان. تمتع يعقوب وشقيقه يوحنا بميزة كونهما قد عرفا يسوع لمدة أطول من أي من الرُسل الآخرين.
139:3.2 (1552.6) كان هذا الرسول القدير تناقضاً مزاجياً؛ بدا حقاً ليمتلك طبيعتين, وكلتاهما كانت مدفوعة بمشاعر قوية. كان عنيفًا بشكل خاص عندما مرة يُثار سخطه بشكل كامل. كان لديه طبع ناري عندما مرة يُستفَز بشكل كافٍ, وعندما تنتهي العاصفة, كان دائماً ما يبرر ويعذر غضبه بحجة أنه كان كلياً تجلياً لسخط صالح. باستثناء هذه الثورات الدورية من السخط, كانت شخصية يعقوب تشبه إلى حد كبير تلك لأندراوس. لم يكن عنده تعقل أندراوس أو بصيرته للطبيعة البشرية, لكنه كان متكلماً عاماً أفضل بكثير. تالياً إلى بطرس, ما لم يكن متـّى, كان يعقوب أفضل خطيب عام بين الاثني عشر.
139:3.3 (1552.7) ولو إن يعقوب لم يكن مزاجياً بأي حال من الأحوال, كان يمكن أن يكون هادئاَ وقليل الكلام أحد الأيام ومتحدثاً ممتازاً وراوي قصص في اليوم التالي. عادة تحدَث بحرية مع يسوع, لكن بين الاثني عشر, لعدة أيام كان الرجل الصامت. نقطة ضعفه الكبرى كانت نوبات الصمت غير القابلة للتفسير.
139:3.4 (1552.8) كانت السمة البارزة لشخصية يعقوب مقدرته على رؤية جميع جوانب الاقتراح. من بين كل الاثني عشر, جاء الأقرب إلى فهم الأهمية والمغزى الحقيقيان لتعليم يسوع. هو, أيضاً, كان بطيئاً في البداية في فهم معنى السيد, لكن قبل أن ينتهوا من تدريبهم, كان قد اكتسب مفهومًا فائقاً لرسالة يسوع. كان يعقوب قادراً على فهم مدى واسع للطبيعة البشرية, تماشى جيداً مع أندراوس المتعدد البراعات, ومع بطرس المتهور, ومع شقيقه المتحفظ يوحنا.
139:3.5 (1553.1) مع أن يعقوب ويوحنا كان لديهما مشاكلهما في محاولة العمل سوياً, إلا أنه كان من المُلهم ملاحظة مدى التوافق بينهما. لم ينجحا بشكل جيد مثل أندراوس وبطرس, لكنهما فعلا افضل بكثير مما كان يُتوقع عادة من شقيقين, خاصة هكذا شقيقين عنيدين ومصممين. لكن, غريباً كما قد يبدو, هذان الابنان لزَبـِدي كانا اكثر تسامحاً بكثير مع بعضهما مما كانا مع الغرباء. كان لديهما مودة كبيرة لبعضهما, كانا دائماً رفاق لعب سعداء. كان هذان "ابناء الرعد" اللذان أرادا دعوة النار لتنزل من السماء وتهلك السامريين الذين افترضوا أن يُظهروا عدم احترام لسيدهم. لكن موت يعقوب المفاجئ عدل بشكل كبير المزاج المتوقد لشقيقه الأصغر يوحنا.
139:3.6 (1553.2) تلك الصفة ليسوع التي كان يعقوب أكثر إعجاباً بها كانت المودة المتعاطفة للسيد. اهتمام يسوع المتفهم للصغير والكبير, الغني والفقير, أثارت إعجابه كثيرًا.
139:3.7 (1553.3) كان يعقوب زَبـِدي مفكراً ومخططاً حسن الاتزان. إلى جانب أندراوس كان واحداً من الأكثر رصانة في الجماعة الرسولية. كان شخصاً قوياً لكنه لم يكن في عجلة من أمره أبداً. كان عجلة توازن ممتازة لبطرس.
139:3.8 (1553.4) كان متواضعاً وغير درامي, خادم يومي, وعامل غير متظاهر, لا يسعى للحصول على ثواب خاص عندما استوعب ذات يوم المعنى الحقيقي للملكوت. وحتى في قصة أم يعقوب ويوحنا, التي طلبت أن يُمنح إبناؤها أماكن على اليد اليمنى واليد اليسرى ليسوع, يجب التذكّر بأنها كانت الأُم التي جعلت هذا الطلب. وعندما أفادا بأنهما كانا مستعدان لتحمل مثل هذه المسؤوليات, ينبغي إدراك أنهما كانا على بينة من الأخطار المصاحبة لثورة السيد المفترضة ضد قوة الرومان, وبأنهما كانا أيضًا على استعداد لدفع الثمن. عندما سأل يسوع عما إذا كانا مستعدين لشرب الكأس, أجابا بأنهما كانا كذلك. وفيما يتعلق بيعقوب, كان هذا حرفياً صحيح ــ فقد شرب الكأس مع السيد, ناظرين بأنه كان أول من اختبر الاستشهاد من الرسل, حيث تم قتله مبكرًا بالسيف على يد هيرودس أغريبا. كان يعقوب بذلك هو الأول من الاثني عشر ليُضـَّحي بحياته على خط المعركة الجديدة للملكوت. هيرودس أغريبا خاف يعقوب أكثر من كل الرُسل الآخرين. كان في الواقع هادئًا وصامتًا في كثير من الأحيان, لكنه كان شجاعاً وحازماً عندما يتم إثارة قناعاته وتحديها.
139:3.9 (1553.5) عاش يعقوب حياته إلى الملء, وعندما جاءت النهاية, تحَّمَل بهكذا نعمة وثبات لدرجة أن حتى متـَّهمه والمخبر عنه, الذي حضر محاكمته وإعدامه, كان متأثراً للغاية بحيث اندفع بعيداً عن مشهد موت يعقوب لينضم إلى تلاميذ يسوع.
139:4.1 (1553.6) عندما أصبح رسولاً, كان يوحنا في الرابعة والعشرين من عمره وكان الأصغر بين الاثني عشر. كان عازباً وعاش مع والديه في بيت-صيدا؛ كان صياد سمك وعمل مع شقيقه يعقوب بالشراكة مع أندراوس وبطرس. قبل وبعد أن أصبح رسولاً, عمل يوحنا كوكيل شخصي ليسوع في التعامل مع عائلة السيد, واستمر في حمل هذه المسؤولية ما دامت مريم والدة يسوع على قيد الحياة.
139:4.2 (1553.7) بما أن يوحنا كان الأصغر بين الاثني عشر وكان مرتبطاً بشكل وثيق مع يسوع في شؤون عائلته, فقد كان عزيزاً جداً على السيد, لكن لا يمكن أن يقال بصدق أنه كان "التلميذ الذي أحبه يسوع". من الصعب أن تشك بأن تكون شخصية كريمة النفس مثل يسوع مذنبة بإظهار المحاباة, لمحبة أحد رسله أكثر من الآخرين. حقيقة أن يوحنا كان أحد المساعدين الشخصيين الثلاثة ليسوع أعارت صبغة إضافية لهذه الفكرة الخاطئة, ناهيك عن أن يوحنا, مع شقيقه يعقوب, كانا قد عرفا يسوع لمدة أطول من الآخرين.
139:4.3 (1554.1) تم تعيين بطرس, ويعقوب, ويوحنا كمساعدين شخصيين ليسوع بعد أن أصبحوا رسلًا بفترة وجيزة. بعد وقت قصير من اختيار الاثني عشر وفي الوقت الذي عيَّن فيه يسوع أندراوس للعمل كمدير للجماعة, قال له: "والآن أرغب بأن تعَّين اثنين أو ثلاثة من زملائك ليكونوا معي وليبقوا بجانبي, لمؤاساتي ولتلبية احتياجاتي اليومية". وفكر أندراوس أنه من الأفضل أن يختار لهذا الواجب الخاص الرُسل الثلاثة التالين الذين تم اختيارهم أولاً. كان يود أن يتطوع بنفسه لمثل هذه الخدمة المباركة, لكن السيد كان قد سبق وأعطاه تفويضه؛ لذلك أمر على الفور أن يلتحق بطرس, ويعقوب, ويوحنا بيسوع.
139:4.4 (1554.2) كان لدى يوحنا زَبـِدي العديد من سمات السجية المحبوبة, لكن واحدة التي لم تكن محبوبة جداً كانت غروره المفرط ولكن المخفي جيداً عادة. أحدث ارتباطه الطويل الأمد بيسوع تغييرات كثيرة وعظيمة في سجيته. لقد تضاءل هذا الغرور إلى حد كبير, ولكن بعد أن تقدم في السن وأصبح طفولياً إلى حد ما, عاد هذا الاعتداد بالذات إلى الظهور إلى حد معيَن, بحيث أنه, عندما انخرط في توجيه ناثان في كتابة الإنجيل الذي يحمل الآن اسمه, لم يتردد الرسول المُسن بتكرار الإشارة إلى نفسه على أنه "التلميذ الذي أحبه يسوع". نظراً لحقيقة أن يوحنا أتى أقرب لكونه صديق يسوع أكثر من أي بشري آخر على الأرض, وبأنه كان ممثله الشخصي المختار في العديد من الأمور, فليس من الغريب أنه كان يجب أن يعتبر نفسه "التلميذ الذي أحبه يسوع". حيث أنه عرف بأكثر التأكيد أنه التلميذ الذي وثق به يسوع في كثير من الأحيان.
139:4.5 (1554.3) أقوى ميزة في سجية يوحنا كانت إمكانية الإعتماد عليه؛ كان فورياً وشجاعاً, مخْلصاً ومكرَساً, ضعفه الأكبر كان هذا الغرور المميز. كان أصغر أفراد عائلة والده والأصغر في الجماعة الرسولية, ربما كان مُدللاً قليلاً؛ لعله ملاطف قليلاُ فوق اللزوم. لكن يوحنا من بعد سنوات كان شخصأً مختلف النوع تماماً عن الشاب المُعجب بالذات والتعسفي الذي انضم إلى صفوف رُسل يسوع عندما كان في الرابعة والعشرين من عمره.
139:4.6 (1554.4) صِفات يسوع تلك التي قدَّرها يوحنا أكثر كانت محبة السيد وعدم أنانيته؛ جعلت هذه الميزات تأثيراً عليه بحيث أصبحت حياته اللاحقة بأكملها تهيمن عليها مشاعر الحب والتفاني الأخوي. لقد تكلم عن المحبة وكتب عن المحبة. "ابن الرعد" هذا أصبح "رسول المحبة"؛ وفي إفسُس, عندما لم يعد الأسقف المسن قادراً على الوقوف على المنبر والوعظ كان يتعين حمله إلى الكنيسة على كرسي, وعندما كان يطُلب منه في نهاية الخدمة أن يقول بضع كلمات للمؤمنين, كان حديثه الوحيد لسنوات, "يا أطفالي الصغار, أحبوا بعضكم بعضاً".
139:4.7 (1554.5) كان يوحنا رَجلاً قليل الكلام إلا عندما يُثار طبعه. فَكَر كثيراً لكنه قال القليل. مع تقدمه في السن, أصبح طبعه أكثر هدوءاً, ومُتحكَماً به بشكل أفضل, لكنه لم يتغلب أبداً على عدم رغبته في التحدث؛ لم يتقن كلياً أبداً هذا التحفظ. لكنه كان موهوباً بمخيلة رائعة وخلاَّقة.
139:4.8 (1555.1) كان هناك جانب آخر ليوحنا مما لا يتوقع المرء أن يجده في هذا النوع الهادئ والمتعمق. لقد كان متعصباً إلى حد ما وغير متسامح إلى حد كبير. بهذا الصدد كان هو ويعقوب متشابهين إلى حد كبير ــ أراد كِلاهما دعوة النار لتنزل من السماء على رؤوس السامريين العديمي الاحترام. عندما التقى يوحنا ببعض الغرباء الذين يعلمون باسم يسوع, نهاهم على الفور. لكنه لم يكن الوحيد من الاثني عشر الذي كان ملوثاً بهذا النوع من الاعتداد بالذات ووعي التفوق.
139:4.9 (1555.2) تأثرت حياة يوحنا بشكل كبير برؤية يسوع متجولاً بلا منزل حيث أنه كان يعلم مدى إخلاصه في رعاية والدته وعائلته. كما تعاطف يوحنا بعمق مع يسوع بسبب فشل عائلته في فهمه, مدركاً بأنهم كانوا ينسحبون منه تدريجياً. هذا الموقف برمته سوية مع إرجاء يسوع الدائم لأضأل رغباته إلى مشيئة الأب في السماء وحياته اليومية القائمة على الثقة الضمنية, تركت انطباعاً عميقاً على يوحنا بحيث أدت إلى تغييرات ملحوظة ودائمة في سجيته. تغييرات التي أظهرت ذاتها طوال حياته اللاحقة.
139:4.10 (1555.3) كان لدى يوحنا شجاعة رائعة وجريئة لم يمتلكها سوى القليل من الرُسل. كان الرسول الوحيد الذي تبع إلى جانب يسوع ليلة إلقاء القبض عليه وتجرأ على مرافقة سيده نحو فكي الموت. كان حاضراً وفي متناول اليد حتى إلى أخر ساعة أرضية ووُجد يقوم بأمانته بإخلاص فيما يتعلق بوالدة يسوع وعلى استعداد لتلقي هذه التعليمات الإضافية التي قد تُعطى خلال اللحظات الأخيرة لوجود السيد الفاني. شيء واحد مؤكد, كان يمكن الإعتماد على يوحنا تماماً. جلس يوحنا عادة على يد يسوع اليمنى عندما جلس الاثني عشر عند الطعام. كان الأول من الاثني عشر الذي حقاً وكلياً آمن بالقيامة, وكان الأول ليتعرف على السيد عندما أتى إليهم على شاطئ البحر بعد قيامته.
139:4.11 (1555.4) كان ابن زَبـِدي هذا على صِلة وثيقة جداً ببطرس في النشاطات المبكرة للحركة المسيحية, وأصبح أحد الداعمين الرئيسيين لكنيسة أورشليم, كان اليد اليمنى الداعمة لبطرس في يوم العنصرة.
139:4.12 (1555.5) بعد عدة سنوات من استشهاد يعقوب, تزوج يوحنا أرملة شقيقه. في السنوات العشرين الأخيرة من حياته كان يُعتنى به من قِبل حفيدة مُحِبة.
139:4.13 (1555.6) كان يوحنا في السجن عدة مرات ونُفي إلى جزيرة باتموس لمدة أربع سنوات إلى أن جاء إمبراطور آخر إلى السلطة في روما. لو لم يكن يوحنا لبقاً وفطناً, لكان بدون شك قد قُتل كشقيقه الأكثر صراحة يعقوب. بمرور السنين, يوحنا, سوية مع يعقوب شقيق الرب, تعلما ممارسة المصالحة الحكيمة عندما يمتثلان أمام القضاة المدنيين. وجَدا بأن "الجواب اللين يُبعد السخط". كما تعلما أن يُمثلا الكنيسة على أنها "أخوية روحية مكرسة للخدمة الاجتماعية للبشرية " بدلاً من "ملكوت السماء". علما الخدمة المُحبة بدلاً من السلطة الحاكمة ــ مملكة وملك.
139:4.14 (1555.7) عندما في المنفى المؤقت في باتموس, كتب يوحنا كتاب الرؤيا, الذي لديكم الآن بشكل مختصر ومشوّه إلى حد كبير. كتاب الرؤيا هذا يحتوي الأجزاء الباقية من وحي عظيم, الذي فقدت أجزاء كبيرة منه, وأزيلت أجزاء أخرى منه لاحقاً إلى كتابة يوحنا. إنه محفوظ فقط بشكل مجزأ ومزيف.
139:4.15 (1555.8) سافر يوحنا كثيراً, وعمل بدون انقطاع, وبعد أن أصبح أسقفاً لكنائس آسيا استقر في إفسُس. وجَّه زميله, ناثان, في كتابة ما يسمى بـ "الإنجيل وفقاً ليوحنا", في إفسُس, عندما كان عمره تسعة وتسعين عامًا. من بين جميع الرُسل الاثني عشر, أصبح يوحنا زَبـِدي في النهاية اللاهوتي البارز. مات موتاً طبيعياً في إفسُس عام 103 م. عندما كان عمره مائة سنة وسنة.
139:5.1 (1556.1) كان فيليبُس الرسول الخامس الذي تم اختياره, حيث تم استدعاءه عندما كان يسوع ورُسله الأربعة الأوائل في طريقهم من لقاء يوحنا على الأردن إلى قانا الجليل. حيث إنه عاش في بيت-صيدا, كان فيليبُس قد عرف عن يسوع لبعض الوقت, لكن لم يخطر بباله أن يسوع كان رَجلاً عظيماً حقاً حتى ذلك اليوم في وادي الأردن عندما قال, "اتبعني". كذلك كان فيليبُس نوعاً ما متأثراً بحقيقة أن أندراوس, وبطرس, ويعقوب, ويوحنا قبلوا يسوع باعتباره المخَلص.
139:5.2 (1556.2) كان فيليبُس في السابعة والعشرين من عمره عندما انضم إلى الرُسل؛ كان قد تزوج حديثاً, لكن لم يكن لديه أطفال في هذا الوقت. اللقب الذي أطلقه عليه الرُسل عنى "فضول". كان فيليبُس دائماً يريد أن يُظهَر لم يبد أبدًا أنه يرى بعيداً جداً نحو أي اقتراح. لم يكن بالضرورة بليداً, لكنه كان يفتقر إلى المخيلة. نقص المخيلة هذا كان الضعف الكبير في سجيته. كان فرداً اعتيادياً وأمر واقعي.
139:5.3 (1556.3) عندما تم تنظيم الرُسل من أجل الخدمة, تم تعيين فيليبُس مُضيفاً؛ كان من واجبه أن يرى أنهم مزودون في جميع الأوقات بالمؤن. وكان مُضيفاً جيداً. كانت أقوى سماته دقته المنهجية؛ كان معاً رياضيا ومنهجيا.
139:5.4 (1556.4) جاء فيليبُس من عائلة مكونة من سبعة, ثلاثة صبيان وأربع بنات. كان التالي إلى الأكبر, وبعد القيامة قام بتعميد عائلته كلها في الملكوت. كان شعب فيليبُس صيادي أسماك. كان والده رَجلاً قديراً جداً, ومفكرًا عميقًا, لكن والدته كانت من عائلة متواضعة للغاية. لم يكن فيليبُس الرَجل الذي يمكن أن يُتوقع منه القيام بأشياء كبيرة, لكنه كان الرَجل الذي يمكن أن يقوم بأشياء صغيرة بطريقة كبيرة, ويقوم بها بشكل جيد مقبول. فقط مرات قليلة في أربع سنوات فشل في أن يكون لديه طعام متوفر لتلبية احتياجات الجميع. حتى المتطلبات الطارئة الكثيرة المصاحبة للحياة التي عاشوها قلما وجدته غير مستعد. كانت دائرة الأقوات للعائلة الرسولية تُدار بذكاء وكفاءة.
139:5.5 (1556.5) كانت النقطة القوية حول فيليبُس موثوقيته المنهجية؛ كانت نقطة الضعف في تركيبته افتقاره التام للمخيلة, عدم القدرة على الجمع بين اثنين واثنين للحصول على أربعة. كان رياضياً بشكل مجرد ولكنه لم يكن بنَّاءً في مخيلته. كان تقريباً معوز كلياً في أشكال معينة من المخيلة. كان الرَجل المتوسط والاعتيادي النموذجي لكل يوم. كان هناك عدد كبير جداً من هكذا رجال ونساء بين الجموع الذين أتوا لسماع يسوع يعَّلِم ويعظ, وقد استمدوا عزاءًا كبيرًا من مراقبة شخص مثلهم يُرفع إلى مركز مُشَّرَف في مجالس السيد؛ استمدوا شجاعة من حقيقة أن واحد مثلهم قد وجد بالفعل مكانة عالية في شؤون الملكوت. ويسوع تعَّلم الكثير عن الطريقة التي تعمل بها عقول بعض البشر بينما استمع بصبر للغاية إلى أسئلة فيليبُس الحمقاء ومرات عديدة استجاب إلى مطلب مُضيفه بأن "يُظهر".
139:5.6 (1556.6) الميزة الواحدة عن يسوع التي أُعجب بها فيليبُس باستمرار كانت كرم السيد الراسخ. لم يتمكن فيليبُس من العثور على أي شيء في يسوع الذي كان صغيراً, أو بائسًا, أو بخيلاً, وقد عبد هذا السخاء الدائم الذي لا ينضب.
139:5.7 (1557.1) كان هناك القليل عن شخصية فيليبُس مما كان مثيراً للإعجاب. كان غالباً يُتكلم عنه باسم "فيليبُس بيت-صيدا, البلدة حيث عاش أندراوس وبطرس". كان يكاد يكون بلا رؤيا مميِزة؛ كان غير قادر على فهم الاحتمالات الدراماتيكية لموقف معين. لم يكن متشائماً؛ كان ببساطة ركيكاً. كما كان يفتقر بشكل كبير إلى البصيرة الروحية. لم يتردد في مقاطعة يسوع في خضم إحدى أعمق خطابات السيد ليطرح سؤالاً أحمق على ما يبدو. لكن يسوع لم يوبخه قط على مثل هذا التهور؛ كان يسوع صبوراً معه ومتفهمًا لعجزه عن فهم أعمق معاني التعليم. عرف يسوع جيداً بأنه, إذا وبَّخ فيليبُس مرة لطرحه هذه الأسئلة المزعجة, فهو لن يجرح هذه النفـْس الأمينة فحسب, لكن هذا التأنيب سيؤذي فيليبُس للغاية بحيث لن يعود يشعر بالحرية لطرح الأسئلة مرة أخرى. عرف يسوع بأن على عوالمه الفضائية كان هناك مليارات لا تُحصى من البشر بطيئي التفكير بالمثل, وأراد أن يشجعهم جميعًا للتطلع إليه وأن يشعروا دائماً بالحرية في المجيء إليه بأسئلتهم ومشاكلهم. بعد كل شيء, كان يسوع مهتماً حقاً بأسئلة فيليبُس الحمقاء أكثر من الموعظة التي قد يعظها. كان يسوع مهتماً بالناس للغاية, كل أنواع الناس.
139:5.8 (1557.2) لم يكن المُضيف الرسولي متحدثًا عاماً جيداً, لكنه كان عاملاً شخصيًا ناجحًا ومقنعًا للغاية. لم يكن من السهل تثبيط عزيمته؛ كان كادحاً وومثابراً جداً في أي شيء أخذه على عاتقه. كان لديه تلك الموهبة العظيمة والنادرة للقول, "تعال". عندما مهتديه الأول, نثانئيل, أراد أن يناقش مزايا وعيوب يسوع والناصرة, كان رد فيليبُس الفعّال, "تعال وانظر". لم يكن الواعظ الجازم الذي يحض سامعيه أن "اذهبوا": ــ افعلوا هذا وافعلوا ذلك. هو لاقى جميع المواقف عندما نشأت في عمله مع "تعال" ــ "تعال معي؛ سأريك الطريق". وذلك هو دائماً الأسلوب الفعّال في جميع أشكال ومراحل التعليم. حتى الآباء قد يتعلمون من فيليبُس الطريقة الأفضل للقول لأولادهم ليس "اذهبوا افعلوا هذا أو اذهبوا افعلوا ذلك", بل بالأحرى "تعالوا معنا بينما نريكم الطريقة الأفضل ونشاركها معكم".
139:5.9 (1557.3) إن عجز فيليبُس عن التكيف مع موقف جديد كان مبيَّناً بشكل جيد عندما جاء إليه اليونانيون في أورشليم, قائلين: "سيدي, نرغب في رؤية يسوع". الآن كان فيليبُس سيقول لأي يهودي يسأل مثل هذا السؤال, "تعال". لكن هؤلاء الرجال كانوا أجانب, وفيليبُس لم يتذكّر أي إرشادات من رؤسائه بشأن مثل هذه الأمور؛ لذلك كان الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يفكر في فعله هو استشارة الرئيس, أندراوس, وبعد ذلك اصطحب كِلاهما اليونانيين المستفسرين إلى يسوع. بالمثل, عندما ذهب إلى السامره يعظ ويعَّمد المؤمنين, كما كان قد أُرشد من قبل سيده, امتنع عن وضع اليدين على مهتدييه كرمز لاستلامهم روح الحق. قام بذلك بطرس ويوحنا, اللذان نزلا في الحاضر من أورشليم لمعاينة عمله نيابة عن الكنيسة الأُم.
139:5.10 (1557.4) استمر فيليبُس خلال الأوقات العصيبة لوفاة السيد, شارك في إعادة تنظيم الاثني عشر, وكان أول من ينطلق لكسب نفوس من أجل الملكوت خارج الصفوف اليهودية المباشرة, كائن الأكثر نجاحاً في عمله من أجل السامريين وفي جميع أعماله اللاحقة لصالح الإنجيل.
139:5.11 (1557.5) زوجة فيليبُس, التي كانت عضواً فعالاً في كتيبة النساء, أصبحت مرتبطة بنشاط مع زوجها في عمله الإنجيلي بعد هروبهما من الاضطهادات في أورشليم. كانت زوجته امرأة عديمة الخوف. وقفت عند أسفل صليب فيليبُس تشجعه على إعلان البشائر حتى إلى قاتليه, وعندما فشلت قوته, بدأت بتلاوة قصة الخلاص بالإيمان في يسوع, ولم يتم إسكاتها إلا عندما اندفع عليها اليهود الغاضبون ورجموها حتى الموت. ابنتهما الكبرى, ليئه, واصلت عملهما, لتصبح فيما بعد نبية هيرابولِس الشهيرة.
139:5.12 (1558.1) فيليبُس, المُضيف في أحد الأوقات للاثني عشر, كان رَجلاً قديراً في الملكوت, يكسب النفوس أينما ذهب؛ وفي النهاية صُلب من أجل إيمانه ودُفن في هيرابولِس.
139:6.1 (1558.2) نثانئيل, السادس والأخير من الرُسل الذين اختارهم السيد بنفسه, أُحضره صديقه فيليبُس إلى يسوع. كان مرتبطًا بعدة مشاريع عمل مع فيليبُس, ومعاً, كانا في الطريق لرؤية يوحنا المعمدان عندما قابلا يسوع.
139:6.2 (1558.3) عندما انضم نثانئيل إلى الرُسل, كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا وكان التالي إلى الأصغر من الجماعة. كان الأصغر في عائلة مكونة من سبعة أفراد, غير متزوج, والمعيل الوحيد لأبويه المسنين والواهنين, الذين عاش معهما في قانا؛ كان إخوته وأخواته إما متزوجين أو متوفين, ولم يعش أي منهم هناك. كان نثانئيل ويوداص إسخريوط الرَجلان الأفضل تعليماً بين الاثني عشر. كان نثانئيل يفكّر في أن يصبح تاجراً.
139:6.3 (1558.4) لم يُلقب يسوع نثانئيل بنفسه, لكن سرعان ما بدأ الاثني عشر يتحدثون عنه بعبارات تدل على الأمانة, الإخلاص. كان "لا غش فيه". وكانت هذه فضيلته العظيمة؛ كان معاُ أميناً ومُخْلصاً. كان ضعف سجيته فخره؛ كان فخوراً جداً بأسرته, ومدينته, وسمعته, وأمته, كل ما هو جدير بالثناء ما لم يُحمَل بعيداً جداً. لكن نثانئيل كان ميالاً للذهاب إلى أقصى التطرف في تحيزاته الشخصية. كان يميل إلى الحكم المسبق على الأفراد وفقاُ لآرائه الشخصية. لم يكن بطيئاً في طرح السؤال, حتى قبل أن يقابل يسوع, "أيمكن أن يأتي أي شيء صالح من الناصرة؟" لكن نثانئيل لم يكن متشبثاً برأيه, حتى ولو كان فخوراً. كان سريعاً في عكس نفسه متى ما نظر مرة إلى وجه يسوع.
139:6.4 (1558.5) في نواحٍ عديدة كان نثانئيل النابغة الفريد للاثني عشر. كان الفيلسوف والحالم الرسولي, لكنه كان حالماً من النوع العملي جداً. تناوب بين فصول من الفلسفة المتعمقة وفترات من الفكاهة النادرة والمُضحكة؛ عندما في مزاج جيد, كان على الأرجح أفضل راوي بين الاثني عشر. استمتع يسوع كثيراً بسماع محاضرات نثانئيل حول الأمور الجادة والتافهة. أخذ نثانئيل بشكل تدريجي يسوع والملكوت بجَّدية أكثر, لكنه لم يأخذ نفسه على محمل الجد أبداً.
139:6.5 (1558.6) كل الرُسل أحبوا نثانئيل وأحترموه, واتفق معهم بشكل رائع, ما عدا يوداص إسخريوط. لم يعتقد يوداص بأن نثانئيل أخذ رسوليته على محمل الجد بما فيه الكفاية ومرة تهور بالذهاب سِراً إلى يسوع وتقديم شكوى ضده. قال يسوع: "يوداص, راقب بعناية خطواتك؛ لا تُعَّظم مركزك أكثر من اللازم. من منا مؤهل للحكم على إخوته؟ إنها ليست مشيئة الأب بأن يتناول ولاده فقط الأمور الجادة في الحياة. دعني أكرر: لقد جئت حتى يكون لإخوتي في الجسد فرح, وابتهاج, وحياة أكثر وفرة. اذهب إذن, يوداص, وافعل جيداً ما استؤمن إليك لكن اترك نثانئيل, أخيك, ليعطي حساباً عن نفسه إلى الله". وذكرى هذا, مع تلك للعديد من التجارب المماثلة, عاشت طويلاً في قلب يوداص إسخريوط المخادع-للذات.
139:6.6 (1559.1) في كثير من الأحيان, عندما كان يسوع غائباً على الجبل مع بطرس, ويعقوب, ويوحنا, وأصبحت الأمور متوترة ومتشابكة بين الرُسل, عندما حتى أندراوس كان في شك فيما سيقوله لإخوته البائسين, كان نثانئيل يخفف التوتر بقليل من الفلسفة أو بومضة فكاهة؛ فكاهة جيدة, أيضاً.
139:6.7 (1559.2) كان واجب نثانئيل هو رعاية عائلات الاثني عشر. غالباً ما كان غائباً عن المجالس الرسولية, لأنه عندما سمع بأن مرضًا أو أي شيء خارج عن المألوف قد أصاب إحدى تعهداته, لم يضيع أي وقت في الوصول إلى ذلك البيت. استراح الاثنا عشر بأمان في معرفة أن رفاهية أسرهم آمنة في يدي نثانئيل.
139:6.8 (1559.3) أكثر ما كان نثانئيل يحترم يسوع من أجل طول أناته. لم يكل أبداً من التفكير في رحابة الصدر والتعاطف السخي لابن الإنسان.
139:6.9 (1559.4) توفي والد نثانئيل (بارثولوميو) بعد فترة وجيزة من العنصرة, الذي بعده ذهب هذا الرسول إلى بلاد ما بين النهرين والهند معلناً البشائر المبهجة للملكوت ومعَّمداً المؤمنين. لم يعرف إخوانه قط ما حل بفيلسوفهم, وشاعرهم, والفكاهي في أحد الأوقات. لكنه كان أيضًا رَجلاً عظيماً في الملكوت وقام بالكثير لنشر تعاليم السيد, حتى ولو أنه لم يشارك في تنظيم الكنيسة المسيحية اللاحقة. توفي نثانئيل في الهند.
139:7.1 (1559.5) متـّى, الرسول السابع, اختاره أندراوس. كان متـّى ينتمي إلى عائلة من جباة الضرائب, أو العشارين, لكنه كان هو نفسه جامعًا للجمارك في كفرناحوم, حيث كان يعيش. كان في الحادية والثلاثين من عمره ومتزوج ولديه أربعة أطفال. كان رَجلاً معتدل الثراء, الوحيد الذي لديه وسائل الذي ينتمي إلى الكتيبة الرسولية. كان رَجل أعمال جيد, ومختلط اجتماعي جيد, وكان موهوباً بالمقدرة على تكوين أصدقاء والتعايش بسلاسة مع أنواع كثيرة من الناس.
139:7.2 (1559.6) قام أندراوس بتعيين متـّى الممثل المالي للرُسل. بطريقة ما كان الوكيل المالي والمتحدث العلني للمنظمة الرسولية. كان حكماً فطناً للطبيعة البشرية وداعيًا فعالاً للغاية. شخصيته يصعب تخيلها, لكنه كان تلميذا جاداً ومؤمناً متزايداً في مهمة يسوع وفي يقين الملكوت. يسوع لم يعطي لاوي لقباً أبداً, لكن زملاءه الرُسل أشاروا إليه عمومًا باسم "محَّصل المال".
139:7.3 (1559.7) كانت نقطة لاوي القوية إخلاصه من كل القلب للقضية. بأنه, عشار, قُبل بيسوع ورُسله كان سببًا للإمتنان الساحق من جانب جابي الإيرادات السابق. ومع ذلك, فقد تطلب الأمر القليل من الوقت لبقية الرُسل, ولا سيما سمعان زيلوطس ويوداص إسخريوط لكي يتصالحوا مع وجود العشار في وسطهم. كان ضُعف متـّى هو قصر نظره ونظرته المادية للحياة. لكن في كل هذه الأمور أحرز تقدماً كبيراً بمرور الشهور. كان عليه, بالطبع, أن يتغيب عن كثير من أثمن فصول التعليم حيث كان من واجبه الحفاظ على الخزينة متجددة.
139:7.4 (1559.8) لقد كان مزاج السيد المتسامح هو أكثر ما يقدره متـّى. لن يتوقف أبدًا عن إعادة ذِكر أن الإيمان كان ضرورياً فقط في عمل إيجاد الله. كان يحب دائمًا التحدث عن الملكوت على أنه "عمل إيجاد الله".
139:7.5 (1560.1) ولو إن متـّى كان رجلاً له ماضٍ, إلا أنه قدم تقريراً ممتازاً عن نفسه, ومع مرور الوقت, أصبح رفاقه فخورين بأداءات العشار. كان واحداً من الرُسل الذين قدموا ملاحظات مستفيضة حول أقوال يسوع, وقد استخدمت هذه الملاحظات كأساس لرواية إسادور اللاحقة لأقوال وأفعال يسوع, التي أصبحت معروفة بالإنجيل وفقاً لمتـّى.
139:7.6 (1560.2) كانت حياة متـّى العظيمة والنافعة, رجل الأشغال وجابي جمارك كفرناحوم, وسيلة لإرشاد الآلاف على الآلاف من رجال الأعمال, والمسؤولين, والسياسيين الآخرين, نزولاً خلال العصور اللاحقة, أيضًا لسماع ذلك الصوت الجذاب للسيد قائلاً, "اتبعني". كان متـّى سياسياً حاذقًا حقًا, لكنه كان مخلصًا للغاية ليسوع ومكرساً بسمو لرؤية بأن رسل الملكوت الآتي كانوا ممولين بشكل كافٍ.
139:7.7 (1560.3) كان وجود متـّى بين الاثني عشر الوسيلة لإبقاء الملكوت مفتوحاً على مصراعيه لجماهير النفوس المغتمة والمنبوذة الذين اعتبروا أنفسهم لأمد طويل بدون حدود للعزاء الدِيني. توافد رجال ونساء يائسين ومنبوذين لسماع يسوع, وهو لم يُرجع واحد أبداً.
139:7.8 (1560.4) تلقى متـّى عروض مقدمة مجاناً من تلاميذ مؤمنين ومستمعين مباشرين لتعاليم السيد, لكنه لم يلتمس الأموال علانية من الجموع. قام بكل أعماله المالية بطريقة هادئة وشخصية وجمَّع معظم المال من بين الطبقة الأكثر ثراء من المؤمنين المهتمين. أعطى عملياً كل ثروته المتواضعة لعمل السيد ورُسله, لكنهم لم يعرفوا أبداً عن هذا الكرَم, باستثناء يسوع, الذي عرف كل شيء عنه. تردد متـّى في المساهمة علانية إلى الأموال الرسولية خوفاً من أن يسوع وزملاءه قد يعتبرون ماله ملوثاً؛ لذلك أعطى الكثير في أسماء مؤمنين آخرين. خلال الأشهُر الأبكر, عندما علم متـّى أن وجوده بينهم كان إلى حد ما إختبار, كان مُغرى بشدة ليدعهم يعرفون بأن أمواله زودتهم غالباً بخبزهم اليومي. لكنه لم يستسلم. عندما كان دليل ازدراء العشار يصبح ظاهراً, كان لاوي يحترق ليكشف لهم كَرَمه, لكنه كان دائماً يدبر ليبقى ثابتاً.
139:7.9 (1560.5) عندما كانت أموال الأسبوع تنقص عن المتطلبات المقـَّدرة, كان لاوي يسحب غالباً بثقل من موارده الشخصية الخاصة. أيضًا, في بعض الأحيان عندما أصبح مهتماً جداً بتعليم يسوع, فضَّل البقاء وسماع الإرشاد, ولو إنه عرف بأنه يجب عليه شخصياً أن يعوض عن فشله في التماس الأموال اللازمة. لكن لاوي تمنى جداً لو أن يسوع يعرف بأن الكثير من المال جاء من جيبه! قليلاً أدركَ بأن السيد يعرف كل شيء عن ذلك. مات كل الرُسل دون أن يعرفوا بأن متـّى كان المحسن إليهم إلى المدى بأنه, عندما انطلق ليعلن إنجيل الملكوت بعد بداية الاضطهادات, كان عملياً مُفلس.
139:7.10 (1560.6) عندما تسببت هذه الاضطهادات للمؤمنين في أن يهجروا أورشليم, سافر متـّى شمالاً, واعظاً إنجيل الملكوت ومعمداً المؤمنين. لقد ضاع إلى معرفة زملائه الرسوليين السابقين, لكنه استمر يعظ ويعَّمد, خلال سوريا, وكابادوشيا, وغالاشيا, وبيثاينيا, وتراقيا. ولقد كان في تراقيا, عند ليسِماشيا, أن بعض اليهود غير المؤمنين تآمروا مع الجنود الرومان لحصر موته. وهذا العشار المتجدد مات ظافراً في الإيمان بالخلاص الذي تعلمه بكل تأكيد من تعاليم السيد أثناء حلوله الحديث على الأرض.
139:8.1 (1561.1) كان توما الرسول الثامن, واختاره فيليبُس. في أوقات لاحقة أصبح معروفاً باسم "توما المتشكك", لكن الرُسل زملاءه بالكاد ينظرون إليه باعتباره مرتاباً مُزمناً. صحيح, أن عقله كان من النوع المنطقي, المرتاب, لكن كان لديه نوع من الولاء الشجاع الذي منع أولئك الذين عرفوه عن كثب من اعتباره متشككاً عابثاً.
139:8.2 (1561.2) عندما انضم توما إلى الرُسل, كان في التاسعة والعشرين من عمره, كان متزوجاً ولديه أربعة أطفال. كان سابقاً نجاراً وحجّاراً, لكن مؤخراً كان قد أصبح صياد سمك وأقام في تاريشيا, الواقعة على الضفة الغربية لنهر الأردن حيث يتدفق إلى بحر الجليل, وكان يُعتبَر كالمواطن الرئيسي لهذه القرية الصغيرة. كان لديه القليل من التعليم, لكنه امتلك عقلاً فطناً, ومتعقلاً وكان ابناً لوالدين ممتازين عاشا في طبريا. كان لدى توما العقل التحليلي الحقيقي الوحيد بين الاثني عشر؛ كان العالِم الحقيقي للجماعة الرسولية.
139:8.3 (1561.3) كانت حياة البيت المبكرة لتوما مؤسفة؛ لم يكن والديه جملةً سعداء في حياتهما الزوجية, وقد انعكس ذلك على تجربة توما البالغة. نما لديه مزاج بغيض ومحب للعراك للغاية. حتى زوجته كانت سعيدة لرؤيته ينضم إلى الرُسل؛ شعرت بالارتياح لفكرة أن زوجها المتشائم سيكون بعيداً عن البيت معظم الوقت. كذلك كان لدى توما عرقٌ من الريبة الذي جعل من الصعب جدًا التعايش معه بسلام. كان بطرس منزعجاً جداً من توما في البداية, متذمراً لشقيقه, أندراوس, بأن توما كان "لئيماً, وقبيحاً, ودائماً مرتاب". لكن كلما عرف زملاؤه توما بشكل أفضل, زاد حبهم له. وجدوا بأنه كان أميناً بشكل رائع ومخلصاً بلا شك. لقد كان مخلصاً تماماً وصادقاً بلا أدنى شك, لكنه كان واجداً للخطأ بالفطرة ونشأ ليصبح متشائماً حقيقياً. كان عقله التحليلي قد أصبح ملعوناً بالريبة. كان يفقد إيمانه بسرعة في زملائه الرجال عندما أصبح مرتبطاً بالاثني عشر وبالتالي أصبح على اتصال مع طبع يسوع النبيل. هذا العلاقة مع السيد بدأت على الفور بتحويل كل مزاج توما وإحداث تغييرات كبيرة في ردود أفعاله العقلية تجاه زملائه الرجال.
139:8.4 (1561.4) كانت قوة توما العظيمة عقله التحليلي الرائع, إلى جانب شجاعته التي لا تتزعزع ــ عندما مرة عقد قراره في عقله. كان ضعفه الكبير شكه المرتاب, الذي لم يتغلب عليه بالكامل طوال حياته في الجسد.
139:8.5 (1561.5) في تنظيم الاثني عشر تم تكليف توما بترتيب وإدارة خط مسار التنقلات, وكان مديراً مقتدرًا لعمل وحركات الكتيبة الرسولية. لقد كان مديراً تنفيذياً جيداً, ورَجل أعمال ممتاز, لكنه كان معاقاً بأمزجته الكثيرة؛ كان رَجلاً واحداً في أحد الأيام ورَجلاً آخر في اليوم التالي. كان ميالاً للإستغراق الكئيب عندما التحق بالرُسل, لكن الاتصال مع يسوع والرُسل شفاه إلى حد كبير من هذا التأمل الباطني المَرضي.
139:8.6 (1561.6) استمتع يسوع بتوما كثيراً وكان لديه الكثير من المحادثات الشخصية الطويلة معه. كان حضوره بين الرُسل عزاءً كبيراً لكل المشككين الأمناء وشجع الكثير من العقول المضطربة على القدوم إلى الملكوت, حتى لو لم يتمكنوا من فهم كل شيء بشكل كلي عن الأطوار الروحية والفلسفية لتعاليم يسوع. كانت عضوية توما في الاثني عشر إعلاناً راسخاً بأن يسوع أحب حتى المشككين الصادقين.
139:8.7 (1562.1) كان الرُسل الآخرون يقدسون يسوع بسبب بعض السمات الخاصة والمتميزة لشخصيته المليئة بالحيوية, لكن توما كان يوقر سيده بسبب سجيته المتوازنة بشكل رائع. كان توما معجباً وكرَّم على نحو متزايد مَن كان رحيماً للغاية ومع ذلك بعناد للغاية عادل ومُنصف؛ حازم جداً لكن ليس أبداً عنيد؛ هادئ للغاية لكن ليس أبداً غير مبال؛ متعاون للغاية ومتعاطف للغاية لكن ليس أبداً متطفلاً أو ديكتاتورياً؛ قوي جداً لكن في نفس الوقت لطيف جداً؛ إيجابي جداً لكن ليس أبداً خشناً أو فظاً؛ لين جداً لكن ليس أبداً متذبذباً؛ نقي وبريء للغاية لكن في الوقت نفسه كامل الرجولة للغاية, ومغامر, وقوي؛ شجاع حقاً لكن ليس أبداً متسرعاً أو متهوراً؛ محب للطبيعة جداِ ولكنه خالٍ تماماً من أي ميل لتبجيل الطبيعة؛ فكاهي جداُ ومرح للغاية إنما حر جداً من الرعونة والاستهتار. لقد كان هذا التناسق الذي لا نظير له للشخصية هو ما سحر توما. هو على الأرجح تمتع بأعلى تفـَّهم فكري وتقدير لشخصية يسوع أكثر من أي من الاثني عشر.
139:8.8 (1562.2) كان توما دائماً حَذراً في مجالس الاثني عشر, محبذاً سياسة السلامة أولاً, لكن إذا تم التصويت ضد تحفظه أو استـُبعد, كان دائماً أول من يخرج بلا خوف لتنفيذ البرنامج المقرَر. المرة بعد المرة سيقف ضد مشروع ما باعتباره متهوراً وجسوراً؛ هو سيناقش حتى النهاية المُرة, لكن عندما كان أندراوس يطرح الاقتراح للتصويت, وبعد أن يختار الاثني عشر أن يفعلوا ما عارضه بشدة, كان توما الأول ليقول, "لنذهب"! كان خاسراً جيداً. لم يحمل ضغائن ولا ربى مشاعر مجروحة. عارض مراراً وتكراراً ترك يسوع يعَّرض نفسه للخطر, لكن عندما كان السيد يقرر أن يأخذ تلك المجازفات, كان دائماً توما الذي حشد الرُسل بكلماته الشجاعة. "تعالوا, يا رفاق, فلنذهب ونموت معه".
139:8.9 (1562.3) كان توما في بعض النواحي مثل فيليبُس, هو أيضًا أراد "أن يُظهر", لكن تعبيراته الظاهرية للشك كانت مستندة على عمليات فكرية مختلفة تماماً. كان توما تحليلياً, ليس مجرد متشكك. بقدر ما يتعلق الأمر بالشجاعة الجسدية الشخصية, كان واحداً من الأشجع بين الاثني عشر.
139:8.10 (1562.4) كانت لدى توما بعض الأيام السيئة للغاية, كان منقبض الصدر ومكتئباً في بعض الأوقات. كان فقدان شقيقته التوأم عندما كان في التاسعة من عمره الباعث لكثير من أحزان شبابه وقد زادت إلى مشاكله المزاجية في الحياة فيما بعد. عندما كان توما يصبح يائساً, أحياناً كان نثانئيل الذي ساعده ليتعافى, وأحياناً بطرس, وليس نادراً واحد من التوأم الألفيوس. عندما كان يشعر بالاكتئاب الشديد, لسوء الحظ كان دائماً يحاول تجنب المجيء في اتصال مباشر مع يسوع. لكن السيد عرف بكل هذا وكان لديه تعاطف متفهم لرسوله عندما كان هكذا مبتلىً بالغم ومنزعج بالشكوك.
139:8.11 (1562.5) في بعض الأحيان كان توما يحصل على إذن من أندراوس ليذهب بنفسه ليوم أو يومين. لكنه سرعان ما تعلـَّم بأن ذلك السلوك لم يكن حكيماً؛ وجد في وقت مبكر أنه كان من الأفضل, عندما يكون منقبض الصدر, أن يبقى قريباً من عمله وأن يظل بالقرب من زملائه. لكن بصرف النظر عما حدث في حياته العاطفية, فقد بقي مستقيماً على كونه رسولاً. عندما حان الوقت فعلياً للمضي قُدماً, كان دائماً توما الذي قال, "لنذهب"!
139:8.12 (1562.6) توما هو المثال العظيم للإنسان الذي لديه شكوك, يواجهها وينتصر. كان لديه عقل عظيم؛ لم يكن ناقداً مندداً. كان مفكراً منطقياً؛ كان الإختبار الحمضي ليسوع وزملائه الرُسل. إذا لم يكن يسوع وعمله أصليين, لما كان بإمكانه أن يحوز رَجل مثل توما من البداية إلى النهاية. كان لديه شعور فَطن ومؤكد للحقيقة. عند أول ظهور للإحتيال أو الخداع كان توما سيتخلى عنهم جميعاً. قد لا يفهم العلماء تماماً كل شيء عن يسوع وعمله على الأرض, لكن هناك عاش وعمل مع السيد وزملائه البشريين رَجلاً كان عقله مثل ذلك لعالِم حقيقي ــ توما ديدايموس ــ وكان يؤمن بيسوع الناصري.
139:8.13 (1563.1) واجه توما وقتاً عصيباً أثناء أيام المحاكمة والصلب. كان لفصل في أعماق اليأس, لكنه استجمع شجاعته والتصق بالرُسل, وكان حاضراً معهم ليُرَّحبوا بيسوع على بحر الجليل. لفترة من الوقت استسلم لإحباطه المتشكك لكنه استجمع في النهاية إيمانه وشجاعته. قدم شورى حكيمة للرُسل بعد العنصرة, وعندما شتت الاضطهاد المؤمنين, ذهب إلى قبرص, وكريت, وساحل شمالي أفريقيا, وصقلية, يعظ البشائر المبهجة للملكوت ويعَّمد المؤمنين. واستمر توما في الوعظ والتعميد إلى أن قُبض عليه من قِبل عملاء الحكومة الرومانية وأُعدم في مالطا. قبل أسابيع قليلة من موته فقط كان قد بدأ الكتابة عن حياة وتعاليم يسوع.
139:10.1 (1563.2) يعقوب ويوداص ابنا ألفيوس, الصيادان التوأم اللذان يعيشان بالقرب من خِريسا, كانا الرسولين التاسع والعاشر واختارهما يعقوب ويوحنا زَبـِدي. كانا في السادسة والعشرين من العمر ومتزوجين. كان لدى يعقوب ثلاثة أطفال, وليوداص اثنان.
139:10.2 (1563.3) ليس هناك الكثير ليُقال عن صيادي السمك الاعتياديين هذين, لقد أحبا السيد ويسوع أحبهما, لكنهما لم يقاطعا أبداً محاضراته بالأسئلة. فهما القليل جداً عن المناقشات الفلسفية أوالمجادلات اللاهوتية لزملائهما الرُسل, لكنهما ابتهجا ليجدا أنفسهما يُعَّدان بين هذه الجماعة من الرجال القادرين. كان هذان الرَجلان متطابقين تقريباً في المظهر الشخصي, والميزات العقلية, ومدى الإدراك الروحي. ما يُمكن أن يُقال عن أحدهما يجب تسجيله عن الآخر.
139:10.3 (1563.4) عيَّنهما أندراوس لعمل حفظ نظام الجموع. كانا المرشدين الرئيسيين لساعات الوعظ, في الواقع, الخادمان العاميان وصبيان قضاء المهمات للاثني عشر. ساعدا فيليبُس بالمؤن, وحملا المال إلى العائلات عن نثانئيل, ودائماً كانا حاضِرين لإعارة يد العون لأي واحد من الرُسل.
139:10.4 (1563.5) كانت جموع عامة الشعب مُشجَعة إلى حد كبير للعثور على اثنين مثل أنفسهم مشرَّفين بأماكن بين الرُسل. بقبولهما كرُسل كان هذا التوأم المتواضعان وسيلة لجلب جمهور من المؤمنين ضعاف-القلوب إلى الملكوت. وأيضاً, اعتاد عامة الناس بلطف أكثر على فكرة كونهم موَّجهين ومدَّبرين بمرشدين رسميين اللذين كانا كثيراً مثل أنفسهم.
139:10.5 (1563.6) يعقوب ويوداص, اللذان كانا يُطلق عليهما أيضاً ثاديوس ولِبوس, لم تكن لديهما نقاط قوة ولا نقاط ضعف. ألقابهما التي منحها لهما التلاميذ كانت تسميات حسنة النية للوسطية. كانا "الأقل من كل الرُسل" وهما عرفا ذلك وشَعرا بالبهجة حيال ذلك.
139:10.6 (1563.7) أحب يعقوب ألفيوس يسوع بشكل خاص بسبب بساطة السيد. هذان التوأم لم يتمكنا من فهم عقل يسوع, لكنهما أدركا الرابط الودي بين أنفسهما وقلب سيدهما. لم يكن عقليهما من المرتبة الرفيعة؛ حتى باحترام قد يُطلق عليهما أغبياء, لكن كانت لديهما تجربة حقيقية في طبيعتهما الروحية. آمنا بيسوع؛ كانا ابناء الله وزملاء في الملكوت.
139:10.7 (1564.1) كان يوداص ألفيوس منجذباً إلى يسوع بسبب تواضع السيد غير المتباهي. مثل هذا التواضع المرتبط بهكذا كرامة شخصية شكل جاذبية عظيمة إلى يوداص. واقع أن يسوع كان دائماً يوصي بالصمت بما يخص أعماله غير العادية جعلت انطباعاً كبيراً على هذا الطفل البسيط للطبيعة.
139:10.8 (1564.2) كان التوأم دمثا الأخلاق, مساعدين بسيطي-العقل, والجميع أحبهما. رَحَبَ يسوع بهذين الشابين ذوي الموهبة الواحدة إلى مراكز الشرف بين موظفيه الشخصيين في الملكوت لأن هناك ملايين أخرى لا تُحصى من مثل هذه النفوس البسيطة والمليئة بالخوف على عوالم الفضاء من الذين هو بالمثل يرغب في الترحيب بهم في زمالة نشيطة ومؤمنة مع نفسه ومع روحه, روح الحقيقة المتدفق. لا ينظر يسوع نزولاً على الصُغر, فقط على الشر والخطيئة. كان يعقوب ويوداص صغيرين, لكنهما كانا أيضاً مخلصين. كانا بسيطين وجاهلين, لكنهما كانا أيضاً ذوي قلب كبير, ولطيفين, وكريمين.
139:10.9 (1564.3) وكم فخورين بامتنان كان هذين الرجلين المتواضعين في ذلك اليوم عندما رفض السيد أن يقبل رجلاً ثريًا معينًا كإنجيلي إلا إذا باع خيراته وساعد الفقراء. عندما سمع الناس هذا وشاهدوا التوأم بين مستشاريه, عرفوا يقينًا بأن يسوع لم تكن عنده محاباة أشخاص. لكن فقط مؤسسة إلَهية ــ ملكوت السماء ــ يمكن أبداً أن تُبنى على مثل هذا الأساس البشري المتواضع!
139:10.10 (1564.4) لمرة واحدة أو مرتين فقط في كل زمالتهما مع يسوع جازف التوأم بطرح الأسئلة في الأماكن العامة. كان يوداص مثار فضوله ذات مرة بطرح سؤال على يسوع عندما تحدث السيد عن الكشف عن نفسه علانيةً إلى العالَم. لقد شعر بخيبة أمل صغيرة لأنه لم يعد هناك المزيد من الأسرار بين الإثني عشر, وتجرأ ليسأل: "لكن, يا سيد, عندما تعلن نفسك للعالم هكذا, كيف ستفضلنا بتجليات خاصة من خيرك؟"
139:10.11 (1564.5) خدم التوأم بإخلاص حتى النهاية, حتى الأيام المظلمة من المحاكمة, والصلب, واليأس. لم يفقدا أبداً إيمانهما القلبي بيسوع, (وباستثناء يوحنا) كانا أول من آمن بقيامته. لكنهما لم يتمكنا من استيعاب تأسيس الملكوت. بعد وقت قصير من صلب سيدهما, رجعا إلى عائلاتهما وشِباكهما؛ تم عملهما. لم تكن لديهما المقدرة على الاستمرار في معارك الملكوت الأكثر تعقيدًا. لكنهما عاشا وماتا مدركين بأنهما شُّرفا وتباركا بأربع سنوات من الارتباط الوثيق والشخصي مع ابن الله, السُلطان صانع الكون.
139:11.1 (1564.6) سمعان زيلوطس, الرسول الحادي عشر, اختاره سمعان بطرس. كان رَجلاً قديراً من أصل صالح وعاش مع عائلته في كفرناحوم. كان في الثامنة والعشرين من عمره عندما أصبح ملتحقاً إلى الرُسل. كان مُحرِضاً نارياً وأيضاً ذلك النوع من الرَجل الذي تكلم كثيراً بدون تفكير. كان تاجراً في كفرناحوم قبل أن يحَّول كامل انتباهه إلى التنظيم الوطني للغيورين.
139:11.2 (1564.7) كُلف سمعان زيلوطس بعُهدة التسلية والاسترخاء للجماعة الرسولية, وكان منظماً فعّالاً لحياة اللعب والأنشطة الترفيهية للاثني عشر.
139:11.3 (1564.8) كانت قوة سمعان ولاءه المُلهم. عندما وجد الرُسل رَجلاً أو امرأة يتعثرون في التردد حول دخول الملكوت, كانوا يرسلون وراء سمعان. عادة تطلب الأمر حوالي خمس عشرة دقيقة فقط لهذا المحامي المتحمس للخلاص من خلال الإيمان بالله ليحسم كل الشكوك ويزيل كل تردد, لرؤية نفـْس جديدة تولد نحو "حرية الإيمان وفرح الخلاص".
139:11.4 (1565.1) كان ضُعف سمعان الكبير عقليته المادية. لم يستطع تغيير نفسه بسرعة من قومي يهودي إلى دولي روحاني العقلية. كانت أربع سنوات فترة قصيرة جداً لإحداث مثل هذا التحول الفكري والعاطفي, لكن يسوع كان دائماً صبوراً معه.
139:11.5 (1565.2) الشيء الوحيد الذي أثار إعجاب سمعان عن يسوع كان هدوء السيد, وثقته, واتزانه, ورصانته التي لا يمكن تفسيرها.
139:11.6 (1565.3) مع أن سمعان كان ثورياً هائجاً, جمرة من هياج لا يعرف الخوف, إلا أنه كبت طبيعته النارية تدريجياً حتى أصبح واعظاً قديراً وفعّالاً "للسلام على الأرض والنية الحسنة بين الناس". كان سمعان مناظراً عظيماً؛ أحب أن يجادل. وعندما تعلق الأمر بالتعامل مع العقول التشريعية لليهود المتعلمين أو المماحكات الذهنية لليونانيين, كانت المهمة دائماً ما تُسند إلى سمعان.
139:11.7 (1565.4) كان متمرداً بطبيعته ومحطم تماثيل من خلال التدريب, لكن يسوع كسبه من أجل المفاهيم الأعلى لملكوت السماء. كان دائماً يُعرّف هويته مع حزب المعارضة, لكنه الآن انضم إلى حزب التقدم, تقدم غير محدود وأبدي للروح والحقيقة. كان سمعان رَجلاً ذا ولاءات شديدة وتكريسات شخصية دافئة, وأحب يسوع بعمق.
139:11.8 (1565.5) لم يكن يسوع خائفاً من أن يُعرّف هويته مع رِجال أعمال, ورجال عمال, ومتفائلين, ومتشائمين, وفلاسفة, ومتشككين, وعشارين, وسياسيين, ووطنيين.
139:11.9 (1565.6) كان لدى السيد أحاديث كثيرة مع سمعان, لكنه لم ينجح أبداً كلياً في جعل دولي من هذا القومي اليهودي الغيور. كثيرًا ما أخبر يسوع سمعان بأنه كان من اللائق الرغبة في رؤية الأنظمة الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية تتحسن, لكنه دائماً أضاف: "ذلك ليس شأن ملكوت السماء. يجب أن نكرس أنفسنا لفعل مشيئة الأب. عملنا هو أن نكون سفراء الحكومة الروحية عند العُلى, ولا يجب أن نهتم في الحال بأي شيء سوى تمثيل مشيئة وطبع الأب الإلَهي الذي يقف عند رأس الحكومة التي نحمل شهادات اعتمادها". لقد كان الكل صعباً على سمعان لفهمه, لكن بدأ تدريجياً في استيعاب بعض الشيء عن معنى تعليم السيد.
139:11.10 (1565.7) بعد التشتت بسبب اضطهادات أورشليم, ذهب سمعان إلى تقاعد مؤقت. كان حرفياً مُحَّطَم. كوطني قومي كان قد استسلم احتراماً لتعاليم يسوع؛ والآن الكل ضاع. كان يائساً, لكن في سنوات قليلة استجمع آماله وانطلق ليعلن إنجيل الملكوت.
139:11.11 (1565.8) ذهب إلى الإسكندرية, وبعد العمل صعوداً في النيل, ولج نحو قلب أفريقيا, يعظ إنجيل يسوع في كل مكان ويُعَّمد المؤمنين. هكذا جاهد إلى أن أصبح شيخاً واهناً, ومات ودُفن في قلب أفريقيا.
139:12.1 (1565.9) يوداص إسخريوط, الرسول الثاني عشر, اختاره نثانئيل. ولد في كِريوث بلدة صغيرة في جنوب يهودا. عندما كان فتى, أنتقل والديه إلى أريحا, حيث عاش ووُظف في مشاريع أعمال أبيه المتنوعة إلى أن أصبح مهتماً في وعظ يوحنا المعمدان وعمله. كان والدا يوداص صَّدوقيين وعندما انضم ابنهما إلى تلاميذ يوحنا, تبرأوا منه.
139:12.2 (1566.1) عندما التقى نثانئيل بيوداص في تاريشيا, كان يبحث عن وظيفة في إحدى مؤسسات تجفيف الأسماك في الطرف السفلي لبحر الجليل. كان في الثلاثين من عمره وغير متزوج عندما التحق بالرُسل. كان على الأرجح الرَجل الأفضل تعليماً بين الاثني عشر والوحيد من يهودا في عائلة السيد الرسولية. لم يكن لدى يوداص أي سمة بارزة تتعلق بالقوة الشخصية, ولو أنه كان لديه العديد من السمات الظاهرة للثقافة وعادات التدريب. كان مفـَّكِراً جيداً إنما ليس دائماً مفكراً صادقاً حقاً. يوداص حقاً لم يفهم نفسه؛ لم يكن في الحقيقة صادقًا في التعامل مع نفسه.
139:12.3 (1566.2) قام أندراوس بتعيين يوداص أمين صندوق الاثني عشر, كان مركزاً ملائماً برفعة شأن لشغله. وحتى إلى وقت خيانة سيده أدَّى مسؤوليات منصبه بأمانة, وإخلاص, وأكثر الكفاءة.
139:12.4 (1566.3) لم يكن هناك أي ميزة خاصة عن يسوع مما أعجب بها يوداص فوق الشخصية الجذابة بشكل عام والرائعة للسيد. لم يكن يوداص قادراً أبداً على تجاوز تحيزاته كونه من يهودا ضد رفاقه الجليليين؛ حتى أنه كان ينتقد في عقله أشياء كثيرة عن يسوع. هو الذي نظر إليه أحد عشر من الرُسل على أنه الرَجل المثالي, باعتباره "الواحد المحبوب تماماً وصاحب السيادة بين عشرة آلاف", هذا الذي من يهودا الراضي عن نفسه غالباً ما تجرأ على الانتقاد في قلبه. حقًا خالج الفكرة بأن يسوع كان خجولاً وخائفًا إلى حد ما من تأكيد قدرته وسُلطته الخاصة.
139:12.5 (1566.4) كان يوداص رَجل أعمال جيد, لقد تطلب الأمر لباقة, ومقدرة, وصبر, بالإضافة إلى التفاني الجاد, لإدارة الشؤون المالية لمثالي مثل يسوع, لقول لا شيء عن المصارعة مع أساليب عمل اختلاط الحابل بالنابل لبعض من رُسله. كان يوداص حقًا تنفيذياً عظيماً, بعيد النظر ومالياً قديراً. وكان شديد التمسك بالتنظيم. لم ينتقد أي من الاثني عشر يوداص. لغاية ما أمكنهم رؤيته, كان يوداص إسخريوط أمين صندوق لا نظير له, ورَجلاً مثقفاً, ورسولاً مخلصاً (وإن كان أحياناً انتقادي), وبكل معنى للكلمة نجاح كبير. أحب الرُسل يوداص؛ كان حقاً واحداً منهم. لا بد أنه آمن بيسوع, لكننا نشك فيما إذا في الحقيقة أحب السيد بقلب كلي. قضية يوداص تُصور صدق ذلك القول: "هناك طريق تبدو صحيحة للإنسان, لكن نهايتها الموت". من الممكن تماماً الوقوع ضحية للتضليل المسالم للتكيف الجذاب مع دروب الخطيئة والموت. كن متأكداً بان يوداص كان دائماً مخلصاً مالياً لسيده وزملائه الرُسل. لا يمكن أن يكون المال هو الدافع لخيانته للسيد.
139:12.6 (1566.5) كان يوداص ابناً وحيداً لوالدين غير حكيمين. عندما كان صغيراً جداً, كان مدللًا ومداعبًا؛ كان طفلاً مُفسداً. بينما نشأ, كان لديه أفكار مبالغ فيها عن أهمية الذات. كان خاسراً رديئاً. كان لديه أفكار مشوهة وغير دقيقة عن العدالة؛ وكان مُعطى للانغماس في الكراهية والريبة. كان خبيراً في سوء تفسير كلمات وتصرفات أصدقائه. طوال حياته صقل يوداص عادة تحصيل التعادل مع أولئك الذين توهم بأنهم أساءوا معاملته. كانت إحساسه بالقيم والولاءات معيباً.
139:12.7 (1566.6) بالنسبة ليسوع, كان يوداص مغامرة إيمانية. من البداية أدرك السيد تماماً ضعف هذا الرسول, وعرف جيداً مخاطر قبوله في الزمالة. لكنها طبيعة أبناء الله أن يمنحوا كل مخلوق فرصة كاملة ومتساوية للخلاص والبقاء. لم يرد يسوع فقط بشر هذا العالَم بل أراد أن يدرك المتطلعين من عوالم أخرى لا حصر لها بأنه, عندما توجد شكوك حول صدق وإخلاص تكريس مخلوق للملكوت, فإنها ممارسة ثابتة لقضاة الناس كلياً أن يستلموا المُرشَّح المشكوك فيه. باب الحياة الأبدية مفتوح على مصراعيه للجميع؛ "كل من شاء يمكنه أن يأتي"؛ لا توجد قيود أو مؤهلات سوى الإيمان للمرء الذي يأتي.
139:12.8 (1567.1) هذا تماماً هو السبب في لماذا سمح يسوع ليوداص بالاستمرار إلى النهاية, بذل قصارى جهده دائمًا لتغيير وإنقاذ هذا الرسول الضعيف والمرتبك. لكن عندما لا يُستلَم النور بأمانة ويُرقى إليه, فإنه يميل إلى أن يصبح ظلاماً داخل النفـْس. نما يوداص فكرياً فيما يتعلق بتعاليم يسوع عن الملكوت, لكنه لم يُحرز تقدماً في اكتساب الصِفة الروحية كما فعل الرُسل الآخرون. فشل في تحقيق تقدم شخصي مرضٍ في التجربة الروحية.
139:12.9 (1567.2) أصبح يوداص بشكل متزايد مستغرقاً في خيبة الأمل الشخصية, وفي النهاية أصبح ضحية للاستياء. تأذت مشاعره مرات عديدة, ونمى مرتاباً بشكل غير طبيعي من أقرب أصدقائه, حتى من السيد. في الحاضر أمسى مهووساً بفكرة تحصيل التعادل, أي شيء ليثأر لنفسه, نعم, حتى خيانة زملائه وسيده.
139:12.10 (1567.3) لكن هذه الأفكار الشريرة والخطيرة لم تتخذ شكلاً محدداً حتى اليوم الذي كسرت فيه امرأة ممتنة علبة باهظة من البخور عند قدمي يسوع. بدا هذا مُسرفاً ليوداص, وعندما رفض يسوع السماح لاحتجاجه العلني بشكل كاسح هناك على مسمع الجميع, كان الأمر كثيراً جداً. لقد حدد هذا الحدث حشد كل الكراهية المتراكمة, والأذى, والحقد, والتحيز, والغيرة, وثأر عمر, واتخذ قراره بتحصيل التعادل مع مَن لم يعرف مَن هو؛ لكنه بلور كل شر طبيعته على شخص واحد بريء في كل الدراما الدنيئة لحياته التعيسة الحظ لمجرد أن يسوع صادف ليكون الممثل الرئيسي في الواقعة التي دمغت عبوره من الملكوت التقدمي للنور نحو ذلك المجال للظلام الذي اختاره بنفسه.
139:12.11 (1567.4) كان السيد قد حذر يوداص مرات عديدة, سِراً وعلانية, بأنه ينزلق, لكن التحذيرات الإلَهية عادة ما تكون عديمة الفائدة في التعامل مع الطبيعة البشرية المريرة. لقد فعل يسوع كل ما هو ممكن, بما يتوافق مع الحرية الأخلاقية للإنسان, لمنع اختيار يوداص للذهاب في الاتجاه الخطأ. أخيراً جاء الإختبار العظيم. فشل ابن الاستياء؛ خضع للإملاءات الحانقة والدنيئة لعقل متكبر وثأري من أهمية-الذات المبالغ فيها وغطس بسرعة نحو الارتباك, واليأس, والإنحراف.
139:12.12 (1567.5) دخل يوداص عند ذاك نحو الدسيسة السافلة والمخزية لخيانة ربه وسيده وسرعان ما وضع المخطط الشرير حيز التنفيذ. أثناء تنفيذ خططه المُحمَّلة بغضب الخيانة الغادرة, قاسى لحظات من الندامة والعار, وفي تلك الفترات الجلية تصور بعزم خائر, كدفاع في عقله الخاص, فكرة أن يسوع ربما يمارس قدرته ويُخَلِص نفسه في اللحظة الأخيرة.
139:12.13 (1567.6) عندما انتهى العمل الدنيء والخاطئ, هذا الفاني المرتد, الذي فَكَرَ بطيش لبيع صديقه من أجل ثلاثين قطعة من الفضة لإشباع اشتهائه المُرَبى منذ فترة طويلة من أجل الثأر, اندفع واقترف الفعل النهائي في دراما الهروب من حقائق الوجود البشري ــ الانتحار.
139:12.14 (1567.7) كان الرُسل الأحد عشر مذعورين, ومصعوقين. لم ينظر يسوع إلى الخائن إلا بالشفقة. وجدت العوالم صعوبة في مسامحة يوداص, وأصبح اسمه مُتجنباً في جميع أنحاء الكون النائي.
كِتاب يورانشيا
ورقة 140
140:0.1 (1568.1) بالضبط قبل ظهر يوم الأحد, 12 كانون الثاني, عام 27 م., دعا يسوع الرُسل معاً من أجل ترسيمهم كواعظين علنيين لإنجيل الملكوت. كان الاثنا عشر يتوقعون أن يتم استدعاؤهم تقريباً في أي يوم ؛ لذلك لم يخرجوا هذا الصباح بعيداً عن الشاطئ لصيد السمك. توانى عدد منهم بالقرب من الشاطئ لإصلاح شِباكهم وترميم أدوات الصيد الخاصة بهم.
140:0.2 (1568.2) عندما نزل يسوع إلى الشاطئ داعياً الرُسل, نادى أولاً أندراوس وبطرس, اللذان كانا يصطادان قرب الشاطئ؛ تالياً أشار إلى يعقوب ويوحنا زَبـِدي اللذين كانا في قارب عن قُرب, يزوران أبيهما, زَبـِدي, ويرتقان شِباكهما. اثنان واثنان جمَّع الرُسل الآخرين, وعندما جمَّع كل الاثني عشر, رحل معهم إلى المرتفعات شمال كفرناحوم, حيث شرع في إرشادهم تحضيراً لرسامتهم الرسمية.
140:0.3 (1568.3) لمرة كان كل الرسل الاثنا عشر صامتين؛ حتى بطرس كان في مزاج متفكر. أخيراً حانت الساعة التي طال انتظارها! كانوا ذاهبين على حدة مع السيد للمشاركة في نوع من الإحتفال الرسمي للتكريس الشخصي والتفاني الجماعي للعمل المقدس المتمثل في تمثيل سيدهم في إعلان مجيء ملكوت أبيه.
140:1.1 (1568.4) قبل خدمة الرسامة الرسمية, تكلم يسوع إلى الاثني عشر بينما جلسوا حوله: "يا إخواني, لقد أتت ساعة الملكوت هذه. لقد أحضرتكم معي هنا على حدة لأقدمكم إلى الأب كسفراء للملكوت. بعض منكم سمعني أتكلم عن هذا الملكوت في الكنيس عندما دُعيتم أول مرة. كل منكم تعلـَّم المزيد عن ملكوت الأب حيث إنكم كنتم معي تعملون في المدن المحيطة ببحر الجليل. لكن الآن لدي شيء أكثر لأخبركم فيما يتعلق بهذا الملكوت.
140:1.2 (1568.5) "إن الملكوت الجديد الذي يوشك أبي أن يُنشئه في قلوب أولاده الأرضيين سيكون بمثابة سلطان أبدي. لن تكون هناك نهاية لهذا الحُكم لأبي في قلوب أولئك الراغبين بفعل مشيئته الإلَهية. أعلن لكم بأن أبي ليس إله اليهود أو الأمميين. سيأتي كثيرون من الشرق ومن الغرب ليجلسوا معنا في ملكوت الأب, بينما العديد من أولاد إبراهيم سيرفضون دخول هذه الأخوية الجديدة لحُكم روح الأب في قلوب أولاد الناس.
140:1.3 (1568.6) "ستتألف قدرة هذا الملكوت, ليس في قوة الجيوش, ولا في قدرات الثروة, بل بالأحرى في مجد الروح الإلَهي الذي سيأتي ليعلم عقول المواطنين المولودين من جديد لهذا الملكوت السماوي, أبناء الله, ويحكم قلوبهم. هذه هي أخوية المحبة التي فيها يسود البر, والتي ستكون صرخة معركتها: سلام على الأرض ونية حسنة إلى كل الناس. هذا الملكوت, الذي أنتم ستنطلقون قريباً جداً لتعلنوه, هو رغبة الناس الصالحين في كل العصور, وأمل كل الأرض, والوفاء بالوعود الحكيمة لجميع الأنبياء.
140:1.4 (1569.1) "لكن من أجلكم, يا أولادي, ومن أجل كل الآخرين الذين سيتبعونكم إلى هذا الملكوت, هناك قد وضع إختبار صعب. الإيمان وحده سيعبر بكم خلال بواباته, لكنكم يجب أن تنتجوا ثمار روح أبي إذا كنتم ستستمرون في ارتقاء الحياة التقدمية للزمالة الإلَهية. الحق, الحق, أقول لكم, ليس كل من يقول, ’يا رب, يا رب‘, سيدخل ملكوت السماء؛ بل من يفعل مشيئة أبي الذي في السماء.
140:1.5 (1569.2) "ستكون رسالتكم إلى العالَم: التمسوا أولاً ملكوت الله وبره. وفي العثور على هذه, سيتم تأمين كل الأشياء الأخرى الضرورية للبقاء الأبدي بها. والآن سأوضح الأمر لكم بأن ملكوت أبي هذا لن يأتي مع إظهار خارجي للقدرة أو بإثبات غير لائق. لستم لتذهبوا في إعلان الملكوت قائلين, ’إنه هنا‘ أو ’إنه هناك‘, لأن هذا الملكوت الذي ستعظون به هو الله في داخلكم.
140:1.6 (1569.3) "كل من سيصبح عظيماً في ملكوت أبي يجب أن يصبح خادماً للجميع ؛ وكل من يود أن يكون الأول بينكم, فليصبح خادماً لإخوانه. لكن عندما مرة تُستلَمون حقاً كمواطنين في الملكوت السماوي, لن تعودوا خدام بل أبناء, أبناء الله الحي. وهكذا سيتقدم هذا الملكوت في العالَم حتى يحطم كل عائق ويجلب كل الناس ليعرفوا أبي ويؤمنوا بالحقيقة المخْلِصة التي أتيت لأعلنها. حتى الآن الملكوت في متناول اليد, ولن يموت بعضكم حتى يرى ملك الله يأتي بقدرة عظيمة.
140:1.7 (1569.4) "وهذا ما تراه عيونكم الآن, هذه البداية الصغيرة لاثني عشر رَجل عامي, سوف تتكاثر وتنمو تمتلئ الأرض كلها في النهاية بحمد أبي. ولن يكون ذلك كثيراً بالكلمات التي تتكلمون بها كما من خلال المعايش التي تعيشونها بأن الناس سيعرفون بأنكم كنتم معي وتعلَمتم عن حقائق الملكوت. وبينما لن أُلقي أعباء ثقيلة على عقولكم, فأنا على وشك أن أضع على نفوسكم المسؤولية الجليلة لتمثيلي في العالَم عندما في الحاضر يجب أن أترككم كما أمثل أبي الآن في هذه الحياة التي أعيشها في الجسد." ولما انتهى من الكلام, قام.
140:2.1 (1569.5) أرشد يسوع الآن الفانين الاثني عشر الذين استمعوا للتو لإعلانه بما يخص الملكوت للركوع في دائرة حوله. ثم وضع السيد يديه على رأس كل رسول, بدءًا من يوداص إسخريوط وانتهاءً بأندراوس. وعندما باركهم, مد يديه وصَّلى:
140:2.2 (1569.6) "يا أبتاه, أحضر لك هؤلاء الرجال, رُسلي. من بين أطفالنا على الأرض اخترت هؤلاء الاثني عشر للانطلاق لتمثيلي كما جئت لأمثلك. أحبهم وكن معهم كما أحببتني وكنت معي. والآن, يا أبتاه, أعط هؤلاء الرجال الحكمة بينما أضع كل شؤون الملكوت الآتي في أيديهم. وأود, إذا كانت مشيئتك, الانتظار على الأرض لوقت لمساعدتهم في أعمالهم من أجل الملكوت. ومرة أخرى, يا أبتاه, أشكرك على هؤلاء الرجال, وأعهد بهم إلى حفظك بينما أستمر لإنهاء العمل الذي أعطيتني للقيام به."
140:2.3 (1570.1) عندما انتهى يسوع من الصلاة, بقي الرُسل كل رجل منحنياً في مكانه. ولقد كانت عدة دقائق قبل أن يجرؤ حتى بطرس على رفع عينيه لينظر إلى السيد. واحد تلو الآخر حضنوا يسوع, لكن ولا رَجل قال أي شيء. ساد المكان صمت عظيم بينما تطلع حشد من الكائنات السماوية على هذا المشهد الجليل والمقدس ــ خالق الكون يضع شؤون أخوية الإنسان الإلَهية تحت إشراف عقول البشر.
140:3.1 (1570.2) بعدئذٍ تكلم يسوع, قائلاً: "الآن بما أنكم سفراء لملكوت أبي, قد أصبحتم بهذا طبقة من الرجال منفصلين ومتميزين عن جميع الرجال الآخرين على الأرض. أنتم لستم الآن كرجال بين الناس بل كمواطنين مستنيرين لبلد آخر وسماوي بين المخلوقات الجاهلة لهذا العالَم المُظلم. لا يكفي أن تعيشوا كما كنتم قبل هذه الساعة, لكن من الآن فصاعداً يجب أن تعيشوا مثل أولئك الذين ذاقوا أمجاد حياة أفضل وأعيدوا إلى الأرض كسفراء لسُلطان ذلك العالَم الجديد والأفضل. مِن المعلم يُتوقع أكثر من التلميذ؛ من السيد يُستوجَب أكثر من الخادم. من مواطني الملكوت السماوي يُتطلب أكثر مما هو مطلوب من مواطني الحُكم الأرضي. بعض من الأشياء التي أنا على وشك أن أقولها لكم قد تبدو صعبة, لكنكم اخترتم أن تمثلوني في العالَم حتى كما أنا الآن أُمثل الأب؛ وكوكلائي على الأرض ستكونون ملزمين بالالتزام بتلك التعاليم والممارسات التي تعكس مُثلي العليا للعيش البشري على عوالم الفضاء, والتي أتمثل بها في حياتي الأرضية لكشف الأب الذي في السماء.
140:3.2 (1570.3) "أرسلكم لإعلان الحرية للأسرى الروحيين, والفرح لأولئك الذين هم في عبودية الخوف, وشفاء المرضى وفقاً لمشيئة أبي في السماء. عندما تجدون أطفالي في ضيق, تكلموا بتشجيع لهم, قائلين:
140:3.3 (1570.4) "طوبى للمساكين في الروح, المتواضعين, لأن لهم كنوز ملكوت السماء.
140:3.4 (1570.5) "طوبى للجياع والمتعطشين للبر, لأنهم سيُملأون.
140:3.5 (1570.6) "طوبى للودعاء, لأنهم سيرثون الأرض.
140:3.6 (1570.7) "طوبى للأنقياء في القلب, لأنهم سيرون الله.
140:3.7 (1570.8) "وحتى هكذا قولوا لأولادي هذه الكلمات الإضافية من المؤاساة الروحية والوعد الروحي:
140:3.8 (1570.9) "طوبى للحزانى, لأنهم سيواسون. طوبى للباكين, لأنهم سيستلمون روح الفرح.
140:3.9 (1570.10) "طوبى للرحماء, لأنهم سينالون رحمة.
140:3.10 (1570.11) "طوبى لصانعي السلام, لأنهم سيُدعون أبناء الله.
140:3.11 (1570.12) "طوبى للذين يتعرضون للاضطهاد من أجل البر, لأن لهم ملكوت السماء. طوبى لكم عندما سيشتمكم الناس ويضطهدونكم ويقولون كل أشكال الشر ضدكم زوراً. افرحوا وتهللوا كثيرا, لأن ثوابكم في السماء عظيم.
140:3.12 (1570.13) "يا إخواني, بينما أرسلكم قُدماً, أنتم ملح الأرض, ملح ذو نكهة إنقاذ. لكن إذا فقد هذا الملح مذاقه, فبماذا سيُملَح؟ إنه منذ الآن وصاعداً ليس صالحاً لشيء سوى أن يُطرح خارجاً ويداس تحت أقدام الناس.
140:3.13 (1570.14) "أنتم نور العالَم. لا يمكن إخفاء مدينة موضوعة على تل. ولا الناس يوقدون شمعة ويضعونها تحت مكيال بل على شمعدان؛ وتعطي نوراً لكل من في المنزل. فليضئ نوركم هكذا أمام الناس بحيث قد يرون أعمالكم الصالحة ويُقادون لتمجيد أبيكم الذي في السماء.
140:3.14 (1571.1) "أنا أرسلكم خارجاً إلى العالَم لتمثلوني ولتعملوا كسفراء لملكوت أبي, وعندما تنطلقون لإعلان البشائر المبهجة, ضعوا ثقتكم في الأب الذي أنتم رسله. لا تقاوموا الظلم بالقوة؛ لا تضعوا ثقتكم في سلاح الجسد. إذا ضربكم جاركم على خدكم الأيمن, حَّولوا له الآخر أيضاً, كونوا على استعداد لتحمل الظلم بدلاً من اللجوء إلى القانون فيما بينكم. أسعِفوا بلطف ورحمة إلى كل الذين في ضيق وحاجة.
140:3.15 (1571.2) "أقول لكم: احبوا أعداءكم, افعلوا الخير إلى أولئك الذين يبغضونكم, باركوا الذين يلعنونكم, وصَّلوا من أجل الذين يستغلونكم باستخفاف. وكل ما تعتقدون بأني سأفعله إلى الناس, افعلوا كذلك أنتم إليهم.
140:3.16 (1571.3) "أبوكم في السماء يجعل الشمس تشرق على الشرير كما على الصالح؛ بالمِثل يرسل المطر على البار والظالم. أنتم أبناء الله, بل وأكثر من ذلك, أنتم الآن سفراء ملكوت أبي. كونوا رحماء, حتى كما الله رحيم, وفي المستقبل الأبدي للملكوت ستكونون مثاليين, حتى كما أباكم السماوي مثالي.
140:3.17 (1571.4) "أنتم مفوضون لإنقاذ الناس, ليس للحُكم عليهم. عند نهاية حياتكم الأرضية كلكم ستتوقعون الرحمة؛ لذلك أطلب منكم خلال حياتكم الفانية أن تُظهروا رحمة لجميع إخوانكم في الجسد. لا تخطئوا بمحاولة انتزاع الهباءة من عين أخيكم عندما هناك خشبة في عينكم. اخرجوا الخشبة أولاً من عينكم, حتى تتمكنوا من الرؤية بشكل أفضل من أجل إخراج الهباءة من عين أخيكم.
140:3.18 (1571.5) "ميزوا الحق بوضوح؛ عيشوا حياة بر بلا خوف؛ وهكذا ستكونون رُسلي وسفراء أبي. لقد سمعتم يُقال: ’إذا الأعمى يقود أعمى, كِلاهما سيقع في الحفرة‘. إذا وددتم إرشاد الآخرين إلى الملكوت, يجب عليكم أنفسكم أن تمشوا في النور الصافي للحق الحي. أحثكم في كل أعمال الملكوت على إظهار الحكم العادل والحكمة الشديدة. لا تقَدموا ما هو مقدس للكلاب, ولا تلقوا درركم أمام الخنازير, لئلا تدوس جواهركم تحت أقدامها وتدور لتمزقكم.
140:3.19 (1571.6) "أحذركم من الأنبياء الكذبة الذين سيأتون إليكم في ثياب حملان, بينما في الداخل هم ذئاب مفترسة. بأثمارهم ستعرفونهم. هل يجني الناس عنباً من الشوك, أو تيناً من الحسك؟ ومع ذلك, فإن كل شجرة صالحة تؤتي ثمراً صالحاً, لكن الشجرة الفاسدة تحمل ثمراً شريراً. الشجرة الصالحة لا يمكنها أن تنتج ثمراً شريراً, ولا الشجرة الفاسدة تغِل ثماراً صالحة. كل شجرة لا تعطي ثمراً صالحاً حاضراً تُقطع وتُلقى في النار. في كسب الدخول إلى ملكوت السماء, إنه الدافع الذي يُحتسَب. أبي يتطلع نحو قلوب الناس ويحكم بأشواقهم الداخلية ونواياهم الصادقة.
140:3.20 (1571.7) "في اليوم العظيم لدينونة الملكوت, سيقول لي كثيرون, ’ألم نتنبأ باسمك وباسمك قمنا بالعديد من الأعمال الرائعة؟‘ لكن سأكون مضطراً لأن أقول لهم, ’لم أعرفكم قط؛ ارحلوا عني أيها المعلمون الكذبة.‘ لكن كل من يسمع هذه العهدة وينفذ بأمانة مهمته لتمثيلني أمام الناس حتى كما مثـَّلت أبي إليكم, سيجد مدخلاً وافراً نحو خدمتي ونحو ملكوت الأب السماوي".
140:3.21 (1571.8) لم يسبق أن سمع الرسل يسوع يتكلم بهذه الطريقة أبداً, لأنه تكلم إليهم كمن يتمتع بسلطة عليا. نزلوا من الجبل حوالي غروب الشمس, لكن لم يسأل أحدهم يسوع سؤالاً.
140:4.1 (1572.1) ما يُسمى "العظة على الجبل" ليست إنجيل يسوع. إنها تحتوي إرشادات مفيدة كثيرة, لكنها كانت مهمة رسامة يسوع إلى الرُسل الاثني عشر. لقد كانت تفويض السيد الشخصي لأولئك الذين سيواصلون وعظ الإنجيل ويطمحون لتمثيله في عالَم الناس حتى كما كان هو ممثلاً لأبيه بغاية البلاغة والمثالية.
140:4.2 (1572.2) "أنتم ملح الأرض, ملح ذو نكهة إنقاذ. لكن إذا فقد هذا الملح مذاقه, فبماذا يُمَّلَح؟ إنه منذ الآن وصاعداً لا يصلح لشيء سوى أن يُلقى خارجاً ويداس تحت أقدام الناس".
140:4.3 (1572.3) في زمن يسوع كان الملح ثميناً, كان يُستعمل مقابل المال. الكلمة الحديثة "salary" "معاش" مُشتقة من "salt" "الملح". لا يقتصر الملح على إضفاء النكهة على الطعام فقط, لكنه أيضاً حافظ. يجعل الأشياء الأخرى أكثر مذاقاً, وبالتالي يخدم من خلال إنفاقه.
140:4.4 (1572.4) "أنتم نور العالَم. لا يمكن إخفاء مدينة واقعة على تل. ولا يُضيء الناس شمعة ويضعونها تحت المكيال, بل على شمعدان؛ وهي تُعطي نوراً إلى كل من في المنزل. فليضئ نوركم هكذا أمام الناس بحيث قد يرون أعمالكم الصالحة ويُقادوا لتمجيد أبيكم الذي في السماء".
140:4.5 (1572.5) في حين أن النور يبدد الظلام, يمكنه أيضاً أن يكون "مُعمياً" لدرجة التشويش والإحباط. نحن نُنصح أن ندع نورنا يضيء للغاية بحيث يكون زملاؤنا مرشَدين نحو مسارات جديدة ومقدسة من العيش المُعزز. يجب أن يضيء نورنا بحيث لا يجذب الانتباه إلى الذات. حتى مهنة المرء يمكن أن تستخدم "كعاكس" فعّال لنشر نور الحياة هذا.
140:4.6 (1572.6) الصِفات القوية ليست مشتقة من عدم فعل الخطأ, بل بالأحرى من فعل الصواب. عدم-الأنانية هو وسام العظمة الإنسانية. يتم بلوغ أعلى مستويات إدراك-الذات بالعبادة والخدمة. الشخص السعيد والفعّال مدفوع, ليس بالخوف من ارتكاب الخطأ, بل بمحبة فعل الصواب.
140:4.7 (1572.7) "من ثمارهم ستعرفونهم". الشخصية غير قابلة للتغيير في الأساس؛ ما يتغير ــ ينمو ــ هو الطبع الأخلاقي. الخطأ الرئيسي للأديان الحديثة هو السلبية. الشجرة التي لا تحمل ثمر "تُقطع وتُلقى في النار". لا يمكن أن تُستمد القيمة الأخلاقية من مجرد القمع ــ بطاعة الأمر "أنت لن تفعل". ليس الخوف والعار دوافع جديرة من أجل العيش الدِيني. لا يصح الدين إلا عندما يكشف عن أبوة الله ويعزز أخوّة الناس.
140:4.8 (1572.8) تتشكل فلسفة المعيشة الفعالة من خلال مزيج من البصيرة الفلكية ومجموع ردود الفعل العاطفية للفرد تجاه البيئة الاجتماعية والاقتصادية. تذكَّر: على الرغم من أنه لا يمكن تعديل الدوافع الموروثة بشكل جذري, إلا أنه يمكن تغيير الاستجابات العاطفية لهذه الدوافع؛ بالتالي يمكن تعديل الطبيعة الأخلاقية, يمكن تحسين الطبع. في الطبع القوي تتكامل الاستجابات العاطفية وتتناسق, وبالتالي يتم إنتاج شخصية موحدة. التوحيد الناقص يُضعف الطبيعة الأخلاقية ويولد التعاسة.
140:4.9 (1572.9) بدون هدف جدير, تصبح الحياة بلا هدف وغير مُربحة, وينتج الكثير من التعاسة. تشكل محاضرة يسوع في رسامة الاثني عشر فلسفة رئيسية للحياة. حث يسوع أتباعه على ممارسة الإيمان التجريبي. حذرهم ألا يعتمدوا على مجرد الموافقة الفكرية, وسرعة التصديق, والمرجعية الراسخة.
140:4.10 (1573.1) يجب أن يكون التعليم أسلوباً للتعلم (اكتشاف) الأساليب الأفضل لإرضاء دوافعنا الطبيعية والموروثة، والسعادة هي النتيجة الإجمالية لهذه التقنيات المُعززة للرضاءات العاطفية. تعتمد السعادة قليلاً على البيئة, ولو إن البيئة المحيطة المُرضية قد تساهم بشكل كبير في ذلك.
140:4.11 (1573.2) كل بشري يتوق حقاً لأن يكون شخصاً كاملاً, أن يكون مثالياً حتى كما الأب في السماء مثالي, ومثل هذا الإحراز ممكن لأنه في التحليل الأخير "الكون حقاً أبوي".
140:5.1 (1573.3) من الموعظة على الجبل إلى محاضرة العشاء الأخير, علـَّم يسوع أتباعه أن يُظهروا المحبة الأبوية بدلاً من المحبة الأخوية. الحب الأخوي ستحبون جاركم كما تحبون أنفسكم, وسيكون ذلك تحقيقا كافياً لـ "القاعدة الذهبية". لكن المودة الأبوية تتطلب بأنكم يجب أن تحبوا زملاءكم البشر كما يحبكم يسوع.
140:5.2 (1573.4) يحب يسوع الجنس البشري بعاطفة مزدوجة. عاش على الأرض كشخصية مزدوجة ــ بشري وإلَهي. بصفته إبن الله هو يحب الإنسان بمحبة أبوية ــ فهو خالق الإنسان, أباه الكوني. بصفته إبن الإنسان, يحب يسوع البشر كأخ ــ لقد كان حقاً رجلاً بين الناس.
140:5.3 (1573.5) لم يتوقع يسوع من أتباعه أن ينجزوا تجلياً مستحيلاً للمحبة الأخوية, لكنه توقع منهم أن يبذلوا قصارى جهدهم ليكونوا مثل الله ــ ليكونوا مثاليين حتى كما الأب في السماء مثالي ــ بحيث يمكنهم أن يبدأوا في النظر إلى الإنسان كما ينظر الله إلى مخلوقاته ولذلك يمكنهم البدء بمحبة الناس كما يحبهم الله ــ لإظهار بدايات الود الأبوي. في سياق هذه النصائح للرُسل الاثني عشر, سعى يسوع للكشف عن هذا المفهوم الجديد للمحبة الأبوية من حيث ارتباطها ببعض المواقف العاطفية المعنية بإجراء العديد من التعديلات الاجتماعية البيئية.
140:5.4 (1573.6) قَدَمَ السيد هذه المحاضرة الهامة من خلال لفت الانتباه إلى أربعة مواقف للإيمان كالمقدمة للتصوير اللاحق لتفاعلاته السامية والمتعالية الأربعة للمحبة الأبوية في تباين مع قيود المحبة الأخوية المحضة.
140:5.5 (1573.7) تحدث أولاً عن أولئك الذين كانوا فقراء في الروح, والجائعين من أجل البر, وذوي الوداعة المُتحَّمِلة, والأنقياء في القلب. مثل هؤلاء البشر الذين يميزون-الروح يمكن توقع أن يصلوا إلى مستويات من الإيثار الإلَهي بحيث يتمكنون من محاولة الممارسة المذهلة للود الأبوي؛ أنه حتى كحزانى سيكونون مقـَّدرين لإظهار الرحمة, وتعزيز السلام, وتحمل الاضطهادات, وأثناء كل هذه المواقف المجربة أن يحبوا حتى البشر غير المحبوبين بمحبة أبوية. الود الأبوي يمكنه إحراز مستويات من الولاء التي تتجاوز الود الأخوي بشكل لا يقاس.
140:5.6 (1573.8) إيمان ومحبة هذه التطويبات تقـَّوي الطبع الأخلاقي وتخلق السعادة. الخوف والغضب يُضعفان الطبع ويدمران السعادة. بدأت هذه الموعظة الهامة عند ملحوظة السعادة.
140:5.7 (1573.9) 1. "طوبى للفقراء في الروح ــ المتواضعون." بالنسبة للطفل, السعادة هي إرضاء الرغبة في المتعة الفورية. الراشد مستعد لزرع بذور إنكار الذات من أجل جني محاصيل لاحقة من السعادة المتزايدة. في أوقات يسوع ومنذ ذلك الحين, غالبًا ما ارتبطت السعادة بفكرة امتلاك الثروة. في قصة الفريسي والعشار يصليان في المعبد, واحد شعر بالغنى في الروح ــ بشكل أناني؛ والآخر شعر بأنه "فقير في الروح" ــ تواضع. واحد كان مكتفياً ذاتياً؛ والآخر كان قابلاً للتعلم وباحث عن الحقيقة. الفقراء في الروح يبحثون عن أهداف الغنى الروحي ــ من أجل الله. ومثل هكذا باحثين عن الحق ليس عليهم أن ينتظروا المكافآت في المستقبل البعيد؛ إنهم يكافأون الآن. يجدون ملكوت السماء في قلوبهم, ويختبرون هذه السعادة الآن.
140:5.8 (1574.1) 2. "طوبى للجياع والعطاش إلى البر, لأنهم سيشبعون". فقط أولئك الذين يشعرون بالفقر في الروح سيجوعون من أجل البر إلى الأبد. فقط المتواضعون يبحثون عن القوة الإلهية ويتوقون إلى القدرة الروحية. لكنه الأكثر خطورة هو الانخراط عن علم في الصوم الروحي من أجل تحسين شهية المرء للهبات الروحية. الصيام الجسدي يصبح خطيراً بعد أربعة أو خمسة أيام؛ يكون المرء عرضة لفقدان كل رغبة في الطعام. الصيام المطـَّوَل, سواء الجسدي أو الروحي, يميل إلى القضاء على الجوع.
140:5.9 (1574.2) البر الإختباري هو متعة, ليس واجب. بر يسوع محبة ديناميكية ــ ود أبوي-أخوي. إنه ليس النوع السلبي أو نوع سوف لن تفعل من البر. كيف يمكن للمرء أبداً أن يتوق إلى شيء سلبي ــ شيء "لا يجب فعله"؟
140:5.10 (1574.3) ليس من السهل تعليم عقل الطفل هاتين الأوليتين من التطويبات, لكن على العقل الناضج أن يدرك أهميتهما.
140:5.11 (1574.4) 3. "طوبى للودعاء, لأنهم سيرثون الأرض." الوداعة الأصلية ليس لها علاقة بالخوف. إنها بالأحرى موقف الإنسان المتعاون مع الله ــ "لتكن مشيئتك." إنها تضم الصبر والتسامح وتحفز إيمان لا يتزعزع في كون قانوني وودي. إنها تتحكم بكل المغريات على التمرد ضد القيادة الإلَهية. كان يسوع الرَجل الوديع المثالي ليورانشيا, وقد ورث كوناً شاسعاً.
140:5.12 (1574.5) 4. "طوبى لأنقياء القلب, لأنهم سيرون الله." ليست النقاوة الروحية صِفة سلبية, باستثناء أنها تفتقر إلى الشك والثأر. في مناقشة النقاوة, لم يقصد يسوع للتعاطي حصرياً بالتصرفات الجنسية الإنسانية. لقد أشار أكثر إلى ذلك الإيمان الذي يجب أن يكون لدى الإنسان في زميله الإنسان؛ ذلك الإيمان الذي لدى الوالد في طفله, والذي يمكّنه من محبة زملائه حتى كما يحبهم الأب. لا يجب أن تًدلل محبة الأب, ولا تتغاضى عن الشر, لكنها دائماً ضد التهكم. المحبة الأبوية لديها فردية هدف, ودائماً تبحث عن الأفضل في الإنسان؛ ذلك هو موقف الوالد الحقيقي.
140:5.13 (1574.6) لرؤية الله ـ بالإيمان ـ تعني اكتساب بصيرة روحية حقيقية. والبصيرة الروحية تعزز إرشاد الضابط, وهذه في النهاية تزيد وعي الله. وعندما تعرفون الأب, أنتم مُثَبتين في تأكيد البنوة الإلَهية, ويمكنكم أن تحبوا بشكل متزايد كل من إخوانكم في الجسد, ليس فقط كأخ ـ بمحبة أخوية ـ لكن أيضاً كأب ـ بود أبوي.
140:5.14 (1574.7) إنه من السهل تعليم هذه النصيحة حتى إلى طفل. يتمتع الأطفال بالثقة بشكل طبيعي ويجب على الآباء التأكد بأن من عدم فقدهم لهذا الإيمان البسيط. في التعامل مع الأطفال, تجنب كل خداع وامتنع عن إيحاء الشك. ساعدهم بحكمة في اختيار أبطالهم واختيار عمل حياتهم.
140:5.15 (1574.8) ثم مضى يسوع ليرشد أتباعه في إدراك الهدف الرئيسي لكل الكفاح البشري ـ الكمال ـ حتى الإحراز الإلَهي. دائماً نصحهم: "كونوا مثاليين, حتى كما أباكم في السماء مثالي." لم يحث الاثني عشر على محبة جيرانهم كما أحبوا أنفسهم. كان ذلك سيكون إنجازاً جديراً؛ كان سيشير إلى إنجازات المحبة الأخوية. هو بالأحرى نصح رُسله أن يحبوا الناس كما هو أحبهم ــ أن يحبوا بود أبوي بالإضافة إلى ود أخوي. وقد صوَّر هذا بالإشارة إلى أربعة تفاعلات سامية للمحبة الأبوية:
140:5.16 (1575.1) 1. "طوبى للحزانى, لأنهم سيتعزون." إن ما يسمى المنطق السليم أو أفضل المنطق لا يوحي أبداً بأن السعادة يمكن أن تستمد من النواح. لكن يسوع لم يشير إلى النواح الخارجي أو المتباهي. لقد ألمَحَ إلى موقف عاطفي من رقة القلب. إنه لخطأ كبير تعليم الصبيان والشبان بأنه ليس من الرجولة إظهار الحنان أو سوى ذلك تقديم دليل على الشعور العاطفي أو المعاناة الجسدية. التعاطف سجية جديرة في الذَكَر وكذلك الأُنثى. إنه ليس من الضروري أن تكون قاسياً من أجل أن تكون رجولياً. هذه هي الطريقة الخاطئة لخلق رجال شجعان. لم يكن رجال العالَم العظماء خائفين من النواح. موسى, النائح, كان رَجلاً أعظم من شمشون أو جليات. كان موسى قائداً رائعاً, لكنه كان أيضاً رجل وداعة. أن تكون حساساً ومتجاوباً لحاجة إنسانية يخلق سعادة أصلية ودائمة, في حين أن هذه المواقف الشفوقة تحمي النفـْس من التأثيرات المدمرة للغضب, والبغضاء, والريبة.
140:5.17 (1575.2) 2. "طوبى للرحماء, لأنهم سيُرحمون." الرحمة هنا تشير إلى ارتفاع وعمق واتساع الصداقة الأكثر حقيقية ــ الحنان المُحب. قد تكون الرحمة في بعض الأحيان سلبية, لكنها هنا نشطة وديناميكية ــ أبوة سامية. يواجه الوالد المحب القليل من الصعوبة في مسامحة طفله, حتى مرات عديدة. وفي حالة طفل غير مُفسد فإن الرغبة في تخفيف المعاناة أمر طبيعي. الأطفال بشكل طبيعي طيبون ومتعاطفون عندما يبلغون من العمر ما يكفي لتقدير الظروف الفعلية.
140:5.18 (1575.3) 3. "طوبى لصانعي السلام, لأنهم سيُدعَون أبناء الله." كان سامعو يسوع يتوقون من أجل خلاص عسكري, وليس إلى صانعي سلام. لكن سلام يسوع ليس من النوع المسالم والسلبي. في مواجهة المحن والاضطهادات قال, "سلامي أترك معكم." "فلا تدعوا قلوبكم تنزعج, ولا لتكون خائفة." هذا هو السلام الذي يمنع الصراعات المدمرة. السلام الشخصي يكامل الشخصية. السلام الاجتماعي يمنع الخوف, والطمع, والغضب. السلام السياسي يمنع العداوات العرقية, والشكوك القومية, والحرب. صناعة السلام هي العلاج للريبة والشك.
140:5.19 (1575.4) يمكن تعليم الأولاد بسهولة أن يعملوا كصانعي سلام. هم يستمتعون بأنشطة الفريق؛ يحبون اللعب معاً. قال السيد في وقت آخر: "كل من شاء تخليص حياته سيخسرها, لكن كل من شاء خسارة حياته سيجدها."
140:5.20 (1575.5) 4. "طوبى للمضطهَدين من أجل البر, لأن لهم ملكوت السماء. طوبى لكم عندما سيشتمكم الناس ويضطهدونكم وسيقولون كل نوع من الشر ضدكم زوراً. افرحوا وتهللوا لأبعد حد, لأن أجرَكم عظيم في السماء."
140:5.21 (1575.6) غالباً ما يتبع الاضطهاد السلام. لكن الشباب والبالغين الشجعان لا يتجنبون أبداً الصعوبة أو الخطر. "ليس لرَجل محبة أعظم من أن يضحى بحياته من أجل أصدقائه. والمحبة الأبوية يمكنها فعل كل هذه الأشياء بحريةــ الأشياء التي بالكاد يمكن للمحبة الأخوية أن تكتنفها. ودائماً كان التقدم الحصاد النهائي للاضطهاد.
140:5.22 (1575.7) يستجيب الأطفال دائماً لتحدي الشجاعة. الشباب دائماً على استعداد لأن "يتجرأ". وينبغي أن يتعلم كل طفل في وقت مبكر أن يُضَّحي.
140:5.23 (1575.8) وهكذا يتضح أن تطويبات الموعظة على الجبل مؤسسة على الإيمان والمحبة وليس على الشريعة ــ الأخلاق والواجب.
140:5.24 (1575.9) المحبة الأبوية تبتهج في إعادة خير من أجل الشر ــ فعل الخير في مقابل الظلم.
140:6.1 (1576.1) مساء الأحد, عند الوصول إلى بيت زَبـِدي من المرتفعات شمال كفرناحوم, تناول يسوع والاثنا عشر وجبة بسيطة. بعدها, بينما ذهب يسوع ليتمشى بجانب الشاطئ, تحدث الاثنا عشر فيما بينهم. بعد مؤتمر قصير, بينما يُضرم التوأم نار صغيرة لإعطائهم الدفء والمزيد من الضوء, خرج أندراوس ليجد يسوع, وعندما لحق به, قال: "يا سيد, إخواني غير قادرين على فهم ما قلته عن الملكوت. لا نشعر بأننا قادرين على بدء هذا العمل حتى تكون قد أعطيتنا المزيد من الإرشاد. جئت لأطلب منك الانضمام إلينا في الحديقة ومساعدتنا على فهم معنى كلماتك." وذهب يسوع مع أندراوس ليجتمع مع الرُسل.
140:6.2 (1576.2) عندما دخل الحديقة, جمَّع الرُسل حوله وعلـَّمهم أكثر, قائلاً: "تجدون صعوبة في تلقي رسالتي لأنكم تبنون التعليم الجديد مباشرة فوق القديم, لكنني أعلن بأنكم يجب أن تولدوا من جديد. يجب أن تبدأوا من جديد كأولاد صغار وتكونوا مستعدين للوثوق في تعليمي وتؤمنوا بالله. الإنجيل الجديد للملكوت لا يمكن جعله موافقاً إلى ذلك الموجود. لديكم أفكار خاطئة عن ابن الإنسان ومهمته على الأرض. لكن لا ترتكبوا خطأ التفكير في أنني جئت لأضع القانون والأنبياء جانباً؛ لم آتي لأدمر بل لأكـَّمل, لأكـَّبر وأنَّور. لم آتي لمخالفة القانون بل بالأحرى لأكتب هذه الوصايا الجديدة على ألواح قلوبكم.
140:6.3 (1576.3) " أطالبكم ببر الذي يفوق بر أولئك الذين يسعون للحصول على حظوة الأب بإعطاء الحسنات, والصلاة, والصيام. إذا كنتم ستدخلون الملكوت, يجب أن يكون لديكم البر الذي يتكون في المحبة, والرحمة, والحق ــ الرغبة الصادقة لفعل مشيئة أبي في السماء."
140:6.4 (1576.4) عندئذٍ قال سمعان بطرس: "يا سيد, إذا كان لديك وصية جديدة, نود أن نسمعها. أظهر لنا الطريق الجديد." أجاب يسوع بطرس: "لقد سمعتم يقال من قبل أولئك الذين يعَّلمون الشريعة: ’لا تقتل؛ ومن قتل سيكون مستوجباً الحُكم‘. لكنني أتطلع إلى ما وراء الفعل للكشف عن الدافع. أعلن لكم بأن كل امرؤٍ غاضب من أخيه هو في خطر الدينونة. الذي يرعى البغضاء في قلبه ويخطط للانتقام في عقله يقف في خطر القضاء. يجب أن تحكموا على زملائكم من خلال أعمالهم؛ الأب في السماء يحكم بالنية.
140:6.5 (1576.5) "لقد سمعتم معلمي القانون يقولون, ’لا تزني‘. لكني أقول لكم بأن كل رَجل ينظر إلى امرأة بقصد اشتهائها هو تواً قد اقترف الزنا معها في قلبه. لا يمكنكم أن تحكموا على الناس إلا من خلال أفعالهم, لكن أبي ينظر في قلوب أولاده ويحاكمهم في رحمة وفقاً لنواياهم ورغباتهم الحقيقية."
140:6.6 (1576.6) كان يسوع ينوي الاستمرار في مناقشة الوصايا الأخرى عندما قاطعه يعقوب زَبـِدي, سائلاً: "يا سيد, ماذا يجب أن نعلم الناس بما يخص الطلاق؟ هل نسمح للرجل أن يطـَّلق زوجته كما وجّه موسى؟" وعندما سمع يسوع هذا السؤال, قال: "لم آتي لكي أشترع بل لأنَّور. لم آتي لإصلاح ممالك هذا العالَم بل بالأحرى لأقيم ملكوت السماء. إنها ليست مشيئة الأب بأني يجب أن أستسلم لإغراء تعليمكم قوانين الحكومة, أو التجارة, أو السلوك الاجتماعي, التي, بينما قد تكون صالحة من أجل اليوم, ستكون بعيدة كل البعد عن كونها مناسبة لمجتمع عصر آخر. أنا على الأرض فقط لأواسي العقول, وأحرر الأرواح, وأنقذ نفوس الناس. لكنني سأقول, بشأن هذا السؤال عن الطلاق, أنه, بينما نظر موسى بعين الرضا على مثل هذه الأشياء, لم يكن الأمر هكذا في أيام آدم وفي الجنينة."
140:6.7 (1577.1) بعدما تحدث الرُسل فيما بينهم لوقت قصير, تابع يسوع قائلاً: "دائماً يجب أن تتعرفوا على وجهتي النظر لكل تصرف بشري ــ الإنسانية والإلَهية؛ طرق الجسد وطريق الروح؛ تقدير الوقت ووجهة نظر الأبدية." ورغم أن الاثني عشر لم يتمكنوا من فهم كل ما علـَّمهم إياه, فقد ساعدهم هذا الإرشاد حقاً.
140:6.8 (1577.2) ثم قال يسوع: "لكنكم ستتعثرون فوق تعليمي لأنكم معتادين على تفسير رسالتي حرفياً؛ أنتم بطيئون لتمييز روح تعليمي. مرة أخرى يجب أن تتذكروا بأنكم رُسلي؛ أنتم مديونين بالفضل لتعيشوا حياتكم كما عشت حياتي في الروح. أنتم ممثلي الشخصيين؛ لكن لا تخطئوا في توقع أن يعيش كل الناس كما تفعلون في كل شأن. كذلك يجب أن تتذكروا بأن لدي خرافًا ليست من هذه القطيع, وبأني مدين لهم أيضًا, إلى الحد بأنني يجب أن أزود لهم نموذجًا لعمل مشيئة الله بينما أعيش حياة الطبيعة الفانية."
140:6.9 (1577.3) عند ذلك سأله نثانئيل: "يا سيد, هل يجب أن لا نعطي مكاناً للعدالة؛ يقول قانون موسى, ’ العين بالعين والسن بالسن ‘. ماذا يجب أن نقول؟" فأجاب يسوع: "يجب أن تردوا خيراً من أجل الشر. لا يجب على رُسلي أن يجاهدوا مع الناس, بل يكونوا لطيفين تجاه الجميع. مكيال من أجل مكيال يجب ألا يكون حُكمكم. قد يكون لدى حكام الناس مثل هذه القوانين, لكن ليس كذلك في الملكوت؛ يجب على الرحمة أن تقرر دائماً أحكامكم والمحبة سلوككم. وإذا كانت هذه الأقوال صعبة, يمكنكم الرجوع حتى الآن. إذا وجدتم أن المتطلبات الرسولية صعبة جداً, يمكنكم الرجوع إلى طريق التلمذة الأقل صرامةً."
140:6.10 (1577.4) عند سماع هذه الكلمات المجفلة, انسحب الرُسل على حدة بأنفسهم لبرهة, لكنهم سرعان ما عادواً, وقال بطرس: "يا سيد, نود أن نستمر معك؛ لن يعود أحد منا. نحن مستعدون تماماً لدفع الثمن الإضافي؛ سنشرب الكأس. سنكون رُسلاً, وليس مجرد تلاميذ."
140:6.11 (1577.5) عندما سمع يسوع هذا, قال: "كونوا راغبين, إذن, لتأخذوا مسؤولياتكم وتتبعوني. افعلوا أعمالكم الصالحة في الخفاء؛ عندما تعطوا حسنات, لا تدعوا اليد اليسرى تعرف ما تفعله اليد اليمنى. وعندما تصَّلون, اذهبوا بأنفسكم على حدة ولا تستخدموا تكرارات عابثة وعبارات لا معنى لها. دائماً تذكّروا بأن الأب يعرف ما تحتاجونه حتى قبل أن تسألوه. ولا تكونوا مُعطين للصيام بملامح حزينة لكي يراكم الناس. كرُسلي المختارين, وضِعوا الآن على حدة لخدمة الملكوت, لا تضعوا لأنفسكم كنوزاً على الأرض, لكن بخدمتكم اللا-أنانية تضعون لأنفسكم كنوزاً في السماء, لأنه حيث توجد كنوزكم, هنالك أيضاً ستكون قلوبكم.
140:6.12 (1577.6) "سراج الجسد هو العين؛ لذلك, إذا, كانت عينك كريمة, سيكون جسدك كله مملوءًا بالنور. لكن إذا كانت عينك أنانية, فسيمتلئ الجسم كله بالظلمة. إذا تحوَّل النور الذي فيك إلى ظلمة, فما أعظم تلك الظلمة!"
140:6.13 (1577.7) وعند ذاك سأل توما يسوع عما إذا كان ينبغي عليهم "أن يستمروا بأن يكون لديهم كل شيء مشترك." قال السيد: "نعم, يا إخواني, أود أننا سنعيش معاً كعائلة متفهمة واحدة. أنتم مؤتمنين بعمل عظيم, وأتوق إلى خدمتكم غير المقسمة. تعرفون بأنه قد قيل حسناً: ’لا إنسان يستطيع أن يخدم سيدين‘. لا تستطيعون عبادة الله بإخلاص وفي نفس الوقت خدمة سلطان الجشع بكل قلوبكم. بعد أن تجندتم الآن بلا تحفظ في عمل الملكوت, لا تقلقوا من أجل معايشكم؛ أقل بكثير كونوا مهتمين بماذا ستأكلون أو ستشربون؛ ولا حتى من أجل اجسادكم, ماذا ستلبسون. تواً قد تعلمتم بأن أيادي راغبة وقلوب صادقة لن تجوع. والآن, عندما تستعدون لتكريس كل طاقاتكم إلى عمل الملكوت, كونوا واثقين بأن الأب لن يكون غافلاً عن حاجاتكم. اطلبوا ملكوت الله أولاً, وعندما تجدون مدخلًا إليه, كل الأشياء ذات الحاجة ستكون مضافة إليكم. لا تكونوا, لذلك, قلقين دون داعي من أجل الغد. يكفي لليوم مشاكله."
140:6.14 (1578.1) عندما رأى يسوع بأنهم يميلون للبقاء مستيقظين طوال الليل لطرح الأسئلة, قال لهم: "يا إخواني, أنتم أوعية خزفية؛ من الأفضل لكم أن تذهبوا لراحتكم بحيث تكونوا مستعدين لعمل الغد." لكن النوم فارق عيونهم. تجرأ بطرس أن يطلب من سيده بأن "لدي فقط حديث خاص معك. ليس لأن سيكون لدي أسرار عن إخواني, لكن لدي روح منزعجة, وإذا, من المفترض, أن استحق التوبيخ من سيدي, فمن الأفضل أن أتحمله وحدي معك." وقال يسوع, "تعال معي, يا بطرس" ــ قائداً الطريق نحو المنزل. عندما عاد بطرس من حضرة السيد مبتهجاً جداً ومتشجعاً للغاية, قرر يعقوب الدخول للتحدث مع يسوع. وهكذا خلال الساعات المبكرة من الصباح, ذهب الرُسل الآخرون واحداً تلو الآخر للتحدث مع السيد. عندما عقدوا كلهم مؤتمرات شخصية معه باستثناء التوأم, الذين رقدا في النوم, ذهب أندراوس إلى يسوع وقال: "يا سيد, لقد نام التوأم في الحديقة بجانب النار؛ هل يجب أن أوقظهما لأسأل إذا كانا يودان التكلم معك أيضًا؟" ويسوع قال لأندراوس مبتسماً, "إنهما بخير ــ لا تزعجهما." والآن كان الليل ينقضي؛ كان نور نهار آخر ينبلج.
140:7.1 (1578.2) بعد نوم ساعات قليلة, عندما تجَّمع الاثنا عشر لتناول إفطار متأخر مع يسوع, قال: "الآن يجب أن تبدأوا عملكم في وعظ البشائر وإرشاد المؤمنين. استعدوا للذهاب إلى أورشليم." بعد أن تكلم يسوع, استجمع توما الشجاعة ليقول: "أعلم, يا سيد, بأنه يجب علينا أن نستعد الآن للدخول في العمل, لكنني أخشى أننا لسنا قادرين بعد على إنجاز هذا التعهد العظيم. هل ستوافق من أجلنا أن نبقى هنا فقط لبضعة أيام أخرى قبل أن نبدأ عمل الملكوت؟" وعندما رأى يسوع بأن كل رُسله كانوا ممتلكين بذات الخوف هذا, قال: "سيكون كما طلبتم؛ سنبقى هنا في يوم السبت."
140:7.2 (1578.3) لأسابيع وأسابيع كانت جماعات صغيرة من الباحثين الجادين عن الحقيقة, سوية مع المتفرجين الفضوليين, يأتون إلى بيت-صيدا لرؤية يسوع. بالفعل قد انتشر الخبر عنه في الريف؛ جاءت جماعات مستفسرة من مدن بعيدة مثل صور, وصيدا, ودمشق, وقيصريه, وأورشليم. حتى الآن, كان يسوع قد رَحب بهؤلاء الناس وعلـَّمهم عن الملكوت, لكن السيد حوَّل الآن هذا العمل إلى الاثني عشر. قد يختار أندراوس واحداً من الرُسل ويعَّينه إلى جماعة من الزائرين, وفي بعض الأحيان كان كل الاثني عشر يتعاطون هكذا.
140:7.3 (1578.4) عملوا ليومين, يعَّلمون بالنهار ويعقدون مؤتمرات خاصة متأخراً نحو الليل. في اليوم الثالث زار يسوع زَبـِدي وصالومي بينما أرسل رُسله "اذهبوا لصيد السمك, واطلبوا تغييراً خالياً من الهموم, أو إذا صادف زوروا عائلاتكم." عادوا يوم الخميس لثلاثة أيام أخرى من التعليم.
140:7.4 (1578.5) أثناء هذا الأسبوع من التمرين, كرر يسوع عدة مرات لرُسله الدافِعَين الرئيسيين لمهمته ما بعد المعمودية على الأرض:
140:7.5 (1578.6) 1. لكشف الأب إلى الإنسان.
140:7.6 (1578.7) 2. لقيادة الناس ليصبحوا واعين بالابن ــ ليدركوا بالإيمان بأنهم أبناء العلي.
140:7.7 (1579.1) أسبوع واحد من هذه الخبرة المتنوعة كان له أثر كبير على الاثني عشر, حتى أصبح لدى البعض ثقة زائدة بالذات. في المؤتمر الأخير, الليلة التي أعقبت السبت, جاء بطرس ويعقوب إلى يسوع, قائلين, "نحن مستعدون ــ لننطلق الآن لأخذ الملكوت." الذي أجاب إليه يسوع, "لعل حكمتك تساوي حماسك وشجاعتك تكفر عن جهلك."
140:7.8 (1579.2) على الرغم من فشل الرُسل في استيعاب الكثير من تعليمه, لم يفشلوا في إدراك أهمية الحياة الجميلة الساحرة التي عاشها معهم.
140:8.1 (1579.3) كان يسوع يعلم جيداً بأن رُسله لم يستوعبوا تعاليمه بالكامل. قرر أن يعطي بعض الإرشاد الخاص لبطرس, ويعقوب, ويوحنا, على أمل أن يتمكنوا من توضيح أفكار زملائهم. رأى أنه, بينما يتم استيعاب بعض ملامح فكرة مملكة روحيّة من قبل الاثني عشر, فقد استمروا بثبات في ربط هذه التعاليم الروحية الجديدة مباشرة بمفاهيمهم القديمة والمُستحكمة بشكل حرفي لملكوت السماء كاسترداد لعرش داود وإعادة تأسيس إسرائيل كقدرة دنيوية على الأرض. تبعاً لذلك, بعد ظهر يوم خميس أبحر يسوع من الشاطئ في قارب مع بطرس, ويعقوب, ويوحنا للتحدث عن شؤون الملكوت. كان هذا مؤتمراً تعليمياً لمدة أربع ساعات, ضم عشرات الأسئلة والأجوبة, وربما يكون أكثر فائدة وضعها في هذا السجل من خلال إعادة تنظيم الملخص لعصر هذا اليوم المهم كما قدمه سمعان بطرس لأخيه, أندراوس, في الصباح التالي:
140:8.2 (1579.4) 1. فعل مشيئة الأب. لم تكن تعاليم يسوع حول الرعاية الفوقية للأب السماوي قدراً أعمى وسلبي. استشهد بعد ظهر اليوم باستحسان بقول عبري قديم: "مَن لا يعمل فلن يأكل." أشار إلى تجربته الخاصة باعتبارها تعليقًا كافيًا على تعاليمه. مبادئه المتعلقة بالثقة في الأب لا يجب الحكم عليها بالظروف الاجتماعية أو الاقتصادية في العصر الحديث أو أي عصر آخر. إرشاده يتضمن المبادئ المُثلى للعيش بالقرب من الله في كل العصور وعلى جميع العوالم.
140:8.3 (1579.5) أوضح يسوع للثلاثة الفرق بين متطلبات الرسولية والتلمذة. وحتى في ذلك الحين لم يمانع ممارسة الحذر والتبصر من قِبل الاثني عشر. ما وعظ ضده لم يكن التبصر بل القلق, الهَم. علـَّم الخضوع النشط والمتيقظ لمشيئة الله. ردًا على العديد من أسئلتهم المتعلقة بالاقتصاد والتوفير, لفت الانتباه ببساطة إلى حياته كنجار, وصانع قوارب, وصياد سمك, وإلى تنظيمه الدقيق للاثني عشر. لقد سعى إلى توضيح أنه لا ينبغي أن يُنظر إلى العالم على أنه عدو؛ بأن ظروف الحياة تشكل افتقاداً إلَهياً يعمل مع أبناء الله.
140:8.4 (1579.6) واجه يسوع صعوبة كبيرة في جعلهم يفهمون ممارسته الشخصية المتمثلة في عدم المقاومة. رفض مطلقاً الدفاع عن نفسه, وبدا للرُسل بأنه سيكون مسروراً إذا هم اتبعوا نفس السياسة. علمهم ألا يقاوموا الشر, وأن لا يحاربوا الظلم أو الأذية, لكنه لم يعلمهم التسامح السلبي مع ارتكاب الخطأ. وأوضح على هذه العصرية بأنه موافق على القصاص الاجتماعي لفاعلي الشر والمجرمين, وأنه يتعين على الحكومة المدنية أحياناً استخدام القوة للحفاظ على النظام الاجتماعي وتحقيق العدالة.
140:8.5 (1579.7) لم يتوقف أبداً عن تحذير تلاميذه من ممارسات الانتقام الشريرة؛ لم يجعل ترخيص من أجل الثأر, فكرة التعادل. شجب التمسك بالأحقاد. لم يجيز فكرة العين بالعين والسن بالسن. استبعد مفهوم الانتقام الخاص والشخصي برمته, مسنداً هذه الأمور إلى الحكومة المدنية, من جهة, ولحكم الله, من جهة أخرى. أوضح للثلاثة بأن تعاليمه تنطبق على الفرد, وليس الدولة. لخَّص إرشاداته حتى ذلك الوقت بشأن هذه الأمور على النحو التالي:
140:8.6 (1580.1) احبوا أعداءكم ــ تذكَّروا الادعاءات الأخلاقية للإخاء البشري.
140:8.7 (1580.2) عقم الشر: الخطأ لا يصحح بالثأر. لا ترتكب خطأ محاربة الشر بأسلحته الخاصة.
140:8.8 (1580.3) ليكن لديك إيمان ــ ثقة في انتصار العدالة الإلهية والخير الأبدي في نهاية المطاف.
140:8.9 (1580.4) 2. الموقف السياسي. حض رُسله على التكتم في ملاحظاتهم بما يخص العلاقات المتوترة القائمة آنذاك بين الشعب اليهودي والحكومة الرومانية؛ منعهم من التورط بأي شكل من الأشكال في هذه الصعوبات. كان دائماً حريصاً على تجنب الأفخاخ السياسية لأعدائه, وكان يجيب دائماً, "أعطي لقيصر ما لقيصر ولله ما هو لله." رفض أن يحول انتباهه عن مهمته المتمثلة في تأسيس طريقة جديدة للخلاص؛ لن يسمح لنفسه بأن يكون مهتماً بأي شيء آخر. في حياته الشخصية كان دائماً مراعياً على النحو الواجب لكل القوانين واللوائح المدنية؛ في كل تعاليمه العلنية تجاهل المجالات المدنية, والاجتماعية, والاقتصادية. أخبر الرُسل الثلاثة بأنه مهتم فقط بمبادئ الحياة الروحية الداخلية والشخصية للإنسان.
140:8.10 (1580.5) لم يكن يسوع, بالتالي, مُصَّلحاً سياسياً. لم يأتِ لإعادة تنظيم العالَم؛ حتى لو كان قد فعل هذا, كان سيكون مطبقاً فقط إلى ذلك اليوم والجيل. مع ذلك, أظهر للإنسان الطريقة الأفضل للعيش, ولا يعفى أي جيل من العمل لاكتشاف أفضل السبل لتكييف حياة يسوع مع مشاكله الخاصة. لكن لا تخطئ أبداً في مطابقة تعاليم يسوع مع أي نظرية سياسية أو اقتصادية, مع أي نظام اجتماعي أو صناعي.
140:8.11 (1580.6) 3. الموقف الاجتماعي. ناقش الحاخامات اليهود منذ فترة طويلة السؤال: من هو جَاري؟ جاء يسوع يقدم فكرة اللطف النشط والعفوي, محبة للناس زملاء المرء أصلية جداً بحيث وسعت الجيرة لتشمل العالَم بأسره, بهذا جاعلة كل الناس جيران المرء. لكن مع كل هذا, كان يسوع مهتماً فقط بالفرد, ليس بالجمهور. لم يكن يسوع موجهاً اجتماعياً, لكنه بذل جهداً لكسر كل أشكال العزلة الأنانية. علـَّم التعاطف الخالص, الشفقة. ميخائيل نِبادون ابن مُسيطر عليه بالرحمة؛ الشفقة هي طبيعته بالذات.
140:8.12 (1580.7) لم يقل السيد بأن الناس يجب ألا يرفهوا عن أصدقائهم عند الطعام, لكنه قال بأن أتباعه يجب أن يعملوا ولائم للفقراء والمعسرين. كان لدى يسوع إحساس راسخ بالعدالة, لكنه كان دائماً ملطفاً بالرحمة. لم يعَّلم رُسله بأنهم سيُفرض عليهم الطفيليات الاجتماعية أو المتوسلون المهنيون. الأقرب هو أتى لإصدار تصريحات اجتماعية كانت قول, "لا تدينوا, لكي لا تُدانوا."
140:8.13 (1580.8) أوضح بأن اللطف العشوائي يمكن أن يلام على العديد من الشرور الاجتماعية. في اليوم التالي أرشد يسوع يوداص بشكل قاطع بعدم صرف أموال رسولية كصدقات إلا بناء على طلبه أو على التماس مشترك من اثنين من الرُسل. في كل هذه الأمور كانت ممارسة يسوع دائماً أن يقول, "كونوا حكماء مثل الأفاعي لكن بدون أذى مثل الحمام." لقد بدا أن هدفه في جميع المواقف الاجتماعية هو تعليم الصبر, والحُلم, والتسامح.
140:8.14 (1581.1) شغلت العائلة صميم فلسفة يسوع في الحياة ــ هنا وفي الآخرة. أسس تعاليمه عن الله على بعد, بينما سعى لتصحيح المَيل اليهودي للمغالاة في تشريف الأسلاف. مجَّد الحياة العائلية كأعلى واجب إنساني لكنه أوضح بأن العلاقات الأسرية يجب ألا تتدخل بالالتزامات الدِينية. لفت الانتباه إلى حقيقة أن العائلة هي مؤسسة دنيوية؛ وبأنها لا تنجو الموت. لم يتردد يسوع في التخلي عن عائلته عندما تعارضت العائلة مع مشيئة الأب. علـَّم الأخوية الجديدة والمكـَّبرة للإنسان ــ أبناء الله. كانت ممارسات الطلاق في زمن يسوع متساهلة في فلسطين وفي جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية. رفض تكراراً وضع قوانين تتعلق بالزواج والطلاق, لكن العديد من أتباع يسوع المبكرين كان لديهم وجهات نظر قوية بشأن الطلاق ولم يترددوا في نسبها إليه. تمسك جميع كتبة العهد الجديد بهذه الأفكار الأكثر صرامة وتقدمًا حول الطلاق باستثناء يوحنا مرقس.
140:8.15 (1581.2) 4. الموقف الاقتصادي. لقد عمل يسوع, وعاش, وتاجر في العالَم كما وجده. لم يكن مصلحاً اقتصادياً, على أنه كثيرا ما لفت الانتباه إلى ظلم التوزيع غير المتكافئ للثروة. لكنه لم يقدم أي اقتراحات على سبيل العلاج. أوضح للثلاثة أنه, بينما لم يكن رسله يحتفظون بالممتلكات, فإنه لم يعظ ضد الثروة والممتلكات, مجرد توزيعها غير المتكافئ وغير العادل. لقد أدرك الحاجة للعدل الاجتماعي والإنصاف الصناعي, لكنه لم يقدم أي قوانين لتحقيقها.
140:8.16 (1581.3) لم يعَّلم أتباعه أبداً أن يتجنبوا الممتلكات الأرضية, فقط رُسله الاثني عشر. لوقا, الطبيب, كان مؤمناً قوياً بالمساواة الاجتماعية, وفعل الكثير لتفسير أقوال يسوع بما يتوافق مع معتقداته الشخصية. لم يوَّجه يسوع أبداً شخصياً أتباعه إلى تبني نمط حياة مشاعي؛ لم يصدر أي تصريح من أي نوع بخصوص مثل هذه الأمور.
140:8.17 (1581.4) كثيرًا ما حذر يسوع مستمعيه من الطمع, معلناً أن "سعادة الإنسان لا تكمن في وفرة ممتلكاته المادية." كرر باستمرار, "ما الذي ينفع الإنسان لو ربح العالَم كله وخسر نفـْسه؟" لم يقم بأي هجوم مباشر على حيازة الممتلكات, لكنه أصر على أنه من الضروري إلى الأبد أن تأتي القيم الروحية أولاً. سعى في تعاليمه اللاحقة إلى تصحيح العديد من وجهات نظر يورانشيا الخاطئة في الحياة من خلال سرد العديد من الأمثال التي قدمها في سياق إسعافه العلني. لم يقصد يسوع أبداً صياغة نظريات اقتصادية؛ كان يعلم جيداً بأن كل عصر يجب أن يطور علاجاته الخاصة للمشاكل القائمة. ولو كان يسوع على الأرض اليوم, يعيش حياته في الجسد, فسيكون خيبة أمل كبيرة لغالبية الرجال والنساء الصالحين للسبب البسيط بأنه لن ينحاز إلى أي طرف في النزاعات السياسية, أو الاجتماعية, أو الاقتصادية الحالية. سيبقى مترفعاً بجلال بينما يعَّلمكم كيف تكاملون حياتكم الروحية الداخلية بحيث يجعلكم مرات كثيرة أكثر قدرة على مهاجمة حل مشاكلكم الإنسانية البحتة.
140:8.18 (1581.5) يود يسوع جعْل كل الناس مثل الله وعند ذاك سيقف جانباً متعاطفًا بينما يحل أبناء الله هؤلاء مشاكلهم السياسية, والاجتماعية, والاقتصادية. لم تكن الثروة ما استنكره, بل ما تفعله الثروة لغالبية المكرسين إليها. في عصر هذا الخميس قال يسوع لزملائه أولاً بأنه "مبارك العطاء أكثر من الأخذ."
140:8.19 (1581.6) 5. الدِين الشخصي. أنتم, كما فعل رُسله, يجب أن تفهموا تعاليم يسوع بشكل أفضل من خلال حياته. عاش حياة مثالية على يورانشيا, وتعاليمه الفريدة لا يمكن فهمها إلا عندما يتم تصور تلك الحياة في خلفيتها المباشرة. إنها حياته, وليست دروسه إلى الاثني عشر أو عظاته للجموع, التي ستساعد أكثر في الكشف عن طبع الأب الإلَهي وشخصيته المُحبة.
140:8.20 (1582.1) لم يهاجم يسوع تعاليم الأنبياء العبريين أو الأخلاقيين الإغريق. لقد أدرك السيد الأشياء الجيدة العديدة التي دافع عنها هؤلاء المعلمون العظماء, لكنه نزل إلى الأرض ليعَّلم شيئًا إضافيًا, "المطابقة الطوعية لمشيئة الإنسان مع مشيئة الله." لم يرِد يسوع ببساطة أن ينتج إنساناً متديناً, بشري مشغول كلياً بالمشاعر الدِينية ومُحرَّك فقط بالدوافع الروحية. لو أمكنك إلقاء نظرة واحدة عليه, لكنت عرفت بأن يسوع كان إنساناً حقيقياً ذو خبرة عظيمة في أمور هذا العالَم. تعاليم يسوع في هذا لصدد قد تم تحريفها بشكل صارخ وأسيء تقديمها كثيراً نزولاً خلال قرون العهد المسيحي؛ أيضاً قد تمسكتم بأفكار محرفة عن وداعة السيد وتواضعه. ما كان يهدف إليه في حياته يبدو أنه كان احتراماً رائعاً للذات. هو فقط نصح الإنسان بالتواضع بحيث يمكنه أن يصبح مُمَجَداً حقاً؛ ما كان يهدف إليه حقاً كان التواضع الحقيقي تجاه الله. وضع قيمة كبيرة على الصدق ــ قلب نقي. كان الإخلاص فضيلة أساسية في تقديره للطبع, بينما كانت الشجاعة جوهر تعاليمه. كان شعاره, "لا تخَف" والتحمل الصبور مثاله لقوة الطبع. تشكل تعاليم يسوع دِيناً من البسالة, والشجاعة, والبطولة. وهذا بالضبط هو سبب اختياره كممثليه الشخصيين الاثني عشر رَجلاً عادياً, كان معظمهم صيادي أسماك خشنين, وكاملي الرجولة, وذوي نخوة.
140:8.21 (1582.2) كان لدى يسوع القليل ليقوله عن الرذائل الاجتماعية ليومه؛ نادرا ما أشار إلى الانحراف الأخلاقي. كان معلماً إيجابياً للفضيلة الحقيقية. تجنب بجدية الأسلوب السلبي لتبليغ الإرشاد؛ رفض الإعلان للشر. لم يكن حتى مصلحاً أخلاقياً. كان يعلم جيداً, وهكذا علـَّم رُسله, بأن الحوافز الحسية لجنس الإنسان ليست لتُكبح إما بالتوبيخ الديني أو المحظورات الشرعية. كانت تنديداته القليلة موجهة إلى حد كبير ضد الفخر, والقسوة, والظلم, والنفاق.
140:8.22 (1582.3) لم يُندد يسوع بحمية حتى بالفريسيين, كما فعل يوحنا. عرف بأن كثيرين من الكتبة والفريسيين كانوا أمناء في القلب؛ فهم رباطهم المستعبد للتقاليد الدِينية. ركز يسوع بشدة على "جعل الشجرة صالحة أولاً." أثـَّر على الثلاثة بأنه يُقـَّدر كل الحياة, ليس فقط فضائل خاصة قليلة معينة.
140:8.23 (1582.4) الشيء الواحد الذي اكتسبه يوحنا من تعليم هذا اليوم كان بأن قلب دِين يسوع تألف في اكتساب طبع شفوق مقرون بشخصية مُحرَّكة لفعل مشيئة الأب في السماء.
140:8.24 (1582.5) أدرك بطرس فكرة أن الإنجيل الذي كانوا على وشك إعلانه كان حقًا بداية جديدة للجنس البشري بأسره. وقد نقل هذا الانطباع لاحقاً إلى بولس, الذي صاغ من هناك مذهبه عن المسيح على أنه "آدم الثاني."
140:8.25 (1582.6) أدرك يعقوب الحقيقة المثيرة بأن يسوع أراد أن يعيش أولاده على الأرض كما لو كانوا بالفعل مواطنين للملكوت السماوي المكتمل.
140:8.26 (1582.7) عرف يسوع بأن الناس مختلفون, وهكذا علـَّم رُسله. حثهم باستمرار على الامتناع عن محاولة قولبة التلاميذ والمؤمنين وفقاً لنمط معين. سعى للسماح لكل نفس بأن تتطور بطريقتها الخاصة, فرد مُكمل ومنفصل أمام الله. في رد على أحد أسئلة بطرس الكثيرة, قال السيد: "أريد أن أحرر الناس حتى يتمكنوا من البدء من جديد كأطفال صغار في حياة جديدة وأفضل." أصَّر يسوع دائماً بأن الصلاح الحقيقي يجب أن يكون غير واعي, في منح الإحسان لا تسمح لليد اليسرى بمعرفة ما تفعله اليد اليمنى.
140:8.27 (1583.1) كان الرُسل الثلاثة مصدومين بعد ظهر هذا اليوم عندما أدركوا بأن دِين سيدهم لم يتضمن أي تجهيزات من أجل الفحص-الذاتي الروحي. كل الأديان قبل وبعد أوقات يسوع, حتى المسيحية, زودت بعناية من أجل فحص-ذاتي ضميري. لكن ليس الأمر كذلك مع دِين يسوع الناصري. فلسفة حياة يسوع خالية من التأمل الديني. لم يعَّلم ابن النجار أبداً بناء الطبع؛ علـَّم نمو الطبع, معلناً بأن ملكوت السماء يشبه حبة الخردل. لكن يسوع لم يقل شيئاً من شأنه أن يحظر التحليل الذاتي كوقاية من الأنانية المغرورة.
140:8.28 (1583.2) الحق في دخول الملكوت مشروط بالإيمان, المعتقد الشخصي. ثمن البقاء في الارتقاء التقدمي للملكوت هو اللؤلؤة ذات الثمن الباهظ, التي من أجل امتلاكها يبيع الإنسان كل ما لديه.
140:8.29 (1583.3) تعليم يسوع هو دِين للجميع, ليس فقط للضعفاء والعبيد. لم يصبح دِينه مبلوراً أبداً (أثناء يومه) إلى عقائد وشرائع لاهوتية؛ لم يترك وراءه خطاً من الكتابة. تم توريث حياته وتعاليمه إلى الكون كميراث ملهم ومثالي ملائم من أجل الإرشاد الروحي والتعليم الأخلاقي لكل العصور في جميع العوالم. وحتى اليوم, يقف تعليم يسوع على حدة من كل الأديان, على هذا النحو, ولو إنه الأمل الحي لكل واحد منها.
140:8.30 (1583.4) لم يعَّلم يسوع رُسله بأن الدِين هو المسعى الأرضي الوحيد للإنسان؛ تلك كانت الفكرة اليهودية لخدمة الله. لكنه أصَّر بأن الدِين كان العمل الحصري للاثني عشر. لم يعَّلم يسوع شيئاً لردع مؤمنيه عن السعي لثقافة أصلية؛ هو فقط انتقص من مدارس أورشليم الدينية المقيدة بالتقاليد. كان حراً, وكبير القلب, ومتعلماً, ومتسامحاً. لم يكن للتقوى الواعية-للذات مكان في فلسفته عن الحياة الصالحة.
140:8.31 (1583.5) لم يقدم السيد أي حلول للمشاكل غير الدِينية في عصره ولا لأي عصر لاحق. أراد يسوع أن يطور البصيرة الروحية إلى الحقائق الأبدية وأن يحفز المبادرة في أصالة الحياة؛ اهتم بشكل حصري بالاحتياجات الروحية الضمنية والدائمة للجنس البشري. كشف صلاحاً مساوياً إلى الله. مجَّد المحبة ــ الحق, والجَمال, والصلاح ــ باعتباره المثال الإلَهي والحقيقة الأبدية.
140:8.32 (1583.6) أتى السيد ليخلق في الإنسان روحاً جديدة, إرادة جديدة ــ لإضفاء استطاعة جديدة لمعرفة الحق, واختبار الرحمة, واختيار الصلاح ــ المشيئة ليكون في ألفة مع مشيئة الله, مقرونة بالرغبة الأبدية في أن يصبح مثالياً, حتى كما الأب في السماء مثالي.
140:9.1 (1583.7) يوم السبت التالي كرس يسوع لرُسله, عائداً إلى المرتفعات حيث عينهم؛ وهناك, بعد رسالة تشجيع شخصية طويلة ومؤثرة بشكل جميل, انخرط في العمل الرسمي لتكريس الاثني عشر. بعد ظهر يوم السبت هذا جمع يسوع الرُسل حوله على جانب التل وسلمهم إلى يدي أبيه السماوي استعداداً لليوم الذي سيضطر فيه إلى تركهم وحدهم في العالم. لم يكن هناك تعليم جديد في هذه المناسبة, فقط زيارة وتواصل.
140:9.2 (1584.1) استعرض يسوع العديد من سمات موعظة الرسامة, التي أُلقيت على هذه البقعة ذاتها, وبعدئذٍ, داعياً إياهم أمامه واحداً تلو الآخر, كلفهم بالانطلاق إلى العالَم كممثليه. كانت عهدة التكريس للسيد: "اذهبوا إلى جميع أنحاء العالم وعِظوا البشائر عن الملكوت, حرروا الأسرى الروحيين, وواسوا المظلومين, وأسعفوا إلى المنكوبين. مجاناً استلمتم, مجاناً أعطوا."
140:9.3 (1584.2) نصحهم يسوع ألا يأخذوا مالاً ولا ألبسة زائدة, قائلاً, "العامل مستحق أجرته." وفي النهاية قال: "انظروا أرسلتكم كغنم في وسط الذئاب؛ كونوا لذلك حكماء كالأفاعي وعديمي الأذى مثل الحمام. لكن احترسوا, لأن أعداءكم سيحضرونكم أمام مجالسهم, بينما يوبخونكم في مجامعهم. ستُحضرون أمام ولاة وحكام لأنكم تؤمنون بهذا الإنجيل, وشهادتكم بالذات ستكون شاهدة لي عليهم. وعندما يقودونكم إلى القضاء, لا تقلقوا بشأن ما ستقولونه, لأن روح أبي يسكنكم وعند ذلك الوقت سيتكلم من خلالكم. بعض منكم سيُعدم, وقبل أن تؤسسوا الملكوت على الأرض, ستكونون مكروهين من قبل شعوب كثيرة بسبب هذا الإنجيل؛ لكن لا تخافوا؛ سأكون معكم, وروحي ستذهب أمامكم نحو كل العالَم. وحضور أبي سيقيم معكم بينما تذهبون أولاً إلى اليهود, وبعدئذٍ إلى الأمميين."
140:9.4 (1584.3) ولما نزلوا من الجبل رحلوا عائدين إلى بيتهم في منزل زَبـِدي.
140:10.1 (1584.4) ذلك المساء بينما يعَّلم في المنزل, لأن المطر بدأ ينهمر, تكلم يسوع مطولاً جداً, محاولا أن يبين للاثني عشر ماذا يجب أن يكونوا عليه, ليس ما يجب عليهم فعله. كانوا يعرفون فقط دِيناً فرضَ فعل أشياء معينة كوسيلة لإحراز البر ــ الخلاص. لكن يسوع سيردد, "في الملكوت يجب أن تكونوا أبراراً من أجل أن تقوموا بالعمل." لقد كرر عدة مرات, "كونوا لذلك مثاليين, حتى كما أباكم في السماء مثالي." وطوال الوقت كان السيد يشرح لرسله الحائرين أن الخلاص الذي جاء ليحضره إلى العالم كان ليتحقق فقط بالإيمان, بالإيمان الصادق والبسيط. قال يسوع: "وعظ يوحنا معمودية توبة, حزناً على طريقة المعيشة القديمة. أنتم لتعلنوا معمودية الزمالة مع الله. بشروا بالتوبة إلى أولئك الواقفين في حاجة لمثل هذا التعليم, ولكن لأولئك الذين يسعون بالفعل إلى الدخول الصادق إلى الملكوت, افتحوا الأبواب على مصراعيها وادعوهم ليدخلوا نحو الزمالة المُفرحة لأبناء الله." لكنها كانت مهمة صعبة لإقناع صيادي السمك الجليليين هؤلاء بأن, في الملكوت, أن يكون باراً, بالإيمان, يجب أن يسبق فعل البر في الحياة اليومية لبشر الأرض.
140:10.2 (1584.5) العائق الكبير الآخر في هذا العمل لتعليم الاثني عشر كان مَيلهم إلى تبني مبادئ مثالية وروحية للغاية للحقيقة الدِينية وإعادة صياغتها في قواعد صلبة للسلوك الشخصي. كان يسوع يقدم إليهم الروح الجميلة لموقف النفـْس, لكنهم أصَّروا على ترجمة هذه التعاليم نحو قواعد للسلوك الشخصي. في كثير من الأحيان, عندما تأكدوا من تذكر ما قاله السيد, كانوا شبه أكيدين من نسيان ما لم يقله. لكنهم استوعبوا ببطء تعليمه لأن يسوع كان كل ما علـَّمه. ما لم يستطعوا اكتسابه من إرشاداته, اكتسبوه تدريجياً بالعيش معه.
140:10.3 (1585.1) لم يكن واضحًا للرسل أن سيدهم كان منخرطًا في عيش حياة من الإلهام الروحي من أجل كل شخص في كل عصر على كل عالَم في الكون النائي. على الرغم مما قاله لهم يسوع من وقت لآخر, لم يدرك الرُسل فكرة أنه كان يقوم بعمل على هذا العالَم لكن من أجل جميع العوالم الأخرى في خلقه الشاسع. عاش يسوع حياته الأرضية على يورانشيا, ليس ليضع مَثلاً شخصياً للمعيشة الفانية لرجال ونساء هذا العالَم, بل بالأحرى ليخلق نموذجاً روحياً ومُلهماً عالياً لكل الكائنات الفانية في جميع العوالم.
140:10.4 (1585.2) هذا المساء بالذات سأل توما يسوع: "يا سيد, تقول بأننا يجب أن نصبح مثل الأطفال الصغار قبل أن نتمكن من كسب الدخول إلى ملكوت الأب, ومع ذلك فقد حذرتنا أن لا ننخدع بالأنبياء الكذبة ولا لنصبح مذنبين بإلقاء دررنا أمام الخنازير. الآن, أنا بصراحة في حيرة. لا أستطيع أن أفهم تعليمك." أجاب يسوع لتوما: "إلى متى سأتحمل معكم! دائماً تصرون على جعل كل ما أعَّلمه حرفياً. عندما طلبت منكم أن تصبحوا مثل الأولاد الصغار كثمن لدخول الملكوت, لم أشير إلى سهولة الخداع, مجرد الإستعداد للاعتقاد, ولا لسرعة الوثوق بالغرباء المسرين. ما رغبت بأنكم يجب أن تجمعوا من الوصف, هو علاقة الأب-بالطفل. أنت الطفل والملكوت أبيك الذي تسعى للدخول إليه. هناك موجود ذلك الود الطبيعي بين كل طفل عادي وأبيه الذي يضمن علاقة متفهمة ومُحبة, والذي يمنع إلى الأبد كل نزعة للمساومة على محبة الأب ورحمته. والإنجيل الذي أنتم منطلقون لوعظه يتعلق بالخلاص الذي ينمو من إدراك-الإيمان بعلاقة الطفل-الأب الأبدية هذه بالذات.
140:10.5 (1585.3) كانت السمة الواحدة لتعليم يسوع بأن أخلاق فلسفته تأصلت في العلاقة الشخصية للفرد بالله ــ علاقة الأب-الطفل هذه بالذات. ركز يسوع على الفرد, لا على الجنس ولا على الأمة. أثناء تناول العشاء, أجرى يسوع حديثًا مع متـّى شرح فيه بأن أخلاقية أي فعل تتحدد بدافع الفرد. كانت أخلاق يسوع دائماً إيجابية. تتطلب القاعدة الذهبية كما أعاد يسوع تأكيدها اتصالًا اجتماعيًا نشطًا؛ القاعدة السلبية الأقدم يمكن إطاعتها بمعزل عن غيرها. جرد يسوع الأخلاق من كل القواعد والرسميات ورفعها إلى مستويات جليلة من التفكير الروحي والحياة الصالحة حقاً.
140:10.6 (1585.4) لم يكن هذا الدِين الجديد ليسوع بدون آثاره العملية, ولكن مهما كانت القيمة العملية السياسية, أو الاجتماعية, أو الاقتصادية التي يمكن إيجادها في تعاليمه هي النتيجة الطبيعية لهذه التجربة الداخلية للنفـْس كما تتجلى بثمار الروح في الإسعاف اليومي التلقائي للتجربة الدينية الشخصية الحقيقية.
140:10.7 (1585.5) بعد أن انتهى يسوع ومتـّى من الكلام, سأله سمعان زيلوطس, "لكن, يا سيد, هل كل الناس أبناء الله؟" فأجاب يسوع: "نعم, يا سمعان, كل الناس هم أبناء الله, وهذه هي الأخبار الجيدة التي ستعلنوها." لكن الرُسل لم يستطعوا فهم مثل هذه العقيدة؛ لقد كانت إعلاناً جديداً, وغريباً, ومذهِلاً. ولقد كان بسبب رغبته لدمغ هذه الحقيقة عليهم بأن علـَّم يسوع أتباعه أن يعاملوا جميع الناس على أنهم إخوتهم.
140:10.8 (1585.6) رداً على سؤال طرحه أندراوس, أوضح السيد أن أخلاق تعليمه لا يمكن فصلها عن دِين معيشته. لقد علـَّم الأخلاق, ليس من طبيعة الإنسان, لكن من علاقة الإنسان بالله.
140:10.9 (1585.7) سأل يوحنا يسوع, "يا سيد, ما هو ملكوت السماء؟" فأجاب يسوع: "يتألف ملكوت السماء من هذه الأساسيات الثلاثة: أولاً, التعرف على واقع سيادة الله؛ وثانياً, الاعتقاد بحقيقة البنوة مع الله؛ وثالثاً, الإيمان بفعالية الرغبة البشرية السامية في فعل مشيئة الله ــ ليكون مثل الله. وهذه هي الأخبار السارة للإنجيل: أنه بالإيمان قد تكون لدى كل بشري كل ضروريات الخلاص هذه."
140:10.10 (1586.1) الآن انتهى أسبوع الانتظار, واستعدوا للمغادرة في الغد إلى أورشليم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 141
141:0.1 (1587.1) في اليوم الأول من الأسبوع, 19 كانون الثاني, عام 27 م., استعد يسوع والرُسل الاثني عشر للرحيل من مقرهم في بيت-صيدا. لم يكن الاثنا عشر يعلمون شيئًا عن خطط سيدهم سوى أنهم كانوا ذاهبون إلى أورشليم لحضور عيد الفصح في نيسان, وبأن النية كانت للسفر عبر وادي الأردن. لم يتركوا بيت زَبـِدي حتى قرابة وقت الظهيرة لأن عائلات الرُسل وآخرون من التلاميذ جاءوا للوداع والتمنيات بالتوفيق في العمل الجديد الذي كانوا على وشك البدء فيه.
141:0.2 (1587.2) قبل المغادرة مباشرة, أضاع الرُسل السيد, وخرج أندراوس ليجده. بعد بحث قصير وجد يسوع جالساً في قارب على مقربة من الشاطئ, وكان يبكي. كثيرًا ما رأى الاثنا عشر سيدهم عندما بدا حزيناً, وشاهدوا فصوله القصيرة من الانشغال الجاد في العقل, لكن لم يره أحد منهم يبكي أبداً. كان أندراوس نوعاً ما مذهولاً لرؤية السيد متأثراُ هكذا عشية رحيلهم إلى أورشليم, وجازف بالإقتراب من يسوع والسؤال: "على هذا اليوم العظيم, يا سيد, عندما سنرحل إلى أورشليم لنعلن ملكوت الأب, لماذا تبكي؟ من منا أساء إليك؟" ويسوع, راجع مع أندراوس لينضم إلى الاثني عشر, أجابه: " لم يحزنني أحد منكم, أنا حزين فقط لأن أياً من عائلة أبي يوسف لم يتذكر أن يأتي ليدعو لنا بالتوفيق." في هذا الوقت كانت راعوث في زيارة لشقيقها يوسف في الناصرة. أعضاء آخرون من عائلته أبعدهم الكبرياء, وخيبة الأمل, وسؤ الفهم, واستياء تافه اِسْتُرْسِل فيه نتيجة لجرح المشاعر.
141:1.1 (1587.3) لم تكن كفرناحوم بعيدة عن طبريا, وكانت شهرة يسوع قد بدأت تنتشر في كل الجليل وحتى إلى أجزاء أبعد. عرف يسوع بأن هيرودس سيبدأ قريباً في ملاحظة عمله؛ وهكذا فَكَرَ أنه من الأفضل الرحيل جنوباً إلى يهودا مع رُسله. زمرة فوق المائة من المؤمنين رغبوا الذهاب معهم, لكن يسوع تحدث معهم وتوسلهم ألا يرافقوا الجماعة الرسولية في طريقهم نزولاً عبر الأردن. ولو إنهم وافقوا على البقاء في الخلف, إلا أن كثيرون منهم تبعوا في أثر السيد في غضون أيام قليلة.
141:1.2 (1587.4) في اليوم الأول رحل يسوع والرُسل لغاية تاريشيا فقط, حيث استراحوا من أجل الليل. في اليوم التالي ارتحلوا إلى نقطة على الأردن بالقرب من بـِلا حيث وعظ يوحنا منذ حوالي عام مضى, وحيث تلقى يسوع المعمودية. مكثوا هنا لأكثر من أسبوعين, يعَّلمون ويعظون. بحلول نهاية الأسبوع الأول كان قد تجَّمع عدة مئات من الناس في مخيم بالقرب من حيث مكث يسوع والاثني عشر, وقد أتوا من الجليل, وفينيقيا, وسوريا, والمدن العشرة, وبيريا, ويهودا.
141:1.3 (1588.1) لم يقم يسوع بوعظ علني. قام أندراوس بتقسيم الجموع وعيَّن الواعظين من أجل تجمعات قبل الظهر وبعد الظهر؛ بعد وجبة المساء تحدث يسوع مع الاثني عشر. لم يعَّلمهم شيئاً جديداً لكنه راجع تعاليمه السابقة وأجاب على أسئلتهم الكثيرة. في إحدى هذه الأمسيات أخبر الاثني عشر بعض الشيء عن الأربعين يوماً التي قضاها في التلال القريبة من هذا المكان.
141:1.4 (1588.2) كان العديد من أولئك الذين جاءوا من بيريا ويهودا قد تعمدوا على يد يوحنا وكانوا مهتمين بمعرفة المزيد عن تعاليم يسوع. أحرز الرُسل تقدماً كبيراً في تعليم تلاميذ يوحنا بحيث أنهم لم ينتقصوا بأي شكل من الأشكال من وعظ يوحنا, وحيث إنهم حتى هذا الوقت لم يعَّمدوا تلاميذهم الجدد. لكن كان دائماً حجر عثرة لأتباع يوحنا بأن يسوع, إذا كان كل ما أعلنه يوحنا عنه, لم يفعل شيئاً لإخراجه من السجن, لم يتمكن تلاميذ يوحنا أبداً أن يفهموا لماذا لم يحول يسوع دون الموت القاسي لقائدهم المحبوب.
141:1.5 (1588.3) من ليلة إلى ليلة, قام أندراوس بتوجيه زملائه الرُسل بعناية في المهمة الدقيقة والصعبة المتمثلة في التعايش بسلاسة مع أتباع يوحنا المعمدان. خلال هذه السنة الأولى من خدمة يسوع العلنية كان أكثر من ثلاثة أرباع أتباعه قد تبعوا يوحنا سابقاً واستلموا معموديته. هذه السنة بأكملها عام 27 م. أُمضيت في تولي أعمال يوحنا بهدوء في بيريا ويهودا.
141:2.1 (1588.4) في الليلة التي سبقت مغادرتهم بـِلا, أعطى يسوع الرُسل بعض الإرشاد الإضافي فيما يتعلق بالملكوت الجديد. قال السيد: "لقد عُّلِمتم أن تتطلعوا لمجيء ملكوت الله, والآن جئت لأعلن أن هذا الملكوت الذي طال انتظاره قريب في متناول اليد, حتى بأنه بالفعل هنا وفي وسطنا. في كل مملكة يجب أن يكون هناك ملك جالس على عرشه ويصدر شرائع الحيز. وهكذا قد طورتم مفهوماً عن ملكوت السماء كالحكم المجيد للشعب اليهودي فوق كل شعوب الأرض مع المسيح جالس على عرش داود ومن هذا المكان الذي يتمتع بقدرة عجائبية معلناً الشرائع إلى كل العالَم. لكن, يا أولادي, أنتم لا تبصرون بعين الإيمان, ولا تسمعون بتفهم الروح. أعلن بأن ملكوت السماء هو الإدراك والإقرار بحُكم الله في قلوب الناس. صحيح, هناك ملك في هذا الملكوت, وذلك الملك هو أبي وأبيكم. نحن في الواقع رعاياه المخلصون, لكن يتجاوز ببُعد ذلك الواقع الحقيقة المحَّولة بأننا أبناؤه. في حياتي ستصبح هذه الحقيقة متجلية للجميع. أبانا أيضاً يجلس على عرش, لكن ليس عرش صُنع بأيادي. عرش اللانهائي هو المسكن الأبدي للأب في سماء السماوات؛ هو يملأ كل الأشياء ويعلن شرائعه إلى أكوان فوق أكوان. والأب يحكم أيضاً في قلوب أبنائه على الأرض بالروح الذي أرسله ليسكن في نفوس الناس الفانين.
141:2.2 (1588.5) "عندما تكونون رعايا هذا الملكوت, فأنتم بالفعل قد جُعلتم لتسمعوا شريعة حاكم الكون؛ لكن عندما, بسبب إنجيل الملكوت الذي جئت لأعلنه, أنتم تكتشفون-بالإيمان أنفسكم كأبناء, أنتم من الآن وصاعداً لا تنظرون إلى أنفسكم كمخلوقات خاضعة للقانون لملك كلي القدرة لكن كأبناء متميزين لأب مُحب وإلَهي. الحق, الحق, أقول لكم, عندما تكون مشيئة الأب شريعتكم, فأنتم بالكاد في الملكوت. لكن عندما تصبح مشيئة الأب حقاً مشيئتكم, عندئذٍ أنتم حقاً في الملكوت لأن الملكوت قد أصبح بذلك تجربة راسخة فيكم. عندما تكون مشيئة الله هي شريعتكم, فأنتم رعايا عبيد نبلاء؛ لكن عندما تؤمنون بإنجيل البنوة الإلَهية الجديد هذا, تصبح مشيئة أبي مشيئتكم, وأنتم مرفَوعين إلى المركز العالي لأطفال الله الأحرار, أبناء الملكوت المحررين."
141:2.3 (1589.1) استوعب بعض الرُسل شيئاً من هذا التعليم, لكن لم يفهم أي منهم المغزى الكامل لهذا الإعلان العظيم, ما لم يكن يعقوب زَبـِدي. لكن هذه الكلمات غرقت في قلوبهم وأتت لتبهج إسعافهم خلال سنوات الخدمة اللاحقة.
141:3.1 (1589.2) بقي السيد ورُسله قرب أماثوس لحوالي ثلاثة أسابيع. واصل الرُسل الوعظ مرتين يومياً إلى الجموع, وكان يسوع يعظ بعد ظهر كل سبت. لقد أصبح من المستحيل مواصلة اللعب يوم الأربعاء؛ لذلك رتب أندراوس بأنه يجب أن يرتاح اثنان من الرسل كل يوم من الأيام الستة في الأسبوع, بينما كان الجميع عند الواجب أثناء خدمات السبت.
141:3.2 (1589.3) لقد قام بطرس, ويعقوب, ويوحنا بمعظم الوعظ العلني. قام فيليبُس, ونثانئيل, وتوما, وسمعان بالكثير من العمل الشخصي وأداروا صفوفاً لمجموعات خاصة من الباحثين؛ واصل التوأم إشرافهما البوليسي العام, بينما تطور أندراوس, ومتـّى, ويوداص إلى لجنة إدارية عامة من ثلاثة, على أن كل من هؤلاء الثلاثة قام كذلك بعمل دِيني معتبَر.
141:3.3 (1589.4) كان أندراوس مشغولاً كثيراً بمهمة ضبط سوء التفاهمات والإختلافات المتكررة على الدوام بين تلاميذ يوحنا وتلاميذ يسوع الجدد. كانت تنشأ هناك مواقف جَّدية كل بضعة أيام, لكن أندراوس بمساعدة زملائه الرسوليين, تمكن من حث الأطراف المتنازعة على التوصل إلى نوع من الاتفاق, على الأقل مؤقتاً. رفض يسوع المشاركة في أي من هذه المؤتمرات؛ كما أنه ما كان ليعطي أي نصيحة حول التعديل اللائق لهذه الصعوبات. لم يقدم مرة أبداً أي اقتراح حول كيف يجب أن يحل الرُسل هذه المشاكل المحيرة. عندما جاء أندراوس إلى يسوع بهذه الأسئلة, كان دائماً يقول: "ليس من الحكمة أن يشترك المضيف في مشاكل ضيوفه العائلية؛ الوالد الحكيم لا ينحاز في مشاجرات أولاده الطفيفة."
141:3.4 (1589.5) عرض السيد حكمة عظيمة وأظهر إنصافاً مثالياً في كل تعاملاته مع رُسله ومع كل تلاميذه. كان يسوع حقاً سيد البشر؛ مارس تأثيراً عظيماً على زملائه الناس بسبب السحر والقوة المجتمعان لشخصيته. كان هناك تأثير آمر خفي في حياته الخشنة, والمتنقلة, والمشردة. كان هناك جاذبية فكرية وقوة سحب روحية في أسلوبه المرجعي للتعليم, في منطقه الجلي, وقوة تعقله, وبصيرته الفطنة, ويقظة عقله, واتزانه الذي لا مثيل له, وطول أناته السامي. كان بسيطاً, ورجولياً, أميناً, ولا يعرف الخوف. مع كل هذا التأثير الجسدي والفكري الذي يتجلى في حضور السيد, كان هناك أيضاً كل تلك المفاتن الروحية للكائن التي أصبحت ملازمة لشخصيته ــ الصبر, والحنان, والوداعة, واللطف, والتواضع.
141:3.5 (1589.6) كان يسوع الناصري بالفعل شخصية قوية وفعّالة؛ كان قدرة فكرية ومعقلاً روحياً. لم تروق شخصيته فقط إلى النساء ذوات العقلية الروحية بين أتباعه, بل أيضاً لنيقوديموس الذكي والمثقف وإلى الجندي الروماني القاسي, وإلى القبطان المُعَّيَن على الحراسة عند الصليب, الذي, عندما انتهى من مشاهدة السيد يموت قال, "حقاً, كان هذا ابن الله." وذوو الدم-الأحمر, صيادو السمك الجليليون الخشنون دعوه سيداً.
141:3.6 (1590.1) كانت صُوَر يسوع مؤسفة للغاية. تلك الرسومات للمسيح قد أثرت بشكل ضار على الشباب؛ بالكاد كان تجار الهيكل سيهربون من أمام يسوع لو كان ذلك الرَجل كما صوره الفنانون لديكم عادة. كانت رجولته مُكـَّرَمة؛ كان صالحاً, لكن طبيعي. لم يتظاهر يسوع كباطني هادئ, وعذب, ولطيف, وشفوق. كان تعليمه ديناميكي بشكل مثير. هو لم يقصد حسناً فحسب, بل ذهب فعلياً يفعل خيراً.
141:3.7 (1590.2) لم يقل السيد أبداً, "تعالوا إلَي يا جميع الكسالى وكل الحالمين." لكنه قال مرات عديدة, "تعالوا إلَي يا كل المتعبين وسأعطيكم راحة ــ قوة روحية." نير السيد, في الواقع, هين, لكن مع ذلك, فهو لا يفرضه أبداً؛ كل فرد يجب أن يأخذ هذا النير بمحض إرادته.
141:3.8 (1590.3) صَّور يسوع الفتح بالتضحية, تضحية الفخر والأنانية. بإظهار الرحمة, كان يقصد تصوير الخلاص الروحي من كل الضغائن, والمظالم, والغضب, والرغبة في القوة الأنانية والثأر. وعندما قال, "لا تقاوموا الشر," أوضح فيما بعد بأنه لم يقصد التغاضي عن الخطيئة أو أن ينصح بالأخوة مع الإثم. كان يقصد أكثر أن يعلم الغفران, "لا تقاوموا المعاملة الشريرة لشخصية المرء, الأذى الشرير لمشاعر المرء بالكرامة الشخصية."
141:4.1 (1590.4) بينما يمكثون في أماثوس, أمضى يسوع وقتاً طويلاً مع الرُسل يرشدهم في المفهوم الجديد عن الله؛ شدد عليهم المرة تلو المرة بأن الله أب, ليس أمين سجلات عظيم وسامي يتعاطى بشكل رئيسي في عمل مداخل مهلكة ضد أولاده المخطئين على الأرض, تسجيلات للخطيئة والشر لكي تُستخدم ضدهم عندما يجلس لاحقاً في الحكم عليهم باعتباره القاضي العادل لكل الخليقة. لطالما تصور اليهود الله كملك على الجميع, حتى كأب للأمة, لكن لم يحدث من قبل أن اعتنقت أعداداً كبيرة من الناس الفانين الفكرة عن الله باعتباره أب محب للفرد.
141:4.2 (1590.5) في الرد على سؤال توما, "من هو إله الملكوت هذا؟" أجاب يسوع: "الله هو أبوك, والدِين ــ إنجيلي ــ لا شيء أكثر أو أقل من الإعتراف المؤمن بحقيقة أنك ابنه. وأنا هنا بينكم في الجسد لأوضح هاتين الفكرتين في حياتي وتعاليمي."
141:4.3 (1590.6) سعى يسوع أيضاً لتحرير عقول رُسله من فكرة تقديم الذبائح كواجب دِيني. لكن هؤلاء الرجال, المدربين في دِين الذبيحة اليومية, كانوا بطيئين في فهم ما يقصده. مع ذلك, لم يكل السيد في تعليمه. عندما فشل في الوصول إلى أذهان جميع الرسل عن طريق تصوير توضيحي واحد, كان يعيد إعلان رسالته ويوظف نوعاً آخر من المَثَل لأغراض التنوير.
141:4.4 (1590.7) في نفس هذا الوقت بدأ يسوع يعلم الاثني عشر بشكل أتم فيما يتعلق بمهمتهم "لمؤاساة المصابين والإسعاف للمرضى". علـَّمهم السيد الكثير عن الإنسان ككل ــ وحدة الجسد, والعقل, والروح لتشكيل الرَجل أو المرأة الفرد. أخبر يسوع زملاءه عن الأشكال الثلاثة من الأذية التي سيقابلونها ومضى في شرح كيف ينبغي عليهم أن يسعفوا إلى كل الذين يعانون أحزان المرض البشري. علـَّمهم ليتعرفوا على:
141:4.5 (1591.1) 1. أمراض الجسد ــ تلك الإبتلاءات التي تعتبر عادة كأمراض جسدية.
141:4.6 (1591.2) 2. العقول المضطربة ــ تلك الإبتلاءات غير الجسدية التي تم النظر إليها بالتالي على أنها صعوبات واضطرابات عاطفية وعقلية.
141:4.7 (1591.3) 3. الامتلاك بأرواح شريرة.
141:4.8 (1591.4) شرح يسوع لرسله في عدة مناسبات طبيعة, هذه الأرواح الشريرة, وشيء يتعلق بأصلها. في ذلك اليوم غالباً ما دُعِوا أيضًا أرواحاً نجسة. عرف السيد جيداً الفرق بين الامتلاك بأرواح شريرة والجنون, لكن الرُسل لم يعرفوا. كما لم يكن من الممكن, في ضوء معرفتهم المحدودة بتاريخ يورانشيا المبكر, أن يتعهد يسوع بجعل هذا الأمر مفهوماً تماماً. لكنه قال لهم عدة مرات, في إشارة إلى هذه الأرواح الشريرة: "لن يكدروا الناس بعد الآن عندما أكون قد صعدت إلى أبي في السماء, وبعد أن أكون قد سكبت روحي على كل جسد في تلك الأوقات عندما سيأتي الملكوت في قدرة عظيمة ومجد روحي."
141:4.9 (1591.5) من أسبوع إلى أسبوع ومن شهر إلى شهر, طوال هذا العام, أولى الرُسل هتمامًا متزايدًا لخدمة شفاء المرضى.
141:5.1 (1591.6) إحدى أكثر المؤتمرات المسائية الزاخرة بالأحداث في أماثوس كانت الاجتماع المتعلق بمناقشة الوحدة الروحية. سأل يعقوب زَبـِدي, "يا سيد, كيف يجب أن نتعلم لنرى مثل بعضنا وبهذا نستمتع بمزيد من الانسجام فيما بيننا؟" عندما سمع يسوع هذا السؤال, تأثر في روحه, إلى حد بأنه أجاب: "يا يعقوب, يا يعقوب, متى علـَّمتكم بأنكم يجب أن تروا جميعًا على حد سواء؟ لقد جئت إلى العالَم لأعلن الحرية الروحية إلى الغاية بحيث أن البشر قد يتم تمكينهم ليعيشوا معايش فردية من الأصالة والحرية أمام الله. لا أرغب بأن يُشترى الوئام الاجتماعي والسلام الأخوي بالتضحية بالحرية الشخصية والأصالة الروحية. ما أطلبه منكم, يا رُسلي, هو وحدة الروح ــ وذلك يمكنكم اختباره في فرح تكريسكم الموَّحَد للعمل من كل القلب لمشيئة أبي في السماء. ليس عليكم أن تروا مثل بعضكم أو تشعروا مثل بعضكم أو حتى أن تفكروا مثل بعضكم من أجل أن تكونوا متشابهين روحياً. الوحدة الروحية مستمدة من الوعي بأن كل واحد منكم مسكون, ومُسيطَر عليه بشكل متزايد بهدية الروح من الأب السماوي. يجب أن تنمو ألفتكم الرسولية من حقيقة أن الرجاء الروحي لكل واحد منكم مماثل في الأصل, والطبيعة, والمصير."
141:5.2 (1591.7) "بهذه الطريقة قد تختبرون وحدة مُكَملة لهدف الروح والفهم الروحي ينبعان من الوعي المتبادل لهوية كل من أرواح الفردوس الساكنة فيكم؛ وقد تتمتعون بكل هذه الوحدة الروحية العميقة في مواجهة أقصى درجات التنوع لمواقفكم الفردية من التفكير الفكري, والشعور المزاجي, والسلوك الاجتماعي. قد تكون شخصياتكم متنوعة بشكل منعش ومختلفة بشكل ملحوظ, في حين أن أمزجتكم الروحية وثمار الروح من العبادة الإلَهية والمحبة الأخوية موحَّدة لدرجة أن كل الذين يشاهدون معايشكم سيدركون بيقين هوية الروح هذه ووحدة النفـْس؛ سوف يدركون أنكم كنتم معي وبهذا تعلمتم, وبشكل مقبول, كيف تفعلون مشيئة الأب في السماء. يمكنكم تحقيق وحدة خدمة الله حتى بينما تمنحون مثل هذه الخدمة وفقاً لأسلوب هِباتكم الأصلية الخاصة من عقل, وجسم, ونفـْس.
141:5.3 (1592.1) "وحدة روحكم تستلزم شيئين, الذين دائماً سيوجدان متناسقين في معايش المؤمنين الأفراد: أولاً, أنتم ممتلَكين بدافع مشترك من أجل خدمة الحياة؛ كلكم ترغبون فوق كل شيء في فعل مشيئة الأب في السماء. ثانياً, لديكم جميعًا هدف مشترَك للوجود؛ كلكم تهدفون إلى العثور على الأب في السماء, وبذلك تثبتون للكون بأنكم قد أصبحتم مثله."
141:5.4 (1592.2) مرات كثيرة أثناء تدريب الاثني عشر عاد يسوع إلى هذا الموضوع. أخبرهم مراراً أنها لم تكن رغبته بأن يصبح أولئك الذين آمنوا به جازمي العقيدة وموحدي المقياس وفقاً للتفسيرات الدِينية حتى لرجال صالحين. مرة تلو المرة حذر رُسله من صياغة المذاهب وتأسيس التقاليد كوسيلة لإرشاد المؤمنين والسيطرة عليهم في إنجيل الملكوت.
141:6.1 (1592.3) قرب نهاية الأسبوع الأخير في أماثوس, أحضر سمعان زيلوطس إلى يسوع واحداً اسمه تِهِرما, فارسي يقوم بأعمال في دمشق. سمع تِهِرما عن يسوع وجاء إلى كفرناحوم لرؤيته, وهناك عَلِم بأن يسوع قد ذهب مع رُسله عبر الأردن في طريقهم إلى أورشليم, وانطلق ليجده. كان أندراوس قد قدم تِهِرما إلى سمعان لأجل الإرشاد. نظر سمعان إلى الفارسي على أنه "عابد نار", مع أن تِهِرما بذل جهدًا كبيرًا لتوضيح أن النار ليست سوى الرمز المرئي للطاهر والقدوس. بعد التحدث مع يسوع, أشار الفارسي إلى نيته البقاء لعدة أيام لسماع التعليم والاستماع إلى الوعظ.
141:6.2 (1592.4) عندما كان سمعان زيلوطس ويسوع وحدهما, سأل سمعان السيد: "لماذا لم أتمكن من إقناعه؟ لماذا قاومني بشدة وبسهولة بالغة أعار أذناً صاغية لك؟" أجاب يسوع: "يا سمعان, يا سمعان, كم مرة أرشدتكم بالامتناع عن كل الجهود لأخذ شيئ ما من قلوب أولئك الذين يسعون للخلاص؟ كم مرة أخبرتكم أن تعملوا فقط لوضع شيء في هذه النفوس الجائعة؟ قودوا الناس إلى الملكوت, وستقوم حقائق الملكوت العظيمة والحيّة رأساً بإزالة كل الأخطاء الجسيمة. عندما تكون قد قدمت لإنسان فاني البُشرى بأن الله هو أباه, يمكنك بسهولة إقناعه بأنه في الواقع ابن لله. وبفعل ذلك, تكون قد أحضرت نور الخلاص لمن يجلس في الظلمة. سمعان, عندما جاءك ابن الإنسان أولاً, هل جاء يشجب موسى والأنبياء ويعلن الطريقة الجديدة والأفضل للحياة؟ لا. ما أتيت لآخذ ما كان لديكم من أجدادكم لكن لأريكم الرؤيا المثالية لما رآه آباؤكم جزئياً فقط. اذهب إذن, يا سمعان, عَّلِم وعظ الملكوت, وعندما يكون لديك إنسان بسلامة وأمان داخل الملكوت, عند ذاك يكون الوقت, عندما يأتي إليك مثل هذا الشخص باستفسارات, لتبليغ إرشاد متعلق بالتقدم التدريجي للنفـْس داخل الملكوت الإلَهي."
141:6.3 (1592.5) كان سمعان مندهشاً من هذه الكلمات, لكنه فعل كما أرشده يسوع, وكان تِهِرما, الفارسي, معدوداً بين أولئك الذين دخلوا الملكوت.
141:6.4 (1592.6) حاضَر يسوع تلك الليلة إلى الرُسل عن الحياة الجديدة في الملكوت. قال جزئياً: "عندما تدخلون الملكوت, أنتم مولودون من جديد. لا يمكنكم تعليم الأشياء العميقة عن الروح لأولئك الذين ولدوا في الجسد فقط؛ أولاً انظروا بأن الناس مولودون بالروح قبل أن تسعوا لإرشادهم في طرق الروح المتقدمة. لا تأخذوا على عاتقكم لتعرضوا جَمال الهيكل على الناس إلى أن تكونوا أولاً قد أخذتموهم إلى الهيكل. قـَّدِموا الناس إلى الله وكأبناء الله قبل أن تحاضروا عن مذاهب أبوة الله وبنوة الناس. لا تجاهدوا مع الناس ــ دائماً كونوا صبورين. إنها ليست مملكتكم, أنتم سفراء فقط. ببساطة انطلقوا معلنين: هذا هو ملكوت السماء ــ الله أباكم وأنتم أبناؤه, وهذه الأخبار السارة, إذا آمنتم بها من كل قلوبكم, هي خلاصكم الأبدي."
141:6.5 (1593.1) حقق الرسل تقدماً كبيراً خلال فترة الإقامة في أماثوس. لكنهم أصيبوا بخيبة أمل شديدة لأن يسوع لن يقدم لهم أي اقتراحات بشأن التعامل مع تلاميذ يوحنا. حتى في مسألة المعمودية الهامة, كان كل ما قاله يسوع: "يوحنا في الحقيقة عمَّد بالماء, لكن عندما تدخلون ملكوت السماء, ستتعمدون بالروح."
141:7.1 (1593.2) في 26 شباط, قام يسوع, ورُسله, وجماعة كبيرة من الأتباع برحلة عبر الأردن إلى مكان العبور بالقرب من بيت-عنيا في بيريا, المكان الذي أعلن فيه يوحنا لأول مرة عن الملكوت الآتي. بقي يسوع مع رُسله هنا, يعَّلمون, ويعظون, لأربعة أسابيع قبل أن يصعدوا إلى أورشليم.
141:7.2 (1593.3) في الأسبوع الثاني من الحلول في بيت-عنيا خارج الأردن, أخذ يسوع بطرس, ويعقوب, ويوحنا إلى التلال عبر النهر وجنوب أريحا من أجل ثلاثة أيام من الراحة. علم السيد هؤلاء الثلاثة العديد من الحقائق الجديدة والمتقدمة عن ملكوت السماء. لغرض هذا السجل سنقوم بإعادة تنظيم وتصنيف هذه التعاليم على النحو التالي:
141:7.3 (1593.4) سعى يسوع لتوضيح أنه رغب بأن تلاميذه, حيث إنهم قد ذاقوا حقائق الروح الصالحة للملكوت, أن يعيشوا في العالَم بحيث أن الناس, برؤية عيشهم, سيصبحون واعين للملكوت ومن ثم يُقادون للاستفسار من المؤمنين بشأن طرق الملكوت. كل مثل هؤلاء الباحثين المخلصين عن الحقيقة يسعدون دائماً لسماع البشائر عن عطية الإيمان التي تضمن الدخول إلى الملكوت بحقائقه الروحية الأبدية والإلَهية.
141:7.4 (1593.5) سعى السيد سيد لإقناع جميع معلمي إنجيل الملكوت بأن عملهم الوحيد كان الكشف عن الله إلى الإنسان الفرد باعتباره أبيه ــ لقيادة هذا الإنسان الفرد لأن يصبح واعياً للبنوة؛ ثم لتقديم هذا الإنسان نفسه إلى الله باعتباره إبنه بالإيمان. كِلا الوحيين الأساسيين قد تما في يسوع. لقد أصبح, بالفعل, "الطريق, والحق, والحياة." كان دِين يسوع مؤسساً بالكامل على عيش حياة إغداقه على الأرض. عندما رحل يسوع من هذا العالَم, لم يترك وراءه كُتباً, أو شرائع, أو أشكالاً أخرى من التنظيم البشري التي تؤثر على الحياة الدِينية للفرد.
141:7.5 (1593.6) لقد أوضح يسوع أنه جاء ليؤسس علاقات شخصية وأبدية مع الناس التي يجب أن تكون لها الأسبقية إلى الأبد على جميع العلاقات البشرية الأخرى. وأكد بأن هذه الزمالة الروحية الحميمة كانت لتكون ممتدة إلى كل الناس في كل العصور ولكل الظروف الاجتماعية بين كل الشعوب. كانت المكافأة الوحيدة التي قدمها لأبنائه: في هذا العالم ــ فرح روحي وصِلة حميمة إلَهية؛ في العالَم التالي ــ حياة أبدية في تقدم حقائق الروح الإلَهية لأب الفردوس.
141:7.6 (1593.7) ركّز يسوع بشكل كبير على ما أسماه الحقيقتين ذات الأهمية الأولى في تعاليم الملكوت, وهما: إحراز الخلاص بالإيمان, والإيمان وحده, مرتبط مع التعليم الثوري لإحراز الحرية الإنسانية من خلال الاعتراف الصادق بالحق, "ستعرفون الحق, والحق سيحرركم." كان يسوع هو الحق جُعل متجلياً في الجسد, ووعد أن يرسل روح الحق نحو قلوب جميع أبنائه بعد عودته إلى الأب في السماء.
141:7.7 (1594.1) كان السيد يعَّلم هؤلاء الرُسل أساسيات الحق من أجل عصر كامل على الأرض. غالباً ما استمعوا إلى تعاليمه عندما في الواقع كان ما قاله يهدف إلى إلهام عوالم أخرى وتنويرها. لقد ضرب مثل خطة جديدة وأصلية للحياة. من وجهة النظر الإنسانية كان يهودياً حقاً, لكنه عاش حياته لأجل العالَم بأسره كفاني من الحيز.
141:7.8 (1594.2) لضمان الاعتراف بأبيه في كشف مخطط الملكوت, أوضح يسوع أنه قد تعمد تجاهل "رجال الأرض العظماء." بدأ عمله مع الفقراء, الطبقة نفسها التي تم إهمالها للغاية من قبل معظم الأديان التطورية في الأزمنة السابقة. لم يحتقر أي إنسان؛ كانت خطته عالمية, بل كونية. كان جَسوراً جداً ومؤكداً في هذه الإعلانات لدرجة أنه حتى بطرس, ويعقوب, ويوحنا كانوا يميلون للتفكير بأنه ربما بالإمكان كان يهذي.
141:7.9 (1594.3) لقد سعى بشكل معتدل إلى أن ينقل إلى هؤلاء الرُسل حقيقة أنه جاء في مهمة الإغداق هذه, ليس ليضع مَثالاً لعدد قليل من مخلوقات الأرض, لكن لتأسيس وإثبات مقياس الحياة البشرية لجميع الشعوب على كل العوالم في أنحاء كونه بأسره. وهذا المعيار اقترب من أعلى درجات الكمال, حتى الصلاح النهائي للأب الكوني. لكن الرُسل لم يتمكنوا من فهم معنى كلماته.
141:7.10 (1594.4) أعلن بأنه جاء ليعمل كمعَّلِم, معَّلِم أُرسل من السماء ليقدم الحقيقة الروحية للعقل المادي. وهذا بالضبط ما فعله؛ كان معلماً, وليس واعظاً. من وجهة النظر الإنسانية كان بطرس واعظاً أكثر فاعلية بكثير من يسوع. كان وعظ يسوع فعّالاً للغاية بسبب شخصيته الفريدة, ليس كثيراً بسبب خطابته أو التماسه العاطفي الجذاب. تكلم يسوع مباشرة إلى نفوس الناس. كان معلماً لروح الإنسان, ولكن من خلال العقل. هو عاش مع الناس.
141:7.11 (1594.5) لقد كان على هذه المناسبة حينما ألمح يسوع إلى بطرس, ويعقوب, ويوحنا بأن عمله على الأرض كان في بعض النواحي ليكون مقيداً بتفويض "رفيقه على العُلى," مشيراً إلى إرشادات ما قبل الإغداق من أخيه الفردوسي, عمانوئيل. أخبرهم بأنه جاء ليفعل مشيئة أبيه ومشيئة أبيه فقط. ولأنه كان مدفوعاً هكذا بفردية هدف قلبية, لم يكن منزعجًا بقلق من الشر في العالم.
141:7.12 (1594.6) كان الرُسل قد بدأوا في التعرف على صداقة يسوع غير المتأثرة. ولو إن السيد كان سهلاً الاقتراب إليه, إلا أنه عاش دائماً مستقلاً عن جميع البشر, وفوقهم. ليس للحظة واحدة كان مُسيطر عليه أبداً بأي تأثير بشري بحت أو خاضع للحكم البشري الضعيف. لم يعطي انتباهاً للرأي العام, ولم يتأثر بالثناء. ونادرًا ما توقف لتصحيح سوء تفاهم أو للاستياء من التحريف. لم يطلب النصيحة من أي إنسان قط؛ لم يجعل أبداً إلتماسات من أجل الصلوات.
141:7.13 (1594.7) كان يعقوب مندهشاً كيف بدا أن يسوع يرى النهاية من البداية. نادراً ما بدا السيد متفاجئأ. لم يكن أبداً متحمساً, أو غاضباً, أو مربكاً. لم يعتذر أبداً إلى إي إنسان. كان في بعض الأوقات محزون, لكنه لم يكن أبداً مثبط العزم.
141:7.14 (1594.8) بشكل أوضح أدرك يوحنا بأنه, بالرغم من كل هِباته الإلَهية, فقد كان بعد كل شيء, إنسان. عاش يسوع كإنسان بين الناس وفهم, وأحب, وعرف كيف يدير الناس. كان في حياته الشخصية إنساناً للغاية, ومع ذلك لا عيب فيه للغاية. وكان دائماً غير أناني.
141:7.15 (1595.1) مع أن بطرس, ويعقوب, ويوحنا لم يستطعوا فهم الكثير مما قاله يسوع في هذه المناسبة, إلا أن كلماته الكريمة بقيت في قلوبهم, وبعد الصلب والقيامة حضرت بشدة لتُثري وتبهج إسعافهم اللاحق. لا عجب أن هؤلاء الرسل لم يستوعبوا كلمات السيد بالكامل, لأنه كان يشرع لهم خطة عصر جديد.
141:8.1 (1595.2) طوال الأسابيع الأربعة من حلولهم في بيت-عنيا خارج الأردن, لعدة مرات كل أسبوع, كان أندراوس يعَّين اثنين من الرُسل للصعود إلى أريحا ليوم أو يومين. كان لدى يوحنا العديد من المؤمنين في أريحا, وقد رحب معظمهم بالتعاليم الأكثر تقدماً ليسوع ورُسله. في زيارات أريحا هذه بدأ الرُسل بشكل أكثر تحديداً بتنفيذ تعليمات يسوع بالإسعاف إلى المرضى؛ زاروا كل منزل في المدينة وسعوا لمؤاساة كل شخص مصاب.
141:8.2 (1595.3) قام الرسل ببعض الأعمال العامة في أريحا, لكن جهودهم كانت بشكل رئيسي ذات طبيعة شخصية وأكثر هدوءًا. اكتشفوا الآن أن بشرى الملكوت كانت مؤاسية للغاية للمرضى؛ بحيث حملت رسالتهم الشفاء لمن يعانون. ولقد كان في أريحا أول ما وُضع تفويض يسوع إلى الاثني عشر بالكامل قيد العمل ليعظوا بشائر الملكوت ويسعفوا إلى المنكوبين.
141:8.3 (1595.4) توقفوا في أريحا في طريقهم إلى أورشليم وأدركهم وفد من بلاد ما بين النهرين جاء للتشاور مع يسوع. كان الرُسل قد خططوا لقضاء يوم هنا, لكن عندما وصل هؤلاء الباحثون عن الحقيقة من الشرق, أمضى يسوع ثلاثة أيام معهم, وعادوا إلى ديارهم المختلفة على طول الفرات سعداء بمعرفة الحقائق الجديدة لملكوت السماء.
141:9.1 (1595.5) في يوم الاثنين, اليوم الأخير من شهر آذار, بدأ يسوع والرُسل رحلتهم إلى التلال نحو أورشليم. كان لِعازر من بيت-عنيا قد نزل إلى الأردن مرتين ليرى يسوع وتم إجراء كل الترتيبات للسيد ورُسله لجعل مقرهم مع لِعازر وأخواته في بيت-عنيا طالما كانوا راغبين في المكوث في أورشليم.
141:9.2 (1595.6) بقي تلاميذ يوحنا في بيت-عنيا بعد الأردن, يعَّلمون ويعمّدون الجموع, بحيث أن يسوع كان مرافَقاً فقط بالاثني عشر عندما وصل إلى بيت لِعازر. هنا تمهل يسوع والرُسل لخمسة أيام, مرتاحين ومنتعشين قبل الذهاب إلى أورشليم من أجل الفصح. لقد كان حدثاً كبيراً في حياة مارثا ومريم أن يكون السيد ورُسله في بيت شقيقهم, حيث يمكنهم تلبية احتياجاتهم.
141:9.3 (1595.7) في صباح يوم الأحد, 6 نيسان, نزل يسوع والرُسل إلى أورشليم؛ وكانت هذه هي المرة الأولى التي يكون فيها السيد وجميع الاثني عشر هناك معاً.
كِتاب يورانشيا
ورقة 142
142:0.1 (1596.1) في شهر نيسان, عمل يسوع والرُسل في أورشليم, خارجين من المدينة كل مساء لقضاء الليل في بيت-عنيا. كان يسوع نفسه يقضي ليلة أو ليلتين كل أسبوع في أورشليم في بيت فلاﭭيوس, يهودي يوناني, حيث جاء العديد من اليهود البارزين سراً لمقابلته.
142:0.2 (1596.2) في اليوم الأول في أورشليم, زار يسوع صديقه من سنوات سابقة, آنّاس, رئيس الكهنة في أحد الأوقات وقريب لصالومي, زوجة زَبـِدي. كان آنّاس قد سمع عن يسوع وتعاليمه, وعندما زار يسوع منزل رئيس الكهنة, تم استقباله بتحفظ كبير. عندما أحس يسوع ببرودة آنّاس, ترك في الحال, قائلاً وهو يغادر: "الخوف هو مستعبد الإنسان الرئيسي والفخر ضعفه العظيم؛ هل ستخون نفسك في العبودية إلى كِلا هذين المدمرين للفرح والحرية؟" لكن آنّاس لم يرد. لم يرى السيد آنّاس مرة أخرى حتى الوقت عندما جلس مع صهره في الحكم على ابن الإنسان.
142:1.1 (1596.3) طوال هذا الشهر علـَّم يسوع أو واحد من الرُسل يومياً في الهيكل. عندما كانت جماهير الفصح كثيرة جداً لتجد مدخلاً إلى تعليم الهيكل, أدارَ الرُسل العديد من المجموعات التعليمية خارج الأفنية المقدسة. كان عبئ رسالتهم:
142:1.2 (1596.4) 1. ملكوت السماء في متناول اليد.
142:1.3 (1596.5) 2. بالإيمان في أبوة الله يمكنكم دخول ملكوت السماء, تصبحون بذلك أبناء الله.
142:1.4 (1596.6) 3. المحبة هي قانون العيش داخل الملكوت ــ التكريس الأعلى لله بينما تحب جارك كنفسك.
142:1.5 (1596.7) 4. خضوع لمشيئة الأب, التي تغل ثمار الروح في حياة المرء الشخصية, هي شريعة الملكوت.
142:1.6 (1596.8) الجموع الذين جاءوا للاحتفال بعيد الفصح سمعوا هذا التعليم ليسوع, وابتهج المئات منهم بالبشارة. أصبح رؤساء الكهنة وحكام اليهود قلقين للغاية بشأن يسوع ورُسله وتناقشوا فيما بينهم حول ما يجب فعله معهم.
142:1.7 (1596.9) بالإضافة إلى التعليم في الهيكل وحوله, كان الرسل وغيرهم من المؤمنين منهمكين في القيام بالكثير من الأعمال الشخصية بين حشود الفصح. حمل هؤلاء الرجال والنساء المهتمون الأخبار عن رسالة يسوع من احتفال الفصح هذا إلى أقصى أجزاء الإمبراطورية الرومانية وكذلك إلى الشرق. كانت هذه بداية انتشار إنجيل الملكوت إلى كل العالَم الخارجي. لم يعد عمل يسوع مقتصراً على فلسطين.
142:2.1 (1597.1) كان هناك في أورشليم في حضور احتفالات الفصح واحد اسمه يعقوب, تاجر يهودي ثري من كريت, وقد جاء إلى أندراوس طالباً مقابلة يسوع على انفراد. رتب أندراوس هذا اللقاء السِري مع يسوع في بيت فلاﭭيوس مساء اليوم التالي. لم يستطع هذا الرجل فهم تعاليم السيد, وقد جاء لأنه أراد أن يستفسر بشكل كامل عن ملكوت الله. قال يعقوب ليسوع: "لكن, يا حاخام, أخبرنا موسى والأنبياء القدماء بأن يهوه إله غيور, إلَه ذا سخط عظيم وغضب متقد. يقول الأنبياء أنه يكره الأشرار وينتقم من الذين لا يطيعون شريعته. تُعلمنا أنت وتلاميذك بأن الله أب عطوف ورحيم يحب جداً كل الناس بحيث سيرَحب بهم في هذا الملكوت الجديد للسماء الذي تعلنون أنه قريب جداً في متناول اليد."
142:2.2 (1597.2) عندما انتهى يعقوب من الكلام, أجاب يسوع: "يا يعقوب, لقد ذكرت جيداً تعاليم الأنبياء القدماء الذين علـَّموا أولاد جيلهم وفقاً لنور يومهم. أبانا في الفردوس لا يتغير. لكن المفهوم عن طبيعته قد توسع ونما من أيام موسى نزولاً خلال عصر عاموس وحتى جيل النبي إشعياء. والآن جئت في الجسد لأكشف الأب في مجد جديد ولأظهر محبته ورحمته لجميع البشر على كل العوالم. بينما سينتشر إنجيل هذا الملكوت فوق العالَم مع رسالته ذات البهجة الجيدة والنية الصالحة لجميع الناس, ستنمو علاقات مُحسنة وأفضل بين عائلات كل الأمم. بمرور الوقت سيحب الآباء وأبناؤهم بعضهم البعض أكثر, وبالتالي سيحصلون على فهم أفضل لمحبة الآب في السماء لأبنائه على الأرض. تذَّكر, يا يعقوب, بأن الأب الصالح والحقيقي لا يحب فقط عائلته ككل ــ كأسرة ــ لكنه أيضاً حقاً يحب ويهتم بعطف بكل عضو فرد."
142:2.3 (1597.3) بعد مناقشة مستفيضة حول طبع الأب السماوي, توقف يسوع ليقول: "أنت, يا يعقوب, كونك أب لكثيرين, تعرف جيداً حقيقة كلماتي." فقال يعقوب: "لكن, يا سيد, من أخبرك أني أب لستة أطفال؟ كيف عرفت هذا عني؟" فأجاب السيد: "يكفي القول بأن الأب والابن يعرفان كل الأشياء, لأنهما في الحقيقة يرون الكل. محبتك لأطفالك كأب على الأرض, يجب الآن أن تقبل محبة الأب السماوي لك كحقيقة ــ ليس فقط لجميع أبناء إبراهيم, لكن من أجلك, نفسك الفردية."
142:2.4 (1597.4) ثم تابع يسوع قائلاً: "عندما يكون أطفالك صغاراً جداً وغير ناضجين, وعندما تضطر لتأديبهم, قد يفكرون بأن أباهم غاضب ومملوء بسخط مستاء. لا يستطيع عدم نضجهم الولوج أبعد من القصاص لتمييز مودة الأب البعيدة النظر والتصحيحية. لكن عندما يصبح هؤلاء الأطفال أنفسهم رجالًا ونساءً بالغين, ألن تكون حماقة من جهتهم التشبث بهذه المفاهيم الأبكر والمُساء إدراكها عن والدهم؟ كرجال ونساء يجب أن يميزوا الآن محبة والدهم في كل تلك التهذيبات المبكرة. وألا ينبغي لجنس الإنسان, بمرور القرون, أن يفهموا بشكل أفضل الطبيعة الحقيقية والطبع المُحب للأب في السماء؟ ما هي الفائدة التي تجنيها من الأجيال المتعاقبة من التنوير الروحي إذا تشبثت في النظر إلى الله كما رآه موسى والأنبياء؟ أقول لك, يا يعقوب, تحت النور الساطع لهذه الساعة يجب أن ترى الأب كما لم يره أحد من أولئك الذين ذهبوا قبلك قد شاهدوه أبداً. وبرؤيته هكذا, يجب أن تتهلل لدخول الملكوت الذي يحكم فيه مثل هذا الأب الرحيم, ويجب أن تسعى لتكون لديك مشيئته من المحبة مسيطرة على حياتك من الآن وصاعداً."
142:2.5 (1598.1) وأجاب يعقوب: "حاخام, أنا أؤمن؛ أرغب في أن تقودني إلى ملكوت الأب."
142:3.1 (1598.2) الرُسل الاثني عشر, الذين استمع معظمهم إلى هذه المناقشة حول طبع الله, سألوا يسوع تلك الليلة أسئلة كثيرة عن الأب في السماء. يمكن تقديم إجابات السيد على هذه الأسئلة بشكل أفضل من خلال الملخص التالي في عبارات حديثة:
142:3.2 (1598.3) وبخ يسوع بلطف الاثني عشر, من حيث الجوهر قائلاً: "ألا تعرفون تقاليد إسرائيل بالنسبة إلى نمو الفكرة عن يهوه, وهل أنتم جهلاء عن تعليم الكتابات المقدسة المتعلقة بعقيدة الله؟" وبعد ذلك شرع السيد في إرشاد الرُسل حول تطور المفهوم عن الإلَه في جميع مراحل تطور الشعب اليهودي. لفت الانتباه إلى المراحل التالية لنمو فكرة الله:
142:3.3 (1598.4) 1. يهوه ــ إله عشائر سيناء. كان هذا هو المفهوم البدائي عن الإلَه الذي رفعه موسى إلى المستوى الأعلى للرب إله إسرائيل. الأب في السماء لا يفشل أبداً في قبول العبادة المخلصة لأولاده على الأرض, بغض النظر كم هو فج مفهومهم عن الإلَه أو بأي اسم يرمزون إلى طبيعته الإلَهية.
142:3.4 (1598.5) 2. الأعلى. هذا المفهوم عن الأب في السماء أعلنه ملكيصادق إلى إبراهيم وحُمل بعيداً عن شاليم من قبل أولئك الذين آمنوا لاحقاً بهذه الفكرة المكبرة والموسعة عن الإلَه. غادر إبراهيم وأخوه أور بسبب تأسيس عبادة الشمس, وأصبحا مؤمنين بتعليم ملكيصادق عن العاليون ــ الله الأعلى. لقد كان مفهومهم مفهومًا مُركَباً عن الله, يتألف من مزيج من أفكارهم الأقدم من بلاد ما بين النهرين ومذهب الأعلى.
142:3.5 (1598.6) 3. الشادّي. أثناء هذه الأيام المبكرة عبد الكثير من العبرانيين الشادّي, المفهوم المصري لإله السماء, الذي علموا به أثناء أسرهم في أرض النيل. بعد فترة طويلة من زمن ملكيصادق أصبحت كل هذه المفاهيم الثلاثة عن الله موصولة معاً لتشكل مذهب الإلَه الخالق, الرب إله إسرائيل.
142:3.6 (1598.7) 4. إلوهيم. منذ زمن آدم استمر التعليم عن ثالوث الفردوس. ألا تتذكرون كيف بدأت الكتابات المقدسة بالتأكيد على أن "في البدء خلق الآلهة السماوات والأرض؟" يشير هذا إلى أنه عندما تم وضع ذلك السجل, كان مفهوم الثالوث عن الآلهة الثلاثة في واحد قد وجد مكاناً في دِين أسلافنا.
142:3.7 (1598.8) 5. يهوه السامي. في أوقات إشعياء كانت هذه المعتقدات عن الله قد توسعت نحو مفهوم خالق كوني الذي كان في نفس الوقت كلي القدرة وكلي الرحمة. وقد حل هذا المفهوم المتطور والمتوسع عن الله جوهرياً محل جميع الأفكار السابقة عن الإلَه في دِين آبائنا.
142:3.8 (1598.9) 6. الأب في السماء. والآن نعرف الله كأبانا في السماء. يزود تعليمنا دِيناً يكون فيه المؤمن ابن لله. تلك هي بشرى إنجيل ملكوت السماء. مشارك مع الأب في الوجود هما الابن والروح, وسيستمر كشف طبيعة وإسعاف آلهة الفردوس هؤلاء ليتوسع ويسطع على مر العصور اللانهائية من التقدم الروحي الأبدي لأبناء الله الصاعدين. في كل الأوقات وأثناء كل العصور, يتم التعرف على العبادة الحقيقية لأي إنسان ــ كما تتعلق بالتقدم الروحي الفردي ــ بالروح الساكن على أنها الطاعة المقدمة للأب في السماء.
142:3.9 (1599.1) لم يسبق أبداً أن صُدم الرسل بهذه الدرجة كما كانوا عند سماعهم هذه التلاوة لنمو المفهوم عن الله في أذهان اليهود في الأجيال السابقة؛ كانوا في حيرة من أمرهم للغاية لطرح أسئلة. بينما جلسوا أمام يسوع في صمت, تابع السيد: "وكنتم قد عرفتم هذه الحقائق لو قرأتم الكتابات المقدسة. ألم تقرأوا في صموئيل حيث يقال: ’واشتعل غضب الرب ضد إسرائيل كثيراً جداً بحيث حرض عليهم داود قائلاً, اذهب وأحص إسرائيل ويهوذا؟‘ ولم يكن هذا غريباً لأنه في أيام صموئيل كان أبناء إبراهيم يؤمنون حقًا بأن الرب خلق الخير والشر على حد سواء. لكن عندما روى كاتب لاحق هذه الأحداث, لاحقاً إلى توسع المفهوم اليهودي عن طبيعة الله, لم يجرؤ على أن ينسب الشر إلى يهوه؛ لذلك قال: وقام الشيطان ضد إسرائيل وأثار داود ليحصي إسرائيل‘. ألم تفطنوا بأن مثل هذه السجلات في الكتابات المقدسة تُظهر بوضوح كيف استمر المفهوم عن طبيعة الله بالنمو من جيل إلى آخر؟
142:3.10 (1599.2) "مرة أخرى كان يجب أن تفطنوا إلى نمو التفهم للشريعة الإلَهية بما يتفق تماماً مع هذه المفاهيم المتنامية للألوهية. عندما خرج بنو إسرائيل من مصر في الأيام التي سبقت الوحي الموسع عن يهوه, كان لديهم عشر وصايا خدمت كشريعتهم حتى إلى الأوقات عندما خيَّموا أمام سيناء. وهذه الوصايا العشر كانت:
142:3.11 (1599.3) "1. يجب ألا تعبد أي إله آخر, لأن الرب إلَه غيور.
142:3.12 (1599.4) "2. يجب ألا تصنع آلهة مسبوكة.
142:3.13 (1599.5) "3. يجب ألا تهمل الحفاظ على عيد الخبز الخالي من الخميرة.
142:3.14 (1599.6) "4. من بين كل ذكور الناس أو الماشية, البكر لي, يقول الرب.
142:3.15 (1599.7) "5. ستة أيام يمكنك العمل, لكن على اليوم السابع يجب أن تستريح.
142:3.16 (1599.8) "6. يجب ألا تفشل في الاحتفال بعيد الثمار الأولى وعيد الحصاد في نهاية السنة.
142:3.17 (1599.9) "7. يجب ألا تقدم دم أي ذبيحة مع خبز خمير.
142:3.18 (1599.10) "8. لا يجوز ترك ذبيحة عيد الفصح حتى الصباح.
142:3.19 (1599.11) "9. يجب أن تحضر أول ثمار الأرض إلى بيت الرب إلَهك.
142:3.20 (1599.12) "10. لا يجوز أن تطبخ عجل في حليب أُمه.
142:3.21 (1599.13) "وبعدئذٍ, وسط رعود وبروق سيناء, أعطاهم موسى الوصايا العشرة الجديدة, التي كلكم تراعون كبيانات أكثر استحقاقًا لمرافقة مفاهيم يهوه الموَّسَعة عن الإلَه. وألم تنتبهوا أبداً بأن هذه الوصايا كما سُجلت مرتين في الكتابات المقدسة, أنه في الحالة الأولى تم تعيين الخلاص من مصر كالسبب من أجل حفظ السبت, بينما في سجل لاحق تطلبت المعتقدات الدِينية المتقدمة لآبائنا تغيير هذا إلى الإعتراف بحقيقة الخلق كالسبب لمراعاة السبت؟
142:3.22 (1599.14) "وبعدئذٍ هل ستتذكرون أنه مرة أخرى ــ في التنوير الروحي الأعظم ليوم إشعياء ــ تم تغيير هذه الوصايا العشر السلبية إلى ناموس المحبة الإيجابية والعظيمة, الوصية بأن تحب الله بسمو وأن تحب جارك كنفسك. وإنها شريعة المحبة السامية هذه من أجل الله ومن أجل الإنسان التي أُعلنها أيضاً لكم على أنها تمثل الواجب الكامل للإنسان."
142:3.23 (1600.1) ولما انتهى من الكلام, لم يسأله أحد سؤالاً. ذهبوا, كل واحد إلى نومه.
142:4.1 (1600.2) فلاﭭيوس, اليهودي اليوناني, كان مهتدياً من البوابة, حيث أنه لم يُختَن ولم يعَّمَد؛ وحيث أنه كان محباً كبيراً للجميل في الفن والنحت, فقد كان المنزل الذي شغله عندما مكث في أورشليم صرحاً جميلاً. كان هذا البيت مزيناً بشكل رائع بكنوز لا تقدر بثمن والتي جمعها هنا وهناك في رحلاته حول العالم. عندما فَكَرَ أول مرة في دعوة يسوع إلى منزله, خشي أن يشعر السيد بالضيق عند رؤية ما يسمى بالصور. لكن فلاﭭيوس فوجئ بشكل مقبول عندما دخل يسوع المنزل بأنه, بدلاً من توبيخه لحيازته هذه الأشياء التي يُفترض أنها وثنية المنتشرة حول المنزل, أبدى اهتماماً كبيراً بالمجموعة بأكملها وطرح العديد من الأسئلة التقديرية عن كل غرض بينما اصطحبه فلاﭭيوس من غرفة إلى غرفة, يريه جميع تماثيله المُفـَّضلة.
142:4.2 (1600.3) رأى السيد بأن مضيفه كان مندهشاً من موقفه الودي تجاه الفن؛ لذلك, عندما انتهى من معاينة المجموعة بأكملها, قال يسوع: "لأنك تقـَّدر جَمال الأشياء التي خلقها أبي والمبدعة بأيادي الإنسان الفنية, فلماذا تتوقع أن تُوبَّخ؟ لأن موسى سعى ذات مرة إلى محاربة الأوثان وعبادة الآلهة الباطلة, فلماذا يستهجن كل الناس استنساخ النعمة والجَمال؟ أقول لك, يا فلاﭭيوس, أن أبناء موسى قد أساءوا فهمه, وهم الآن يصنعون آلهة زائفة حتى من نهيه للصوَر ومثال الأشياء في السماء وعلى الأرض. لكن حتى لو علّم موسى مثل هذه القيود للعقول المظلمة لتلك الأيام, فما علاقة ذلك بهذا اليوم عندما كُشف الأب في السماء باعتباره حاكم الروح الكوني على الجميع؟ ويا فلاﭭيوس, أعلن أنه في الملكوت الآتي يجب أن لا تـُعَّلموا بعد الآن, ’لا تعبدوا هذا ولا تعبدوا ذاك‘؛ يجب أن لا تهموا أنفسكم بعد الآن بالأوامر بالامتناع عن هذا والحرص على عدم القيام بذلك, بل بالأحرى يجب أن يهتم الجميع بواجب سامي واحد. وواجب الإنسان هذا مُعَّبَر عنه في امتيازين عظيمين: العبادة المُخلِصة للخالق اللامتناهي, أب الفردوس, والخدمة المُحبة المُغدقة على الناس زملاء المرء. إذا كنت تحب جارك مثلما تحب نفسك, فأنت حقاً تعلم أنك ابن لله.
142:4.3 (1600.4) "في عصر لم يكن فيه أبي مفهوماً جيداً, كان موسى مبرراً في محاولاته الصمود أمام عبادة الأصنام, لكن في العصر الآتي سيكون الأب قد كُشف في حياة الابن؛ وهذا الإعلان الجديد عن الله سيجعل من غير الضروري إلى الأبد الخلط بين الأب الخالق والأصنام الحجرية أو الصور المصنوعة من الذهب والفضة. من الآن فصاعداً, يمكن للناس الأذكياء الاستمتاع بكنوز الفن دون الخلط بين مثل هذا التقدير المادي للجَمال وعبادة وخدمة الأب في الفردوس, إله كل الأشياء وكل الكائنات."
142:4.4 (1600.5) آمن فلاﭭيوس بكل ما علمه إياه يسوع. في اليوم التالي ذهب إلى بيت-عنيا عبر الأردن وتعّمد بواسطة تلاميذ يوحنا. وفعل هذا لأن رُسل يسوع لم يعَّمدوا المؤمنين بعد. عندما عاد فلاﭭيوس إلى أورشليم, أقام وليمة عظيمة ليسوع ودعا ستين من أصدقائه. وكثيرون من هؤلاء المدعوين أصبحوا أيضاً مؤمنين برسالة الملكوت الآتي.
142:5.1 (1601.1) إحدى المواعظ العظيمة التي وعظها يسوع في الهيكل في أسبوع الفصح هذا كانت في إجابة لسؤال طرحه أحد مستمعيه, رجل من دمشق. هذا الرجل سأل يسوع: "لكن, أيها الحاخام, كيف لنا أن نعرف بيقين بأنك مرسل من الله, وبأننا حقاً يمكننا دخول هذا الملكوت الذي تُعلن أنت وتلاميذك أنه في متناول اليد؟" فأجاب يسوع:
142:5.2 (1601.2) "بالنسبة إلى رسالتي وتعليم تلاميذي, عليكم أن تحكموا عليها بثمارها. إذا أعلنا لكم حقائق الروح, سيشهد الروح في قلوبكم بأن رسالتنا أصلية. فيما يتعلق بالملكوت وتأكدك من القبول من قبل الأب السماوي, دعني أسأل أي أب بينكم الذي هو أب جدير وطيب القلب سيبقي ابنه في قلق أو ترقب بشأن وضعه في الأسرة أو مكانته الآمنة في عواطف قلب أبيه؟ هل أنتم آباء الأرض تسعدون بتعذيب أولادكم بعدم اليقين بشأن مكانهم في المحبة المقيمة في قلوبكم البشرية؟ ولا الأب في السماء يترك أولاده المؤمنين بالروح في عدم يقين شّاك بالنسبة إلى مكانتهم في الملكوت. إذا قبلتم الله كأب لكم, فأنتم في الحقيقة وحقاً أبناء الله. وإذا كنتم أبناء, فأنتم أمناء في وضع ومكانة كل ما يتعلق بالبنوة الأبدية والإلهية. إذا صدقتم بكلماتي, فأنتم بهذا تؤمنون بالذي أرسلني, وبإيمانكم هكذا في الأب, قد جعلتم وضعكم في المواطنية السماوية أكيد. إذا فعلتم مشيئة الأب في السماء, فلن تفشلوا أبداً في بلوغ الحياة الأبدية للتقدم في الملكوت الإلَهي.
142:5.3 (1601.3) " سيشهد الروح الأسمى مع روحكم بأنكم حقاً أولاد الله. وإذا أنتم أبناء الله, عندئذٍ قد ولدتم من روح الله؛ وكل من وُلد من الروح لديه في ذاته القدرة للتغلب على كل شك, وهذا هو النصر الذي يتغلب على كل عدم يقين, حتى إيمانك.
142:5.4 (1601.4) "قال النبي إشعياء, متحدثًا عن هذه الأوقات: ’عندما يُسكب الروح علينا من العُلى, عندئذٍ سيصبح عمل البار سلاماً, وهدوءًا, وطمأنينة إلى الأبد‘. ومن أجل كل الذين يؤمنون حقاً بهذا الإنجيل, سأصبح ضامناً لاستلامهم نحو الرحمات الأبدية والحياة الأزلية لملكوت أبي. أنتم, إذن, من يسمعون هذه الرسالة ويؤمنون بإنجيل الملكوت هذا, أنتم أبناء الله, ولديكم حياة أزلية؛ والإثبات إلى كل العالَم بأنكم قد ولدتم من الروح هو أنكم تحبون بعضكم البعض بإخلاص.
142:5.5 (1601.5) بقي حشد المستمعين لساعات طويلة مع يسوع, يطرحون عليه أسئلة ويستمعون بانتباه إلى إجاباته المعزية. حتى الرُسل كانوا مشجعين بتعليم يسوع لوعظ إنجيل الملكوت بقدرة وثقة أكبر. كانت هذه التجربة في أورشليم مصدر إلهام كبير لكل الاثني عشر. لقد كان أول اتصال لهم مع هذه الحشود الهائلة, وتعلموا الكثير من الدروس القيمة التي أثبتت أنها ذات مساعدة كبيرة في عملهم اللاحق.
142:6.1 (1601.6) إحدى الأمسيات في منزل فلافيوس جاء هناك لرؤية يسوع واحد اسمه نيقوديموس, عضو ثري وشيخ من مجلس اليهود الأعلى السنهدرين. كان قد سمع الكثير عن تعاليم هذا الجليلي, وهكذا ذهب بعد ظهر أحد الأيام ليستمع إليه وهو يدرس في أروقة الهيكل. كان سيذهب غالباً لسماع يسوع يعَّلم, لكنه كان يخشى أن يراه الناس الحاضرين عند تعليمه, لأن حكام اليهود كانوا بالفعل مختلفين للغاية مع يسوع بحيث ولا عضو من السنهدرين سيرغب أن يتم الُتعرف عليه بأي أسلوب علني معه. تبعاً لذلك, رَتب نيقوديموس مع أندراوس لرؤية يسوع على انفراد وبعد حلول الليل في هذا المساء بالذات, كان بطرس, ويعقوب, ويوحنا في حديقة فلاﭭيوس عندما بدأت المقابلة, لكنهم ذهبوا جميعًا فيما بعد إلى المنزل حيث استمرت المحاضرة.
142:6.2 (1602.1) في استقبال نيقوديموس, لم يُظهر يسوع أي مراعاة خاصة؛ في الحديث معه, لم تكن هناك مراضاة أو إقناع لا داعي له. لم يبذل السيد أي محاولة لصد المتصل به السري, ولم يستخدم التهكم. في كل تعاملاته مع الزائر المتميز, كان يسوع هادئاً, وجاداً, ووقوراً. لم يكن نيقوديموس مندوباً رسمياً للسنهدرين؛ لقد جاء ليرى يسوع بالكامل بسبب اهتمامه الشخصي والصادق بتعاليم السيد.
142:6.3 (1602.2) عند تقديمه بواسطة فلاﭭيوس, قال نيقوديموس: "أيها الحاخام, نعرف بأنك معلم مرسل من الله, لأنه لا يمكن لأي إنسان أن يعلم هكذا إلا إذا كان الله معه. وأنا راغب في معرفة المزيد عن تعاليمك فيما يتعلق بالملكوت الآتي."
142:6.4 (1602.3) أجاب يسوع نيقوديموس: "الحق, الحق, أقول لك, يا نيقوديموس, ما لم يولد الإنسان من فوق, لا يستطيع أن يرى ملكوت الله". عندئذٍ أجاب نيقوديموس: لكن كيف يمكن للإنسان أن يولد مرة أخرى عندما يكون شيخاً؟ لا يمكنه الدخول مرة ثانية في رَحم أمه لكي يولد."
142:6.5 (1602.4) قال يسوع: "مع ذلك, أعلن لك, ما لم يولد الإنسان من الروح, لا يستطيع أن يدخل ملكوت الله. ما يولد من الجسد هو جسد, وما يولد من الروح هو روح. لكن يجب ألا تتعجب من أنني قلت أنك يجب أن تولد من فوق. عندما تهب الرياح, أنت تسمع حفيف الأوراق, لكنك لا ترى الرياح ــ من أين تأتي وإلى أين تذهب ــ وهكذا الحال مع كل واحد مولود من الروح. بعيون الجسد يمكنك أن ترى تجليات الروح, لكن لا يمكنك في الواقع تمييز الروح."
142:6.6 (1602.5) أجاب نيقوديموس: "لكنني لا أفهم ــ كيف يمكن أن يكون ذلك؟" قال يسوع: "أيمكن أن تكون معلماً في إسرائيل ومع ذلك تجهل بكل هذا؟ إنه يصبح, عندئذٍ, واجب أولئك الذين يعرفون حقائق الروح أن يكشفوا هذه الأشياء لأولئك الذين لا يميزون إلا تجليات العالَم المادي. لكن هل ستصدقنا إذا أخبرناك عن الحقائق السماوية؟ هل لديك الشجاعة, يا نيقوديموس, لتؤمن بواحد الذي نزل من السماء, حتى ابن الإنسان؟"
142:6.7 (1602.6) وقال نيقوديموس: "لكن كيف يمكنني البدء في التمسك بهذا الروح الذي سيعيد صنعي استعداداً لدخول الملكوت؟" أجاب يسوع: "روح الأب في السماء يسكنك بالفعل. إذا أردت أن تقاد بواسطة هذا الروح من فوق, فسرعان ما ستبدأ لترى بعيون الروح, وبعدئذٍ بالاختيار من كل القلب لإرشاد الروح ستكون مولوداً من الروح حيث إن هدفك الوحيد في العيش سيكون فعل مشيئة أبيك الذي في السماء. وهكذا بإيجاد نفسك مولوداً من الروح وبسعادة في ملكوت الله, ستبدأ في أن تحمل في حياتك اليومية ثمار الروح الوفيرة."
142:6.8 (1602.7) كان نيقوديموس صادقاً تماماً. كان متأثراً بعمق لكنه خرج محتاراً. كان نيقوديموس مُنجزاً في تطور الذات وفي ضبط النفس, وحتى في الصِفات الأخلاقية العالية. كان مهذباً, ومُحباً لذاته, ومُحباً للآخرين؛ لكنه لم يعرف كيف يُخضع مشيئته لمشيئة الأب الإلَهي مثل طفل صغيرعلى استعداد للخضوع إلى إرشادات وقيادة أب أرضي حكيم ومُحب, بهذا يصبح في الواقع ابناً الله, وريثاً تقدمياً للملكوت الأبدي.
142:6.9 (1603.1) لكن نيقوديموس استجمع إيماناً بما فيه الكفاية ليقبض على الملكوت. لقد احتج بصوت ضعيف عندما سعى زملاؤه من السنهدرين لإدانة يسوع دون جلسة استماع؛ ومع يوسف أريماظيا, اعترف فيما بعد بإيمانه بجسارة وطالب بجسد يسوع, حتى عندما كان معظم التلاميذ قد فروا خائفين من مشهد العذاب والموت النهائي لسيدهم.
142:7.1 (1603.2) بعد فترة التعليم والعمل الشخصي المزدحمة لأسبوع الفصح في أورشليم, أمضى يسوع يوم الأربعاء التالي في بيت-عنيا مع رُسله, يستريحون. بعد ظهر ذلك اليوم, طرح توما سؤالاً أثار إجابة طويلة ومفيدة. قال توما: "يا سيد, في اليوم الذي تم فيه فرزنا كسفراء للملكوت, أخبرتنا أشياء كثيرة, أرشدتنا بما يخص أسلوب حياتنا الشخصي, لكن ماذا يجب أن نعَّلم الجموع؟ كيف يعيش هؤلاء الناس بعد أن يأتي الملكوت بملء أكثر؟ هل يمتلك تلاميذك عبيداً؟ هل يجب أن يتودد المؤمنون بك إلى الفاقة ويتجنبوا المُلكية؟ هل الرحمة وحدها يجب أن تسود بحيث لن يكون لدينا بعد الآن شريعة وعدالة؟" أمضى يسوع والاثنا عشر كل بعد الظهر وطوال ذلك المساء, بعد العشاء يناقشون أسئلة توما. من أجل أهداف هذا السجل نقدم الملخص التالي لإرشاد السيد:
142:7.2 (1603.3) سعى يسوع أولاً ليوضح لرُسله بأنه هو نفسه كان على الأرض يعيش حياة فريدة في الجسد, وبأنهم, الاثنا عشر, قد دُعِوا للمشاركة في تجربة الإغداق هذه لابن الإنسان؛ وكمشاركين في العمل على هذا النحو, هم, أيضاً, يجب أن يشاركوا في العديد من القيود والالتزامات الخاصة لتجربة الإغداق بأكملها. كان هناك إيعاز مستتر بأن ابن الإنسان كان الشخص الوحيد الذي عاش على الأرض على الإطلاق الذي يمكنه في آن واحد أن يرى في قلب الله بالذات وفي أعماق نفـْس الإنسان.
142:7.3 (1603.4) بوضوح شديد شرح يسوع أن ملكوت السماء كان تجربة تطورية, تبدأ هنا على الأرض وتتقدم خلال محطات الحياة المتتالية إلى الفردوس. في سياق المساء صرح بالتأكيد أنه عند مرحلة مستقبلية ما لتطور الملكوت هو سيعاود زيارة هذا العالَم في قدرة روحية ومجد إلَهي.
142:7.4 (1603.5) وأوضح بعد ذلك بأن "فكرة الملكوت" لم تكن الطريقة الأفضل لتوضيح علاقة الإنسان بالله؛ وبأنه وظف هكذا مجاز كلام لأن الشعب اليهودي كان يتوقع الملكوت, ولأن يوحنا وعظ من ناحية الملكوت الآتي. قال يسوع: " سيفهم الناس في عصر آخر إنجيل الملكوت بشكل أفضل عندما يتم تقديمه بمصطلحات معبرة عن العلاقة الأسرية ــ عندما يفهم الإنسان الدِين على أنه تعليم أبوة الله وأخوة الإنسان, البنوة مع الله." بعد ذلك حَاضَر السيد بإسهاب عن الأسرة الأرضية كمثال للعائلة السماوية, معيداً التأكيد على الشريعتين الأساسيتين للعيش: الوصية الأولى للمحبة من أجل الأب, رأس الأسرة, والوصية الثانية للمحبة المتبادلة بين الأبناء, أن تحب أخاك كنفسك. ثم أوضح أن هذه النوعية من المودة الأخوية ستظهر نفسها بشكل ثابت في الخدمة الاجتماعية غير الأنانية والمحبة.
142:7.5 (1603.6) بعد ذلك, جاءت المناقشة التي لا تنسى للخصائص الأساسية للحياة الأسرية وتطبيقها على العلاقة القائمة بين الله والإنسان. أعلن يسوع بأن الأسرة الحقيقية مؤسسة على الحقائق السبع التالية:
142:7.6 (1604.1) 1. واقع الوجود. علاقات الطبيعة وظواهر التشابه الفاني مرتبطة في الأسرة: يرث الأطفال سمات أبوية معينة. ينشأ الأطفال من الوالدين؛ يعتمد وجود الشخصية على تصرف الوالد. علاقة الأب والطفل فطرية في كل الطبيعة وتتخلل كل الوجودات الحية.
142:7.7 (1604.2) 2. الأمن والمسرة. يأخذ الآباء الحقيقيون مسرة كبيرة في تلبية احتياجات أطفالهم. كثير من الآباء لا يكتفون بمجرد توفير احتياجات أطفالهم, لكنهم يستمتعون بالتزويد من أجل مسراتهم أيضاً.
142:7.8 (1604.3) 3. التعليم والتدريب. يخطط الآباء الحكماء بعناية لتعليم أبنائهم وبناتهم وتدريبهم بشكل ملائم. يُعدون عندما يكونون صغارًا من أجل مسؤوليات أكبر في الحياة اللاحقة.
142:7.9 (1604.4) 4. التهذيب وضبط النفس. الآباء البعيدو النظر يزودون من أجل الإرشاد, والتصحيح, والتهذيب الضروري, وأحياناً ضبط النفس لذريتهم الصغار وغير الناضجين.
142:7.10 (1604.5) 5. الرفقة والولاء. يعقد الأب الودود مخالطة ودية ومُحبة مع أطفاله. أذنه مفتوحة دائماً إلى التماساتهم. دائماً مستعد لمشاركة مصاعبهم ومساعدتهم في التغلب على الصعوبات التي يواجهونها. الأب مهتم بسمو في الرفاهية التقدمية لنسله.
142:7.11 (1604.6) 6. المحبة والرحمة. الأب الرحيم متسامح بحرية؛ لا يحمل الآباء ذكريات انتقامية ضد أولادهم. الآباء ليسوا مثل القضاة, أو الأعداء, أو الدائنين. العائلات الحقيقية مبنية على طول الأناة, والصبر, والتسامح.
142:7.12 (1604.7) 7. التزويد من أجل المستقبل. يحب الآباء الدنيويين ترك ميراث لأبنائهم. تستمر العائلة من جيل إلى آخر. الموت فقط يُنهي جيلاً واحداً ليعلن بداية جيل آخر. الموت يُنهي حياة فردية وليس بالضرورة الأسرة.
142:7.13 (1604.8) ناقش السيد لساعات تطبيق سمات الحياة العائلية هذه على علاقات الإنسان, طفل الأرض, إلى الله, أب الفردوس. وكان هذا استنتاجه: "هذه العلاقة لابن إلى أب بأكملها, أعرفها بكمال, لأن كل ما يجب أن تنالوه من بنوة في المستقبل الأبدي أنا قد نلت بالفعل. ابن الإنسان مستعد للإرتقاء إلى يد الأب اليمنى, بحيث أنه من خلالي لا تزال الطريق مفتوحة الآن على نطاق أوسع من أجلكم جميعًا لكي تروا الله, قبل أن تكونوا قد أنهيتم التقدم المجيد, لتصبحوا مثاليين, حتى كما آباكم في السماء مثالي."
142:7.14 (1604.9) عندما سمع الرُسل هذه الكلمات المذهلة, تذكروا التصريحات التي أدلى بها يوحنا في وقت معمودية يسوع, كما تذكروا بجلاء هذه التجربة في علاقة مع وعظهم وتعليمهم لاحقاً إلى موت السيد وقيامته.
142:7.15 (1604.10) يسوع هو ابن إلَهي, واحد في ثقة الأب الكوني الكاملة. لقد كان مع الأب وفهمه تماماً. الآن عاش حياته الأرضية إلى ملء رضى الأب, وهذا التجسد في الجسد مكنه من فهم الإنسان بشكل كامل. كان يسوع هو كمال الإنسان؛ أحرز بالضبط هكذا كمال كما هو مقدر لجميع المؤمنين الحقيقيين أن يبلغوه فيه ومن خلاله. كشف يسوع إله الكمال للإنسان وقدَّم في نفسه الابن المكتمل من العوالم لله.
142:7.16 (1605.1) مع أن يسوع حاضر لعدة ساعات, إلا أن توما لم يكن مكتفياً بعد, لأنه قال: "لكن, يا سيد, نحن لا نجد بأن الأب في السماء دائماً يتعامل معنا في شفقة ورحمة. في كثير من الأحيان نعاني بشدة على الأرض, ولا تُستجاب صلواتنا دائماً. أين نفشل في فهم معنى تعليمك؟"
142:7.17 (1605.2) أجاب يسوع: "يا توما, يا توما, إلى متى قبل أن تكتسبوا القدرة على الإصغاء بأُذن الروح؟ كم من الوقت سيمضي قبل أن تدركوا بأن هذا الملكوت ملكوت روحي, وبأن أبي هو أيضًا كائن روحي؟ ألا تفهمون بأني أعَّلمكم كأبناء روحيين في عائلة الروح السماوية, التي الأب فيها روح لانهائي وأبدي؟ ألا تسمحون لي باستخدام العائلة الأرضية كتوضيح للعلاقات الإلَهية دون تطبيق تعليمي حرفياً على الشؤون المادية؟ ألا يمكنكم في عقولكم فصل الحقائق الروحية للملكوت عن المشاكل المادية, والاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية للعصر؟ عندما أتكلم بلغة الروح, لماذا تصرون على ترجمة معانِيِ إلى لغة الجسد لمجرد أنني أفترض أن أستخدم علاقات مألوفة وحرفية لأغراض التوضيح؟ يا أبنائي, أناشدكم أن تتوقفوا عن تطبيق التعليم عن ملكوت الروح إلى الشؤون الدنيئة المتمثلة في العبودية, والفقر, والمنازل, والأراضي, وعلى المشاكل المادية للمساواة والعدالة بين البشر. هذه الأمور الدنيوية هي من اهتمام أناس هذا العالَم, وبينما تؤثر بطريقة ما على كل الناس, فقد دُعيتم لتمثيلي في العالَم, حتى كما أنا أمثل أبي. أنتم سفراء روحيون لملكوت روحي, ممثلون خاصون لأب الروح. بحلول هذا الوقت يجب أن يكون من الممكن بالنسبةً لي أن أرشدكم كرجال كاملي النمو لملكوت الروح. هل يجب أن أخاطبكم أبداً فقط كأولاد؟ ألن تكبروا أبداً في إدراك الروح؟ مع ذلك, أنا أحبكم وسأتحمل معكم, حتى إلى ذات النهاية لرفقتنا في الجسد. وحتى عند ذاك ستذهب روحي أمامكم نحو كل العالَم."
142:8.1 (1605.3) بحلول نهاية شهر نيسان كانت معارضة يسوع بين الفريسيين والصدوقيين قد أصبحت واضحة للغاية بحيث قرر السيد ورُسله مغادرة أورشليم لفترة, متجهين جنوباً للعمل في بيت-لحم وحبرون. تم قضاء شهر أيار بأكمله في القيام بعمل شخصي في هذه المدن وبين سكان القرى المجاورة. لم يتم القيام بوعظ علني في هذه الرحلة, فقط زيارات من منزل إلى منزل. جزء من هذا الوقت, بينما قام الرُسل بتعليم الإنجيل وخدمة المرضى, أمضاه يسوع وأبنير في عين-جدي, في زيارة المستعمرة النصرانية. كان يوحنا المعمدان قد انطلق من هذا المكان, وكان أبنير رئيس هذه الجماعة. أصبح الكثير من الإخوان الناصريين مؤمنين بيسوع, لكن غالبية هؤلاء الرجال النساك والغريبي الأطوار رفضوا قبوله كمعلم أُرسل من السماء لأنه لم يعَّلم الصيام وأشكال أخرى من إنكار الذات.
142:8.2 (1605.4) لم يعرف الناس الذين يعيشون في هذه المنطقة بأن يسوع وُلد في بيت-لحم. دائماً افترضوا بأن السيد قد وُلد في الناصرة, كما فعلت الغالبية العظمى من تلاميذه, لكن الاثني عشر كانوا يعرفون الحقائق.
142:8.3 (1605.5) كان هذا الحلول في جنوب يهودا فصلاً مريحاً ومثمراً من العمل؛ أتم إضافة نفوس كثيرة إلى الملكوت. بحلول الأيام الأولى من شهر حزيران كان الهياج ضد يسوع قد هدأ جداً في أورشليم بحيث رجع السيد والرُسل ليرشدوا ويعزوا المؤمنين.
142:8.4 (1606.1) مع أن السيد والرُسل أمضوا شهر حزيران بأكمله في أورشليم أو بالقرب منها, إلا أنهم لم يقوموا بتعليم علني خلال هذه الفترة. عاشوا معظم الوقت في خيام, نصبوها في منتزه ظليل, أو حديقة, كانت تعرف في ذلك اليوم باسم الجثسِماني. كان هذا المنتزه واقعاً على السفح الغربي لجبل الزيتون ليس بعيداُ من غدير قدرون. أمضوا سبت نهايات الأسابيع عادة مع لِعازر وأخواته في بيت-عنيا. دخل يسوع داخل أسوار أورشليم مرات قليلة فقط, لكن عدداً كبيراً من المتسائلين المهتمين جاءوا إلى الجثسِماني لزيارته. إحدى أمسيات يوم الجمعة نيقوديموس وواحد اسمه يوسف أريماظيا غامرا خارجاً لرؤية يسوع لكنهما رجعا بسبب الخوف حتى بعد أن وقفا أمام مدخل خيمة السيد. وطبعاً لم يدركا بأن يسوع كان يعلم كل شيء عن أفعالهم.
142:8.5 (1606.2) عندما علِم حكام اليهود بأن يسوع قد عاد إلى أورشليم, استعدوا لإلقاء القبض عليه؛ لكن عندما لاحظوا بأنه لم يقم بأي وعظ علني, استنتجوا بأنه أصبح خائفاً من تحريضهم السابق وقرروا السماح له بمواصلة تعليمه بهذه الطريقة الخاصة بدون مزيد من المعاكسة. وهكذا سارت الأمور بهدوء حتى الأيام الأخيرة من شهر حزيران, عندما واحد اسمه سمعان, عضو في السنهدرين, تبنى علانية تعاليم يسوع, بعد أن أعلن نفسه هكذا أمام حكام اليهود. اندلع على الفور تحريض جديد لإلقاء القبض على يسوع ونما بقوة لدرجة أن السيد قرر أن يتراجع نحو مدن السامرة والمدن العشرة.
كِتاب يورانشيا
ورقة 143
143:0.1 (1607.1) في نهاية شهر حزيران, عام 27 م., بسبب المعارضة المتزايدة للحكام الدِينيين اليهود, رحل يسوع والاثنا عشر من أورشليم, بعد إرسال خيامهم وأمتعتهم الشخصية اليسيرة لتخزينها في بيت لِعازر في بيت-عنيا. ذاهبون شمالاً نحو السامره, مكثوا يوم السبت في بيت-إيل. هنا وعظوا لعدة أيام للناس الذين أتوا من غوفنا وإفرايم. جاءت جماعة من المواطنين من أريماظيا وثامنا لدعوة يسوع لزيارة قراهم. أمضى السيد ورُسله أكثر من أسبوعين يعَّلِمون اليهود والسامريين من هذه المنطقة, الذين جاء الكثير منهم من مناطق بعيدة مثل أنتيباتريس لسماع بشائر الملكوت.
143:0.2 (1607.2) استمع أهل جنوب السامره ليسوع بسرور, ونجح الرُسل, باستثناء يوداص إسخريوط, في التغلب على الكثير من تحيزهم ضد السامريين. كان من الصعب للغاية على يوداص أن يحب هؤلاء السامريين. في الأسبوع الأخير من تموز استعد يسوع وزملاءه للرحيل إلى المدن اليونانية الجديدة فاسايلِس وأرخيلايس بالقرب من الأردن.
143:1.1 (1607.3) في النصف الأول من شهر آب اتخذت الزمرة الرسولية مقراً لها في مدينتي أرخيلايس وفاسايلِس اليونانيتين, حيث خاضوا تجربتهم الأولى في الوعظ إلى تجمعات تقريباً كلياً من الأمميين ــ يونانيين, ورمانيين, وسوريين ــ لأن قلة من اليهود سكنوا في هاتين المدينتين اليونانيتين. في اتصالهم مع هؤلاء المواطنين الرومان, واجه الرُسل صعوبات جديدة في إعلان رسالة الملكوت الآتي, وواجهوا اعتراضات جديدة على تعاليم يسوع. في أحد المؤتمرات المسائية العديدة مع رُسله, استمع يسوع بانتباه إلى هذه الاعتراضات على إنجيل الملكوت بينما كرر الاثنا عشر تجاربهم مع مواضيع أشغالهم الشخصية.
143:1.2 (1607.4) ثمة سؤال طرحه فيليبُس كان نموذجياً لمصاعبهم. قال فيليبُس: "يا سيد, هؤلاء اليونانيون والرومانيون يستخفون برسالتنا, قائلين بأن مثل هذه التعاليم لا تصلح إلا للضعفاء والعبيد. إنهم يجزمون بأن دِين الوثنيين يتفوق على تعليمنا لأنه يُلهم اكتساب سجية قوية, ونشيطة, ومناضلة. إنهم يؤكدون بأننا سنحول كل الناس إلى عينات واهنة من غير المقاومين المستسلمين الذين سينمحون قريباً من وجه الأرض. إنهم يحبونك, يا سيد, ويقـّرون بحرية بأن تعاليمك سماوية ومثالية, لكنهم لن يأخذونا على محمل الجد. هم يجزمون بأن دِينك ليس لهذا العالَم؛ بأن الناس لا يستطيعون العيش كما تُعَّلم. والآن, يا سيد, ماذا عسانا نقول لهؤلاء الأمميين؟"
143:1.3 (1607.5) بعد أن سمع يسوع اعتراضات مشابهة على إنجيل الملكوت قدمها توما, ونثانئيل, وسمعان زيلوطس, ومتـّى, قال للاثني عشر:
143:1.4 (1608.1) لقد جئت إلى هذا العالَم لأفعل مشيئة أبي ولأكشف سجيته المُحبة للبشرية جمعاء. تلك يا إخواني, هي مهمتي. وهذا الشيء الواحد سأفعله, بغض النظر عن سوء فهم تعاليمي من قبل اليهود أو الأمميين لهذا اليوم أو من جيل آخر. لكن يجب ألا تغفلوا عن حقيقة أن حتى المحبة الإلَهية لها تهذيباتها القاسية. محبة الأب لابنه في غالب الأحيان تدفع الأب إلى كبح الأفعال غير الحكيمة التي يقوم بها نسله الطائش. لا يستوعب الطفل دائماً الدوافع الحكيمة والمُحبة لتأديب الأب الكابح. لكنني أعلن لكم بأن أبي في الفردوس يحكم كون الأكوان بالقدرة الملزمة لمحبته. المحبة هي الأعظم من كل الحقائق الروحية. الحقيقة هي وحي محرر, لكن المحبة هي العلاقة الأسمى. وبغض النظر عن الأخطاء التي يرتكبها زملاءكم الناس في إدارة عالَمهم اليوم, في عصر سيأتي سيحكم الإنجيل الذي أعلنه لكم هذا العالَم بالذات. الهدف الختامي للتقدم البشري هو الإعتراف المبجل بأبوة الله والتجسيد المحب لأخوة الإنسان.
143:1.5 (1608.2) لكن مَن أخبركم بأن إنجيلي كان موجهاً فقط للعبيد والضعفاء؟ هل أنتم, رُسلي المختارين, تشبهون الضعفاء؟ هل بدا يوحنا ضعيفاً؟ هل ترون بأني مستعبد بالخوف؟ صحيح أن, الفقراء, والمضطهدين في هذا الجيل لديهم الإنجيل يوعظ إليهم. ديانات هذا العالَم قد أهملت الفقير, لكن أبي ليس لديه محاباة أشخاص. إلى جانب ذلك, فإن فقراء هذا اليوم هم أول من يستجيب للدعوة إلى التوبة وقبول البنوة. يجب التبشير بإنجيل الملكوت إلى كل الناس ــ يهودي وأممي, إغريقي وروماني, فقير وغني؛ حر وعبد ــ وعلى قدم المساواة إلى الصغار والكبار, ذكوراً وإناثاً.
143:1.6 (1608.3) "لأن أبي هو إله محبة ويبتهج في ممارسة الرحمة, لا تتشربوا فكرة أن خدمة الملكوت ستكون ذات سهولة رتيبة. ارتقاء الفردوس هو المغامرة الأسمى لكل الزمان, الإنجاز الصعب للأبدية. سوف تتطلب خدمة الملكوت على الأرض كل الرجولة الشجاعة التي أنتم والمشاركين في العمل معكم يمكنكم تجنيدها. سيُقتل الكثير منكم بسبب ولائهم لإنجيل هذا الملكوت. إنه من السهل الموت في خط المعركة الجسدية عندما تتعزز شجاعتكم بحضور رفاقكم المقاتلين, لكنه يتطلب شكلاً أسمى وأعمق من الشجاعة والتفاني البشري لإلقاء حياتك بهدوء ووحدك تماماً من أجل محبة الحق المحتفظ بها بقدسية في قلبك الفاني.
143:1.7 (1608.4) "اليوم, قد يسخر منكم غير المؤمنين بوعظ إنجيل عدم مقاومة وعيش حيوات بدون عنف, لكن أنتم المتطوعون الأولون لخط طويل من المؤمنين المخلصين بإنجيل هذا الملكوت الذين سوف يذهلون كل جنس الإنسان بتكريسهم البطولي لهذه التعاليم. لم تُظهر أي جيوش في العالم أبداً بطولة وشجاعة أكثر مما سيكون مُصَّوراً بكم وبخلفائكم الموالين الذين سينطلقون إلى كل العالَم ليعلنوا البشارة ــ أبوة الله وأخوة الناس. بسالة الجسد هي أدنى أشكال الشجاعة. شجاعة العقل هي شكل أعلى من البسالة البشرية, لكن الأعلى والأسمى هو الولاء الذي لا هوادة فيه للقناعات المستنيرة للحقائق الروحية العميقة. ومثل هذه الشجاعة تشكل بطولة الإنسان العارف الله. وأنتم كلكم رجال عارفون الله؛ أنتم في الحقيقة الزملاء الشخصيون لابن الإنسان."
143:1.8 (1608.5) لم يكن هذا كل ما قاله يسوع في تلك المناسبة, لكنها مقدمة خطابه, واستمر مطولاً في تضخيم هذا البيان وفي توضيحه. كان هذا أحد الخطابات الأكثر حماسة التي ألقاها أبداً يسوع إلى الاثني عشر. نادراً ما تكلم السيد مع رُسله بشعور قوي واضح, لكن هذه كانت إحدى تلك المناسبات القليلة التي تكلم فيها بجدية ظاهرة, مصحوبة بعاطفة ملحوظة.
143:1.9 (1609.1) كانت نتيجة الوعظ العلني والإسعاف الشخصي للرُسل فورية؛ منذ ذلك اليوم بالذات أخذت رسالتهم ملاحظة جديدة من السيطرة الشجاعة. واصل الاثنا عشر اكتساب روح النضال الإيجابي في إنجيل الملكوت الجديد. من هذا اليوم وصاعداً لم ينشغلوا كثيراً بوعظ الفضائل السلبية والإيعازات غير الفعالة لتعليم سيدهم المتعدد الجوانب.
143:2.1 (1609.2) كان السيد عينة مثالية لضبط النفس البشري. عندما شُتم, لم يشتم؛ ولما عانى, لم يتفوه بأي تهديدات ضد معذبيه؛ عندما شجبه أعداؤه, استودع نفسه ببساطة إلى القضاء العادل للأب في السماء.
143:2.2 (1609.3) في إحدى المؤتمرات المسائية, سأل أندراوس يسوع: "يا سيد, هل علينا أن نمارس إنكار الذات كما علـَّمنا يوحنا, أو هل نجتهد من أجل ضبط النفس في تعليمك؟ أين يختلف تعليمك عن ذلك ليوحنا؟ أجاب يسوع: "يوحنا حقاً علـَّمكم طريق البر وفقاً لنور وشرائع آبائه, وذلك كان دِين فحص-الذات وإنكار-الذات. لكنني أتيت برسالة جديدة من نسيان-الذات والتحكم-بالذات. أريكم طريق الحياة كما كشفها لي أبي في السماء.
143:2.3 (1609.4) "الحق, الحق, أقول لكم, من يحكم نفسه هو أعظم من الذي يحتل مدينة. إن سيادة-الذات هي مقياس طبيعة الإنسان الأخلاقية ومؤشر على تطوره الروحي. في النظام القديم صمتم وصليّتم, كالمخلوق الجديد لولادة الروح من جديد, عُلـِّمتم أن تؤمنوا وتفرحوا. في ملكوت الأب عليكم أن تصبحوا مخلوقات جديدة؛ الأشياء القديمة تزول؛ ها انا اريكم كيف ستصبح كل الاشياء جديدة. وبمحبتكم لبعضكم البعض أنتم ستقنعون العالَم بأنكم قد عبرتم من العبودية إلى الحرية, من الموت إلى الحياة الأبدية.
143:2.4 (1609.5) "بالطريقة القديمة أنتم تسعون لأن تكبتوا, وتطيعوا, وتمتثلوا إلى أحكام المعيشة؛ بالطريقة الجديدة أنتم أولاً تتحولون بواسطة روح الحق وبالتالي تتقوون في نفسكم الداخلية بالتجديد الروحي المستمر لعقلكم, وهكذا تتمتعون بقوة الأداء المؤكد والمبهج لمشيئة الله, الكريمة, والمقبولة, والمثالية. لا تنسوا ــ إنه إيمانكم الشخصي في وعود الله العظيمة والثمينة للغاية الذي يضمن أن تصبحوا متناولين من الطبيعة الإلَهية. هكذا بإيمانكم وبتحّوُل الروح, تصبحون في الواقع هياكل الله, وروحه تسكن فعلياً داخلكم. إذا, عندئذٍ, سكن الروح داخلكم, فأنتم لم تعودوا بعد الآن عبيداً مُستعبَدين للجسد بل أبناء للروح متحررين وأحرار. الشريعة الجديدة للروح تمنحكم حرية سيادة-الذات في مكان الشريعة القديمة من خوف رق-الذات وعبودية إنكار-الذات.
143:2.5 (1609.6) " في كثير من الأحيان, عندما فعلتم الشر, فكرتم أن تنسبوا أعمالكم لتأثير الشرير, عندما في الواقع قد ضُللتم فقط بميولكم الطبيعية الخاصة. ألم يخبركم النبي إرميا منذ زمن بعيد بأن قلب الإنسان خادع فوق كل الأشياء وأحياناً حتى أثيم بشكل يائس ما أسهل أن تصبحوا مخدوعي-الذات وبالتالي تقعون في مخاوف حمقاء, وشهوات متعددة, ومسرات مستعبدة, وحقد, وحسد, وحتى كراهية إنتقامية!
143:2.6 (1610.1) "الخلاص يكون بتجديد الروح وليس بمآثر الجسد البارة. أنتم مبرَرين بالإيمان ومزاملين بالنعمة, ليس بخوف وإنكار-الذات للجسد, ولو أن أولاد الأب الذين وُلدوا من الروح هم دائماً وأبداً أسياد الذات وكل ما يتعلق برغبات الجسد. عندما تعرفون بأنكم قد خُلصتم بالإيمان, يكون لديكم سلام حقيقي مع الله. وكل من يتبع طريق هذا السلام السماوي مُقدر له أن يتقدس للخدمة الأبدية للأبناء الدائمي التقدم لله الأبدي. من الآن فصاعداً, إنه ليس واجب بل بالأحرى امتيازكم الجليل أن تطهروا أنفسكم من كل شرور العقل والجسد بينما تسعون إلى الكمال في محبة الله.
143:2.7 (1610.2) "بنوتكم مرتكزة في الإيمان, وعليكم أن تظلوا غير متأثرين بالخوف. فرحكم مولود من الثقة بالكلمة الإلَهية, ولذلك لن تقادوا إلى الشك في حقيقة محبة الأب ورحمته. إنه صلاح الله بالذات الذي يقود الناس إلى توبة حقيقية وصادقة. سِركم في سيادة الذات مرتبط بإيمانكم في الروح الساكن, الذي يعمل أبداً بالمحبة. حتى هذا الإيمان المُخَلِص ليس لديكم من أنفسكم؛ إنه أيضاً عطية الله. وإذا كنتم أبناء هذا الإيمان الحي, فأنتم لستم بعد الآن مستعبدين للذات بل بالأحرى الأسياد المنتصرين لأنفسكم, أبناء الله المحررين.
143:2.8 (1610.3) "إذا, آنذاك, يا أولادي, أنتم مولودون من الروح, فقد تحررتم إلى الأبد من عبودية وعي-الذات لحياة من إنكار-الذات واحتراس من رغبات الجسد, وتُترجمون نحو ملكوت الروح المُفرح, من حيث تُظهرون تلقائياً ثمار الروح في معايشكم اليومية؛ وثمار الروح هي جوهر أعلى نوع من ضبط-النفس المُفرح والمُشـَّرَف, حتى أعالي الإحراز الفاني الأرضي ــ إتقان-الذات الحقيقي."
143:3.1 (1610.4) حوالي هذا الوقت نشأت حالة من التوتر العصبي والعاطفي الشديد بين الرُسل وزملائهم التلاميذ المباشرين. كانوا بالكاد قد أصبحوا معتادين على العيش والعمل معاً. كانوا يقاسون صعوبات متزايدة في الحفاظ على علاقات منسجمة مع تلاميذ يوحنا. كان الإتصال بالأمميين والسامريين تجربة عظيمة لهؤلاء اليهود. وإلى جانب كل هذا, زادت تصريحات يسوع الأخيرة من حالتهم الذهنية المضطربة. كان أندراوس يهذي تقريباً؛ لم يكن يعرف ماذا سيفعل بعد ذلك, وهكذا ذهب إلى السيد بمشاكله وحيرته. عندما استمع يسوع إلى رئيس الرسل وهو يتحدث عن متاعبه, قال: "أندراوس, لا يمكنك إقناع الناس بالعدول عن حيرتهم عندما يصلون إلى مثل هذه المرحلة من المشاركة, وعندما يتعلق الأمر بالكثير من الأشخاص الذين لديهم مشاعر قوية. لا أستطيع أن أفعل ما تطلبه مني ــ لن أشارك في هذه الصعوبات الاجتماعية الشخصية ــ لكني سأنضم إليكم في الاستمتاع بفترة ثلاثة أيام من الراحة والاسترخاء, اذهب إلى إخوانك وأعلن بأنكم جميعاً ستصعدون معي إلى جبل صارتابا, حيث أرغب في الراحة ليوم أو يومين.
143:3.2 (1610.5) "الآن يجب أن تذهب إلى كل من إخوانك الأحد عشر وتتحدث معه على انفراد, قائلاً: ’يرغب السيد بأن نذهب على حدة معه لفصل من الراحة والاسترخاء. نظراً لأننا جميعاً قد قاسينا مؤخراً الكثير من إنزعاج الروح وإجهاد العقل, اقترح بأن لا يُجعل ذِكر لتجاربنا ومشاكلنا بينما على هذه العطلة. هل يمكنني الإعتماد عليك للتعاون معي في هذا الأمر؟‘ بهذه الطريقة اقترب شخصياً وعلى انفراد إلى كل من إخوانك." وقد فعل أندراوس كما أوعز إليه السيد.
143:3.3 (1611.1) كانت هذه مناسبة رائعة في تجربة كل منهم؛ لم ينسوا أبداً يوم صعود الجبل. طوال هذه الرحلة بالكاد قيلت كلمة عن متاعبهم. عند الوصول إلى قمة الجبل, أجلسهم يسوع حوله بينما قال: "يا إخواني, يجب أن تتعلموا جميعًا قيمة الراحة وفعالية الاسترخاء, يجب أن تدركوا بأن أفضل أسلوب لحل بعض المشاكل المعقدة هو التخلي عنها لبعض الوقت. بعدئذٍ عندما تعودون منتعشين من راحتكم أو عبادتكم, أنتم قادرون للحمل على مشاكلكم برأس أوضح ويد أكثر ثباتاً, ليس لذكر قلب اكثر تصميماً. مجدداً, في كثير من الأحيان يتبين أن مشكلتكم قد تقلصت في الحجم والنِسب بينما كنتم تريحون عقلكم وجسمكم."
143:3.4 (1611.2) في اليوم التالي خصص يسوع لكل واحد من الاثني عشر موضوعاً للمناقشة. كان اليوم كله مُكرَساً للذكريات وللحديث في أمور لا تتعلق بعملهم الدِيني. كانوا مصدومين للحظة عندما أهمل يسوع حتى أن يقدم الشكر ــ لفظياً ــ عندما كسر الخبز من أجل غذائهم في الظهيرة. كانت هذه المرة الأولى أبداً ليلاحظوه يهمل هذه الرسميات.
143:3.5 (1611.3) عندما صعدوا الجبل, كان رأس أندراوس مليئاً بالمشاكل. كان يوحنا في حيرة شديدة في قلبه. كان يعقوب قلقاً بشدة في نفـْسه. كان متـّى يتعرض لضغوط شديدة للحصول على أموال نظراً لأنهم كانوا يقيمون بين الأمميين. كان بطرس مرهقاً وكان مؤخراً أكثر مزاجية من المعتاد. كان يوداص يعاني نوبة دَورية من الحساسية والأنانية. كان سمعان على غير عادة مضطرباً في جهوده للتوفيق بين وطنيته ومحبة أخوة الإنسان. كان فيليبُس أكثر وأكثر انزعاجاً من الطريقة التي كانت تسير فيها الأمور. كان نثانئيل أقل فكاهة منذ أن اتصلوا بالسكان الأمميين, وتوما كان في خضم فصل شديد من انقباض النفس. فقط التوأم كانا عاديين وغير مضطربين. كانوا جميعًا في حيرة شديدة بشأن كيفية الإنسجام بسلام مع تلاميذ يوحنا.
143:3.6 (1611.4) في اليوم الثالث عندما بدأوا النزول من الجبل وعادوا إلى مخيمهم, كان قد حدث تغيير كبير عليهم. لقد توصلوا إلى اكتشاف مهم مفاده أن العديد من المحيرات البشرية غير موجودة في الواقع, أن العديد من المشاكل الملحة هي إبداعات الخوف المُبالغ فيه وذرية الظنون المزاد عليها. لقد تعلموا أن أفضل طريقة للتعامل مع كل هذه الحيرة هي التخلي عنها؛ من خلال ذهابهم تركوا هذه المشاكل تحل نفسها.
143:3.7 (1611.5) كانت عودتهم من هذه العطلة بداية فترة من العلاقات المحسنة بشكل كبير مع أتباع يوحنا. لقد أفسح كثيرون من الاثني عشر المجال للبهجة حقاً عندما لاحظوا الحالة المتغيرة لعقل كل شخص ولاحظوا التحرر من الانفعال العصبي الذي جاء لهم نتيجة لعطلة الأيام الثلاثة من واجبات الحياة الروتينية. هناك دائماً خطر أن تؤدي رتابة الاتصال إلى مضاعفة الارتباك وتضخم الصعوبات.
143:3.8 (1611.6) لم يؤمن بالإنجيل كثير من الأمميين في المدينتين اليونانيتين إرخيلايس وفاسيالِس, لكن الرُسل الاثني عشر اكتسبوا خبرة قيَّمة في عملهم هذا المكثف الأول مع سكان أمميين حصرياً. في صباح يوم الاثنين, حوالي منتصف الشهر, قال يسوع لإندراوس: "نذهب إلى السامره." وانطلقوا في الحال إلى مدينة سيخار, قرب بئر يعقوب.
143:4.1 (1612.1) لأكثر من ستمائة عام كان يهود يهودا, وفيما بعد أيضًا أولئك من الجليل على عداوة مع السامريين. جاء هذا الشعور السيئ بين اليهود والسامريين بهذه الطريقة: حوالي سبعمائة سنة ق.م., في قمع تمرد في وسط فلسطين, أخذ سرجون, ملك أشور, في الأسر أكثر من خمسة وعشرين ألف يهودي من المملكة الشمالية لإسرائيل ووضع مكانهم عدداً مساوياً تقريباً من أحفاد الكوثيين, والسفارويين, والحماثيين. فيما بعد, أرسل أشوربنيبال المزيد من المستعمرات الأخرى لتسكن في السامره.
143:4.2 (1612.2) تعود العداوة الدِينية بين اليهود والسامريين إلى عودة السابقين من الأسر البابلي, عندما عمل السامريون على منع إعادة بناء أورشليم. في وقت لاحق أساءوا لليهود من خلال تقديم المساعدة الودية لجيوش الإسكندر. في مقابل صداقتهم أعطى الإسكندر السامريين الإذن لبناء معبد على جبل جيريزيم, حيث عبدوا يهوه وآلهتهم القبلية وقدموا القرابين كثيراً على ترتيب خدمات الهيكل في أورشليم. على الأقل استمروا في هذه العبادة حتى زمن المكابيين, عندما دمر يوحنا هيركانوس معبدهم على جبل جيريزيم. عقد الرسول فيليبُس, في أشغاله من أجل السامريين بعد موت يسوع, اجتماعات عديدة في موقع هذا المعبد السامري القديم.
143:4.3 (1612.3) الخصومات بين اليهود والسامريين كانت عريقة وتاريخية؛ بشكل متزايد منذ أيام الإسكندر لم يكن لديهم أي تعاملات مع بعضهم البعض. لم يكن الرُسل الاثنا عشر رافضين للوعظ في المدن اليونانية وغيرها من المدن في المدن العشرة وسوريا, لكنه كان اختباراً شديداً لولائهم للسيد عندما قال, "لنذهب إلى السامره." لكن في السنة وأكثر التي كانوا فيها مع يسوع, كانوا قد طوروا شكلاً من أشكال الولاء الشخصي الذي تجاوز حتى إيمانهم بتعاليمه وتحيزاتهم ضد السامريين.
143:5.1 (1612.4) عندما وصل السيد والاثنا عشر إلى بئر يعقوب, يسوع, متعباً من الرحلة, تمهلوا بجانب البئر بينما أخذ فيليبُس الرُسل معه للمساعدة في جلب الطعام والخيام من سيخار, لأنهم كانوا ميالين للمكوث في هذا الجوار إلى حين. كان بإمكان بطرس وابنا زَبـِدي البقاء مع يسوع, لكنه طلب أن يذهبوا مع إخوانهم, قائلاً: "لا تخافوا علي؛ سيكون هؤلاء السامريون ودودون؛ فقط إخواننا, اليهود, هم من يسعون لإيذائنا". وكانت الساعة تقترب من السادسة من مساء هذا الصيف عندما جلس يسوع بجانب البئر في انتظار عودة الرُسل.
143:5.2 (1612.5) كانت مياه بئر يعقوب أقل معدنية من آبار سيخار وكانت لذلك ذات قيمة كبيرة لأغراض الشرب. كان يسوع عطشاناً, لكن لم يكن هناك طريقة لسحب الماء من البئر. عندما, لذلك, جاءت امرأة من سيخار مع إبريق الماء الخاص بها واستعدت للسحب من البئر, قال لها يسوع, "اعطني شربة ماء." عرفت هذه المرأة السامرية أن يسوع كان يهودياً من مظهره ولباسه, وخمنت بأنه يهودي جليلي من لهجته. كان اسمها نالدا وكانت مخلوق لطيف. لقد فوجئت كثيرا بأن يتكلم معها رجل يهودي عند البئر ويطلب الماء, لأنه اُعتبر من غير اللائق في تلك الأيام لرَجل يحترم نفسه أن يتحدث إلى امرأة في الأماكن العامة, ناهيك ليهودي يتحادث مع سامرية. لذلك سألت نالدا يسوع, "كيف يكون, كونك يهودي, تطلب شرابًا مني, امرأة سامرية؟" أجاب يسوع: "في الحقيقة سألتكِ من أجل شربة, لكن إذا فقط استطعتِ أن تفهمي, فسوف تسألينني من أجل شربة الماء الحي." عندئذٍ قالت نالدا: "لكن, يا سيد, ليس لديك شيء لتسحب به, والبئر عميقة؛ فمن أين, إذن, لك هذا الماء الحي؟ هل أنت أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا هذه البئر, والتي شرب منها هو وأبناؤه وماشيته أيضاً؟"
143:5.3 (1613.1) أجاب يسوع: "كل من يشرب من هذا الماء سوف يعطش مرة أخرى, لكن كل مَن يشرب من ماء الروح الحي فلا يعطش أبداً. وسيصبح هذا الماء الحي فيه بئرًا من الإنعاش ينبع حتى إلى الحياة الأبدية". عند ذاك قالت نالدا: "اعطني هذا الماء حتى لا أعطش ولا آتي كل الطريق إلى هنا لأستخرجه. إلى جانب ذلك, فإن أي شيء يمكن أن تحصل عليه امرأة سامرية من مثل هذا اليهودي المحترم سيكون من دواعي السرور."
143:5.4 (1613.2) لم تعرف نالدا كيف تأخذ رغبة يسوع في التحدث معها. رأت في وجه السيد ملامح رَجل مستقيم ومقدس, لكنها أخطأت الود بالألفة المألوفة, وأساءت تفسير مجاز كلامه على أنه شكل من أشكال مغازلتها. وكائنة امرأة ذات أخلاق متراخية, كانت مائلة علناً لأن تصبح ذات مغازلة, عندما نظر يسوع إلى عينيها مباشرة, قال بصوت آمرٍ, "يا امرأة, اذهبي هاتي زوجك وأحضريه إلى هنا." هذا الأمر أعاد نالدا إلى رشدها. رأت بأنها أساءت الحُكم على لطف السيد؛ أدركت أنها أساءت فهم أسلوبه في الكلام. كانت خائفة؛ بدأت تدرك بأنها وقفت في حضرة شخص غير عادي, وملتمسة في عقلها لإجابة مناسبة, قالت في ارتباك شديد, "لكن, يا سيد, لا أستطيع دعوة زوجي, لأن ليس لدي زوج". عندئذٍ قال يسوع: "لقد تكلمتِ بالحق, لأنه, بينما كان لديك زوج في يوم من الأيام, إلا أن الذي تسكنين معه الآن ليس زوجك. سيكون من الأفضل إذا توقفتِ عن العبث بكلماتي وسعيتِ من أجل الماء الحي الذي عرضته عليكِ هذا اليوم."
143:5.5 (1613.3) بهذا الوقت كانت نالدا صاحية, واستيقظت نفسها الأفضل. لم تكن امرأة فاسقة باختيارها بالكامل. كانت قد نُبذت بلا رحمة وظلمًا من قِبل زوجها وفي ضائقة شديدة وافقت على العيش مع يوناني معين كزوجته, لكن بدون زواج. شعرت نالدا الآن بالخجل الشديد لأنها تحدثت إلى يسوع على هذا النحو بدون تفكير, وبأكثر الندامة خاطبت السيد, قائلة: "ربي, أتوب عن أسلوب حديثي إليك, لأني أشعر بأنك رَجل مقدس أو ربما نبي." وكانت على وشك طلب مساعدة مباشرة وشخصية من السيد عندما فعلت ما فعله كثيرون قبلها وبعدها ــ حيث تهربت من موضوع الخلاص الشخصي من خلال التحول إلى مناقشة اللاهوت والفلسفة. وسرعان ما حولت المحادثة من احتياجاتها الخاصة إلى جدل لاهوتي. مشيرة إلى جبل جيريزيم, تابعت: "آباؤنا عبدوا على هذا الجبل, ومع ذلك أنتم تقولون أن في أورشليم المكان الذي يجب أن يتعبد فيه الناس؛ فما هو إذن, المكان الصحيح لعبادة الله؟"
143:5.6 (1613.4) شَعَرَ يسوع بمحاولة نفـْس المرأة لتفادي اتصال مباشر وباحث مع صانعها, لكنه رأى أيضًا أن هناك رغبة في نفـْسها لمعرفة الطريق الأفضل للحياة. بعد كل شيء, كان في قلب نالدا عطش حقيقي للماء الحي؛ لذلك تعامل معها بصبر, قائلاً: "يا امرأة, دعيني أقول لكِ بأن اليوم سيأتي قريباً عندما لا على هذا الجبل ولا في أورشليم ستعبدون الأب. لكنكم الآن تعبدون ما لا تعرفونه, مزيج من كثير من الآلهة الوثنية والفلسفات الأممية. اليهود على الأقل يعرفون مَن يعبدون؛ لقد أزالوا كل التباس من خلال تركيز عبادتهم على إله واحد, يهوه. لكن يجب أن تصدقيني عندما أقول بأن الساعة ستأتي قريباً ــ حتى الآن هي ــ عندما يعبد كل العابدين المخلصين الأب بالروح والحق, لأن الأب يبحث بالضبط عن مثل هؤلاء العابدين. الله روح, والذين يعبدونه يجب أن يعبدوه بالروح والحق. خلاصك لا يأتي من معرفة كيف يجب على الآخرين أن يعبدوا أو أين لكن بتلقي في قلبكِ الخاص هذا الماء الحي الذي أقدمه لكِ حتى الآن."
143:5.7 (1614.1) لكن نالدا شاءت أن تبذل جهداً إضافياً لتجنب مناقشة السؤال المحرج المتعلق بحياتها الشخصية على الأرض ووضع نفـْسها أمام الله. مرة أخرى التجأت إلى أسئلة عامة عن الدِين, قائلة: "نعم, أعرف, يا سيد, بأن يوحنا قد بشر بقدوم الهادي, الذي سيُدعى المُخَلِص, وأنه, عندما سيأتي, سيعلن لنا كل الأشياء" ــ ويسوع, مقاطعاً نالدا, قال بتأكيد مذهل, "أنا الذي أتكلم إليكِم هو."
143:5.8 (1614.2) كان هذا أول إعلان مباشر, وإيجابي, وغير مُقـَّنَع عن طبيعته الإلَهية وبنوته الذي جعله يسوع على الأرض؛ ولقد تم لامرأة, امرأة سامرية’ وامرأة ذات سجية مشكوك في أمرها في عيون الناس حتى هذه اللحظة, لكن المرأة التي رأت العين الإلَهية أنها قد أُخطئ ضدها أكثر من كونها أخطأت لرغبتها الخاصة والآن على أنها نفـْس بشرية رغبت الخلاص, رغِبته بصدق وإخلاص, وذلك كان كافياً.
143:5.9 (1614.3) بينما كانت نالدا على وشك التعبير عن اشتياقها الحقيقي والشخصي لأشياء أفضل وأسلوب حياة أكثر نبلاً, تمامًا عندما كانت مستعدة للتحدث عن رغبة قلبها الحقيقية, عاد الرُسل الاثنا عشر من سيخار, وقادمين على هذا المشهد ليسوع يتكلم بود للغاية مع هذه المرأة ــ هذه المرأة السامرية, ووحدها ــ كانوا أكثر من مذهولين. أودعوا بسرعة مؤنهم وانسحبوا جانباً, ولم يجرؤ رَجل على زجره, بينما قال يسوع لنالدا: "يا امرأة, اذهبي في طريقكِ, لقد غفر الله لك. من الآن فصاعداً ستعيشين حياة جديدة. لقد استلمتِ الماء الحي, وسوف ينبع فرح جديد داخل نفـْسك وستصبحين ابنة العلي." والمرأة, شاعرة باستنكار الرُسل, تركت إناءها وهربت إلى المدينة.
143:5.10 (1614.4) عندما دخلت المدينة, أعلنت لكل من قابلتهم: "اخرجوا إلى بئر يعقوب واذهبوا بسرعة, لأن هناك سترون رَجلاً أخبرني بكل ما فعلته. هل يمكن أن يكون الهادي؟" وقبل أن تغرب الشمس, كان حشد كبير قد تجَّمع عند بئر يعقوب لسماع يسوع. وحدثهم السيد أكثر عن ماء الحياة, هدية الروح الساكن.
143:5.11 (1614.5) لم يتوقف الرُسل أبداً عن الشعور بالصدمة من استعداد يسوع للتحدث مع النساء, نساء ذات سجايا مشكوك في أمرها, حتى نساء بدون أخلاق. لقد كان من الصعب للغاية على يسوع أن يُعَّلم رُسله بأن النساء, حتى اللواتي يطلق عليهن نساء فاسقات, لديهن نفوس يمكنها أن تختار الله كأبيها, بهذا يصبحن بنات الله ومرشحات للحياة الأبدية. حتى بعد تسعة عشر قرناً يُظهر كثيرون نفس عدم الرغبة في فهم تعاليم السيد. حتى الدِين المسيحي تم بناؤه بتشبث حول حقيقة موت المسيح بدلاً من حقيقة حياته. يجب أن يكون العالَم مهتماً بحياته السعيدة والتي تكشف عن الله أكثر من موته المأساوي والمؤسف.
143:5.12 (1614.6) روت نالدا هذه القصة بأكملها للرسول يوحنا في اليوم التالي, لكنه لم يكشفها بالكامل للرُسل الآخرين, ولم يتحدث عنها يسوع بالتفصيل إلى الاثني عشر.
143:5.13 (1615.1) أخبرت نالدا يوحنا بأن يسوع أخبرها "كل ما فعلته." أراد يوحنا عدة مرات أن يسأل يسوع عن هذه الزيارة مع نالدا, لكنه لم يفعل أبداً. أخبرها يسوع شيئاً واحداً فقط عن نفسها, لكن نظره في عينيها وأسلوب تعامله معها أحضر كل حياتها المتقلبة في استعراض بانورامي أمام عقلها في لحظة من الزمن حتى أنها ربطت كل هذا الكشف الذاتي عن حياتها الماضية بنظرة وكلمة السيد. لم يخبرها يسوع أبداً بأنها كان لديها خمسة أزواج. كانت قد عاشت مع أربعة رجال مختلفين منذ أن نبذها زوجها, وهذا, مع كل ماضيها, ظهر بجلاء شديد في عقلها في اللحظة التي أدركت فيها أن يسوع كان رَجل الله بحيث كررت ليوحنا فيما بعد أن يسوع أخبرها حقًا بكل شيء عن نفسها.
143:6.1 (1615.2) في المساء الذي جذبت فيه نالدا الحشد من سيخار لرؤية يسوع, كان الاثنا عشر قد عادوا للتو مع الطعام, وطلبوا من يسوع أن يأكل معهم بدلاً من التحدث إلى الناس, لأنهم كانوا بلا طعام طول النهار وكانوا جائعين. لكن يسوع عرف بأن الظلام سيحل عليهم قريباً؛ وهكذا أصَّر على الحديث مع الناس قبل أن يرسلهم بعيداً. عندما سعى أندراوس لإقناعه أن يأكل لقمة قبل التحدث إلى الجموع, قال يسوع, " لدي طعام لآكله لا تعرفون عنه." عندما سمع الرُسل هذا, قالوا فيما بينهم: "هل أحضر إليه أحد شيئاً ليأكل؟ هل يمكن أن المرأة أعطته طعام بالإضافة إلى الشرب؟" عندما سمعهم يسوع يتحدثون فيما بينهم قبل أن يخاطب الناس, التفت جانباً وقال للاثني عشر: "طعامي أن أفعل مشيئته الذي أرسلني وأنجز عمله. يجب أن لا تقولوا بعد الآن أنه كذا وكذا وقت حتى الحصاد. انظروا هؤلاء الناس الخارجون من مدينة سامرية ليسمعونا؛ أقول لكم الحقول بيضاء بالفعل من أجل الحصاد. من يحصد يتقاضى أُجور ويجمع هذا الثمر للحياة الأبدية؛ بالنتيجة يبتهج الزارعون والحصادون معاً. لأنه في هذا القول الصحيح" ’واحد يزرع وآخر يحصد‘. أنا أرسلكم الآن لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه؛ لقد اشتغل آخرون, وأنتم على وشك الدخول نحو شغلهم." هذا قاله في إشارة إلى وعظ يوحنا المعمدان.
143:6.2 (1615.3) ذهب يسوع والرُسل إلى سيخار ووعظوا يومين قبل أن يؤسسوا مخيمهم على جبل جيريزيم. وكثير من سكان سيخار آمنوا بالإنجيل وطلبوا المعمودية, لكن رُسل يسوع لم يعمدوا بعد.
143:6.3 (1615.4) في الليلة الأولى من المخيم على جبل جيريزيم توقع الرُسل أن يوبخهم يسوع لموقفهم تجاه المرأة عند بئر يعقوب, لكنه لم يُشر إلى الأمر. بدلاً من ذلك أعطاهم ذلك الحديث الذي لا يُنسى عن "الحقائق التي هي مركزية في ملكوت الله." في أي دِين, من السهل جداً السماح للقيم بأن تصبح غير متناسبة والسماح للوقائع أن تحتل مكان الحقيقة في لاهوت المرء. أصبح واقع الصليب المركز عينه للمسيحية اللاحقة؛ لكنه ليس الحقيقة المركزية للدين التي قد تُستمد من حياة وتعاليم يسوع الناصري.
143:6.4 (1615.5) كان موضوع تعليم يسوع على جبل جيريزيم: أنه يريد كل الناس أن يروا الله كأب-صديق تماما كما هو (يسوع) أخ-صديق. ومرة تلو المرة أثـَّر عليهم بأن المحبة هي أعظم علاقة في العالَم ــ في الكون ــ تماماً مثلما الحق هو أعظم إعلان لمراعاة هذه العلاقات الإلَهية.
143:6.5 (1616.1) أعلن يسوع نفسه تماماً للسامريين لأنه كان بإمكانه القيام بذلك بأمان, ولأنه كان يعلم بأنه لن يزور قلب السامره مرة أخرى ليعظ إنجيل الملكوت.
143:6.6 (1616.2) خَيّم يسوع والاثنا عشر على جبل جيريزيم حتى نهاية آب, وعظوا ببشارة الملكوت ــ أبوة الله ــ إلى السامريين في المدن نهاراً وأمضوا الليالي في المخيم. أسفر العمل الذي قام به يسوع والاثنا عشر في تلك المدن السامرية عن الكثير من النفوس للملكوت وفعل الكثير من أجل تمهيد الطريق لعمل فيليبُس الرائع في هذه المناطق بعد موت يسوع وقيامته, لاحقاً إلى تشتت الرُسل إلى أقاصي الأرض بالاضطهاد المرير للمؤمنين في أورشليم.
143:7.1 (1616.3) في المحاضرات المسائية على جبل جيريزيم, علـَّم يسوع الكثير من الحقائق العظيمة, وشدد بشكل خاص على ما يلي:
143:7.2 (1616.4) الدِين الحقيقي هو عمل النفـْس الفردية في علاقات وعيها-الذاتي بالخالق؛ الدِين المنظـَّم هو محاولة الإنسان لإضفاء الطابع الاجتماعي على عبادة المتدينين الأفراد.
143:7.3 (1616.5) العبادة ــ التأمل الروحي ــ يجب أن تتناوب مع الخدمة, الاتصال بالواقع المادي. يجب أن يتناوب العمل مع اللعب؛ يجب أن يوازَن الدِين بالفكاهة. يجب تخفيف الفلسفة المتعمقة بالشعْر الإيقاعي. إن إجهاد العيش ــ توتر الزمن للشخصية ــ يجب أن يريحه راحة العبادة. إن مشاعر عدم الأمان الناشئة عن الخوف من انعزال الشخصية في الكون يجب أن تُقاوم من خلال التأمل الإيماني للأب وبمحاولة إدراك الأسمى.
143:7.4 (1616.6) الصلاة مصممة لجعل الإنسان أقل تفكيراً لكن أكثر إدراكاً؛ إنها ليست مصممة لزيادة المعرفة بل بالأحرى لتوسيع البصيرة.
143:7.5 (1616.7) تهدف العبادة إلى توقع الحياة الأفضل في المستقبل وبعدها لتعكس هذه الدلالات الروحية الجديدة مرة أخرى نحو الحياة التي هي الآن. الصلاة عاضدة روحياً, لكن العبادة خلاَّقة إلَهياً.
143:7.6 (1616.8) العبادة هي تقنية التطلع إلى الواحد من أجل الإلهام في الخدمة إلى للكثيرين. العبادة هي المعيار الذي يقيس مدى انفصال النفـْس عن الكون المادي وارتباطها المتزامن والآمن بالحقائق الروحية لكل الخليقة.
143:7.7 (1616.9) الصلاة هي تذكير-للذات ــ تفكير سامي؛ العبادة هي نسيان-الذات, تفكير فائق. العبادة هي اهتمام بلا جهد, راحة نفـْس حقيقية ومُثلى, شكل من أشكال الإجهاد الروحي المُريح.
143:7.8 (1616.10) العبادة هي عمل الجزء يُعَّرف نفسه مع الكل؛ المتناهي مع اللانهائي؛ الابن مع الأب؛ الزمن في فعل عقد الخطوة مع الأبدية. العبادة هي فعل تواصل الابن الحميم الشخصي مع الأب الإلَهي, افتراض المواقف المنعشة, والخلاَّقة, والأخوية, والرومانسية من قبل النفـْس-الروح الإنسانية.
143:7.9 (1616.11) مع أن الرُسل لم يفهموا سوى القليل من تعاليمه في المخيَّم, إلا أن عوالم أخرى فهمت, وأجيال أخرى على الأرض سوف تفعل.
كِتاب يورانشيا
ورقة 144
144:0.1 (1617.1) تم قضاء أيلول وتشرين الأول في التقاعد عند مخيم منعزل على سفوح جبل الجلبوع, أمضى يسوع شهر أيلول هنا وحده مع رُسله, يعَّلِمهم ويرشدهم في حقائق الملكوت.
144:0.2 (1617.2) كان هناك عدد من الأسباب التي جعلت يسوع ورُسله يتقاعدون في هذا الوقت على حدود السامرة والمدن العشرة. كان حُكام أورشليم الدِينيين معادين للغاية؛ لا يزال هيرودس أنتيباس يحتجز يوحنا في السجن, خوفًا من إما إطلاق سراحه أو إعدامه, بينما استمر بمخالجة شكوك حول ارتباط يوحنا ويسوع بطريقة ما. جعلت هذه الظروف من غير الحكمة التخطيط لعمل استفزازي في يهودا أو الجليل. كان هناك سبب ثالث: التوتر المتزايد ببطء بين قادة تلاميذ يوحنا ورُسل يسوع, الذي ازداد سوءًا مع العدد المتزايد للمؤمنين.
144:0.3 (1617.3) علم يسوع بأن أيام العمل التمهيدي للتعليم والوعظ كانت على وشك الانتهاء, أن الخطوة التالية تضمنت بداية الجهد الكامل والأخير لحياته على الأرض, ولم يرغب في أن يكون بدء هذا التعهد بأي شكل من الأشكال إما شاقاً أو مُحرجاً ليوحنا المعمدان. لذلك قرر يسوع قضاء بعض الوقت في التقاعد مًعيداً تدريب رُسله وبعدها ليقوم ببعض العمل الهادئ في المدن-العشرة إلى أن إما يتم إعدام يوحنا أو يُخلى سبيله ليلتحق بهم في جهد موحَّد.
144:1.1 (1617.4) بمرور الوقت, أصبح الاثنا عشر أكثر تكريسًا ليسوع وأكثر التزامًا بعمل الملكوت. كان تفانيهم في جزء كبير مسألة ولاء شخصي. لم يفهموا تعليمه المتعدد الجوانب؛ لم يُدركوا تماماً طبيعة يسوع أو أهمية إغداقه على الأرض.
144:1.2 (1617.5) أوضح يسوع لرُسله أنهم كانوا متقاعدين لثلاثة أسباب:
144:1.3 (1617.6) 1. لتأكيد فهمهم لإنجيل الملكوت وإيمانهم فيه.
144:1.4 (1617.7) 2. للسماح للمعارضة إلى عملهم في كِلا يهودا والجليل أن تهدأ.
144:1.5 (1617.8) 3. لانتظار مصير يوحنا المعمدان.
144:1.6 (1617.9) بينما يتمهلون على الجلبوع, أخبر يسوع الاثني عشر الكثير عن حياته المبكرة وتجاربه على جبل حرمون؛ كما كشف شيئاً مما حدث في التلال أثناء الأربعين يوماً مباشرة بعد معموديته. وعهد إليهم مباشرة أن لا يخبروا أي إنسان عن هذه التجارب إلا بعد عودته إلى الأب.
144:1.7 (1618.1) ارتاحوا أثناء هذه الأسابيع من شهر أيلول, وزاروا وسردوا تجاربهم منذ أن دعاهم يسوع لأول مرة للخدمة, وانخرطوا في جهد جاد لتنسيق ما علـَّمهم إياه السيد حتى الآن. بطريقة ما شعروا جميعاً بأن هذه ستكون فرصتهم الأخيرة للراحة المطوّلة. أدركوا بأن جهدهم العلني المقبل إما في اليهودية أو الجليل سيشكل بداية الإعلان النهائي للملكوت الآتي, لكن لم يكن لديهم سوى القليل من الأفكار الراسخة أو لم يكن لديهم أي فكرة بالنسبة إلى ماذا سيكون الملكوت عندما يأتي. اعتقد يوحنا وأندراوس بأن الملكوت قد أتى بالفعل؛ اعتقد بطرس ويعقوب بأنه لا يزال سيأتي؛ اعترف نثانئيل وتوما بصراحة بأنهما في حيرة؛ كان متـّى, وفيليبُس, وسمعان زيلوطس غير متأكدين ومرتبكين؛ كان التوأم جاهلين بالجدال بسعادة؛ وكان يوداص إسخريوط صامتاً, غير ملتزم برأي.
144:1.8 (1618.2) معظم هذا الوقت كان يسوع وحده على الجبل بالقرب من المخيم. من حين لآخر كان يأخذ معه بطرس, أو يعقوب, أو يوحنا, لكنه في أغلب الأحيان كان يذهب للصلاة أو التواصل وحده. بعد معمودية يسوع والأربعين يوماً في التلال البيرية, بالكاد من المناسب التحدث عن هذه الفصول من التواصل مع أبيه كصلاة, كما أنه ليس من المناسب التحدث عن يسوع كعابد, لكن من الصحيح تماماً الإشارة لهذه الفصول كتواصل شخصي مع أبيه.
144:1.9 (1618.3) كان الموضوع المركزي للمناقشات طوال شهر أيلول بأكمله هو الصلاة والعبادة. بعد أن ناقشوا العبادة لبعض الأيام, ألقى يسوع أخيرًا خطابه الذي لا يُنسى عن الصلاة استجابة لطلب توما: "يا سيد, عَّلِمنا كيف نصَّلي."
144:1.10 (1618.4) كان يوحنا قد علـَّم تلاميذه صلاة, صلاة من أجل الخلاص في الملكوت الآتي. مع أن يسوع لم يمنع أتباعه أبداً من استخدام شكل صلاة يوحنا, أدرك الرُسل في وقت مبكر جداً بأن سيدهم لم يوافق تماماُ على ممارسة النطق بصلوات محددة ورسمية. مع ذلك, فقد طلب المؤمنون باستمرار أن يتعلموا كيفية الصلاة. تاق الاثنا عشر إلى معرفة أي شكل من الالتماس سيوافق عليه يسوع. وكان بشكل رئيسي بسبب هذه الحاجة من أجل التماس بسيط لعامة الناس بأن وافق يسوع في هذا الوقت, استجابة لطلب توما, أن يعَّلمهم شكلاً إيحائياً من الصلاة. أعطاهم يسوع هذا الدرس بعد ظهر أحد الأيام في الأسبوع الثالث من مكوثهم على جبل الجلبوع.
144:2.1 (1618.5) "علـَّمكم يوحنا حقًا شكلاً بسيطاً من الصلاة: ’أيها الأب, طهرنا من الخطيئة, أظهر لنا مجدك, اكشف محبتك, ودع روحك تقدس قلوبنا إلى أبد الدهر, آمين!‘ لقد علـَّم هذه الصلاة بحيث يكون لديكم شيئًا لتعليمه للجموع. لم يقصد بأنكم يجب أن تستخدموا مثل هذا الالتماس المحدد والرسمي كالتعبير لنفوسكم في الصلاة.
144:2.2 (1618.6) "الصلاة هي كلياً تعبير شخصي وعفوي تمامًا عن موقف النفـْس تجاه الروح؛ يجب أن تكون الصلاة تواصل البنوة والتعبير عن الزمالة. الصلاة, عندما تـُملى بالروح, تؤدي إلى تقدم روحي تعاوني. الصلاة المُثلى هي شكل من التواصل الروحي التي تؤدي إلى العبادة الذكية. الصلاة الحقيقية هي الموقف المُخْلص للوصول إلى السماء من أجل إحراز مُثلك العليا.
144:2.3 (1619.1) "الصلاة هي نَفَس النفـْس ويجب أن تقودك لتكون مثابراً في محاولتك التثبت من مشيئة الأب. إذا كان لأي واحد منكم جار, وتذهب إليه عند منتصف الليل وتقول: ’يا صديق, أقرضني ثلاثة أرغفة, لأن صديقًا لي على رحلة جاء لرؤيتي, وليس لدي ما أضعه أمامه‘؛ وإذا أجاب جارك, ’لا تزعجني, لأن الباب مقفل الآن وأنا والأولاد في الفراش؛ لذلك لا أستطيع أن أنهض وأعطيك الخبز‘, ستثابر, موضحاً بأن صديقك جائع, وأنه ليس لديك طعام تقدمه له. أقول لك, ولو إن جارك لن ينهض ويعطيك الخبز لأنه صديقك, مع ذلك بسبب أهمية الأمر لديك سينهض ويعطيك عدة أرغفة بقدر ما تحتاج. إذاً, عند ذاك, كانت المثابرة ستكسب عطايا حتى من إنسان فاني, فكم بالحري ستكسب مثابرتكم في الروح خبز الحياة من أجلكم من الأيدي الراغبة للأب في السماء. مرة أخرى أقول لكم: اسألوا تعطوا؛ اسعوا وستجدون؛ اقرعوا وسيُفتح لكم. لأن كل من يسأل يستلم؛ ومن يسعى يجد؛ ولمن يقرع باب الخلاص سيُفتح له.
144:2.4 (1619.2) "أي منكم الذي هو أب, إذا سأل ابنه بغير حكمة, سيتردد في العطاء وفقاً للحكمة الأبوية بدلاً من عبارات التماس الابن الخاطئة؟ إذا كان الولد يحتاج إلى رغيف, هل ستعطيه حجراً لمجرد أنه يطلبه بغير حكمة؟ إذا كان ابنك بحاجة إلى سمكة, هل ستعطيه أفعى مائية لمجرد أنها بالصدفة طلعت في الشبكة مع السمك والولد يسأل بحماقة من أجل الحية؟ إذا أنتم, عند ذاك, كائنين بشراً ومتناهين؛ تعرفون كيف تستجيبون للصلاة وتعطون هدايا جيدة وملائمة لأطفالكم, فكم بالحري سوف يمنح آباكم السماوي الروح والعديد من البركات الإضافية لأولئك الذين يسألونه؟ يجب أن يصلي الناس دائماً ولا يصابوا بالإحباط.
144:2.5 (1619.3) "دعوني أخبركم قصة قاضٍ معَّين عاش في مدينة أثيمة. هذا القاضي لم يخاف الله ولا كان لديه احترام للإنسان. الآن كانت هناك أرملة محتاجة في تلك المدينة التي جاءت مراراً إلى هذا القاضي الظالم, قائلة, ’احمني من خصمي‘. لبعض الوقت لم يكن يستمع إليها, لكنه قال لنفسه الآن: ’ولو إني لا أخاف الله ولا أراعي الإنسان, مع ذلك لأن هذه الأرملة لا تتوقف عن إزعاجي, سأبررها كي لا تتعبني بمجيئها المستمر.‘ أخبركم هذه القصص لتشجعكم على المثابرة في الصلاة وليس للإيعاز بأن التماساتكم ستُـغير الأب البار والعادل فوق. مثابرتكم, على كل, ليست لكسب حظوة عند الله لكن لتغيير موقفكم الأرضي وتوسيع قدرة نفوسكم من أجل تقبُل الروح.
144:2.6 (1619.4) "لكن عندما تُصَّلون, فإنكم تمارسون القليل من الإيمان. الإيمان الحقيقي سيزيل جبال من الصعوبات المادية التي قد تصادف أن تكمن في طريق توسع النفـْس والتقدم الروحي."
144:3.1 (1619.5) لكن الرُسل لم يكونوا راضين بعد؛ رغبوا أن يعطيهم يسوع صلاة نموذجية يمكنهم تعليمها للتلاميذ الجدد. بعد الاستماع إلى هذه المحاضرة عن الصلاة, قال يعقوب زَبـِدي: "جيد جداً, يا سيد, لكننا لا نرغب في شكل من الصلاة من أجلنا بقدر ما نرغبه من أجل المؤمنين الجدد الذين يلتمسون منا بتكرار للغاية, ’عَّلِمونا كيف نصَّلى بشكل مقبول إلى الأب في السماء.‘"
144:3.2 (1619.6) عندما انتهى يعقوب من الكلام, قال يسوع: "إذن, عند ذاك, إذا كنتم لا تزالون ترغبون في مثل هذه الصلاة. سأقدم الصلاة التي علـَّمتها لإخوتي وأخواتي في الناصرة":
144:3.3 (1620.1) أبانا الذي في السماء,
144:3.4 (1620.2) ليتقدس اسمك.
144:3.5 (1620.3) ليأتي ملكوتك؛ لتكن مشيئتك
144:3.6 (1620.4) على الأرض كما في السماء.
144:3.7 (1620.5) اعطنا هذا اليوم خبزنا من أجل الغد؛
144:3.8 (1620.6) أنعش نفوسنا بماء الحياة.
144:3.9 (1620.7) وسامحنا كل واحد من ديوننا
144:3.10 (1620.8) كما نحن كذلك نسامح المدينين لنا.
144:3.11 (1620.9) أنقذنا في التجربة, ونجنا من الشر,
144:3.12 (1620.10) واجعلنا بشكل متزايد مثاليين مثلك.
144:3.13 (1620.11) ليس غريباً أن الرُسل رغبوا في أن يعلمهم يسوع صلاة نموذجية من أجل المؤمنين. كان يوحنا المعمدان قد علـَّم أتباعه عدة صلوات؛ صاغ جميع المعلمين العظماء صلوات لتلاميذهم. كان لدى المعلمين الدِينيين لليهود نحو خمسة وعشرين أو ثلاثين طاقم صلوات يتلونها في مجامعهم وحتى في زوايا الشوارع. كان يسوع يكره الصلاة في الأماكن العامة بشكل خاص. حتى هذا الوقت كان الاثنا عشر قد سمعوه يصَّلي مرات قليلة فقط. لاحظوه يُمضي ليالٍ كاملة في الصلاة أو العبادة, وكانوا فضوليين للغاية لمعرفة أسلوب أو شكل التماساته. كانوا في الحقيقة في غاية العجلة لمعرفة ماذا يجب أن يجيبوا الجموع عندما يسألونهم أن يعَّلموهم كيف يصَّلون كما علـَّم يوحنا تلاميذه.
144:3.14 (1620.12) علـَّم يسوع الاثني عشر أن يُصَّلوا دائماً في السر؛ للانفراد بأنفسهم وسط جوار هادئ في الطبيعة أو الذهاب إلى غرفهم وإغلاق الأبواب عندما ينشغلون في الصلاة.
144:3.15 (1620.13) بعد وفاة يسوع وصعوده إلى الأب, أصبحت الممارسة لكثير من المؤمنين إنهاء هذه المدعوة صلاة الرب بإضافة ــ "باسم الرب يسوع المسيح." لا يزال في وقت لاحق, فُقد سطرين في النقل, وأُضيف إلى هذه الصلاة فقرة إضافية, نصها: "لأن لك الملكوت والقدرة والمجد, إلى الأبد."
144:3.16 (1620.14) أعطى يسوع الرُسل الصلاة في شكل جماعي كما كانوا يصَّلونها في بيت الناصرة. لم يعَّلِمهم مطلقاً صلاة شخصية رسمية, فقط التماسات جماعية أو عائلية أو اجتماعية. ولم يتطوع أبداً للقيام بذلك.
144:3.17 (1620.15) علـَّم يسوع بأن الصلاة الفعّالة يجب أن تكون:
144:3.18 (1620.16) 1. لا-أنانية ــ ليست من أجل ذات المرء وحده.
144:3.19 (1620.17) 2. مؤمِنة ــ حسب المعتقد.
144:3.20 (1620.18) 3. مُخلِصة ــ صادقة في القلب,
144:3.21 (1620.19) 4. ذكية ــ حسب النور.
144:3.22 (1620.20) 5. واثقة ــ في خضوع إلى مشيئة الأب الكلية الحكمة.
144:3.23 (1620.21) عندما أمضى يسوع ليالٍ كاملة على الجبل في الصلاة, كان ذلك بشكل رئيسي من أجل تلاميذه, خاصة من أجل الاثني عشر. صلى السيد قليلاً جداً من أجل نفسه, مع أنه انخرط في الكثير من العبادة ذات طبيعة التواصل المتفهم مع أبيه الفردوسي.
144:4.1 (1620.22) لأيام بعد المحاضرة عن الصلاة استمر الرُسل في طرح الأسئلة على السيد بخصوص هذه الممارسة البالغة الأهمية والتعبدية. يمكن تلخيص إرشاد يسوع إلى الرُسل خلال هذه الأيام, فيما يتعلق بالصلاة والعبادة, وإعادة صياغته في نص حديث على النحو التالي:
144:4.2 (1621.1) التكرار الجاد والراغب لأي التماس, عندما تكون مثل هذه الصلاة التعبير المُخْلص لطفل لله وتُنطق بإيمان, بغض النظر عن مدى سوء الحكمة أو استحالة الإجابة المباشرة, لا تفشل أبداً في توسيع استطاعة النفـْس من أجل التقبلٍ الروحي.
144:4.3 (1621.2) في كل الصلوات, تذكَّر بأن البنوة هي هدية. لا طفل لديه أي علاقة بكسب مكانة الابن أو الابنة. يأتي طفل الأرض إلى حيز الوجود بمشيئة والديه. حتى هكذا, يأتي طفل الله نحو النعمة والحياة الجديدة للروح بمشيئة الأب في السماء. لذلك يجب أن يُستلم ملكوت السماء ــ البنوة الإلَهية ــ كما بطفل صغير. أنتم تكتسبون البر ــ تنمية سجية تقدمية ــ لكنكم تستلمون البنوة بالنعمة ومن خلال الإيمان.
144:4.4 (1621.3) قادت الصلاة يسوع إلى التواصل الفائق لنفـْسه مع الحكام السُماة لكون الأكوان. ستقود الصلاة بشر الأرض إلى تواصل العبادة الحقيقية. استطاعة النفـْس الروحية من أجل التقبل تقرر كمية البركات السماوية التي يمكن تمَّلكها شخصياً وإدراكها بوعي كاستجابة للصلاة.
144:4.5 (1621.4) الصلاة والعبادة المرتبطة بها هي أسلوب للانفصال عن الروتين اليومي للحياة, عن الطحن الرتيب للوجود المادي. إنها منهج وصول إلى إدراك-ذات روحاني وفردية إحراز فكري ودِيني.
144:4.6 (1621.5) الصلاة هي ترياق للتأمل الباطني المؤذي. على الأقل, الصلاة كما علـَّمها السيد هي خدمة مفيدة للنفـْس. وظفَ يسوع بمثابرة التأثير النافع للصلاة من أجل زملاء المرء. صَّلى السيد عادة بصيغة المثنى والجمع, ليس بصيغة المفرد. لم يصلي يسوع أبداً من أجل نفسه إلا في الأزمات الكبيرة في حياته الأرضية.
144:4.7 (1621.6) الصلاة هي نَفَس حياة الروح في وسط الحضارة المادية لأجناس البشرية. العبادة هي الخلاص من أجل أجيال البشر الباحثة عن المتعة.
144:4.8 (1621.7) كما يمكن تشبيه الصلاة بإعادة شحن البطاريات الروحية للنفـْس, هكذا يمكن مقارنة العبادة إلى عمل دوزنة النفـْس لالتقاط بث الكون للروح اللانهائي للأب الكوني.
144:4.9 (1621.8) الصلاة هي التطلع المُخْلص والمشتاق للولد إلى أبيه الروحي؛ إنها عملية نفسية لاستبدال مشيئة الإنسان بالمشيئة الإلَهية. الصلاة جزء من الخطة الإلَهية لتحويل ما يكون إلى ما يجب أن يكون.
144:4.10 (1621.9) أحد أسباب لماذا بطرس, ويعقوب, ويوحنا, الذين في كثير من الأحيان رافقوا يسوع في وقفاته الليلية الطويلة, لم يسمعوا يسوع يصَّلي أبداً, لأن سيدهم نادراً جداً ما نطق صلواته ككلمات منطوقة. عملياً كانت كل صلاة يسوع تتم بالروح والقلب ــ بصمت.
144:4.11 (1621.10) من بين جميع الرُسل, جاء بطرس, ويعقوب الأقرب لفهم تعليم السيد حول الصلاة والعبادة.
144:5.1 (1621.11) من وقت لآخر, خلال ما تبقى من إقامة يسوع على الأرض, لفت انتباه الرُسل إلى عدة أشكال إضافية من الصلاة, لكنه فعل هذا فقط لتوضيح أمور أخرى, واشترط بأن هذه "الصلوات الرمزية" لا ينبغي تعليمها إلى الجموع. كان الكثير منها من كواكب مأهولة أخرى, لكن هذه الحقيقة لم يكشفها يسوع للاثني عشر. من بين هذه الصلوات كان التالي:
144:5.2 (1622.1) أبانا الذي فيه تتألف عوالم الكون.
144:5.3 (1622.2) ليرتفع اسمك وكلية-المجد سجيتك.
144:5.4 (1622.3) حضورك يكتنفنا, ومجدك متجلى.
144:5.5 (1622.4) بغير كمال خلالنا بينما هو ظاهر في كمال على العُلى.
144:5.6 (1622.5) اعطنا هذا اليوم قوى النور المُحيِّية,
144:5.7 (1622.6) ولا تدعنا نضل نحو المسارات الثانوية الشريرة لمخيلتنا,
144:5.8 (1622.7) لأن لك المسكن المجيد, والقدرة الأزلية,
144:5.9 (1622.8) ولنا, الهدية الأبدية لمحبة ابنك اللامحدودة.
144:5.10 (1622.9) حتى هكذا, وصحيح إلى الأبد.
* * *
144:5.12 (1622.10) أبانا المبدع, الذي هو في مركز الكون,
144:5.13 (1622.11) أغدق علينا طبيعتك وأعطنا سجيتك,
144:5.14 (1622.12) اجعلنا أبناءك وبناتك بالنعمة
144:5.15 (1622.13) ومجّد اسمك من خلال إنجازنا الأبدي.
144:5.16 (1622.14) أعطي روحك الضابط والمتحكم ليعيش ويسكن فينا
144:5.17 (1622.15) بحيث قد نفعل مشيئتك على هذا الجو مثلما تفعل الملائكة مناداتك في النور.
144:5.18 (1622.16) اعضدنا هذا اليوم في تقدمنا على طريق الحقيقة.
144:5.19 (1622.17) خلصنا من الجمود, والشر, وكل تعد خاطئ.
144:5.20 (1622.18) كن صبوراً معنا كما نحن نُظهر الحنو-المُحب إلى زملائنا.
144:5.21 (1622.19) أنثر روح رحمتك في قلوبنا المخلوقة.
144:5.22 (1622.20) أرشدنا بيدك الخاصة, خطوة بخطوة, خلال متاهة الحياة غير المؤكدة,
144:5.23 (1622.21) وعندما تأتي نهايتنا, استلم أرواحنا المؤمنة في حضنك.
144:5.24 (1622.22) حتى هكذا, ليس رغباتنا, بل مشيئتك سوف تُفعل.
* * *
144:5.26 (1622.23) أبانا السماوي المثالي والبار,
144:5.27 (1622.24) هذا اليوم أرشد ووجِه رحلتنا.
144:5.28 (1622.25) قدّس خطواتنا ونسّق أفكارنا.
144:5.29 (1622.26) دوماً قُدنا في طرق التقدم الأبدي.
144:5.30 (1622.27) املأنا بالحكمة إلى ملء القدرة
144:5.31 (1622.28) وأحينا بطاقتك اللانهائية.
144:5.32 (1622.29) ألهمنا بالوعي الإلَهي
144:5.33 (1622.30) لحضور وإرشاد الجماهير السيرافية.
144:5.34 (1622.31) أرشدنا دائماً إلى الأعلى في مسار النور؛
144:5.35 (1622.32) برّرنا تماماً في يوم الدينونة العظيم.
144:5.36 (1622.33) اجعلنا مثل ذاتك في مجد أبدي
144:5.37 (1622.34) واستلمنا نحو خدمتك االتي لا تنتهي على العُلى.
* * *
144:5.39 (1622.35) أبانا الذي في الغموض,
144:5.40 (1622.36) اكشف لنا سجيتك المقدسة.
144:5.41 (1622.37) أعط أطفالك على الأرض هذا اليوم
144:5.42 (1622.38) ليروا الطريق, والنور, والحق.
144:5.43 (1622.39) أرنا طريق التقدم الأبدي
144:5.44 (1622.40) وأعطنا الإرادة للسير فيها.
144:5.45 (1622.41) أسس فينا مُلكك الإلَهي
144:5.46 (1622.42) وبهذا أغدق علينا السيادة الكاملة للذات.
144:5.47 (1622.43) لا تدعنا ننحرف في دروب الظلام والموت؛
144:5.48 (1622.44) قُدنا إلى الأبد إلى جانب مياه الحياة.
144:5.49 (1622.45) اسمع صلواتنا هذه من أجل خاطرك؛
144:5.50 (1622.46) كن مسروراً لجعلنا أكثر وأكثر مثلك.
144:5.51 (1623.1) في النهاية, من أجل خاطر الابن الإلَهي,
144:5.52 (1623.2) استلمنا نحو الأذرع الأبدية.
144:5.53 (1623.3) حتى هكذا, ليس مشيئتنا بل مشيئتك لتُفعل.
* * *
144:5.55 (1623.4) أيها الآب والأُم المجيدين, في والد واحد مجتمعين,
144:5.56 (1623.5) سنكون موالين لطبيعتك الإلَهية.
144:5.57 (1623.6) نفسك الخاصة لتعيش من جديد فينا وخلالنا
144:5.58 (1623.7) بهدية وإغداق روحك الإلَهي,
144:5.59 (1623.8) وبالتالي تكاثرك بغير كمال في هذا الجو
144:5.60 (1623.9) كما أنت بكمال وعظمة تُظهر على العُلى.
144:5.61 (1623.10) أعطنا يوماً بيوم إسعافك العذب للأخوة
144:5.62 (1623.11) وقُدنا لحظة بلحظة في طريق الخدمة المُحبة.
144:5.63 (1623.12) كن أبداً وبلا كلل صبوراً معنا
144:5.64 (1623.13) حتى كما نُظهر صبرك لأطفالنا.
144:5.65 (1623.14) اعطنا الحكمة الإلَهية التي تعمل كل الأشياء بشكل حسن
144:5.66 (1623.15) والمحبة اللانهائية الرحيمة إلى كل مخلوق.
144:5.67 (1623.16) أغدق علينا صبرك ولطفك-المُحب
144:5.68 (1623.17) بحيث أن إحساننا قد يحضن ضعيف الحيز.
144:5.69 (1623.18) وعندما تنتهي مسيرتنا, اجعلها شرفاً لاسمك,
144:5.70 (1623.19) ومسرة لروحك الصالح, ورضى لمساعدي نفوسنا.
144:5.71 (1623.20) ليس كما نتمنى, يا أبانا المُحب, لكن كما ترغب الخير الأبدي لأولادك الفانين,
144:5.72 (1623.21) حتى يكون الأمر كذلك.
* * *
144:5.74 (1623.22) مصدرنا الكلي-الإخلاص ومركزنا الكلي-القدرة,
144:5.75 (1623.23) ليتوَّقر وليتقدس اسم إبنك الكلي-الكرم.
144:5.76 (1623.24) قد هبطت علينا خيراتك وبركاتك,
144:5.77 (1623.25) وبالتالي ممكنتنا من أداء مشيئتك وتنفيذ مناداتك.
144:5.78 (1623.26) اعطنا لحظة بلحظة قوت شجرة الحياة؛
144:5.79 (1623.27) أنعشنا يوماً بيوم بالمياه الحية لنهرها.
144:5.80 (1623.28) خطوة بخطوة قُـدنا خارج الظلمة ونحو النور الإلَهي.
144:5.81 (1623.29) جدد عقولنا بتحولات الروح الساكن,
144:5.82 (1623.30) وعندما تحل علينا النهاية الفانية أخيراً,
144:5.83 (1623.31) استلمنا لنفسك وأرسلنا في الأبدية.
144:5.84 (1623.32) توِّجنا بأكاليل سماوية للخدمة المثمرة,
144:5.85 (1623.33) وسنمجد الأب, والابن, والنفوذ المقدس.
144:5.86 (1623.34) حتى هكذا, في جميع أنحاء الكون بلا نهاية.
* * *
144:5.88 (1623.35) أبانا الذي يسكن في الأماكن السرية للكون,
144:5.89 (1623.36) ليتشرف اسمك, ولتوَّقر رحمتك, وليُحترَم حكمك.
144:5.90 (1623.37) دع شمس البر تضيء علينا في وقت الظهيرة,
144:5.91 (1623.38) بينما نتضرع إليك أن ترشد خطواتنا الضالة في نور الغسق.
144:5.92 (1623.39) قُدنا باليد في طرقات اختيارك الخاص
144:5.93 (1623.40) ولا تتخلى عنا عندما يكون الدرب صعباً والساعات مظلمة.
144:5.94 (1623.41) لا تنسانا كما غالباً جداً نهملك وننساك.
144:5.95 (1623.42) لكن كن رحيماً وأحبنا كما نرغب في أن نحبك.
144:5.96 (1623.43) تطلع نزولاً علينا في لطف واغفر لنا في رحمة
144:5.97 (1623.44) كما نحن نسامح في عدل الذين يضايقوننا ويؤذوننا.
144:5.98 (1624.1) لعل محبة, وتكريس, وإغداق الابن المهيب
144:5.99 (1624.2) تجعل الحياة الأبدية متوفرة بمحبتك ورحمتك غير المنتهية.
144:5.100 (1624.3) لعل رب الأكوان يغدق علينا الكيل الملآن لروحه؛
144:5.101 (1624.4) اعطنا نعمة لنخضع لقيادة هذا الروح.
144:5.102 (1624.5) من خلال الخدمة المُحبة للجماهير السيرافية المخلصة
144:5.103 (1624.6) لعل الابن يرشدنا ويقودنا إلى نهاية الدهر.
144:5.104 (1624.7) يجعلنا على الدوام وبشكل متزايد مثلك
144:5.105 (1624.8) وعند نهايتنا استلمنا في عناق الفردوس الأبدي.
144:5.106 (1624.9) حتى هكذا, باسم الابن المُغدق
144:5.107 (1624.10) ومن أجل شرف ومجد الأب الأسمى.
144:5.108 (1624.11) ولو إن الرُسل لم يكونوا أحراراً لتقديم دروس الصلاة هذه في تعاليمهم العامة, إلا أنهم كسبوا الكثير من كل هذه الكشوف في تجاربهم الدينية الشخصية. استخدم يسوع نماذج الصلاة هذه وغيرها كإيضاحات فيما يتعلق بالإرشاد الودي للاثني عشر, وتم منح إذن مُحدَد بنسخ هذه الصلوات العينية السبعة في هذا السجل.
144:6.1 (1624.12) في حوالي الأول من تشرين الأول, كان فيليبُس وبعض من زملائه الرُسل في قرية يشترون الطعام عندما التقوا ببعض رُسل يوحنا المعمدان. كنتيجة للقاء الصدفة هذا في مكان السوق انعقد مؤتمر لمدة ثلاثة أسابيع في مخيم الجلبوع بين رُسل يسوع ورُسل يوحنا, لأن يوحنا كان قد عيَّن مؤخراً اثني عشر من قادته ليكونوا رُسلاً, على غرار سابقة يسوع. فعل يوحنا هذا استجابة لحث أبنير, رئيس أنصاره الموالين. كان يسوع حاضراً في مخيم الجلبوع طوال الأسبوع الأول من هذا المؤتمر المشترك لكنه تغيب في الأسبوعين الأخيرين.
144:6.2 (1624.13) بحلول بداية الأسبوع الثاني من هذا الشهر. كان أبنير قد جمَّع جميع رفاقه في مخيم الجلبوع وكان مستعداً للذهاب في شورى مع رُسل يسوع. لثلاثة أسابيع كان هؤلاء الرجال الأربعة والعشرون في اجتماع ثلاث مرات في اليوم ولستة أيام كل أسبوع. في الأسبوع الأول اختلط يسوع معهم بين اجتماعاتهم قبل الظهر, وبعد الظهر, والمسائية. أرادوا أن يجتمع معهم السيد ويترأس مداولاتهم المشتركة, لكنه رفض بثبات المشاركة في مناقشاتهم, ولو إنه وافق أن يتحدث إليهم في ثلاث مناسبات. كانت هذه المحادثات التي أجراها يسوع مع الأربعة والعشرين حول التعاطف, والتعاون, والتسامح.
144:6.3 (1624.14) تناوب أندراوس وأبنير في رئاسة هذه الاجتماعات المشتركة للجماعتين الرسوليتين. واجه هؤلاء الرجال العديد من الصعوبات للمناقشة والعديد من المشاكل لحلها. مرة تلو المرة كانوا يأخذون مشاكلهم إلى يسوع, فقط لسماعه يقول: "أنا معني فقط بمشاكلكم الشخصية والدِينية البحتة. أنا ممثل الأب إلى الفرد, ليس للجماعة. إذا كنتم في صعوبة شخصية في علاقاتكم مع الله, تعالوا إلي, وسأسمعكم وسأنصحكم في حل مشكلتكم. لكن عندما تدخلون في تنسيق التفسيرات البشرية المتباينة للمسائل الدِينية وعلى مشايعة الدِين, أنتم مُقـَّدرين لحل كل مثل هذه المشاكل بقراراتكم الخاصة. ولو إني, دائماً متعاطف ودائماً مهتم, وعندما تصلون إلى استنتاجاتكم التي تلمس هذه الأمور ذات الأهمية غير الروحية, شرط أنكم متفقون جميعاً, عندئذٍ أتعهد مقدماً بموافقتي الكاملة وتعاوني القلبي. والآن, لكي أدعكم دون عوائق في مداولاتكم, سأترككم لمدة أسبوعين. لا تقلقوا علي, لأني سأعود إليكم. سأكون حول شؤون أبي, لأن لدينا عوالم أخرى إلى جانب هذا."
144:6.4 (1625.1) بعد هذا الكلام, نزل يسوع من سفح الجبل, ولم يروه لأسبوعين كاملين. ولم يعرفوا قط أين ذهب أو ماذا فعل خلال هذه الأيام. كان بعض الوقت قبل أن يستقر الأربعة والعشرون في التفكير الجاد في مشاكلهم, كانوا مضطربين للغاية بسبب غياب السيد. على أنه, في غضون أسبوع كانوا مرة ثانية في قلب مناقشاتهم, ولم يتمكنوا من الذهاب إلى يسوع طلباً للمساعدة.
144:6.5 (1625.2) البند الأول الذي اتفقت عليها الجماعة كان تبَّني الصلاة التي علـَّمهم إياها يسوع مؤخراً. لقد تم التصويت بالإجماع على قبول هذه الصلاة كالواحدة التي يتعلمها المؤمنون من كلا المجموعتين من الرُسل.
144:6.6 (1625.3) قرروا بعد ذلك بأنه, ما دام يوحنا حياً, سواء في السجن أو في الخارج, فإن كِلا المجموعتين من اثني عشر رسولاً سيستمرون في عملهم, وأن تُعقد اجتماعات مشتركة لأسبوع واحد كل ثلاثة أشهر في أماكن يتم الاتفاق عليها من وقت لآخر.
144:6.7 (1625.4) لكن الأكثر جَّدية من كل مشاكلهم كان موضوع المعمودية. تفاقمت مصاعبهم أكثر لأن يسوع رفض أن يصدر أي تصريح حول هذا الموضوع. اتفقوا أخيراً: ما دام يوحنا على قيد الحياة, أو إلى أن يتمكنوا من تعديل هذا القرار بشكل مشترك, فإن رسل يوحنا وحدهم سيعمدون المؤمنين, وفقط رُسل يسوع هم الذين سيوجهون التلاميذ الجدد في النهاية. بناء على ذلك, منذ ذلك الوقت وحتى وفاة يوحنا, رافق اثنان من رُسل يوحنا يسوع ورُسله لتعميد المؤمنين, لأن المجلس المشترك صَّوت بالإجماع بأن المعمودية كانت لتصبح الخطوة الأولى في الميثاق الخارجي مع شؤون الملكوت.
144:6.8 (1625.5) تم الاتفاق بعد ذلك, في حالة موت يوحنا, بأن رُسل يوحنا سيقدمون أنفسهم إلى يسوع ويصبحون خاضعين لتوجيهه, وبأنهم لن يعَّمدوا بعد ذلك ما لم يأذن لهم يسوع أو رُسله.
144:6.9 (1625.6) وبعد ذلك تم التصويت على أنه, في حالة موت يوحنا, فإن رسل يسوع سيبدأون بالتعميد بالماء كرمز لمعمودية الروح الإلَهي. أما فيما يتعلق بما إذا كان ينبغي إرفاق التوبة بوعظ المعمودية, فقد تُرك اختياري؛ لم يتم اتخاذ أي قرار مُلزم للجماعة. وعظ رُسل يوحنا, "توبوا وتعَّمدوا." أعلن رُسل يسوع, "آمنوا وتعَّمدوا."
144:6.10 (1625.7) وهذه هي قصة المحاولة الأولى لأتباع يسوع لتنسيق الجهود المتباينة, ومصالحة الاختلافات في وجهات النظر, وتنظيم التعهدات الجماعية, وسن تشريعات بشأن الاحتفالات الخارجية, وإضفاء الطابع الاجتماعي على الممارسات الدينية الشخصية.
144:6.11 (1625.8) تم النظر في العديد من المسائل البسيطة الأخرى وتم الاتفاق على حلولها بالإجماع. كان لدى هؤلاء الرجال الأربعة والعشرون تجربة جديرة بالاعتبار حقاً في هذين الأسبوعين عندما أجبروا على مواجهة المشاكل ومصالحة الصعوبات بدون يسوع. تعَّلموا أن يختلفوا, ويجادلوا, وينافسوا, ويُصَّلوا, وأن يصلوا إلى حل وسط, وفي أثناء كل ذلك أن يبقوا متعاطفين مع وجهة نظر الشخص الآخر والحفاظ على الأقل على درجة ما من التسامح مع آرائه الصادقة.
144:6.12 (1625.9) في فترة ما بعد الظهيرة من مناقشتهم الأخيرة للمسائل المالية, عاد يسوع, وسمع عن مداولاتهم, واستمع إلى قراراتهم, وقال: "هذه, إذن, استنتاجاتكم, وسأساعد كل منكم على تنفيذ روح قراراتكم الموحدة."
144:6.13 (1626.1) بعد شهرين ونصف من هذا الوقت تم إعدام يوحنا, وطوال هذه الفترة بقِي رُسل يوحنا مع يسوع والاثني عشر. عملوا جميعاً معاً وقاموا بتعميد المؤمنين خلال هذا الفصل من العمل في المدن العشرة. توقف مخيم الجلبوع في 2 تشرين الثاني, عام 27 م.
144:7.1 (1626.2) طوال شهري تشرين الثاني وكانون الأول, عمل يسوع والأربعة والعشرون بهدوء في المدن-العشرة اليونانية, بشكل رئيسي في سكيثوبولِس, وجيراسا, وأبيلا, وجادارا, كانت هذه حقاً نهاية تلك الفترة التمهيدية لتولي عمل يوحنا وتنظيمه. دائماً ما يدفع الدين الاجتماعي للوحي الجديد ثمن التسوية مع الأشكال والأعراف الراسخة للدِين السابق الذي يسعى إلى إنقاذه. كانت المعمودية الثمن الذي دفعه أتباع يسوع من أجل أن يحملوا معهم, كفئة دينية مشايعة, أتباع يوحنا المعمدان. أتباع يوحنا, في انضمامهم إلى أتباع يسوع, تخلوا عن كل شيء تقريباً باستثناء معمودية الماء.
144:7.2 (1626.3) لم يقم يسوع بتعليم علني يذكر على هذه المهمة إلى المدن-العشرة. قضى وقتاً معتبراً في تعليم الأربعة والعشرين وكانت لديه اجتماعات خاصة عديدة مع رُسل يوحنا الاثني عشر. بمرور الوقت أصبحوا أكثر تفهماً لسبب عدم ذهاب يسوع لزيارة يوحنا في السجن, ولماذا لم يبذل أي جهد لتأمين إطلاق سراحه. لكنهم لم يستطيعوا أبداً فهم سبب عدم قيام يسوع بأي أعمال عجائبية, لماذا رفض إظهار علامات لسُلطته الإلَهية. قبل المجيء إلى مخيم الجلبوع, كانوا قد آمنوا بيسوع في الغالب بسبب شهادة يوحنا, لكن سرعان ما بدأوا يؤمنون كنتيجة لاتصالهم الخاص بالسيد وتعاليمه.
144:7.3 (1626.4) لهذين الشهرين عملت الجماعة معظم الوقت في أزواج, خرج واحد من رُسل يسوع مع واحد من رُسل يوحنا. عَمَّد رسول يوحنا, ورسول يسوع عَّلم, بينما كِلاهما وعظا إنجيل الملكوت كما فهموه. وربحوا نفوساً كثيرة بين هؤلاء الأمميين واليهود المرتـَّدين.
144:7.4 (1626.5) أصبح أبنير, رئيس رُسل يوحنا, مؤمناً متديناً بيسوع وفيما بعد جُعل رئيساً لجماعة من سبعين معَّلمٍاً فوضهم السيد ليعظوا الإنجيل.
144:8.1 (1626.6) في الجزء الأخير من كانون الأول ذهبوا جميعاً قرب الأردن بالقرب من بـِلا, حيث بدأوا مرة أخرى في التعليم والوعظ. جاء يهود وأمميون إلى هذا المخيم لسماع الإنجيل. بينما كان يسوع يعَّلم الجموع بعد ظهر أحد الأيام أحضر بعض من أصدقاء يوحنا الخاصين إلى السيد الرسالة الأخيرة التي استلمها أبداً من المعمدان.
144:8.2 (1626.7) كان يوحنا الآن في السجن لمدة عام ونصف, ومعظم هذا الوقت كان يسوع يعمل بهدوء شديد؛ لذلك لم يكن غريباً بأن يوحنا يجب أن ينقاد للتساؤل عن الملكوت. قاطع أصدقاء يوحنا تعليم يسوع قائلين له: "لقد أرسلنا يوحنا المعمدان لنسأل ــ "هل أنت حقاً المخَّلِص, أو هل سنبحث عن آخر؟"
144:8.3 (1626.8) توقف يسوع ليقول لأصدقاء يوحنا: "ارجعوا وأخبروا يوحنا بأنه لم يُنسى. اخبروه بما رأيتم وسمعتم, بأن الفقراء لديهم بشائر خير وُعظت إليهم." وعندما تكلم يسوع أكثر إلى رُسل يوحنا, التفت مرة أخرى إلى الجموع وقال: "لا تظنوا أن يوحنا يشك في إنجيل الملكوت. إنه يستفسر فقط ليُطمئن تلاميذه الذين هم أيضاً تلاميذي. ليس يوحنا ضعيفاً. دعوني أسألكم أنتم الذين سمعتم يوحنا يعظ قبل أن يلقيه هيرودس في السجن: ماذا رأيتم في يوحنا ــ قصبة تهتز مع الريح؟ رجل متقلب المزاج ويلبس ثياباً ناعمة؟ كقاعدة عامة فإن أولئك الذين يرتدون ثياباً فاخرة والذين يعيشون بتأنق هم في بلاط الملوك وفي قصور الأغنياء. لكن ماذا رأيتم عندما شاهدتم يوحنا؟ نبي؟ نعم, أقول لكم, وأكثر بكثير من نبي. عن يوحنا كُتب: ’انظروا, ها أنا أرسل رسولي أمام وجهك؛ سوف يهيئ الطريق أمامك.‘
144:8.4 (1627.1) "الحق, الحق, أقول لكم, لم يولد أعظم من يوحنا المعمدان بين أولئك الذين وُلدوا من النساء؛ مع ذلك فإن الصغير في ملكوت السماء هو أعظم لأنه وُلد من الروح ويعرف بأنه قد أصبح ابناً لله."
144:8.5 (1627.2) كثيرون ممن سمعوا يسوع ذلك اليوم أخضعوا أنفسهم لمعمودية يوحنا, بذلك مُقرين علناً الدخول إلى الملكوت. وكان رُسل يوحنا متماسكين بقوة مع يسوع منذ ذلك اليوم وصاعداً. هذا الحدث علـَّم الوحدة الحقيقية بين أتباع يوحنا ويسوع.
144:8.6 (1627.3) بعد أن تحدث المرسلون مع أبنير, رحلوا إلى مكايروس ليخبروا يوحنا بكل هذا. كان مؤاسى للغاية, وتعزز إيمانه بكلمات يسوع ورسالة أبنير.
144:8.7 (1627.4) في عصر هذا اليوم واصل يسوع تعليمه, قائلاً: "لكن بماذا سأشَبه هذا الجيل؟ لن يتلقى الكثير منكم رسالة يوحنا ولا تعليمي. أنتم مثل الأولاد الذين يلعبون في السوق الذين ينادون إلى زملائهم ويقولون: ’لقد زمرنا لكم ولم ترقصوا؛ نُحنا ولم تحزنوا.‘ وهكذا مع بعض منكم. جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب, وقالوا كان لديه شيطان. يأتي ابن الإنسان يأكل ويشرب, وهؤلاء الناس أنفسهم يقولون: ’انظروا, هوذا رجل شره وشارب خمر, صديق للعشارين والخطاة!‘ حقاً, تتبرر الحكمة بأولادها.
144:8.8 (1627.5) "سيبدو بأن الأب في السماء قد أخفى بعض هذه الحقائق عن الحكماء والمتغطرسين, بينما كشفها للأطفال. لكن الأب يفعل كل الأشياء حسناً؛ يكشف الأب نفسه للكون بالطرق التي يختارها بنفسه. تعالوا, إذن, يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال, وستجدون راحة لنفوسكم. خذوا عليكم النير الإلَهي, وستختبرون سلام الله, الذي يفوق كل فهم."
144:9.1 (1627.6) تم إعدام يوحنا المعمدان بأمر من هيرودس أنتيباس في مساء 10 كانون الثاني, عام 28 م. في اليوم التالي سمع عدد قليل من تلاميذ يوحنا الذين ذهبوا إلى مكايروس بإعدامه, وذاهبون إلى هيرودس, طلبوا جسده, الذي وضعوه في قبر, ليدفنوه فيما بعد عند سِباستي, بلد أبنير, في اليوم التالي, 12 كانون الثاني, سافروا شمالاً إلى مخيم رُسل يوحنا ويسوع بالقرب من بـِلا, وأخبروا يسوع بموت يوحنا. عندما سمع يسوع تقريرهم, صرف الجموع, وداعياً الأربعة والعشرين معاً, قال: "لقد مات يوحنا. قطع هيرودس رأسه. اعقدوا الليلة مجلساً مشتركاً ونظموا شؤونكم وفقاً لذلك. لن يكون هناك تأخير بعد الآن. حانت ساعة إعلان الملكوت علانية وبقوة. غداً نذهب إلى الجليل."
144:9.2 (1627.7) تبعاً لذلك, في وقت مبكر من صباح 13 كانون الثاني, عام 28 م. توجه يسوع والرُسل إلى كفرناحوم, برفقة حوالي خمسة وعشرين تلميذاً, ونزلوا تلك الليلة في منزل زَبـِدي.
كِتاب يورانشيا
ورقة 145
145:0.1 (1628.1) وصل يسوع والرُسل إلى كفرناحوم مساء الثلاثاء 13 كانون الثاني, وكالعادة, اتخذوا مقرهم في بيت زَبـِدي في بيت-صيدا. الآن حيث إن يوحنا المعمدان قد أُرسل لموته, استعد يسوع للشروع في أول رحلة وعظ مفتوحة وعلنية في الجليل. انتشر الخبر عن عودة يسوع بسرعة في جميع أنحاء المدينة, وفي وقت مبكر من اليوم التالي, سارعت مريم أُم يسوع بعيداً إلى الناصرة لزيارة ابنها يوسف.
145:0.2 (1628.2) أمضى يسوع الأربعاء, والخميس, والجمعة في منزل زَبـِدي يُرشد رُسله للتحضير لأول جولة وعظ عامة واسعة النطاق. كما استقبل وعلـَّم العديد من المستفسرين الجادين, منفردين وفي جماعات. من خلال أندراوس, رتب للكلام في الكنيس في يوم السبت القادم.
145:0.3 (1628.3) في وقت متأخر من مساء يوم الجمعة, قامت شقيقته الصغيرة راعوث, بزيارته سراً. أمضيا ما يقرب من ساعة معاً في قارب راسي على مسافة قصيرة من الشاطئ. لم يعلم أحد, باستثناء يوحنا زَبـِدي, بهذه الزيارة, وحُذر ألا يخبر أي إنسان. كانت راعوث العضو الوحيد من عائلة يسوع الذي آمن بثبات وبلا تردد في ألوهية مهمته الأرضية من أبكر أوقات وعيها الروحي وحتى إسعافه الزاخر بالأحداث, وموته, وقيامته, وصعوده؛ وانتقلت أخيراً إلى عوالم ما بعد ولم تشك مطلقًا في الطبيعة الخارقة لمهمة أخيها-أبيها في الجسد. كانت الطفلة راعوث المؤاسي الرئيسي ليسوع, بما يخص عائلته الأرضية, في كل أثناء محنته المجربة لمحاكمته, ورفضه, وصَلبه.
145:1.1 (1628.4) في صباح يوم الجمعة من هذا الأسبوع ذاته, عندما كان يسوع يعَّلم بجانب البحر, زاحمه الناس قريباً جداً من حافة الماء لدرجة أنه أشار إلى بعض الصيادين الذين يشغلون قارباً قريباً ليأتوا لنجدته. عند دخول القارب, استمر في تعليم الجموع المتجمعة لأكثر من ساعتين. كان اسم هذا القارب "سمعان"؛ لقد كان قارب الصيد السابق لسمعان بطرس وقد بناه يسوع بنفسه. في هذا الصباح بالذات كان داود زَبـِدي واثنان من زملائه يستخدمون القارب, الذين أتوا لتوهم بالقرب من الشاطئ بعد ليلة غير مثمرة من الصيد على البحيرة. كانوا ينظفون ويرتقون شباكهم عندما طلب منهم يسوع أن يأتوا لمساعدته.
145:1.2 (1628.5) بعد أن انتهى يسوع من تعليم الناس, قال لداود: "بما أنك أُخّرت بمجيئك لمساعدتي, دعني الآن أعمل معك, لنذهب لصيد السمك؛ اقلع نحو الأعماق هناك والقي شِباكك من أجل السَحب." لكن سمعان, أحد مساعدي داود, أجاب: "يا سيد, لا جدوى من ذلك. لقد تعبنا طوال الليل ولم نأخذ شيئاً. مع ذلك, سنقلع بناءً على طلبك ونلقي الشِباك." ووافق سمعان على اتباع توجيهات يسوع بسبب إيماءة من سيده, داود. عندما انتقلوا إلى المكان الذي حدده يسوع ألقوا شِباكهم واحتوت هذا العدد الكبير من الأسماك بحيث خافوا أن تتمزق الشِباك, لدرجة أنهم أشاروا إلى زملائهم على الشاطئ ليأتوا لمساعدتهم. عندما ملأوا كل القوارب الثلاثة بالسمك, تقريباً إلى الغرق, وقع سمعان هذا عند ركبتي يسوع, قائلاً, "ارحل عني, يا سيد, لأنني رجل خاطئ." كان سمعان وكل من كان مهتماً بهذا الحدث مندهشين لسحب الأسماك. منذ ذلك اليوم هجر داود زَبـِدي, وسمعان هذا, وزملائهم شِباكهم واتبعوا يسوع.
145:1.3 (1629.1) لكن هذا لم يكن بأي حال من الأحوال سحبٌاً عجائبياً للأسماك. كان يسوع تلميذاً وثيقاً للطبيعة؛ كان صياد سمك متمرس وعرف عادات الأسماك في بحر الجليل. في هذه المناسبة قام فقط بتوجيه هؤلاء الرجال إلى المكان الذي توجد فيه الأسماك عادة في هذا الوقت من اليوم. لكن أتباع يسوع دائماً اعتبروا ذلك بمثابة معجزة.
145:2.1 (1629.2) في السبت التالي, عند خدمة العصر في الكنيس, ألقى يسوع موعظته حول "مشيئة الأب في السماء". في الصباح كان سمعان بطرس قد وعظ عن "الملكوت." في اجتماع مساء الخميس في الكنيس علـَّم أندراوس, كان موضوعه "الطريق الجديد." في هذا الوقت بالذات آمن بيسوع في كفرناحوم أناس أكثر من أي مدينة أخرى على وجه الأرض.
145:2.2 (1629.3) عندما علـَّم يسوع في الكنيس بعد ظهر هذا السبت, وفقًا للعُرف أخذ النص الأول من الشريعة, قارئاً من كتاب سفر الخروج: "وستخدم الرب إلَهك, وسيبارك خبزك وماءك, وسيُبعَد عنك كل مرض." اختار النص الثاني من الأنبياء, قارئاً من إشعياء: "قُم وأشرق, لأن نورك قد جاء, ومجد الرب قد أشرق عليك. قد يغطي الظلام الأرض والظلام الدامس الناس, لكن روح الرب سيشرق عليك, والمجد الإلَهي ستنظره. حتى الأمميين سيأتون إلى هذا النور, وسوف تستسلم عقول عظيمة كثيرة لسطوع هذا النور."
145:2.3 (1629.4) كانت هذه العظة محاولة من جانب يسوع لتوضيح حقيقة أن الدِين هو تجربة شخصية, من بين أمور أخرى, قال السيد:
145:2.4 (1629.5) "أنتم تعرفون جيداً أنه, في حين أن الأب الحنون القلب يحب أسرته ككل, هو يعتبرهم جماعة بسبب عاطفته القوية تجاه كل فرد من أفراد تلك العائلة. لم يعد عليكم بعد الآن أن تقتربوا من الأب في السماء كطفل لإسرائيل لكن كطفل لله. كجماعة, أنتم في الحقيقة أولاد إسرائيل, لكن كأفراد, كل منكم هو طفل لله. لقد جئت, ليس لأكشف الأب إلى أولاد إسرائيل, بل لأجلب هذه المعرفة عن الله وكشف محبته ورحمته إلى المؤمن الفرد كتجربة شخصية حقيقية. علمكم جميع الأنبياء بأن يهوه يهتم بشعبه, بأن الله يحب إسرائيل. لكنني جئت بينكم لأعلن حقيقة أعظم, أمر أدركه أيضًا العديد من الأنبياء اللاحقين, بأن الله يحبكم ــ كل واحد منكم ــ كأفراد. كل هذه الأجيال كان لديكم دِين قومي أو عنصري؛ الآن جئت لأعطيكم دِيناً شخصياً.
145:2.5 (1630.1) "لكن حتى هذه ليست فكرة جديدة. لقد عرف الكثير من أصحاب العقول الروحية بينكم هذه الحقيقة, بقدر ما أرشدكم بعض من الأنبياء. ألم تقرأوا في الكتابات المقدسة حيث يقول النبي إرميا: ’في تلك الأيام لن يقولوا بعد الآن, الآباء أكلوا الحصرم, والأولاد ضرسوا. كل إنسان سيموت لأجل إثمه الخاص؛ كل من يأكل الحصرم, ستضرس أسنانه. انظروا, ستأتي الأيام عندما سأقطع ميثاقاً جديداً مع شعبي, ليس وفقاً للميثاق الذي قطعته مع آبائهم حين أخرجتهم من أرض مصر, لكن وفقاً للطريق الجديد. حتى أنني سأكتب شريعتي في قلوبهم. سأكون إلَههم, وسيكونون شعبي. في ذلك اليوم لن يقول, إنسان لجاره, أتعرف الرب؟ كلا! لأنهم جميعهم سيعرفونني شخصياً, من الأقل إلى الأعظم.‘
145:2.6 (1630.2) ألَم تقرأوا هذه الوعود؟ ألا تؤمنون بالكتابات المقدسة؟ ألا تفهمون بأن كلمات النبي قد تحققت في ما ترونه هذا اليوم بالذات؟ وألم يحثكم إرميا لتجعلوا الدِين شأن القلب, لتنتسبوا إلى الله كأفراد؟ ألم يخبركم النبي بأن إله السماء سيفحص قلوبكم الفردية؟ وألم تُنذَروا بأن قلب الإنسان الطبيعي مضل فوق كل الأشياء وفي كثير من الأحيان أثيم بشكل يائس؟
145:2.7 (1630.3) "ألم تقرأوا كذلك حيث علـَّم حزقيال حتى آباءكم بأن الدِين يجب أن يصبح حقيقة في تجاربكم الفردية؟ لن تستخدموا بعد الآن المَثل القائل, ’الآباء أكلوا الحصرم والأولاد يضرسون‘. ’كما أعيش‘, يقول الرب الإلَه, ’انظروا كل النفوس لي؛ كما نفـْس الأب, هكذا كذلك نفـْس الابن. فقط النفـْس التي تخطئ تموت‘. وبعدئذٍ تنبأ حزقيال حتى هذا اليوم عندما تكلم عن الله, قائلاً: ’كما سأعطيك قلباً جديداً, وأضع فيك روحاً جديدة.‘
145:2.8 (1630.4) "بعد الآن لن تخافوا بأن الله سيجازي أمة من أجل خطيئة فرد؛ ولن يعاقب الأب في السماء واحد من أولاده المؤمنين من أجل خطايا أمة, ولو إن العضو الفرد من أي عائلة يجب أن يعاني في كثير من الأحيان من العواقب المادية للأخطاء الأسرية والتجاوزات الجماعية. ألا تدركون بأن الأمل في أمة أفضل ــ أو عالَم أفضل ــ مرتبط بتقدم الفرد وتنويره؟"
145:2.9 (1630.5) بعدئذٍ صَّور السيد بأن الأب في السماء, بعد أن يفطن الإنسان إلى هذه الحرية الروحية, يريد أن يبدأ أولاده على الأرض ذلك الارتقاء الأبدي لمهمة الفردوس التي تتمثل في استجابة وعي المخلوق إلى الحث الإلَهي للروح الساكن ليجد الخالق, وليعرف الله ويسعى لأن يصبح مثله.
145:2.10 (1630.6) ساعدت هذه العظة الرسل كثيراً. كلهم تحققوا بشكل كامل بأن إنجيل الملكوت هو رسالة موَّجَهة للفرد, وليس للأمة.
145:2.11 (1630.7) على الرغم من أن أهل كفرناحوم كانوا على دراية بتعليم يسوع, فقد كانوا مذهولين من موعظته هذه في يوم السبت هذا. لقد علـَّم, حقاً, كواحد لديه سُلطة وليس كالكتبة.
145:2.12 (1630.8) بمجرد انتهاء يسوع من الكلام, كان شاب في المجمع مهتاجاً كثيراً بكلماته أُصيب بنوبة صَرَعٍ عنيفة وصرخ بصوت عالٍ. عند نهاية النوبة, عندما استعاد وعيه, تكلم في حالة حالمة, قائلاً: "ما لنا ولك, يا يسوع الناصري؟ أنت الواحد المقدس من الله, هل أتيت لتهلكنا؟" أمر يسوع الناس بالهدوء, وأخذ الشاب باليد, قال "اخرج منه" ــ واستيقظ على الفور.
145:2.13 (1631.1) لم يكن هذا الشاب مُمتلَكاً بروح نجس أو عفريت؛ كان ضحية لمرض الصرع العادي. لكنه كان قد عُّلم بأن معاناته كانت ناتجة عن امتلاك روح شرير. لقد صدق هذا التعليم وتصَّرف وفقاً لذلك في كل ما اعتقد أو قال بشأن مرضه. اعتقد كل الشعب بأن هذه الظواهر كانت ناجمة مباشرة عن وجود أرواح نجسة. تبعاً لذلك اعتقدوا بأن يسوع أخرج عفريتاً من هذا الرجل. لكن يسوع لم يشفي صرعه في ذلك الوقت. ليس حتى وقت لاحق من ذلك اليوم, بعد غروب الشمس, تم شفاء هذا الرجل حقًا. بعد فترة طويلة من يوم العنصرة, تجنب الرسول يوحنا, الذي كان آخر من كتب عن أفعال يسوع, كل إشارة إلى هذه الأعمال المزعومة "إخراج الشياطين", وقد فعل ذلك في ضوء حقيقة أن مثل هذه الحالات من امتلاك العفاريت لم تحدث أبداً بعد العنصرة.
145:2.14 (1631.2) كنتيجة لهذه الحادثة الشائعة, انتشر الخبر بسرعة في كفرناحوم بأن يسوع قد أخرج عفريتاً من رجل وشفاه بأعجوبة في الكنيس في ختام موعظته بعد الظهر. كان السبت مجرد الوقت المناسب للانتشار السريع والفعّال لمثل هذه الإشاعة المذهلة. نُقل هذا الخبر أيضًا إلى كل المستوطنات الصغيرة حول كفرناحوم, وقد صدقه كثير من الناس.
145:2.15 (1631.3) كان الطهي والعمل المنزلي في منزل زَبـِدي الكبير, حيث اتخذ يسوع والاثني عشر مقرهم, يتم في الغالب بواسطة زوجة سمعان بطرس ووالدتها. كان منزل بطرس بالقرب من منزل زَبـِدي؛ وتوقف يسوع وأصدقاؤه هناك في طريقهم من الكنيس لأن حماة بطرس كانت مريضة لعدة أيام ببرودة وحُمى. الآن صادف بأنه, عند حوالي الوقت الذي وقف فيه يسوع فوق هذه المرأة المريضة, ممسكاً بيدها, ومهدئاً جبينها, وقال كلمات تشجيع ومؤاساة لها, أن تركتها الحُمى. لم يكن لدى يسوع الوقت الكافي لكي يشرح لرُسله أنه لم تحدث معجزة في الكنيس؛ ومع هذه الحادثة طازجة وجلية جداً في عقولهم, ومتذكرين الماء والنبيذ في قانا, أمسكوا على هذه المصادفة باعتبارها معجزة أخرى, وهرع بعض منهم خارجاً لنشر الأخبار في كل أنحاء المدينة.
145:2.16 (1631.4) كانت أماثا, حماة سمعان بطرس, تعاني من حمى الملاريا. لم يُشفها يسوع بأعجوبة في هذا الوقت. ليس إلا بعد عدة ساعات, بعد غروب الشمس تم شفاءها في علاقة بالحدث الإستثنائي الذي حدث في الفناء الأمامي لمنزل زَبـِدي.
145:2.17 (1631.5) وهذه الحالات هي نموذجية للأسلوب الذي أمسك به جيل باحث عن العجائب وشعب ذو عقلية-معجزات بكل هذه المصادفات كذريعة لإعلان أن يسوع قد أحدث معجزة أخرى.
145:3.1 (1631.6) بحلول الوقت الذي استعد فيه يسوع ورسله لتناول وجبة العشاء قرب نهاية يوم السبت هذا الحافل بالأحداث, كانت كل كفرناحوم وضواحيها متلهفة على معجزات الشفاء المشهورة هذه؛ وبدأ كل الذين كانوا مرضى أو مصابين الإستعدادات للذهاب إلى يسوع أو أن يُحملوا إلى هناك بواسطة أصدقائهم بمجرد غروب الشمس. وفقاً للتعاليم اليهودية لم يكن مسموحاً حتى بالذهاب في طلب الصحة خلال ساعات السبت المقدسة.
145:3.2 (1632.1) لذلك بمجرد أن غربت الشمس وراء الأفق, بدأ عشرات من الرجال, والنساء, والأولاد المنكوبين يشقون طريقهم نحو منزل زَبـِدي في بيت-صيدا. بدأ أحد الرجال مع ابنته المشلولة بمجرد غياب الشمس خلف منزل جاره.
145:3.3 (1632.2) كانت أحداث النهار بأكمله قد مهدت الطريق لمشهد الغروب الخارق هذا. حتى النص الذي استخدمه يسوع في موعظته عند العصر أوعز بأن المرض سيُبعَد؛ وكان قد تكلم بمثل هذه السُلطة والقُدرة غير المسبوقة! كانت رسالته مُلزمة للغاية! في حين أنه لم يُناشد مرجع إنساني, فقد تكلم مباشرة إلى ضمائر ونفوس الناس. ولو إنه لم يلتجئ إلى المنطق, أو المراوغات الشرعية, أو الأقوال الذكية, إلا أنه قدم التماساً قديراً, ومباشراً, وواضحاً, وشخصياً إلى قلوب سامعيه.
145:3.4 (1632.3) كان ذلك السبت يوماً عظيماً في حياة يسوع الأرضية, نعم, في حياة الكون. لكل مقاصد وأهداف الكون المحلي كانت مدينة كفرناحوم اليهودية الصغيرة العاصمة الحقيقية لنِبادون. لم يكن حفنة اليهود في كنِيس كفرناحوم الكائنات الوحيدة التي سمعت هذا البيان الختامي الهام لموعظة يسوع: "الكراهية هي ظل الخوف؛ الثأر قناع الجُبن." كما أن مستمعيه لم يستطيعوا أن ينسوا أبداً كلماته المباركة, معلنة, "الإنسان هو ابن الله, وليس ولد الشيطان."
145:3.5 (1632.4) بعد وقت قصير من غروب الشمس, بينما كان يسوع والرُسل ما زالوا يتوانون حول مائدة العشاء, سمعت زوجة بطرس أصواتاً في الفناء الأمامي, وعند ذهابها إلى الباب, رأت مجموعة كبيرة من المرضى يتجمعون, وأن الطريق من كفرناحوم كانت مزدحمة بالذين كانوا في طريقهم لطلب الشفاء على يدي يسوع. عند رؤية هذا المنظر, ذهبت على الفور وأبلغت زوجها الذي أخبر يسوع.
145:3.6 (1632.5) عندما خطى السيد خارجاً إلى المدخل الأمامي لمنزل زَبـِدي, التقت عيناه بصف من الإنسانية المنكوبة والمبتلاة. حدق في ما يقرب من ألف شخص مريض ومتألم؛ على الأقل كان هذا عدد الأشخاص المتجمعين أمامه. لم يكن كل الحاضرين مبتلين؛ جاء البعض منهم لمساعدة أحبائهم في هذا الجهد لتأمين الشفاء.
145:3.7 (1632.6) مشهد هؤلاء البشر المبتلين, رجالاً, ونساءً, وأطفالاً, الذين يعانون إلى حد كبير نتيجة لأخطاء وآثام أبنائه المستأمنين لإدارة الكون, لمست قلب يسوع البشري بشكل خاص وتحدَت الرحمة الإلَهية لهذا الابن الخالق المُحسِن. لكن يسوع كان يعلم جيداً أنه لا يمكنه أبدًا أن يبني حركة روحية مستديمة على أساس العجائب المادية البحتة. لقد كانت سياسته الثابتة هي الإمتناع عن إظهار امتيازاته كخالق. لم يرافق الخارق للطبيعة أو العجائبي تعليمه منذ قانا؛ لا يزال, لمس هذا الجمهور المنكوب قلبه المتعاطف وناشد بقوة وده المتفهم.
145:3.8 (1632.7) هتف صوت من الباحة الأمامية: "يا سيد, تكلم الكلمة, أعد إلينا صحتنا, اشفي أمراضنا, وأنقذ نفوسنا." لم يكد يتم نطق هذه الكلمات, حتى تهيأ حشد كبير من السيرافيم, والمتحكمين الفيزيائيين, وحاملي الحياة, ومنتصفي الطريق, مثلما دائماً يلازم هذا الخالق المتجسد للكون, هيئوا أنفسهم للعمل بقدرة خلاَّقة فيما إذا أعطى سُلطانهم الإشارة. كانت هذه إحدى تلك اللحظات في مهمة يسوع الأرضية التي كانت فيها الحكمة الإلَهية والرحمة الإنسانية متشابكتان للغاية في قضاء ابن الإنسان لدرجة أنه لجأ في التماس إلى مشيئة أبيه.
145:3.9 (1632.8) عندما ناشد بطرس السيد أن يستجيب لصرختهم من أجل المساعدة, يسوع, ناظراً إلى الحشد المنكوب, أجاب: "لقد جئت إلى العالَم لأكشف الأب ولأؤسس ملكوته. من أجل هذا الهدف عشت حياتي حتى هذه الساعة. إذا, لذلك, كان ينبغي أن تكون مشيئة من أرسلني ولا تتعارض مع تكريسي لإعلان إنجيل ملكوت السماء, فأنا أرغب برؤية أولادي معافين -- و -- " لكن كلمات يسوع الإضافية ضاعت في الضوضاء.
145:3.10 (1633.1) كان يسوع قد نقل مسؤولية قرار الشفاء هذا إلى حكم أبيه. على ما يظهر مشيئة الاب لم تفرض أي اعتراض, لأن كلمات السيد بالكاد تم النطق بها عندما كانت مجموعة الشخصيات السماوية التي تخدم تحت قيادة ضابط الفكر المُشَّخَص ليسوع قد حُّركت بمقدرة. هبطت الحاشية العظيمة في وسط هذا الحشد المرقش من البشر المبتلين, وفي لحظة من الزمن تم شفاء 683 رجلاً, وامرأة, وطفل, تماثلوا للشفاء تماماً من جميع أمراضهم الجسدية, وغيرها من العللٍ المادية. ذلك المنظر لم يُشهد له مثيل أبداً على الأرض لا قبل ذلك اليوم, ولا منذ ذلك الحين. وبالنسبة لأولئك منا الذين كانوا حاضرين لمشاهدة هذه الموجة الخلاَّقة من الشفاء, فقد كان بالفعل مشهداً رائعاً.
145:3.11 (1633.2) لكن من بين كل الكائنات التي كانت منذهلة من هذا الاندلاع المفاجئ وغير المتوَقع للشفاء الخارق, كان يسوع الأكثر دهشةً. في لحظة عندما تركزت اهتماماته وتعاطفاته الإنسانية على مشهد المعاناة والبلاء المنتشر هناك أمامه, أهمل أن يضع في عقله البشري الإنذارات التحذيرية لضابطه المُشَّخَص فيما يتعلق باستحالة تقييد عنصر الزمان لامتيازات الخالق لابن خالق في ظل شروط معينة وفي ظروف معينة. رغب يسوع برؤية هؤلاء البشر المعانين يتعافون إذا لم تُنتهك مشيئة أبيه بهذا. حَكَمَ الضابط المُشَّخَص ليسوع على الفور بأن مثل هذا التصرف للطاقة الخلاَّقة في ذلك الوقت لن يتعدى على مشيئة أب الفردوس, وبهكذا قرار ــ في ضوء تعبير يسوع السابق عن الرغبة بالشفاء ــ كان الفعل الخلاَّق. ما يريده الابن الخالق ويشاؤه أبوه يكون. لم يحدث في كل حياة يسوع الأرضية اللاحقة شفاء جسدي جماعي آخر للبشر من هذا القبيل.
145:3.12 (1633.3) كما كان متوقعاً, انتشرت شهرة شفاء غروب الشمس هذا في بيت-صيدا في كفرناحوم في جميع أنحاء الجليل ويهودا والمناطق ما بعدها. مرة أخرى أثيرت مخاوف هيرودس, وأرسل مراقبين ليُبـَّلغوا عن عمل وتعاليم يسوع وللتأكد مما إذا كان هو النجار السابق من الناصرة أو يوحنا المعمدان قام من الموت.
145:3.13 (1633.4) بشكل رئيسي بسبب هذا العرض غير المقصود للشفاء الجسدي, منذ ذلك الوقت وصاعداً, طوال ما تبقى من مهمته الأرضية, أصبح يسوع طبيباً بقدر ما هو واعظ. صحيح, أنه واصل تعليمه, لكن عمله الشخصي تألف في الغالب في إسعاف المرضى والمنكوبين, بينما قام رُسله بعمل الوعظ العلني وتعميد المؤمنين.
145:3.14 (1633.5) لكن الغالبية العظمى من أولئك الذين تلقوا شفاءً جسدياً خارقاً أو خلاَّقاً لمظاهرة الطاقة الإلَهية عند غروب الشمس هذه لم ينتفعوا روحياً بطريقة دائمة من هذا التجلي غير العادي للرحمة. عدد قليل حقًا تهذب بهذا الإسعاف الفيزيائي, لكن الملكوت الروحي لم يتقدم في قلوب الناس بسبب اندلاع الشفاء الخلاَّق الخالد اللا-زمني هذا.
145:3.15 (1633.6) لم تكن معجزات الشفاء التي لازمت بين الحين والآخر مهمة يسوع على الأرض جزءًا من خطته لإعلان الملكوت. لقد كانت عرضياً فطرية في الوجود على الأرض لكائن إلَهي يتمتع بامتيازات خالق تقريباً غير محدودة مقترنة بمزيج غير مسبوق من الرحمة الإلَهية والعطف الإنساني. لكن مثل هذه المدعوة معجزات سببت الكثير من المتاعب ليسوع من حيث أنها زودت ترويجاً مثيراً للتعصب ومنحت الكثير من الصيت الرديء غير المرغوب فيه.
145:4.1 (1634.1) طوال المساء الذي أعقب هذه الفورة العظيمة للشفاء, اجتاح الحشد المتهلل والسعيد بيت زَبـِدي, وكان رُسل يسوع على أعلى درجة من الحماس العاطفي. من وجهة نظر إنسانية, ربما كان هذا أعظم يوم من كل الأيام العظيمة لارتباطهم بيسوع. لم ترتفع آمالهم في أي وقت قبل أو بعد إلى مثل هذه الأعالي من التوقع الواثق. كان يسوع قد أخبرهم قبل أيام قليلة فقط, وعندما كانوا لا يزالون داخل حدود السامره, بأن الساعة أتت عندما سيُعلن الملكوت بقوة, والآن رأت عيونهم ما افترضوا أنه تحقيق هذا الوعد. كانوا متأثرين بشدة لرؤية ما كان سيأتي إذا كان هذا التجلي المدهش لقدرة الشفاء مجرد البداية. لقد تم إبعاد شكوكهم المستمرة في ألوهية يسوع. كانوا حرفياً سكارى بنشوة افتتانهم الحائر.
145:4.2 (1634.2) لكن عندما بحثوا عن يسوع, لم يجدوه. كان السيد منزعجاً جداً مما حدث. هؤلاء الرجال, والنساء, والأطفال الذين تم شفاؤهم من أمراض مختلفة بقوا إلى وقت متأخر من المساء, آملين في عودة يسوع ليشكروه. لم يستطع الرُسل فهم سلوك السيد عندما مرَت الساعات وبقي في عزلة؛ كان فرحهم سيكون كاملاً ومثالياً لو لم يكن لغيابه الذي استمر. عندما عاد يسوع إلى وسطهم, كانت الساعة متأخرة, وعملياً كان كل المنتفعين من حادثة الشفاء قد ذهبوا إلى بيوتهم. رفض يسوع تهاني وتكريم الاثني عشر وغيرهم ممن بقوا لتحيته, قائلاً فقط: "لا تبتهجوا بأن أبي قوي على شفاء الجسد, بل بالأحرى أنه قدير على إنقاذ النفـْس. دعونا نذهب إلى راحتنا, فغداً يجب أن نكون حول شغل الأب."
145:4.3 (1634.3) ومرة أخرى كان الاثنا عشر مُحبطون, ومحيرون, ورجال ذوي قلوب آسفة ذاهبون إلى راحتهم؛ قلة منهم, باستثناء التوأم, ناموا كثيرًا تلك الليلة. لم يكد السيد يفعل شيئاً ليطرب نفوس رُسله ويُبهج قلوبهم, حتى بدا على الفور وكأنه يبدد آمالهم إلى قطع ويقضي تماماً على أسس شجاعتهم وحماسهم. وبينما كان هؤلاء الصيادون الحائرون ينظرون إلى عيون بعضهم البعض, لم يكن هناك سوى فكرة واحدة: "لا يمكننا أن نفهمه. ماذا يعني كل هذا؟"
145:5.1 (1634.4) يسوع أيضاً لم ينم كثيراً ليلة السبت تلك. أدرك أن العالَم مملوءً بالضيق الجسدي ومغمور بالصعوبات المادية, وتفكَّر في الخطر الكبير المتمثل في إجباره على تكريس الكثير من وقته لرعاية المرضى والمنكوبين بحيث ستكون مهمته لتأسيس الملكوت الروحي في قلوب الناس متدخل بها أوعلى الأقل خاضعة لإسعاف الأشياء الفيزيائية. بسبب هذه الأفكار وأفكار مشابهة شغلت العقل الفاني ليسوع أثناء الليل, نهض صباح ذلك الأحد قبل الفجر بوقت طويل وذهب وحده إلى أحد الأماكن المفضلة لديه للتواصل مع الأب. كان موضوع صلاة يسوع في هذا الصباح الباكر من أجل الحكمة والدينونة لكي لا يسمح لتعاطفه البشري, إلى جانب رحمته الإلَهية, بتقديم مثل هذا الإلتماس في حضور المعاناة البشرية بحيث يكون كل وقته مشغولاً بالإسعاف الفيزيائي على حساب إهمال الروحي. ولو إنه لم يرغب تماماً في تجنب الإسعاف للمرضى, فقد علم أنه يجب عليه أيضاً القيام بما هو أهم في مجال التعليم الروحي والتدريب الديني.
145:5.2 (1635.1) خرج يسوع إلى التلال للصلاة عدة مرات لأنه لم تكن هناك غرف خاصة ملائمة من أجل تكريساته الشخصية.
145:5.3 (1635.2) لم يتمكن بطرس من النوم تلك الليلة؛ لذلك, في وقت مبكر جداً, بعد وقت قصير من خروج يسوع للصلاة, أيقظ يعقوب ويوحنا, وذهب الثلاثة للعثور على سيدهم. بعد أكثر من ساعة من البحث وجدوا يسوع وطلبوا منه أن يخبرهم عن سبب سلوكه الغريب. أرادوا أن يعرفوا لماذا بدا ليكون منزعجاً بالتدفق الهائل لروح الشفاء عندما غمر كل الناس فرح شديد وكان رُسله متهللين للغاية.
145:5.4 (1635.3) لأكثر من أربع ساعات سعى يسوع ليشرح لهؤلاء الرُسل الثلاثة ما حدث. علـَّمهم ما حدث وشرح مخاطر مثل هذه التجليات. أسَّر يسوع إليهم سبب مجيئه للصلاة. سعى إلى أن يوضح لمرافقيه الشخصيين الأسباب الحقيقية وراء لماذا لا يمكن أن يُبنى ملكوت الأب على أعمال-العجائب والشفاء الجسدي. لكنهم لم يتمكنوا من فهم تعليمه.
145:5.5 (1635.4) في هذه الأثناء, في وقت مبكر من صباح الأحد, بدأت حشود أخرى من النفوس المنكوبة والعديد من الباحثين الفضوليين في التجمع حول منزل زَبـِدي. صرخوا ليروا يسوع. كان أندراوس والرُسل في حيرة شديدة لدرجة أنه, بينما تحدث سمعان زيلوطس إلى الجموع, ذهب أندراوس مع بضعة من رفاقه للعثور على يسوع. عندما وجد أندراوس يسوع في صحبة الثلاثة, قال: "يا سيد, لماذا تتركنا وحدنا مع الجموع؟ انظر, كل الناس يطلبونك؛ لم يسبق أن طلب كثيرون تعليمك من قبل. حتى الآن المنزل محاط بأولئك الذين جاءوا من قريب ومن بعيد بسبب أعمالك الجبارة. ألن تعود معنا للإسعاف إليهم؟"
145:5.6 (1635.5) عندما سمع يسوع هذا, أجاب: "أندراوس, ألم أعَّلمك وهؤلاء الآخرين بأن مهمتي على الأرض هي كشف الأب, وبأن رسالتي هي التبشير بملكوت السماء؟ كيف, إذن, تود أن تحولني عن عملي من أجل إرضاء الفضوليين ومن أجل ارتياح أولئك الذين يبحثون عن العلامات والعجائب؟ ألم نكن بين هؤلاء الناس كل هذه الشهور, وهل توافدوا في جموع لسماع بشرى الملكوت؟ لماذا جاءوا الآن لمحاصرتنا؟ أليس بسبب شفاء أجسادهم الفيزيائية بدلاً من نتيجة استلام الحقيقة الروحية لخلاص نفوسهم؟ عندما ينجذب الناس إلينا بسبب التجليات غير العادية, فإن الكثير منهم لا يسعون وراء الحقيقة والخلاص بل بحثاً عن الشفاء من أمراضهم الجسدية وتأمين الخلاص من مصاعبهم المادية.
145:5.7 (1635.6) "كنت طوال هذا الوقت في كفرناحوم, وأعلنت في الكنيس وبجانب البحر على حد سواء بشائر الملكوت لكل من لديهم آذان للسمع وقلوب لتلقي الحقيقة. إنها ليست مشيئة أبي أن أعود معكم لتلبية احتياجات هؤلاء الفضوليين والانشغال بالإسعاف إلى أشياء فيزيائية لاستبعاد الروحي. لقد أوجبت عليكم وعظ الإنجيل والإسعاف إلى المرضى, لكنني يجب أن لا أصبح منشغلاً في الشفاء إلى استبعاد تعليمي. لا, يا أندراوس, لن أعود معك. اذهب واخبر الناس أن يؤمنوا بما علمناهم إياه وأن يبتهجوا بتحرر أبناء الله, واستعدوا لرحيلنا إلى مدن الجليل الأخرى, حيث الطريق قد هُيئت بالفعل لوعظ البشائر عن الملكوت. لقد كان لهذا الغرض بأني أتيت من الأب. اذهبوا, إذن, واستعدوا لرحيلنا الفوري بينما انتظر عودتكم هنا."
145:5.8 (1636.1) عندما تكلم يسوع, عاد أندراوس وزملاءه الرُسل بحزن إلى منزل زَبـَدي, صارفين الجموع المتجمعة, واستعدوا بسرعة للرحلة كما وجَّه يسوع. وهكذا, بعد ظهر يوم الأحد, 18 كانون الثاني, عام 28 م., بدأ يسوع والرُسل على أول جولة وعظ مفتوحة وحقاً علنية في مدن الجليل. في هذه الجولة الأولى وعظوا إنجيل الملكوت في العديد من المدن, لكنهم لم يزوروا الناصرة.
145:5.9 (1636.2) بعد ظهر ذلك الأحد, بعد وقت قصير من مغادرة يسوع ورسُله إلى ريمون, جاء شقيقاه يعقوب ويهوذا لرؤيته, زائرين عند منزل زَبـِدي. حوالي ظهر ذلك اليوم سعى يهوذا للبحث عن أخيه يعقوب وأصَّر على ذهابهما إلى يسوع. بالوقت الذي وافق يعقوب على الذهاب مع يهوذا, كان يسوع قد رحل بالفعل.
145:5.10 (1636.3) كان الرُسل كارهين لترك الاهتمام الكبير الذي أثير في كفرناحوم. حسبَ بطرس بأن ما لا يقل عن ألف مؤمن كان يُمكن تعميدهم نحو الملكوت. استمع يسوع إليهم بصبر, لكنه لم يوافق على العودة. ساد الصمت لفترة, ثم خاطب توما زملائه الرُسل, قائلاً: "لنذهب! لقد تكلم السيد. بغض النظر عما إذا كنا لا نستطيع أن نفهم تماماً أسرار ملكوت السماء, من شيء واحد نحن على يقين: نحن نتبع معلماً لا يسعى إلى المجد من أجل ذاته." وعلى مضض انطلقوا لوعظ البشائر في مدن الجليل.
كِتاب يورانشيا
ورقة 146
146:0.1 (1637.1) بدأت أول جولة وعظ علني في الجليل يوم الأحد, 18 كانون الثاني, عام 28 م., واستمرت حوالي شهرين, منتهية بالعودة إلى كفرناحوم في 17 آذار. في هذه الجولة وعظ يسوع والرُسل الاثنا عشر الإنجيل, بمساعدة رُسل يوحنا السابقين, وعمَّدوا المؤمنين في ريمّون, ويوتاباطا, والرامه, وزبولون, وأيرون, وغيشالا, وخورازين, ومادون, وقانا, وناعين, وعندور. تمهلوا وعلـَّموا في هذه المدن, بينما في العديد في المدن الأصغر الأخرى أعلنوا إنجيل الملكوت أثناء مرورهم.
146:0.2 (1637.2) كانت هذه المرة الأولى التي سمح فيها يسوع لزملائه بالوعظ دون تحفظ. حذرهم في هذه الجولة على ثلاث مناسبات فقط؛ وحثهم على الابتعاد عن الناصرة وأن يكونوا حذرين عند المرور في كفرناحوم وطبريا. لقد كان مصدر ارتياح عظيم للرُسل أن يشعروا أخيراً بأنهم أحرار ليعظوا ويعَّلموا دون قيود, والقوا بأنفسهم في عمل وعظ الإنجيل, مسعفين إلى المرضى ومعَّمدين المؤمنين, باجتهاد وفرح عظيمين.
146:1.1 (1637.3) كانت مدينة ريمّون الصغيرة مكرسة ذات مرة لعبادة رامّان, إلَه الهواء البابلي. كانت الكثير من التعاليم البابلية الأبكر والزرادشتة اللاحقة لا تزال معتنقة في المعتقدات الريمّونية؛ لذلك كـَّرس يسوع والأربعة والعشرون الكثير من وقتهم لمهمة توضيح الفرق بين هذه المعتقدات الأقدم والإنجيل الجديد للملكوت. وعظ بطرس هنا إحدى الخطب العظيمة لمهمته المبكرة حول "هارون والعجل الذهبي."
146:1.2 (1637.4) مع أن كثيرين من مواطني ريمّون أصبحوا مؤمنين بتعاليم يسوع, إلا أنهم تسببوا في مشاكل كبيرة لإخوانهم في السنوات اللاحقة. إنه من الصعب هداية عابدي الطبيعة إلى الزمالة الكاملة للهيام بمثال روحي أثناء فترة قصيرة من زمن حياة واحدة.
146:1.3 (1637.5) الكثير من أفضل الأفكار البابلية والفارسية عن النور والظلام, والخير والشر, والزمان والأبدية, تم دمجها فيما بعد في مذاهب ما يسمى بالمسيحية, وإدراجها جعل التعاليم المسيحية أكثر قبولاً في الحال لدى شعوب الشرق الأدنى. على نحو مماثل, فإن إدراج العديد من نظريات أفلاطون عن الروح المُثلى أو النماذج غير المرئية لكل الأشياء المرئية والمادية, كما تم تكييفها لاحقاً من قبل فيلو إلى اللاهوت العبري, جعل تعاليم بولس المسيحية أكثر سهولة للقبول من قبل اليونانيين الغربيين.
146:1.4 (1637.6) لقد كان في ريمّون حيث سمع تودان أول مرة عن إنجيل الملكوت, وفيما بعد حمل هذه الرسالة إلى بلاد ما بين النهرين وما وراءها. كان بين أوائل من وعظوا البشائر لأولئك الذين سكنوا وراء الفرات.
146:2.1 (1638.1) بينما سمع عامة الناس في يوتاباطا يسوع ورُسله بسرور, وقبل الكثيرون إنجيل الملكوت, كانت محاضرة يسوع إلى الأربعة والعشرين في الأمسية الثانية من إقامتهم في هذه البلدة الصغيرة التي ميزت مهمة يوتاباطا. كان نثانئيل مرتبكاً في ذهنه بشأن تعاليم السيد المتعلقة بالصلاة, والحمد, والعبادة, ورداً على سؤاله تكلم يسوع مطولاً في شرح إضافي لتعليمه. ملخصة في نص حديث, يمكن تقديم هذه المحاضرة كتأكيد على النقاط التالية:
146:2.2 (1638.2) 1. إن الاعتبار الواعي والمستمر للإثم في قلب الإنسان يدمر تدريجياً صلة الصلاة في النفـْس البشرية مع دارات الروح للتواصل بين الإنسان وصانعه. طبيعياً يسمع الله التماس طفله, لكن عندما يؤوي قلب الإنسان عن عمد وبمثابرة مفاهيم الإثم, هناك يستتبع بشكل تدريجي فقدان المشاركة الشخصية بين طفل الأرض وأبيه السماوي.
146:2.3 (1638.3) 2. إن الصلاة التي تتعارض مع شرائع الله المعروفة والثابتة هي رجس لآلهة الفردوس. إذا لم يستمع الإنسان إلى الآلهة عندما يتكلمون إلى خلقهم في قوانين الروح, والعقل, والمادة, فإن هذا الفعل ذاته لهكذا ازدراء متعمد وواعي من قبل المخلوق يحول آذان شخصيات الروح بعيدًا عن سماع الالتماسات الشخصية لهؤلاء البشر الفاسدين والعصاة. اقتبس يسوع لرُسله من النبي زكريا: "لكنهم رفضوا أن يسمعوا وسحبوا الكتف وسدوا آذانهم بحيث لا يسمعون. نعم, جعلوا قلوبهم صلبة مثل الحجر, لئلا يسمعوا شريعتي والكلمات التي أرسلتها بروحي من خلال الأنبياء؛ لذلك جاءت نتائج تفكيرهم الشرير كسخط عظيم على رؤوسهم المذنبة. وهكذا حدث بأنهم صرخوا من أجل الرحمة, لكن لم يكن هناك أذن مفتوحة للسمع." ثم اقتبس يسوع مَثل الرجل الحكيم الذي قال: "من يحَّول أذنه عن سماع الشريعة الإلَهية, حتى صَلاته ستكون رجساً."
146:2.4 (1638.4) 3. من خلال فتح الطرف البشري لقناة التواصل بين الله-الإنسان, يجعل البشر التيار الدائم التدفق للإسعاف الروحي لمخلوقات العوالم مُتاحاً في الحال. عندما يسمع الإنسان روح الله يتكلم في قلب الإنسان, فإن واقع أن الله يسمع صلاة الإنسان في نفس الوقت يكون فطرياً في مثل هذه التجربة. حتى مغفرة الخطيئة تعمل بنفس هذه الطريقة التي لا تخطئ. لقد غفر لكم الأب في السماء حتى قبل أن تفكروا في أن تسألوه, لكن مثل هذه المغفرة ليست متوفرة في تجربتكم الدِينية الشخصية حتى ذلك الوقت عندما تغفرون لزملائكم الناس. إن مسامحة الله في الحقيقة ليست مشروطة بتسامحكم مع زملائكم, ولكن في التجربة يكون ذلك مشروطًاً تماماً. وهكذا تم الاعتراف بحقيقة التزامن بين الغفران الإلَهي والبشري وربطه معاً في الصلاة التي علـَّمها يسوع لرُسله.
146:2.5 (1638.5) 4. هناك قانون أساسي للعدالة في الكون لا تستطيع الرحمة التحايل عليه. أمجاد الفردوس اللا-أنانية لا يمكن أن يستقبلها مخلوق أناني تماماً من عوالم الزمان والفضاء. حتى محبة الله اللانهائية لا تستطيع فرض خلاص البقاء الأبدي على أي مخلوق بشري لا يختار البقاء. تتمتع الرحمة بمدى كبير من الإغداق, لكن, بعد كل شيء, هناك تفويضات للعدالة التي حتى المحبة المقترنة بالرحمة لا يمكن أن تلغيها بشكل فعال. مرة أخرى اقتبس يسوع من الكتابات المقدسة العبرية: "لقد دعوت ورفضتم أن تسمعوا؛ مددت يدي, لكن لم يأبه أحد. لقد اعتبرتم كل مشورتي لا شيء, ورفضتم توبيخي, وبسبب هذا التصرف المتمرد أصبح من المحتم أن تدعونني وتفشلون في الحصول على إجابة. حيث إنكم قد رفضتم طريق الحياة, قد تبحثون عني بجد في أوقات معاناتكم, لكنكم لن تجدوني."
146:2.6 (1639.1) 5. على من يودون استلام الرحمة أن يُظهروا رحمة؛ لا تدينوا لكي لا تدانوا. بالروح الذي تحكمون به على الآخرين ستُحاكمون أنتم أيضاً. الرحمة لا تلغي إنصاف الكون بالكامل. في النهاية سوف يُثبَت أنه صحيح: من يقفل أذنيه عن سماع صرخة الفقير, هو أيضاً سيصرخ يوماً ما طلباً للمساعدة, ولن يسمعه أحد." إن صدق أي صلاة هو ضمان سماعها؛ الحكمة الروحية وتماسك الكون لأي التماس هو الذي يحدد زمان, وأسلوب, ودرجة الإجابة. الأب الحكيم لا يستجيب حرفياً للصلاة الحمقاء لأبنائه الجهلاء وعديمي الخبرة, ولو إن الأولاد قد يستمدون الكثير من المسرة ورضى النفـْس الحقيقي من تقديم مثل هذه الالتماسات السخيفة.
146:2.7 (1639.2) 6. عندما تصبح مكرساً بالكامل لفعل مشيئة الأب في السماء, سيكون الجواب لكل التماساتك آتٍ لأن صلواتك ستكون متوافقة تماماً مع مشيئة الأب, ومشيئة الأب دائماً تظهر في كل أنحاء كونه الشاسع. ما يرغبه الابن الحقيقي ويشاؤه الأب اللانهائي يكون. لا يمكن أن تبقى مثل هذه الصلاة بلا إجابة, ولا نوع آخر من الالتماس يمكن أن يكون مستجاب بشكل كامل.
146:2.8 (1639.3) 7. صرخة البار هي فعل الإيمان لطفل الله الذي يفتح باب مخزن الأب من الخير, والحق, والرحمة, وهذه العطايا الصالحة كانت طويلاً في الانتظار من أجل اقتراب الابن والامتلاك الشخصي. الصلاة لا تغَّير الموقف الإلَهي تجاه الإنسان, لكنها تغَّير موقف الإنسان تجاه الأب الذي لا يتغير. الدافع وراء الصلاة يعطيها حق الوصول إلى الأذن الإلَهية, وليس الوضع الاجتماعي, أو الاقتصادي, أو الوضع الدِيني الظاهري لمن يُصَّلي.
146:2.9 (1639.4) 8. لا يجوز توظيف الصلاة لتحاشي مؤخرات الزمن أو لتجاوز معوقات الفضاء. ليست الصلاة مصممة كأسلوب لتعظيم الذات أو لاكتساب ميزة غير عادلة على زملاء المرء. النفـْس الأنانية تماماً لا يمكنها أن تصلي بالمعنى الحقيقي للكلمة. قال يسوع: "ليكن ابتهاجك السامي في سجية الله, وسيعطيك بالتأكيد رغبات قلبك الصادقة." "سَّلم طريقك للرب؛ ثق به, وسوف يعمل." "لأن الرب يسمع صرخة المحتاج, وسيلتفت إلى صلاة البائس."
146:2.10 (1639.5) 9. "لقد أتيت من الأب؛ لذلك, إذا, كنتم أبداً في شك بشأن ما ستطلبون الأب, فاسألوا باسمي, وسأقدم التماسكم وفقاً لاحتياجاتك ورغباتكم الحقيقية ووفقاً لمشيئة أبي." "احترسوا من الخطر الكبير المتمثل في أن تصبحوا مركزين-على الذات في صلواتكم. تجنبوا الصلاة كثيراً من أجل أنفسكم؛ صَّلوا أكثر من أجل التقدم الروحي لإخوانكم. تجنبوا الصلاة المادية؛ صَّلوا في الروح ومن أجل فيض عطايا الروح.
146:2.11 (1639.6) 10. عندما تصَّلون من أجل المرضى والمنكوبين, لا تتوقعوا أن تحل التماساتكم محل الإسعاف المحب والذكي لضروريات هؤلاء المنكوبين. صَّلوا من أجل رفاهية عائلاتكم, وأصدقائكم, وزملائكم, لكن خاصة صَّلوا من أجل أولئك الذين يلعنونكم, وقدموا التماسات مُحبة لأولئك الذين يضطهدونكم. "لكن متى تصَّلون, لن أقول. فقط الروح الذي يسكن داخلكم سيدفعكم لنطق تلك الالتماسات التي تعبر عن علاقتكم الداخلية بأب الأرواح."
146:2.12 (1640.1) 11. يلجأ الكثيرون للصلاة فقط عندما يكونون في مأزق. مثل هذه الممارسة هي عديمة التفكير ومُضلة. صحيح, أنك تفعل حسناً بأن تصَّلى عندما تتعرض للمضايقة, لكن يجب أيضًا أن تكون حريصاً على التحدث كابن إلى أبيك حتى عندما تسير كل الأمور على ما يرام مع نفـْسك. دع التماساتك الحقيقية تكون دائماً في السِر. لا تدع الناس يسمعون صلواتك الشخصية. صلوات الحمد لائقة لجماعات العابدين, لكن صلاة النفـْس هي أمر شخصي. هناك شكل واحد فقط من الصلاة ملائم لجميع أبناء الله, وهو: "مع ذلك, مشيئتك سوف تتم."
146:2.13 (1640.2) 12. يجب على جميع المؤمنين بهذا الإنجيل أن يصَّلوا بإخلاص من أجل توسيع ملكوت السماء. من بين جميع صلوات الكتابات المقدسة العبرية عَّلَق بأكثر القبول على التماس صاحب المزمور: "أُخلق فيَ قلباً نقياً, يا الله, وجدد روحاً مستقيماً في داخلي, طهرني من الخطايا السِرية واحفظ خادمك من التعديات الفاضحة." عَلق يسوع باستفاضة على علاقة الصلاة بالكلام اللامبالي والمسيء, مقتبساً: "ضع حارساً, يا رب, أمام فمي؛ احفظ باب شفتاي." قال يسوع, "اللسان البشري," "عضو يقدر عدد قليل من الناس على ترويضه, لكن الروح في الداخل يمكن أن يحول هذا العضو الصعب المراس إلى صوت لطيف من التسامح ومُسعف مُلهم للرحمة."
146:2.14 (1640.3) 13. علـَّم يسوع بأن الصلاة من أجل الإرشاد الإلَهي على مسار الحياة الأرضية هي التالية من حيث الأهمية إلى الالتماس لمعرفة مشيئة الأب. في الواقع هذا يعني صلاة من أجل الحكمة الإلَهية. لم يعَّلِم يسوع أبداً بأن المعرفة البشرية والمهارة الخاصة يمكن اكتسابها من خلال الصلاة. لكنه علـَّم بأن الصلاة هي عامل في زيادة استطاعة المرء لاستلام حضور الروح الإلَهي. عندما علـَّم يسوع زملاءه أن يصَّلوا في الروح والحق, أوضح بأنه أشار إلى الصلاة بإخلاص ووفقاً لاستنارة المرء, للصلاة من كل القلب وبذكاء, وإخلاص, وثبات.
146:2.15 (1640.4) 14. حذر يسوع أتباعه من التفكير في أن صلواتهم ستُجعل أكثر فاعلية من خلال التكرار المزخرف, والعبارات البليغة, والصوم, والتكفير عن الذنب, أو التضحيات. لكنه حث مؤمنيه على توظيف الصلاة كوسيلة تؤدي من خلال الحمد إلى العبادة الحقة. أسف يسوع لأنه لم يكن هناك سوى القليل جداً من روح الشكر في صلوات وعبادة أتباعه. لقد اقتبس من الكتابات المقدسة في هذه المناسبة, قائلاً: "إنه لأمر حسن شكر الرب وغناء التسبيحات إلى اسم الأعلى, للإقرار بحنوه المُحب كل صباح وإخلاصه كل ليلة, لأن الله قد جعلني مبتهجاً من خلال عمله. في كل شيء سأعطي شكراً وفقاً لمشيئة الله."
146:2.16 (1640.5) 15. وبعدئذٍ قال يسوع: "لا تكونوا دائماً قلقين حول حاجاتكم العادية. لا تكونوا ذوي خوف بشأن مشاكل وجودكم الأرضي, لكن في كل هذه الأمور, بالصلاة والدعاء, وبروح الشكر الصادق, دعوا حاجاتكم تنبسط أمام أباكم الذي في السماء." ثم اقتبس من الكتابات المقدسة: "سأحمد اسم الله بترنيمة وأعظمه بشكر. وهذا سيرضي الرب أفضل من تضحية ثور أو عجل بقرون وحوافر."
146:2.17 (1641.1) 16. علـَّم يسوع أتباعه أنه, عندما يكونون قد قاموا بصلواتهم إلى الأب, ينبغي أن يبقوا لوقت في استلام صامت لمنح الروح الساكن فرصة أفضل للتحدث إلى النفـْس المستمعة. يتكلم روح الأب بشكل أفضل إلى الإنسان عندما يكون العقل البشري في موقف عبادة حقة. نحن نعبد الله بمساعدة روح الأب الساكن وباستنارة العقل البشري من خلال إسعاف الحق. علـَّم يسوع, أن العبادة, تجعل المرء بشكل متزايد مثل الكائن المعبود. العبادة هي تجربة تحويلية التي بها يقترب المتناهي تدريجياً من الحضور اللانهائي ويناله في النهاية.
146:2.18 (1641.2) وحقائق أخرى كثيرة أخبرها يسوع لرُسله عن مشاركة الإنسان مع الله, لكن لم يستطع الكثير منهم اكتناف تعليمه بالكامل.
146:3.1 (1641.3) كان لدى يسوع عند الرامه مناقشة لا تُنسى مع فيلسوف إغريقي متقدم في العمر الذي علـَّم بأن العِلم والفلسفة كانا كافيين لتلبية احتياجات التجربة البشرية. استمع يسوع بصبر وتعاطف إلى هذا المعلم اليوناني, سامحاً بحقيقة العديد من الأشياء التي قالها لكنه أشار إلى أنه, عندما انتهى, فشل في مناقشته عن الوجود البشري في شرح "من أين, ولماذا, وإلى أين," وأضاف: "من حيث تترك, نحن نبدأ, الدِين هو وحي لنفـْس الإنسان يتعامل مع الحقائق الروحية التي لا يمكن للعقل وحده أبداً اكتشافها أو سبر غورها بالكامل. قد تكشف الاجتهادات الفكرية وقائع الحياة, لكن إنجيل الملكوت ينشر حقائق الوجود. لقد ناقشت الظلال المادية للحقيقة؛ هل تستمع الآن بينما أخبرك عن الحقائق الأبدية والروحية التي تلقي هذه الظلال الزمنية العابرة على الحقائق المادية للوجود الفاني؟" لأكثر من ساعة علـَّم يسوع هذا اليوناني الحقائق المُخَّلِصة لإنجيل الملكوت. كان الفيلسوف الشيخ سريع التأثر بنهج السيد, ولأنه مخلص بصدق في القلب, آمن سريعاً بإنجيل الخلاص هذا.
146:3.2 (1641.4) كان الرُسل مرتبكين بعض الشيء من الأسلوب المفتوح لموافقة يسوع على العديد من افتراضات اليوناني, لكن يسوع قال لهم فيما بعد على انفراد: "يا أولادي, لا تتعجبوا من أنني كنت متسامحاً مع فلسفة اليوناني. اليقين الداخلي الحقيقي والأصلي لا يخشى بأي حال من الأحوال التحليل الظاهري, كما أن الحقيقة لا تستاء من النقد الصادق. يجب ألا تنسوا أبداً بأن عدم التسامح هو القناع الذي يغطي إضمار الشكوك السرية حول صدق إيمان المرء. لا أحد ينزعج في أي وقت من موقف جاره عندما تكون لديه ثقة تامة في صدق ما يؤمن به بكل إخلاص. الشجاعة هي ثقة الصدق التام حول تلك الأشياء التي يقر المرء أنه يؤمن بها. الناس الصادقون لا يخافون من الفحص الناقد لقناعاتهم الحقيقية ومُثلهم النبيلة."
146:3.3 (1641.5) في المساء الثاني عند الرامه, سأل توما يسوع هذا السؤال: "يا سيد, كيف يستطيع مؤمن جديد بتعليمك أن يعرف حقاً, أن يكون متأكداً حقاً, من حقيقة إنجيل الملكوت هذا؟"
146:3.4 (1641.6) وقال يسوع لتوما: "تأكدكم بأنكم قد دخلتم إلى عائلة ملكوت الأب, وبأنكم ستنجون إلى الأبد مع أبناء الملكوت, هو كلياً مسألة تجربة شخصية ــ إيمان بكلمة الحق. التأكد الروحي هو المعادل لتجربتك الدِينية الشخصية في الحقائق الأبدية للحق الإلَهي وسوى ذلك مساوي لتفهمك الذكي لحقائق الحق بالإضافة إلى إيمانك الروحي دون شكوكك الصادقة.
146:3.5 (1642.1) "الابن ممنوح بشكل طبيعي بحياة الأب. حيث إنكم مُنحتم بروح الأب الحية, فأنتم لذلك أبناء الله. أنتم تنجون من حياتكم في العالَم المادي في الجسد لأنكم مُتعرَف عليكم مع روح الأب الحي, هِبة الحياة الأبدية. كثيرون, في الواقع, كانت لديهم هذه الحياة قبل أن آتي من الأب, وقد استلم كثيرون هذا الروح لأنهم آمنوا بكلمتي؛ لكنني أعلن بأنه عندما أعود إلى الأب, سيُرسل روحه إلى قلوب كل الناس.
146:3.6 (1642.2) "بينما لا يمكنكم ملاحظة الروح الإلَهي عند العمل في عقولكم, هناك طريقة عملية لاكتشاف الدرجة التي أخضعتم إليها التحَّكم بقدرات أنفـْسكم لتعليم وإرشاد هذا الروح الساكن من الأب السماوي, وتلك هي درجة محبتكم لزملائكم الناس. هذا الروح من الأب يشارك في محبة الأب, وعندما يهيمن على الإنسان, فإنه يقود بلا كلل في اتجاهات العبادة الإلَهية والاعتبار المُحب لزملاء المرء. في البداية أنتم تؤمنون بأنكم أبناء الله لأن تعليمي جعلكم أكثر وعياً بالقيادات الداخلية لحضور أبينا الساكن؛ لكن في الوقت الحالي سوف يُسكب روح الحق على كل جسد, وسيعيش بين الناس ويعَّلِم كل الناس, حتى كما أعيش الآن بينكم واكلمكم بكلمات الحق. وروح الحق هذا, متكلم عن الهبات الروحية لنفوسكم, سيساعدكم لتعرفوا بأنكم أبناء الله. سيشهد بلا كلل مع حضور الأب الساكن, روحكم, الساكنة عند ذاك في كل الناس كما تسكن الآن بعضهم, تخبركم بأنكم في الواقع أبناء الله.
146:3.7 (1642.3) "كل طفل على الأرض يتبع قيادة هذا الروح سيعرف بالنتيجة مشيئة الله, ومن يخضع لمشيئة أبي سيبقى إلى الأبد. إن الطريق من الحياة الأرضية إلى الحالة الأبدية لم يتم توضيحها لكم, لكن هناك طريق, دائماً قد كانت, ولقد جئت لأجعل هذه الطريق جديدة وحية. الذي يدخل الملكوت لديه حياة أبدية بالفعل ــ لن يفنى أبداً. لكن الكثير من هذا ستفهمونه بشكل أفضل عندما أعود إلى الأب وتكونون قادرين على رؤية تجاربكم الحالية بأثر رجعي."
146:3.8 (1642.4) وكل الذين سمعوا هذه الكلمات المباركة كانوا متهللين كثيراً. كانت التعاليم اليهودية مُشوشة وغير مؤكدة فيما يتعلق بنجاة الصالحين, ولقد كان من المنعش والملهم لأتباع يسوع أن يسمعوا هذه الكلمات المحددة والإيجابية للغاية حول ضمان البقاء الأبدي لجميع المؤمنين الصادقين.
146:3.9 (1642.5) استمر الرُسل في وعظ المؤمنين وتعميدهم, بينما استمروا في ممارسة الزيارة من منزل إلى آخر, يؤاسون منكسري الخاطر ويسعفون إلى المرضى والمنكوبين. تم توسيع التنظيم الرسولي بحيث أصبح لكل واحد من رسل يسوع الآن واحد من رُسل يوحنا كمرافق؛ كان أبنير مرافقاً لأندراوس؛ وسادت هذه الخطة حتى نزلوا إلى أورشليم من أجل الفصح التالي.
146:3.10 (1642.6) كان الإرشاد الخاص المعطى بيسوع أثناء مكوثهم في زبولون يتعلق بشكل أساسي بالمناقشات الإضافية حول الالتزامات المتبادلة للملكوت وضَّم تعليم مصمم لتوضيح الفروق بين التجربة الدِينية الشخصية وصداقات الالتزامات الدِينية الاجتماعية. كانت هذه واحدة من المرات القليلة التي ناقش فيها السيد الجوانب الاجتماعية للدين. طوال حياته الأرضية أعطى يسوع أتباعه القليل من التعليمات بخصوص التنشئة الاجتماعية للدين.
146:3.11 (1643.1) كان الناس في زبولون من أعراق مختلطة, بالكاد يهود أو أمميين, وقلة منهم آمنوا حقاً بيسوع, بالرغم من أنهم كانوا قد سمعوا عن شفاء المرضى في كفرناحوم.
146:4.1 (1643.2) عند أيرون, كما هو الحال في العديد من المدن الأصغر في الجليل ويهودا, كان هناك كنِيس, وأثناء الأوقات المبكرة لإسعاف يسوع كان من عادته أن يتكلم في هذه المجامع في يوم السبت. في بعض الأحيان كان يتكلم في الخدمة الصباحية, وكان بطرس أو واحد الرُسل الآخرين يعظ في ساعة بعد الظهر. كان يسوع والرُسل أيضاً غالباً ما يعَّلمون ويعظون في تجمعات أمسيات أيام الأسبوع في الكنِيس. مع أن القادة الدِينيين في أورشليم أصبحوا مُعادين بشكل متزايد تجاه يسوع, إلا أنهم لم يمارسوا أي سيطرة مباشرة على الكنائس خارج تلك المدينة. لم يكن حتى وقت لاحق في إسعاف يسوع العلني حتى تمكنوا من خلق مثل هذا الشعور الواسع النطاق ضده لإحداث الإغلاق شبه الشامل لكنائس تعليمه. في هذا الوقت كانت كل كنائس الجليل ويهودا مفتوحة له.
146:4.2 (1643.3) كانت أيرون موقع المناجم المعدنية واسعة النطاق لتلك الأيام, وبما أن يسوع لم يكن قد شارك أبداً في حياة عمال المناجم, فقد قضى معظم وقته, أثناء إقامته في أيرون, في المناجم. بينما زار الرُسل المنازل ووعظوا في الأماكن العامة, عمل يسوع في المناجم مع هؤلاء العمال تحت الأرض. كانت شهرة يسوع كشافي قد انتشرت حتى إلى هذه القرية النائية, وسعى كثيرون من المرضى والمصابين للحصول على المساعدة على يديه, وقد استفاد الكثيرون منهم بشكل كبير من إسعافه الشافي. لكن ولا في أي من هذه الحالات لم يقم السيد بأداء ما يسمى بمعجزة الشفاء إلا في حالة تلك للأبرص.
146:4.3 (1643.4) في وقت متأخر بعد ظهر اليوم الثالث في أيرون, بينما كان يسوع عائداً من المناجم, صادف أن يمر عبر شارع جانبي ضيق في طريقه إلى مكان إقامته. حينما اقترب من كوخ قذر لرَجل أبرص معيَّن, كان المصاب قد سمع بشهرته كشافي, تجرأ ليبادره بالكلام بينما مر ببابه قائلاً وهو يركع أمامه: "يا رب, إذا شئت فقط, يمكنك أن تجعلني طاهراً. لقد سمعت رسالة معلميك وأود أن أدخل الملكوت إذا أمكن جعلي طاهراً. وتكلم الأبرص بهذه الطريقة لأن البُرص بين اليهود كانوا ممنوعين حتى من حضور الكنِيس أو بطريقة أخرى ممارسة العبادة العامة. هذا الرجل آمن حقاً بأنه لا يمكن استلامه في الملكوت الآتي ما لم يجد شفاءً لبرصه. وعندما رآه يسوع في محنته وسمع كلماته من الإيمان المتشبث, مُس قلبه البشري, وكان العقل الإلَهي مُحركاً بالعطف. بينما نظر يسوع إليه, سقط الرجل على وجهه وسجد. عند ذاك مد السيد يده, ولامساً إياه, قال: "سوف--أكون طاهراً." وفي الحال شُفي؛ لم يعد يعاني من البرص.
146:4.4 (1643.5) عندما رفع يسوع الرجل على قدميه, أوصاه: "أنظر بأنك لا تخبر أي إنسان عن شفائك بل اذهب بهدوء حول عملك, أُري نفسك للكاهن وقـَّدم تلك التضحيات التي أمر بها موسى في شهادة على تطهيرك." لكن هذا الرَجل لم يفعل كما أمره يسوع. بدلاً من ذلك, بدأ ينشر في الخارج في كل أنحاء البلدة بأن يسوع قد شفى برصه, وحيث أنه كان معروفاً لدى كل القرية, كان بإمكان الناس أن يروا بوضوح بأنه قد تم تطُهيره من مرضه. لم يذهب إلى الكهنة كما نصحه يسوع. نتيجة لنشره الأخبار في الخارج بأن يسوع شفاه, كان السيد مُزدَحماً بالمرضى لدرجة أنه اضطر إلى النهوض في وقت مبكر من اليوم التالي ومغادرة القرية. مع أن يسوع لم يدخل البلدة مرة أخرى, فقد مكث يومين في الضواحي بالقرب من المناجم, يستمر في إرشاد عمال المناجم المؤمنين أكثر فيما يتعلق بإنجيل الملكوت.
146:4.5 (1644.1) كان هذا التطهير للأبرص أول ما يسمى بالمعجزة التي قام بها يسوع عمداً وبتدبير حتى هذا الوقت. وكانت هذه حالة من الجذام الحقيقي.
146:4.6 (1644.2) من أيرون ذهبوا إلى غيشالا, أمضوا يومين يبشرون بالإنجيل, ورحلوا بعدها إلى خورازين, حيث أمضوا ما يقرب من أسبوع يعظون البشائر؛ لكنهم لم يتمكنوا من كسب الكثير من المؤمنين للملكوت في خورازين. ولا في أي مكان علـَّم فيه يسوع التقى بمثل هذا الرفض العام لرسالته. كان الحلول في خورازين مُحبطاً للغاية لمعظم الرُسل, وواجه أندراوس وأبنير صعوبة كبيرة في دعم شجاعة زملائهما. وهكذا, عابرين بهدوء خلال كفرناحوم, استمروا إلى قرية مادون, حيث نجحوا أفضل بقليل. هناك ساد في أذهان معظم الرُسل فكرة أن فشلهم في تحقيق النجاح في هذه المدن التي زاروها مؤخراً كان نتيجة لإصرار يسوع بأن يمتنعوا, في تعليمهم ووعظهم, عن الإشارة إليه كشافي. كم تمنوا لو يطهر أبرصاً آخر أو بأسلوب آخر يُظهر قدرته بحيث يجذب انتباه الناس! لكن السيد لم يتأثرَ بإلحاحهم الجاد.
146:5.1 (1644.3) كانت الفرقة الرسولية متهللة كثيراً عندما أعلن يسوع, "غداً نذهب إلى قانا." عرفوا بأنه سيكون لديهم سماع متعاطف في قانا, لأن يسوع كان معروفاً جيداً هناك. كانوا يقومون بعملهم بشكل جيد في جلب الناس إلى الملكوت عندما, على اليوم الثالث, وصل إلى قانا مواطن بارز من كفرناحوم, تيطس, الذي كان مؤمناً جزئياً, والذي كان ابنه حالة صحية حرجة. سمع تيطس بأن يسوع في قانا؛ فأسرع لرؤيته. اعتقد المؤمنون في كفرناحوم بأن يسوع يستطيع أن يشفي أي مرض.
146:5.2 (1644.4) عندما وجد هذا الإنسان الشريف يسوع في قانا, طلب منه أن يسرع إلى كفرناحوم ويشفي ابنه العليل, بينما وقف الرُسل في توقع لاهث, يسوع, ناظراً إلى أب الصبي المريض, قال: إلى متى سأتحمل معكم؟ إن قدرة الله في وسطكم, لكن ما لم تشاهدوا علامات وتروا عجائب ترفضون أن تؤمنوا. لكن الرَجل الشريف توسل إلى يسوع, قائلاً: "يا ربي, أنا أؤمن, لكن تعال كي لا يهلك طفلي, لأني عندما تركته كان حينها على وشك الموت." وعندما أحنى يسوع رأسه لحظة في تأمل صامت, قال فجأة, "عُد إلى منزلك؛ ابنك سيعيش." آمن تيطس بكلمة يسوع وأسرع راجعاً إلى كفرناحوم. وبينما كان عائداً, خرج خدامه لملاقاته, قائلين, "تهلل, لأن ابنك تحَّسن ــ إنه حي." عند ذاك استفسر تيطس منهم عن الساعة التي بدأ فيها الصبي في التعافي, وعندما أجاب الخدم "بالأمس حوالي الساعة السابعة تركته الحُمى," تذكر الأب بأنه كان حوالي تلك الساعة عندما قال يسوع, "ابنك سيعيش." وآمن تيطس منذ ذلك الوقت بكل قلبه, وكل عائلته آمنت كذلك. أصبح هذا الابن مسعفاً قديراً للملكوت وفيما بعد أعطى حياته مع الذين تعذبوا في روما. مع أن أهل بيت تيطس بأكمله, وأصدقائهم, وحتى الرُسل اعتبروا هذه الحادثة بمثابة معجزة, إلا أنها لم تكن كذلك. على الأقل لم تكن هذه معجزة شفاء مرض جسدي. لقد كانت مجرد حالة معرفة مسبقة فيما يتعلق بمسار القانون الطبيعي, بالضبط مثل هذه المعرفة كالتي لجأ يسوع إليها تكراراً بعد معموديته.
146:5.3 (1645.1) مرة أخرى اضطر يسوع إلى الإسراع بعيداً عن قانا بسبب الاهتمام الذي لا داعي له الذي جذبته الحادثة الثانية من هذا النوع لتلازم إسعافه في هذه القرية. تذكّر سكان البلدة الماء والنبيذ, والآن بعد أن كان من المفترَض أنه قد شفى ابن الرَجل النبيل عند مثل هذه المسافة البعيدة جداً, جاءوا إليه, ليس فقط جالبين المرضى والمصابين بل أيضاً باعثين مرسلين يطلبون بأن يشفي المصابين عن بُعد. وعندما رأى يسوع بأن كل الريف كان مُثاراً, قال, "لنذهب إلى ناعين."
146:6.1 (1645.2) هؤلاء الناس آمنوا بالعلامات؛ كانوا جيلاً يبحث عن العجائب. بحلول هذا الوقت كان سكان الجليل الأوسط والجنوبي قد أصبحوا عجائبيي العقلية بما يخص يسوع وإسعافه الشخصي. عشرات, ومئات من الأشخاص الصادقين الذين يعانون من اضطرابات عصبية بحتة والمصابين باضطرابات عاطفية جاءوا إلى حضرة يسوع ثم عادوا إلى منازلهم معلنين لأصدقائهم بأن يسوع قد شفاهم. ومثل هذه الحالات من الشفاء العقلي, اعتبرها هؤلاء الناس الجهلاء وذوي التفكير البسيط شفاءً فيزيائياً, شفاءات عجائبية.
146:6.2 (1645.3) عندما سعى يسوع إلى مغادرة قانا والذهاب إلى ناعين, تبع في أثره حشد كبير من المؤمنين والكثير من الناس الفضوليين. كانوا مصممين على رؤية المعجزات والعجائب, ولم يكن أملهم ليخيب. عندما اقترب يسوع ورُسله من بوابة المدينة, التقوا بموكب جنائزي في طريقه إلى المقبرة القريبة, حاملين الابن الوحيد لأُم أرملة من ناعين. كانت هذه المرأة تحظى باحترام كبير, وتبع نصف القرية حاملي نعش هذا الصبي الذي يفترض أنه ميت. عندما وصل الموكب الجنائزي إلى يسوع وأتباعه, تعَّرفت الأرملة وأصدقاؤها على السيد وطلبوا منه إعادة الابن إلى الحياة. لقد أثار توقعهم المعجزة إلى درجة عالية من الاعتقاد بأن يسوع يستطيع أن يشفي أي مرض بشري, ولماذا لا يقدر مثل هذا المعالج حتى على إقامة الموتى؟ يسوع, بينما تحت مثل هذا الإلحاح, خطى إلى الأمام, ورافع غطاء النعش, فحص الصبي. مكتشفاً بأن الشاب لم يكن في الحقيقة ميت, أحس بالمأساة التي يمكن لحضوره أن يمنعها؛ وهكذا ملتفت نحو الأُم, قال: "لا تبكي. ابنك ليس ميتاً؛ إنه نائم. سيُعاد إليكِ." ثم, آخذاً الشاب باليد, قال, "استيقظ وانهض." والشاب الذي كان من المُفترض أن يكون ميتاً جلس في الحاضر وبدأ يتكلم, وأعادهم يسوع إلى منازلهم.
146:6.3 (1645.4) سعى يسوع لتهدئة الجموع وعبثاً حاول أن يشرح بأن الغلام لم يكن في الحقيقة ميتاً, بأنه لم يعيده من القبر, لكن دون جدوى. كان الجمهور الذي تبعه, وكل قرية ناعين, مثارين إلى أعلى درجة من الهياج العاطفي. استولى الخوف على الكثيرين, والهلع آخرين, بينما سقط آخرون ليصَّلوا وينوحوا على خطاياهم. ولم يكن حتى بعد حلول الظلام بوقت طويل عندما أمكن تشتيت الجموع الصاخبة. وبالطبع, بالرغم من تصريح يسوع بأن الصبي لم يكن ميتاً؛ أصَّر كل واحد بأن معجزة قد صُنعت, حتى الميت أُقيم. مع أن يسوع أخبرهم أن الصبي كان فقط في نوم عميق, إلا أنهم فـَّسروا ذلك بأنه كان أسلوب حديثه ولفت الانتباه إلى واقع أنه دائماً في تواضع عظيم حاول إخفاء معجزاته.
146:6.4 (1646.1) هكذا انتشرت الكلمة في جميع أنحاء الجليل ونحو يهودا بأن يسوع أقام ابن الأرملة من الموت, والكثير ممن سمعوا هذا التقرير صدقوه. لم يكن يسوع قادراً أبداً على جعل كل رُسله يفهمون تماماً بأن ابن الأرملة لم يكن في الحقيقة ميتاً عندما أمره أن يستيقظ وينهض. لكنه أثـَّر عليهم بما فيه الكفاية لإبقائه خارج جميع السجلات اللاحقة باستثناء سجل لوقا, الذي سجله كقصة استطرادية سُردت له. ومرة أخرى كان يسوع مُحاصَراً كطبيب بحيث رحل في وقت مبكر من اليوم التالي إلى عندور.
146:7.1 (1646.2) تهرب يسوع في عندور لبضعة أيام من الجموع الصاخبة في طلب الشفاء الجسدي. خلال إقامتهم في هذا المكان روى السيد من أجل إرشاد الرُسل قصة الملك شاول وساحرة عندور. أخبر يسوع رُسله بوضوح بأن منتصفي الطريق الضالين والمتمردين الذين انتحلوا في كثير من الأحيان شخصية الأرواح المزعومة للموتى سيُحضرون قريباً تحت السيطرة بحيث لا يعود بإمكانهم القيام بهذه الأشياء الغريبة. أخبر أتباعه أنه, بعد عودته إلى الأب, وبعد أن يسكبا روحهما على كل جسد, لن يعود بمقدور هذه الكائنات شبه الروحية ــ المدعوة بالأرواح النجسة ــ امتلاك ضعفاء العقل والأشرار بين البشر.
146:7.2 (1646.3) أوضح يسوع إضافياً لرُسله بأن أرواح البشر الراحلين لا تعود إلى عالَم أصلها للتواصل مع زملائها الأحياء. فقط بعد انقضاء عصر افتقاد إلَهي سيكون من الممكن للروح المتقدمة للإنسان الفاني الرجوع إلى الأرض وعند ذاك فقط في حالات استثنائية وكجزء من الإسعاف الروحي للكوكب.
146:7.3 (1646.4) عندما استراحوا يومين, قال يسوع لرُسله: "يوم الغد دعونا نعود إلى كفرناحوم للتمهل والتعليم بينما يهدأ الريف. في البلد سيكونون بحلول هذا الوقت قد تعافوا جزئياً من هذا النوع من الإثارة."
كِتاب يورانشيا
ورقة 147
147:0.1 (1647.1) وصل يسوع والرُسل إلى كفرناحوم يوم الأربعاء, 17 آذار, وأمضوا أسبوعين في مقر بيت-صيدا قبل مغادرتهم إلى أورشليم. في هذين الأسبوعين، علـَّم الرُسل الناس بجانب البحر بينما أمضى يسوع الكثير من الوقت وحده في التلال حول شغل أبيه. أثناء هذه الفترة، قام يسوع، برفقة يعقوب ويوحنا زَبـِدي، بزيارتين سريتين إلى طبريا حيث التقوا بالمؤمنين وأرشدوهم في إنجيل الملكوت.
147:0.2 (1647.2) آمن كثيرون من أهل بيت هيرودس بيسوع وحضروا هذه الاجتماعات. لقد كان تأثير هؤلاء المؤمنين في عائلة هيرودس الرسمية ما ساعد لتقليل عداوة ذلك الحاكم تجاه يسوع. لقد أوضح هؤلاء المؤمنون في طبريا تماماً لهيرودس أن "الملكوت" الذي أعلنه يسوع كان روحانياً في الطبيعة وليس مشروعاً سياسياً. صدَّق هيرودس نوعاً ما هؤلاء الأعضاء من أهل بيته ولذلك لم يسمح لنفسه أن يصبح قلقاً دون مبرر بسبب التقارير المنتشرة في الخارج المتعلقة بتعاليم يسوع وشفائه. لم يكن لديه اعتراضات على عمل يسوع كشافي أو كمعَّلم ديني. بالرغم من الموقف الإيجابي للعديد من مستشاري هيرودس, وحتى لهيرودس نفسه, كان هناك جماعة من أتباعه الذين تأثروا إلى حد كبير بالقادة الدينيين في أورشليم لدرجة أنهم ظلوا ألد أعداء يسوع والرُسل ومهددين لهم, وفيما بعد, فعلوا الكثير لعرقلة نشاطاتهم العامة. كمِن الخطر الأكبر ليسوع في زعماء أورشليم الدينيين وليس في هيرودس. وكان لهذا السبب بالذات بأن أمضى يسوع والرُسل الكثير من الوقت وقاموا بمعظم وعظهم العلني في الجليل بدلاً من أورشليم ويهودا.
147:1.1 (1647.3) في اليوم السابق لاستعدادهم للذهاب إلى أورشليم من أجل عيد الفصح، جاء مانغوس، قائد مائة، أو قبطان الحرس الروماني المتمركز في كفرناحوم، إلى حكام الكنيس قائلاً: "خادمي الموكل الأمين مريض وعلى وشك الموت. لذلك، هل تذهبون نيابة عني إلى يسوع وتلتمسون منه أن يشفي خادمي؟" فعل القبطان الروماني هذا لأنه اعتقد بأن قادة اليهود سيكون لديهم نفوذ أكبر مع يسوع. هكذا، ذهب الشيوخ لرؤية يسوع وقال المتحدث باسمهم: "يا معلم، نطلب منك بجدية أن تذهب إلى كفرناحوم وتنقذ الخادم المفضل لدى قائد المائة الروماني، الذي يستحق انتباهك لأنه يحب أمتنا وحتى بنى لنا الكنيس ذاته الذي تكلمت فيه مرات عديدة."
147:1.2 (1647.4) وعندما سمعهم يسوع، قال: "سأذهب معكم." وبينما ذهب معهم إلى منزل قائد المئة، وقبل أن يدخلوا فناء داره، أرسل الجندي الروماني أصدقائه خارجاً لتحية يسوع، مرشداً إياهم ليقولوا: "يا رب، لا تزعج نفسك في دخول منزلي، لأني لست مستحقاً بأنك تأتي تحت سقفي، ولا أعتقد نفسي مستحقاً للمجيء إليك؛ لأجل ذلك أرسلت شيوخ شعبك. لكنني أعلم بأنك تقدر أن تتكلم الكلمة حيث تقف وسيشفى خادمي. لأني أنا نفسي بناء على أوامر آخرين، ولدي جنود تحت إمرتي، وأقول لهذا أن يذهب، فيذهب؛ وإلى آخر أن يأتي، فيأتي، وإلى خدمي ليفعلوا هذا أو ليفعلوا ذاك، وهم يفعلون ذلك."
147:1.3 (1648.1) وعندما سمع يسوع هذه الكلمات، التفت وقال لرسله وأولئك الذين كانوا معهم: "أتعجب من إيمان هذا الأممي. الحق، الحق، أقول لكم، لم أجد إيمان عظيم هكذا، لا، ليس في إسرائيل." قال يسوع، وهو يتحول عن المنزل: "لنذهب من هنا." وذهب أصدقاء قائد المئة نحو المنزل وأخبروا مانغوس بما قاله يسوع. ومن تلك الساعة، بدأ الخادم بالتعافي, وبالنتيجة استعاد صحته ومنفعته الطبيعية.
147:1.4 (1648.2) لكننا لم نعرف أبداً ما حدث في هذه المناسبة. ببساطة، هذا هو السجل، وبالنسبة لما إذا كائنات غير مرئية أسعفت أو لم تسعف بالشفاء إلى خادم قائد المئة، لم يُكشف لأولئك الذين رافقوا يسوع. نحن نعلم فقط عن حقيقة الشفاء التام للخادم.
147:2.1 (1648.3) في وقت مبكر من صباح الثلاثاء, 30 آذار، بدأ يسوع والزمرة الرسولية رحلتهم إلى أورشليم من أجل الفصح، عبر طريق وادي الأردن. وصلوا بعد ظهر يوم الجمعة, 2 نيسان, وأسسوا مقارهم, كالعادة, في بيت-عنيا. أثناء مرورهم عبر أريحا، توقفوا للراحة بينما قام يوداص بإيداع بعض أموالهم المشتركة في مصرف صديق لعائلته. كانت هذه المرة الأولى التي يحمل فيها يوداص فائضاً من المال، وهذه الوديعة بقيت دون استعمال حتى عبروا مرة أخرى خلال أريحا عندما كانوا في تلك الرحلة الأخيرة والزاخرة بالأحداث إلى أورشليم، بالضبط قبل محاكمة وموت يسوع.
147:2.2 (1648.4) قامت الزمرة برحلة هادئة إلى أورشليم، لكنهم بالكاد استقروا في بيت-عنيا عندما من قريب ومن بعيد بدأ يتجمع أولئك الذين يسعون للشفاء من أجل أجسامهم, والراحة من أجل عقولهم المضطربة, والخلاص من أجل نفوسهم، كثيراً بحيث كان لدى يسوع القليل من الوقت للراحة. لذلك نصبوا الخيام في الجثسِماني، وكان السيد يتنقل ذهاباً وإياباً من بيت-عنيا إلى الجثسِماني لتجنب الجماهير الذين احتشدوا حوله على الدوام. أمضت الزمرة الرسولية ما يقرب من ثلاثة أسابيع في أورشليم، لكن يسوع أوصاهم بعدم القيام بالوعظ العلني. فقط التعليم الخاص والعمل الشخصي.
147:2.3 (1648.5) في بيت-عنيا احتفلوا بهدوء بعيد الفصح. وكانت هذه المرة الأولى التي يتناول فيها يسوع وكل الاثنا عشر وليمة فصح بدون دم. لم يأكل رُسل يوحنا الفصح مع يسوع ورسله؛ احتفلوا بالعيد مع أبنير والعديد من المؤمنين الأوائل في وعظ يوحنا. كان هذا الفصح الثاني الذي راعاه يسوع مع رسله في أورشليم.
147:2.4 (1648.6) عندما رحل يسوع والاثنا عشر إلى كفرناحوم، لم يرجع رُسل يوحنا معهم. بقوا تحت إشراف أبنير في أورشليم وما حولها, يعملون بهدوء من أجل بسط الملكوت، بينما عاد يسوع والاثنا عشر إلى العمل في الجليل. ولم يجتمع الأربعة والعشرون مرة أخرى معاً حتى وقت قصير قبل تفويض وإرسال المبشرين السبعين. لكن المجموعتين كانتا متعاونتين، وبالرغم من الإختلافات في وجهات النظر بينهم، سادت أفضل المشاعر.
147:3.1 (1649.1) بعد ظهر السبت الثاني في أورشليم، بينما كان السيد والرُسل على وشك المشاركة في خدمات الهيكل، قال يوحنا ليسوع: "تعال معي، سأريك شيئاً." قاد يوحنا يسوع خارجاً خلال إحدى أبواب أورشليم إلى بركة ماء تُدعى بيثصدا. كان يحيط بهذه البركة بناء من خمس سقيفات تحتها جماعة كبيرة من المعذَبين انتظروا في طلب الشفاء. كان هذا نبع حار، كانت مياهه الحمراء اللون تنتج فقاقيع على فترات غير منتظمة بسبب تراكم الغاز في الكهوف الصخرية أسفل البركة. اعتقد الكثيرون أن هذا الاضطراب الدوري للمياه الدافئة ناتج عن تأثيرات خارقة للطبيعة، وكان هناك اعتقاد شائع بأن الشخص الأول الذي يدخل الماء بعد مثل هذا الاضطراب سيُشفى من أي مرض يعاني منه.
147:3.2 (1649.2) كان الرُسل قلقين إلى حد ما في ظل القيود التي فرضها يسوع، ويوحنا، أصغر الاثني عشر، كان مضطرباً بشكل خاص في ظل هذه القيود. جلب يوحنا يسوع إلى البْركة معتقداً أن مشهد المتألمين المجتمعين سوف يُناشد شفقة السيد بحيث سيكون محرَكاً لأداء معجزة شفاء، وبذلك ستكون كل أورشليم مذهولة ويتم كسبها حالياً للإيمان بإنجيل الملكوت، قال يوحنا ليسوع: "يا سيد، أنظر كل هؤلاء المتألمين؛ أليس هناك شيء يمكننا أن نفعله من أجلهم؟" فأجابه يسوع: "يوحنا، لماذا تجربني للتحول عن الطريق التي اخترتها؟ لماذا تستمر في الرغبة بإستبدال عمل العجائب وشفاء المرضى من أجل إعلان إنجيل الحق الأبدي؟ يا بني، قد لا أفعل ما ترغبه، لكن اجمع معاً هؤلاء المرضى والبائسين لأتحدث إليهم بكلمات ابتهاج ومؤاساة أبدية."
147:3.3 (1649.3) في التكلم إلى أولئك المتجمعين، قال يسوع: "كثيرون منكم هنا، مرضى ومصابون, بسبب سنوات كثيرة من العيش الخاطئ. البعض يعانون من حوادث الزمان، والبعض الآخر نتيجة لأخطاء سابقيهم، في حين أن بعضكم يناضلون في ظل معوقات الظروف غير المثالية لوجودكم الدنيوي. لكن أبي يعمل، وأنا سأعمل لتحسين حالتكم الأرضية لكن أكثر بالأخص لضمان حالتكم الأبدية. لا أحد منا يستطيع أن يفعل الكثير لتغيير صعوبات الحياة ما لم نكتشف أن الأب في السماء هكذا يشاء. بعد كل شيء، نحن جميعاً مدينون لفعل مشيئة الأبدي. إذا أُمكن شفاءكم جميعًا من ألامكم الجسدية، فستتعجبون حقًا، لكن حتى أعظم من ذلك أنكم تتطهرون من كل الأمراض الروحية وتجدون أنفسكم قد شفيتم من جميع العيوب الأخلاقية. أنتم جميعاً أولاد الله؛ أنتم أبناء الأب السماوي. قيود الزمن قد تبدو لتصيبكم، لكن إله الأبدية يحبكم. وعندما سيأتي وقت القضاء، لا تخافوا، كلكم ستجدون، ليس العدل فحسب، بل وفرة من الرحمة. الحق، الحق، أقول لكم: مَن يسمع إنجيل الملكوت ويؤمن بهذا التعليم عن بنوة مع الله، له الحياة الأبدية؛ بالفعل هكذا مؤمنون قد عبروا من الدينونة والموت إلى النور والحياة. والساعة آتية حيث يسمع فيها حتى الذين في القبور صوت القيامة."
147:3.4 (1649.4) وكثير ممن سمعوا آمنوا بإنجيل الملكوت. بعض من المصابين كانوا مُلهَمين للغاية ومنتعشين روحياً لدرجة أنهم ذهبوا يعلنون بأنهم قد شفوا أيضًا من أمراضهم الجسدية.
147:3.5 (1649.5) أحد الرجال الذي كان محبطًا لسنوات عديدة ومبتلى بشدة بأمراض عقله المضطرب، تهلل لكلمات يسوع، وحاملاً فراشه انطلق إلى بيته، على الرغم من أنه كان يوم السبت. هذا الرجل البائس كان قد انتظر كل هذه السنوات ليساعده أحد؛ كان ضحية الشعور بعجزه الخاص بحيث لم يسبق له أن فكر مطلقاً بمساعدة نفسه الذي ثبت أنه الشيء الوحيد الذي كان عليه أن يفعله من أجل إحداث الشفاء - حمل فراشه والمشي.
147:3.6 (1650.1) ثم قال يسوع ليوحنا: "لنرحل قبل أن ياتي علينا رؤساء الكهنة والكتبة ويحسبونها إساءة لأننا قلنا كلمات الحياة لهؤلاء المنكوبين." ورجعا إلى الهيكل لينضما إلى رفاقهما، وفي الوقت الحالي رحلوا جميعًا لقضاء الليلة في بيت-عنيا. لكن يوحنا لم يُخبر الرُسل الآخرين عن هذه الزيارة التي قام بها مع يسوع إلى بركة بيثصدا على عصر هذا السبت.
147:4.1 (1650.2) على مساء هذا السبت ذاته، في بيت-عنيا، بينما كان يسوع والاثنا عشر وجماعة من المؤمنين مجتمعين حول النار في حديقة لِعازر، سأل نثانئيل يسوع هذا السؤال: "يا سيد، ولو أنك علـَّمتنا النسخة الإيجابية من قانون الحياة القديم، موصياً إيانا بأننا يجب أن نفعل للآخرين كما نرغب أن يفعلوا لنا، فأنا لا أفهم تماماً كيف يمكننا الالتزام دائماً بهكذا إيعاز. دعني أصور جَدلي من خلال الاستشهاد بمثال رَجل شهواني ينظر بإثم على مشاركته المقصودة للخطيئة. كيف يمكننا أن نُعلم بأن هذا الرجل ذا المقصد الشرير يجب أن يفعل للآخرين ما يود هو أن يفعلوا إليه؟"
147:4.2 (1650.3) عندما سمع يسوع سؤال نثانئيل، وقف في الحال على قدميه، ومشيراً بإصبعه إلى الرسول، قال: "نثانئيل، نثانئيل! أي أسلوب من التفكير يجري في قلبك؟ ألَّم تستلم تعليمي كواحد وُلد من الروح؟ ألا تسمع الحق كرجال الحكمة والفهم الروحي؟ عندما نصحتكم أن تفعلوا للآخرين ما تودون أن يفعلوا لكم، أنا تكلمت عن أناس ذوي مُثل عليا، ليس لأولئك الذين قد يُغرون لتشويه تعليمي إلى رخصة للتشجيع على فعل الشر."
147:4.3 (1650.4) عندما تكلم السيد، وقف نثانئيل وقال: "لكن، يا سيد، لا ينبغي أن تعتقد أنني أوافق على مثل هذا التفسير لتعليمك. لقد طرحت السؤال لأنني توقعت أن العديد من هؤلاء الرجال قد يسيئون بالتالي الحكم على تحذيرك، وكنت آمل أن تعطينا المزيد من التعليمات بشأن هذه الأمور." وبعد ذلك عندما جلس نثانئيل، تابع يسوع الحديث: "أعلم جيداً يا نثانئيل بأن تلك الفكرة من الشر ليس موافق عليها في عقلك، لكني أشعر بخيبة أمل لأنكم تفشلون في كثير من الأحيان في وضع تفسير روحي حقيقي على تعاليمي العامة، الإرشاد الذي يجب أن يُعطى لكم بلغة بشرية، وكما يجب أن يتكلم الناس. دعني الآن أعلمكم بما يخص المستويات المختلفة للمعنى المرتبط بتفسير قاعدة الحياة هذه، هذه النصيحة بأن ’تفعل إلى الآخرين ما ترغب أن يفعله الآخرون لك‘:
147:4.4 (1650.5) "1. مستوى الجسد. مثل هذا التفسير الأناني المحض والشهواني سيكون ممثلاً جيداً من خلال افتراض سؤالك.
147:4.5 (1650.6) "2. مستوى المشاعر. هذا المستوى هو مستوى واحد أعلى من ذلك للجسد ويدل ضمناً على أن التعاطف والشفقة سيُعززان تفسير المرء لقاعدة الحياة هذه.
147:4.6 (1650.7) "3. مستوى العقل. الآن يدخل حيز التنفيذ منطق العقل وذكاء الخبرة. الحكم الجيد يُملي بأن مثل هذا القانون للحياة يجب أن يفسر بما يتماشى مع أعلى المُثل المُجَّسَدة في نُبل احترام الذات العميق.
147:4.7 (1651.1) "4. مستوى المحبة الأخوية. لا يزال يتم اكتشاف مستوى أعلى من التكريس اللا-أناني لرفاهية زملاء المرء. على هذا المستوى الأعلى من الخدمة الاجتماعية الصادقة النامية من وعي أبوة الله وما يترتب على ذلك من اعتراف بأخوة الإنسان، هناك يُكتشف تفسير جديد وأجمل بكثير لهذه القاعدة الأساسية للحياة.
147:4.8 (1651.2) "5. المستوى الأخلاقي. وبعد ذلك عندما تصل إلى المستويات الفلسفية الحقيقية للتفسير، عندما يكون لديك بصيرة حقيقية في صواب وخطأ الأشياء، عندما تدرك اللياقة الأبدية للعلاقات الإنسانية، ستبدأ في النظر إلى مثل هذه المشكلة للتفسير كما قد تتخيل أن شخصاً ثالثاَ ذا عقلية عالية، ومثالي وحكيم، وغير متحيز سيرى ويفـَّسر مثل هذا الإيعاز كما يطبق إلى مشاكلك الشخصية في التكيف مع مواقف حياتك.
147:4.9 (1651.3) "6. المستوى الروحي. ثم أخيراً، لكن الأعظم من الكل، ننال مستوى البصيرة الروحية والتفسير الروحي الذي يدفعنا للتعرف في قاعدة الحياة هذه على الوصية الإلهية لمعاملة جميع الناس كما نتصور أن الله سيعاملهم. ذلك هو المثال الكوني للعلاقات البشرية. وهذا هو موقفك من كل مثل هذه المشاكل عندما تكون رغبتك العليا أبداً هي أن تفعل مشيئة الأب. لذلك أود, بأنك يجب أن تفعل إلى كل الناس ما تعرف بأني سأفعله إليهم في ظروف مماثلة."
147:4.10 (1651.4) لا شيء قاله يسوع للرُسل حتى هذا الوقت كان أكثر دهشة لهم من أي وقت مضى. استمروا في مناقشة كلمات السيد لفترة طويلة بعد تقاعده. في حين كان نثانئيل بطيئاً في التعافي من افتراضه بأن يسوع قد أساء فهم روح سؤاله، كان الآخرون أكثر من ممتنين لأن زميلهم الرسول الفلسفي كان لديه الشجاعة لطرح مثل هذا السؤال المثير للتفكير.
147:5.1 (1651.5) مع أن سمعان لم يكن عضواً في السنهدرين اليهودي، إلا أنه كان فريسياً نافذاً في أورشليم. كان مؤمناً بقلب فاتر، وبالرغم من أنه قد يتعرض لانتقادات شديدة لذلك، فقد تجرأ على دعوة يسوع وزملائه الشخصيين, بطرس ويعقوب ويوحنا, إلى منزله لتناول وجبة اجتماعية. كان سمعان قد لاحظ السيد منذ فترة طويلة وكان متأثراً جداً بتعاليمه وحتى أكثر بشخصيته.
147:5.2 (1651.6) كان الفريسيون الأثرياء مكرسين لإعطاء الصدقات، ولم يتجنبوا الدعاية فيما يتعلق بأعمالهم الخيرية. في بعض الأحيان كانوا ينفخون بالبوق عندما على وشك أن يغدقوا صدقة على متسول ما. كانت عادة هؤلاء الفريسيين، عندما أقاموا وليمة لضيوف متميزين، أن يتركوا أبواب المنزل مفتوحة بحيث يتسنى حتى للمتسولين الدخول، وواقفين حول جدران الغرفة وراء أرائك الآكلين، يكونون في موقع يمكنهم من تلقي حصص من الطعام التي قد تُلقى إليهم بالمحتفلين.
147:5.3 (1651.7) في هذا المناسبة بالذات في منزل سمعان، كان من بين أولئك الذين أتوا من الشارع امرأة سيئة السمعة كانت قد أصبحت مؤخراً مؤمنة ببشارة إنجيل الملكوت. اشتهرت هذه المرأة جيداً في كل أنحاء أورشليم بأنها الحافظة السابقة لأحد ما يسمى بيوت الدعارة من الدرجة العالية الواقعة بالقرب من رواق الأمميين. عند قبول تعاليم يسوع، أغلقت مكان عملها الشنيع وحضت غالبية النساء المرتبطات بها على قبول الإنجيل وتغيير طريقة معيشتهن؛ بالرغم من هذا، كانت لا تزال تُعتبر بازدراء كبير من قِبل الفريسيين وكانت ملزمة ان تدع شعرها مُسبلاً ــ شارة الزنى. هذه المرأة غير المسماة أحضرت معها قارورة كبيرة من غسول الدهن المعطر، وواقفة وراء يسوع عندما انحنى لأكل الطعام، بدأت في مسح قدميه بينما كذلك بللت قدميه بدموع امتنانها، تمسحهم بشعر رأسها. وعندما انتهت من هذا المسح استمرت في البكاء وتقبيل قدميه.
147:5.4 (1652.1) عندما رأى سمعان كل هذا، قال لنفسه: "هذا الرجل, إذا كان نبياً، سيشعر مَن وأي نوع من النساء التي تلمسه؛ بأنها خاطئة سيئة السمعة. ويسوع، عارف بما كان يدور في عقل سمعان، تكلم قائلاً: "سمعان، لدي شيء أود أن أقوله لك." أجاب سمعان، "يا معَّلم, تفضل قل." عندئذٍ قال يسوع: "دائن أموال ثري له مدينان. الأول مدين له بخمس مائة دينار والآخر بخمسين. الآن، عندما لم يكن لدى أي منهما ما يدفعه، سامح الدائنَين كِلاهما. من منهما تعتقد، يا سمعان، سيحبه أكثر؟" أجاب سمعان, "على ما أظن، الذي سامحه أكثر." وقال يسوع, "لقد حكمت بحق." ومشيراً إلى المرأة، تابع: "سمعان، ألق نظرة فاحصة على هذه المرأة، أنا دخلت منزلك كضيف مدعو، ومع ذلك لم تعطني ماء من أجل قدماي. هذه المرأة الممتنة غسلت قدمي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. أنت لم تعطيني قبلة الترحيب الودي، لكن هذه المرأة، منذ أن دخلت، لم تتوقف عن تقبيل قدماي. أنت أهملت مسح رأسي بالزيت، لكنها دهنت قدماي بمسوح ثمينة. وما معنى كل هذا؟ ببساطة أن خطاياها الكثيرة قد غُفرت، وهذا دفعها لمحبة كثيرة. لكن أولئك الذين نالوا القليل من المغفرة، أحياناً لا يحبون سوى القليل."والتفت نحو المرأة، أخذها باليد، ورفعها، قائلاً: "لقد تُبتِ حقاً عن خطاياكِ، وقد غُفرت. لا تثبطي عزمكِ بموقف زملائكِ العديم الشفقة والتفكير؛ انطلقي في فرح وحرية ملكوت السماء."
147:5.5 (1652.2) عندما سمع سمعان وأصدقاؤه الجالسين معه عند الطعام هذه الكلمات كانوا أكثر ذهولاً، وبدأوا يتهامسون فيما بينهم، "من هذا الإنسان الذي يجرؤ حتى على أن يغفر الخطايا؟" وعندما سمعهم يسوع يتمتمون هكذا، التفت ليصرف المرأة، قائلاً: "يا امرأة، اذهبي في سلام؛ إيمانك خلصكِ."
147:5.6 (1652.3) بينما نهض يسوع مع أصدقائه للمغادرة، التفت إلى سمعان وقال: "أعرف قلبك، يا سمعان، كيف أنت ممزق بين الإيمان والشكوك، كيف أنت مضطرب بالخوف ومنزعج بالكبرياء؛ لكنني أصَّلي من أجلك بأنك قد تستسلم للنور وتختبر في محطتك في الحياة بالضبط مثل هذه التحولات العظيمة للعقل والروح كما يمكن مقارنتها بالتغييرات الهائلة التي أحدثها إنجيل الملكوت بالفعل في قلب ضيفتك غير المدعوة وغير المرحب بها. وأعلن لكم جميعاً بأن الأب قد فتح أبواب الملكوت السماوي لجميع الذين لديهم الإيمان للدخول، ولا يمكن لأي إنسان، أو زمرة من الناس أن يغلقوا هذه الأبواب حتى أمام النفـْس الأكثر تواضعاً أو الخاطئ الذي يُفترض أنه الأكثر فحشاً على الأرض إذا سعى هؤلاء بإخلاص إلى الدخول." وترك يسوع، مع بطرس ويعقوب ويوحنا، مضيفهم وذهبوا للالتحاق بباقي الرُسل عند المخيم في حديقة الجثسيماني.
147:5.7 (1653.1) ذلك المساء ذاته، ألقى يسوع الخطاب الذي سيذكر طويلاً للرُسل بشأن القيمة النسبية للمكانة مع الله والتقدم في الارتقاء الأبدي إلى الفردوس. قال يسوع: "يا أولادي، إذا كان هناك علاقة حقيقية وحية بين الطفل والأب، فمن المؤكد أن الطفل سيتقدم باستمرار نحو المثل العليا للأب. صحيح، قد يحرز الطفل في البداية تقدماً بطيئاً، لكن التقدم على كل حال أكيد. الشيء المهم ليس سرعة تقدمك بل بالأحرى يقينه. إن إنجازك الفعلي ليس مهماً بقدر أهمية اتجاه تقدمك نحو الله. ما تصبح عليه يوماً بعد يوم هو أكثر أهمية بلا حدود مما أنت عليه اليوم.
147:5.8 (1653.2) "هذه المرأة المتغيرة التي رآها البعض منكم في منزل سمعان اليوم هي, في هذه اللحظة، تعيش على مستوى أدنى بكثير من مستوى سمعان ورفاقه ذوي النوايا الحسنة؛ لكن في حين أن هؤلاء الفريسيون مشغولون بالتقدم الزائف لوهم عبور الدوائر الخادعة من الخدمات الاحتفالية التي لا معنى لها، هذه المرأة، في همة كلية، بدأت على البحث الطويل والحافل بالأحداث عن الله، وطريقها نحو السماء لا يعوقه الفخر الروحي والرضا الذاتي الأخلاقي. المرأة، متكلمون من الناحيلة الإنسانية, هي أبعد بكثير عن الله من سمعان، لكن نفـْسها في حركة تقدمية؛ إنها في طريقها نحو الهدف الأبدي. يوجد في هذه المرأة إمكانيات روحية هائلة من أجل المستقبل. قد لا يقف البعض منكم عالياً في المستويات الفعلية للنفـْس والروح، لكنكم تحققون تقدماً يومياً في الطريق الحي الذي انفتح، من خلال الإيمان، إلى الله. هناك إمكانيات هائلة في كل واحد منكم من أجل المستقبل. من الأفضل ببُعد أن يكون لديكم إيمان صغير إنما حي ومتنامي من أن تكونوا مالِكي ذكاء عظيم مع مخازنه الميتة من الحكمة الدنيوية وعدم الإيمان الروحي."
147:5.9 (1653.3) لكن يسوع حذر رُسله بجدية من حماقة طفل الله الذي يفترض أن يستغل محبة الأب. لقد أعلَن بأن الأب السماوي ليس أباً متراخياً أو متغاضياً أو منغمس بحماقة دائماً مستعد للتسامح مع الخطيئة ومغفرة الطيش. حذرَ سامعيه ألا يخطئوا في تطبيق تصويراته عن الأب والابن بحيث يجعلوها تبدو بأن الله هو مثل بعض الآباء المتساهلين بإفراط وغير الحكيمين الذين يتآمرون مع حمقى الأرض لكي يحتووا التراجع الأخلاقي لأطفالهم الطائشين، والذين بهذا يساهمون بالتأكيد وبشكل مباشر في الجنوح والانحلال الأخلاقي الباكر لخلفهم. قال يسوع: "أبي لا يتغاضى عن تصرفات وممارسات أولاده المدمرة للذات، والانتحارية لكل نمو أخلاقي وتقدم روحي. مثل هذه الممارسات الخاطئة هي رجس في نظر الله."
147:5.10 (1653.4) حضر يسوع العديد من اللقاءات والمآدب الأخرى شبه الرسمية مع العالي والمنخفض، الغني والفقير، في أورشليم قبل أن يرحل هو ورسله أخيراً إلى كفرناحوم. وبالفعل, الكثيرون، أصبحوا مؤمنين بإنجيل الملكوت ولاحقاً عٌمدوا بواسطة أبنير وزملائه، الذين تخلفوا هناك لرعاية مصالح الملكوت في أورشليم وما حولها.
147:6.1 (1653.5) في الأسبوع الأخير من نيسان، رحلَ يسوع والاثنا عشر من مقرهم في بيت-عنيا بالقرب من أورشليم، وبدأوا رحلتهم عائدين إلى كفرناحوم عن طريق أريحا والأردن.
147:6.2 (1654.1) عقد رؤساء الكهنة والقادة الدينيون لليهود العديد من الاجتماعات السرية بهدف تقرير ما يجب فعله مع يسوع. اتفقوا جميعاً على أنه ينبغي القيام بشيء ما لوضع حد لتعليمه، لكنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على الطريقة. كانوا يأملون في أن تتخلص منه السلطات المدنية مثلما وضع هيرودس نهاية ليوحنا، لكنهم اكتشفوا بأن يسوع كان يدير عمله بحيث أن الرسميين الرومان لم ينزعجوا كثيراً من وعظه. بناء على ذلك، في اجتماع عُقد في اليوم السابق لرحيل يسوع إلى كفرناحوم، تقرر أنه يجب أن يُلقى القبض عليه بتهمة دِينية وأن يحاكمه السنهدرين. لذلك تم تعيين لجنة من ستة جواسيس سريين لتتبع يسوع لمراقبة أقواله وأفعاله، وعندما يجَّمعون أدلة كافية على انتهاك القانون والتجديف، أن يرجعوا إلى أورشليم بتقريرهم. هؤلاء اليهود الستة لحقوا بالزمرة الرسولية, التي بلغ عددها حوالي ثلاثين، في أريحا، وتحت ذريعة الرغبة في أن يصبحوا تلاميذ، التحقوا بعائلة أتباع يسوع، باقون مع الجماعة حتى وقت بداية جولة الوعظ الثانية في الجليل؛ عندها عاد ثلاثة منهم إلى أورشليم لتقديم تقريرهم إلى رؤساء الكهنة والسنهدرين.
147:6.3 (1654.2) وعظ بطرس إلى الجموع المتجمعة عند معبر الأردن، وفي الصباح التالي صعدوا النهر نحو أماثوس. أرادوا التقدم مباشرة إلى كفرناحوم, لكن بسبب تلك الحشود المتجمعة هنا بقِوا ثلاثة أيام, يعظون, ويعَّلمون, ويعَّمدون. لم يتحركوا نحو بلدهم حتى وقت مبكر من صباح السبت، اليوم الأول من أيار. كان جواسيس أورشليم على يقين بأنهم سيؤمنون الآن أول تهمة لهم ضد يسوع ــ ذلك نقض السبت ــ حيث إنه كان قد افترض أن يبدأ رحلته على يوم السبت. لكن كان نصيبهم خيبة الأمل، لأنه قبل مغادرتهم مباشرة، دعا يسوع أندراوس إلى حضرته وأمامهم كلهم أمره بالمضي إلى مسافة ألف ذراع فقط، الرحلة الشرعية ليوم السبت اليهودي.
147:6.4 (1654.3) لكن لم يكن على الجواسيس أن ينتظروا طويلاً من أجل فرصتهم لاتهام يسوع وزملائه بنقض السبت. بينما مَرَت الفرقة على طول الطريق الضيق، كان القمح المتموج، الذي كان حينها ينضج للتو, قريباً في متناول اليد على كِلا الجانبين، وبعض من الرُسل، كونهم جائعين، قطفوا حبوب القمح الناضجة وأكلوها. كان من المعتاد أن يساعد المسافرون أنفسهم إلى القمح أثناء مرورهم إلى جانب الطريق، وبالتالي لم يتم ربط أي تفكير عن ارتكاب أي مخالفات لمثل هذا السلوك. لكن الجواسيس انتهزوا هذا كذريعة لمهاجمة يسوع. عندما رأوا أندراوس يفرك الحبوب في يده، ذهبوا إليه وقالوا: "ألا تعلم أنه من غير الشرعي قطف وفرك الحبوب في يوم السبت؟" فأجاب أندراوس: "لكننا جائعون وفركنا فقط ما يكفي لاحتياجاتنا؛ ومنذ متى أصبح أكل الحبوب في يوم السبت خطيئة؟" لكن الفريسيين أجابوا: "أنت لم تخطئ بالأكل، لكنك نقضت الشريعة في قطف وفرك الحبوب بين يديك؛ بالتأكيد سيدك لن يوافق على مثل هذه الأفعال." عندئذ قال أندراوس: "لكن إذا لم يكن من الخطأ أكل الحبوب، فمن المؤكد أن فركها بين أيدينا ليس أكثر عملاً من مضغ الحبوب، الذي تسمح به؛ فلماذا إذن تُماحك بشأن مثل هذه التفاهات؟" عندما ألمح أندراوس بأنهم مماحكون، كانوا حانقين، واندفعوا عائدين إلى حيث مشى يسوع، يتحدث إلى متـّى، احتجوا قائلين: "انظر يا معلم، رُسلك يفعلون ما هو غير شرعي في يوم السبت، يقطفون ويفركون ويأكلون الحبوب. نحن متأكدين بأنك ستأمرهم أن يتوقفوا." وعندئذ قال يسوع للمتهِمين: "أنتم حقاً غيورون على الشريعة, وتفعلون حسناً بأن تتذكروا يوم السبت لإبقائه مقدساً؛ أَّلم تقرأوا قط في الكتابات المقدسة بأنه، في أحد الأيام عندما كان داود جائعاً، دخل هو ومن كان معه منزل الله وأكلوا خبز التقدمة، الذي لا يحل أكله لأحد سوى الكهنة؟ وداود أعطى أيضاً هذا الخبز لأولئك الذين كانوا معه. وألم تقرأوا في شريعتنا بأنه يجوز فعل الكثير من الأمور الضرورية في يوم السبت؟ وهل لن أراكم قبل انتهاء النهار، تأكلون ما أحضرتموه معكم لحاجات هذا اليوم؟ يا رجالي الصالحين، من الجيد أن تكونوا غيورين من أجل السبت، لكن ستفعلون أفضل بالحفاظ على صحة وعافية زملائكم. أعلن بأن السبت قد جُعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت. وإذا كنتم هنا معنا لملاحظة كلماتي، عندئذ سأعلن علناً بأن ابن الإنسان هو سيد حتى على السبت."
147:6.5 (1655.1) كان الفريسيون مندهشين ومرتبكين من كلماته الفطنة والحكيمة. لبقية النهار بقوا وحدهم ولم يجرؤوا على طرح المزيد من الأسئلة.
147:6.6 (1655.2) كانت مناوأة يسوع للتقاليد اليهودية والطقوس الاستعبادية إيجابية دائماً. لقد تألفت مما فعله وما أكده. أمضى السيد القليل من الوقت في التنديدات السلبية. علـَّم أن أولئك الذين يعرفون الله يمكنهم التمتع بحرية العيش دون خداع أنفسهم بتراخيص الخطيئة. قال يسوع للرُسل: "أيها الرجال، إذا أنتم مستنيرين بالحق وتعرفون حقاً ماذا تفعلون، فأنتم مبارَكون؛ لكن إذا كنتم لا تعرفون الطريق الإلهي, فأنتم تُعساء الحظ ومخالفون للشريعة بالفعل."
147:7.1 (1655.3) كان حوالي ظهر يوم الاثنين, 3 أيار، عندما جاء يسوع والاثني عشر إلى بيت-صيدا على متن قارب من تاريشيا. سافروا بالقارب من أجل الهروب ممن سافروا معهم. لكن بحلول اليوم التالي كان الآخرون, بما فيهم الجواسيس الرسميون من أورشليم، قد وجدوا يسوع مرة أخرى.
147:7.2 (1655.4) في مساء الثلاثاء، كان يسوع يدير أحد صفوفه المعتادة من الأسئلة والأجوبة عندما قال له قائد الجواسيس الستة: "كنت اليوم أتحدث مع أحد تلاميذ يوحنا الذي هو هنا يحضر تعليمك، وكنا في حيرة لنفهم لماذا لا تأمر تلاميذك أبداً أن يصوموا ويصَّلوا كما نصوم نحن الفريسيين وكما أمر يوحنا أتباعه." ويسوع، مُشيراً إلى بيان يوحنا، أجاب هذا السائل: "هل يصوم أبناء العرس بينما العريس معهم؟ ما دام العريس باقياً معهم، بالكاد يمكنهم الصوم. لكن الوقت قد حان عندما سيؤخذ العريس منهم، وأثناء تلك الأوقات لا شك أن أولاد العرس سوف يصومون ويصلون. الصلاة أمر طبيعي لأبناء النور، لكن الصوم ليس جزءًا من إنجيل ملكوت السماء. تذكَّروا بأن الخياط الحكيم لا يرتق قطعة جديدة وغير متقلصة من القماش على ثوب عتيق، لئلا، تنكمش عندما تبتل وتنتج فتقاً أسوأ. ولا الناس يضعون نبيذاً جديداً في جلود النبيذ العتيقة، لئلا يمزق النبيذ الجديد الجلود بحيث يتلف كل من النبيذ والجلد. الرجل الحكيم يضع النبيذ الجديد في جلود نبيذ طازجة. لذلك يُظهر تلاميذي الحكمة في أنهم لا يجلبون الكثير من النظام القديم إلى التعاليم الجديدة لإنجيل الملكوت. أنتم الذين خسرتم معلِمكم قد يكون مبرراً لكم الصوم لبعض الوقت. قد يكون الصوم جزءًاً ملائماً من شريعة موسى، لكن في الملكوت الآتي سيختبر أبناء الله حرية من الخوف وفرح في الروح الإلهي." ولما سمعوا هذه الكلمات، كان تلاميذ يوحنا مؤاسين بينما كان الفريسيون أنفسهم أكثر حيرة.
147:7.3 (1656.1) ثم، شرع السيد في تحذير سامعيه من إضمار فكرة أن كل التعاليم القديمة يجب استبدالها بالكامل بمذاهب جديدة. قال يسوع: "ما هو قديم وكذلك صحيح يجب أن يبقى. بالمثل، ما هو جديد إنما زائف يجب رفضه. لكن ما هو جديد وصحيح أيضاً، ليكن لديكم الإيمان والشجاعة لقبوله. تذكَّروا أنه مكتوب: 'لا تهجر صديق قديم لأن الجديد لا يُضاهيه. كالنبيذ الجديد، هكذا الصديق الجديد؛ إذا أصبح عتيقاً، ستشربه بمسرة.ُ"
147:8.1 (1656.2) تلك الليلة, بعد فترة طويلة من تقاعد مستمعيه المعتادين، واصل يسوع تعليم رسله. بدأ هذا التعليم الخاص باقتباس من النبي إشعياء:
147:8.2 (1656.3) "لماذا صُّمتم؟ لأي سبب تبتلون نفوسكم بينما ما زلتم تجدون مسرة في الطغيان وتبتهجون بالظلم؟ انظروا، أنتم تصومون من أجل الفتنة والنزاع وللضرب بقبضة الإثم. لكنكم لن تصوموا بهذه الطريقة لتجعلوا أصواتكم تُسمع على العُلى.
147:8.3 (1656.4) هل هو صوم اخترتموه ــ يوم يبتلي فيه الإنسان نفسه؟ هل ليحني رأسه مثل قصب الماء، ليتذلل في خيش ورماد؟ أتجرؤون أن تدعو هذا صوماً ويوماً مقبولاً في نظر الرب؟ أليس هذا الصيام الذي ينبغي عليّ اختياره: لحل قيود الإثم، ولفك عقد الأعباء الثقيلة، لأحرر المظلوم، ولأكسر كل نير؟ أليس لأشارك خبزي مع الجياع وأجلب المشردين والفقراء إلى منزلي؟ وعندما أرى أولئك العراة، سأكسوهم.
147:8.4 (1656.5) "عندئذ سينبلج نوركم كالصباح بينما تنشط صحتكم بسرعة. سيسير بِركم أمامكم بينما سيكون مجد الرب حارسكم الخلفي. عندئذ ستدعون الرب، فيجيب؛ ستصرخون عالياً، ويقول ـ ها أنذا. وكل هذا سيفعله إذا امتنعتم عن الظلم والإدانة والباطل. الأب يرغب بدلاً من ذلك بأنكم تدنون بقلوبكم إلى الجياع، وبأنكم تسعفون إلى النفوس المنكوبة؛ عندئذ سيضيء نوركم في العتمة، وحتى ظلمتكم ستكون مثل الظهيرة. عندئذ سيرشدكم الرب باستمرار، مُرضياً نفوسكم ومجدداً قوَّتكم. ستصبحون مثل حديقة مروية، كنبع لا تنضب مياهه. والذين يفعلون هذه الأشياء سيستردون الأمجاد المبددة؛ سيقيمون الأسس لأجيال كثيرة؛ سوف يُدعون بنَّاؤو الجدران المحطَمة، مجَّددو الممرات الآمنة التي سيسكنون فيها."
147:8.5 (1656.6) ثم بعد ذلك بوقت طويل نحو الليل، بسط يسوع لرُسله حقيقة أن إيمانهم هو ما جعلهم آمنين في ملكوت الحاضر والمستقبل، وليس أذيتهم للنفـْس ولا صيام الجسد. حث الرُسل على الأقل على الالتزام بأفكار النبي القديم وأعرب عن الأمل بأنهم سيتقدمون أبعد بكثير حتى عن مُثل إشعياء والأنبياء الأقدم. كانت كلماته الأخيرة في تلك الليلة: "انموا في نعمة عن طريق ذلك الإيمان الحي الذي يدرك حقيقة أنكم أبناء الله بينما في ذات الوقت يتعرف على كل إنسان كأخ."
147:8.6 (1656.7) كانت بعد الساعة الثانية صباحاً عندما توقف يسوع عن الكلام وذهب كل رَجل إلى مكانه للنوم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 148
148:0.1 (1657.1) من 3 أيار إلى 3 تشرين الأول, عام 28 م., كان يسوع والفرقة الرسولية مقيمين في منزل زَبـِدي في بيت-صيدا. طوال فترة هذه الخمسة أشهر من موسم الجفاف, تم الُحفاَظ على مخيم ضخم بجانب البحر بالقرب من سكن زَبـِدي, الذي تم توسيعه بشكل كبير لاستيعاب عائلة يسوع المتنامية. هذا المخيم الساحلي, الذي يحتله مجموعة دائمة التغير من الباحثين عن الحقيقة, ومُرشحين للشفاء, ومكرَسين فضوليين, تراوح عددهم من خمسمائة إلى ألف وخمسمائة. كانت مدينة الخيام هذه تحت الإشراف العام لداود زَبـِدي, بمُساعدة التوأم الألفيوس. كان المخيم مِثالاً للنظام والنظافة وكذلك في إدارته العامة. تم فصل المرضى من أنواع مختلفة وكانوا تحت إشراف طبيب مؤمن, سوري, اسمه عِلمان.
148:0.2 (1657.2) طوال هذه الفترة كان الرُسل يذهبون لصيد السمك يوماً واحداً على الأقل في الأسبوع, بائعين صيدهم لداود من أجل الاستهلاك في المخيم بجانب البحر. كانت الأموال الواردة من هذا الصيد تحوَّل إلى خزينة الجماعة. سُمح للاثني عشر بقضاء أسبوع واحد من كل شهر مع عائلاتهم أو أصدقائهم.
148:0.3 (1657.3) بينما تابع أندراوس تولى مسئولية الأنشطة الرسولية بشكل عام, كان بطرس مسئولاً بالكامل عن مدرسة الإنجيليين. قام الرسل جميعًا بنصيبهم في تدريس مجموعات من الإنجيليين كل قبل ظـُهر, وقام كل من المدرسين والتلاميذ بتعليم الناس خلال فترة بعد الظهر. بعد العشاء, خمس ليالٍ في الأسبوع, أدار الرُسل حصص أسئلة لفائدة الإنجيليين. مرة واحدة في الأسبوع ترأس يسوع ساعة الأسئلة هذه, مجيبًا على الأسئلة المعلقة من الجلسات السابقة.
148:0.4 (1657.4) في خمسة أشهر جاء عدة آلاف وذهبوا في هذا المخيم. كان الأشخاص المهتمون من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية ومن الأراضي الواقعة شرق الفرات في حضور متكرر. كانت هذه أطول فترة مستقرة وحسنة التنظيم لتعاليم السيد. أمضت عائلة يسوع المباشرة معظم هذا الوقت إما في الناصرة أو قانا.
148:0.5 (1657.5) لم يكن المخيم يُدار كجماعة ذات مصالح مشتركة, كما كان الحال مع العائلة الرسولية. قام داود زَبـِدي بإدارة هذه المدينة الكبيرة من الخيام بحيث أصبحت مؤسسة مكتفية ذاتياً, بالرغم من أنه لم يتم إبعاد أي شخص على الإطلاق. كان هذا المخيم الدائم التغير سمة لا غنى عنها لمدرسة بطرس الإنجيلية للتدريب.
148:1.1 (1657.6) كان بطرس, ويعقوب, وأندراوس اللجنة المعينة من قِبل يسوع لتمرير المتقدمين للقبول في مدرسة الإنجيليين. كل الأجناس والقوميات من كل العالَم الروماني والشرق, لغاية الهند, كانوا ممثلين بين الطلاب في هذه المدرسة الجديدة للأنبياء. تمت إدارة هذه المدرسة على أساس خطة التعليم والعمل. ما تعلمه الطلاب خلال فترة الظهيرة قاموا بتدريسه للجموع بجانب البحر خلال فترة ما بعد الظهر. بعد العشاء ناقشوا بشكل غير رسمي كل من دراسة قبل الظُهر وتعليم العصر.
148:1.2 (1658.1) علـَّم كل من المعلمين الرُسل وجهة نظره الخاصة عن إنجيل الملكوت. لم يبذلوا أي جهد للتعليم تماماً على حد سواء؛ لم يكن هناك مقياس أو صياغة عقائدية موحدة للعقائد اللاهوتية. ولو أنهم جميعاً علـَّموا نفس الحقيقة, فقد قدَّمَ كل رسول تفسيره الشخصي لتعاليم السيد. وقد أيد يسوع هذا التقديم لتنوع الخبرة الشخصية في أمور الملكوت, يقوم بمواءمة وتنسيق هذه الآراء العديدة والمتباينة للإنجيل بلا كلل في ساعات الأسئلة الأسبوعية التي أدارها. بالرغم من هذه الدرجة الكبيرة من الحرية الشخصية في أمور التعليم, مال سمعان بطرس إلى السيطرة على لاهوت مدرسة الإنجيليين. تالياً إلى بطرس, مارس يعقوب زَبـِدي أعظم تأثير شخصي.
148:1.3 (1658.2) الإنجيليون المائة وأكثر الذين تم تدريبهم خلال هذه الأشهر الخمسة بجانب البحر مثـَّلوا المادة التي تم منها استقاء معلمي وواعظي الإنجيل السبعين (باستثناء أبنير ورُسل يوحنا) فيما بعد. لم يكن لدى مدرسة الإنجيليين كل شيء مشترك بنفس الدرجة مثلما فعل الاثنا عشر.
148:1.4 (1658.3) هؤلاء الإنجيليون, ولو أنهم علـَّموا ووعظوا الإنجيل, إلا أنهم لم يعَّمدوا المؤمنين حتى إلى بعد أن تم تعيينهم وتكليفهم من قبل يسوع بصفتهم الرسل السبعين للملكوت. فقط سبعة من العدد الكبير الذي شُفي في مشهد غروب الشمس في هذا المكان كانوا بين هؤلاء الطلاب الإنجيليين. كان ابن الرجل النبيل من كفرناحوم أحد أولئك الذين تدربوا من أجل خدمة الإنجيل في مدرسة بطرس.
148:2.1 (1658.4) فيما يتعلق بالمخيم إلى جانب البحر, عِلمان, الطبيب السوري, بمساعدة كتيبة من خمس وعشرين امرأة شابة واثني عشر رَجل, نظـَّم وأدار لأربعة أشهر ما ينبغي اعتباره أول مستشفى للملكوت. في هذا المستوصف, الواقع على مسافة قصيرة إلى الجنوب من مدينة الخيام الرئيسية, عالجوا المرضى وفقاً لكل الأساليب المادية المعروفة بالإضافة إلى الممارسات الروحية من الصلاة وتشجيع الإيمان. زار يسوع مرضى هذا المخيم ما لا يقل عن ثلاث مرات في الأسبوع وأجرى اتصالات شخصية مع كل مصاب. على حد علمنا, لم يحدث ما يسمى بمعجزات الشفاء الخارق بين الألف مصاب ومريض الذين خرجوا من هذا المستوصف متحسنين أو قد شفوا. مع ذلك, فإن الغالبية العظمى من هؤلاء الأفراد المنتفعين لم يتوقفوا عن إعلان أن يسوع قد شفاهم.
148:2.2 (1658.5) كثير من الشفاءات التي أجراها يسوع في علاقة مع إسعافه لمصلحة مرضى عِلمان, في الحقيقة, بدت لتشبه عمل المعجزات, لكننا تلقينا تعليمات بأنهم كانوا مجرد مثل هذه التحولات في العقل والروح كما قد يحدث في تجربة أشخاص متوقعين ومُسيطر عليهم بالإيمان الذين يخضعون للتأثير المباشر والملهم لشخصية قوية, وإيجابية, وحيوية التي يزيل إسعافها الخوف ويقضي على القلق.
148:2.3 (1658.6) سعى عِلمان وزملاؤه لتعليم الحقيقة لهؤلاء المرضى بما يخص "الامتلاك بأرواح شريرة", لكنهم لم يلقوا نجاحاً يذكر. كان الاعتقاد بأن المرض الجسدي والاضطراب العقلي يمكن أن ينجم عن سَكن ما يسمى بأرواح نجسة في عقل أو جسد الشخص المصاب تقريباً عالمي.
148:2.4 (1659.1) في كل اتصاله مع المرضى والمنكوبين, عندما يتعلق الأمر بأسلوب العلاج أو كشف الأسباب المجهولة للمرض, لم يهمل يسوع إرشادات أخيه الفردوسي, عمانوئيل, التي أعطيت له قبل أن يباشر على مغامرة التجسد اليورانشي. بالرغم من هذا, تعلم أولئك الذين خدموا المرضى العديد من الدروس المفيدة من خلال ملاحظة الطريقة التي ألهم بها يسوع إيمان وثقة المرضى والمعذبين.
148:2.5 (1659.2) تم تفكيك المخيم قبل وقت قصير من اقتراب فصل زيادة البرودة والحمى.
148:3.1 (1659.3) أدار يسوع طوال هذه الفترة خدمات عامة في المخيم أقل من اثنتي عشرة مرة وتكلم مرة واحدة فقط في كنِيس كفرناحوم, السبت الثاني قبل رحيلهم مع الإنجيليين المدربين حديثاً في جولة وعظهم العلنية الثانية في الجليل.
148:3.2 (1659.4) ليس منذ معموديته كان السيد كثيراً وحده بقدر ما كان خلال هذه الفترة من مخيم تدريب الإنجيليين في بيت-صيدا. كلما غامر أي من الرسل أن يسأل يسوع عن سبب تغيبه كثيراً عن وسطهم, كان يجيب دائماً بأنه كان "حول شغل الأب."
148:3.3 (1659.5) خلال فترات الغياب هذه, كان يسوع مُرافقاً باثنين فقط من الرُسل. كان قد أخلى بطرس, ويعقوب, ويوحنا مؤقتاً من مهمتهم كمرافقيه الشخصيين بحيث يمكنهم أيضًا المشاركة في عمل تدريب المرشحين الإنجيليين الجدد, الذين بلغ تعدادهم أكثر من مائة. عندما رغب السيد بالذهاب إلى التلال من أجل شغل الأب, كان يستدعي لمرافقته أي اثنين من الرُسل الذين قد يكونان متفرغين. بهذه الطريقة تمتع كل واحد من الاثني عشر بفرصة للارتباط الوثيق والاتصال الحميم مع يسوع.
148:3.4 (1659.6) لم يُكشف لأغراض هذا السجل, لكننا قُدنا للإستناج بأن السيد, خلال العديد من مواسم العزلة هذه في التلال, كان في ارتباط مباشر وتنفيذي مع العديد من موَّجهيه الرئيسيين لشؤون الكون. منذ حوالي وقت معموديته أصبح هذا السُلطان المتجسد لكوننا نشيطاً وواعياً بشكل متزايد في توجيه أطوار معينة من إدارة الكون. ولطالما تمسكنا بالرأي أنه, بطريقة ما لم يتم الكشف عنها لزملائه المباشرين, أثناء هذه الأسابيع من المشاركة المتناقصة في الشؤون الأرضية كان منخرطًا في توجيه تلك الذكاءات الروحية العليا الذين كلفوا بإدارة كون شاسع, وبأن يسوع الإنسان اختار أن يدل على مثل هذه الأنشطة من جانبه ككونها "حول شغل أبيه."
148:3.5 (1659.7) في كثير من الأحيان, عندما كان يسوع وحيداً لساعات, لكن عندما كان اثنان من رُسله قريبين, لاحظوا أن ملامحه تمر بتغيرات سريعة ومتعددة, على الرغم من أنهم لم يسمعوه يتكلم بكلمات. ولا هم لاحظوا أي تجلي مرئي لكائنات سماوية الذين ربما كانوا على تواصل مع سيدهم, كما شهد بعضهم في مناسبة لاحقة.
148:4.1 (1659.8) كانت عادة يسوع عند مَساءين من كل أسبوع أن يعقد حديثاً خاصاً مع أفراد رغبوا في التحدث معه, في زاوية معزولة ومحمية من حديقة زَبـِدي. في إحدى هذه المحادثات المسائية على انفراد سأل توما السيد هذا السؤال: "لماذا من الضروري للناس أن يولدوا من الروح من أجل أن يدخلوا الملكوت؟ هل إعادة الولادة ضرورية للهرب من سيطرة الشرير؟ يا سيد, ما هو الشر؟" عندما سمع يسوع هذه الأسئلة, قال لتوما:
148:4.2 (1660.1) "لا تخطئ في الخلط بين الشر والشرير, أكثر بالأصح الأثيم. الذي تدعوه الشرير هو ابن حب-الذات, المسؤول العالي الذي دخل عن علم في تمرد متعمد ضد حُكم أبي وأبنائه المخلصين. لكنني قد هزمت بالفعل هؤلاء المتمردين الخاطئين. ليكن واضحاً في عقلك هذه المواقف المختلفة تجاه الأب وكونه. لا تنس أبداً هذه القوانين المتعلقة بمشيئة الأب:
148:4.3 (1660.2) "الشر هو التعدي اللاواعي أو غير المقصود على القانون الإلَهي, مشيئة الأب. الشر هو بالمثل مقياس عدم الكمال في طاعة مشيئة الأب.
148:4.4 (1660.3) "الخطيئة هي التعدي الواعي, العارف, والمتعمد على القانون الإلَهي, مشيئة الأب. الخطيئة هي مقياس عدم الرغبة في أن تُقاد إلَهياً وتوَّجه روحياً.
148:4.5 (1660.4) "الإثم هو التعدي الإرادي, والمتعمد, والمستمر للقانون الإلَهي, مشيئة الأب. الإثم هو مقياس الرفض المستمر لخطة الأب المُحبة لبقاء الشخصية وإسعاف الابن الرحيم للخلاص.
148:4.6 (1660.5) "بحكم الطبيعة, قبل إعادة الولادة بالروح, يكون الإنسان الفاني خاضعاً لميول شريرة فطرية, لكن مثل هذه العيوب الطبيعية في السلوك ليست خطيئة ولا إثم. الإنسان الفاني يبدأ للتو ارتقاءه الطويل إلى كمال الأب في الفردوس. أن تكون غير مثالي أو جزئي في الهبة الطبيعية ليس خاطئاً. الإنسان حقاً قابل للشر, لكنه ليس بأي حال من الأحوال ابن الشر ما لم يكن قد اختار عن دراية وعمد طرق الخطيئة وحياة الأثم. الشر متأصل في النظام الطبيعي لهذا العالَم, لكن الخطيئة هي موقف من التمرد الواعي جلبه إلى هذا العالم أولئك الذين سقطوا من النور الروحي نحو الظلام الدامس.
148:4.7 (1660.6) "أنت مرتبك, يا توما, بمذاهب الإغريق وأخطاء الفـُرس. أنت لا تفهم علاقات الشر والخطيئة لأنك تنظر إلى الجنس البشري على أنه بادئ على الأرض مع آدم كامل وسريع الانحطاط, من خلال الخطيئة, إلى مكانة الإنسان المؤسفة الحالية. لكن لماذا ترفض فهم معنى السجل الذي يكشف كيف ذهب قايين, ابن آدم, إلى أرض نود وهناك حصل على زوجة لنفسه؟ ولماذا ترفض أن تُفسر معنى السجل الذي يصّور أبناء الله وهم يجدون زوجات لأنفسهم بين بنات الناس؟
148:4.8 (1660.7) "الناس, حقاً, بالطبيعة أشرار, لكن ليس بالضرورة خاطئين. الولادة الجديدة ــ معمودية الروح ــ لازمة للخلاص من الشر وضرورية للدخول إلى ملكوت السماء, لكن لا شيء من هذا ينتقص من حقيقة أن الإنسان هو ابن الله. ولا هذا الحضور المتأصل للشر المحتمل يعني بأن الإنسان بطريقة غامضة ما مُبعد عن الأب في السماء بحيث أنه, كأجنبي, أو غريب, أو ابن ربيب, يجب عليه أن يسعى بطريقة ما للتبني القانوني من قبل الأب. كل تلك المفاهيم تولد, أولاً, من سوء فهمكم للأب, وثانياً, من جهلكم بأصل, وطبيعة, ومصير الإنسان.
148:4.9 (1660.8) "لقد علـَّمك الإغريق وآخرون بأن الإنسان منحدر من كمال إلَهي بثبات نزولاً نحو النسيان أو الهلاك؛ لقد جئت لأُظهر بأن الإنسان, بدخوله نحو الملكوت, يرتقي بيقين وبتأكيد إلى الله والكمال الإلَهي. أي كائن يُقـَّصر بأي شكل من الأشكال عن المُثل الإلَهية والروحية لمشيئة الأب الأبدي هو شر محتمَل, لكن مثل هذه الكائنات ليست بأي حال من الأحوال خاطئة, أقل ظلماً بكثير.
148:4.10 (1661.1) "توما, ألم تقرأ عن هذا في الكتابات المقدسة, حيث كُتب: ’أنتم أولاد الرب إلَهكم‘. ’سأكون أبيه وسيكون ابني‘. ’لقد اخترته ليكون ابني ــ سأكون أبيه‘. ’احضر أبنائي من بعيد وبناتي من أقاصي الأرض؛ حتى يُدعى كل واحد بإسمي, لأني خلقتهم من أجل مجدي‘. ’أنتم أبناء الله الحي‘. ’الذين لديهم روح الله هم بالفعل أبناء الله‘. بينما هناك جزء مادي من الأب البشري في الطفل الطبيعي, هناك جزء روحي من الأب السماوي في كل ابن إيمان للملكوت."
148:4.11 (1661.2) كل هذا وأكثر من ذلك بكثير قاله يسوع لتوما, وقد فهم الرسول الكثير منه, على أن يسوع حذره "ألا يتكلم مع الآخرين بشأن هذه الأمور إلا بعد أن أعود إلى الأب." ولم يذكر توما هذه المقابلة إلا بعد رحيل السيد من هذا العالَم.
148:5.1 (1661.3) في مقابلة أخرى من هذه المقابلات الخاصة في الحديقة سأل نثانئيل يسوع: "يا سيد, ولو أنني بدأت أفهم لماذا ترفض ممارسة الشفاء بدون تمييز, لا أزال في حيرة لفهم لماذا يسمح الأب المحب في السماء للكثير جداً من أولاده على الأرض أن يُعانوا الكثير جدا من الآلامً." أجاب السيد نثانئيل قائلاً:
148:5.2 (1661.4) "نثانئيل, أنت وآخرون كثيرون في حيرة لأنكم لا تستوعبون كيف أن النظام الطبيعي لهذا العالَم قد اضطرب مرات كثيرة بسبب المغامرات الخاطئة لبعض الخونة المتمردين لمشيئة الأب. ولقد أتيت لأجعل بداية لوضع هذه الأشياء في نظام. لكن ستكون هناك حاجة إلى العديد من العصور لاسترجاع هذا الجزء من الكون إلى مسارات سابقة وبالتالي تحرير أبناء البشر من الأعباء الإضافية للخطيئة والتمرد. إن وجود الشر وحده هو اختبار كافٍ من أجل ارتقاء الإنسان ــ الخطيئة ليست ضرورية للبقاء.
148:5.3 (1661.5) "لكن, يا بني, يجب أن تعلم بأن الأب لا يبتلي أولاده عن قصد. يجلب الإنسان على نفسه ابتلاء لا داعي له نتيجة لرفضه المستمر للسير في الطرق الأفضل للمشيئة الإلَهية. البلوى محتملة في الشر, لكن الكثير منها نتج عن الخطيئة والإثم. قد مر العديد من الأحداث غير العادية على هذا العالم, وليس غريباً بأن يشعر كل الناس المفكرين بالحيرة جراء مشاهد المعاناة والبلاء التي يشهدوها. لكن من أمر واحد يمكن أن تكون على يقين: الأب لا يُرسل المصيبة كعقاب تعسفي لارتكاب الخطأ. إن عيوب الشر ومعوقاته متأصلة؛ عقوبات الخطيئة لا مفر منها؛ العقوبات المدمرة للظلم لا هوادة فيها. لا ينبغي للإنسان أن يلوم الله على الآلام التي هي نتيجة طبيعية للحياة التي يختار أن يعيشها؛ ولا ينبغي للرجل أن يشتكي من تلك الاختبارات التي هي جزء من الحياة كما تُعاش على هذا العالَم. إنها مشيئة الأب بأن يعمل الإنسان الفاني بإصرار وثبات من أجل تحسين حالته على الأرض. التطبيق الذكي سيمكن الإنسان من التغلب على الكثير من تعاسته الدنيوية.
148:5.4 (1662.1) "نثانئيل, إنها مهمتنا لمساعدة الناس على حل مشاكلهم الروحية وبهذه الطريقة لتسريع عقولهم بحيث قد يكونوا أفضل استعداداً وإلهاماً للشروع في حل مشاكلهم المادية المتعددة. أنا أعلم بحيرتك حيث أنك قد قرأت الكتابات المقدسة. ساد في كثير من الأحيان نزعة إلى تحميل الله مسؤولية كل ما يفشل الإنسان الجاهل في فهمه. ليس الأب مسؤولاً بشكل شخصي عن كل ما قد تفشل في استيعابه. لا تشك في محبة الأب لمجرد أن قانون ما عادل وحكيم من أمره صادف أن يبتليك لأنك ببراءة أو عن عمد انتهكت مثل هذا القانون الإلَهي.
148:5.5 (1662.2) "لكن, يا نثانئيل, هناك الكثير في الكتابات المقدسة مما سيرشدك لو كنت قرأت بفطنة فقط. ألا تتذكر أنه مكتوب: ’يا بني, لا تحتقر تأديب الرب؛ ولا تمل من تقويمه, لأن الذي يحبه الرب يُقـّومه, حتى كما يُهذب الأب الابن الذي يبتهج به‘. ’الرب لا يبلي برغبة‘. ’قبل أن أُبتلى, ضللت, لكنني الآن أحفظ الشريعة‘. ’ كانت البلوى جيدة بالنسبة لي بحيث أتعلم بها الفرائض الإلَهية‘. ’أنا أعرف أحزانك. الإله الأبدي ملجأك, بينما الأذرع الأزلية تحت‘. ’الرب أيضاً ملجأ للمظلوم, ملاذ للراحة في أوقات الضيق‘. ’الرب سيقوي من على فراش البلوى؛ الرب لن ينسى المريض‘. ’كما يُظهر الأب الشفقة من أجل أولاده, هكذا الرب يشفق على أولئك الذين يخافونه. هو يعرف جسدك؛ يتذكر بأنك تراب‘. ’هو يشفي منكسري القلب ويعصب جراحهم‘. ’هو رجاء الفقير, وقوة المحتاج في غمه, وملجأ من العاصفة, وظل من الحر الشديد‘. ’هو يعطي القوة للضعفاء, وإلى مَن ليس لديهم قدرة يزيد قوة‘. ’قصبة مرضوضة هو لن يكسر, وفتيلة مدخنة هو لن يُطفئ‘. ’عندما تمر في مياه البلاء, سأكون معك, وعندما تغمرك أنهار الشدائد, لن أهجرك‘. ’لقد أرسلني لكي أعصب منكسري القلب, ولأعلن حرية إلى الأسرى, ولأواسي كل الحزانى‘. ’هناك تقويم في المعاناة؛ البلوى لا تنبع من التراب.‘"
148:6.1 (1662.3) لقد كان هذا المساء ذاته في بيت-صيدا حينما سأل يوحنا يسوع أيضا لماذا عانى الكثير من الناس الأبرياء على ما يبدو من الكثير من الأمراض واحتملوا الكثير من الآلام. في الإجابة على أسئلة يوحنا, من بين أشياء أخرى كثيرة, قال السيد:
148:6.2 (1662.4) "يا بني, أنت لا تستوعب معنى الشدائد أو مهمة المعاناة. ألم تقرأ تلك التحفة من الأدب السامي ــ قصة الكتاب المقدس عن بلايا أيوب؟ ألا تتذكر كيف يبدأ هذا المَثل الرائع بتلاوة الرخاء المادي لخادم الرب؟ تتذكر جيداً بأن أيوب كان مباركاً بأولاد, وثروة, وكرامة, ومركز, وصحة, وكل شيء آخر يقدره الناس في هذه الحياة الدنيوية. وفقاً لتعاليم أبناء إبراهيم العريقة-الزمن كانت البحبوحة المادية كهذه كلها دليلاً كافياً على الحظوة الإلَهية. لكن مثل هذه الممتلكات المادية والازدهار الدنيوي لا تدل على حظوة الله. أبي في السماء يحب الفقراء بالضبط مثل الأغنياء؛ ليس عنده محاباة أشخاص.
148:6.3 (1663.1) " على الرغم من أن التعدي على القانون الإلهي يُتبع بحصاد القصاص عاجلاً أم آجلاً, في حين أن الناس بالتأكيد يحصدون في النهاية ما يزرعونه, لا يزال عليك أن تعلم بأن المعاناة البشرية ليست دائماً عقاباً لخطيئة سابقة. فشل كل من أيوب وأصدقاؤه في العثور على الإجابة الصحيحة لحيرتهم. ومع النور الذي تتمتع به الآن من الصعب أن تعين إما للشيطان أو لله الأجزاء التي يلعبونها في هذا المَثل الفريد. في حين أن أيوب, من خلال المعاناة, لم يجد حلاً لمشاكله الفكرية أو لصعوباته الفلسفية, فقد حقق انتصارات عظيمة؛ حتى في مواجهة انهيار دفاعاته اللاهوتية ارتقى إلى تلك الأعالي الروحية حيث كان بإمكانه أن يقول بصدق, ’أنا أمقت نفسي؛ عند ذاك مُنح له خلاص رؤية الله. بحيث حتى من خلال المعاناة التي أسيء فهمها, ارتقى أيوب إلى مستوى فائق عن الإنساني من التفهم الأخلاقي والبصيرة الروحية. عندما يحصل الخادم المكابد على رؤية الله, هناك يتبع سلام للنفـْس يفوق كل فهم بشري.
148:6.4 (1663.2) "الأول من أصدقاء أيوب, أليفاز, حث المعاني على أن يعرض في معاناته نفس التجلد الذي كان قد وصفه للآخرين أثناء أيام بحبوحته. قال هذا المؤاسي الكاذب: ’ثق بدِينك, يا أيوب؛ تذكَّر أنه الأثيم وليس البار الذي يعاني. لا بد أنك تستحق هذا القصاص, وإلا لم تكن لتُبتلى. أنت تعلم جيداً أنه لا يمكن لأي إنسان أن يكون باراً في نظر الله. أنت تعلم أن الأثيم لا يزدهر في الحقيقة أبداً. على أي حال, يبدو الإنسان مقـَّدر سلفاً للمتاعب, ولعل الرب يؤدبك فقط لمصلحتك.‘ لا عجب أن أيوب المسكين فشل في الحصول على عزاء كبير من مثل هذا التفسير لمشكلة المعاناة الإنسانية.
148:6.5 (1663.3) "لكن شورى صديقه الثاني, بيلداد, كانت حتى أكثر إحباطاً, بالرغم من صحتها من وجهة نظر اللاهوت المقبول آنذاك. قال بيلداد: ’الله لا يمكن أن يظلم. لا بد أن أولادك كانوا خاطئين حيث أنهم هلكوا, لابد أنك مخطئ, وإلا لن تُبتلى هكذا. وإذا كنت باراً حقاً, فإن الله سيخلصك بالتأكيد من بلاياك. يجب أن تتعلم من تاريخ تعاطي الله مع الإنسان بأن القدير يهلك الأشرار فقط.‘
148:6.6 (1663.4) "وبعدئذٍ تتذكر كيف رد أيوب على أصدقائه, قائلاً: "أعرف جيداً بأن الله لا يسمع صرختي من أجل المساعدة. كيف يمكن أن يكون الله عادلاً وفي نفس الوقت يتجاهل براءتي تماماً؟ أنا أتعلم أنني لا يمكنني الحصول على رضى من مناشدة القدير. ألا تستطيع أن تدرك بأن الله يتسامح مع اضطهاد الأشرار للصالح؟ ولما كان الإنسان ضعيفاً جداً, فأي فرصة لديه من أجل الاعتبار عند يدي إله كلي القدرة؟ لقد جعلني الله كما أنا, وعندما هكذا ينقلب علَيَ, فأنا أعزل. ولماذا خلقني الله أبداً فقط لأعاني بهذه الطريقة البائسة؟
148:6.7 (1663.5) "ومن يستطيع أن يتحدى موقف أيوب في ضوء مشورة أصدقائه والأفكار الخاطئة عن الله التي شغلت عقله؟ ألا ترى بأن أيوب كان يتوق إلى إله بشري, بأنه جاع للتواصل مع كائن إلَهي يعرف حالة الإنسان الفانية ويفهم أن العادل غالبًا ما يجب أن يعاني في براءة كجزء من هذه الحياة الأولى لارتقاء الفردوس الطويل؟ لأجل ذلك أتى ابن الإنسان من الأب ليعيش مثل هذه الحياة في الجسد بحيث سيكون قادراً على تعزية وإغاثة كل أولئك الذين منذ ذلك الوقت وصاعداً يجب أن يُستدعوا لتحمل بلايا أيوب.
148:6.8 (1663.6) "ثم تحدث صديق أيوب الثالث, ظوفر, بكلمات لا تزال أقل تعزية عندما قال: ’أنت أحمق لتـَّدعي بأنك بار, ناظر بأنك مصاب هكذا. لكنني أقر بأنه من المستحيل فهم طرق الله. ربما هناك هدف خفي ما في كل مآسيك.‘ وعندما استمع أيوب لكل الثلاثة من أصدقائه, التجأ مباشرة إلى الله طلبًا للمساعدة, متوسلاً حقيقة أن ’الإنسان, مولود من امرأة, هو قليل الأيام ومليء بالمتاعب.‘
148:6.9 (1664.1) "بعدئذٍ بدأت الجلسة الثانية مع أصدقائه. أصبح أليفاز أكثر تجهماً, واتهاماً, وتهكماً. أصبح بيلداد ساخطاً من ازدراء أيوب لأصدقائه. ردد ظوفر نصيحته الكئيبة. كان أيوب بهذا الوقت قد أصبح مشمئزاً من أصدقائه والتجأ مرة أخرى إلى الله, والآن هو التجأ إلى إله عادل ضد إله الظلم المتجسد في فلسفة أصدقائه والمحتفظ به بقدسية حتى في موقفه الدِيني الخاص. تالياً لجأ أيوب إلى عزاء حياة مستقبلية التي يمكن فيها تصحيح أوجه عدم المساواة في الوجود البشري بشكل أكثر عدلاً. الفشل في الحصول على مساعدة من الإنسان تدفع أيوب إلى الله. عند ذاك يستتبع الصراع الكبير في قلبه بين الإيمان والشك. أخيراً, بدأ الإنسان المكابد في رؤية نور الحياة؛ نفـْسه المعذبة ترتقي إلى أعالي جديدة من الأمل والشجاعة؛ هو قد يستمر في المعاناة وحتى يموت, لكن نفـْسه المستنيرة تطلق الآن صرخة الانتصار هذه, ’مبرري يعيش!‘
148:6.10 (1664.2) "كان أيوب محقاً تماماً عندما تحدى العقيدة القائلة بأن الله يُصيب الأبناء بالبلاء من أجل معاقبة آبائهم. كان أيوب مستعداً دائماً للإعتراف بأن الله بار, لكنه كان يتوق إلى كشف ما مُرضٍ للنفـْس عن السجية الشخصية للأبدي. وهذه هي مهمتنا على الأرض. لن يُحرم البشر بعد الآن من راحة معرفة محبة الله وفهم رحمة الأب في السماء. بينما كلام الله الذي تم التُكلم به من الزوبعة كان مفهوماً مهيباً من أجل يوم نطقه, أنت قد تعَّلمت بالفعل بأن الأب لا يكشف عن نفسه بهذه الطريقة, بل بالأحرى أنه يتكلم من داخل قلب الإنسان كصوت ساكن, ضعيف, قائلاً, هذا هو الطريق؛ امشي فيه.‘ ألا تدرك بأن الله يسكن فيك, بأنه قد أصبح ما أنت عليه بحيث يمكنه أن يجعلك ما هو عليه!"
148:6.11 (1664.3) ثم أدلى يسوع بهذه العبارة الأخيرة: "الأب في السماء لا يبتلي أبناء الناس عن طيب خاطر. يعاني الإنسان, أولاً, من حوادث الزمان وعيوب الشر لوجود فيزيائي غير ناضج. تالياً, يعاني من عواقب الخطيئة التي لا هوادة فيها ــ انتهاك شرائع الحياة والنور. وأخيراً, يحصد الإنسان حصاد إصراره الجائر في التمرد على حكم السماء البار على الأرض. لكن مآسي الإنسان ليست زيارة شخصية للحكم الإلَهي. يستطيع الإنسان, وسيفعل, الكثير للتخفيف من معاناته الدنيوية. لكن مرة وإلى الأبد يجب التخلص من خرافة أن الله يبتلى الإنسان بناء على إيعاز من الشرير. ادرس كتاب أيوب فقط لتكتشف كم من الأفكار الخاطئة عن الله قد يفكر فيها بأمانة حتى أناس طيبون؛ ثم لاحظ كيف حتى أيوب المبتلي بشكل مؤلم وجد إله التعزية والخلاص بالرغم من مثل هذه التعاليم الخاطئة. أخيراً اخترق إيمانه سحاب المعاناة لكي يميز نور الحياة المُتدفق من الأب كرحمة شافية وبر أبدي."
148:6.12 (1664.4) تفكر يوحنا بهذه الأقوال في قلبه لأيام عديدة. تغيرت حياته فيما بعد بأكملها بشكل ملحوظ نتيجة لهذه المحادثة مع السيد في الحديقة, وقد فعل الكثير, في أوقات لاحقة, ليُسبب تغيير وجهات نظر الرُسل الآخرين فيما يتعلق بمصدر, وطبيعة, وهدف البلايا البشرية الشائعة. لكن يوحنا لم يتحدث أبداً عن هذا المؤتمر إلا بعد رحيل السيد.
148:7.1 (1664.5) في السبت الثاني قبل رحيل الرُسل وسلك الإنجيليين الجدد على جولة الوعظ الثانية في الجليل, تكلم يسوع في كنِيس كفرناحوم عن "أفراح العيش البار". عندما انتهى يسوع من الكلام, تجمع حوله جماعة كبيرة من الذين كانوا معاقين, وعُرج, ومرضى, ومصابين, طالبين الشفاء. كان في هذه الجماعة أيضًا الرُسل والعديد من الإنجيليين الجدد, وجواسيس الفريسيين من أورشليم. أينما ذهب يسوع (باستثناء عندما في التلال حول شغل الأب) كان جواسيس أورشليم الستة أكيدين ليتبعوه.
148:7.2 (1665.1) بينما كان يسوع واقفاً يتكلم إلى الناس, استمال قائد جواسيس الفريسيين, رَجلاً بيد يابسة ليقترب منه ويسأله ما إذا كان من الشرعي أن يُشفى في يوم السبت أم يجب أن يطلب المساعدة في يوم آخر. عندما رأى يسوع الرَجل, وسمع كلماته, وأدرك أنه قد أرسله الفريسيون, قال: "تعال إلى الأمام, بينما أسألك سؤالاً. إذا كان لديك خروف وسقط في حفرة يوم السبت, ألا تمد يدك, وتمسكها, وترفعها؟ هل هو شرعي عمل مثل هذه الأشياء في يوم السبت؟" فأجاب الرَجل: "نعم, يا سيد, سيكون من القانوني القيام بعمل جيد هكذا في يوم السبت." عندئذٍ قال يسوع, متحدثاً إليهم جميعاً: "أنا أعرف لماذا أرسلتم هذا الرَجل إلى حضوري. تودون إيجاد سبب لاتهامي إذا أمكنكم إغرائي لإظهار الرحمة في يوم السبت. في صمت اتفقتم جميعاً أنه من القانوني إخراج خروف بائس من الحفرة, حتى في يوم السبت, وأنا أدعوكم لتشهدوا بأنه من القانوني إظهار شفقة مُحبة في يوم السبت ليس فقط للحيوانات ولكن أيضًا للناس. كم أكثر قيمة هذا الرَجل من الخروف! أعلن أنه من الشرعي فعل الخير للناس في يوم السبت." وبينما وقفوا جميعاً أمامه في صمت, قال يسوع, مخاطباً الرَجل صاحب اليد اليابسة: "قف هنا إلى جانبي حتى يراك الجميع. والآن بحيث يمكنكم أن تعرفوا بأنها مشيئة أبي أن تفعلوا الخير في يوم السبت, إذا كان لديك الإيمان لتُشفى, أدعوك أن تمد يدك."
148:7.3 (1665.2) وإذ مد هذا الرَجل يده اليابسة, جُعلت متعافية. كان الشعب ميالاً للانقلاب على الفريسيين, لكن يسوع أمرهم بالهدوء, قائلاً: "لقد أخبرتكم للتو بأنه من الشرعي فعل الخير في السبت, لإنقاذ الحياة, لكنني لم أوصيكم بإلحاق الأذى وإفساح المجال للرغبة في القتل." ذهب الفريسيون الغاضبون بعيداً, وبالرغم من أنه كان يوم سبت, سارعوا على الفور إلى طبريا وتشاوروا مع هيرودس, وبذلوا كل ما في وسعهم لإثارة تحيزه من أجل تأمين الهيروديين كحلفاء ضد يسوع. لكن هيرودس رفض اتخاذ إجراء ضد يسوع, ناصحاً بأن يحملوا شكاواهم إلى أورشليم.
148:7.4 (1665.3) هذه كانت الحالة الأولى لمعجزة تُصنع بيسوع استجابة لتحدي أعدائه. وقد أجرى السيد هذه المدعوة معجزة, ليس كإظهار لقدرته على الشفاء, لكن كاحتجاج فعّال ضد جعل راحة السبت الدِينية عبودية حقيقية لقيود لا معنى لها على البشرية جمعاء. هذا الرَجل عاد إلى عمله كبنَّاء حجارة, مثبتاً أنه أحد أولئك الذين أعقب شفاءهم حياة من الشكر والبر.
148:8.1 (1665.4) في الأسبوع الأخير من الإقامة في بيت-صيدا أصبح جواسيس أورشليم منقسمين كثيراً في موقفهم تجاه يسوع وتعاليمه. ثلاثة من أولئك الفريسيين كانوا متأثرين بشكل كبير بما رأوا وسمعوا. في هذه الأثناء, في أورشليم, اعتنق إبراهيم, وهو عضو شاب ونافذ في السنهدرين تعاليم يسوع علانية وتم تعميده في بركة سلوام بواسطة أبنير. كانت كل أورشليم في تلهف على هذا الحدث, وتم إرسال رُسل على الفور إلى بيت-صيدا لاستدعاء الجواسيس الفريسيين الستة.
148:8.2 (1666.1) عاد الفيلسوف اليوناني الذين كُسب للملكوت في جولة الجليل السابقة مع بعض اليهود الأثرياء من الإسكندرية, ومرة أخرى دعوا يسوع للمجيء إلى مدينتهم لغرض تأسيس مدرسة مشتركة للفلسفة والدِين وكذلك مستوصف للمرضى. لكن يسوع رفض الدعوة بلطف.
148:8.3 (1666.2) حوالي هذا الوقت وصل إلى مخيم بيت-صيدا نبي غيبوبة من بغداد, واحد اسمه كيرمِث. هذا النبي المزعوم كانت لديه رؤى غريبة عندما في غيبوبة ورأى أحلاماً رائعة عندما يكون نومه مضطرباً. لقد تسبب في اضطراب كبير في المخيم, وكان سمعان زيلوطس يُحبذ التعامل بخشونة مع هذا المُدَّعي الذي يخدع نفسه, لكن يسوع تدَّخل وسمح له بالحرية الكاملة في التصرف لبضعة أيام. سرعان ما أدرك كل الذين سمعوا وعظه أن تعاليمه لم تكن سليمة كما حكم عليها إنجيل الملكوت. رجع إلى بغداد بعد وقت قصير, آخذاً معه فقط نصف دزينة من النفوس الشاردة وغير المستقرة. لكن قبل أن يتوسط يسوع من أجل النبي البغدادي, كان داود زَبـِدي, بمساعدة لجنة معينة-بالذات, قد أخذوا كيرمِث إلى البحيرة, وبعد تغطيسه مراراً في الماء, نصحوه بالرحيل في الحال ــ ليُنظم ويبني مخيم خاص به.
148:8.4 (1666.3) في هذا اليوم بالذات, أصبحت امرأة فينيقية اسمها بِث-ماريون, عصبية جداً لدرجة أنها فقدت صوابها, وبعد أن كادت تغرق من محاولة المشي على الماء, أرسلها أصدقاؤها بعيدًا.
148:8.5 (1666.4) أعطى المهتدي الجديد من أورشليم, إبراهيم الفريسي, كل ممتلكاته الدنيوية للخزينة الرسولية, وهذه المساهمة فعلت الكثير لتمكين الإرسال المباشر والفوري لمائة إنجيلي مدربين حديثاً. كان أندراوس قد أعلن بالفعل إغلاق المخيم, واستعد الجميع إما للعودة إلى ديارهم أو لمتابعة الانجيليين نحو الجليل.
148:9.1 (1666.5) بعد ظهر يوم الجمعة, 1 تشرين الأول, عندما كان يسوع يعقد اجتماعه الأخير مع الرُسل, والإنجيليين, وقادة آخرين من المخيم المنحل, ومع الفريسيين الستة من أورشليم الجالسين في الصف الأمامي لهذا التجمع في الغرفة الأمامية الرحبة والمُوَّسَعة لبيت زَبـِدي, حدثت واحدة من أغرب القصص وأكثرها تميزا في كل حياة يسوع الأرضية. كان السيد, في هذا الوقت, يتكلم بينما يقف في هذه الغرفة الكبيرة, التي تم بناؤها لاستيعاب هذه التجمعات أثناء الفصل الممطر. كان المنزل محاطاً بالكامل بحشد شاسع من الناس الذين كانوا يجهدون آذانهم لالتقاط جزء ما من خطاب يسوع.
148:9.2 (1666.6) بينما كان المنزل مزدحماً هكذا بالناس, ومُحاط بالكامل بالمستمعين المتلهفين, كان رَجل مبتلى بالشلل منذ وقت طويل قد حُمل من كفرناحوم على أريكة صغيرة من قِبل أصدقائه. كان هذا المشلول قد سمع بأن يسوع على وشك مغادرة بيت-صيدا, وحيث أنه تكلم مع هارون بنَّاء الحجارة, الذي شُفي حديثاً, قرر أن يُحمل إلى حضرة يسوع, حيث يمكنه أن يطلب الشفاء. حاول أصدقاؤه كسب مدخل إلى منزل زَبـِدي من الأبواب الأمامية والخلفية, لكن الكثير من الناس كانوا محتشدين معاً. لكن المشلول رفض قبول الهزيمة؛ وجَّه أصدقاءه ليحضروا سلالم التي صعدوا بها إلى سطح الغرفة التي كان يسوع يتكلم فيها, وبعد فك البلاط, أنزلوا الرجل المريض على أريكته بجرأة بالحبال إلى أن استقر المصاب على أرض الغرفة مباشرة أمام السيد. عندما رأى يسوع ما فعلوه, توقف عن الكلام, بينما تعجب أولئك الذين كانوا معه في الغرفة من مثابرة الرجل المريض وأصدقائه. قال المشلول: "يا سيد, أود ألا أزعج تعليمك, لكنني مصمم على أن أكون مُعافى. أنا لست مثل أولئك الذين تلقوا الشفاء ونسوا تعليمك على الفور. أود أن أُجعل مُعافى بحيث يمكنني أن أخدم في ملكوت السماء." الآن, بالرغم من أن بلوى هذا الرَجل كانت قد أصابته بسبب حياته المُسرفة, فإن يسوع, إذ رأى إيمانه, قال للمشلول: :يا بني, لا تخف, خطاياك مغفورة. إيمانك سيخلصك."
148:9.3 (1667.1) عندما سمع الفريسيون من أورشليم, سوية مع كتبة ومحامين آخرين الذين جلسوا معهم, هذا التصريح الذي أدلى به يسوع, بدأوا يقولون لأنفسهم: "كيف يجرؤ هذا الرجل على أن يتكلم هكذا؟ ألا يفهم بأن مثل هذه الكلمات تجديف؟ من يقدر أن يغفر الخطيئة إلا الله؟" يسوع, إذ أدرك بروحه أنهم يفكرون على هذا النحو في عقولهم وفيما بينهم, تكلم إليهم قائلاً: "لماذا تفَكرون على هذا النحو في قلوبكم؟ من أنتم لتجلسوا في الحكم عَليِ؟ ما الفرق سواء قلت لهذا المشلول, خطاياك مغفورة, أو قم, احمل سريرك, وامشي؟ لكن بحيث تعرفون أخيراً أنتم من تشهدون كل هذا بأن ابن الإنسان لديه سُلطة وقدرة على الأرض ليغفر الخطايا, سأقول لهذا الرَجل المصاب, قم, احمل سريرك, واذهب إلى منزلك." وعندما تكلم يسوع هكذا, نهض المشلول, وعندما أفسحوا الطريق له, مشى خارجاً أمامهم جميعاً. وتعجب الذين رأوا هذه الأشياء. صرف بطرس التجمع, بينما صلّى كثيرون ومجَّدوا الله, معترفين بأنهم لم يروا أبداً مثل هذه الأحداث الغريبة من قبل.
148:9.4 (1667.2) وكان حوالي هذا الوقت عندما وصل رُسُل السنهدرين ليطلبوا من الجواسيس الستة العودة إلى أورشليم. عندما سمعوا هذه الرسالة, وقعوا في نقاش جاد فيما بينهم, وبعد أن انتهوا من مناقشاتهم, عاد القائد واثنان من زملائه مع الرسل إلى أورشليم, في حين اعترف ثلاثة من الجواسيس الفريسيين بالإيمان بيسوع, وذهبوا فوراً إلى البحيرة, عُّمدوا من قبل بطرس وألحقوا بالزمالة بواسطة الرُسل كأبناء الملكوت.
كِتاب يورانشيا
ورقة 149
149:0.1 (1668.1) بدأت جولة الوعظ العلنية الثانية للجليل يوم الأحد, 3 تشرين الأول, عام 28 م., واستمرت لحوالي ثلاثة أشهر, منتهية في 30 كانون الأول. شارك يسوع ورُسله الاثني عشر في هذا المجهود, بمُساعدة الكتيبة المجندة حديثاً من 117 إنجيلياً والعديد من الأشخاص المهتمين الآخرين. في هذه الجولة قاموا بزيارة جادارا, بتوليمايس, ويافيا, وداباريطا, ومجّدو, ويزرعيل, وسكيثوبولِس, وتاريشيا, وهيبوس, وغامالا, وبيتصيدا-يوليوس, والعديد من المدن والقرى الأخرى.
149:0.2 (1668.2) قبل المغادرة في صباح يوم الأحد هذا طلب أندراوس وبطرس من يسوع أن يعطي العهدة النهائية للإنجيليين الجدد, لكن السيد رفض, قائلاً بأنه ليس من اختصاصه القيام بتلك الأشياء التي يمكن للآخرين القيام بها بشكل مقبول. بعد إجراء المداولات اللازمة تقرر أن يتولى يعقوب زَبـِدي إدارة العهدة. في ختام ملاحظات يعقوب قال يسوع للإنجيليين: "انطلقوا الآن للقيام بالعمل كما عُهِد إليكم, وفيما بعد, عندما تظهرون أنفسكم أكفاء ومخلصون, سوف أعَّينكم لوعظ إنجيل الملكوت."
149:0.3 (1668.3) في هذه الجولة سافر يعقوب ويوحنا فقط مع يسوع. أخذ بطرس والرُسل الآخرين كل منهم معه حوالي دزينة من الإنجيليين وحافظوا على اتصال وثيق بهم بينما قاموا بعملهم من الوعظ والتعليم. بقدر سرعة استعداد المؤمنين لدخول الملكوت, كان الرُسل يديرون المعمودية. سافر يسوع ورفيقيه على نطاق واسع خلال هذه الأشهر الثلاثة, غالباً زائرين مدينتين في يوم واحد لمراقبة عمل الإنجيليين وتشجيعهم في جهودهم لتأسيس الملكوت. كانت جولة الوعظ الثانية هذه في المقام الأول محاولة لتوفير الخبرة العملية لهذا الفيلق المؤلف من 117 من الإنجيليين المدربين حديثًا.
149:0.4 (1668.4) طوال هذه الفترة ولاحقاً, حتى وقت الرحيل النهائي ليسوع والاثني عشر إلى أورشليم, حافظ داود زَبـِدي على مقر دائم من أجل عمل الملكوت في منزل أبيه في بيت-صيدا. كان هذا مركز تبادل المعلومات حول عمل يسوع على الأرض ومحطة التناوب من أجل خدمة الرسل التي قام بها داود بين العمال في أجزاء مختلفة من فلسطين والمناطق المجاورة. لقد قام بكل هذا بمبادرته الخاصة لكن بموافقة أندراوس. وظف داود من أربعين إلى خمسين رسولاً في هذا القسم الإستخباري لعمل الملكوت الآخذ في الكبر والتوسع بسرعة. أثناء توظيفه هكذا, كان يدعم نفسه جزئياً بقضاء بعض وقته في عمله القديم في صيد الأسماك.
149:1.1 (1668.5) بحلول الوقت الذي فُض فيه المخيم في بيت-صيدا, كانت شهرة يسوع, خاصة كشافي, قد انتشرت إلى جميع أجزاء فلسطين وعبر كل سوريا والبلدان المحيطة. لأسابيع بعد مغادرتهم بيت-صيدا, استمر المرضى في الوصول, وعندما لم يجدوا السيد, عند العِلم من داود زَبـِدي عن مكان وجوده, كانوا يذهبون للبحث عنه. في هذه الجولة لم يُجري يسوع عن عمد أي من ما يسمى معجزات شفاء. مع ذلك, وجد عشرات من المنكوبين استعادة الصحة والسعادة نتيجة للقدرة الترميمية للإيمان الشديد الذي دفعهم ليطلبوا الشفاء.
149:1.2 (1669.1) بدأت هناك تظهر حول وقت هذه المهمة - واستمرت طوال الفترة المتبقية من حياة يسوع على الأرض - سلسلة غريبة وغير مفسرة من ظواهر الشفاء. خلال هذه الجولة التي استمرت ثلاثة أشهر كان أكثر من مائة رجل, وامرأة, وطفل من يهودا, وأدوميا, والجليل, وسوريا, وصور, وصيدا, ومن ما وراء الأردن قد انتفعوا من هذا الشفاء غير الواعي من قبل يسوع, وعائدين إلى بلدانهم أضافوا إلى توسيع شهرة يسوع. وفعلوا هذا بالرغم من أن يسوع, في كل مرة لاحظ فيها إحدى حالات الشفاء التلقائي هذه, كان يطلب مباشرة من المنتفع "ألا يخبر أحد."
149:1.3 (1669.2) لم يُكشف لنا مطلقاً ما الذي حدث بالضبط في هذه الحالات من الشفاء التلقائي أو غير الواعي. لم يوضح السيد لرُسله أبداً كيف تمت هذه الشفاءات, بخلاف أنه مجرد قال في عدة مناسبات, "أشعر بأن قدرة قد انطلقت مني." في إحدى المناسبات قـَّدم ملاحظة عندما لُمسه طفل مريض, "أحس بأن حياة قد انطلقت مني."
149:1.4 (1669.3) في غياب كلمة مباشرة من السيد فيما يتعلق بطبيعة هذه الحالات من الشفاء التلقائي, سيكون زعماً من جهتنا أن نأخذ على عاتقنا تفسير كيفية إنجازها, لكن سيكون من المسموح أن نسجل رأينا في كل مثل ظواهر الشفاء هذه. نعتقد بأن العديد من هذه التي على ما يبدو معجزات شفاء, كما حدثت أثناء إسعاف يسوع الأرضي, كانت نتيجة لمشاركة التأثيرات القديرة, والفعالة, والمرتبطة الثلاثة التالية:
149:1.5 (1669.4) 1. حضور إيمان قوي, ومسيطر, وحَي في قلب الإنسان الذي طلب الشفاء بإصرار, سوية مع واقع أن هذا الشفاء كان مرغوباً من أجل فوائده الروحية عوضاً عن الترميم الجسدي البحت.
149:1.6 (1669.5) 2. مرافق, بالتزامن مع مثل هذا الإيمان البشري, الوجود, للتعاطف والرحمة العظيمين لابن الله الخالق المتجسد والمُسيطـَر عليه بالرحمة, الذي امتلك فعلياً في شخصه قدرات شفاء وامتيازات غير محدودة تقريباً وخالدة.
149:1.7 (1669.6) 3. إلى جانب إيمان المخلوق وحياة الخالق ينبغي أيضاً ملاحظة أن هذا الإله-الإنسان كان التعبير المُشَّخَص لمشيئة الأب. إذا, في اتصال مع الحاجة البشرية والقوة الإلهية للوفاء بها, لم يشاء الأب سوى ذلك, أصبح الاثنان واحداً, وحدث الشفاء بدون وعي ليسوع الإنساني لكن تم التعرف عليه على الفور من خلال طبيعته الإلهية. التفسير, إذن, للعديد من حالات الشفاء هذه يجب أن يكون موجوداً في قانون عظيم كان معروفاً لدينا منذ أمد طويل, أي, ما يريده الابن الخالق ويشاؤه الأب الأبدي يكون.
149:1.8 (1669.7) إذن, في رأينا أنه, في الحضور الشخصي ليسوع, كانت بعض أشكال الإيمان البشري العميق مُلزمة حرفياً وحقاً في تجلي الشفاء بواسطة قوى وشخصيات خلاَّقة معينة للكون التي كانت في ذلك الوقت مرتبطة إرتباطاً وثيقاً للغاية بابن الإنسان. لذلك تصبح حقيقة مسجلة بأن يسوع تسبب للناس في كثير من الأحيان أن يشفوا أنفسهم في حضوره من خلال إيمانهم القوي, والشخصي.
149:1.9 (1670.1) سعى كثيرون آخرون للشفاء لأغراض أنانية بالكامل. جاءت أرملة ثرية من صور, مع حاشيتها, تطلب الشفاء من عللها؛ وبينما تبعت يسوع, خلال الجليل, استمرت في تقديم المزيد والمزيد من الأموال, كما لو أن قدرة الله كانت شيئاً ينبغي أن يُشترى بالمزايد الأعلى. لكنها لم تصبح مهتمة أبداً بإنجيل الملكوت؛ كان فقط علاج أمراضها الجسدية ما طلبته.
149:2.1 (1670.2) فهم يسوع عقول الناس, كان يعرف ماذا في قلب الإنسان, ولو أن تعاليمه تُركت كما قـدمها, التعليق الوحيد هو التفسير الملهم الذي توفره حياته الأرضية, لكانت كل أمم وكل أديان العالَم قد احتضنت بسرعة إنجيل الملكوت. إن الجهود الحسنة-النية لأتباع يسوع المبكرين لإعادة إعلان تعاليمه لجعلها أكثر قبولاً لدى بعض الأمم, والأجناس, والأديان, أسفرت فقط عن جعل هذه التعاليم أقل قبولاً لدى جميع الأمم, والأجناس, والأديان الأخرى.
149:2.2 (1670.3) الرسول بولس, في جهوده لجلب تعاليم يسوع إلى الانتباه المؤاتي لفئات معينة في يومه, كتب العديد من رسائل الإرشاد والتحذير. فعل معلِمون آخرون لإنجيل يسوع الشيء نفسه, لكن لم يدرك أي منهم أن بعض هذه الكتابات سيجمعها فيما بعد أولئك الذين سيعرضونها على أنها تجسيد لتعاليم يسوع. وهكذا, في حين أن ما يسمى بالمسيحية يحتوي من إنجيل السيد أكثر من أي دِين آخر, فإنه يحتوي أيضًا على الكثير مما لم يعَّلِمه يسوع. على حدة من دمج العديد من التعاليم والباطنيات الفارسية وجزء كبير من الفلسفة الإغريقية في المسيحية المبكرة, تم ارتكاب خطأين كبيرين:
149:2.3 (1670.4) 1. الجهد المبذول لربط تعليم الإنجيل مباشرة باللاهوت اليهودي, كما هو مُصَّور في المذاهب المسيحية عن الكفارة ــ التعليم بأن يسوع كان الابن المُضحى به الذي سيُرضي عدالة الأب الصارمة ويسترضي الغضب الإلَهي. نشأت هذه التعاليم في جهد يستحق الثناء لجعل إنجيل الملكوت أكثر قبولاً لدى يهود غير مؤمنين. على الرغم من فشل هذه الجهود فيما يتعلق بكسب اليهود, إلا أنها لم تفشل في إرباك وتنفير العديد من النفوس الصادقة في جميع الأجيال اللاحقة.
149:2.4 (1670.5) 2. الخطأ الفادح الثاني لأتباع السيد المبكرين, وواحد الذي استمرت كل الأجيال اللاحقة في إدامته, كان تنظيم التعليم المسيحي بشكل كامل حول شخص يسوع. هذا التركيز المفرط على شخصية يسوع في لاهوت المسيحية قد عمل على حجب تعاليمه, وكل هذا جعل من الصعوبة بمكان على اليهود, والمحمديين, والهندوس, وغيرهم من المتدينين الشرقيين لقبول تعاليم يسوع. لن نقلل من مكانة شخص يسوع في دِين قد يحمل اسمه, لكننا لن نسمح لمثل هذا الاعتبار بأن يطغى على حياته المُلهمة أو أن يحل محل رسالته المُخَّلِصة: أبوة الله وأخوة الإنسان.
149:2.5 (1670.6) يجب على معلمي دِين يسوع أن يقتربوا من الأديان الأخرى مع الاعتراف بالحقائق التي يتمسكون بها بشكل مشترك (التي أتى الكثير منها بشكل مباشر أو غير مباشر من رسالة يسوع) بينما يحجمون عن وضع الكثير من التشديد على أوجه الإختلاف.
149:2.6 (1671.1) بينما, في ذلك الوقت بالذات, استندت شهرة يسوع بشكل رئيسي على شهرته كَشافي, لم يتبع بأنها استمرت لتبقى هكذا. مع مرور الوقت, كان يُسعى إليه أكثر وأكثر من أجل المساعدة الروحية. لكنها كانت الشفاءات الجسدية التي جعلت الالتجاء الفوري والمباشر لعامة الناس. كان يسوع مطلوباً بشكل متزايد من ضحايا الاستعباد الأخلاقي والمضايقات العقلية, وعلـَّمهم بثبات طريق الخلاص. طلب الآباء نصيحته فيما يتعلق بإدارة أبنائهم, وجاءت الأمهات طلباً للمساعدة في إرشاد بناتهن. جاء أولئك الجالسون في الظلمة إليه, فكشف لهم نور الحياة. كانت أُذنه مفتوحة دائماً لأحزان البشرية, ودائماً ساعد أولئك الذين سعوا لإسعافه.
149:2.7 (1671.2) عندما كان الخالق نفسه على الأرض, متجسداً في شبه الجسد الفاني, كان من المحتم أن تحدث بعض الأشياء غير العادية. لكن يجب أن لا تقتربوا أبداً إلى يسوع من خلال ما يسمى بالأحداث المعجزة. تعَّلَموا كيفية الاقتراب من المعجزة من خلال يسوع, لكن لا ترتكبوا خطأ الاقتراب إلى يسوع من خلال المعجزة. وهذا التحذير له ما يبرره, بالرغم من أن يسوع الناصري هو المؤسس الوحيد لدِين قام بأعمال فائقة عن المادي على الأرض.
149:2.8 (1671.3) السمة الأكثر إثارة للدهشة والأكثر ثورية في مهمة ميخائيل على الأرض كانت موقفه تجاه النساء. في يوم وجيل عندما لم يكن من المفترض أن يحيي الرجل حتى زوجته في مكان عام, تجرأ يسوع ليأخذ نساء إلى جانبه كمعلمات للإنجيل في علاقة بجولته الثالثة في الجليل. وكان لديه الشجاعة التامة لفعل هذا في وجه التعليم الحاخامي الذي ينص على أنه "من الأفضل أن تُحرق كلمات الشريعة من تسليمها إلى النساء."
149:2.9 (1671.4) في جيل واحد رفع يسوع النساء من النسيان الشائن والكدح الاستعبادي على مر العصور. وإنه الشيء الوحيد المعيب في الدِين الذي زعم أن يحمل اسم يسوع أنه افتقر إلى الشجاعة الأخلاقية لاتباع هذا المَثل النبيل في موقفه اللاحق تجاه النساء.
149:2.10 (1671.5) عندما اختلط يسوع بالناس, وجدوه حراً تماماً من خرافات ذلك اليوم, كان حراً من التحيزات الدِينية؛ لم يكن أبداً غير متسامح. لم يكن في قلبه شيئ يشبه العداء الاجتماعي. بينما امتثل مع الصالح في دِين آبائه, لم يتردد في تجاهل تقاليد الخرافات والعبودية التي صنعها الإنسان. تجرأ على تعليم أن كوارث الطبيعة, وحوادث الزمن, وغيرها من الأحداث المأساوية لم تكن زيارات للأحكام الإلهية أو افتقادات غامضة للعناية الإلَهية. شجب التكريس الاستعبادي لطقوس لا معنى لها وفضح مغالطة العبادة المادية. أعلن بجرأة حرية الإنسان الروحية وتجرأ على تعليم أن بشر الجسد هم بالفعل وفي الحقيقة أبناء الله الحي.
149:2.11 (1671.6) تخطى يسوع كل تعاليم سابقيه عندما استبدل بجرأة قلوباً طاهرة بأيدٍ طاهرة كعلامة على الدين الحقيقي. وضع الواقع في مكان التقاليد وأزال كل ادعاءات الغرور والنفاق. ومع ذلك فإن رجل الله الشجاع هذا لم يفسح المجال للانتقاد المدمر أو يُظهر تجاهلاً تاماً للعادات الدِينية, والاجتماعية, والاقتصادية والسياسية ليومه. لم يكن ثورياً عسكرياً؛ كان تطورياً تقدمياً. انشغل في تدمير ما كان فقط عندما نفس الوقت عرض على زملائه الشيء الفائق الذي يجب أن يكون.
149:2.12 (1672.1) نال يسوع طاعة أتباعه دون انتزاعها. فقط ثلاثة رجال من الذين استلموا دعوته الخاصة رفضوا قبول الدعوة للتلمذة. مارس قدرة ساحبة خاصة على الناس, لكنه لم يكن ديكتاتورياً. أوصى بالثقة, ولم يستاء أحد أبداً من إعطائه لأمر. تولى سُلطة مُطلقة على تلاميذه, لكن لم يعترض أحد قط. سمح لأتباعه أن يدعوه سيد.
149:2.13 (1672.2) كان السيد يحظى بإعجاب كل من قابلوه باستثناء أولئك الذين احتفظوا بتحيزات دينية عميقة الجذور أو أولئك الذين ظنوا أنهم لمسوا مخاطر سياسية في تعاليمه. لقد اندهش الناس من أصالة ومرجعية تعليمه. تعَّجبوا من صبره في التعامل مع مستفسرين مزعجين ورجعيين. ألهم الأمل والثقة في قلوب كل من أتى تحت إسعافه. فقط أولئك الذين لم يلتقوا به خافوه, ولم يكن مكروهًا إلا من أولئك الذين اعتبروه كبطل ذلك الحق الذي كان مقـَّدراً أن يُطيح بالشر والخطأ الذي أصَّروا على الإحتفاظ به في قلوبهم بأي ثمن.
149:2.14 (1672.3) على كل من الأصدقاء والأعداء مارس تأثيراً قوياً ورائعاً. كانت الجموع تتبعه لأسابيع, فقط لسماع كلماته الكريمة ورؤية حياته البسيطة. رجال ونساء مكرسون أحبوا يسوع بود فائق عن الإنساني تقريبأ. وكلما عرفوه أفضل كلما أحبوه أكثر. وكل هذا لا يزال صحيحاً؛ حتى اليوم وفي كل العصور المستقبلية, كلما عرف الإنسان هذا الله-الإنسان, الأكثر سيحبه ويتبع وراءه.
149:3.1 (1672.4) على الرغم من الاستقبال الإيجابي ليسوع وتعاليمه من قِبل عامة الناس, أصبح القادة الدينيون في أورشليم قلقين وعدائيين بشكل متزايد. كان الفريسيون قد صاغوا لاهوتاً منهجياً وعقائدياً. كان يسوع معلماً علـَّم حسب ما خدمت المناسبة؛ لم يكن معلماً منهجياً. لقد علـَّم يسوع ليس كثيراً من الشريعة بقدر ما علّم من الحياة, بالأمثال. (وعندما وظف مَثلاً لتوضيح رسالته, كان مُصَمَماً لاستخدام ميزة واحدة فقط من القصة لهذا الغرض. قد يتم تأمين العديد من الأفكار الخاطئة المتعلقة بتعاليم يسوع من خلال محاولة تكوين رموز من أمثاله.)
149:3.2 (1672.5) كان القادة الدينيون في أورشليم يشعرون بالقلق الشديد إزاء الهداية الحديثة لإبراهيم الشاب وهجر ثلاثة من الجواسيس الذين عمَّدهم بطرس, والذين كانوا الآن مع الإنجيليين على جولة الوعظ الثانية هذه في الجليل. كان القادة اليهود معميين بشكل متزايد بالخوف والتحيز, بينما كانت قلوبهم مقساة بسبب الرفض المستمر للحقائق الجذابة لإنجيل الملكوت. عندما يغلق الناس نداء الروح الذي يسكن داخلهم, هناك القليل مما يمكن فعله لتعديل موقفهم.
149:3.3 (1672.6) عندما التقى يسوع للمرة الأولى بالإنجيليين في مخيم بيت-صيدا, في ختام كلمته, قال: "يجب أن تتذكروا بأنه في الجسد والعقل ــ عاطفياً ــ يتفاعل الناس يشكل فردي. الشيء الوحيد الموحد في الناس هو الروح الساكن. ولو إن الأرواح الإلَهية قد تتنوع إلى حد ما في طبيعة ومدى تجربتها, فهي تتفاعل بشكل موحد مع كل الالتماسات الروحية. فقط من خلال هذا الروح, ومن خلال الالتجاء إليه يستطيع جنس الإنسان دائماً أن يبلغ الوحدة والأخوة." لكن كثيرين من قادة اليهود أغلقوا أبواب قلوبهم أمام الالتماس الروحي للإنجيل, منذ هذا اليوم وصاعداً لم يتوقفوا عن التخطيط والتآمر لإهلاك السيد. كانوا مقتنعين بأنه يجب القبض على يسوع, وإدانته, وإعدامه كمخالف دِيني, كمنتهك للتعاليم الأساسية للشريعة المقدسة اليهودية.
149:4.1 (1673.1) قام يسوع بالقليل جداً من العمل العلني في جولة الوعظ هذه, لكنه أدار العديد من الصفوف المسائية مع المؤمنين في معظم المدن والقرى حيث صادف أن يقيم مع يعقوب ويوحنا. في إحدى هذه الاجتماعات المسائية, سأل أحد الإنجيليين الأصغر يسوع سؤالاً عن الغضب, فقال السيد بين أمور أخرى, في الرد:
149:4.2 (1673.2) "الغضب هو تجلي مادي الذي يمثل, بشكل عام, مقياس فشل الطبيعة الروحية في كسب سيطرة على الطبيعتين الفكرية والفيزيائية مجتمعة. يشير الغضب إلى افتقارك للحب الأخوي المتسامح بالإضافة إلى افتقارك إلى احترام الذات وضبط النفس. الغضب يستنزف الصحة, ويحط من قدر العقل, ويعيق معَّلم الروح لنفـْس الإنسان. ألم تقرأ في الكتابات المقدسة أن ’السخط يقتل الأحمق‘, وبأن الإنسان ’يمزق نفسه في غضبه‘؟ بأن ’البطيء في السخط هو ذا فهم عظيم‘, بينما ’سريع المزاج يمجد الحماقة‘؟ تعلمون جميعًا بأن ’الجواب اللين يُبعد السخط‘, وكيف أن ’الكلمات المكدرة تثير الغضب‘. ’الفطنة تؤخر الغضب‘, بينما من لا يتحكم في نفسه هو مثل مدينة بدون أسوار لا دفاع لها‘. ’السخط قاسٍ والغضب شائن‘, ’الناس الغاضبون يثيرون الفتنة, بينما الهائجون يضاعفون تجاوزاتهم‘. ’لا تتسرع في الروح, لأن الغضب يكمن في صدر الحمقى.‘" قبل أن يتوقف يسوع عن الكلام, قال بعد: "لتكن قلوبكم مسيطر عليها بالمحبة بحيث يواجه مُرشد روحكم القليل من الصعوبة في تخليصكم من هذا الميل للتنفيس عن نوبات الغضب الحيواني التي لا تنسجم مع وضع البنوة الإلَهية."
149:4.3 (1673.3) في هذه المناسبة نفسها تكلم السيد إلى الجماعة عن استحباب امتلاك سجايا حسنة التوازن. أدرك أنه من الضروري بالنسبة لمعظم الناس أن يكرسوا أنفسهم لإتقان مهنة ما, لكنه شجب كل نزعة نحو التخصص المفرط, نحو أن يصبح ضيق الأفق ومقيد في أنشطة الحياة. لفت الانتباه إلى حقيقة أن أي فضيلة, إذا حُملت إلى التطرف, قد تصبح رذيلة. وعظ يسوع دائماً الاعتدال وعلـَّم الثبات ــ التكيف المتناسب مع مشاكل الحياة. أشار إلى أن الإفراط في التعاطف والشفقة قد يتحول إلى حالة خطيرة من عدم الاستقرار العاطفي؛ بأن الحماس قد يؤدي إلى التعصب. ناقش أمر أحد زملائهم السابقين الذي قاده خياله إلى مهام خيالية وغير عملية. في الوقت نفسه حذرهم من مخاطر بلادة الوسطية المفرطة في المحافظة.
149:4.4 (1673.4) وبعدئذٍ حاضر يسوع عن مخاطر الشجاعة والإيمان, كيف يقودان أحياناً النفوس غير المفكرة إلى التهور والغَطرَسَة. كما أظهر كيف أن الحذر والحصافة, عندما يُحملان بعيداً جداً, يؤديان إلى الجُبن والفشل. حث سامعيه ليجتهدوا من أجل الأصالة بينما يتجنبون كل نزعة نحو غرابة الأطوار. طالب بالتعاطف دون انسياق مع العاطفة, التقوى بدون تظاهر بالصلاح. علـَّم الخشوع الخالي من الخوف والخرافات.
149:4.5 (1674.1) لم يكن كثيراً ما علـَّمه يسوع عن الطبع المتوازن ما أثّار إعجاب زملائه بقدر ما كان حقيقة أن حياته الخاصة كانت مثل هذا المثال البليغ لتعليمه. لقد عاش في وسط التوتر والعاصفة, لكنه لم يتزعزع أبداً. دأب أعداؤه على نصب الشراك له, لكنهم لم يحاصروه أبداً. سعى الحكيم والمتعلم إلى تعثره, لكنه لم يتعثر. سعوا لتوريطه في الجدل, لكن إجاباته كانت دائماً مستنيرة, ومبجلة, ونهائية. عندما كان يُقاطَع في محاضراته بأسئلة كثيرة, كانت إجاباته دائماً ذات مغزى وحاسمة. لم يلجأ أبداً إلى التكتيكات الدنيئة في مواجهة الضغط المستمر لأعدائه, الذين لم يتوانوا عن توظيف كل نوع من الأسلوب المزوَر, وغير المنصف, وغير الصالح لمهاجمته.
149:4.6 (1674.2) في حين أنه من الصحيح أن العديد من الرجال والنساء يجب أن يطـَّبقوا أنفسهم بجد إلى مسعى محدد ما كمهنة لكسب الرزق, إنه على كل مرغوب تماماً أن يُنمي البشر نطاقًا واسعًا من الإلمام الحضاري بالحياة بينما تُعاش على الأرض. الأشخاص المتعلمون حقاً ليسوا راضين بالبقاء في جهل عن معايش وأفعال زملائهم.
149:5.1 (1674.3) عندما كان يسوع يزور جماعة الإنجيليين العاملين تحت إشراف سمعان زيلوطس, أثناء مؤتمرهم المسائي سأل سمعان السيد: "لماذا يشعر بعض الأشخاص بالسعادة والرضا أكثر من غيرهم؟ هل الرضا مسألة تجربة دينية؟" من بين أمورأخرى, قال يسوع في الرد على سؤال سمعان:
149:5.2 (1674.4) "سمعان, بعض الأشخاص هم بشكل طبيعي أكثر سعادة من غيرهم. يعتمد الكثير, الكثير جداً, على استعداد الإنسان لقيادة وتوجيه روح الأب الذي يعيش داخله. ألم تقرأ في الكتابات المقدسة كلمات الرجل الحكيم, ’روح الإنسان هي شمعة الرب, تفحص كل الأجزاء الداخلية‘؟ أيضاً حيث يقول هكذا بشر مهتدين بالروح: ’الخطوط تسقط إلَي في أمكنة سارة؛ نعم, لدي إرث صالح‘. ’القليل الذي لدى الإنسان البْار خير من ثروات كثيرين من الأشرار‘. لأن ’الرجل الصالح سيكون راضياً من داخل نفسه‘. ’القلب الفرح يجعل مُحيا مبتهج وهو وليمة متواصلة‘. ’القليل مع توقير الرب أفضل من كنز كبير ومتاعب معه‘. ’عشاء بُقول حيث المحبة أفضل من ثور مسمن وبغضاء معه‘. ’قليل مع البر أفضل من عائدات كبيرة دون استقامة‘. ’القلب الفرح يفعل خيراً مثل الدواء‘. ’حفنة مع هدوء أفضل من وفرة زائدة مع حزن وإغاظة للروح.‘
149:5.3 (1674.5) " يولد الكثير من حزن الإنسان من خيبة أمل طموحاته وجرح فخره. على أن الناس مدينون لأنفسهم بتحقيق أقصى استفادة من حياتهم على الأرض, حيث أنهم قد بذلوا أنفسهم هكذا بإخلاص, ينبغي عليهم أن يتقبلوا نصيبهم بمرح وأن يمارسوا البراعة في تحقيق أقصى استفادة مما وقع في أيديهم. الكثير جداً من مشاكل الإنسان تنبع من تربة الخوف لقلبه الطبيعي. ’الأثيم يهرب عندما لا أحد يلحق‘.الاشرار كالبحر الهائج, لأنه لا يمكن أن يهدأ, لكن مياهه تقذف الوحل والتراب؛ ليس هناك سلام, يقول الله, من أجل الأثيم.‘
149:5.4 (1674.6) "لا تسعى إذن, إلى سلام زائف وفرح عابر بل بالأحرى إلى يقين الإيمان, وضمانات البنوة الإلَهية التي تنتج هدوء, وقناعة, وفرح سامي في الروح."
149:5.5 (1675.1) بالكاد اعتبر يسوع هذا العالَم بمثابة "وادي دموع". بل كان ينظر إليه كجو الولادة للأرواح الخالدة والأبدية لارتقاء الفردوس, وادي صناعة النفـْس."
149:6.1 (1675.2) لقد كان في غامالا, أثناء المؤتمر المسائي, حيث قال فيليبُس ليسوع: "يا سيد, لماذا ترشدنا الكتابات المقدسة أن "نخاف الرب," بينما أنت تطلب منا أن نتطلع إلى الأب في السماء بلا خوف؟ كيف لنا أن ننسق هذه التعاليم؟ فأجاب يسوع فيليبُس, قائلاً:
149:6.2 (1675.3) "يا أولادي, لست مندهشاً بأنكم تسألون مثل هذه الأسئلة. في البداية كان فقط من خلال الخوف بأن استطاع الإنسان أن يتعَّلم التوقير, لكنني جئت لأكشف محبة الأب بحيث ستنجذبون إلى عبادة الأبدي من خلال سحب تعَّرف الابن الحنون والمقابلة بالمثل لمحبة الأب العميقة والمثالية. أود أن أخلصكم من عبودية قيادة أنفسكم من خلال الخوف الاستعبادي للخدمة الشاقة لإله-ملك غيور وساخط. أود أن أرشدكم إلى علاقة الأب-الابن بين الله والإنسان بحيث قد تنقادوا بفرح إلى تلك العبادة الحرة المهيبة والسامية لله-الأب المُحب, والعادل, والرحيم.
149:6.3 (1675.4) "إن ’مخافة الرب‘ لها معاني مختلفة في العصور المتعاقبة, آتية من الخوف, مروراً بالضيق والرعب, إلى الرهبة والخشوع. والآن من الخشوع أود أن أقودكم صعوداً, من خلال الاعتراف, والإدراك, والتقدير, إلى المحبة. عندما يتعرف الإنسان فقط على أعمال الله, يُقاد إلى خوف الأسمى؛ لكن عندما يبدأ الإنسان في فهم واختبار شخصية وسجية الله الحي, فإنه يُقاد على نحو متزايد إلى محبة مثل هذا الأب الصالح والمثالي, الكوني والأبدي. وإنه بالضبط هذا التغيير في علاقة الإنسان بالله ما يشكل مهمة ابن الإنسان على الأرض.
149:6.4 (1675.5) "الأولاد الأذكياء لا يخافون أباهم من أجل أن يحصلوا على هدايا جيدة من يده؛ لكن حيث إنهم قد استلموا بالفعل وفرة من الأشياء الجيدة المغدقة بإملاءات ود الأب لأبنائه وبناته, فإن هؤلاء الأولاد المحبوبين جداً يُقادون إلى محبة أبيهم في تعَّرف وتقدير متجاوب لمثل هذا الإحسان السخي. لطف الله يؤدي إلى التوبة؛ إحسان الله يؤدي إلى الخدمة؛ رحمة الله تؤدي إلى الخلاص؛ بينما محبة الله تؤدي إلى عبادة ذكية وحرة القلب.
149:6.5 (1675.6) "أسلافكم خافوا الله لأنه كان جباراً وغامضاً. أنتم يجب أن تهيموا به لأنه عظيم في المحبة, ووافر في الرحمة, ومجيد في الحق. قدرة الله تولد الخوف في قلب الإنسان, لكن نُبل شخصيته وصلاحها يولدان الخشوع, والمحبة, والعبادة الراغبة. الابن المطيع والودود لا يخاف أو يرهب حتى أب جبار ونبيل. لقد جئت إلى العالَم لأضع الحب في مكان الخوف, والفرح في مكان الحزن, والثقة في مكان الرهبة, وخدمة محبة وعبادة مُقـَّدِرة في مكان الرباط الاستعبادي والطقوس التي لا معنى لها. لكن يظل صحيحاً بالنسبة لأولئك الذين يجلسون في الظلام بأن ’مخافة الرب هي بداية الحكمة‘. لكن عندما يأتى النور بشكل كامل, يُقاد أبناء الله إلى حمد اللانهائي من أجل ما هو عليه بدلاً من خوفهم منه على ما يفعله.
149:6.6 (1675.7) "عندما يكون الأولاد صغاراً وغير قادرين على التفكير, يجب بالضرورة أن يُحَّذروا لتكريم والديهم؛ لكن عندما يكبرون ويصبحون نوعاً ما أكثر تقديراً لمنافع حماية وخدمة الوالدين, فإنهم يُرشدون, من خلال الاحترام المتفهم والود المتزايد, إلى ذلك المستوى من الخبرة حيث يحبون فعلاً والديهم لما هم عليه أكثر مما من أجل ما فعلوه. يحب الأب طفله بشكل طبيعي, لكن يجب على الطفل أن ينمي حبه للأب من الخوف مما يمكن أن يفعله الأب, من خلال الرهبة والرعب والتبعية والتبجيل, إلى الاعتبار التقديري والودود للمحبة.
149:6.7 (1676.1) "لقد عُلـِّمتم بأنكم يجب أن ’تخافوا الله وتحفظوا وصاياه, لأن هذا هو كل واجب الإنسان.‘ لكنني جئت لأعطيكم وصية جديدة وأسمى. أود أن أعَّلِمكم ’أن تحبوا الله وأن تتعلموا أن تفعلوا مشيئته, لأن هذا هو أعلى امتياز لأبناء الله المحررين.‘ لقد عُلـِّم آباؤكم ’أن يخافوا الله ــ الملك القدير.‘ أنا أُعَّلِمكم ’أحبوا الله ــ الأب الكلي الرحمة.‘
149:6.8 (1676.2) "في ملكوت السماء, الذي جئت لأعلنه, لا يوجد ملك عالٍ وقدير؛ هذا الملكوت هو عائلة إلَهية. المركز المعبود بدون تحفظ المعترف به كونياً ورئيس هذه الأخوة البعيدة المدى من الكائنات الذكية هو أبي وأبيكم. أنا ابنه, وأنتم أيضاً أبناؤه. لذلك فإنه إلى الأبد صحيح انه أنتم وأنا إخوة في الحالة السماوية, وكل الأكثر هكذا حيث أننا أصبحنا إخوة في جسد الحياة الأرضية. توقفوا, إذن, عن مخافة الله كملك أو خدمته كسيد؛ تعَّلموا تبجيله باعتباره الخالق؛ وأن تُكرموه كأب لشباب روحكم؛ احبوه كمدافع رحيم؛ وفي الختام اعبدوه كأب مُحِب وكلي الحكمة لإدراككم وتقديركم الروحي الأكثر نضجاً.
149:6.9 (1676.3) "من مفاهيمكم الخاطئة عن الأب في السماء تنمو أفكاركم الزائفة عن التواضع وينبع الكثير من نفاقكم. قد يكون الإنسان دودة من التراب بالطبيعة والأصل, لكن عندما يصبح مسكوناً بروح أبي, يصبح ذلك الإنسان إلَهياً في مصيره. روح الإغداق لأبي سيعود بالتأكيد إلى المصدر الإلَهي ومستوى نشأة الكون, والنفـْس البشرية للإنسان الفاني التي ستكون قد أصبحت الطفل المولود من جديد لهذا الروح الساكن سترتقي بالتأكيد مع الروح الإلَهي إلى ذات الحضور للأب الأبدي.
149:6.10 (1676.4) "التواضع, في الواقع, يصبح الإنسان الفاني الذي يستلم كل هذه الهدايا من الأب في السماء, وإن كانت هناك كرامة إلهية مرتبطة بكل هؤلاء المرشحين للإيمان من أجل الارتقاء الأبدي للملكوت السماوي. الممارسات التي لا معنى لها والوضيعة للتواضع المتباهي والزائف تتعارض مع تقدير مصدر خلاصكم والتعَّرف على مصير نفوسكم المولودة من الروح. التواضع أمام الله لائق إجمالاً في أعماق قلوبكم؛ الوداعة أمام الناس تستحق الثناء؛ لكن نفاق التواضع الواعي بالذات والتوق إلى الانتباه هو طفولي ولا يستحق أبناء الملكوت المستنيرين.
149:6.11 (1676.5) "يحسن بكم أن تكونوا وديعين أمام الله ومتحكمين-بالذات أمام الناس, لكن لتكن وداعتكم ذات أصل روحي وليست عرضاً خادعاً-للذات لإحساس واعٍ-للذات لتفوق بار-بالذات. تكلم النبي بنصيحة عندما قال, اسلكوا بتواضع مع الله‘, لأنه, بينما الأب في السماء هو لانهائي وأبدي, هو كذلك يسكن ’معه الذي بعقل نادم وروح متواضع.‘ أبي يأنف الكبرياء, ويعاف النفاق, ويمقت الإثم. وقد كان للتأكيد على قيمة الإخلاص والثقة المثالية في الدعم المُحب والإرشاد المخلص للأب السماوي بأني قد أشرت في كثير من الأحيان إلى الطفل الصغير كتوضيح لموقف العقل استجابة الروح الضروريان للغاية لدخول الإنسان الفاني إلى الحقائق الروحية لملكوت السماء.
149:6.12 (1677.1) "حسناً وصف النبي إرميا العديد من البشر عندما قال: ’أنتم قرب الله في الفم لكن بعيدون عنه في القلب.‘ وألم تقرأوا أيضاً ذلك التحذير الرهيب للنبي الذي قال: ’كهنتها يُعلمون من أجل الأجرة, وأنبياؤها يتألهون من أجل المال. في الوقت نفسه يدعون التقوى ويعلنون بأن الرب معهم.‘ ألم تُحذَّروا جيداً ممن ’يتكلمون بالسلام إلى جيرانهم عندما يكون الأذى في قلوبهم‘,أولئك الذين ’يمدحون بالشفاه بينما القلب مُعطى للتعامل المزدوج‘؟ من كل أحزان الإنسان الواثق, ليس منها مريع مثل أن تكون ’مجروحاً في منزل صديق موثوق به.‘"
149:7.1 (1677.2) أندراوس بالتشاور مع سمعان بطرس وبموافقة يسوع, أرشد داود في بيت-صيدا ليُرسل رُسل إلى جماعات الوعظ المختلفة مع تعليمات بإنهاء الجولة والعودة إلى بيت-صيدا في وقت ما يوم الخميس, 30 كانون الأول. بحلول وقت العشاء في ذلك اليوم الممطر كانت كل الفرقة الرسولية والإنجيليين المعلمين قد وصلوا إلى بيت زَبـِدي.
149:7.2 (1677.3) بقيت الجماعة معاً في يوم السبت, حيث كانت مقيمة في بيوت بيت-صيدا وكفرناحوم القريبة منها, حيث مُنحت بعدها كامل الفرقة فرصة أسبوعين للعودة إلى ديارهم مع عائلاتهم, أو لزيارة أصدقائهم, أو للذهاب لصيد السمك. اليومان أو الثلاثة التي كانوا فيها معاً في بيت-صيدا كانت, حقاً, مبهجة ومُلهمة؛ حتى المعلمين الأقدم كانوا منورين بالواعظين الشباب وهم يروون تجاربهم.
149:7.3 (1677.4) من بين الـ 117 إنجيلي الذين شاركوا في جولة الوعظ الثانية للجليل هذه, بقي فقط خمسة وسبعين بعد اختبار الخبرة الفعلية وكانوا على وشك أن يتم تكليفهم بالخدمة في نهاية عطلة الأسبوعين. بقي يسوع, مع أندراوس, وبطرس, ويعقوب, ويوحنا, في بيت زَبـِدي وأمضوا الكثير من الوقت في مؤتمر بشأن رفاهية الملكوت وتوسيعه.
كِتاب يورانشيا
ورقة 150
150:0.1 (1678.1) في مساء يوم الأحد, 16 كانون الثاني, عام 29 م. وصل أبنير, مع رًسل يوحنا, إلى بيت-صيدا ودخلوا في اليوم التالي في مؤتمر مشترك مع أندراوس ورُسل يسوع. كان أبنير ورفاقه قد اتخذوا مقرهم في حبرون وكانوا معتادون على المجيء إلى بيت-صيدا بشكل دوري من أجل هذه المؤتمرات.
150:0.2 (1678.2) من بين العديد من الأمور التي تم النظر فيها في هذا المؤتمر المُشترَك كانت ممارسة مسح المرضى بأنواع معينة من الزيت في علاقة بالصلوات من أجل الشفاء. مرة أخرى رفض يسوع المشاركة في مناقشاتهم أو التعبير عن نفسه بخصوص استنتاجاتهم. استخدم رُسل يوحنا زيت المسح دائماً في إسعافهم إلى المرضى والمصابين, وسعوا إلى ترسيخ هذه كممارسة موحدة لكلا المجموعتين, لكن رُسل يسوع رفضوا إلزام أنفسهم بمثل هذا النظام.
150:0.3 (1678.3) يوم الثلاثاء, 18 كانون الثاني, انضم الأربعة والعشرون إلى الإنجيليين الذين تم اختبارهم, حوالي خمسة وسبعين في العدد, في منزل زَبـِدي في بيت-صيدا تحضيراً لإرسالهم على جولة الوعظ الثالثة للجليل. استمرت هذه المهمة الثالثة لسبعة أسابيع.
150:0.4 (1678.4) تم إرسال الإنجيليين في مجموعات من خمسة, بينما كان يسوع والإثني عشر يسافرون معاً في معظم الأوقات, خرج الرُسل اثنان واثنان لتعميد المؤمنين حسب متطلبات المناسبة. كما عمل أبنير ورفاقه مع الجماعات الإنجيلية لفترة من حوالي ثلاثة أسابيع, لتقديم المشورة لهم وتعميد المؤمنين. زاروا مجدلا, وطبريا, والناصرة, وكل المدن والقرى الرئيسية للجليل الأوسط والجنوبي, وجميع الأماكن التي زاروها سابقاً والعديد من الأماكن الأخرى. كانت هذه رسالتهم الأخيرة إلى الجليل باستثناء الأجزاء الشمالية.
150:1.1 (1678.5) من بين كل الأشياء الجريئة التي قام بها يسوع فيما يتعلق بمهمته الأرضية, كان الأكثر إثارة للدهشة إعلانه المفاجئ في مساء 16 كانون الثاني: "في الغد سنضع على حدة عشر نساء لأجل عمل الإسعاف للملكوت." في بداية فترة الأسبوعين التي كان من المقرر أن يتغيب خلالها الرُسل والإنجيليون عن بيت-صيدا في فترة إجازتهم, طلب يسوع من داود استدعاء والديه للعودة إلى منزلهما وأن يُرسل رُسلاً يدعون إلى بيت-صيدا عشر نساء مكرسات خدمن في إدارة المخيم السابق ومستوصف الخيام. كانت كل هؤلاء النسوة قد استمعن إلى الإرشادات التي أُعطيت للإنجيليين الشباب, لكن لم يخطر أبداً ببالهن أو لمعلميهن بأن يسوع سيجرؤ على تكليف نساء بتعليم إنجيل الملكوت والإسعاف إلى المرضى. هؤلاء النساء العشر اللواتي تم اختيارهن وتفويضهن من قبل يسوع كن: سوزانا, ابنة الشازان السابق لكنِيس الناصرة؛ وجوانا, زوجة شوزا, رئيس خدم هيرودس أنتيباس؛ وأليصابات, ابنة يهودي ثري من طبريا وصفوريه؛ ومارثا, الشقيقة الكبرى لأندراوس وبطرس؛ وراحيل, شقيقة زوجة يهوذا, شقيق السيد في الجسد؛ وناسانتا, ابنة عِلمان, الطبيب السوري؛ وميلخا, ابنة عم الرسول توما؛ وراعوث, الابنة الكبرى لمتـّى لاوي؛ وكِلتا, ابنة رئيس المائة الروماني؛ وأغامان, أرملة من دمشق. فيما بعد أضاف يسوع سيدتين أخريين إلى هذه المجموعة ــ مريم المجدلية ورفقة, ابنة يوسف الأريماضيا.
150:1.2 (1679.1) فوَّض يسوع هؤلاء النسوة لتفعيل تنظيمهن الخاص ووّجه يوداص لتوفير الأموال لعدتهن ومن أجل دواب النقل. انتخب العشرة سوزانا كرئيسة لهن وجوانا كأمينة صندوقهن. من هذا الوقت فصاعداً قمن بتزويد أموالهن الخاصة؛ ولم يسحبن مرة أخرى من يوداص من أجل الدعم.
150:1.3 (1679.2) كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة في ذلك اليوم, عندما لم يُسمح للنساء حتى في الطابق الرئيسي للكنِيس (كونهن محدودات إلى قاعة النساء), مشاهدتهن مُعترَف بهن كمعلمات معتمدات لإنجيل الملكوت الجديد. العهدة التي أعطاها يسوع لهؤلاء النساء العشر عندما أرسلهن على حدة لتعليم وخدمة الإنجيل كانت الإعلان المعتق الذي حرر جميع النساء ولكل زمن؛ لم يعد الرجل ينظر إلى المرأة على أنها أقل شأنا روحياً. كانت هذه صدمة مقررة حتى للرُسل الاثني عشر. بالرغم من أنهم سمعوا السيد يقول مرات عديدة بأنه "في ملكوت السماء ليس هناك غني ولا فقير, لا حر ولا عبد, لا ذَكر ولا أنثى, جميعهم متساوون أبناء وبنات الله," لقد صُدموا حرفياً عندما اقترح رسمياً تكليف هؤلاء النساء العشر كمعلمات دِينيات وحتى السماح لهن بالسفر معهم. كانت البلاد بأكملها مثارة بهذا الإجراء, حيث حقق أعداء يسوع رأس مال كبير من هذه الخطوة, لكن في كل مكان وقفت النساء المؤمنات بالبشارة بصلابة وراء أخواتهن المختارات ولم يعربن عن موافقة غير مؤكدة بهذا الاعتراف المتأخر بمكانة المرأة في العمل الدِيني. وقد مارس الرُسل هذا التحرير للنساء الذي أعطاهن الاعتراف المستحق, بعد رحيل السيد مباشرة, وإن عادوا إلى العادات القديمة في الأجيال اللاحقة. طوال الأيام المبكرة للكنيسة المسيحية كانت المعلمات والمسعفات تُسمى شماسات وكن ممنوحات اعترافاً عاماً. لكن بولس, بالرغم من حقيقة أنه قبـِل بكل هذا من الناحية النظرية, في الحقيقة لم يدمجه أبداً في موقفه وشخصياً وجد صعوبة في تنفيذه عملياً.
150:2.1 (1679.3) فيما ارتحلت الفرقة الرسولية من بيت-صيدا, سافرت النساء في الخلف. أثناء وقت المؤتمر جلسن دائماً في مجموعة أمام المتكلم وعلى يمينه. على نحو متزايد, أصبحت النساء مؤمنات بإنجيل الملكوت, ولقد كان مصدراً للكثير من الصعوبة ولا نهاية للحرج عندما رغبن في عقد محادثة شخصية مع يسوع أو أحد الرُسل. الآن كل هذا تغيَّر. عندما رغبت أي من النسوة المؤمنات في رؤية السيد أو التشاور مع الرُسل, ذهبن إلى سوزانا, وبصحبة واحدة من النساء الإنجيليات الاثنتي عشرة, كن يذهبن رأساً إلى حضرة السيد أو أحد رُسله.
150:2.2 (1680.1) لقد كان عند مجدلا حيث أول ما أظهرت النساء منفعتهن وأثبتن حكمة اختيارهن. كان أندراوس قد فرض قوانين صارمة إلى حد ما على زملائه حول القيام بعمل شخصي مع نساء, خاصة مع أولئك المشكوك في سجيتهن. عندما دخلت الفرقة مجدلا, كانت هؤلاء النساء العشرة الإنجيليات أحراراً في دخول ملاذات الشر ووعظ البشائر مباشرة إلى كل نازليه. وعند زيارة المرضى, تمكنت هؤلاء النساء من الإقتراب جداً في إسعافهن إلى أخواتهن المصابات. كنتيجة لهذا الإسعاف من النسوة العشرة (المعروفات فيما بعد بإسم الاثنتي عشرة امرأة) في هذا المكان, تم كسب مريم المجدلية للملكوت. خلال تتالي من المصائب ونتيجة لموقف المجتمع المشهور تجاه النساء اللواتي يقترفن مثل هذه الأخطاء في الحكم, كانت هذه المرأة قد وجدت نفسها في إحدى الملاذات الشائنة في مجدلا. لقد كانت مارثا وراحيل اللتان أوضحتا لمريم بأن أبواب الملكوت مفتوحة حتى إلى مَن مثلها. آمنت مريم بالأخبار الجيدة وعُّمدت على يد بطرس في اليوم التالي.
150:2.3 (1680.2) أصبحت مريم المجدلية المعلمة الأكثر فاعلية للإنجيل بين هذه المجموعة من النساء الإنجيليات الاثنتي عشرة. تم وضعها على حدة لأجل مثل هذه الخدمة, سوية مع رفقة, في يوتاباطا بعد حوالي أربعة أسابيع من هدايتها. مريم ورفقة مع أخريات من هذه المجموعة, خلال ما تبقى من حياة يسوع على الأرض بقين عاملات بإخلاص وفعالية لتنوير ورفع أخواتهن المضطهدات؛ وعندما بدأت الحلقة الأخيرة والمأساوية في دراما حياة يسوع, بالرغم من فرار الرُسل جميعاً سوى واحد, كانت هؤلاء النساء حاضرات كلهن, ولا واحدة أنكرته أو خانته.
150:3.1 (1680.3) كانت خدمات السبت للفرقة الرسولية قد وضعت في أيدي النساء من قبل أندرواس, بناء على تعليمات من يسوع. هذا عنى, بالطبع, بأنه لا يمكن عقدها في الكنِيس الجديد. اختارت النساء جوانا لتولي هذه المناسبة, وعُقد الاجتماع في قاعة الولائم في قصر هيرودس الجديد, حيث كان هيرودس غائباً في إقامة عند يوليوس في بيريا. قرأت جوانا من الكتابات المقدسة بما يخص عمل المرأة في الحياة الدِينية لإسرائيل, مشيرة إلى مريم, وديبوره, وأستير, وأخريات.
150:3.2 (1680.4) في وقت متأخر من ذلك المساء, ألقى يسوع كلمة لا تُنسى للمجموعة الموحدة حول "السحر والخرافة." في تلك الأيام كان ظهور نجم لامع ومن المفترض جديد يُعتبَر بمثابة رمز يشير إلى أن رَجلاً عظيماً قد وُلد على الأرض. بعد أن رُصد مثل هذا النجم مؤخراً, سأل أندراوس يسوع إذا كان لهذه المعتقدات أسس سليمة. في الإجابة الطويلة على سؤال أندراوس دخل السيد في مناقشة شاملة لموضوع الخرافات البشرية برمته. يمكن تلخيص البيان الذي أدلى به يسوع في هذا الوقت في نص حديث على النحو التالي:
150:3.3 (1680.5) 1. إن مسارات النجوم في السماوات ليس لها أدنى علاقة أبداً بأحداث الحياة البشرية على الأرض. عِلم الفلك هو مسعى لائق للعِلم, لكن علم التنجيم هو كُتلة من الأخطاء الخرافية التي لا مكان لها في إنجيل الملكوت.
150:3.4 (1680.6) 2. فحص الأعضاء الداخلية لحيوان قُتل حديثاً لا تكشف شيئاً عن الطقس, أو الأحداث المستقبلية, أو نتائج الشؤون البشرية.
150:3.5 (1680.7) 3. لا تعود أرواح الموتى للتواصل مع عائلاتها أو أصدقائها لأحد الأوقات بين الأحياء.
150:3.6 (1681.1) 4. التعويذات والآثار عاجزة عن شفاء المرض, أو درء الكارثة, أو التأثير على الأرواح الشريرة؛ الاعتقاد بكل هذه الوسائل المادية للتأثير على العالَم الروحي ليس سوى خرافة فادحة.
150:3.7 (1681.2) 5. إلقاء القرعة, رغم أنها قد تكون طريقة ملائمة لتسوية العديد من الصعوبات الطفيفة, إلا أنها ليست طريقة مُصمَمة للكشف عن المشيئة الإلَهية. مثل هذه النتائج هي مجرد أمور تتعلق بالصدفة المادية. الوسائل الوحيدة للمشاركة مع العالَم الروحي محتواة في هِبة الروح لجنس الإنسان, الروح الساكن من الأب, سوية مع تدفق روح الابن والتأثير الدائم الحضور للروح اللانهائي.
150:3.8 (1681.3) 6. العرافة, والشعوذة, والكهانة هي خرافات العقول الجاهلة, وكذلك أوهام السحر. الاعتقاد بأرقام سحرية, وتفاؤلات الحظ الجيد, ونذر الحظ السيئ, هي خرافات خالصة لا أساس لها من الصحة.
150:3.9 (1681.4) 7. تفسير الأحلام هو إلى حد كبير نظام خرافي لا أساس له من التكهنات الجاهلة والخيالية. يجب ألا يكون لإنجيل الملكوت أي شيء مشترك مع كهنة العرافين للدين البدائي.
150:3.10 (1681.5) 8. لا يمكن لأرواح الخير أو الشر أن تسكن داخل الرموز المادية للطين, أو الخشب, أو المعدن؛ الأصنام ليست أكثر من المواد التي صُنعت منها.
150:3.11 (1681.6) 9. ممارسات الراقين, والمشعوذين, والسحرة, والعرافين, كانت مستمدة من خرافات المصريين, والأشوريين, والبابليين, والكنعانيين القدماء. التمائم وكل أنواع التعويذات لا طائل من ورائها سواء للفوز بحماية الأرواح الصالحة أو لدرء الأرواح الشريرة المفترضة.
150:3.12 (1681.7) 10. لقد فـَضَح واستنكر اعتقادهم في التعاويذ, والتحكيمات الإلَهية, وسلب العقل, واللعن, والعلامات, وتخديرات الجن, والحبال المعقودة, وجميع أشكال الخرافات الجاهلة والمستعبدة الأخرى.
150:4.1 (1681.8) في المساء التالي, بعد أن جمَّع يسوع معاً الرُسل الاثني عشر, ورُسل يوحنا, ومجموعة النساء المكلفات حديثاً, قال: "انتم ترون بأنفسكم بأن الحصاد وفير, لكن العمال قليلون. لذلك, لنصَّلي كلنا, لرب الحصاد بحيث يرسل أيضاً المزيد من العمال إلى حقوله. بينما أبقى لأواسي وأرشد المعلمين الأحدث, أود أن أرسل المعلمين الأقدم اثنين واثنين حتى يتمكنوا من المرور بسرعة على كل الجليل واعظين إنجيل الملكوت بينما لا يزال مناسباً وسلمياً." ثم عيَّن أزواج الرُسل كما أرادهم أن ينطلقوا, وكانوا: أندراوس وبطرس, يعقوب ويوحنا زَبـِدي, فيليبُس ونثانئيل, توما ومتـّى, يعقوب ويوداص ألفيوس, سمعان زيلوطس ويوداص أسخريوط.
150:4.2 (1681.9) رتب يسوع موعد لقاء الاثني عشر في الناصرة, وفي الوداع, قال: "في هذه المهمة لا تذهبوا إلى أي مدينة للأمميين, ولا تذهبوا إلى السامرة, لكن اذهبوا بدلاً من ذلك إلى الخراف الضالة لبيت إسرائيل. عِظوا إنجيل الملكوت وأُعلنوا الحقيقة المنقذة بأن الإنسان هو ابن الله. تذكروا بأن التلميذ لا يكاد يكون فوق سيده ولا الخادم أعظم من ربه. إنه يكفي للتلميذ أن يكون مساوياً لسيده والخادم ليصبح مثل ربه. إذا تجرأ بعض الناس على تسمية سيد المنزل زميل بعلزبوب, فكم بالحري سوف يعتبرون أولئك من أهل منزله! لكن يجب ألا تخافوا هؤلاء الأعداء غير المؤمنين. أُعلن لكم بأن لا شيء مخفي لن يتم الكشف عنه؛ ليس هناك شيء خفي لن يُعرف. ما علـَّمتكم على انفراد, ذلك عِظوه بحكمة في العلن. ما كشفت لكم في الغرفة الداخلية, ذلك لتعلنوه في الوقت المناسب من أسطح المنازل. وأقول لكم, يا أصدقائي وتلاميذي, لا تخافوا من الذين يستطيعون قتل الجسد, لكنهم لا يقدرون على تدمير النفـْس؛ بل ضعوا ثقتكم في الذي هو قادر على أن يعضد الجسد ويخلص النفـْس.
150:4.3 (1682.1) "أليسَ عصفوران يباعان بفلس؟ ومع ذلك أصرح أن لا أحد منهما منسى في نظر الله. ألا تعلمون بأن شعيرات رؤوسكم بالذات كلها معدودة؟ لا تخافوا, بالتالي؛ فأنتم أكثر قيمة من عدد كبير من العصافير. لا تخجلوا من تعليمي؛ انطلقوا معلنين السلام والنية الحسنة, لكن لا تنخدعوا ــ لن يلازم السلام دائماً وعظكم. لقد جئت لإحلال السلام على الأرض, لكن عندما يرفض الناس هديتي, يحصل الانقسام والاضطراب. عندما تستلم عائلة بأكملها إنجيل الملكوت, حقاً يقيم السلام في ذلك المنزل؛ لكن عندما يدخل بعض أفراد العائلة إلى الملكوت ويرفض آخرون الإنجيل, فإن مثل هذا الانقسام لا ينتج عنه إلا الأسف والحزن. اعملوا بجد لإنقاذ العائلة بأكملها خشية أن يصبح خصوم الإنسان من أهل بيته الخاص. لكن, عندما تكونون قد بذلتم قصارى جهدكم من أجل الجميع في كل أسرة, أصرح لكم بأن مَن يحب أب أو أُم أكثر من هذا الإنجيل ليس مستحقاً للملكوت."
150:4.4 (1682.2) عندما سمع الاثنا عشر هذه الكلمات, استعدوا للرحيل. ولم يجتمعوا معاً مرة أخرى حتى وقت تجمعهم في الناصرة للقاء يسوع والتلاميذ الآخرين كما كان السيد قد رتب.
150:5.1 (1682.3) ذات مساء في شونيم, بعد أن عاد رُسل يوحنا إلى حبرون, وبعد أن تم إرسال رُسل يسوع اثنين واثنين, عندما كان السيد منشغلاً بتعليم مجموعة من اثني عشر من الإنجيليين الأصغر سناً الذين كانوا يعملون تحت توجيه يعقوب, سوية مع الاثنتي عشرة امرأة, سألت راحيل يسوع هذا السؤال: "يا سيد, ماذا نجيب عندما تسألنا النساء, ماذا أفعل لأخَّلص؟" عندما سمع يسوع هذا السؤال, أجاب:
150:5.2 (1682.4) "عندما يسأل رجال ونساء ماذا نفعل من أجل الخلاص, يجب أن تجيبوا, آمنوا بهذا الإنجيل للملكوت؛ اقبلوا الغفران الإلَهي. بالإيمان تعَّرفوا على روح الله الساكن, الذي يجعلكم قبوله أبناء الله. ألم تقرأوا في الكتابات المقدسة حيث يُقال, ’في الرب لدي بر وقوة‘.وأيضًا حيث يقول الأب, ’بري قريب؛ خلاصي قد انطلق, وذراعاي ستحضنان شعبي‘. ’نفـْسي ستكون فرحة بمحبة إلَهي, لأنه ألبسني أثواب الخلاص وغطاني برداء بره‘.أما قرأتم أيضًا عن الأب بأن اسمه ’سيُدعى الرب برنا‘. ’انزعوا الخرق البالية من البر-الذاتي وألبسوا ابني رداء البر الإلَهي والخلاص الأبدي‘. إنه صحيح إلى الأبد, ’البار سيحيا بالإيمان‘. الدخول نحو ملكوت الأب مجاني تماماً, لكن التقدم ــ النمو في النعمة ــ ضروري للاستمرار فيه.
150:5.3 (1682.5) "الخلاص هو عطية الأب ويتم الكشف عنه من قبل أبنائه. القبول بالإيمان من جانبك يجعلك متناولاً من الطبيعة الإلَهية, ابن أو ابنة لله. بالإيمان تُبرَر؛ بالإيمان تُخَّلص؛ وبهذا الإيمان نفسه تتقدم إلى الأبد على طريق الكمال التدريجي والإلهي. بالإيمان كان إبراهيم مُبرراً وجُعل دارياً بالخلاص من خلال تعاليم ملكيصادق. لقد خلص هذا الإيمان نفسه على مر العصور أبناء البشر, لكن الآن قد خرج ابن من الأب ليصنع خلاصاً أكثر واقعيةً ومقبولاً".
150:5.4 (1683.1) عندما توقف يسوع عن الكلام, كان هناك فرح عظيم بين أولئك الذين سمعوا هذه الكلمات الكريمة, واستمروا جميعًا في الأيام التي تلت يعلنون إنجيل الملكوت بقوة جديدة وبحماس وطاقة متجددتين. وقد ابتهجت النساء أكثر من أي وقت مضى لمعرفة أنهن مشمولات في هذه الخطط لتأسيس الملكوت على الأرض.
150:5.5 (1683.2) في تلخيص بيانه الأخير, قال يسوع: "لا يمكنكم شراء الخلاص؛ لا يمكنكم كسب البر. الخلاص هو هدية الله, والبر هو الثمر الطبيعي لحياة البنوة المولودة بالروح في الملكوت. لستم لتُخَّلصوا لأنكم تعيشون حياة صالحة؛ بالأحرى إنكم تعيشون حياة صالحة لأنكم قد خُلصتم بالفعل, لقد أدركتم البنوة على أنها هبة من الله والخدمة في المملكة باعتبارها البهجة العليا للحياة على الأرض. عندما يؤمن الناس بهذا الإنجيل, الذي هو إعلان عن صلاح الله, سيُقادون إلى التوبة الطوعية عن كل الخطايا المعروفة. إن تحقيق البنوة لا يتوافق مع الرغبة في الخطيئة. يتوق المؤمنون بالملكوت إلى البر ويعطشون للكمال الإلَهي."
150:6.1 (1683.3) في المناقشات المسائية تحدث يسوع في مواضيع عديدة. خلال الفترة المتبقية من هذه الجولة ــ قبل أن يجتمع شملهم في الناصرة ــ ناقش "محبة الله", الأحلام والرؤى", "الحقد", "التواضع والوداعة", "الشجاعة والولاء", "الموسيقى والعبادة", "الخدمة والطاعة", "الكبرياء والافتراض", "الغفران في علاقة إلى التوبة", "السلام والكمال", " الكلام الشرير والحسد", "الشر والخطيئة والإغراء", "الشكوك وعدم الإيمان", "الحكمة والعبادة". مع الرُسل الأقدم بعيداً, دخلت هذه الجماعات الأكثر شباباً من رجال ونساء على حد سواء بمزيد من الحرية نحو هذه المناقشات مع السيد.
150:6.2 (1683.4) بعد قضاء يومين أو ثلاثة مع إحدى الجماعات من الإنجيليين الاثني عشر, كان يسوع ينتقل ليلتحق بجماعة أخرى, كائن مُحاط علماً بمكان وتحركات كل هؤلاء العمال من قبل رسل داود. هذه كائنة جولتهن الأولى, بقيت النساء معظم الوقت مع يسوع. من خلال خدمة الرُسل تم إبقاء كل مجموعة من هذه المجموعات على اطلاع تام فيما يتعلق بتقدم الجولة, وكان تلقي الأخبار من جماعات أخرى دائماً مصدر تشجيع لهؤلاء العمال المشتتين والمنفصلين.
150:6.3 (1683.5) قبل انفصالهم كان قد رُتب بأن يجتمع الرُسل الاثني عشر, سوية مع الإنجيليين وكتيبة النساء, في الناصرة ليلتقوا مع السيد يوم الجمعة, 4 آذار. بناء على ذلك, ، في هذا الوقت تقريبًا, بدأت هذه الجماعات المتنوعة من رُسل وإنجيليين بالتحرك نحو الناصرة من كل أجزاء الجليل الأوسط والجنوبي. بحلول منتصف الظهيرة, كان أندراوس وبطرس, آخر من وصل, إلى المخيم الذي أعده الوافدون الأوائل والواقع على المرتفعات إلى الشمال من المدينة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي زار فيها يسوع الناصرة منذ بداية إسعافه العام.
150:7.1 (1683.6) ظهر هذا اليوم الجمعة مشى يسوع حول الناصرة دون أن يلاحظه أحد وكلياً غير مُتعرَف عليه. مر ببيت طفولته ودكان النجارة وقضى نصف ساعة على التل الذي كان يستمتع به كثيراً عندما كان صبياً. ليس منذ يوم معموديته على يد يوحنا في الأردن كان لدى ابن الإنسان مثل هذا الطوفان من المشاعر البشرية يثور داخل نفـْسه. أثناء نزوله من الجبل, سمع الأصوات المألوفة لنفخ البوق معلنة غروب الشمس, تماماً كما سمعه مرات عديدة, كثيرة جداً عندما كان صبياً ينمو في الناصرة. قبل أن يعود إلى المخيم, مشى بالقرب من الكنِيس حيث كان قد ذهب إلى المدرسة وانغمس عقله في العديد من ذكريات أيام طفولته. في وقت سابق من اليوم كان يسوع قد أرسل توما ليرتب مع رئيس الكنِيس من أجل وعظه في خدمة صباح السبت.
150:7.2 (1684.1) لم يكن أهل الناصرة أبداً مشهورين بالتقوى والعيش البار. بمرور السنين, أصبحت هذه القرية ملوثة بشكل متزايد بالمعايير الأخلاقية المتدنية لصفوريه القريبة منها. طوال فترة فتوة يسوع وشبابه كان هناك انقسام في الرأي بشأنه في الناصرة؛ كان هناك الكثير من الاستياء عندما انتقل إلى كفرناحوم. في حين أن سكان الناصرة سمعوا الكثير عن أفعال نجارهم السابق, كانوا مغتاظين لأنه لم يشمل قريته الأصلية في أي من جولات وعظه السابقة. لقد سمعوا بالفعل عن شهرة يسوع, لكن غالبية المواطنين كانوا غاضبين لأنه لم يقم بأي من أعماله العظيمة في مدينة شبابه. لشهور تناقش أهل الناصرة كثيراً عن يسوع, لكن آراءهم كانت, بشكل عام, غير مؤاتية له.
150:7.3 (1684.2) هكذا وجد السيد نفسه في وسط, عودة إلى الوطن ليس مُرحب بها, بل جو معادٍ للغاية ومفرط في النقد. لكن هذا لم يكن كل شيء. أعداؤه, عارفون بأنه كان سيمضي يوم السبت هذا في الناصرة ومن المفترض بأنه سيتكلم في الكنِيس, استأجروا عدة رجال قُساة وفـّظين لمضايقته وبكل طريقة ممكنة لإثارة المتاعب.
150:7.4 (1684.3) كان معظم أصدقاء يسوع الأقدم, بما فيهم المعلم الشازان المولع به لشبابه, قد ماتوا أو غادروا الناصرة, وكان الجيل الأصغر ميالاً للإمتعاض من شهرته بغيرة شديدة. فشلوا في تذكر إخلاصه الباكر لعائلة والده, وكانوا مريرين في انتقادهم لإهماله زيارة شقيقه وأخواته المتزوجات المقيمين في الناصرة. كان موقف عائلة يسوع تجاهه يميل أيضًا إلى زيادة هذا الشعور القاسي من المواطنين. أصحاب الرأي المستقيم بين اليهود حتى افترضوا أن ينتقدوا يسوع لأنه مشى بسرعة كبيرة في الطريق إلى الكنِيس صباح هذا السبت.
150:8.1 (1684.4) كان هذا السبت يوماً جميلاً, وخرجت كل الناصرة, أصدقاء وأعداء, لسماع هذا المواطن السابق لبلدتها يحاضر في الكنِيس. كان على الكثير من الحاشية الرسولية أن تبقى بدون الكنيس؛ لم يكن هناك مكان لكل من جاء لسماعه. كشاب, كثيراً ما تكلم يسوع في مكان العبادة هذا, وهذا الصباح, عندما سلـَّمه رئيس الكنِيس سفر الكتابات المقدسة التي منها ليقرأ درس الكتابات المقدسة, لا أحد من الحاضرين بدا ليتذكر بأن هذه كانت المخطوطة ذاتها التي كان قد أهداها لهذا الكنِيس.
150:8.2 (1684.5) كانت الخدمات في هذا اليوم تُجرى تمامًا كما حضرها يسوع عندما كان صبيًا. ارتقى ناصية الكلام مع رئيس الكنِيس, وبدأت الخدمة بتلاوة صلاتين: "مبارك الرب, ملك العالَم, الذي يشكل النور ويخلق الظلمة, الذي يصنع السلام ويخلق كل شيء؛ الذي, في رحمة, يعطي نوراً إلى الأرض ولساكنيها وفي خير, يومًا بعد يوم وكل يوم, يجدد أعمال الخليقة. مبارك الرب إلَهنا من أجل مجد أعمال يديه وللأنوار المعطية للضوء التي صنعها من أجل حمده. سِلاه. مبارك الرب إلَهنا الذي شَّكل الأنوار."
150:8.3 (1685.1) بعد توقف لحظة صَّلوا مرة أخرى: "بمحبة عظيمة أحبنا الرب إلَهنا, وبشفقة فائضة أشفق علينا, أبينا وملكنا, من أجل خاطر آبائنا الذين وثقوا به. لقد علـمتهم شرائع الحياة؛ ارحمنا وعلمنا. نَور أعيننا في الشريعة؛ اجعل قلوبنا تتعلق بوصاياك؛ وحد قلوبنا لمحبة وخوف اسمك, ولن نُوضع للعار, عالَم بلا نهاية. لأنك الله الذي يهيئ الخلاص, وإيانا قد اخترت من بين جميع الأمم والألسنة, وفي الحق قربتنا من اسمك العظيم ــ سِلاه ــ بحيث يمكننا حمد وحدتك بمحبة. مبارك الرب, الذي اختار في محبة شعبه إسرائيل."
150:8.4 (1685.2) بعدئذٍ تلا التجمع الشِما, دستور الإيمان اليهودي. تألفت هذه الشعيرة من تكرار العديد من المقاطع من الشريعة ومشيرة بأن العابدين أخذوا على عاتقهم نير ملكوت السماء, وأيضاً نير الوصايا كما تُطـَّبق إلى النهار والليل.
150:8.5 (1685.3) ثم تبعت الصلاة الثالثة: "صحيح أنك أنت يهوه, إلَهنا وإلَه آبائنا؛ ملكنا وملك آبائنا؛ مخلصنا ومخلص آبائنا, خالقنا وصخرة خلاصنا؛ مساعدنا ومخلصنا. اسمك من الأزل, وليس هناك إلَه غيرك. ترنيمة جديدة غناها الذين خُلصوا لاسمك بجانب البحر؛ سوية حمد الجميع ونالوك ملكاً وقالوا, يهوه سيحكم, عالَم بدون نهاية. مبارك الرب الذي يخَّلص إسرائيل."
150:8.6 (1685.4) ثم أخذ رئيس الكنِيس مكانه أمام تابوت العهد, أو الصندوق, الذي يحتوي على الكتابات المقدسة وبدأ بتلاوة صلوات المدائح التسع عشرة, أو الدعاء. لكن في هذه المناسبة كان من المستحسن تقصير الخدمة من أجل أن يكون للضيف المتميز المزيد من الوقت لخطابه؛ وفقاً لذلك, تم تلاوة الدعاء الأول والأخير فقط. كان الأول: "مبارك الرب إلَهنا وإلَه آبائنا, إله إبراهيم, وإله إسحاق, وإله يعقوب؛ العظيم, والقدير, الإله الرهيب, الذي يُظهر رحمة وشفقة, الذي يخلق كل الأشياء, الذي يتذكر وعوده الكريمة إلى الآباء ويجلب مُخلص إلى أولاد أولادهم من أجل خاطر اسمه, في محبة. أيها الملك, والمعين, والمخَّلِص, والدرع! مبارك أنت, يا يهوه, درع إبراهيم."
150:8.7 (1685.5) بعدئذٍ تبعت البركة الأخيرة: "أنعم على شعبك إسرائيل سلاماً عظيماً إلى الأبد, لأنك ملك ورب كل السلام. وإنه حسن في عينيك أن تبارك إسرائيل في كل الأوقات وكل ساعة بسلام, مبارك أنت, يهوه, الذي يبارك شعبه إسرائيل بالسلام." لم ينظر التجمع إلى الرئيس بينما تلا الدعاء. بعد الدعاء قدَّم صلاة غير رسمية ملائمة للمناسبة, وعندما انتهي هذا, اشترك كل التجمع في قول آمين.
150:8.8 (1685.6) ثم ذهب الشازان إلى تابوت العهد وأخرج لفافة, التي قَدَّمها إلى يسوع ليقرأ منها درس الكتابات المقدسة. كان من المعتاد دعوة سبعة أشخاص لقراءة ما لا يقل عن ثلاث آيات من الشريعة, ولكن تم التنازل عن هذه الممارسة في هذه المناسبة حتى يتمكن الزائر من قراءة الدرس الذي يختاره بنفسه. يسوع, آخذ اللفة, وقف وبدأ يقرأ من سفر التثنية: "لأن هذه الوصية التي أعطيها لكم هذا اليوم ليست مخفية عنكم, ولا هي بعيدة منكم. إنها ليست في السماء, بحيث ستقولون, من سيصعد من أجلنا إلى السماء وينزل بها إلينا حتى يمكننا سماعها وفعلها؟ ولا هي ما وراء البحر, بحيث تقولون, من الذي سيذهب وراء البحر من أجلنا ليأتي بالوصية لنا حتى نسمعها ونفعلها؟ لا, إن كلمة الحياة قريبة جداً منكم, حتى في حضرتكم وفي قلوبكم, بحيث يمكنكم معرفتها وطاعتها".
150:8.9 (1686.1) وعندما توقف عن القراءة من الشريعة, انتقل إلى إشعياء وبدأ يقرأ: "روح الرب عَليِ لأنه مسحني لأبشر الفقراء. أرسلني لأعلن إطلاق سراح الأسرى واستعادة البصر للمكفوفين’ لأحرر المجروحين ولأعلن العام المقبول للرب."
150:8.10 (1686.2) أغلق يسوع الكتاب, وبعد إرجاعه إلى رئيس الكنِيس, جلس وبدأ يحاضر إلى الناس. بدأ بالقول: "اليوم تم الوفاء بهذه الكتابات المقدسة". ثم تكلم يسوع لحوالي خمس عشرة دقيقة عن "أبناء الله وبنات الله." كان كثير من الناس مسرورين بالمحاضرة, وتعجبوا من رحمته وحكمته.
150:8.11 (1686.3) لقد كان من المعتاد في الكنِيس, بعد انتهاء الخدمة الرسمية, أن يبقى المتحدث حتى يتسنى لأولئك المهتمون طرح الأسئلة عليه. تبعاً لذلك, على صباح هذا السبت نزل يسوع نحو الجمهور الذي زاحم نحو الأمام لطرح الأسئلة. في هذه الجماعة كان هناك العديد من الأفراد الهائجين الذين كانت عقولهم عازمة على الأذى, بينما على هامش هذا الجمهور انتشر أولئك الرجال الفاسدون الذين تم استئجارهم لإثارة مشاكل ليسوع. العديد من التلاميذ والإنجيليين الذين بقِوا في الخارج زاحموا الآن نحو الكنِيس ولم يكونوا بطيئين في إدراك أن المشاكل كانت تختمر. سعوا لقيادة السيد بعيدا, لكنه لم يذهب معهم.
150:9.1 (1686.4) وجد يسوع نفسه محاطاً في الكنِيس بحشد كبير من أعدائه ونثر من أتباعه, ورداً على أسئلتهم الوقحة واستهزائهم الشرير قال نصف مازح: "نعم, أنا ابن يوسف؛ أنا النجار, ولست مندهشاً بأنكم تُذَّكِرونني بالمَثل, ’أيها الطبيب اشفي نفسك‘, وبأنكم تتحَّدوني لأفعل في الناصرة ما سمعتم أنني فعلت في كفرناحوم؛ لكنني أدعوكم لتشهدوا بأن حتى الكتابات المقدسة تعلن بأن النبي ليس بلا كرامة سوى في بلده وبين شعبه.‘"
150:9.2 (1686.5) لكنهم زاحموه, وأشاروا بأصابع الاتهام إليه, قائلين: "أنت تظن بأنك أفضل من أهل الناصرة؛ أنت انتقلت من عندنا, لكن أخوك عامل عامي, ومازالت أخواتك تسكن بيننا. نحن نعرف والدتك, مريم. أين هم اليوم؟ نحن نسمع أشياء كبيرة عنك, لكن نلاحظ بأنك لا تفعل العجائب عندما تعود." أجابهم يسوع: "أنا أحب الناس الذين يسكنون في المدينة حيث نشأت, وسأفرح برؤيتكم جميعاً تدخلون ملكوت السماء, لكن عمل أعمال الله ليس لي لأقرر. تحدث تحولات النعمة استجابة للإيمان الحي لأولئك الذين هم مستحقين."
150:9.3 (1686.6) كان بإمكان يسوع إدارة الجمهور بلطف وأن يزيل بفعالية حتى نقمة أعدائه العنيفين لو لم يكن للخطأ التكتيكي لأحد رُسله, سمعان زيلوطس, الذي, بمساعدة ناحور, واحد من الإنجيليين الأصغر سناً, كان في هذه الأثناء قد جَّمع معاً مجموعة من أصدقاء يسوع من بين الحشد, ومتقلداً موقفاً عدوانياً, قدم إشعاراً لأعداء السيد للذهاب من هنا. كان يسوع قد علـَّم رُسله منذ فترة طويلة بأن الجواب اللين يُبعد السخط, لكن أتباعه لم يعتادوا رؤية معلمهم المحبوب, الذي دعوه بكل طيب خاطر السيد, يُعامَل بمثل هذه الفظاظة والازدراء. لقد كان الأمر أكثر من اللازم بالنسبة لهم, ووجدوا أنفسهم يعبرون عن استياء حماسي ومتوقد, كل ما مال فقط لإثارة روح الغوغاء في هذا الجمع الفاسق والفظ. وهكذا, تحت قيادة المرتزقة, قبض هؤلاء الأوغاد على يسوع ودفعوه خارج الكنِيس إلى حافة تل قريب شديد الانحدار, حيث عقدوا العزم لدفعه فوق الحافة إلى موته أدناه. لكن بالضبط بينما كانوا على وشك أن يدفعوه فوق حافة الهاوية, استدار يسوع فجأة على آسريه, ومواجهاً إياهم, بهدوء ثنى ذراعيه. لم يقل شيئاً, لكن أصدقاءه كانوا أكثر من مذهولين عندما بدأ يمشي إلى الأمام, انفصل الرعاع وسمحوا له بالعبور دون مضايقة.
150:9.4 (1687.1) تابع يسوع, متبوعاً بتلاميذه, نحو مخيمهم, حيث تم سرد كل هذا. واستعدوا في ذلك المساء للعودة إلى كفرناحوم في وقت مبكر من اليوم التالي, كما وجَّه يسوع. هذه النهاية المضطربة لجولة الوعظ العلنية الثالثة كان لها تأثير معيد للوعي على جميع أتباع يسوع. لقد بدؤوا يدركون معنى بعض تعاليم السيد؛ كانوا يستفيقون على حقيقة أن الملكوت لن يأتي إلا من خلال الكثير من الحزن وخيبة الأمل المريرة.
150:9.5 (1687.2) غادروا الناصرة صباح هذا الأحد, ومسافرين في طرق مختلفة, تجَّمعوا جميعًا أخيراً في بيت-صيدا بحلول ظهر الخميس, 10 آذار. أتوا معاً كجماعة رصينة وجادة من واعظي إنجيل الحق المحبطين وليس كعصبة متحمسة وكلية-الانتصار من المجاهدين الظافرين.
كِتاب يورانشيا
ورقة 151
151:0.1 (1688.1) بـحلول 10 آذار كانت كل جماعات الوعظ والتعليم قد تجمعت في بيت-صيدا. ليلتي الخميس والجمعة خرج الكثير منهم لصيد السمك, بينما يوم السبت حضروا الكنِيس لسماع خطاب يهودي مسن من دمشق عن مجد الأب إبراهيم. أمضى يسوع معظم يوم السبت هذا وحده في التلال. ليلة السبت تلك تحدث السيد لأكثر من ساعة إلى الجماعات المتجمعة حول "مهمة الشدائد والقيمة الروحية لخيبة الأمل." كانت هذه مناسبة لا تُنسى, ولم ينس سامعوه أبداً الدرس الذي قدمه.
151:0.2 (1688.2) لم يكن يسوع قد تعافى تماماً من حزن رفضه القريب العهد في الناصرة؛ كان الرُسل دارين بحزن خاص مختلط بسلوكه المرح المعتاد. كان يعقوب ويوحنا معه في معظم الأوقات, بطرس كائن أكثر من مشغول بالمسؤوليات العديدة المتعلقة برفاهية وتوجيه كتيبة الإنجيليين الجدد. هذا الوقت من الانتظار قبل بدء الفصح في أورشليم, أمضته النساء في الزيارة من منزل إلى منزل, في تعليم الإنجيل, والإسعاف إلى المرضى في كفرناحوم والمدن والقرى المحيطة.
151:1.1 (1688.3) حوالي هذا الوقت, بدأ يسوع لأول مرة في توظيف أسلوب المَثل في تعليم الجموع الذين تجَّمعوا على نحو متكرر حوله. حيث إن يسوع تكلم مع الرُسل وآخرين طويلاً نحو الليل, في صباح هذا الأحد استيقظ عدد قليل جداً من أفراد المجموعة لتناول الإفطار؛ فخرج إلى جانب البحر وجلس وحيداً في القارب, قارب الصيد القديم لأندراوس وبطرس, الذي تُرك دائماً تحت تصَّرفه, وتفكـَّر في الخطوة التالية التي يتعين اتخاذها في عمل توسيع الملكوت. لكن السيد لم يكن ليبقى وحده طويلاً. سرعان ما بدأ الناس من كفرناحوم والقرى المجاورة بالوصول, وبحلول الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم تجَّمع ما يقرب من ألف شخص على الشاطئ بالقرب من قارب يسوع وكانوا يصخبون في طلب الانتباه. كان بطرس مستيقظاً الآن, وجاعل طريقه إلى القارب, قال ليسوع, "يا سيد, هل أتحدث إليهم؟" لكن يسوع أجاب, "لا, يا بطرس, سأروي لهم قصة." وعندئذٍ بدأ يسوع في تلاوة مَثل الزارع, واحد من أول أمثال سلسلة طويلة من مثل هذه الأمثال التي علـَّمها للحشود التي تبعت وراءه. كان لهذا القارب مقعد مرتفع جلس عليه (لأنه كان من المعتاد الجلوس أثناء التعليم) بينما يتكلم إلى الجمهور المتجمع على طول الشاطئ. بعد أن تكلم بطرس بضع كلمات, قال يسوع:
151:1.2 (1688.4) "زارع انطلق ليزرع, وحدث بينما يزرع أن بعض البذور سقطت إلى جانب الطريق لتداس تحت الأقدام وتلتهمها طيور السماء. سقطت بذور أخرى على الأماكن الصخرية حيث كان هناك القليل من التربة, وظهرت على الفور لأنه لم يكن هناك عمق للتربة, لكن حالما أشرقت الشمس, ذبلت لأنه ليس لديها جذور لتأمين الرطوبة. سقطت بذور أخرى بين الأشواك, وحينما طلع الشوك, اختنقت بحيث لم تنتج أي حبوب. لا يزال وقعت بذور أخرى على أرض صالحة, وعندما نمت, أنتجت, بعضها ثلاثين ضعفاً, وبعضها ستين ضعفاً, وبعضها مائة ضعف." ولما انتهى من قول هذا المَثل, قال للجموع, "من له أذنان للسمع, فليسمع."
151:1.3 (1689.1) عندما سمع الرُسل وأولئك الذين كانوا معه, يسوع يُعَّلِم الناس بهذا الأسلوب, كانوا في حيرة شديدة؛ وبعد الكثير من الحديث فيما بينهم, ذلك المساء في حديقة زَبـِدي قال متـّى ليسوع: "يا سيد, ما معنى الأقوال الغامضة التي تقدّمها للجمهور؟ لماذا تتكلم بأمثال لأولئك الذين يبحثون عن الحقيقة؟" فأجاب يسوع:
151:1.4 (1689.2) "في صبر قمت بتوجيهكم طوال هذا الوقت, إليكم مُعطى أن تعرفوا أسرار ملكوت السماء, لكن للجموع غير الفطنة ولأولئك الذين يسعون إلى هلاكنا, من الآن فصاعداً, سيتم تقديم أسرار الملكوت في أمثال. وهذا سنفعله بحيث يتسنى لأولئك الذين يرغبون حقًا في دخول الملكوت إدراك معنى التعليم وبالتالي يجدون الخلاص, بينما أولئك الذين يستمعون فقط ليوقعوا بنا قد يكونون أكثر حيرة من حيث أنهم سيرون دون أن يروا ويسمعون دون أن يسمعوا. أولادي, ألا تفهمون شريعة الروح التي تقضي بأن إليه الذي لديه سيُعطى بحيث ستكون لديه وفرة؛ لكن منه الذي ليس لديه سيؤخذ منه حتى ما لديه. لذلك من الآن فصاعداً سأتكلم إلى الناس كثيراً في أمثال إلى الغاية بحيث قد يجد أصدقاؤنا وأولئك الذين يرغبون في معرفة الحقيقة ما يبحثون عنه, في حين أن أعداءنا وأولئك الذين لا يحبون الحقيقة قد يسمعون دون أن يفهموا. كثير من هؤلاء الناس لا يتبعون في طريق الحق. لقد وصف النبي, فعلاً, كل هذه النفوس عديمة الفطنة عندما قال: ’لأن قلب هذا الشعب قد تشمع بشكل جسيم, وآذانهم بليدة عن السمع, وعيونهم قد أغمضوا لئلا يميزوا الحق ويفهموه في قلوبهم.‘"
151:1.5 (1689.3) لم يفهم الرُسل تماماً مغزى كلمات السيد. عندما تكلم أندراوس وتوما إضافياً إلى يسوع, انسحب بطرس والرُسل الآخرون إلى جزء آخر من الحديقة حيث انخرطوا في مناقشة جادة ومطولة.
151:2.1 (1689.4) توصل بطرس والجماعة حوله إلى استنتاج أن مَثل الزارع كان رمزاً, بأن كل ملمح لديه معنى ما خفيأ ولذلك قرروا الذهاب إلى يسوع وطلب تفسير. وفقاً لذلك اقترب بطرس من السيد, قائلاً: "لسنا قادرين على الولوج لمعنى هذا المَثل, ونرغب بأنك تشرحه لنا بما أنك تقول أنه مُعطى لنا أن نعرف أسرار الملكوت." وعندما سمع يسوع هذا, قال لبطرس: "يا بني, لا أرغب في حجب أي شيئ عنكم, لكن افترض أولاً أنك تخبرني بما كنتم تتحدثون عنه؛ ما هو تفسيركم للمَثل؟"
151:2.2 (1689.5) بعد لحظة من الصمت, قال بطرس: "يا سيد, لقد تحدثنا كثيراً عن المَثل, وهذا هو التفسير الذي قررته: الزارع هو واعظ الإنجيل؛ والبذور هي كلمة الله. البذور التي سقطت على جانب الطريق تمَثل أولئك الذين لا يفهمون تعاليم الإنجيل. الطيور التي التهمت البذور التي سقطت على الأرض الصَلبة تمَثل الشيطان, أو الشرير, الذي يسرق ما زُرع في قلوب هؤلاء الجهلة. البذور التي سقطت على الأماكن الصخرية والتي نمَت فجأة, تمَثل أولئك الأشخاص السطحيين والعديمي التفكير الذين, عندما يسمعون البشائر, يستلمون الرسالة بفرح؛ لكن لأن الحق ليس لديه جذور حقيقية في فهمهم الأعمق, فإن تفانيهم لم يدم طويلاً في مواجهة التجارب والاضطهاد. عندما تأتي المتاعب, يتعثر هؤلاء المؤمنون؛ يقعون عندما يُجَّرَبون. البذور التي سقطت بين الأشواك تمَثل أولئك الذين يسمعون الكلمة عن طيب خاطر, لكن يسمحون لاهتمامات العالَم وخداع الثروات أن تخنق كلمة الحق بحيث تصبح غير مثمرة. الآن البذور التي سقطت على أرض صالحة ونمَت لتحمل, بعضها ثلاثين, وبعضها ستين, وبعضها مائة ضعف, تمَثل أولئك الذين, عندما سمعوا الحق, يتقبلونه بدرجات متفاوتة من التقدير ــ نظراً إلى اختلاف مواهبهم الذهنية ــ وبالتالي أظهروا هذه الدرجات المتفاوتة من الخبرة الدِينية."
151:2.3 (1690.1) يسوع, بعد الاستماع إلى تفسير بطرس للمَثل, سأل الرُسل الآخرين إذا كان لديهم أيضاً اقتراحات ليقدموها. فقط نثانئيل استجاب لهذه الدعوة, قال: "يا سيد, بينما أدرك الكثير من الأشياء الصالحة في تفسير سمعان بطرس للمَثل, فأنا لا أتفق معه تماما. ستكون فكرتي عن هذا المَثل: البذور تمَثل إنجيل الملكوت, بينما الزارع يمَثل رُسل الملكوت. البذور التي سقطت بجانب الطريق على أرض صلبة تمَثل أولئك الذين لم يسمعوا سوى القليل من الإنجيل, إلى جانب أولئك الذين لا يبالون بالرسالة, والذين قـَّسوا قلوبهم. طيور السماء التي التهمت البذور التي سقطت إلى جانب الطريق تمَثل عادات المرء في الحياة, إغراء الشرير, ورغبات الجسد. البذور التي سقطت بين الصخور تمَثل تلك النفوس العاطفية السريعة في استلام التعليم الجديد وبالتساوي سريعة التخلى عن الحق عندما تواجَه بصعوبات وحقائق التعايش مع هذا الحق؛ فهم يفتقرون إلى الإدراك الروحي. البذور التي سقطت بين الأشواك تمَثل أولئك الذين ينجذبون إلى حقائق الإنجيل؛ عازمون على اتباع تعاليمه, لكنهم مُنعوا بكبرياء الحياة, والغيرة, والحسد, ومخاوف الوجود الإنساني. البذور التي سقطت على تربة صالحة, ونمَت لتحمل, بعض ثلاثين, وبعض ستين, وبعض مائة ضعف, تمَثل الدرجات الطبيعية والمتفاوتة من القدرة على فهم الحق والاستجابة لتعاليمه الروحية من قبل الرجال والنساء الذين يمتلكون مواهب متنوعة من استنارة الروح."
151:2.4 (1690.2) عندما انتهى نثانئيل من الكلام, دخل الرُسل وزملاؤهم في نقاش جاد وانشغلوا في جدال غيور, بعض مقتنع بصحة تفسير بطرس, في حين سعى عدد متساوٍ تقريباً للدفاع عن تفسير نثانئيل للمَثل. في هذه الأثناء كان بطرس ونثانئيل قد انسحبا إلى المنزل حيث تورطا في جهد قوي وحازم كل واحد لإقناع وتغيير رأي الآخر.
151:2.5 (1690.3) سمح السيد لهذا الالتباس بأن يتجاوز نقطة التعبير الأشد؛ ثم صفق بيديه ودعاهم حوله. عندما تجَّمعوا كلهم حوله مرة أخرى, قال, "قبل أن أخبركم عن هذا المَثل, هل لدى أي منكم أي شيء ليقوله؟" بعد لحظة صمت, تكلم توما: "نعم, يا سيد, أود أن أقول بضع كلمات, أتذكَّر بأنك أخبرتنا ذات مرة أن نحترس من هذا الشيء بالذات. أرشدتنا بأنه, عندما نستخدم تصويرات لوعظنا يجب أن نوظف قصصاً حقيقية, وليس قصصاً خيالية, وأن علينا أن نختار القصة الأنسب لتوضيح الحقيقة المركزية والحيوية التي نرغب في تعليم الناس, وأنه, بعد أن استخدمنا القصة على هذا النحو, ينبغي ألا نحاول جعل تطبيق روحي لكل التفاصيل الصغرى التي ينطوي عليها سرد القصة. أعتقد بأن كل من بطرس ونثانئيل مخطئون في محاولاتهم لتفسير هذا المَثل. أنا معجب بمقدرتهما على فعل هذه الأشياء, لكنني متأكد بنفس القدر من أن كل هذه المحاولات لجعل مَثل طبيعي يسفر عن تشابهات روحية في جميع سماته لا يمكن إلا أن يؤدي إلى ارتباك وسوء فهم خطير للهدف الحقيقي لمثل هذا المثل. إن كوني على حق يتضح تماماً من خلال حقيقة أنه, في حين كنا جميعاً بعقل واحد قبل ساعة, الآن نحن منقسمون إلى مجموعتين منفصلتين تتمسك بآراء مختلفة فيما يتعلق بهذا المَثل ونتمسك بمثل هذه الآراء بغاية الجدية بحيث تتدخل, في رأيي, بمقدرتنا على فهم الحقيقة العظيمة التي كانت في ذهنك عندما قـَّدمت هذا المَثل للجمهور وطلبت منا بعد ذلك التعليق عليه."
151:2.6 (1691.1) كان للكلمات التي تكلم بها توما تأثير مهدئ عليهم جميعاً. لقد جعلهم يتذكرون ما كان يسوع قد علمهم إياه في مناسبات سابقة, وقبل أن يستأنف يسوع حديثه, نهض أندرواس, قائلاً: "أنا مقتنع بأن توما على حق, وأود أن يخبرنا ما المعنى الذي يعلقه على مَثل الزارع." بعد ما أشار يسوع إلى توما ليتكلم, قال: "يا إخوتي, ما كنت أرغب في إطالة هذا النقاش, لكن إذا رغبتم في ذلك, سأقول بأني أعتقد أن هذا المثل قد قيل ليعلمنا حقيقة واحدة عظيمة. وذلك بأن تعليمنا لإنجيل الملكوت, بغض النظر عن مدى أمانة وكفاءة تنفيذنا لتفويضاتنا الإلَهية, سيكون ملازماً بدرجات متفاوتة من النجاح؛ وبأن كل هذه الاختلافات في النتائج ترجع بشكل مباشر إلى الظروف المتأصلة في ظروف إسعافنا, وهي ظروف لا نملك إلا سيطرة ضئيلة أو معدومة عليها."
151:2.7 (1691.2) عندما انتهى توما من الكلام, كان غالبية رفاقه الواعظين على وشك الاتفاق معه, حتى بطرس ونثانئيل كانا في طريقهما للتحدث معه, عندما نهض يسوع وقال: "حسناً فعلت, يا توما؛ لقد أدركت المعنى الحقيقي للأمثال؛ لكن كل من بطرس ونثانئيل فعلا حسناً على قدم المساواة من حيث أنهما قد أظهرا تماماً خطورة التعهد بجعل قصة رمزية من أمثالي. في قلوبكم قد تنشغلون بشكل مربح غالباً في مثل هذه التحليقات للخيال التأملي, لكنكم تخطئون عندما تسعون إلى تقديم مثل هذه الاستنتاجات كجزء من تعليمكم العام."
151:2.8 (1691.3) الآن بعد أن انتهى التوتر, هنأ بطرس ونثانئيل بعضهما على تفسيراتهما, وباستثناء التوأم الألفيوس, غامر كل من الرُسل بتقديم تفسير لمَثل الزارع قبل أن يتقاعدوا من أجل الليل. حتى يوداص إسخريوط قـَّدم تفسيراً معقولاً للغاية. كان الاثنا عشر غالباً, فيما بينهم, يحاولون حل أمثال السيد كما لو كانت قصة رمزية, لكنهم لم ينظروا إلى هذه التخمينات على محمل الجد مرة أخرى. كانت هذه جلسة مفيدة للغاية بالنسبة للرُسل وزملائهم خاصة أنه منذ ذلك الحين فصاعداً وَظَفَ يسوع الأمثال أكثر وأكثر فيما يتعلق بتعليمه العام.
151:3.1 (1691.4) كان الرُسل مهتمون بالأمثال, كثيراً بحيث كان كل المساء التالي مكرساً لمزيد من مناقشة الأمثال. افتتح يسوع مؤتمر الأمسية بقوله: "يا أحبائي, يجب عليكم دائماً أن تُحدثوا فرقاً في التعليم بحيث يتناسب تقديمكم للحقيقة مع العقول والقلوب التي أمامكم. عندما تقفون أمام حشد من الأذهان والأمزجة المتفاوتة, لا يمكنكم أن تتكلموا كلمات مختلفة لكل فئة من السامعين, لكن يمكنكم سرد قصة لنقل تعليمكم؛ وستكون كل مجموعة, حتى كل فرد, قادرين على جعل تفسيرهم الخاص لمَثلكم وفقاً لهباتهم الفكرية والروحية الخاصة. عليكم أن تدعوا نوركم يضيء لكن افعلوا ذلك بحكمة وفطنة. لا أحد, عندما يضيء سراجاً, يغطيه بإناء أو يضعه تحت السرير؛ يضع سراجه على منصة حيث يستطيع الجميع رؤية النور. دعوني أخبركم بأن لا شيء مُخبأ في ملكوت السماء لن يتم إظهاره؛ وليس هناك أي أسرار لن يتم كشفها في النهاية. في نهاية المطاف, ستظهر كل هذه الأشياء إلى النور. لا تُفَكروا فقط بالجموع وكيف يسمعون الحقيقة؛ انتبهوا كذلك إلى أنفسكم كيف تسمعون. تذكَّروا بأنني أخبرتكم مرات عديدة: إليه الذي لديه سيُعطى أكثر, بينما منه الذي ليس لديه سيؤخذ حتى ما يعتقد أنه لديه."
151:3.2 (1692.1) يمكن تلخيص المناقشة المستمرة للأمثال والتعليمات الإضافية المتعلقة بتفسيرها والتعبير عنها في العبارات الحديثة على النحو التالي:
151:3.3 (1692.2) 1. نصح يسوع بعدم استخدام الأساطير أو القصص الرمزية في تعليم حقائق الإنجيل. أوصى بالاستخدام الحر للأمثال, خاصة أمثال الطبيعة. شدد على قيمة استخدام التشابه الموجود بين العالمين الطبيعي والروحي كوسيلة لتعليم الحقيقة. كان يلمح بتكرار إلى الطبيعي على أنه "الظل غير الواقعي والزائل لحقائق الروح."
151:3.4 (1692.3) 2. روى يسوع ثلاثة أو أربعة أمثال من الكتابات المقدسة العبرية, لافتاً الانتباه إلى حقيقة أن أسلوب التعليم هذا لم يكن جديداً تماماً. ومع ذلك, فقد أصبح تقريباً أسلوباً جديداً للتعليم كما وَظفه منذ هذا الوقت فصاعداً.
151:3.5 (1692.4) 3. في تعليم الرُسل قيمة الأمثال, لفت يسوع الانتباه إلى النقاط التالية:
151:3.6 (1692.5) يزود المَثل من أجل الالتماس المتزامن لمستويات متفاوتة إلى حد كبير من العقل والروح. المَثل يحفز المخيلة, ويتحدى التمييز, ويثير التفكير النقدي؛ إنه يعزز التعاطف بدون إثارة العداء.
151:3.7 (1692.6) ينطلق المَثل من الأشياء المعروفة إلى تمييز المجهول. يستخدم المَثل المادي والطبيعي كوسيلة لتقديم الروحي والفائق عن المادي.
151:3.8 (1692.7) تُحبذ الأمثال اتخاذ قرارات أخلاقية محايدة. يتجنب المَثل الكثير من التحيز ويضع بظرافة الحقيقة الجديدة في العقل ويفعل كل هذا بإثارة أقل ما يمكن من الدفاع الذاتي للاستياء الشخصي.
151:3.9 (1692.8) لرفض الحقيقة المحتواة في القياس المتكافئ يتطلب عملاً فكرياً واعياً الذي هو مباشرة في ازدراء للحُكم الأمين والقرار العادل للمرء. يقود المَثل إلى فرض الفكرة من خلال حاسة السمع.
151:3.10 (1692.9) إن استخدام شكل المَثل للتعليم يُمكن المعلم من تقديم حقائق جديدة وحتى حقائق مذهلة بينما في الوقت نفسه يتجنب إلى حد كبير كل الجدل والتصادم الظاهري مع التقاليد والسلطة القائمة.
151:3.11 (1693.1) يمتلك المَثل أيضاً ميزة إنعاش الذاكرة للحقيقة التي يتم تدريسها عندما تواجَه نفس المشاهد المألوفة لاحقاً.
151:3.12 (1693.2) بهذه الطريقة سعى يسوع لتعريف أتباعه بالعديد من الأسباب الكامنة وراء ممارسته لاستخدام الأمثال بشكل متزايد في تعليمه العام.
151:3.13 (1693.3) قرب نهاية درس المساء, قدم يسوع أول تعليق له على مَثل الزارع. قال إن المثل يشير إلى أمرين: أولاً, لقد كان مراجعة لإسعافه الخاص حتى ذلك الوقت وتنبؤ بما كان ينتظره في الفترة المتبقية من حياته على الأرض. وثانياً, كان أيضاً تلميحاً لما قد يتوقعه الرسل وغيرهم من رسل الملكوت في إسعافهم من جيل إلى جيل مع مرور الوقت.
151:3.14 (1693.4) كما التجأ يسوع إلى استخدام الأمثال كأفضل دحض ممكن للجهد المدروس للزعماء الدِينيين في أورشليم لتعليم أن كل عمله قد تم بمساعدة الشياطين وأمير الأبالسة. كان نداء الطبيعة يتعارض مع مثل هذا التعليم لأن الناس في ذلك اليوم نظروا إلى جميع الظواهر الطبيعية على أنها نتاج الفعل المباشر للكائنات الروحية والقوى الخارقة للطبيعة. كما أنه أصَّر على هذا الأسلوب للتعليم لأنه مكنه من إعلان الحقائق الحيوية لأولئك الذين رغبوا في معرفة الطريقة الأفضل وفي الوقت نفسه منح أعداءه فرصة أقل لإيجاد سبب للهجوم والاتهامات الموجهة ضده.
151:3.15 (1693.5) قبل أن يصرف الجماعة من أجل الليل, قال يسوع: "الآن سأخبركم بآخر مَثل الزارع. أود أن أختبركم لأعرف كيف ستستلمون هذا: ملكوت السماء يشبه أيضاً رجلاً ألقى بذوراً جيدة على الأرض؛ وبينما كان ينام ليلاً ويستمر في عمله نهاراً, نبتت البذور ونمَت, ومع أنه لم يعرف كيف حدث هذا, إلا أن النبات جاء ليثمر. أولاً كان هناك النصل, ثم السنبلة, بعد ذلك الحبوب الكاملة في السنبلة, وبعدئذٍ عندما نضجت الحبوب, أخرج المنجل, وأكمل الحصاد. وكل من له أذن للسمع, فليسمع."
151:3.16 (1693.6) مرات كثيرة قـَلب الرُسل هذا القول في أذهانهم, لكن السيد لم يجعل أي ذكر إضافي لهذه الإضافة إلى مَثل الزارع.
151:4.1 (1693.7) في اليوم التالي علـَّم يسوع الناس مرة أخرى من القارب, قائلاً: " يشبه ملكوت السماء إنسانًا زرع بذوراً جيدة في حقله؛ لكن بينما هو نائم, جاء عدوه وزرع أعشاباً ضارة بين الحنطة وانسل بعيداً. وهكذا عندما نمَت السنابل الصغيرة وفيما بعد كانت على وشك أن تثمر, ظهرت أيضاً الأعشاب الضارة, عندئذٍ جاء خدم هذا البيت وقالوا له: ’يا سيد, ألم تزرع بذوراً صالحة في حقلك؟ فمن أين إذن هذه الأعشاب الضارة؟‘ فأجاب خدمه, ’عدو قد فعل هذا‘.عند ذاك سأل الخدم سيدهم, ’أتريدنا أن نذهب ونقتلع هذه الأعشاب الضارة؟‘ لكنه أجابهم وقال: ’لا, لئلا, بينما تجمعونها, تقتلعون الحنطة أيضاً. بدلاً من ذلك دعوها تنمو معاً حتى وقت الحصاد, عندها سأقول للحاصدين, اجمعوا أولاً الأعشاب الضارة واربطوها في حُزم لتُحرق وبعدئذٍ اجمعوا الحنطة لتخزينها في حظيرتي.‘"
151:4.2 (1693.8) بعد أن طرح الناس بعض الأسئلة, قال يسوع مَثلاً آخر: يشبه ملكوت السماء حبة خردل زرعها إنسان في حقله. الآن حبة الخردل هي أصغر البذور, لكن عندما تنمو بالكامل, تصبح الأكبر من كل الأعشاب وتكون مثل شجرة حتى تستطيع طيور السماء أن تأتي وتستريح على أغصانها."
151:4.3 (1694.1) "يشبه ملكوت السماء أيضاً خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة مكاييل من العجين, وبهذه الطريقة اختمر كل العجين."
151:4.4 (1694.2) " يشبه ملكوت السماء أيضاً كنزاً مخبأ في حقل, اكتشفه إنسان. وفي فرحه انطلق وباع كل ما لديه بحيث يكون لديه المال لشراء الحقل."
151:4.5 (1694.3) "يشبه ملكوت السماء أيضاً تاجراً يبحث عن لآلئ جيدة وبعد أن وجد لؤلؤة واحدة باهظة الثمن, ذهب وباع كل ما في حوزته حتى يتمكن من شراء اللؤلؤة غير العادية."
151:4.6 (1694.4) "مرة أخرى, يشبه ملكوت السماء شبكة جارفة أُلقيت في البحر, وجمَّعت كل نوع من الأسماك. الآن, عندما امتلأت الشبكة, سحبها الصيادون إلى الشاطئ, حيث جلسوا وفرزوا الأسماك, جامعين الجيد في أوعية بينما رموا الرديء بعيداً."
151:4.7 (1694.5) العديد من الأمثال الأخرى قالها يسوع للجموع. في الواقع, من هذا الوقت فصاعداً نادراً ما علـَّم الجموع إلا بهذه الوسائل. بعد أن تكلم إلى جمهور عام في أمثال, كان, أثناء صفوف المساء, يشرح تعاليمه للرُسل والإنجيليين بشكل أكثر وضوحا وصراحة.
151:5.1 (1694.6) استمرت الجموع بالتزايد طوال الأسبوع. في يوم السبت سارع يسوع بعيداً إلى التلال, لكن عندما جاء صباح يوم الأحد, عادت الحشود. تكلم يسوع إليهم في وقت مبكر من بعد الظهر بعد وعظ بطرس, وعندما انتهى, قال لرُسله: "أنا متعب من الحشود؛ لنعبر إلى الجانب الآخر بحيث قد نستريح ليوم."
151:5.2 (1694.7) في الطريق عبر البحيرة واجهوا واحدة من تلك العواصف العنيفة والمفاجئة التي تميز بحر الجليل, خاصة في هذا الفصل من العام. بلغ ارتفاع هذا المسطح المائي حوالي سبعمائة قدم تحت سطح البحر وتحيط به ضفاف عالية, خاصة من الغرب. كان هناك مضائق شديدة الانحدار تؤدي من البحيرة إلى التلال, ومع ارتفاع الهواء الساخن في جيب فوق البحيرة خلال النهار, هناك مَيل بعد غروب الشمس للهواء المتبرد للمضائق ليندفع نحو البحيرة. كانت هذه العواصف المائية تأتي بسرعة وفي بعض الأحيان تختفي فجأة أيضاً.
151:5.3 (1694.8) لقد كانت بالضبط هكذا عاصفة مسائية التي حصدت القارب الذي يحمل يسوع إلى الجانب الآخر مساء هذا الأحد. ثلاثة قوارب أخرى احتوت على بعض من الإنجيليين الأحدث سناً كانت تقتفي في الخلف. كانت هذه الزوبعة شديدة بالرغم من أنها كانت محصورة في هذه المنطقة من البحيرة, لم يكن هناك دليل لحدوث عاصفة على الشاطئ الغربي. كانت الريح شديدة جداً بحيث أن الأمواج بدأت تغسل فوق القارب. مزقت الريح العاتية الشراع بعيداً قبل أن يتمكن الرُسل من طيَّه, وكانوا الآن معتمدين كلياً على مجاديفهم بينما دنوا بشق الأنفس إلى الشاطئ, على بعد ما يزيد قليلاً عن ميل ونصف.
151:5.4 (1694.9) في هذه الأثناء رقد يسوع نائماً في مؤخرة القارب تحت ملجأ صغير فوق رأسه. كان السيد مرهقاً عندما غادروا بيت-صيدا, ولقد كان من أجل تأمين الراحة بأنه وجَّههم للإبحار إلى الجانب الآخر. كان هؤلاء الصيادون مجدفين أقوياء وذوي خبرة, لكن هذه كانت إحدى أسوأ الأعاصير البحرية التي واجهوها على الإطلاق. مع أن الريح والأمواج تقاذفت قاربهم تقريباً وكأنه سفينة ألعاب, إلا أن يسوع استمر في النوم بدون إقلاق. كان بطرس عند المجذاف الأيمن بالقرب من المؤخرة. عندما بدأ القارب يمتلئ بالماء, ألقى مجدافه واندفع إلى يسوع, هزه بعنف لإيقاظه, وعندما استيقظ, قال بطرس: "يا سيد, ألا تعلم بأننا في عاصفة عنيفة؟ إذا لم تخلصنا سنهلك كلنا."
151:5.5 (1695.1) حينما خرج يسوع في المطر, نظر أولاً إلى بطرس, ثم ناظر نحو الظلام إلى المجدفين المكافحين, أعاد نظرته إلى سمعان بطرس, الذي في هياجه لم يكن قد عاد بعد إلى مجدافه, وقال: "لماذا كلكم ممتلئون بالخوف هكذا؟ أين إيمانكم؟ سلام, اهدأوا". بالكاد تفوه يسوع بهذا التوبيخ إلى سمعان بطرس والرُسل الآخرين, بالكاد قد طلب من بطرس أن يبحث عن سلام من أجل تهدئة نفـْسه المضطربة, عندما استقر الجو المضطرب, بعد أن أسَس توازنه, في هدوء عظيم. استكنت الأمواج الغاضبة في الحال تقريباً, بينما اختفت الغيوم الداكنة, بعد أن أنفقت نفسها في زخة قصيرة, ولمعت نجوم السماء من فوق. كل هذا كان من قبيل الصدفة البحتة بقدر ما نستطيع الحكم. لكن الرُسل, وخاصة سمعان بطرس, لم يتوقفوا مطلقًا عن اعتبار الحدث الاستطرادي معجزة طبيعة. لقد كان من السهل بشكل خاص لأناس ذلك اليوم أن يؤمنوا بمعجزات الطبيعة نظراً لأنهم كانوا يعتقدون اعتقادا راسخا أن الطبيعة بأكملها كانت ظاهرة خاضعة مباشرة لسيطرة قوى الروح والكائنات الخارقة للطبيعة.
151:5.6 (1695.2) شرح يسوع بوضوح للاثني عشر بأنه قد تكلم إلى أرواحهم المضطربة وإنه وَجَّه كلامه إلى عقولهم المنكوبة بالخوف, بأنه لم يأمر العناصر بإطاعة كلمته, لكن بدون جدوى. دائماً أصَّر أتباع السيد على وضع تفسيراتهم الخاصة على كل هذه الأحداث العرضية. منذ هذا اليوم فصاعداً أصَّروا على اعتبار أن السيد لديه سلطة مُطلقة على العناصر الطبيعية. لم يكل بطرس أبداً من تلاوة كيف "حتى الرياح والأمواج تطيعه."
151:5.7 (1695.3) كان الوقت متأخراً في المساء عندما وصل يسوع ورفاقه إلى الشاطئ, ولأنها كانت ليلة هادئة وجميلة, فقد استراحوا جميعًا في القوارب, ولم يذهبوا إلى الشاطئ إلا بعد شروق الشمس بقليل في الصباح التالي. عندما تجمَّعوا معاً, حوالي أربعين إجمالاً, قال يسوع: "لنصعد نحو التلال هنالك وننتظر لأيام قليلة بينما نتفكر في مشاكل ملكوت الأب."
151:6.1 (1695.4) على الرغم من أن معظم الشاطئ الشرقي القريب للبحيرة انحدر صعوداً برفق إلى المرتفعات الواقعة خلفه, في هذه البقعة بالذات كان هناك تل شديد الانحدار, الشاطئ في بعض الأماكن ينحدر تماماً نحو البحيرة. مشيراً إلى الأعلى إلى جانب التل القريب, قال يسوع: "لنصعد إلى جانب هذا التل لتناول فطورنا وتحت بعض الملاجئ نستريح ونتحدث."
151:6.2 (1695.5) كان هذا التل بأكمله مغطى بكهوف منحوتة في الصخر. العديد من هذه الكوات كانت مدافن قديمة. حوالي منتصف الطريق صعوداً إلى جانب التل, على بقعة صغيرة, ومستوية نسبياً كانت مدافن قرية خِريسا الصغيرة. عندما عبر يسوع ورفاقه بالقرب من أرض الدفن هذه, هرع إليهم مجنون كان يعيش في كهوف التلال هذه. كان هذا الرَجل المعتوه معروفاً جيداً حول هذه الأنحاء, وكان قد رُبط في أحد الأوقات بالقيود والسلاسل وسُجن في أحد الكهوف. منذ فترة طويلة كسر أغلاله والآن يجوب بإرادته بين القبور والمدافن المهجورة.
151:6.3 (1696.1) هذا الرَجل, الذي اسمه عاموس, كان مصاباً بنوع دوري من اختلال العقل. كانت هناك نوبات معتبرة عندما كان يجد بعض الملابس ويتصرف باعتدال بين زملائه. خلال واحدة من هذه الفترات الصافية ذهب إلى بيت-صيدا, حيث سمع وعظ يسوع والرُسل, وأصبح في ذلك الوقت مؤمناً بقلب فاتر بإنجيل الملكوت. ولكن سرعان ما ظهرت مرحلة عاصفة من متاعبه, وهرب إلى القبور, حيث اشتكى وصرخ بصوت عالٍ, وهكذا دبر لإرهاب كل من صادف ليلتقوا به.
151:6.4 (1696.2) عندما تعرف عاموس على يسوع, سقط على قدميه وهتف: "أنا أعرفك, يا يسوع, لكنني مُمتلَك بأبالسة كثيرة, وأتوسل ألا تعذبني." اعتقد هذا الرَجل حقاً بأن معاناته العقلية الدورية ترجع إلى حقيقة أنه, في مثل هذه الأوقات, دخلت فيه أرواح شريرة أو نجسة وسيطرت على عقله وجسده. كانت مشاكله عاطفية في الغالب ــ لم يكن دماغه مريضاً إجمالاً.
151:6.5 (1696.3) تطلع يسوع على الرجل الجاثم كالحيوان عند قدميه, واصلاً إليه, وآخذاً إياه باليد, أوقفه وقال له: "عاموس, أنت لست مُمتلكاً بإبليس؛ لقد سبق وسمعت البشائر بأنك ابن الله. آمرك أن تخرج من هذه النوبة". وعندما سمع عاموس يسوع يتكلم بهذه الكلمات, حدث مثل هذا التحَّول في ذهنه بحيث استعاد في الحال عقله السليم والسيطرة الطبيعية على عواطفه. بحلول هذا الوقت كان حشد كبير قد تجمَّع من القرية المجاورة, وهؤلاء الناس, ازدادوا برعاة الخنازير من المرتفعات التي فوقهم, كانوا مذهولين لرؤية المجنون جالساً مع يسوع وأتباعه, ممتلكاً عقله السليم ويتحدث معهم بحرية.
151:6.6 (1696.4) بينما اندفع رعاة الخنازير نحو القرية لنشر أخبار تسكين المجنون, هجمت الكلاب على قطيع صغير وغير مُعتنى به من حوالي ثلاثين خنزيراً, ودفعوا معظمها إلى حافة الهاوية نحو البحر. وهذا كان الحادث العَرَضي, في علاقة بحضور يسوع والشفاء المعجز المفترَض للمجنون, ما أعطى أصلاً إلى الأسطورة القائلة بأن يسوع شفى عاموس بإخراج جحافل من الأبالسة منه, وبأن تلك الأبالسة دخلت في قطيع الخنازير, ما جعلها تندفع على الفور إلى هلاكها في البحر أدناه. قبل انتهاء النهار, كانت هذه القصة قد نُشرت في الخارج عن طريق المحافظين على الخنازير, وكل القرية صَدّقتها. عاموس بأكثر التأكيد آمن بهذا الحدث؛ لقد رأى الخنازير تتدحرج على حافة التل بعد فترة وجيزة من هدوء عقله المضطرب, ودائماً اعتقد بأنها حملت معها الأرواح الشريرة عينها التي ابتلته وعذبته لأمد طويل. وكان لهذا علاقة كبيرة في إدامة شفائه. إنه صحيح بالمثل بأن جميع رُسل يسوع (ما عدا توما) اعتقدوا بأن واقعة الخنازير كانت مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بشفاء عاموس.
151:6.7 (1696.5) لم يحصل يسوع على الراحة التي كان يتطلع لأجلها. كان معظم ذلك اليوم مُحتشداً بأولئك الذين جاءوا في استجابة للكلمة بأن عاموس قد شُفي, والذين كانوا منجذبين لقصة أن العفاريت خرجت من المجنون إلى قطيع الخنازير. وهكذا, بعد ليلة واحدة فقط من الراحة, في وقت مبكر من صباح الثلاثاء أُيقظ يسوع وأصدقاؤه وفد من هؤلاء الأمميين الذين يربون الخنازير والذين جاءوا لحثه على الرحيل من وسطهم. قال الناطق باسمهم لبطرس وأندراوس: "صيادو الجليل, ارحلوا عنا وخذوا نبيكم معكم. نحن نعلم أنه رَجل مقدس, لكن آلهة بلادنا لا تعرفه, ونواجه خطر فقدان الكثير من الخنازير. الخوف منكم قد حل بنا, بحيث إننا نصلي أن تذهبوا من هنا." وعندما سمعهم يسوع, قال لأندراوس, "لنرجع إلى مكاننا."
151:6.8 (1697.1) بينما كانوا على وشك الرحيل, توسل عاموس إلى يسوع أن يسمح له بالعودة معهم, لكن السيد لم يوافق. قال يسوع لعاموس: "لا تنس أنك ابن لله. ارجع إلى شعبك وأريهم أي أشياء عظيمة صنعها الله من أجلك." وذهب عاموس ناشراً بأن يسوع قد طرد جحافل الأبالسة من نفـْسه المضطربة, وبأن هذه الأرواح الشريرة دخلت في قطيع الخنازير, وقادتها نحو هلاك سريع. ولم يتوقف حتى ذهب إلى كل المدن-العشرة, معلناً أي أشياء عظيمة فعلها يسوع من أجله.
كِتاب يورانشيا
ورقة 152
152:0.1 (1698.1) كانت قصة شفاء عاموس, مجنون خِريسا, قد وصلت بالفعل إلى بيت-صيدا وكفرناحوم, بحيث أن حشدًا كبيرًا كان ينتظر يسوع عندما رسى قارِبه قبل ظهر ذلك الثلاثاء. بين هذا الحشد كان المراقبون الجدد من سنهدرين أورشليم الذين نزلوا إلى كفرناحوم لإيجاد سبب لاتهام السيد وإدانته. بينما تكلم يسوع مع أولئك الذين تجَّمعوا لتحيته, شق جايروس, أحد رؤساء الكنِيس, طريقه خلال الجمهور, وساقط عند قدميه, أخذه باليد وتوسل إليه بأن يُسرع معه, قائلاً: "يا سيد, ابنتي الصغيرة, طفلة وحيدة, ترقد في بيتي على حافة الموت. أصَّلي بأنك ستأتي وتشفيها." فلما سمع يسوع طلب هذا الآب, قال, سأذهب معك."
152:0.2 (1698.2) بينما سار يسوع إلى جانب جايروس, تبعه حشد كبير من الذين سمعوا طلب الأب ليروا ما سيحدث. قبل وقت قصير من وصولهم إلى منزل الحاكم, بينما كانوا مسرعين خلال شارع ضيق وبينما كان الحشد يزاحمه, توقف يسوع فجأة, هاتفاً, " لمسني أحد ما." وعندما نفى أولئك الذين كانوا بالقرب منه أنهم قد لمسوه, تكلم بطرس: "يا سيد, يمكنك أن ترى بأن هذا الحشد يضغط عليك, مهدداً ليسحقنا, ومع ذلك تقول ’ لمسني أحد ما‘. ماذا تعني؟" عندئذٍ قال يسوع: "سألت من لمسني, لأنني شعرت بأن طاقة حية قد انطلقت مني." بينما تطلع يسوع حوله, وقعت عيناه على امرأة بالقرب, تقدمت, وركعت عند قدميه وقالت: "كنت لسنين مصابة بنزيف حاد. لقد عانيت أشياء كثيرة من العديد من الأطباء؛ لقد أنفقت كل ثروتي, لكن لا أحد استطاع أن يعالجني. ثم سمعت عنك, وفكـَّرت بأنه إذا أمكنني فقط لمس حافة ثوبك, بالتأكيد سأشفى. ولذا زاحمتُ إلى الأمام مع الجمهور بينما تحرك إلى جانبك حتى, واقفة قربك, يا سيد, لمست طرف ثوبك, وتعافيت؛ أعرف بأنك شفيتني من مصابي."
152:0.3 (1698.3) عندما سمع يسوع هذا, أخذ هذه المرأة باليد, ورافعاً إياها, قال: "يا ابنة, إيمانك قد شفاك؛ اذهبي بسلام." كان إيمانها وليس لمستها ما شفاها. وهذه الحالة هي مثال جيد على العديد من الشفاءات الخارقة على ما يبدو التي لازمت مهمة يسوع الأرضية, لكن التي لم يشاءها بوعي بأي حال من الأحوال. أظهر مرور الوقت أن هذه المرأة شفيت بالفعل من مرضها. كان إيمانها من النوع الذي ألقى بقبضة مباشرة على القدرة الخلاَّقة الكامنة في شخص السيد. بالإيمان الذي كان لديها, كان من الضروري فقط أن تقترب من شخص السيد. لم يكن من الضروري أن تمس ثوبه على الإطلاق؛ كان ذلك مجرد الجزء الخرافي من إيمانها. دعا يسوع هذه المرأة, فيرونيكا من قيصرية-فيليبي, إلى حضرته ليصحح خطأين بقيا في عقلها, أو قد تشبثا في أذهان أولئك الذين شهدوا هذا الشفاء: لم يكن يريد أن تذهب فيرونيكا معتقدة بأن خوفها من محاولة سرقة علاجها قد كان مُشَّرَفاً, أو أن اعتقادها بالخرافة في علاقة لمسها ثوبه بشفائها كان فعّالاً. لقد أراد أن يعرف الجميع أن إيمانها الطاهر والحي هو الذي أحدث الشفاء.
152:1.1 (1699.1) كان جايروس, بالطبع, فارغ الصبر للغاية بسبب هذا التأخير في الوصول إلى بيته؛ وهكذا أسرعوا الآن بخطى متسارعة. حتى قبل أن يدخلوا ساحة الحاكم, خرج واحد من خدمه, قائلاً: "لا تُتعب السيد؛ ابنتك ماتت." لكن يسوع لم يبدو ليكترث بكلمات الخادم, لأنه آخذ معه بطرس, ويعقوب, ويوحنا, والتفت وقال للأب المنكوب-بالحزن: "لا تخف؛ آمن فقط." عندما دخل المنزل, وجد عازفي القيثارات تواً هناك مع النادبين, الذين كانوا يثيرون ضوضاء غير لائقة؛ كان الأقرباء بالفعل منهمكين في البكاء والعويل. وعندما أخرج جميع النادبين من الغرفة, دخل مع الأب والأُم ورُسله الثلاثة. كان قد أخبر النادبين بأن الصبية لم تكن ميتة, لكنهم ضحكوا مستهزئين به. التفت يسوع الآن إلى الأُم, قائلاً: "ابنتك لم تمت؛ إنها نائمة فقط." وعندما هدأ المنزل, يسوع ذاهب إلى حيث رقدت الطفلة, آخذاً إياها باليد قال, "يا ابنة, أقول لكِ, أفيقي وانهضي!" وعندما سمعت الفتاة هذه الكلمات, نهضت في الحال ومشت عبر الغرفة. وفي الوقت الحالي, بعد أن تعافت من ذهولها, وجَّه يسوع بأنها يجب أن تُعطى شيئاً لتأكله, لأنها كانت منذ وقت طويل بلا طعام.
152:1.2 (1699.2) نظراً لوجود الكثير من الإثارة في كفرناحوم ضد يسوع, دعا العائلة معاً وأوضح بأن الصبية كانت في حالة غيبوبة بعد حمى طويلة, وبأنه أيقظها فقط, بأنه لم يقيمها من الموت. بالمثل أوضح كل هذا لرُسله, لكن كان بلا جدوى؛ كلهم اعتقدوا بأنه أقام البنت الصغيرة من الموت. ما قاله يسوع في شرح الكثير من هذه التي على ما يبدو معجزات كان له تأثير ضئيل على أتباعه. كانوا ذوي عقلية-معجزات ولم يضَّيعوا أي فرصة لإسناد عجيبة أخرى ليسوع. عاد يسوع والرُسل إلى بيت-صيدا بعد أن عهد إلى كل منهم على وجه التحديد بألا يُخبروا أحد.
152:1.3 (1699.3) عندما خرج من منزل جايروس, تبعه رجلان أعميان بقيادة صبي أخرق وصرخوا طلباً للشفاء. في هذا الوقت كانت شهرة يسوع كشافي عند ذروتها. أينما ذهب كان المرضى والمنكوبون ينتظرونه. بدا السيد الآن تعباً للغاية, وكان جميع أصدقائه يصبحون قلقين عليه لئلا يواصل عمله في التعليم والشفاء إلى حد الانهيار الفعلي.
152:1.4 (1699.4) لا رُسل يسوع ولا حتى عامة الناس, استطاعوا فهم طبيعة وسجايا هذا الإله-الإنسان. ولم يتمكن أي جيل لاحق من تقييم ما حدث على الأرض في شخص يسوع الناصري. ولا يمكن أبداً أن تتاح الفرصة لأي من العلِم أو الدِين للتحقق من هذه الأحداث الرائعة لسبب بسيط هو أن مثل هذا الوضع الاستثنائي لا يمكن أن يحدث مرة أخرى, سواء في هذا العالَم أو أي عالَم آخر في نِبادون. ولا مرة أخرى, على أي عالَم في هذا الكون بأسره, سيظهر كائن في شبه الجسد الفاني, في الوقت نفسه يجسد جميع سمات الطاقة الخلاَّقة المصحوبة بالهِبات الروحية التي تتجاوز الزمان ومعظم القيود المادية الأخرى.
152:1.5 (1700.1) ليس أبداً قبل ما كان يسوع على الأرض, ولا منذ ذلك الحين, كان من الممكن بشكل مباشر وبصورة بيانية أن يتم تأمين النتائج المصاحبة للإيمان القوي والحي لرجال ونساء فانين. لتكرار هذه الظواهر, علينا أن نذهب إلى الحضور المباشر لميخائيل, الخالق, ونجده كما كان في تلك الأيام ــ ابن الإنسان. بالمثل, اليوم, بينما يمنع غيابه مثل هذه التجليات المادية, يجب أن تمتنعوا عن وضع أي نوع من القيود على العرض المحتمل لقدرته الروحية. ولو إن السيد غائب ككائن مادي, إلا أنه حاضر كتأثير روحي في قلوب الناس. من خلال الابتعاد عن العالم, جعل يسوع من الممكن لروحه أن تعيش إلى جانب تلك لأبيه التي تسكن عقول كل البشرية.
152:2.1 (1700.2) تابع يسوع تعليم الناس في النهار بينما يرشد الرُسل والإنجيليين في الليل. أعلن يوم الجمعة إجازة لمدة أسبوع واحد بحيث يمكن لكل أتباعه الذهاب إلى بيتهم أو أصدقائهم لبضعة أيام قبل الاستعداد للصعود إلى أورشليم من أجل عيد الفصح. لكن أكثر من نصف تلاميذه رفضوا أن يتركوه, وكان حجم الجموع يتزايد يومياً, بحيث أن داود زَبـِدي رغب بتأسيس مخيم جديد, لكن يسوع رفض الموافقة. كان لدى السيد القليل من الراحة على السبت بحيث صباح الأحد, 27 آذار, سعى للإبتعاد عن الناس. تُرك بعض الإنجيليين ليتكلموا إلى الجموع بينما خطط يسوع والاثني عشر للهروب, دون أن يلاحظ أحد, إلى الشاطئ المقابل للبحيرة, حيث اقترحوا الحصول على راحة مطلوبة كثيراً في منتزه جميل جنوب بيت-صيدا-يوليوس. كانت هذه المنطقة مكان المنتجع المفضل لأهل كفرناحوم؛ كانوا جميعًا على دراية بهذه المنتزهات الواقعة على الشاطئ الشرقي.
152:2.2 (1700.3) لكن الشعب لم يود هكذا. رأوا الاتجاه الذي سلكه قارب يسوع, واستأجروا كل مركبة متاحة, خرجوا سعياً للتتبع. الذين لم يتمكنوا من الحصول على قوارب ارتحلوا على الأقدام ليمشوا حول الطرف العلوي للبحيرة.
152:2.3 (1700.4) في وقت متأخر من بعد الظهر كان أكثر من ألف شخص قد وجدوا السيد في أحد المنتزهات وتحدث إليهم بإيجاز, كائن متبوع ببطرس. كان العديد من هؤلاء الناس قد أحضروا معهم الطعام, وبعد تناول وجبة المساء, تجَّمعوا في جماعات صغيرة بينما علمهم رُسل يسوع وتلاميذه.
152:2.4 (1700.5) بعد ظهر يوم الاثنين تزايدت الجموع إلى أكثر من ثلاثة آلاف ولا يزال ــ متأخراً نحو المساء ــ استمر الناس في التدفق, جالبين معهم كل أنواع المرضى. كان المئات من الأشخاص المهتمين قد وضعوا خططهم للتوقف في كفرناحوم ليروا ويسمعوا يسوع في طريقهم إلى الفصح, وببساطة رفضوا أن يكونوا خائبي الأمل. بحلول ظهر يوم الأربعاء تجمع هنا حوالي خمسة آلاف من الرجال, والنساء, والأولاد في هذا المنتزه جنوب بيت-صيدا-يوليوس. كان الطقس لطيفاً, حيث كان مع اقتراب نهاية موسم الأمطار في هذه المحلة.
152:2.5 (1700.6) كان فيليبُس قد وفر إمدادًا لثلاثة أيام من الطعام ليسوع والاثني عشر, الذي كان في عهدة الفتى مرقس, صبيهم لكل الواجبات الصغيرة. بحلول بعد ظُهر هذا اليوم الثالث, لحوالي نصف هذا الجمع, كان الطعام الذي أحضره الناس معهم قد استُنفد تقريباً. لم يكن لدى داود زَبـِدي مدينة خيام هنا لإطعام واستيعاب الحشود. كما أن فيليبُس لم يقم بتوفير تزويدات طعام لمثل هذا الجمع. لكن الناس, مع أنهم كانوا جائعين, لن يذهبوا. كان يُهمس بهدوء بأن يسوع, رغبة منه في تجنب المتاعب مع كل من هيرودس وقادة أورشليم, اختار هذه البقعة الهادئة خارج نطاق سلطة جميع أعدائه كالمكان اللائق لتتويجه ملكاً. كان حماس الشعب يتصاعد كل ساعة. ولا كلمة قيلت ليسوع, رغم أنه, بالطبع, كان عالماً بكل ما يجري. حتى الرُسل الاثني عشر كانوا لا يزالون ملوثين بمثل هذه المفاهيم, وبالأخص الإنجيليين الأحدث سناً. الرُسل الذين فضَّلوا هذه المحاولة لإعلان يسوع ملكاً كانوا بطرس, ويوحنا, وسمعان زيلوطس, ويوداص إسخريوط. أولئك المعارضين للخطة كانوا أندراوس, ويعقوب, ونثانئيل, وتوما, ومتـّى, وفيليبُس, وكان التوأم الألفيوس غير ملتزمين برأي. كان زعيم حركة هذه المؤامرة لتنصيبه ملكاً, يوآب, أحد الإنجيليين الشباب.
152:2.6 (1701.1) كان هذا هو المسرح الموضوع حوالي الساعة الخامسة بعد ظُهر يوم الأربعاء, عندما طلب يسوع من يعقوب ألفيوس استدعاء أندراوس وفيليبُس. قال يسوع: "ماذا نصنع بالجموع؟ هم الآن معنا لثلاثة أيام, وكثير منهم جائعون. ليس لديهم طعام." تبادل فيليبُس وأندراوس النظرات, ثمٍ أجاب فيليبُس: "يا سيد, يجب أن ترسل هؤلاء الناس بحيث يمكنهم الذهاب إلى القرى المجاورة وشراء الطعام لأنفسهم." وأندراوس, خوفًا من تحقق مؤامرة الملك, انضم بسرعة إلى فيليبُس قائلاً: "نعم, يا سيد, أعتقد أنه من الأفضل أن تصرف الجموع حتى يتمكنوا من الذهاب في طريقهم ليبتاعوا الطعام بينما تؤًّمن الراحة لفصل." بحلول هذا الوقت انضم آخرون من الاثني عشر للمؤتمر. عندئذٍ قال يسوع: "لكنني لا أرغب بإرسالهم بعيداً جائعين؛ ألا يمكنكم إطعامهم؟" كان هذا كثيراً جداً لفيليبُس, وتكلم بصراحة: "يا سيد, في هذا المكان من الريف أين يمكننا شراء الخبز لهذا العدد الكبير؟ لن تكفي مائتي دينار من أجل الغذاء."
152:2.7 (1701.2) قبل أن تتاح الفرصة للرسل للتعبير عن أنفسهم, التفت يسوع إلى أندراوس وفيليبُس, قائلاً: "لا أريد أن أصرف هؤلاء الناس. ها هم, مثل الخراف بدون راعٍ. أود أن أطعمهم. ماذا لدينا من الطعام؟" بينما كان فيليبُس يتحدث مع متـّى ويوداص, التمس أندراوس الفتى مرقس للتأكد من مقدار ما تبقى في مخزنهم من المؤن. عاد إلى يسوع قائلاً: "لم يتبقى لدى الفتى سوى خمسة أرغفة شعير وسمكتين مجففتين" ــ وأضاف بطرس على الفور, "علينا بعد أن نأكل هذا المساء."
152:2.8 (1701.3) للحظة وقف يسوع في صمت. كانت هناك نظرة بعيدة في عينيه. لم يقل الرُسل شيئاً. التفت يسوع فجأة إلى أندراوس وقال, "احضر لي الأرغفة والأسماك." وعندما أحضر أندراوس السلة إلى يسوع, قال السيد: "وَّجه الناس ليجلسوا على العشب في مجموعات من مائة وعَيّن قائداً على كل مجموعة بينما تُحضرون جميع الإنجيليين معنا هنا."
152:2.9 (1701.4) أخذ يسوع الأرغفة في يديه, وبعد أن أعطى الشكر, كسر الخبز وأعطى رُسله, الذين نقلوه إلى زملائهم, الذين حملوه بدورهم إلى الجموع. وبالمثل كسر يسوع الأسماك ووزعها. فاكل هذا الجمع وشبعوا. وعندما انتهوا من الأكل, قال يسوع للتلاميذ: "اجمعوا الكسرات التي بقيت حتى لا يضيع شيء." ولما فرغوا من جمع الكسرات, كان لديهم اثنتا عشرة سلة ملآنة. بلغ عدد الذين أكلوا من هذه الوليمة الإستثنائية حوالي خمسة آلاف, رجال, ونساء, وأطفال.
152:2.10 (1702.1) وهذه كانت المعجزة الطبيعية الأولى والوحيدة التي صنعها يسوع نتيجة لتخطيطه الواعي المسبق. صحيح أن تلاميذه كانوا ميالين لتسمية أشياء كثيرة بمعجزات التي لم تكن كذلك, لكن هذا كان إسعافاً فائقاً أصلياً. في هذه الحالة, هكذا عُلـِّمنا, ضاعف ميخائيل عناصر الطعام كما يفعل دائماً باستثناء إلغاء عامل الزمن ومسار الحياة المرئية.
152:3.1 (1702.2) كان إطعام الخمسة آلاف بواسطة طاقة خارقة من تلك الحالات الأخرى حيث الشفقة البشرية بالإضافة إلى القدرة الخلاَّقة ساوت ما حدث. الآن وقد تم إطعام الجموع إلى الشبع, وحيث إن شهرة يسوع كانت عند ذاك قد زيد عليها بهذه الأعجوبة الهائلة, لم يتطلب مشروع إمساك السيد وإعلانه ملكاً أي توجيه شخصي إضافي. بدت الفكرة لتنتشر خلال الجمهور وكأنها عدوى. كانت ردة فعل الجموع لهذا الإمداد المفاجئ والمذهل لاحتياجاتهم المادية عميقة وغامرة. لوقت طويل عُلـِّم اليهود بأن المسيح ابن داود, عندما سيأتي, سيجعل الأرض تفيض مرة أخرى باللبن والعسل, وبأن خبز الحياة سيُغدق عليهم مثل المنّ من السماء.كما كان من المُفترَض أن يكون قد سقط على آبائهم في البرية. وألم تكن كل هذه التوقعات قد تحققت الآن أمام أعينهم؟ عندما انتهى هذا الجمع الجائع, والذي يعاني من نقص التغذية من التهام هذا الطعام-العجيب, لم يكن هناك سوى رد فعل واحد بالإجماع: "هنا ملكنا". لقد جاء عامل-العجائب مخلص إسرائيل. في نظر هؤلاء الناس البسطاء فإن القدرة على الإطعام حملت معها الحق في الحُكم. لا عجب, إذن, بأن الجموع, لما فرغوا من الوليمة, قاموا كرجل واحد وصرخوا, "اجعلوه ملكاً!"
152:3.2 (1702.3) هذا الصراخ العظيم أثار حماسة بطرس وأولئك الرسل الذين ما زالوا يحتفظون بالأمل برؤية يسوع يؤكد حقه في الحكم. لكن هذه الآمال الزائفة لم تكن لتعيش طويلاً. صدى هذه الصرخة القديرة للجموع بالكاد توقف عن الإرتداد من الصخور القريبة عندما صعد يسوع على حجر ضخم, ورفع يده اليمنى لجذب انتباههم, قال: "يا أولادي, أنتم تقصدون حسناً, لكنكم قصيري-البصيرة وذوي عقلية مادية". كان هناك توقف لبرهة؛ كان هذا الجليلي المقدام واقفاً هناك بشكل مهيب في الوهج الفاتن لذلك الشفق الشرقي. في كل بوصة بدا وكأنه ملكًا بينما واصل الكلام إلى هذه الجموع اللاهثة: "تودون جعلي ملكاً, ليس لأن نفوسكم قد تنورت بحقيقة عظيمة, ولكن لأن بطونكم امتلأت بالخبز. كم مرة أخبرتكم بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم؟ ملكوت السماء هذا الذي نعلنه هو أخوة روحية, ولا رجل يحكم عليه يجلس على عرش مادي. أبي في السماء هو الحاكم الكلي الحكمة والكلي القدرة على هذه الأخوة الروحية لأبناء الله على الأرض. هل فشلت كثيرًا في الكشف عن أب الأرواح لكم حتى تودون أن تجعلوا من ابنه ملكاً في الجسد! الآن اذهبوا من ثم جميعًا إلى بيوتكم. إذا كان يجب أن يكون لديكم ملك, فليُتـَّوَج أب الأنوار في قلب كل واحد منكم باعتباره حاكم الروح لكل الأشياء."
152:3.3 (1702.4) كلمات يسوع هذه أرسلت الجموع بعيداً مصعوقين وباردي الهمة. كثيرون من الذين آمنوا به تحَّولوا عنه ولم يتبعوه منذ ذلك اليوم. كان الرُسل عاجزين عن الكلام؛ وقفوا في صمت متجمعين حول السلال الاثنتي عشرة من كسرات الطعام؛ فقط صبي الواجبات الصغيرة, الفتى مرقس تكلم, " وأبى أن يكون ملكنا." يسوع, قبل أن يذهب ليكون وحيداً في التلال, التفت إلى أندراوس وقال: "عُد بإخوانك إلى منزل زَبـِدي وصلِّ معهم, خاصة من أجل أخوكم, سمعان بطرس."
152:4.1 (1703.1) الرُسل, بدون سيدهم ــ أُرسلوا وحدهم ــ دخلوا القارب وبدأوا في صمت يجدفون نحو بيت-صيدا على الشاطئ الغربي للبحيرة. لم يكن أي من الاثني عشر مُحَّطماً ومنكسر الخاطر مثل سمعان بطرس. بالكاد قيلت كلمة؛ كانوا جميعًا يفـَّكرون في السيد وحده في التلال. هل هجَرهم؟ لم يسبق له أن أرسلهم بعيداً أبداً ورفض الذهاب معهم. ماذا يمكن أن يعني كل هذا؟
152:4.2 (1703.2) هبط عليهم الظلام, لأنه نشأت ريح قوية ومعاكسة جعلت التقدم شبه مستحيل. مع مرور ساعات الظلام وصعوبة التجديف, غدا بطرس تعباً وسقط في سبات عميق من الإرهاق. وضَعَه أندراوس ويعقوب ليرتاح على مقعد موسد في مؤخرة القارب. بينما كد الرُسل الآخرون في مواجهة الريح والأمواج, حَلمَ بطرس حُلماً؛ رأى رؤيا ليسوع آتياً إليهم ماشياً على البحر. عندما بدا أن السيد يمشي على جانب القارب, صرخ بطرس, "أنقذنا, يا سيد, أنقذنا". وسمعه الذين كانوا في مؤخرة القارب يقول بعض هذه الكلمات. بينما استمر هذا الخيال في فصل الليل في عقل بطرس, حَلم بأنه سمع يسوع يقول: "كونوا ذوي بهجة جيدة؛ هذا أنا؛ لا تخافوا." كان هذا مثل بلسم جلعاد لنفـْس بطرس المضطربة؛ هدأ روحه المضطربة, بحيث أنه (في حُلمه) صرخ إلى السيد: "يا رب, إذا كنت أنت حقاً, امرني لآتي وأمشي معك على الماء." وعندما بدأ بطرس يمشي على الماء, أرعبته الأمواج الصاخبة, وبينما كان على وشك أن يغرق, صرخ, "يا رب, نجني!" وسمعه كثيرون من الاثني عشر يتفوه بهذه الصرخة. ثم حَلم بطرس أن يسوع آتي من أجل الإنقاذ, وماداً يده, أمسكه ورفعه, قائلاً: "يا قليل الإيمان, لماذا شككت؟"
152:4.3 (1703.3) فيما يتعلق بالجزء الأخير من حُلمه نهض بطرس من المقعد الذي كان نائماً عليه وبالفعل خطى من على المركب ونحو الماء, واستيقظ من حُلمه عندما وصل أندراوس, ويعقوب, ويوحنا إليه وسحبوه من البحر.
152:4.4 (1703.4) بالنسبة لبطرس كانت هذه التجربة دائماً حقيقية. لقد اعتقد بصدق أن يسوع جاء إليهم تلك الليلة. لقد أقنع يوحنا مرقس جزئياً فقط, ما يفسر لماذا ترك مرقس جزءْا من القصة خارج روايته. لوقا, الطبيب, الذي أجرى بحثاً دقيقاً في هذه الأمور, استنتج بان الواقعة كانت رؤيا لبطرس ولذلك رفض إعطاء مكان لهذه القصة في إعداد روايته.
152:5.1 (1703.5) صباح الخميس, قبل ضوء النهار, أرسوا قاربهم بجانب الشاطئ بالقرب من منزل زَبـِدي وطلبوا النوم حتى الظهيرة تقريبًا. كان أندراوس الأول ليفيق, وذاهب للتمشي بجانب البحر, وجد يسوع, بصحبة صبي واجباتهم الصغيرة, جالس على حجر عند حافة الماء. على الرغم من أن الكثيرين من الجموع والشباب الإنجيليين بحثوا عن يسوع طوال الليل ومعظم اليوم التالي حول التلال الشرقية, بعد منتصف الليل بفترة وجيزة بدأ هو والفتى مرقس يمشيان حول البحيرة وعبر النهر, عائدين إلى بيت-صيدا.
152:5.2 (1704.1) من بين الخمسة آلاف الذين تم إطعامهم بأعجوبة, والذين, عندما كانت بطونهم ملآنة وقلوبهم فارغة, كانوا يودون تنصيبه ملكاً, فقط حوالي خمسمائة استمروا في اتباعه. لكن قبل أن يستلم هؤلاء كلمة بأنه عاد إلى بيت-صيدا, طلب يسوع من اندراوس أن يجمع الرُسل الاثني عشر وزملائهم, بمن فيهم النساء, قائلاً, "أرغب في التحدث معهم." وعندما كانوا كلهم مستعدين, قال يسوع:
152:5.3 (1704.2) "إلى متى سأحتمل معكم؟ هل أنتم جميعًا بطيئون في الاستيعاب الروحي وينقصكم الإيمان الحي؟ لقد علمتكم طوال هذه الأشهر حقائق الملكوت, ومع ذلك تسيطر عليكم الدوافع المادية بدلاً من الاعتبارات الروحية. ألم تقرأوا حتى في الكتابات المقدسة حيث حذر موسى بني إسرائيل غير المؤمنين, قائلاً: ’لا تخافوا, قفوا هادئين وانظروا خلاص الرب‘؟ قال المرَّتل: ’ضعوا ثقتكم في الرب‘. ’اصبروا, انتظروا الرب وكونوا ذوي شجاعة جيدة. هو سيقوي قلوبكم‘. ’القوا عبئكم على الرب, وسيعضدكم. ثقوا به في كل الأوقات واسكبوا إليه قلوبكم, لأن الله ملجأكم‘. ’الساكن في ستر العلي في ظل القدير يبيت‘. ’من الأفضل الوثوق بالرب من وضع الثقة في الأمراء البشريين.‘
152:5.4 (1704.3) "والآن هل ترون جميعكم بأن عمل المعجزات وأداء العجائب المادية لن يُكسبنا نفوساً من اجل الملكوت الروحي؟ لقد أطعمنا الجموع, لكن ذلك لم يدفعهم إلى الجوع لخبز الحياة ولا للعطش إلى مياه البر الروحي. عندما أُشبع جوعهم, لم يسعوا إلى الدخول إلى ملكوت السماء بل سعوا بدلاً من ذلك إلى إعلان ابن الإنسان ملكاً على طريقة ملوك هذا العالَم, فقط لكي يستمروا في أكل الخبز دون الحاجة إلى بذل مجهود لذلك. وكل هذا, الذي شارك فيه الكثير منكم بشكل أو بآخر, لم يفعل شيئاً لكشف الأب السماوي أو تعزيز ملكوته على الأرض. أليس لدينا أعداء بكفاية بين القادة الدِينيين للبلاد بدون فعل ما على الأغلب سيُنفر الحكام المدنيين أيضًا؟ أصَّلي بأن يمسح الأب عيونكم بحيث قد ترون ويفتح آذانكم بحيث قد تسمعون, إلى الغاية بحيث قد يكون لديكم إيمان كامل في الإنجيل الذي علـَّمتكم إياه."
152:5.5 (1704.4) بعدئذٍ أعلن يسوع بأنه يرغب في الإنسحاب لبضعة أيام من الراحة مع رُسله قبل أن يستعدوا للصعود إلى أورشليم من أجل عيد الفصح, ونهى أي من التلاميذ أو الجموع أن يتبعوه. تبعاً لذلك ذهبوا بالقارب إلى منطقة جينِساريت لقضاء يومين أو ثلاثة أيام من الراحة والنوم. كان يسوع يستعد لأزمة كبيرة في حياته على الأرض, ولذلك أمضى الكثير من الوقت في مشاركة مع الأب في السماء.
152:5.6 (1704.5) أثارت أخبار إطعام الخمسة آلاف ومحاولة تنصيب يسوع ملكاً فضولاً واسع الانتشار وحركت مخاوف كل من القادة الدِينيين والحكام المدنيين, في جميع أنحاء الجليل ويهودا. في حين أن هذه المعجزة العظيمة لم تفعل شيئاً لتعزيز إنجيل الملكوت في النفوس المادية العقلية والمؤمنة بقلب فاتر, إلا أنها خدمت هدف إحضار الميول الباحثة عن المعجزة والمشتهية المُلك لعائلة يسوع المباشرة من الرُسل والتلاميذ المقربين إلى قمة. هذه الواقعة الهامة أحضرت نهاية إلى الحقبة المبكرة من التعليم, والتدريب, والشفاء, بهذا ممهدة الطريق لافتتاح هذه السنة الأخيرة لإعلان المراحل الأعلى والأكثر روحية لإنجيل الملكوت الجديد ــ البنوة الإلَهية, والحرية الروحية, والخلاص الأبدي.
152:6.1 (1705.1) بينما يستريحون في بيت مؤمن ثري في منطقة جينِساريت, عقد يسوع اجتماعات غير رسمية مع الاثني عشر بعد ظهر كل يوم. كان سفراء الملكوت جماعة جادة, ورصينة, ومؤدبة من الرجال المحررين من الوهم. لكن حتى بعد كل ما حدث, وكما كشفت الأحداث اللاحقة, لم يكن هؤلاء الرجال الاثنا عشرقد تحرروا بالكامل حتى الآن من مفاهيمهم الفطرية والمعتز بها منذ أمد طويل عن مجيء المسيح اليهودي. كانت أحداث الأسابيع القليلة الماضية قد تحركت بسرعة كبيرة من أجل هؤلاء الصيادين المذهولين ليدركوا أهميتها الكاملة. يتطلب الأمر وقتاً للرجال والنساء لإحداث تغييرات جذرية وواسعة النطاق في مفاهيمهم االأساسية والجوهرية للسلوك الاجتماعي, والمواقف الفلسفية, واالقناعات الدِينية.
152:6.2 (1705.2) بينما كان يسوع والاثنا عشر يرتاحون في جينِساريت, تفرقت الجموع, بعضهم ذاهب إلى بيوتهم, وآخرون صاعدون إلى أورشليم من أجل عيد الفصح. في أقل من شهر واحد تقلص عدد الأتباع المتحمسين والعلنيين ليسوع, الذين بلغ عددهم أكثر من خمسين ألفًا في الجليل وحده, إلى أقل من خمسمائة. أراد يسوع أن يمنح رُسله مثل هذه التجربة مع تقلبات الإشادة الشعبية بحيث أنهم لن يميلوا إلى الإعتماد على مظاهر الهيستيريا الدِينية العابرة هذه بعد أن يتركهم وحدهم في عمل الملكوت, لكنه نجح جزئياً فقط في هذا الجهد.
152:6.3 (1705.3) في الليلة الثانية من حلولهم في جينِساريت أخبر السيد الرُسل مرة أخرى مَثل الزارع وأضاف هذه الكلمات: "ترون, يا أولادي, إن الالتجاء إلى المشاعر الإنسانية هو أمر عابر ومخيب للآمال تماماً؛ والالتجاء الحصري إلى ذكاء الإنسان هو بالمثل فارغ وقاحل؛ إنه فقط من خلال التجائكم إلى الروح الذي يسكن داخل العقل البشري بأنه يمكنكم أن تأملوا بإنجاز النجاح الدائم وتحقيق تلك التحولات الرائعة للسجية البشرية التي تظهر حاليًا في غلة وفيرة لثمار الروح الحقيقية في المعايش اليومية لجميع الذين تم خلاصهم بهذا من ظلمة الشك بولادة الروح في نور الإيمان ــ ملكوت السماء."
152:6.4 (1705.4) علـَّم يسوع الالتجاء إلى العواطف كأسلوب للقبض على الانتباه الفكري وتركيزه. لقد عيّن العقل بهذا مُنـَّبهاً ومُسَّرعاً كبوابة إلى النفـْس, حيث تكمن تلك الطبيعة الروحية للإنسان التي يجب أن تتعرف على الحق وتستجيب للنداء الروحي للإنجيل من أجل توفير النتائج الدائمة للتحولات الحقيقية في السجية.
152:6.5 (1705.5) بهذا سعى يسوع إلى إعداد الرُسل للصدمة الوشيكة ــ أزمة الموقف العام تجاهه التي كانت على مسافة أيام قليلة فقط. أوضح للاثني عشر بأن حكام أورشليم الدِينيين سيتآمرون مع هيرودس أنتيباس لإحداث إهلاكهم. بدأ الاثنا عشر يدركون بشكل أتم (وإن لم يكن نهائياً) بأن يسوع لن يجلس على عرش داود. لقد رأوا بشكل أكثر اكتمالا أن الحقيقة الروحية لم تكن لتتقدم بالعجائب المادية. بدأوا يدركون بأن إطعام الخمسة آلاف والحركة الشعبية لجعل يسوع ملكاً كانت ذروة توقعات الناس الباحثين عن المعجزة, وعمل العجائب وذروة إشادة العامة ليسوع. لقد أدركوا بشكل غامض وتوقعوا بشكل خافت اقتراب أوقات الغربلة الروحية والشدائد القاسية. كان هؤلاء الرجال الاثنا عشر يستفيقون ببطء لإدراك الطبيعة الحقيقية لمهمتهم كسفراء للملكوت, وبدأوا يهيئون أنفسهم من أجل المحن المجَّربة والفاحصة للسنة الأخيرة من إسعاف السيد على الأرض.
152:6.6 (1706.1) قبل مغادرتهم جينِساريت, أرشدهم يسوع بخصوص الإطعام العجائبي للخمسة آلاف, مخبراً إياهم لماذا بالضبط تعاطى في هذا التجلي غير العادي للقدرة الخلاَّقة وأكد لهم أيضًا أنه لم يستسلم بهذا لتعاطفه مع الجموع حتى تأكد بأنه كان "وفقاً لمشيئة الأب."
152:7.1 (1706.2) الأحد, 3 نيسان, بدأ يسوع, برفقة الرسل الاثني عشر فقط, من بيت-صيدا على الرحلة إلى أورشليم. لتجنب الجموع ولجذب أقل قدر ممكن من الانتباه, سافروا عن طريق جيراسا, وفيلادلفيا. منعهم من القيام بأي تعليم علني في هذه الرحلة؛ ولم يسمح لهم بالتعليم أو الوعظ أثناء تواجدهم في أورشليم. وصلوا إلى بيت-عنيا, بالقرب من أورشليم, في وقت متأخر من مساء الأربعاء, 6 نيسان. توقفوا لهذه الليلة الواحدة في بيت لِعازر, ومارثا, ومريم, لكنهم في اليوم التالي انفصلوا, يسوع, مع يوحنا, مكثا في بيت مؤمن اسمه سمعان, بالقرب من منزل لِعازر في بيت-عنيا. توقف يوداص إسخريوط وسمعان زيلوطس مع أصدقاء في أورشليم, بينما مكث بقية الرُسل, اثنان واثنان, في بيوت مختلفة.
152:7.2 (1706.3) دخل يسوع أورشليم مرة واحدة فقط خلال هذا الفصح, وكان ذلك في يوم العيد العظيم. تم جلب الكثير من المؤمنين في أورشليم بواسطة أبنير للقاء يسوع في بيت-عنيا. أثناء هذا الحلول في أورشليم تعَّلم الاثنا عشر كم كانت المشاعر تصبح مُرة تجاه سيدهم. رحلوا من أورشليم جميعًا معتقدين بأن هناك أزمة وشيكة.
152:7.3 (1706.4) يوم الأحد, 24 نيسان, غادر يسوع والرُسل أورشليم قاصدين بيت-صيدا, ذاهبين بطريق المدن الساحلية جوبا(يافا), وقيصريه, وبتوليماس (عكا). ومن ثم, ذهبوا براً عن طريق الرامه وخورازين إلى بيت-صيدا, واصلين يوم الجمعة, 29 نيسان. فور وصولهم إلى البيت, أرسل يسوع أندراوس ليطلب من حاكم الكنِيس الإذن للتكلم في اليوم التالي, ذلك كائن السبت, في خدمة بعد الظهر. وكان يسوع يعلم جيداً بأنها ستكون آخر مرة يُسمح له فيها بالتكلم في كنِيس كفرناحوم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 153
153:0.1 (1707.1) مساء يوم الجمعة, يوم وصولهم إلى بيت-صيدا, وصباح يوم السبت, لاحظ الرُسل بأن يسوع كان منشغلاً بشكل جاد بمسألة هامة ما؛ كانوا مدركين بأن السيد يعطي تفكيراً غير عادي لأمر ما ذا أهمية. لم يأكل الإفطار وسوى القليل في الظهيرة. كل صباح السبت والمساء السابق, كان الاثنا عشر ورفاقهم متجمعين معاً في جماعات صغيرة حول المنزل, وفي الحديقة, وإلى جانب الشاطئ. كان هناك توتر من عدم اليقين وترقب من القلق استقر عليهم جميعًا. قال لهم يسوع القليل منذ أن غادروا أورشليم.
153:0.2 (1707.2) ليس منذ شهور كانوا قد رأوا السيد منشغلاً جداً وغير مُعطى للتواصل. حتى سمعان بطرس كان مغموماً, إن لم يكن منكسر الخاطر. كان أندراوس في حيرة لمعرفة ما يجب أن يفعله لرفاقه المحبطين. قال نثانئيل بأنهم في وسط "الهدوء الذي يسبق العاصفة." أعرب توما عن رأي مفاده بأن "شيئاً ما خارج عن المألوف على وشك الحدوث." نصح فيليبُس داود زَبـِدي "بأن ينسى خطط إطعام وإيواء الجموع حتى نعرف بماذا يُفـَكر السيد." كان متـّى يبذل جهوداً متجددة لملء الخزينة. تحدث يعقوب ويوحنا عن الموعظة القادمة في الكنِيس وتفكرا كثيراً بالنسبة لطبيعتها المحتملة ومجالها. عبَّر سمعان زيلوطس عن اعتقاده, في الواقع عن أمله, بأن "الأب في السماء قد يكون على وشك التدخل بطريقة غير متوقعة لتبرئة ودعم ابنه," بينما تجرأ يوداص إسخريوط على الانغماس في فكرة أن يسوع ربما متضايق بالندم لأنه "لم تكن لديه الشجاعة والجرأة للسماح للخمسة آلاف أن يعلنوه ملكاً على اليهود."
153:0.3 (1707.3) لقد كان من بين هذه الجماعة من الأتباع المكتئبين والبائسين عندما انطلق يسوع في ظهيرة هذا السبت الجميل ليعظ خطبته الصانعة لعهد جديد في كنِيس كفرناحوم. الكلمة الوحيدة ذات التحية المبهجة أو التهنئة من أي من أتباعه المباشرين جاءت من واحد من توأم الألفيوس غير المرتابين, الذي, حينما غادر يسوع المنزل في طريقه إلى الكنِيس, حياه بابتهاج وقال: "نصَّلي بأن الأب سوف يساعدك, وبأنه قد يكون لدينا جموع أكبر من أي وقت مضى."
153:1.1 (1707.4) تجَّمع متميز حّيا يسوع في الساعة الثالثة من عصر هذا السبت الرائع في كنِيس كفرناحوم. ترأس جايروس وسَّلم يسوع الكتابات المقدسة ليقرأ. في اليوم السابق, كان قد وصل من أورشليم ثلاثة وخمسون فريسياً وصدوقياً؛ كما حضر أيضاً أكثر من ثلاثين من قادة وحكام المجامع المجاورة. كان هؤلاء القادة الدينيون اليهود يتصرفون مباشرة بأوامر من السنهدرين في أورشليم, وكانوا يشكلون الطليعة الأرثوذكسية التي جاءت لتدشين حرب مفتوحة على يسوع وتلاميذه. جالساً إلى جانب هؤلاء القادة اليهود, في مقاعد الشرف في الكنِيس كان المراقبون الرسميون لهيرودس أنتيباس, الذين تم توجيههم للتحقق من الحقيقة بشأن التقارير المزعجة عن محاولة الجماهير لإعلان يسوع ملكاً اليهود, هناك في مناطق أخيه فيليبُس.
153:1.2 (1708.1) أدرك يسوع بأنه يواجه الإعلان الفوري للحرب المُعلنة والمفتوحة من قِبل أعدائه المتزايدين, واختار بجرأة لتولي الهجوم. عند إطعام الخمسة آلاف تحدى أفكارهم عن المسيح المادي؛ الآن اختار مرة أخرى أن يهاجم علانية مفهومهم عن المخلص اليهودي. هذه الأزمة, التي ابتدأت بإطعام الخمسة آلاف, وانتهت بموعظة عصر هذا السبت, كانت بمثابة التحول الظاهري لموجة الشهرة والإستحسان الشعبي. منذ هذا الوقت وصاعداً, كان على عمل الملكوت أن يهتم بشكل متزايد بالمهمة الأكثر أهمية المتمثلة في كسب مهتدين روحيين دائمين للأخوة الدِينية الحقة لجنس الإنسان. هذه الموعظة تمثل أزمة الانتقال من فترة المناقشة, والجدال, والقرار إلى تلك لحرب علنية والقبول النهائي أو الرفض النهائي.
153:1.3 (1708.2) كان السيد يعلم جيدًا أن العديد من أتباعه كانوا ببطء إنما بثبات يهيئون عقولهم أخيراً لرفضه. علم بالمثل أن العديد من تلاميذه كانوا ببطء إنما بتأكيد يمرون خلال ذلك التدريب للعقل والانضباط للنفـْس الذي سيمكنهم من الانتصار على الشك وبكل شجاعة لتأكيد إيمانهم الكامل بإنجيل الملكوت. فهم يسوع تماماً كيف يهيئ الناس أنفسهم لقرارات الأزمة والقيام بمآثر مفاجئة من الاختيار الشجاع من خلال العملية البطيئة للاختيار المتكرر بين المواقف المتكررة للخير والشر. لقد أخضع رسله المختارين لتدريبات متكررة في خيبة الأمل وزودهم بفرص مجربة ومتكررة للاختيار بين طرق الحق والباطل في مواجهة التجارب الروحية. كان يعلم أنه بإمكانه الاعتماد على أتباعه, عندما التقوا بالاختبار الأخير, لاتخاذ قراراتهم الحيوية وفقاً للمواقف العقلية السابقة والمعتادة وتفاعلات الروح.
153:1.4 (1708.3) بدأت هذه الأزمة في حياة يسوع الأرضية بإطعام الخمسة آلاف وانتهت بهذه الموعظة في الكنِيس؛ بدأت الأزمة في حياة الرُسل بهذه الموعظة في الكنِيس واستمرت لمدة عام كامل, منتهية فقط مع محاكمة السيد وصَلبه.
153:1.5 (1708.4) بينما كانوا جالسين هناك في الكنِيس بعد ظهر ذلك اليوم قبل أن يبدأ يسوع في الكلام, كان هناك فقط لغز كبير واحد, مجرد سؤال سامي واحد, في أذهان الجميع. كل من أصدقائه وأعدائه تمعنوا بفكرة واحدة فقط, وتلك كانت: "لماذا قام هو بنفسه عن عمد وبصورة فعلية برد تيار الحماس الشعبي؟" وقد كان مباشرة قبل هذه الموعظة ومباشرة بعدها حين نمَت شكوك وخيبة أمل أنصاره الساخطين إلى معارضة غير واعية وتحولت في نهاية المطاف إلى كراهية فعلية. لقد كان بعد هذه الموعظة في الكنِيس حينما خالج يوداص إسخريوط تفكيره الواعي الأول للهجران. لكنه, للوقت الكائن, سيطر بشكل فعال على كل هكذا ميول.
153:1.6 (1708.5) كان الجميع في حالة من الحيرة. لقد تركهم يسوع مشدوهين ومرتبكين. كان قد انشغل مؤخراً في أعظم إظهار لقدرة خارقة لتميز مهمته بأكملها. كان إطعام الخمسة آلاف الحدث الوحيد في حياته الأرضية الذي جعل المناشدة الأعظم للمفهوم اليهودي عن المسيح المنتظر. لكن هذه الميزة غير العادية كانت على الفور وبشكل غير مبرر مُقابَلة برفضه السريع والصريح لجعله ملكاً.
153:1.7 (1709.1) في مساء الجمعة, ومرة أخرى في صباح السبت, عمل قادة أورشليم طويلاً وبشكل جاد مع جايروس لمنع يسوع من التكلم في الكنِيس, لكن دون جدوى. كان رد جايروس الوحيد على كل هذا الالتماس: "لقد منحت الموافقة على هذا الطلب, ولن أخالف كلمتي."
153:2.1 (1709.2) قدَّم يسوع هذه الموعظة بقراءة من الشريعة كما هو موجود في كتاب التثنية: "لكن سيأتي, إذا هذا الشعب لن يستمع إلى صوت الله, بأن لعنات التعدي بالتأكيد ستباغتهم. سيجعلكم الرب تُضرَبون بأعدائكم؛ ستُنقلون إلى جميع ممالك الأرض. والرب سيجلبكم والملك الذي نصبتموه فوقكم نحو أيادي أمة غريبة. ستصبحون دهشةً, ومَثلاً, وعِبرة بين كل الأمم. سيذهب أبناؤكم وبناتكم إلى السبي. سيتعالى الغرباء بينكم في السُلطة بينما أنتم تُذللون كثيراً. وهذه الأمور ستكون عليكم وعلى نسلكم إلى الأبد لأنكم لم تنصتوا لكلمة الرب. لذلك ستخدمون أعداءكم الذين سيأتون ضدكم. ستتحملون الجوع والعطش وتلبسون هذا النير الحديدي الغريب. سيجلب الرب ضدكم أمة من بعيد, من طرف الأرض, أمة لن تفهموا لسانها, أمة ذات ملامح شرسة, أمة سيكون لديها اعتبار قليل لكم. وسيحاصرونكم في جميع مدنكم إلى أن تنهار الأسوار المحصنة العالية التي وثقتم بها؛ وستقع كل الأرض في أيديهم. وسيأتي بأنكم ستُقادون لتأكلوا ثمر أجسامكم, لحوم أبنائكم وبناتكم, أثناء وقت الحصار هذا, بسبب الضيق الذي سيضغط به أعداؤكم عليكم."
153:2.2 (1709.3) وعندما انتهى يسوع من هذه القراءة, تحَّول إلى كتاب الأنبياء وقرأ من إرميا: "إذا كنتم لن تنصتوا إلى كلمات خدامي الأنبياء الذين أرسلتهم لكم, عندئذٍ سأجعل هذا المنزل مثل شيلو, وسأجعل هذه المدينة لعنة لكل أُمم الأرض. وسمع الكهنة والمعلمون إرميا يتكلم بهذه الكلمات في منزل الرب. وحدث أنه, لما انتهى إرميا من الكلام بكل ما أمره الرب أن يخاطب جميع الناس, ألقى الكهنة والمعلمون القبض عليه, قائلين, ’بالتأكيد ستموت‘. وتجَّمع كل الناس حول إرميا في منزل الرب. ولما سمع أمراء يهوذا هذه الأشياء, جلسوا في الحُكم على إرميا. عندئذٍ تكلم الكهنة والمعلمون إلى الأمراء وكل الشعب قائلين: ’هذا الرجل يستحق الموت, لأنه تنبأ ضد مدينتنا, وقد سمعتموه بآذانكم‘. عندئذٍ تكلمَ إرميا إلى كل الأمراء وإلى كل الشعب: ’ أرسلني الرب لأتنبأ ضد هذا المنزل وضد هذه المدينة بكل الكلمات التي سمعتموها. الآن, إذن, قـَّوموا طرقكم واصلحوا أفعالكم وأطيعوا صوت الرب إلَهكم بحيث قد تُفلتون من الشر الذي تفوهت به ضدكم. أما بالنسبة لي, انظروا ها أنذا بين أيديكم. افعلوا بي ما يبدو حق وصالح في عيونكم. لكن اعلموا بالتأكيد أنكم, إذا قتلتموني, ستجلبون دماً بريئاً على أنفسكم وعلى هذا الشعب, لأن الرب في الحقيقة قد أرسلني لأتكلم بكل هذه الكلمات في آذانكم.‘
153:2.3 (1710.1) "لقد سعى الكهنة والمعلمون في ذلك اليوم لقتل إرميا, لكن القضاة لم يوافقوا, على أنه, من أجل كلماته التحذيرية, ربطوه بالحبال وأنزلوه في بئر قذر حتى غرق في الوحل إلى إبطيه. ذلك ما فعله هذا الشعب بالنبي إرميا عندما أطاع أمر الرب لتحذير إخوانه من سقوطهم السياسي الوشيك. اليوم أود أن أسألكم: ماذا سيفعل رؤساء الكهنة والزعماء الدِينيون لهذا الشعب بالرَجل الذي يجرؤ على تحذيرهم من يوم دينونتهم الروحية؟ هل أنتم أيضًا ستحكمون بالموت على المعلم الذي يجرؤ على إعلان كلمة الرب, والذي لا يخشى أن يشير إلى حيث ترفضون السير في طريق النور الذي يؤدي إلى دخول ملكوت السماء؟
153:2.4 (1710.2) عن ماذا تبحثون كدليل على مهمتي على الأرض؟ لقد تركناكم بدون إزعاج في مراكزكم من النفوذ والسلطة بينما وعظنا البشائر إلى الفقير والمنبوذ. لم نقم بأي هجوم عدائي على ما تقدسونه بل بالأحرى أعلنا حرية جديدة لنفـْس الإنسان الممتطاة-بالخوف. لقد أتيت إلى العالَم لأكشف عن أبي ولكي أؤسس على الأرض الأخوة الروحية لأبناء الله, ملكوت السماء, وبالرغم من أنني قد ذكَّرتكم مرات عديدة بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم, لا يزال أبي قد منحكم العديد من تجليات العجائب المادية بالإضافة إلى تجديدات وتحولات روحية أكثر إثباتاً.
153:2.5 (1710.3) "أي علامة جديدة تبحثون على يداي؟ أصرح بأن لديكم بالفعل أدلة كافية لتمكينكم من إتخاذ قراركم. الحق, الحق, أقول للكثيرين الذين يجلسون أمامي هذا اليوم, أنتم تواجهون ضرورة اختيار أي طريق ستسلكون؛ وأقول لكم, كما قال يشوع لأجدادكم, ’اختاروا هذا اليوم من ستخدمون‘. اليوم, يقف كثيرون منكم على مفترق الطرق.
153:2.6 (1710.4) "بعض منكم عندما لم تتمكنوا من العثور عليّ بعد وليمة الجموع على الجانب الآخر, استأجروا أسطول صيد طبريا, الذي كان قد التجأ قبل أسبوع بالقرب في أثناء عاصفة, للذهاب في تتبعي, ومن أجل ماذا؟ ليس من أجل الحق والبْر أو بحيث أنكم قد تعرفون الأفضل كيف تخدمون وتسعفون لزملائكم الناس! لا, بل بالأحرى بحيث قد يكون لديكم المزيد من الخبز الذي لم تشتغلوا من أجله. لم يكن لملء نفوسكم بكلمة الحياة, لكن فقط بحيث قد تملأون بطونكم بخبز الراحة. ولطالما عُلـِّمتم بأن المسيح, عندما سيأتي, سيعمل تلك العجائب التي من شأنها أن تجعل الحياة ممتعة وسهلة لكل الشعب المختار. ليس غريباً, إذن, بأنكم الذين عُلـِّمتم هكذا يجب أن تشتاقوا للأرغفة والأسماك. لكنني أصرح لكم بأن تلك ليست مهمة ابن الإنسان. لقد جئت لأعلن الحرية الروحية, وأعَّلم الحق الأبدي, وأرعى الإيمان الحي.
153:2.7 (1710.5) "إخواني, لا تشتهوا الطعام الذي يفنى بل بالأحرى ابحثوا عن الطعام الروحي الذي يغذي حتى إلى الحياة الأبدية؛ وهذا هو خبز الحياة الذي يعطيه الابن لكل الذين سيتناولونه ويأكلونه, لأن الأب قد وهب الابن هذه الحياة بدون مكيال. وعندما سألتموني, ’ماذا يجب أن نفعل لنقوم بأعمال الله؟‘ أخبرتكم بوضوح: ’هذا هو عمل الله, بأن تؤمنوا بالذي أرسله,‘"
153:2.8 (1710.6) وبعدئذٍ قال يسوع مشيراً إلى تجهيز لوعاء المنّ الذي كان يُزين عتبة هذا الكنِيس الجديد, والذي كان مزينًا بعناقيد العنب: "كنتم تعتقدون بأن آباءكم في البرية أكلوا المنّ ــ خبز السماء ــ لكنني أقول لكم بأن هذا كان خبز الأرض. بينما لم يعطي موسى آباءكم خبزاً من السماء, أبي الآن يقف مستعداً ليمنحكم خبز الحياة الحقيقي. خبز الحياة الذي ينزل من الله ويعطي حياة أبدية إلى أناس العالَم. وعندما تقولون لي, اعطنا هذا الخبز الحي, سأجيب: أنا هو خبز الحياة هذا. من يأتي إلَيَ لن يجوع, بينما الذي يؤمن بي لن يعطش أبداً. لقد رأيتموني, وعشتم معي, وشاهدتم أعمالي, ومع ذلك لا تؤمنون بأني أتيت من الأب. لكن لأولئك الذين يؤمنون ــ لا تخافوا. كل أولئك المرشَدين بالأب سيأتون إلَي, ومن يأتي إلَي لن يُلقى خارجاً أبداً.
153:2.9 (1711.1) "والآن دعوني أصرح لكم, مرة ولكل الأوقات, بأني قد نزلت إلى الأرض, ليس لأفعل مشيئتي, بل مشيئته الذي أرسلني. وهذه هي المشيئة النهائية له الذي أرسلني, بأنه من كل الذين أعطاهم لي يجب أن لا أفقد واحداً. وهذه هي مشيئة الأب: بأن كل من يرى الابن والذي يؤمن به ستكون له حياة أبدية. بالأمس فقط أطعمتكم بالخبز لأجسادكم؛ اليوم أقدم لكم خبز الحياة من أجل نفوسكم الجائعة. هل ستأخذون الآن خبز الروح كما عند ذاك أكلتم برغبة خبز هذا العالَم؟"
153:2.10 (1711.2) بينما توقف يسوع للحظة لينظر إلى الجمع, نهض أحد المعلمين من أورشليم (عضو في السنهدرين) وسأل: "هل أفهمك تقول بأنك الخبز الذي يأتي من السماء, وبأن المن الذي أعطاه موسى لآبائنا في البرية لم ينزل من السماء؟" فاجاب يسوع الفريسي, "فهمت حسناً." عندئذٍ قال الفريسي: "لكن ألست يسوع الناصري, ابن يوسف, النجار؟ وأليسَ أباك وأُمك, وكذلك إخوتك وأخواتك, معروفين جيداً لدى الكثيرين منا؟ كيف إذن تظهر هنا في منزل الله وتعلن بأنك نزلت من السماء؟"
153:2.11 (1711.3) بهذا الوقت كان هناك الكثير من التذمر في الكنِيس, وكانت تلك الضوضاء منذرة بحيث وقف يسوع وقال: "دعونا نصبر؛ فالحق لا يعاني أبدًا من فحص أمين. أنا كل ما تقوله بل أكثر. الأب وأنا واحد؛ الابن يفعل فقط ما يُعَّلمه الأب, في حين أن كل الذين أُعطوا إلى الابن بالأب, سيستلم الابن لنفسه. لقد قرأتم حيث مكتوب في الأنبياء, ’كلكم ستـُعَّلمون بالله‘, وبأن ’الذين يعَّلمهم الأب سيسمعون أيضاً ابنه‘. كل من يخضع لتعليم روح الأب الساكن سيأتي إلَي في النهاية. ليس بأن أي إنسان قد رأى الأب, لكن روح الأب تسكن داخل الإنسان. والابن الذي نزل من السماء, بالتأكيد قد رأى الأب, وأولئك الذين يؤمنون حقاً بهذا الابن لديهم بالفعل حياة أبدية.
153:2.12 (1711.4) "أنا خبز الحياة هذا. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. لكن هذا الخبز الذي ينزل من الله, إذا أكل إنسان منه, لن يموت في الروح أبداً, أكرر, أنا هذا الخبز الحي, وكل نفـْس تصل إلى إدراك هذه الطبيعة الموَّحدة لله والإنسان ستعيش إلى الأبد, وخبز الحياة هذا الذي أعطيه لكل الذين سيستلمون هو عيشي وطبيعتي المزدوجة. الأب في الابن والابن واحد مع الأب ــ ذلك هو وحيي المعطي الحياة للعالَم وهديتي المخَّلِصة لجميع الأمم؟"
153:2.13 (1711.5) عندما انتهى يسوع من الكلام, صرف حاكم الكنِيس الجمع, لكنهم لم يودوا الانصراف. احتشدوا حول يسوع ليطرحوا المزيد من الأسئلة بينما تمتم آخرون وتنازعوا فيما بينهم. واستمر هذا الوضع لأكثر من ثلاث ساعات. لقد كان بعد الساعة السابعة قبل أن تشتت الجمع أخيراً.
153:3.1 (1712.1) كثيرة كانت الأسئلة التي طُرحت على يسوع أثناء هذا الاجتماع اللاحق. البعض سئل من قبل تلاميذه الحائرين, لكن أكثر سُئل بالمماحكين غير المؤمنين الذين كانوا يسعون فقط لإحراجه ومحاصرته.
153:3.2 (1712.2) صرخ أحد الفريسيين الزائرين, مُعتلياً ركيزة قنديل بهذا السؤال: "أنت تخبرنا بأنك خبز الحياة. كيف يمكنك إعطاءنا لحمك لنأكل ودمك لنشرب؟ أي نفع من تعليمك إذا كان لا يمكن تنفيذه؟" فأجاب يسوع على هذا السؤال, قائلاً: "لم أعَّلمك بأن جسدي هو خبز الحياة ولا بأن دمي هو ماءها. لكنني قلت بأن حياتي في الجسد هي إغداق لخبز السماء. حقيقة كلمة الله المُغدقة في الجسد وظاهرة ابن الإنسان الخاضع لمشيئة الله, تشكل حقيقة من الخبرة تعادل القوت الإلَهي. أنت لا يمكنك أن تأكل لحمي ولا أن تشرب دمي, لكن يمكنك أن تصبح واحداً في الروح معي حتى كما أنا واحد في الروح مع الأب. يمكنك أن تتغذى بكلمة الله الأبدية, التي هي حقًا خبز الحياة, والتي أُغدقت في شبه جسد فاني؛ ويمكنك أن تُسقى في النفـْس بالروح الإلَهي, الذي هو حقًا ماء الحياة. لقد أرسلني الأب إلى العالَم لأُظهر كيف يرغب في أن يسكن ويوَّجه جميع البشر؛ وأنا عشت هذه الحياة في الجسد بحيث أُلهم جميع الناس بالمثل دائماً ليسعوا لمعرفة وفعل مشيئة الأب السماوي الساكن."
153:3.3 (1712.3) ثم قال واحد من جواسيس أورشليم الذي كان يراقب يسوع ورُسله: "نلاحظ أنه لا أنت ولا رُسلك تغسلون أيديكم بشكل صحيح قبل أكل الخبز. يجب أن تعرف جيداً بأن مثل هذه الممارسة كالأكل بأيدي مدنسة وغير مغسولة يعد انتهاكًا لشريعة الشيوخ. ولا أنتم تغسلون كما يجب كؤوس شرابكم وأوعية أكلكم. لماذا تُظهر مثل عدم الاحترام هذا لتقاليد الآباء وشرائع شيوخنا؟" وعندما سمعه يسوع يتكلم, أجاب: "لماذا تتعدون على وصايا الله بشرائع تقاليدكم؟ الوصية تقول ’اكرم أباك وأمك‘, وتوَّجه بأنكم تشاركون معهم مقومات الحياة الخاصة بكم إذا لزم الأمر؛ لكنكم تسنون شريعة تقاليد التي تسمح للأولاد غير المخلصين بالقول بأن المال الذي كان سيتم به مساعدة الآباء قد ’أُعطي لله‘. شريعة الشيوخ بهذا تعفي هؤلاء الأولاد المخادعين من مسؤولياتهم, بالرغم من أن الأولاد يستخدمون في وقت لاحق كل هذه الأموال من أجل راحتهم. لماذا إذن تقوم بهذه الطريقة بإبطال الوصية بتقاليدك؟ حسناً قالت نبوة إشعياء عنكم أنتم المراؤون: ’هذا الشعب يكرمني بشفاههم, لكن قلبهم بعيد عني. في عبث يعبدونني, يعَّلمون كأن مذاهبهم سنن الناس.‘
153:3.4 (1712.4) "تستطيع أن ترى كيف أنك تهجر الوصية بينما تتمسك بمتانة بتقاليد الناس. كلكم على إستعداد تام لترفضوا كلمة الله بينما تحافظون على تقاليدكم. وبطرق أخرى كثيرة أنتم تتجرأون على جعل تعاليمكم الخاصة فوق الشريعة والأنبياء."
153:3.5 (1712.5) ثم وجه يسوع ملاحظاته إلى جميع الحاضرين. قال: "لكن أنصتوا إلَي كلكم. ليس ما يدخل الفم يدنس الإنسان روحياً, بل بالأحرى ما يخرج من الفم ومن القلب." لكن حتى الرُسل فشلوا تماماً في فهم معنى كلماته, لأن سمعان بطرس سأله أيضًا: "لئلا بعض من سامعيك يستاءون بلا داع, هل تشرح لنا معنى هذه الكلمات؟" وعند ذاك قال يسوع لبطرس: "هل أنت أيضًا صعب الفهم؟ ألا تعلم بأن كل نبتة لم يغرسها أبي السماوي سوف يتم اقتلاعها؟ حَّول انتباهك الآن إلى أولئك الذين يودون معرفة الحقيقة. لا يمكنك إجبار الناس ليحبوا الحقيقة. كثيرون من هؤلاء المعلمين هم مرشدون عميان. وأنت تعلم بأنه, إذا قاد الأعمى أعمى, كِلاهما سيسقط في الحفرة. لكن أنصت بينما أخبرك الحقيقة فيما يتعلق بتلك الأشياء التي تدنس الناس أخلاقياً وتلوثهم روحياً. أعلن إنه ليس ما يدخل الجسم بطريق الفم أو يصل إلى العقل من خلال العيون والآذان, ما يدنس الإنسان. يُدنَّس الإنسان فقط بذلك الشر الذي قد يتأسس في القلب, والذي يجد تعبيراً في كلمات وأفعال هكذا أشخاص غير مقدسين. ألا تعلم أنه من القلب تخرج أفكار شريرة, ومشاريع أثيمة للقتل, والسرقة, والزنا, سوية مع الحسد, والفخر, والغضب, والثأر, واللوم, وشهادة الزور؟ وإنه بالضبط مثل هذه الأشياء التي تدنس الناس, وليس بأنهم يأكلون الخبز بأيدي غير نظيفة احتفالياً."
153:3.6 (1713.1) كانت اللجنة الفريسية من سنهدرين أورشليم مقتنعة الآن تقريباً بأنه يجب إلقاء القبض على يسوع بتهمة التجديف أو على إحدى التهكمات على شريعة اليهود المقدسة؛ لأجل ذلك كان مسعاهم لتوريطه في المناقشة, وربما الهجوم على, بعض تقاليد الشيوخ, أو ما يسمى الشرائع الشفوية للأمة. بغض النظر عن شح المياه, لن يفشل هؤلاء اليهود المستعبَدين بالتقاليد بالقيام بالطقوس المطلوبة لغسل الأيدي قبل كل وجبة. كان اعتقادهم أن "الموت أفضل من مخالفة وصايا الشيوخ". سأل الجواسيس هذا السؤال لأنه قيل بأن يسوع قال, "الخلاص هو مسألة قلوب طاهرة بدلاً من أيدي طاهرة." لكن مثل هذه المعتقدات, عندما تصبح مرة جزءًا من دِين المرء, يصعب الخروج عنها. حتى بعد سنوات عديدة من هذا اليوم كان الرسول بطرس لا يزال محتجزاً في رباط الخوف لكثير من هذه التقاليد حول أشياء نظيفة وغير نظيفة, فقط كائن أخيراً مُخَّلـَص من خلال اختبار حلم استثنائي وجلي. كل هذا يمكن فهمه بشكل أفضل عندما يُذكر بأن هؤلاء اليهود نظروا إلى تناول الطعام بأيدي غير مغسولة في نفس ضوء المخالطة مع عاهرة. وكان كلاهما يعاقب بالحرمان الكنسي.
153:3.7 (1713.2) هكذا اختار السيد أن يناقش ويُشهر بحماقة كل النظام الحاخامي من أحكام ولوائح كانت ممثلة بالشريعة الشفهيةــ تقاليد الشيوخ, كل ما كان يُعتبَر أكثر قداسة وأكثر إلزاماً لليهود حتى من تعاليم الكتابات المقدسة. وجاهر يسوع بتحفظ أقل لأنه كان يعلم بأن الساعة قد أتت عندما لم يكن بإمكانه فعل أي شيء آخر لمنع الانقطاع العلني للعلاقات مع هؤلاء القادة الدِينيين.
153:4.1 (1713.3) في وسط المناقشات حول هذا الاجتماع اللاحق, أحضر أحد الفريسيين من أورشليم ليسوع شابًا شديد الإضطراب كان مُمتلَكاً بروح جامح ومتمرد. قائداً هذا الشاب فاقد العقل إلى يسوع, قال: "ماذا تستطيع أن تفعل لمصاب كهذا؟ هل يمكنك إخراج الأبالسة؟" وعندما نظر السيد إلى الشاب, كان مُحرَّكاً بالشفقة, ومشيراً إلى الفتى أن يأتي إليه, أخذه باليد وقال: "أنت تعرف من أنا؛ أخرج منه؛ وأنا أعهد إلى أحد زملائك المخلصين ليرى بأنك لا تعود." وفي الحال كان الفتى طبيعياً وفي عقله الصحيح. وهذه هي الحالة الأولى حيث أخرج يسوع حقاً "روحاً شريرة" من كائن إنساني. جميع الحالات السابقة كانت مجرد امتلاك مُفترَض لإبليس؛ لكن هذه كانت حالة حقيقية من امتلاك عفريتي, حتى كما حدث أحياناً في تلك الأيام وحتى يوم العنصرة, عندما انسكبت روح السيد على كل جسد, مما جعل من المستحيل إلى الأبد لهؤلاء المتمردين السماويين القلة أن يستغلوا أنواعاً معينة غير مستقرة من البشر.
153:4.2 (1714.1) عندما تعجب الناس, وقف أحد الفريسيين واتهم يسوع بأنه استطاع أن يفعل هذه الأشياء لأنه كان متحالفًا مع الأبالسة؛ بأنه أقر في اللغة التي استخدمها لإخراج هذا الإبليس بأنهما يعرفان بعضهما البعض؛ ومضى قائلاً أن القادة والمعلمين الدِينيين في أورشليم قرروا أن يسوع قام بكل معجزاته المزعومة بقدرة بعلزِبوب, أمير الأبالسة. قال الفريسي: "لا تتعاملوا مع هذا الرَجل؛ فهو في شراكة مع الشيطان."
153:4.3 (1714.2) عندئذٍ قال يسوع: "كيف يمكن للشيطان أن يطرد الشيطان؟ مملكة منقسمة على نفسها لا يمكن أن تصمد؛ إذا كان منزل منقسم على نفسه, فسرعان ما سيُحضر إلى الخراب. هل يمكن لمدينة أن تصمد أمام الحصار إذا لم تكن متحدة؟ إذا الشيطان أخرج الشيطان, فهو منقسم على نفسه؛ فكيف ستقوم مملكته إذن؟ لكن يجب أن تعلموا أنه لا يمكن لأحد أن يدخل منزل رَجل قوي وينهب ممتلكاته إلا إذا هو تغلب أولاَ على الرَجل القوي وقيده. وهكذا, إذا كنت بقدرة بعلزِبوب أُخرج الأبالسة, فبمن يخرجهم أبناؤكم؟ لذلك سيكونون هم قضاتكم. لكن إذا كنت أنا, بروح الله, أُخرج الأبالسة, فحينئذ يكون ملكوت الله حقاً قد أتى عليكم. إذا لم تـصابوا بالعمى من التحيز وتضلوا بالخوف والكبرياء, ستدركون بسهولة بأن واحد أعظم من الأبالسة يقف في وسطكم. تجبرونني على إعلان أن الذي ليس معي هو ضدي, بينما من لا يجتمع معي يتشتت في الخارج. دعوني أطلق تحذيراً حازماً إليكم أنتم الذين ستفترضون, وعيونكم مفتوحة ومع ضغينة متعمدة, عن علم أن تنسبوا أعمال الله إلى أفعال الأبالسة! الحق, الحق, أقول لكم, سوف تغفر خطاياكم, حتى كل تجديفاتكم, لكن كل من سيجدف على الله بتعمد أثيم ومدبَر, لن ينال الغفران أبداً. بما أن مثل هؤلاء العمال المتشبثين بالإثم لن يطلبوا أبداً أو ينالوا الغفران, فهم مذنبون بخطيئة رفضهم للغفران الإلَهي إلى الأبد.
153:4.4 (1714.3) "لقد جاء الكثير منكم هذا اليوم إلى مفترق الطرق؛ لقد وصلتم إلى بداية اتخاذ الاختيار الحتمي بين مشيئة الأب والطرق المختارة بالنفس للظلمة. وكما تختارون الآن, هكذا ستكونون في نهاية المطاف. يجب إما أن تجعلوا الشجرة صالحة وثمرها صالح, وإلا ستصبح الشجرة فاسدة وثمرها فاسد. أُعلن بأن في ملكوت أبي الأبدي تُعرف الشجرة بثمارها. لكن بعض منكم الذين هم كالأفاعي, كيف يمكنكم, بعد أن اخترتم الشر, أن تجلبوا ثماراً جيدة؟ بعد كل شيء, من وفرة الشر في قلوبكم تتكلم أفواهكم."
153:4.5 (1714.4) بعدئذٍ وقف فريسي آخر, الذي قال: "يا سيد, نود أن تعطينا علامة مقررة مسبقاً سنتفق عليها على أنها مؤسسة لسلطتك وحقّك في التدريس. هل ستوافق على مثل هذا الترتيب؟" وعندما سمع يسوع هذا, قال: "هذا الجيل غير المؤمن والباحث عن آية يسعى لدليل, لكن لا علامة ستُعطى لكم غير تلك التي لديكم بالفعل, وتلك التي سترون عندما يرحل ابن الإنسان من بينكم."
153:4.6 (1714.5) ولما فرغ من الكلام, أحاط به رُسله وقادوه من الكنِيس, في صمت رحلوا معه إلى البيت إلى بيت-صيدا. كانوا جميعًا مندهشين ونوعاً ما مُرهبين بالتغيير المفاجئ في أساليب تعليم السيد. كانوا غير معتادين تمامًا على رؤيته يتصرف بمثل هذا الأسلوب المتشدد.
153:5.1 (1715.1) مراراً وتكراراً حطم يسوع آمال رُسله إلى قطع, بشكل متكرر سحق أعز توقعاتهم, لكن ولا وقت من خيبة الأمل أو فصل من الحزن كان مضاهياً أبداً لذلك الذي تغلب عليهم الآن. وأيضاً, كان هناك الآن ممزوجاً مع كآبتهم خوف حقيقي على سلامتهم. كانوا جميعًا بشكل مفاجئ مذعورين بالهجرة المفاجئة والتامة للعموم. كما كانوا خائفين ومربكين إلى حد ما من الجرأة غير المتوقعة والتصميم الحازم الذي أبداه الفريسيون الذين نزلوا من أورشليم. لكن الأكثر من ذلك كله أنهم كانوا متحيرين بالتغيير المفاجئ في تكتيكات يسوع. في ظل ظروف اعتيادية كانوا يودون الترحيب بظهور هذا الموقف الأكثر تشدداً, لكن آتٍ كما حدث, إلى جانب الكثير مما لم يكن متوقعًا, أذهلهم.
153:5.2 (1715.2) والآن, علاوة على كل هذه المخاوف, عندما وصلوا إلى البيت, رفض يسوع أن يأكل. لساعات عزل نفسه في إحدى الغرف العلوية. كان حوالي منتصف الليل عندما عاد يوآب, زعيم الإنجيليين, وأبلغ بأن حوالي ثلث زملائه قد هجروا القضية. طوال المساء كان التلاميذ المخلصون يأتون ويذهبون, مُبَّلغون بأن عداوة المشاعر تجاه السيد كانت عامةً في كفرناحوم. لم يكن قادة أورشليم بطيئين في تغذية هذا الشعور بعدم الرضا والسعي بكل طريقة ممكنة لتعزيز الحركة بعيداً عن يسوع وتعاليمه. أثناء هذه الساعات المجربة كانت النساء الاثنتي عشرة في مؤتمر في منزل بطرس. كن مستاءات بشدة, لكن ولا واحدة منهن هجرت.
153:5.3 (1715.3) كان بعد منتصف الليل بقليل عندما نزل يسوع من الغرفة العليا ووقف بين الاثني عشر وزملائهم, وكان عددهم حوالي ثلاثين في الكل. قال: "أُدرك بأن هذه الغربلة للملكوت تزعجكم, لكن لا بد منها. مع ذلك, بعد كل التدريب الذي تلقيتموه, هل كان هناك أي سبب وجيه لماذا يجب أن تتعثروا عند كلماتي؟ لماذا أنتم مملوئين بالخوف والذعر عندما ترون الملكوت مجرداً من هذه الجموع الفاترة وهؤلاء التلاميذ الفاتري الهمة؟ لماذا تحزنون عندما ينبلج اليوم الجديد من أجل التألق في مجد جديد للتعاليم الروحية لملكوت السماء؟ إذا كنتم تجدون من الصعب أن تتحملوا هذا الإختبار, فماذا, إذاً, ستفعلون عندما يجب على ابن الإنسان أن يعود إلى الأب؟ متى وكيف ستهيئون أنفسكم للوقت عندما أصعد إلى المكان الذي أتيت منه إلى هذا العالَم؟
153:5.4 (1715.4) "يا أحبائي, يجب أن تتذكروا بأنه الروح الذي يُحيي؛ الجسد وكل ما يتعلق به قليل النفع. الكلمات التي قلتها لكم هي روح وحياة. كونوا مبتهجين! أنا لم أهجركم. سوف يشعر الكثيرون بالإستياء من الكلام الصريح لهذه الأيام. تواً قد سمعتم بأن العديد من تلاميذي قد عادوا أدراجهم؛ لم يعودوا يمشون معي. منذ البداية كنت أعلم بأن هؤلاء المؤمنين الفاتري الهمة سوف يسقطون على الطريق. ألم أختاركم أنتم الاثني عشر رجلاً وميزتكم كسفراء للملكوت؟ والآن في مثل هذا الوقت هل أنتم ستهجرون أيضاً؟ لينظر كل واحد منكم إلى إيمانه الخاص, لأن واحداً منكم يقف في خطر محدق." وعندما انتهى يسوع من الكلام, قال سمعان بطرس: "نعم, يا رب, نحن محزونون ومحتارون, لكننا لن نتخلى عنك أبدًا. لقد علـَّمتنا كلمات الحياة الأبدية. لقد آمنا بك وتبعنا معك كل هذا الوقت. لن نرجع للوراء, لأننا نعلم أنك أُرسلت من الله." وعندما توقف بطرس عن الكلام, أومأوا جميعًا بموافقة واحدة على هذا التعهد بالولاء.
153:5.5 (1716.1) عندئذٍ قال يسوع: "اذهبوا إلى راحتكم, لأن أوقات الانشغال علينا؛ أيام نشطة أمامنا."
كِتاب يورانشيا
ورقة 154
154:0.1 (1717.1) في ليلة السبت الزاخرة بالأحداث في 30 نيسان, بينما كان يسوع يتكلم كلمات المؤاساة والتشجيع لتلاميذه المحبطين والحائرين, كان يُعقد في طبريا مؤتمر بين هيرودس أنتيباس وجماعة من المفوضين الخاصين الذين يمثلون سنهدرين أورشليم. حث هؤلاء الكتبة والفريسيون هيرودس على إلقاء القبض على يسوع؛ بذلوا قصارى جهدهم لإقناعه بأن يسوع كان يثير العامة للفتنة وحتى للتمرد. لكن هيرودس رفض إتخاذ إجراء ضده باعتباره مجرماً سياسياً. كان مستشارو هيرودس قد أبلغوا بدقة عن الواقعة عبر البحيرة عندما سعى الناس لإعلان يسوع ملكاً وكيف رفض الاقتراح.
154:0.2 (1717.2) واحد من عائلة هيرودس الرسمية, شوزا, الذي كانت زوجته تنتمي إلى هيئة خدمة النساء, كان قد أخبره بأن يسوع لم يقترح التدخل في شؤون الحُكم الأرضي؛ بأنه كان مهتماً فقط بتأسيس الأخوة الروحية لمؤمنيه, الأخوة التي سماها ملكوت السماء. كان هيرودس يثق في تقارير شوزا, كثيراً لدرجة أنه رفض التدخل في أنشطة يسوع. تأثر هيرودس أيضاً في هذا الوقت بموقفه تجاه يسوع, بخوفه الخرافي من يوحنا المعمدان. كان هيرودس أحد أولئك اليهود المرتدين الذين, بينما لم يؤمنوا بأي شيء, خافوا كل شيء. كان لديه ضمير مؤنب لأنه حَكَمَ على يوحنا بالموت, ولم يكن يريد أن يتورط في هذه المكائد ضد يسوع. كان على علم بالعديد من حالات المرض التي شفاها يسوع على ما يبدو, واعتبره إما نبياً أو متعصباً دِينياً غير مؤذٍ نسبياً.
154:0.3 (1717.3) عندما هدد اليهود بإبلاغ قيصر بأنه كان يحمي خائناً, أمرهم هيرودس بالخروج من غرفة مجلسه. هكذا استقرت الأمور لأسبوع واحد, الوقت الذي في أثنائه هيأ يسوع أتباعه للتشتت الوشيك.
154:1.1 (1717.4) من 1 أيار إلى 7 أيار عقد يسوع شورى ودية مع أتباعه في منزل زَبـِدي. تم قبول التلاميذ المجربين والموثوقين فقط في هذه المؤتمرات. في هذا الوقت كان هناك حوالي مائة فقط من التلاميذ الذين لديهم الشجاعة الأخلاقية لمواجهة معارضة الفريسيين وإعلان تمسكهم بيسوع علانية. عقد مع هذه المجموعة اجتماعات صباحية, وعصرية, ومسائية. تجمعت جماعات صغيرة من الستفسرين بعد ظهر كل يوم بجانب البحر, حيث حاضر إليهم بعض من الإنجيليين أو الرُسل. نادرا ما بلغ عدد هذه المجموعات أكثر من خمسين.
154:1.2 (1717.5) في يوم الجمعة من هذا الأسبوع اتخذ حكام كنيس كفرناحوم إجراءات رسمية لإغلاق منزل الله في وجه يسوع وكل أتباعه. تم اتخاذ هذا الإجراء بتحريض من الفريسيين في أورشليم. استقال جايروس من منصب الحاكم الرئيسي وانضم علناً إلى يسوع.
154:1.3 (1718.1) عُقد الأخير من اللقاءات إلى جانب البحر بعد ظهر السبت, 7 أيار. تكلم يسوع إلى أقل من مائة وخمسين كانوا مجتمعين في ذلك الوقت. كانت ليلة السبت هذه هي الفترة التي شهدت أضعف مد في موجة الإحترام الشعبي ليسوع وتعاليمه. ومنذ ذلك الحين وصاعداً كان هناك نمو مضطرد, بطيئ, ولكنه أكثر صحة ويمكن الاعتماد عليه في المشاعر الإيجابية؛ تم بناء مجموعة جديدة من الأتباع والتي كانت ذات أساس أفضل في الإيمان الروحي والخبرة الدينية الحقيقية. مرحلة الانتقال المربكة والمُساومة أكثر أو أقل بين المفاهيم المادية للملكوت التي يتمسك بها أتباع السيد والمفاهيم الأكثر مثالية وروحانيةً التي علمها يسوع, كانت الآن بالتأكيد قد انتهت. من الآن وصاعداً كان هناك إعلان أكثر انفتاحاً لإنجيل الملكوت في نطاقه الأوسع وفي تداعياته الروحية البعيدة المدى.
154:2.1 (1718.2) يوم الأحد, 8 أيار, عام 29 م. أصدر السنهدرين في أورشليم مرسوما يقضي بإغلاق جميع معابد فلسطين أمام يسوع وأتباعه. كان هذا اغتصاباً جديداً وغير مسبوق للسُلطة من قِبل سنهدرين أورشليم. حتى ذلك الحين كان كل كنِيس موجوداً وعاملاً كمجمع مستقل من العابدين وكان تحت حُكم وتوجيه مجلسه الخاص من الحكام. فقط معابد أورشليم كانت خاضعة لسُلطة السنهدرين. هذا الإجراء الموجز للسنهدرين أعقبه استقالة خمسة من أعضائه. تم إرسال مائة مرسال في الحال لنقل وتنفيذ هذا المرسوم. في غضون فترة قصيرة من أسبوعين كان كل كنِيس في فلسطين قد خضع لهذا المرسوم من السنهدرين باستثناء الكنِيس في حبرون. رفض حكام كنِيس حبرون الإعتراف بحق السنهدرين في ممارسة مثل هذه السلطة على مجلسهم. استند هذا الرفض للانضمام إلى مرسوم أورشليم إلى مزاعمهم بالحكم الذاتي الجماعي بدلاً من التعاطف مع قضية يسوع. بعد ذلك بوقت قصير تم تدمير كنِيس حبرون بحريق.
154:2.2 (1718.3) في صباح هذا الأحد نفسه, أعلن يسوع عطلة لمدة أسبوع, حاثاً جميع تلاميذه على العودة إلى بيوتهم أو أصدقائهم لإراحة نفوسهم المضطربة والتحدث بكلمات التشجيع لأحبائهم. قال: "اذهبوا إلى أماكنكم المتعددة للعب أو صيد السمك بينما تصَّلون من أجل امتداد الملكوت."
154:2.3 (1718.4) هذا الأسبوع من الراحة مكَّن يسوع من زيارة العديد من العائلات والمجموعات حول شاطئ البحر. ذهب أيضاً لصيد السمك مع داود زَبـِدي في عدة مناسبات, وبينما كان يتجول بمفرده معظم الوقت, كان هناك دائماً بقربه اثنان أو ثلاثة من رُسل داود الأكثر ثقة, الذين لم يكن لديهم أوامر غير مؤكدة من رئيسهم بما يخص حماية يسوع. لم يكن هناك تعليم علني من أي نوع خلال أسبوع الراحة هذا.
154:2.4 (1718.5) كان هذا هو الأسبوع الذي عانى فيه نثانئيل ويعقوب زَبـِدي من أكثر من مرض طفيف. لثلاثة أيام وليال كانا مصابين بشدة باضطراب هضمي مؤلم. في الليلة الثالثة أرسل يسوع صالومي, أم يعقوب, لراحتها بينما أسعف إلى رُسوليه المتألمين. طبعاً كان بإمكان يسوع أن يشفي هذين الرَجلين على الفور, لكن هذه ليست طريقة الابن أو الآب في التعامل مع هذه الصعوبات والإبتلاءات الشائعة لأبناء البشر في العوالم التطورية للزمان والفضاء. ولا مرة طوال كل حياته الزاخرة بالأحداث في الجسد, تعاطى يسوع بأي نوع من الإسعاف الخارق لأي فرد من عائلته الأرضية أو نيابة عن أي من أتباعه المباشرين.
154:2.5 (1719.1) يجب مواجهة صعوبات الكون ويجب أن تواجَه العقبات الكوكبية كجزء من تدريب الخبرة المزود من أجل نمو ونشوء الكمال التدريجي للنفوس المتطورة لمخلوقات البشر. تتطلب روحانية النفـْس البشرية تجربة حميمة مع الحل التثقيفي لمدى واسع من مشاكل الكون الحقيقية. الطبيعة الحيوانية والأشكال الأسفل من مخلوقات المشيئة لا تتقدم بشكل إيجابي في سهولة البيئة. المواقف الإشكالية, مزدوجة مع محفزات البذل, تتواطأ لإنتاج الأنشطة للعقل, والنفـْس, والروح التي تساهم بمقدرة في إنجاز أهداف جديرة من التقدم البشري وتحقيق مستويات أعلى من مصير الروح.
154:3.1 (1719.2) في 16 أيار انعقد المؤتمر الثاني في طبريا بين سُلطات أورشليم وهيرودس أنتيباس. كان كل من القادة الدِينيين والسياسيين من أورشليم حاضرين. تمكن القادة اليهود من إبلاغ هيرودس بأن جميع المعابد عملياً في كل من الجليل ويهودا كانت مغلقة أمام تعاليم يسوع. بُذل جهد جديد لجعل هيرودس يلقي القبض على يسوع, لكنه رفض تنفيذ تعليماتهم. في 18 أيار, على كل, وافق هيرودس على خطة السماح لسُلطات السنهدرين بإلقاء القبض على يسوع ونقله إلى أورشليم لمحاكمته بتهم دِينية, شرط موافقة الحاكم الروماني ليهودا على مثل هذا الترتيب. في هذه الأثناء, كان أعداء يسوع ينشرون الشائعات باجتهاد في جميع أنحاء الجليل بأن هيرودس أصبح معادياً ليسوع, وأنه كان ينوي إبادة كل من آمن بتعاليمه.
154:3.2 (1719.3) في ليلة السبت, 21 أيار, وصلت أنباء إلى طبريا بأن السُلطات المدنية في أورشليم لم يكن لديها اعتراض على الاتفاق بين هيرودس والفريسيين بأن يُلقى القبض على يسوع ويُنقل إلى أورشليم للمحاكمة أمام السنهدرين باتهامات الازدراء بالشريعة المقدسة للأمة اليهودية. وعليه, قبيل منتصف ليل هذا اليوم بقليل, وقع هيرودس المرسوم الذي يرخص لضباط السنهدرين بالقبض على يسوع داخل منطقة هيرودس ونقله قسراً إلى أورشليم للمحاكمة. مورس ضغط قوي من عدة جوانب للحمل على هيرودس قبل موافقته على منح هذا الإذن, وكان يعلم جيداً أن يسوع لا يمكنه أن يتوقع محاكمة عادلة أمام أعدائه الألداء في أورشليم.
154:4.1 (1719.4) في ليلة السبت هذه بالذات, التقت مجموعة من خمسين من المواطنين البارزين في الكنِيس لمناقشة السؤال الهام: "ماذا سنفعل بيسوع؟ تحدثوا وتجادلوا حتى بعد منتصف الليل, لكنهم لم يتمكنوا من إيجاد أي أرضية مشتركة للاتفاق. على حدة من عدد قليل من الأشخاص الذين كانوا يميلون للاعتقاد بأن يسوع قد يكون المسيح, على الأقل رَجل مقدس, أو ربما نبي, كان الاجتماع منقسماً إلى أربع مجموعات متساوية تقريباً, الذين على التوالي, تمسكوا بوجهات النظر التالية عن يسوع:
154:4.2 (1719.5) 1. بأنه متعصب دِيني مخدوع وعديم الأذى.
154:4.3 (1719.6) 2. بأنه محرض فتن خطير ومصمم قد يثير التمرد.
154:4.4 (1720.1) 3. بأنه متشارك مع الأبالسة, بأنه حتى قد يكون أمير الأبالسة.
154:4.5 (1720.2) 4. بأنه يهذي, أنه مجنون, غير متوازن عقلياً.
154:4.6 (1720.3) كان هناك الكثير من الحديث عن تعاليم وعظ يسوع المزعجة لعامة الناس؛ أصَّر أعداؤه بأن تعاليمه كانت غير عملية. بأن كل شيء سيتحطم إذا بذل كل واحد جهدا صادقا للعيش وفقا لأفكاره. وقد قال الناس من أجيال لاحقة عديدة الأشياء ذاتها. أناس أذكياء وذوي نوايا حسنة, حتى في العصر الأكثر استنارة لهذه الكشوف, يتمسكون بأن الحضارة الحديثة لم يكن من الممكن بناؤها على تعاليم يسوع ــ وهم جزئياً على حق. لكن كل مثل هؤلاء المشككين ينسون بأنه كان من الممكن بناء حضارة أفضل بكثير على تعاليمه, ويوماً ما ستكون كذلك. هذا العالَم لم يحاول أبداً بجدية تنفيذ تعاليم يسوع على نطاق واسع, على الرغم من أنه قد تم في كثير من الأحيان بذل محاولات فاترة لاتباع عقائد ما يسمى المسيحية.
154:5.1 (1720.4) كان 22 أيار يوماً حافلاً بالأحداث في حياة يسوع. صباح هذا الأحد, قبل الفجر, وصل أحد رسل داود على عجل من طبريا, حاملاً الكلمة بأن هيرودس قد أذن, أو على وشك أن يأذن بإلقاء القبض على يسوع من قبل ضباط السنهدرين. أدى تلقي أخبار هذا الخطر الوشيك لداود زَبـِدي بإيقاظ رسله وإرسالهم إلى جميع المجموعات المحلية للتلاميذ, واستدعائهم لمجلس طارئ في الساعة السابعة من ذلك الصباح. عندما سمعت شقيقة زوجة يهوذا (شقيق يسوع) هذا البلاغ المثير للقلق, سارعت بالكلمة إلى جميع أفراد عائلة يسوع الذين سكنوا بالقرب, واستدعتهم على الفور للتجمع في منزل زَبـِدي. وفي استجابة لهذه الدعوة السريعة, حالياً اجتمعت مريم, ويعقوب, ويوسف, ويهوذا, وراعوث.
154:5.2 (1720.5) في اجتماع هذا الصباح الباكر أبلغ يسوع إرشاداته الوداعية إلى التلاميذ المتجمعين؛ أي أنه, ودَّعهم للوقت الكائن, عالم جيداً بأنهم سوف يتشتتون قريباً من كفرناحوم. وجَّههم جميعاً لطلب الإرشاد من الله ومواصلة عمل الملكوت بغض النظر عن العواقب. كان على الإنجيليين أن يعملوا على النحو الذي يرونه مناسباً حتى يحين الوقت عندما قد يتم استدعاءهم. اختار اثني عشر من الإنجيليين لمرافقته؛ وَّجه الرُسل الاثني عشر للبقاء معه مهما حدث. أرشد النساء الاثنتي عشرة للبقاء في منزل زَبـِدي وفي منزل بطرس حتى يُرسل إليهن.
154:5.3 (1720.6) وافق يسوع على استمرار داود زَبـِدي بخدماته للرسل في جميع أنحاء البلاد, وفي وداع السيد في الوقت الحالي, قال داود: "انطلق إلى عملك, يا سيد. لا تدع المتعصبين يقبضون عليك, ولا تشك أبداً بأن المراسيل سيتبعونك. لن يفقد رجالي الاتصال بك أبداً, ومن خلالهم ستعرف عن الملكوت في أجزاء أخرى, وبواسطتهم سنعرف جميعنا عنك. لا شيء قد يحدث لي سيتدخل بهذه الخدمة, لأني قد عَيَنت قادة أولين وثانويين, حتى ثالثيين. أنا لست معلماً ولا واعظاً, لكن في قلبي القيام بهذا, ولا أحد يمكنه إيقافي."
154:5.4 (1720.7) حوالي الساعة السابعة والنصف من هذا الصباح بدأ يسوع خطابه الوداعي لما يقرب من مائة مؤمن احتشدوا في الداخل لسماعه. كانت هذه مناسبة مهيبة لجميع الحاضرين, لكن يسوع بدا مبتهجاً على نحو غير عادي؛ مرة أخرى كان أكثر مثل ذاته المألوفة. قد ذهبت جَّدية الأسابيع, وألهمهم كلهم بكلماته من الإيمان, والأمل, والشجاعة.
154:6.1 (1721.1) كانت الساعة حوالي الثامنة من صباح هذا الأحد عندما وصل خمسة أفراد من عائلة يسوع الأرضية إلى الموقع استجابة للاستدعاء العاجل من شقيقة زوجة يهوذا. من بين جميع أفراد عائلته في الجسد, فقط واحدة, راعوث, آمنت من كل قلبها وباستمرار بألوهية مهمته على الأرض. كان يهوذا, ويعقوب, وحتى يوسف, لا يزالون يحتفظون بالكثير من إيمانهم بيسوع, لكنهم سمحوا للكبرياء بالتدخل في حكمهم الأفضل وميولهم الروحية الحقيقية. بالمثل كانت مريم ممزقة بين المحبة والخوف, بين محبة الأُم وكبرياء الأسرة. ولو إنها كانت مضايقة بالشكوك, هي لم تنسى كلياً زيارة جبرائيل قبل أن يولد يسوع. كان الفريسيون يجاهدون لإقناع مريم بأن يسوع يهذي, مختل. حثوها على الذهاب مع أبنائها والسعي لثنيه عن بذل جهود إضافية للتعليم العلني. أكدوا لمريم بأن صحة يسوع ستنهار قريباً, وبأن الخزي والعار فقط سيلحقان بالعائلة بأكملها نتيجة للسماح له بالاستمرار. وهكذا, عندما جاءت الكلمة من شقيقة زوجة يهوذا, باشر كل الخمسة منهم على الفور في طريقهم إلى منزل زَبـِدي, حيث أنهم كانوا معاً في بيت مريم, حيث اجتمعوا مع الفريسيين في المساء السابق, كانوا قد تحدثوا مع قادة أورشليم طوال الليل, وكانوا جميعًا مقتنعين إلى حد ما بأن يسوع كان يتصرف بغرابة, أنه كان يتصرف بشكل غريب لبعض الوقت. رغم أن راعوث لم تستطع تفسير كل تصَّرفه, أصَّرت بأنه عَامَل عائلته دائماً بإنصاف ورفضت الموافقة على برنامج محاولة إقناعه بالعدول عن المزيد من العمل.
154:6.2 (1721.2) في الطريق إلى منزل زَبـِدي, تحدثوا مرة أخرى عن هذه الأمور واتفقوا فيما بينهم على محاولة إقناع يسوع بالمجيء معهم إلى البيت, لأن, قالت مريم: "أنا أعرف أنني أستطيع التأثير على ابني إذا هو فقط أتى إلى البيت واستمع لي." كان يعقوب ويهوذا قد سمعا إشاعات تتعلق بخطط إعتقال يسوع وأخْذه إلى أورشليم للمحاكمة. كما خافوا على سلامتهم الشخصية. طالما كان يسوع شخصية مشهورة في نظر العامة, سمحت عائلته للأمور بأن تنجرف جانباً, لكن الآن بعد أن انقلب أهل كفرناحوم وقادة أورشليم ضده فجأة, بدأوا يشعرون بحدة بضغط العار المفترض لوضعهم المحرج.
154:6.3 (1721.3) كانوا يتوقعون لقاء يسوع, أن يأخذوه جانباً, وحثه على الذهاب إلى البيت معهم. فكـَّروا بطمأنته بأنهم سينسون إهماله لهم ــ بأنهم سيغفرون وينسون ــ إذا هو فقط تخلى عن حماقة محاولة وعظ دِين جديد لا يجلب سوى المتاعب لنفسه والعار على عائلته. إلى كل هذا كانت راعوث تقول فقط: "سأخبر أخي بأنني أعتقد أنه رجل الله وبأني آمل أنه سيكون على استعداد للموت قبل أن يسمح لهؤلاء الفريسيين الأثيمين بإيقاف وعظه." وعد يوسف بإبقاء راعوث هادئة بينما عمل الآخرون مع يسوع.
154:6.4 (1721.4) عندما وصلوا إلى منزل زَبـِدي, كان يسوع في خضم إلقاء خطابه الوداعي إلى التلاميذ. سعوا للدخول إلى المنزل, لكنه كان مزدحماً إلى الفيض. أخيراً استكنوا على عتبة الباب الخلفي وأرسلوا كلمة إلى يسوع, من شخص إلى آخر, بحيث همسها إليه أخيراً سمعان بطرس, الذي قاطع حديثه من أجل هذا الغرض, والذي قال: "انظر, أمك وإخوتك في الخارج, وهم متلهفين للتكلم معك." الآن لم يخطر ببال أمه مدى أهمية إعطاء هذه الرسالة الوداعية لأتباعه, كما أنها لم تكن تعلم بأن خطابه كان من المحتمل أن يُنهى في أي لحظة بوصول مُعتقليه. لقد اعتقدت حقاً, بعد فترة طويلة من النفور الواضح, نظراً لحقيقة أنها وإخوته قد أظهروا الصفح فعلياً ليأتوا إليه, بأن يسوع سيتوقف عن الكلام ويأتي إليهم لحظة استلامه كلمة أنهم كانوا ينتظرون.
154:6.5 (1722.1) لقد كانت مجرد إحدى تلك الحالات التي لم تستطع فيها عائلته الأرضية إدراك أنه يجب أن يكون عند شغل أبيه. وهكذا كانت مريم وإخوته متأذين بعمق عندما, على الرغم من أنه توقف في كلامه لتلقي الرسالة, بدلاً من أن يندفع خارجاً لتحيتهم, سمعوا صوته الموسيقي يتكلم بعلوٍ متزايد: "قولوا لأمي وإخوتي أنهم يجب أن لا يخافوا علي. الأب الذي أرسلني إلى العالَم لن يتخلى عني؛ ولن يقع أي ضرر على عائلتي. ادعوهم ليكونوا ذوي شجاعة جيدة ويضعوا ثقتهم في أب الملكوت. لكن, بعد كل شيء, من هي أمي ومن هم إخوتي؟" ومادًا يديه نحو جميع تلاميذه المتجمعين في الغرفة, قال: ’ليس لدي أم؛ ليس لدي إخوة. انظروا أمي وانظروا إخوتي! لأن كل من يفعل مشيئة أبي الذي في السماء, هو نفس الشيء أمي, وأخي, وأختي.‘"
154:6.6 (1722.2) وعندما سمعت مريم هذه الكلمات, انهارت بين ذراعي يهوذا. حملوها خارجاً إلى الحديقة لإنعاشها بينما تكلم يسوع الكلمات الختامية لرسالته الوداعية. كان يود أن يخرج بعد ذلك ليجتمع مع أمه وإخوته, لكن رسولاً وصل على عجل من طبريا جالباً كلمة بأن ضباط السنهدرين كانوا في طريقهم مع إذن لإلقاء القبض على يسوع ونقله إلى أورشليم. استلم أندراوس هذه الرسالة, ومقاطعاً يسوع, أخبره بها.
154:6.7 (1722.3) لم يتذكر أندراوس بأن داود قد نصب نحو خمسة وعشرين حارساً حول منزل زَبـِدي, وبحيث لا يفاجئهم أحد؛ وهكذا سأل يسوع عما يجب أن يُفعل. وقف السيد هناك في صمت بينما كانت أمه, بعد أن سمعت كلماته, "ليس لدي أم", تستفيق من الصدمة في الحديقة. لقد كان بالضبط عند هذا الوقت بأن امرأة في الغرفة وقفت وهتفت, "مبارك الرحم الذي حملك ومبارك الثديين التي أرضعتك." تحول يسوع جانباً للحظة من حديثه مع أندراوس ليجيب على هذه المرأة بقوله, "لا, بل مبارك الذي يسمع كلمة الله ويتجرأ على إطاعتها."
154:6.8 (1722.4) اعتقدت مريم وإخوة يسوع أن يسوع لم يفهمهم, بأنه فقد الاهتمام بهم, قليلاً مدركون بأنهم هم الذين فشلوا في فهم يسوع. فهم يسوع تماماً كم هو صعب للناس الإنفصال عن ماضيهم. كان يعرف كيف يتأثر البشر ببلاغة الواعظ, وكيف يستجيب الضمير للنداء العاطفي كما يتجاوب العقل إلى المنطق والتفكير, لكنه كان يعرف أيضاً مدى صعوبة إقناع الناس بالتبرؤ من الماضي.
154:6.9 (1722.5) من الصحيح إلى الأبد أن كل من يعتقد أنه أسيء فهمه أو أنه لم يتم تقديره لديه في يسوع صديق متعاطف ومستشار متفهم. كان قد حذر رُسله بأن أعداء الإنسان قد يكونون من أهل بيته الخاص, لكنه بالكاد أدرك مدى قرب هذا التنبؤ من أن ينطبق على تجربته الخاصة. لم يتخلى يسوع عن عائلته الأرضية لأداء عمله للأب ــ لقد هجروه. فيما بعد, بعد موت السيد وقيامته, عندما أصبح يعقوب مرتبطاً بالحركة المسيحية المبكرة, عانى كثيرًا نتيجة لفشله في التمتع بهذا الارتباط المبكر بيسوع وتلاميذه.
154:6.10 (1723.1) في العبور خلال هذه الأحداث, اختار يسوع أن يسترشد بالمعرفة المحدودة لعقله البشري. كان يرغب في الخضوع للتجربة مع زملائه كمجرد رجل. ولقد كان في العقل البشري ليسوع أن يرى عائلته قبل مغادرته. لم يرغب بالتوقف في وسط محاضرته وبالتالي جعل لقاءهما الأول بعد فترة طويلة من الانفصال شأنًا عامًا هكذا. كان ينوي إنهاء خطابه وبعدئذٍ لتكون له زيارة معهم قبل أن يغادر, لكن تم إحباط هذه الخطة بمؤامرة الأحداث التي تلت مباشرة.
154:6.11 (1723.2) كانت سرعة هربهم مزادة بوصول فرقة من رسل داود عند المدخل الخلفي لبيت زَبـِدي. لقد أرعب الهرج والمرج الذي أحدثه هؤلاء الرجال الرُسل ودفعتهم إلى التفكير بأن هؤلاء الواصلين الجدد قد يكونون مُعتقليهم, وخوفاً من الإعتقال الفوري, أسرعوا عبر المدخل الأمامي إلى القارب المنتظر. وكل هذا يفسر سبب عدم رؤية يسوع لعائلته تنتظر على الشرفة الخلفية.
154:6.12 (1723.3) لكنه قال لداود زَبـِدي وهو يدخل القارب على عجل: "اخبر أمي وإخوتي بأني أُقـَّدر مجيئهم, وبأني قصدت أن أراهم. انصحِهم ألا يجدوا أي ذنب فيِ بل ليسعوا لمعرفة مشيئة الله ومن أجل النعمة والشجاعة للقيام بتلك المشيئة."
154:7.1 (1723.4) وهكذا في صباح هذا الأحد, الثاني والعشرين من أيار, في العام 29 م., حينما أنشغل يسوع مع رُسله الاثني عشر والإنجيليين الاثني عشر, في هذا الهروب السريع من ضباط السنهدرين الذين كانوا في طريقهم إلى بيت-صيدا مع إذن من هيرودس أنتيباس لاعتقاله وأخذه إلى أورشليم للمحاكمة بتهم التجديف وانتهاكات أخرى للشريعة المقدسة لليهود. لقد كان حوالي الساعة الثامنة والنصف من هذا الصباح الجميل عندما تجندت هذه الفرقة من خمسة وعشرين بالمجاديف وسحبوا إلى الشاطئ الشرقي لبحر الجليل.
154:7.2 (1723.5) بعد قارب السيد كان زورق آخر وأصغر يحتوي على ستة من رسل داود, الذين كان لديهم تعليمات للحفاظ على اتصال مع يسوع وزملائه وليروا بأن المعلومات عن مكان وجودهم وسلامتهم كانت تُرسل بانتظام إلى بيت زَبـِدي في بيت-صيدا, الذي خدم بمثابة مركز إدارة لعمل الملكوت لبعض الوقت. لكن يسوع لم يكن أبداً مرة أخرى ليجعل بيته في منزل زَبـِدي. من الآن فصاعداً, طوال بقية حياته الأرضية, لم يكن لدى السيد في الحقيقة "مكان ليسند رأسه." لم يعد لديه حتى ما يشبه المقام المستقر.
154:7.3 (1723.6) جدفوا الآن إلى قرب قرية خِريسا, ووضعوا قاربهم في عهدة أصدقاء, وبدأوا التجوال في هذا العام الأخير الزاخر بالأحداث من حياة السيد على الأرض. ظلوا لبعض الوقت في أراضي فيليبُس, ذاهبين من خِريسا صعوداً إلى قيصرية-فيليبي, ومن ثم شقوا طريقهم إلى الساحل الفينيقي.
154:7.4 (1723.7) توانى الحشد حول بيت زَبـِدي يراقب هذين القاربين يشقان طريقهما عبر البحيرة باتجاه الشاطئ الشرقي, وكانوا بادئين بشكل جيد عندما أسرع ضباط أورشليم وبدأوا بحثهم عن يسوع. رفضوا أن يصَّدقوا بأنه هرب منهم, وبينما كان يسوع وفرقته يسافرون شمالاً عبر باتانيا, أمضى الفريسيون ومساعدوهم ما يقرب من أسبوع كامل يبحثون عبثاً عنه في جوار كفرناحوم.
154:7.5 (1724.1) عادت عائلة يسوع إلى بيتها في كفرناحوم وأمضوا ما يقرب من أسبوع في الحديث, والجدال, والصلاة. كانوا مملوئين بالارتباك والذهول. لم يتمتعوا براحة البال حتى بعد ظهر الخميس, عندما عادت راعوث من زيارة إلى منزل زَبـِدي, حيث علمت من داود بأن أباها-أخاها كان آمناً وبصحة جيدة ويشق طريقه نحو الساحل الفينيقي.
كِتاب يورانشيا
ورقة 155
155:0.1 (1725.1) بعد وقت قصير من الرسو بالقرب من خِريسا في هذا الأحد الحافل بالأحداث, ذهب يسوع والأربعة والعشرون قليلاً بطريق الشمال, حيث أمضوا الليلة في منتزه جميل جنوب بيت-صيدا-يوليوس. كانوا على دراية بمكان التخييم هذا, حيث كانوا هناك في الأيام الماضية. قبل التقاعد من أجل الليل, دعا السيد أتباعه حوله وناقش معهم خطط جولتهم المتوقعة عبر باتانيا وشمال الجليل إلى الساحل الفينيقي.
155:1.1 (1725.2) قال يسوع: "عليكم جميعاً أن تتذكروا كيف تحدث قائل المزمور عن هذه الأوقات, قائلاً, ’لماذا يحنق الوثنيون وتتآمر الشعوب دون جدوى؟ ملوك الأرض أسسوا أنفسهم, وحكام الشعوب يتداولون معاً, ضد الرب وضد مسيحه, قائلين, لنكسر أواصر الرحمة ولنطرح بعيداً حبال المحبة‘.
155:1.2 (1725.3) "اليوم ترون هذا يتحقق أمام أعينكم. لكن لن تروا تحقق بقية نبؤة قائل المزمور, لأنه خالج أفكاراً خاطئة عن ابن الإنسان ومهمته على الأرض. ملكوتي مؤسس على المحبة, ومعلن في الرحمة, ومُشيَّد من خلال الخدمة اللا-أنانية. لا يجلس أبي في السماء يضحك بسخرية على الوثنيين. إنه ليس ساخطاً في استيائه الشديد. الوعد صحيح أن الابن سيكون لديه أولئك الذين يسمون الوثنيين (في الواقع إخوته الجاهلين وغير المتعلمين) من أجل الميراث. وسوف أتلقى هؤلاء الأمميين بأذرع مفتوحة من الرحمة والمودة. كل هذا اللطف-المحب سوف يُظهر للمدعوين وثنيين. بالرغم من التصريح المؤسف للسجل الذي يشير بأن الابن المنتصر’سوف يكسرهم بقضيب من حديد ويحطمهم إلى قطع مثل إناء الخزاف.‘ لقد حثكم قائل المزمور على أن ’تخدموا الرب بخوف‘ ــ أنا أدعوكم للدخول في الامتيازات الممجدة للبنوة الإلهية بإلايمان؛ هو يأمركم لتتهللوا بارتعاش؛ أنا أدعوكم لتتهللوا بثقة. هو يقول, ’قـَّبلوا الابن, كي لا يغضب, وتهلكوا عندما يُشعَل سخطه‘. لكن أنتم الذين عشتم معي تعرفون جيداً بأن الغضب والسخط ليسا جزءًا من تأسيس ملكوت السماء في قلوب الناس. لكن قائل المزمور لمح النور الحقيقي عندما قال, في إنهاء هذا التحذير, قال: ’طوبى للذين يضعون ثقتهم في هذا الابن.‘"
155:1.3 (1725.4) واصل يسوع تعليم الأربعة والعشرين, قائلاً: "ليس الوثنيون بدون عذر عندما يثورون علينا. لأن نظرتهم صغيرة وضيقة, هم قادرون على تركيز طاقاتهم بحماس. هدفهم قريب وأكثر أو أقل وضوحاً؛ لأجل ذلك يبذلون قصارى جهدهم مع تنفيذ شجاع وفعّال. أنتم الذين أعلنتم دخول ملكوت السماء جملةً متقلبون للغاية وغير محددين في سلوككم التعليمي. الوثنيون يضربون مباشرة من أجل أهدافهم؛ أنتم مذنبون بالكثير من الاشتياق المزمن. إذا كنتم ترغبون في دخول الملكوت, فلماذا لا تأخذونه بهجوم روحي حتى كما يأخذ الوثنيون مدينة يفرضون عليها حصارًا؟ أنتم بالكاد تستحقون الملكوت عندما تتمثل خدمتكم إلى حد كبير في موقف من الندم على الماضي, والأنين على الحاضر, وعبثاً تأملون في المستقبل. لماذا يحنق الوثنيون؟ لأنهم لا يعرفون الحقيقة. لماذا تسترخون في اشتياق عقيم؟ لأنكم لا تطيعون الحق. أوقفوا اشتياقكم غير المجدي وانطلقوا بشجاعة في فعل ما يتعلق بتأسيس الملكوت.
155:1.4 (1726.1) "في كل ما تفعلونه, لا تصبحوا أحاديي الجانب ومتخصصين أكثر من اللازم. الفريسيون الذين يسعون إلى هلاكنا حقاً يعتقدون أنهم يؤدون خدمة لله. لقد ضاقت عليهم التقاليد لدرجة أنهم أعماهم التحامل وقُساهم الخوف. فكروا في اليونانيين, الذين لديهم عِلم بدون دِين, بينما اليهود لديهم دِين بدون عِلم. وعندما يصبح الناس مُضللين هكذا نحو قبول تفكك ضيق ومربك للحقيقة, فإن أملهم الوحيد في الخلاص هو أن يصبحوا منسقين بالحق ــ مُهتدين.
155:1.5 (1726.2) دعوني أعلن هذه الحقيقة الأبدية بشكل قاطع: إذا أنتم, من خلال تنسيق الحق, تتعلمون أن تجسدوا في معايشكم هذا الكمال الجميل للبر, عند ذاك سيسعى زملاؤكم الناس وراءكم بحيث قد يكسبون ما اكتسبتموه. المقياس الذي ينجذب به الباحثون عن الحقيقة إليكم يمثل مقياس هَبتكم من الحقيقة, بـِركم. المدى الذي يجب أن تذهبوا برسالتكم إلى الناس هو, بطريقة ما, مقياس فشلكم في عيش حياة كاملة أو بارّة, الحياة المنسقة بالحقيقة."
155:1.6 (1726.3) وأشياء أخرى كثيرة علـَّم السيد رُسله والإنجيليين قبل ما طلبوا له ليلة سعيدة وسعوا للراحة على وسائدهم.
155:2.1 (1726.4) في صباح الاثنين, 23 أيار, وَجَّه يسوع بطرس ليذهب إلى خورازين مع الإنجيليين الاثني عشر بينما غادر هو, مع الأحد عشر, إلى قيصرية-فيليبي, ذاهبون بطريق الأردن إلى طريق دمشق-كفرناحوم, ومن هناك نحو الشمال الشرقي إلى ملتقى الطرق المؤدية إلى قيصرية-فيليبي, ثم استمروا إلى تلك المدينة حيث مكثوا وعلـَّموا لمدة أسبوعين. وصلوا أثناء عصر الثلاثاء, 24 أيار.
155:2.2 (1726.5) مكث بطرس والإنجيليون في خورازين لمدة أسبوعين يعظون إنجيل الملكوت لجماعة صغيرة ولكن جادة من المؤمنين. لكنهم لم يتمكنوا من كسب مهتدين جدد كثيرين. ولا مدينة في كل الجليل أنتجت نفوساً قليلة جداً للملكوت مثل خورازين. وفقاً لإرشادات بطرس, كان لدى الإنجيليين الاثني عشر أقل للقول عن الشفاء ــ الأشياء الجسدية ــ بينما وعظوا وعلـَّموا بحماس متزايد الحقائق الروحية للملكوت السماوي. شكل هذان الأسبوعان عند خورازين معمودية مطابقة للواقع من الشدائد للإنجيليين الاثني عشر بحيث كانت الفترة الأكثر صعوبة وغير المثمرة في مهمتهم حتى هذا الوقت. كائنين هكذا محرومين من رضى كسب نفوس للملكوت, قام كل منهم بمزيد من الجدية والصدق بتقييم نفسه الخاصة وتقدمه في المسارات الروحية للحياة الجديدة.
155:2.3 (1726.6) عندما بدا أنه لا مزيد من الناس كانوا مهتمين للسعي لدخول الملكوت, يوم الثلاثاء, 7 حزيران, دعا بطرس زملاءه معاً ورحلوا إلى قيصرية-فيليبي ليلتحقوا بيسوع والرُسل. وصلوا حوالي وقت الظهر يوم الأربعاء وقضوا المساء بأكمله في استذكار تجاربهم بين غير المؤمنين في خوارزين. أثناء مناقشات هذا المساء جعل يسوع إشارة إضافية إلى مَثل الزارع وعلـَّمهم الكثير عن معنى الفشل الظاهر لتعهدات الحياة.
155:3.1 (1727.1) بالرغم من أن يسوع لم يقم بأي عمل علني أثناء إقامته التي دامت أسبوعين بالقرب من قيصرية-فيليبي, فقد عقد الرسل العديد من الاجتماعات المسائية الهادئة في المدينة, وخرج كثير من المؤمنين إلى المخيم للتحدث مع السيد. تمت إضافة عدد قليل جداً إلى مجموعة المؤمنين نتيجة لهذه الزيارة. تكلم يسوع مع الرُسل كل يوم, وكانوا مدركين بوضوح أكثر أن مرحلة جديدة من عمل وعظ ملكوت السماء كانت تبدأ الآن. لقد بدؤوا يدركون أن "ملكوت السماء ليس طعاماً وشراباً بل هو تحقيق الفرح الروحي بقبول البنوة الإلهية".
155:3.2 (1727.2) كان الحلول عند قيصرية-فيليبي إختباراً حقيقياً للرُسل الأحد عشر؛ لقد كانوا أسبوعين صعبين لهم ليعيشوا خلالهما. كانوا تقريباً مكتئبين, واشتاقوا إلى التحفيز الدوري لشخصية بطرس الحماسية. في هذه الأوقات كانت في الحقيقة مغامرة كبيرة وفاحصة للإيمان بيسوع والانطلاق لإتباعه. ولو إنهم جعلوا القليل من المهتدين خلال هذين الأسبوعين, إلا أنهم تعَّلموا الكثير مما كان مُربحاً للغاية من مؤتمراتهم اليومية مع السيد.
155:3.3 (1727.3) علم الرُسل بأن اليهود كانوا راكدين روحياً ويموتون لأنهم بلوروا الحقيقة نحو قانون إيمان؛ بحيث أنه عندما تصبح الحقيقة مُشكلة كخط فاصل لحصرية البر-الذاتي بدلاً من الخدمة بمثابة علامات للتوجيه والتقدم الروحي, تفقد هذه التعاليم قدرتها الخلاَّقة والمعطية للحياة وتصبح في النهاية مجرد حافظة ومتحجرة.
155:3.4 (1727.4) تعلـَّموا بشكل متزايد من يسوع أن ينظروا إلى الشخصيات البشرية من حيث إمكانياتها في الزمن وفي الأبدية. تعلـَّموا بأن نفوساً كثيرة أفضل ما يمكن قيادتها إلى محبة الله غير المرئي بأن تُعَّلـَم أولاً أن تحب إخوانها الذين تستطيع رؤيتهم. ولقد كان في هذا الصدد بأن معنى جديداً أصبح مرتبطاً بتصريح السيد فيما يتعلق بالخدمة اللا-أنانية لزملاء المرء: "بقدر ما فعلت لواحد من الأقل من إخواني, فقد فعلت ذلك لي."
155:3.5 (1727.5) أحد الدروس العظيمة لهذا الحلول في قيصرية-فيليبي كان يتعلق بأصل التقاليد الدِينية, مع الخطر الجسيم المتمثل في السماح للإحساس بالقدسية أن يصبح مُرتبطاً بأشياء غير مقدسة, أو أفكار مشتركة, أو أحداث يومية. برزوا من مؤتمر واحد بالتعليم بأن الدِين الحقيقي هو ولاء الإنسان الصادق لقناعاته الأسمى والأكثر صدقًا.
155:3.6 (1727.6) حذر يسوع مؤمنيه من أنه, إذا كانت أشواقهم الدِينية مادية فقط, فإن المعرفة المتزايدة بالطبيعة, من خلال الإزاحة التدريجية للأصل الخارق للطبيعة المفترض للأشياء, سيحرمهم في النهاية من إيمانهم بالله. لكن أنه, إذا كان دِينهم روحانياً, فلن يمكن أبدًا لتقدم العلوم الفيزيائية أن يعكر إيمانهم بالحقائق الأبدية والقيم الإلهية.
155:3.7 (1727.7) تعلـَّموا أنه, عندما يكون الدِين روحانيًا بالكامل من حيث الدافع, فإنه يجعل الحياة أكثر استحقاقاً, مالئاً إياها بأهداف عالية, ومُشرفاً إياها بقيم متعالية, وملهماً إياها بدوافع رائعة, كل ذلك بينما يؤاسي النفـْس الإنسانية بأمل سامي وعاضد. الدِين الحق مصمم للتخفيف من وطأة الوجود؛ إنه يطلق الإيمان والشجاعة من أجل العيش اليومي والخدمة غير الأنانية. الإيمان يعزز الحيوية الروحية والإثمار البار.
155:3.8 (1727.8) علـَّم يسوع رُسله مراراً أنه لا يمكن لأي حضارة البقاء طويلاً بعد فقدان أفضل ما في دِينها. ولم يكل أبداً من أن يشير للاثني عشر الخطر الكبير المتمثل في قبول الرموز والاحتفالات الدينية في مكان التجربة الدِينية. كانت حياته الأرضية كلها مكرسة بثبات لمهمة إذابة الأشكال المتجمدة للدِين نحو حريات سائلة للبنوة المستنيرة.
155:4.1 (1728.1) في صباح الخميس, 9 حزيران, بعد تلقي كلمة بخصوص تقدم الملكوت من قبل رسل داود من بيت-صيدا, غادرت هذه المجموعة المكونة من خمسة وعشرين معلماً للحق قيصرية-فيليبي لبدء رحلتهم إلى الساحل الفينيقي. مروا في منطقة الأهوار, بطريق لوز, إلى نقطة ملتقى الطرق مع طريق مجدلا ـ جبل لبنان, ومن هناك إلى معبر الطريق المؤدية إلى صيدا, واصلين هناك بعد ظهر الجمعة.
155:4.2 (1728.2) أثناء التوقف من أجل الغذاء, تحت ظل حافة صخرية متدلية, بالقرب من لوز, ألقى يسوع إحدى خطاباته الأكثر روعة التي استمع إليها رُسله طوال سنوات ارتباطهم به. ما إن جلسوا لكسر الخبز, سأل سمعان بطرس يسوع: "يا سيد, بما أن الأب في السماء يعرف كل الأشياء, وحيث إن روحه تدعمنا في تأسيس ملكوت السماء على الأرض, لماذا إذن نهرب من تهديدات أعدائنا؟ لماذا نرفض مواجهة أعداء الحق؟" لكن قبل أن يبدأ يسوع بالإجابة على سؤال بطرس, اقتحم توما, سائلاً: "يا سيد, حقاً أود أن أعرف بالضبط ما هو الخطأ في دِين أعدائنا في أورشليم. ما هو الفرق الحقيقي بين دِينهم ودِيننا؟ لماذا نحن عند مثل هذا التغاير في المعتقدات عندما نقر جميعاً بأننا نخدم نفس الإله؟" وعندما انتهى توما, قال يسوع: "بينما لن أتجاهل سؤال بطرس, مدركًا تمامًا مدى سهولة إساءة فهم أسبابي لتفادي صدام مفتوح مع حكام اليهود في هذا الوقت بالذات, إلا أنه سيكون أكثر فائدة لكم جميعًا إذا اخترت بدلاً من ذلك الإجابة عن سؤال توما. وذلك سأشرع بالقيام به عندما تنتهون من غذائكم."
155:5.1 (1728.3) هذه المحاضرة التي لا تُنسى عن الدِين, ملـَّخصة ومعاد بيانها في العبارات الحديثة, أعطت تعبيراً عن الحقائق التالية:
155:5.2 (1728.4) في حين أن أديان العالَم لها أصل مزدوج ــ طبيعي ووحي ــ في أي زمن وبين أي شعب واحد هناك ثلاثة أشكال مختلفة من التكريس الدِيني. وهذه التجليات الثلاثة للدافع الدِيني هي:
155:5.3 (1728.5) 1. الدِين البدائي. الحث الغريزي وشبه الطبيعي للخوف من الطاقات الغامضة وعبادة القوى الخارقة, بصورة رئيسية دِين الطبيعة الفيزيائية, دِين الخوف.
155:5.4 (1728.6) 2. دِين الحضارة. المفاهيم والممارسات الدِينية المتقدمة للعناصر المتمدنة ــ دِين العقل ــ اللاهوت الفكري لمرجعية التقاليد الدِينية الراسخة.
155:5.5 (1728.7) 3. الدِين الحق ــ دِين الوحي. الكشف عن القيم الفائقة عن الطبيعي, بصيرة جزئية في الحقائق الأبدية, لمحة عن صلاح وجمال السجية اللانهائية للأب في السماء ــ دِين الروح كما هو موضح في التجربة البشرية.
155:5.6 (1729.1) رفض السيد أن يحط من قدر دِين الحواس الفيزيائية والمخاوف الخرافية للإنسان الطبيعي, رغم أنه أعرب عن أسفه لحقيقة أن الكثير جداً من هذا الشكل البدائي من العبادة يجب أن يستمر في الأشكال الدِينية للأجناس الأكثر ذكاء من جنس الإنسان. أوضح يسوع بأن الاختلاف الكبير بين دِين العقل ودِين الروح هو أنه, في حين أن السابق تدعمه السلطة الكنسية, فإن الأخير يستند كلياً على التجربة البشرية.
155:5.7 (1729.2) وبعد ذاك مضى السيد, في ساعة تعليمه, لتوضيح هذه الحقائق:
155:5.8 (1729.3) إلى أن تصبح الأجناس عالية الذكاء وأكثر تحضرًا بشكل كامل, سوف يستمر الكثير من تلك الاحتفالات شبه الطفولية والخرافية التي تميز الممارسات الدِينية التطورية للشعوب البدائية والمتخلفة. إلى أن يتقدم الجنس البشري إلى مستوى اعتراف أعلى وأكثر عمومية لحقائق التجربة الروحية, ستستمر أعداد كبيرة من الرجال والنساء في إظهار التفضيل الشخصي لأديان المرجعية التي تتطلب الموافقة الفكرية فقط, في تباين مع دِين الروح, الذي يستلزم المشاركة الفعالة للعقل والنفـْس في مغامرة الإيمان للتصدي للحقائق الصارمة للتجربة الإنسانية التقدمية.
155:5.9 (1729.4) إن قبول الأديان التقليدية للمرجعية يقدم الطريق السهل لإلحاح الإنسان في البحث عن إشباع أشواق طبيعته الروحية. توفر أديان المرجعية المستقرة, المبلورة, والمؤسسة ملاذأً جاهزاً الذي يمكن لنفـْس الإنسان الحائرة والمضطربة أن تهرب إليه عندما يضايقها الخوف ويعذبها عدم اليقين. مثل هذا الدِين لا يتطلب من أتباعه, كالثمن الذي يجب دفعه لرضاءاته وضماناته, سوى الموافقة الفكرية السلبية والبحتة.
155:5.10 (1729.5) ولوقت طويل سوف يعيش على الأرض أولئك الأفراد الحذرين, والخائفين, والمترددين الذين سيفـَّضلون تأمين عزاءاتهم الدِينية هكذا, حتى ولو إنهم, في إلقاء قرعتهم هكذا مع أديان المرجعية, فهم يساومون على سيادة الشخصية, ويحقرون كرامة احترام الذات, ويتنازلون كلياً عن حق المشاركة في تلك التجارب الأكثر إثارةً وإلهاماً من كل التجارب البشرية الممكنة: البحث الشخصي عن الحق, نشوة مواجهة مخاطر الاكتشاف الفكري, والتصميم لاستكشاف حقائق التجربة الدينية الشخصية, الرضى السامي المتمثل في اختبار الانتصار الشخصي للإدراك الفعلي لانتصار الإيمان الروحي على الشك الفكري كما اُكتسب بأمانة في المغامرة العليا لكل الوجود البشري ــ الإنسان يبحث عن الله, من أجل نفسه, وكذاته, وإيجاده.
155:5.11 (1729.6) دِين الروح يعني الجهد, والكفاح, والصراع, والإيمان, والتصميم, والمحبة, والولاء, والتقدم. دِين العقل ــ لاهوت المرجع ــ يتطلب القليل أو لا شيء من هذه الجهود من مؤمنيه الرسميين. التقاليد هي ملجأ آمن ومسار سهل لتلك النفوس الخائفة والفاترة الهمة التي تتجنب بشكل غريزي النضالات الروحية وعدم اليقين العقلي الملازم لتلك الرحلات الإيمانية للمغامرة الجريئة في أعالي بحار الحقيقة غير المستكشفة بحثًا عن الشواطئ الأبعد للحقائق الروحية كما قد يكتشفها العقل البشري التقدمي وتختبرها النفـْس البشرية المتطورة.
155:5.12 (1729.7) ومضى يسوع ليقول: "في أورشليم صاغ القادة الدِينيون مختلف العقائد لمعلميهم التقليديين وأنبياء الأيام الأخرى في نظام راسخ من المعتقدات الفكرية, دِين مرجعية. جاذبية كل هكذا أديان هي إلى حد كبير في الذهن. والآن نحن على وشك الدخول في نزاع مميت مع مثل هذا الدين حيث إننا سنبدأ قريباً جداً إعلاناً جريئاً لدِين جديد ــ دِين ليس دِيناً بالمعنى الحالي لتلك الكلمة, دِين يوجه نداءه الرئيسي إلى الروح الإلَهي لأبي الذي يسكن في عقل الإنسان؛ دِين سيستمد مرجعيته من ثمار قبوله التي ستظهر بكل تأكيد في التجربة الشخصية لكل الذين حقاً وفعلاً يصبحون مؤمنين بحقائق هذه المشاركة الروحية العليا."
155:5.13 (1730.1) مشيراً إلى كل واحد من الأربعة والعشرين وداعياً إياهم بالاسم, قال يسوع: "والآن, مَن منكم سيُفضل أن يسلك هذا الطريق السهل للتوافق مع دِين راسخ ومتحجر, كما يدافع عنه الفريسيون في أورشليم, بدلاً من معاناة الصعوبات والاضطهادات المصاحبة لمهمة إعلان طريقة أفضل لخلاص الناس بينما تدركون رضى الاكتشاف من أجل أنفسكم محاسن وقائع التجربة الحية والشخصية في الحقائق الأبدية والأمجاد السامية لملكوت السماء؟ هل أنتم خائفون, لينون وطالبي سهولة؟ هل أنتم خائفون من استئمان مستقبلكم في أيدي إله الحق, الذي أنتم أبناؤه؟ هل أنتم لا تستأمنون الأب الذي أنتم أولاده؟ هل سترجعون إلى الطريق السهل لليقين والاستقرار الفكري لدِين المرجعية التقليدية, أو هل ستًمنطقون أنفسكم للمضي قُدماً معي نحو ذلك المستقبل غير المؤكد والمضطرب لإعلان الحقائق الجديدة لدِين الروح, ملكوت السماء في قلوب الناس؟"
155:5.14 (1730.2) كل الأربعة والعشرون من سامعيه نهضوا على أقدامهم, قاصدين الإشارة على استجابتهم الموحدة والمخلصة لهذا, أحد الالتماسات العاطفية القليلة التي وجهها يسوع أبداً إليهم, لكنه رفع يده وأوقفهم, قائلاً: "اذهبوا الآن على حدة بأنفسكم, كل رَجل بمفرده مع الأب, وهناك جِدوا الإجابة غير العاطفية على سؤالي, وحيث إنكم وجدتم مثل هذا الموقف الصحيح والمُخلْص للنفـْس, فقولوا ذلك الجواب بحرية وجرأة إلى أبي وأبيكم, الذي حياته اللامتناهية من المحبة هي عين روح الدِين الذي نعلنه."
155:5.15 (1730.3) ذهب الإنجيليون والرُسل بأنفسهم على حدة لوقت قصير. كانت معنوياتهم مرفوعة, وعقولهم مُلهمة, وعواطفهم مُثارة بقوة بما قاله يسوع. لكن عندما دعاهم أندراوس معاً, قال السيد فقط: "فلنستأنف رحلتنا. نذهب إلى فينيقيا لننتظر لفصل, وعليكم جميعًا أن تصَّلوا للأب ليحَّول عواطف عقولكم وأجسامكم إلى ولاءات أعلى للعقل وتجارب الروح الأكثر إرضاءً."
155:5.16 (1730.4) بينما يسافرون نزولاً في الطريق, كان الأربعة والعشرون صامتين, لكنهم بدأوا في الوقت الحاضر يتحدثون مع بعضهم البعض, وبحلول الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم لم يتمكنوا من الذهاب أبعد؛ توقفوا, وبطرس صاعد إلى يسوع, قال: "يا سيد, لقد كلمتنا بكلمات الحياة والحق. نود أن نسمع المزيد؛ نلتمس منك أن تتحدث إلينا أكثر بشأن هذه الأمور."
155:6.1 (1730.5) وهكذا, بينما توقفوا في ظل التل, واصل يسوع تعليمهم عن دِين الروح, في الجوهر قائلاً:
155:6.2 (1730.6) لقد أتيتم من بين أولئك من زملائكم الذين يختارون أن يبقوا راضين بدِين العقل, الذين يتوقون إلى الأمان ويفـَّضلون الامتثال. أنتم اخترتم استبدال مشاعركم من يقين المرجعية من أجل تأكيدات روح الإيمان المغامر والتقدمي. لقد تجرأتم على الإحتجاج ضد الرباط المنهك للدِين المؤسسي ورفض مرجعية تقاليد السجل الذي يُعتبَر الآن بمثابة كلمة الله. لقد تكلم أبانا بالفعل من خلال موسى, وإيليا, وإشعياء, وعاموس, وهوشع, لكنه لم يتوقف عن إسعاف كلمات الحق إلى العالَم عندما أنهى هؤلاء الأنبياء القدامى أقوالهم. أبي ليس محابي أجناس أو أجيال بحيث أن كلمة الحق مكفولة إلى عصر واحد وتُمنع عن آخر. لا تقترفوا حماقة دعوة ذلك إلَهي الذي هو بشري بالكامل, ولا تفشلوا في إدراك كلمات الحق التي لا تأتي من خلال وسائط الوحي التقليدية للإلهام المفترَض.
155:6.3 (1731.1) لقد دعوتكم لتكونوا مولودين من جديد, لتولدوا من الروح. لقد دعوتكم من ظلمة المرجعية وسبات التقاليد نحو النور المتعالي لإدراك إمكانية أن تجعلوا لأنفسكم أعظم اكتشاف ممكن للنفـْس البشرية لتجعلوا ـ التجربة الفائقة لإيجاد الله لأجل أنفسكم, في أنفسكم, ومن أنفسكم, ولفعل كل هذا كواقع في تجربتكم الشخصية الخاصة. وهكذا يمكنكم العبور من الموت إلى الحياة, من مرجعية التقليد إلى اختبار معرفة الله, بهذا ستعبرون من الظلمة إلى النور, ومن الإيمان العرقي الموروث إلى الإيمان الشخصي الذي يتحقق عن طريق التجربة الفعلية؛ وبهذا ستتقدمون من لاهوت عقل مُنَّزل بأسلافكم إلى دِين الروح الحقيقي الذي سيُبنى في نفوسكم كهبة أبدية.
155:6.4 (1731.2) سيتغير دِينكم من مجرد إيمان فكري بالمرجعية التقليدية إلى التجربة الفعلية لذلك الإيمان الحي القادر على استيعاب حقيقة الله وكل ما يتعلق بالروح الإلَهي للأب. دِين العقل يربطكم بالماضي بشكل ميؤوس منه؛ يتكون دين الروح من الوحي التدريجي ودائماً يحثكم نحو إنجازات أعلى وأقدس في المُثل الروحية والحقائق الأبدية.
155:6.5 (1731.3) في حين أن دِين المرجعية قد يُضفي شعوراً حاضراً بالأمان المستقر, أنتم تدفعون مقابل مثل هذا الرضا العابر ثمن فقدان حريتكم الروحية وتحرركم الدِيني. لا يطلب أبي منكم كثمن لدخول ملكوت السماء بأنكم يجب أن تُجبروا أنفسكم للاكتتاب في إعتقاد بأشياء بغيضة روحياً, وغير مقدسة, وغير صادقة. ليس مطلوباً منكم بأن إحساسكم الخاص عن الرحمة, والعدالة, والحق يجب أن يكون مُهاناً بالخضوع إلى نظام بالٍ من الأشكال والطقوس الدينية. دِين الروح يترككم أحراراً إلى الأبد لإتباع الحق حيثما قد تأخذكم قيادات الروح. ومن يستطيع أن يحكم ــ ربما قد يكون لدى هذا الروح شيئ ما ليُبَّلغ إلى هذا الجيل ما رفضت أجيال أخرى سماعه؟
155:6.6 (1731.4) عار على أولئك المعلمين الدِينيين الكذبة الذين يودون جر النفوس الجائعة رجوعاً نحو الماضي البعيد والقاتم ويتركونهم هناك! وهكذا هؤلاء الأشخاص البائسين مصيرهم أن يصبحوا مرتعبين من كل اكتشاف جديد, بينما يشعرون بالانزعاج من كل وحي جديد للحقيقة. النبي الذي قال, "سيُحفظ في سلام مثالي الذي يبقى عقله على الله," لم يكن مجرد مؤمن ذكي باللاهوت المرجعي. هذا الإنسان العارف الحق قد اكتشف الله؛ لم يكن مجرد متكلم عن الله.
155:6.7 (1731.5) أنصحكم بالتخلي عن ممارسة الإقتباس دائماً من الأنبياء القدامى ومدح أبطال إسرائيل, وبدلاً من ذلك أطمحوا لأن تصبحوا أنبياء أحياء للأعلى وأبطال روحيين للملكوت الآتي. قد يكون تكريم القادة العارفين بالله من الماضي في الحقيقة مستحقاً, لكن لماذا, في قيامكم بهذا, يجب أن تُضَّحوا بالتجربة السامية للوجود البشري: إيجاد الله من أجل أنفسكم ومعرفته في نفوسكم الخاصة؟
155:6.8 (1732.1) لكل جنس من البشر نظرته العقلية الخاصة به إلى الوجود البشري؛ لذلك يجب على دِين العقل أن يتواكب دائماً مع وجهات النظر العرقية المتنوعة هذه. لا يمكن أبداً ان تتوحد ديانات المرجعية. لا يمكن تحقيق الوحدة البشرية والأخوة الفانية إلا من خلال المعطيات الفائقة لدِين الروح ومن خلاله. قد تختلف العقول العرقية, لكن كل البشر مسكونون بنفس الروح الإلَهي والأبدي. لا يمكن تحقيق رجاء الأخوة البشرية إلا عندما, ومتى, تصبح أديان العقل المتشعبة للمرجعية مُشربة مع, دِين الروح الموَّحِد والمُشَّرف, ويطغى عليها ــ دِين التجربة الروحية الشخصية.
155:6.9 (1732.2) لا يمكن للأديان المرجعية إلا أن تفرق بين الناس وتضعهم في مصفوفة ضميرية ضد بعضهم البعض؛ سيجمع دِين الروح الناس معاً بشكل تدريجي ويسبب لهم بأن يصبحوا منسجمين بشكل متفهم كل مع الآخر. تتطلب أديان المرجعية من الناس التوحيد في المعتقد, لكن هذا مستحيل تحقيقه في الوضع الحالي للعالَم. دِين الروح يتطلب فقط وحدة الخبرة ــ توحيد المصير ــ ما يتيح سماحاً تاماً لتنوع المعتقدات. دِين الروح يتطلب فقط توحيد البصيرة, ليس توحيد وجهة النظر والتوقع. لا يتطلب دِين الروح توحيد وجهات النظر الفكرية, فقط وحدة شعور الروح. تتبلور أديان المرجعية في عقائد هامدة؛ ينمو دِين الروح نحو الفرح والتحرر المتزايدان لأعمال نبيلة من خدمة محبة وإسعاف رحيم.
155:6.10 (1732.3) لكن انتبهوا, لئلا ينظر أي منكم بازدراء إلى أولاد إبراهيم لأنهم قد سقطوا على هذه الأيام الشريرة من العقم التقليدي. أعطى آباؤنا أنفسهم للبحث الدؤوب والعاطفي عن الله, ووجدوه كما لم يعرفه أي جنس آخر من البشر منذ أيام آدم, الذي عرف الكثير عن هذا لأنه هو نفسه كان ابن الله. أبي لم يفشل في تحديد صراع إسرائيل الطويل والدؤوب, أبداً منذ أيام موسى, للعثور على الله, ومعرفة الله. لأجيال مُنهكة لم يتوقف اليهود عن الكد, والعرَق, والتأوه, والمتاعب, وتحمل المعاناة وتجربة الأحزان لشعب أُسيء فهمه واحتُقر, كل ذلك من أجل أن يأتوا أقرب قليلاً إلى اكتشاف حقيقة الله. وبالرغم من كل إخفاقات إسرائيل وتعثراتها, فإن آباءنا تدريجياً, من موسى إلى أوقات عاموس وهوشع, كشفوا للعالَم أجمع بشكل متزايد صورة دائماً أوضح وأكثر صدقًا عن الله الأبدي. وهكذا كانت الطريق مهيأة من أجل لا يزال وحي أعظم للأب الذي دُعيتم لمشاركته.
155:6.11 (1732.4) لا تنسوا أبداً أن هناك مغامرة واحدة فقط أكثر إرضاء وإثارة للمشاعر من محاولة اكتشاف مشيئة الله الحي, وتلك هي التجربة السامية لمحاولة فعل تلك المشيئة الإلَهية بأمانة. ولا تفشلوا لتتذكروا بأن مشيئة الله يمكن فعلها في أي مهنة أرضية. بعض الدعوات ليست مقدسة والبعض الآخر دنيوية. كل الأشياء مقدسة في معايش أولئك الذين يُقادون بالروح؛ أي, الخاضعين للحقيقة, والمُشَّرفين بالمحبة, والمُسيطر عليهم بالرحمة, والمكبوحين بالإنصاف ــ العدل. الروح الذي سنرسل أبي وأنا نحو العالَم ليس فقط روح الحق بل أيضاً روح الجمال المثالي.
155:6.12 (1732.5) يجب أن تتوقفوا عن البحث عن كلمة الله فقط في صفحات السجلات القديمة للمرجعية اللاهوتية. أولئك المولودون من روح الله سوف يميزون من الآن فصاعداً كلمة الله بغض النظر عن مصدرها. يجب ألا يتم استبعاد الحقيقة الإلَهية لأن قناة إغداقها هي على ما يبدو قناة بشرية. العديد من إخوانكم لديهم عقول تقبل نظرية الله بينما تفشل روحياً في إدراك حضور الله. وذلك بالضبط هو السبب في أنني كثيرًا ما علـَّمتكم أن ملكوت السماء أفضل ما يمكن إدراكه من خلال اكتساب الموقف الروحي لطفل مُخْلص. إنه ليس عدم النضج العقلي للطفل ما أوصيكم به لكن بالأحرى هذه البساطة الروحية لمثل هذا الطفل الصغير سهل الاعتقاد والواثق تماماً. إنه ليس من المهم جداً أن تعرفوا عن واقع الله كما أنكم يجب أن تنمو بشكل متزايد في المقدرة على الشعور بحضور الله.
155:6.13 (1733.1) عندما تبدأون مرة أخرى بالعثور على الله في أنفـْسكم, ستبدأون حاضراً باكتشافه في نفوس أناس آخرين وفي نهاية المطاف في جميع مخلوقات وإبداعات كون عظيم. لكن أية فرصة لدى الأب ليظهر كإله ولاءات سامية ومُثل إلَهية في نفوس الناس الذين لا يعطون سوى القليل من الوقت أو لا يعطون أي وقت للتأمل المدروس لمثل هذه الحقائق الأبدية؟ في حين أن العقل ليس مقعد الطبيعة الروحية, فهو حقاً البوابة إليها.
155:6.14 (1733.2) لكن لا تخطئوا بمحاولة الإثبات للناس الآخرين بأنكم قد وجدتم الله؛ أنتم لا يمكنكم تقديم مثل هذا البرهان الصحيح بوعي, ولو إن هناك دليلان إيجابيان وقويان لحقيقة أنكم عارفون-بالله وهُما:
155:6.15 (1733.3) 1. ثمار روح الله الظاهرة في حياتك الروتينية اليومية.
155:6.16 (1733.4) 2. واقع أن خطة حياتكم بأكملها تقدم برهاناً إيجابياً بأنكم جازفتم دون تحفظ بكل ما أنتم عليه وما لديكم في مغامرة البقاء بعد الموت سعياً وراء الأمل في العثور على إله الأبدية, الذي قد ذقتم حضرته مسبقاً في الوقت.
155:6.17 (1733.5) الآن, لا تخطئوا, فأبي سيستجيب دائماً لأضأل ومضة إيمان. إنه يحيط علماً بالعواطف الفيزيائية والخرافية للإنسان البدائي. ومع تلك النفوس الصادقة لكن الخائفة التي إيمانها ضعيف جداً لدرجة أنه لا يزيد إلا قليلاً عن الامتثال الفكري للموقف السلبي للمصادقة إلى أديان المرجعية, فإن الأب دائماً متيقظ لتكريم وتعزيز حتى كل مثل هذه المحاولات الواهنة للوصول إليه. لكن أنتم يا من دُعيتم من الظلمة إلى النور يُتوقَع منكم أن تُؤمنوا بقلب كامل؛ سيهيمن إيمانكم على المواقف المُرَّكبة للجسم, والعقل, والروح.
155:6.18 (1733.6) أنتم رُسلي, وإليكم ينبغي ألا يصبح الدِين ملاذاً لاهوتياً قد تهربون إليه خوفاً من مواجهة الحقائق الوعرة للتقدم الروحي والمغامرة المثالية؛ لكن بالأحرى سيصبح دِينكم واقع التجربة الحقيقية التي تشهد بأن الله قد وجدكم, وجعلكم مثاليين, وشَّرفكم, وروحنكم, وبأنكم قد تجندتم في المغامرة الأبدية لإيجاد الله الذي هكذا وجدكم وتبناكم."
155:6.19 (1733.7) وعندما انتهى يسوع من الكلام, أومأ إلى أندراوس, ومشيراً إلى الغرب باتجاه فينيقيا, قال: "لنكن على طريقنا."
كِتاب يورانشيا
ورقة 156
156:0.1 (1734.1) بعد ظهر يوم الجمعة, 10 حزيران, وصل يسوع ورفاقه إلى ضواحي صيدا, حيث توقفوا في بيت امرأة ميسورة كانت مريضة في مستشفى بيت-صيدا في تلك الأوقات عندما كان يسوع في أوج شهرته الشعبية. كان الإنجيليون والرُسل يقيمون مع أصدقائها في الجوار المباشر, واستراحوا يوم السبت وسط هذه الأجواء المنعشة. أمضوا ما يقرب من أسبوعين ونصف في صيدا وجوارها قبل أن يستعدوا لزيارة مدن الساحل في الشمال.
156:0.2 (1734.2) كان هذا السبت من حزيران يوم هدوء عظيم. كان الإنجيليون والرُسل جملةً منهمكين في تأملاتهم بما يخص محاضرات السيد عن الدِين التي استمعوا إليها في طريقهم إلى صيدا. كانوا جميعاً قادرين على تقدير بعض الشيء مما أخبرهم, لكن لم يدرك أي منهم تماماً أهمية تعليمه.
156:1.1 (1734.3) عاشت بالقرب من بيت كاروسكا, حيث مكث السيد, امرأة سورية كانت قد سمعت الكثير عن يسوع كَشافي ومعلم عظيم, وبعد ظهر هذا السبت جاءت جالبة ابنتها الصغيرة. كانت الفتاة, البالغة من العمر حوالي اثنتي عشرة سنة من العمر, مصابة باعتلال عصبي حاد يتميز بتشنجات وغيرها من المظاهر المُفجِعة.
156:1.2 (1734.4) كان يسوع قد عهد إلى زملائه ألا يخبروا أحداً عن وجوده في بيت كاروسكا, موضحاً بأنه رغب في الحصول على قسط من الراحة. بينما أطاعوا تعليمات سيدهم, ذهبت خادمة كاروسكا إلى منزل هذه المرأة السورية, نورانا, لتخبرها بأن يسوع مكث في بيت سيدتها وحثت هذه الأُم القلقة على إحضار ابنتها المصابة من أجل الشفاء. هذه الأُم, بالطبع, اعتقدت بأن ابنتها كانت مُمتلكة بعفريت, روح نجس.
156:1.3 (1734.5) عندما وصلت نورانا مع ابنتها, أوضح التوأم الألفيوس من خلال مترجم بأن السيد يرتاح ولا يمكن إزعاجه؛ عند ذلك أجابت نورانا بأنها والفتاة ستبقيان هناك إلى أن ينتهي السيد من راحته. سعى بطرس أيضًا لأن يُفهمها ويقنعها بالذهاب إلى البيت. أوضح بأن يسوع كان مرهقاً من الكثير من التعليم والشفاء, وبأنه جاء إلى فينيقيا من أجل فترة من الهدوء والراحة. لكن كان بلا جدوى؛ نورانا لن تغادر. إلى التماسات بطرس أجابت فقط: "لن أرحل إلى أن أرى سيدك. أعرف بأنه يستطيع إخراج العفريت من ابنتي, ولن أذهب حتى يكون الشافي قد نظر إلى ابنتي."
156:1.4 (1734.6) ثم سعى توما لإبعاد المرأة لكنه التقى فقط بالفشل. قالت له: "لدي إيمان بأن سيدكم يمكنه إخراج هذا العفريت الذي يعذب طفلتي. لقد سمعت عن أعماله القديرة في الجليل, وأنا أؤمن به. ماذا حدث لكم, تلاميذه, بأنكم تودون إبعاد مَن يأتون طالبين مساعدة سيدكم؟ وعندما تكلمت هكذا انسحب توما.
156:1.5 (1735.1) بعدئذٍ تقدم سمعان زيلوطس محتجاً على نورانا, قال سمعان: "يا امرأة, أنت أممية ناطقة باليونانية. إنه ليس من الصواب أن تتوقعي من السيد أن يأخذ الخبز المخصص لأولاد المنزل المفضَّلين ويطرحه للكلاب". لكن نورانا رفضت أن تستاء من اندفاع سمعان. أجابت فقط: "نعم, يا معلم, أنا أفهم كلامك. أنا مجرد كلبة في نظر اليهود, لكن بما يخص سيدكم, فأنا كلبة مؤمنة. أنا عازمة على أنه يجب أن يرى ابنتي, لأنني مقتنعة بأنه, إن هو فقط نظر إليها, فسوف يشفيها. وحتى أنت, يا رَجلي الصالح, لن تجرؤ على حرمان الكلاب من امتياز الحصول على الفِتات التي تصادف أن تسقط من طاولة الأولاد."
156:1.6 (1735.2) بالضبط عند هذا الوقت كانت البنت الصغيرة مستولى عليها بتشنج عنيف أمامهم جميعًا, وصرخت الأم: "هناك, يمكنكم أن تروا بأن ابنتي ممتلكة بروح شرير. إذا كانت حاجتنا لا تؤثر عليكم, سوف تُناشد سيدكم, الذي أُخبرت أنه يحب كل الناس ويجرؤ حتى على شفاء الأمميين عندما يؤمنون. أنتم لستم مستحقين أن تكونوا تلاميذه. لن أذهب حتى تُشفى ابنتي."
156:1.7 (1735.3) كان يسوع, الذي سمع كل هذه المحادثة من خلال نافذة مفتوحة, قد خرج الآن, كثيراً لدهشتهم, وقال: "يا امرأة, عظيم إيمانك, عظيم جداً بحيث لا أستطيع حجب ما تشائينه؛ اذهبي في طريقك بسلام. ابنتك قد شفيت بالفعل." والبنت الصغيرة تعافت منذ تلك الساعة. بينما رحلت نورانا مع الفتاة, ناشدهما يسوع ألا يخبروا أحدًا عن هذا الحادث؛ وبينما امتثل رفاقه لهذا الطلب, لم تتوقف الأُم والابنة عن إعلان حقيقة شفاء البنت الصغيرة في كل أنحاء الريف وحتى في صيدا, كثيراً لدرجة أن يسوع وجد أنه من المستحسن تغيير مسكنه في غضون أيام قليلة.
156:1.8 (1735.4) في اليوم التالي, عندما علـَّم يسوع رُسله, معلقاً على شفاء ابنة المرأة السورية, قال: "وهكذا كان على طول الطريق؛ ترون بأنفسكم كيف أن الأمميين قادرون على ممارسة الإيمان المنقذ في تعاليم إنجيل ملكوت السماء. الحق, الحق, أقول لكم بأن ملكوت الأب سيؤخذ بالأمميين إذا لم يكن أولاد إبراهيم راغبين بإظهار الإيمان الكافي للدخول فيه."
156:2.1 (1735.5) عند دخول صيدا, عبر يسوع ورفاقه فوق جسر, وكان أول جسر رآه الكثير منهم على الإطلاق. بينما كانوا يمشون فوق هذا الجسر, قال يسوع, من بين أشياء أخرى: "هذا العالم ليس سوى جسر؛ يمكنكم عبوره, لكن يجب ألا تفـَّكروا في بناء مكان إقامة عليه."
156:2.2 (1735.6) عندما بدأ الأربعة والعشرون أعمالهم في صيدا, ذهب يسوع ليمكث في بيت يقع مباشرة إلى الشمال من المدينة, منزل يوستا ووالدتها بـِرنيس. علـَّم يسوع الأربعة والعشرين كل صباح في بيت يوستا, وكانوا يذهبون إلى صيدا للتعليم والوعظ خلال فترة بعد الظهر والمساء.
156:2.3 (1735.7) كان الرُسل والإنجيليون مُبتهجين كثيراً بالطريقة التي تلقى بها الأمميون في صيدا رسالتهم؛ خلال فترة إقامتهم القصيرة تم إضافة العديد إلى الملكوت. كانت هذه الفترة التي استمرت حوالي ستة أسابيع في فينيقيا وقتاً مثمراً للغاية في عمل كسب النفوس, لكن الكُتاب اليهود للإنجيل فيما بعد اعتادوا المرور باستخفاف على سجل هذا الاستلام الحار لتعاليم يسوع من قِبل هؤلاء الأمميين في هذا الوقت بالذات عندما كان عدد كبير من شعبه الخاص في صف معادٍ ضده.
156:2.4 (1736.1) في كثير من النواحي قدَّر هؤلاء الأمميون المؤمنون تعاليم يسوع بشكل أتم أكثر من اليهود. أتى العديد من هؤلاء الفينيقيين السوريين الناطقين باليونانية لمعرفة ليس فقط بأن يسوع كان مثل الله ولكن أيضاً بأن الله كان مثل يسوع. لقد حقق هؤلاء الذين يسمون بالوثنيين فهماً جيداً لتعاليم السيد حول توحيد قوانين هذا العالَم والكون بأسره. استوعبوا التعليم بأن الله ليس لديه محاباة أشخاص, أو أجناس, أو أمم؛ أنه لا توجد محاباة مع الأب الكوني؛ بأن الكون ملتزم كلياً ودائماً بالقانون ويمكن الاعتماد عليه بشكل ثابت. لم يكن هؤلاء الأمميون خائفين من يسوع؛ لقد تجرأوا على قبول رسالته. كل الناس على مر العصور لم يكونوا قادرين على فهم يسوع؛ كانوا خائفين من ذلك.
156:2.5 (1736.2) أوضح يسوع إلى الأربعة والعشرين أنه لم يهرب من الجليل لأنه افتقر إلى الشجاعة لمواجهة أعدائه. فهموا أنه لم يكن مستعداً بعد لصدام مفتوح مع الدِين المؤسس, وبأنه لا يسعى لأن يصبح شهيداً. لقد كان أثناء أحد هذه المؤتمرات في بيت يوستا حين أخبر السيد تلاميذه لأول مرة أنه "ولو إن السماء والأرض ستزول, فإن كلماتي من الحق لن تزول."
156:2.6 (1736.3) كان موضوع إرشادات يسوع أثناء الحلول في صيدا هو التقدم الروحي. أخبرهم بأنهم لا يستطيعون الوقوف مكتوفي الأيدي؛ يجب عليهم المضي قدما في البر أو التقهقر نحو الشر والخطيئة. حثهم "على نسيان تلك الأشياء التي هي في الماضي بينما يندفعون نحو الأمام لاحتضان الحقائق الأعظم للملكوت." لقد ناشدهم ألا يكتفوا ببنوتهم الطفولية في الإنجيل بل أن يجتهدوا لإحراز المكانة الكاملة للبنوة الإلَهية في مشاركة الروح وفي زمالة المؤمنين.
156:2.7 (1736.4) قال يسوع: "تلاميذي يجب ألا يتوقفوا عن فعل الشر فحسب بل أن يتعلموا فعل الخير؛ لا يجب أن تكونوا مطهرين من كل خطيئة واعية فحسب, لكن يجب أن ترفضوا إيواء حتى مشاعر الذنب. إذا اعترفتم بخطاياكم, هي مغفورة؛ لذلك يجب أن تحافظوا على ضمير خالٍ من الإساءة."
156:2.8 (1736.5) لقد استمتع يسوع كثيراً بحاسة الفكاهة الحادة التي عرَضَها هؤلاء الأمميون. لقد كان حس الفكاهة الذي أبدته نورانا, المرأة السورية, بالإضافة إلى إيمانها العظيم والثابت, الذي لامس جداً قلب السيد والتمس رحمته. حزن يسوع بشدة لأن شعبه ــ اليهود ــ كانوا يفتقرون جداً إلى الفكاهة. قال ذات مرة لتوما: "شعبي يأخذون أنفسهم على محمل الجد كثيراً؛ هم مجردين تقريباً من تقدير الفكاهة. لا يمكن أن يكون دين الفريسيين المرهق قد نشأ بين شعب يتمتع بروح الدعابة. كما أنهم يفتقرون إلى الاتساق؛ إنهم يجهدون في البعوض ويبتلعون الجـِمال."
156:3.1 (1736.6) يوم الثلاثاء, 28 حزيران, غادر السيد ورفاقه صيدا متجهين إلى الساحل إلى بورفيريون وهيلدوا. لقد استقبلهم الأمميون حسناً, تم إضافة كثيرون إلى الملكوت أثناء هذا الأسبوع من التعليم والوعظ. وعظ الرُسل في بورفيريون والإنجيليون علـَّموا في هيلدوا. بينما انشغل الأربعة والعشرون هكذا في عملهم, تركهم يسوع لفترة من ثلاثة أو أربعة أيام, زائراً مدينة بيروت الساحلية, حيث زار سورياً يدعى مالاك, الذي كان مؤمناً, وكان في بيت-صيدا العام السابق.
156:3.2 (1737.1) يوم الأربعاء, 6 تموز, عادوا كلهم إلى صيدا ومكثوا في بيت يوستا حتى صباح الأحد, عندما غادروا إلى صور, متجهين جنوباً على طول الساحل بطريق صاريبتا, ووصلوا إلى صور يوم الاثنين, 11 تموز. بحلول هذا الوقت كان الرُسل والإنجيليون قد أصبحوا معتادين على العمل بين هؤلاء المدعوين أمميين, الذين كانوا في الواقع ينحدرون أساساً من القبائل الكنعانية الأبكر ذات الأصل السامي السابق. كل هذه الشعوب تكلمت اللغة اليونانية. لقد كانت مفاجأة عظيمة للرُسل والإنجيليين أن يلاحظوا حماس هؤلاء الأمميين لسماع الإنجيل وملاحظة الإستعداد الذي به آمن الكثير منهم.
156:4.1 (1737.2) من 11 تموز إلى 24 تموز كانوا يدرسون في صُور. أخذ كل من الرُسل معه واحداً من الإنجيليين, وهكذا علـَّموا اثنان واثنان ووعظوا في جميع أنحاء صُور وضواحيها. استمع إليهم السكان المتعددو اللغات لهذا المرفأ البحري المزدحم بابتهاج, وتم تعميد الكثير منهم في الزمالة الخارجية للملكوت. احتفظ يسوع بمقره في بيت يهودي يدعى يوسف, مؤمن, كان يسكن على مسافة ثلاثة أو أربعة أميال جنوب صور, ليس بعيداً عن قبر حيرام الذي كان ملكاً لدولة-مدينة صور في زمن داود وسليمان.
156:4.2 (1737.3) يومياً, لهذه الفترة من أسبوعين, دخل الرُسل والإنجيليون صور عن طريق حصن الإسكندر ليديروا اجتماعات صغيرة, وكل ليلة كان معظمهم يعود إلى المخيم في منزل يوسف جنوب المدينة. كان المؤمنون يخرجون كل يوم من المدينة للتحدث مع يسوع في مكان راحته. تكلم السيد في صور مرة واحدة فقط, بعد ظهر يوم 20 تموز, عندما علـَّم المؤمنين عن محبة الأب للبشرية جمعاء وعن مهمة الابن لكشف الأب لجميع أجناس البشر. كان هناك اهتمام كبير بإنجيل الملكوت بين هؤلاء الأمميين بحيث أنه, في هذه المناسبة, فُتحت له أبواب معبد ملكارت, ومن المثير للاهتمام أن نسجل أنه في السنوات اللاحقة تم بناء كنيسة مسيحية في نفس الموقع.
156:4.3 (1737.4) كثيرون من رواد صناعة الأرجوان الصوري, الصبغة التي جعلت صور وصيدا مشهورتين في جميع أنحاء العالَم, والتي ساهمت كثيراً في تجارتهما العالمية وثرائهما اللاحق, آمنوا في الملكوت. عندما بعد ذلك بفترة وجيزة, بدأ احتياطي الحيوانات البحرية التي كانت مصدر هذه الصبغة بالتناقص, انطلق صناع الصبغة هؤلاء بحثًا عن موائل جديدة لهذه الأصداف. وهكذا هاجروا إلى أقاصي الأرض, حاملين معهم رسالة أبوة الله وأخوة الإنسان ــ إنجيل الملكوت.
156:5.1 (1737.5) بعد ظهر هذا الأربعاء, في سياق خطابه, أخبر يسوع أتباعه أولاً قصة الزنبق الأبيض الذي يرفع رأسه النقي والثلجي عالياً نحو ضوء الشمس بينما ترتكز جذوره في الوحل وأوساخ التربة المظلمة من تحت. بالمثل", قال, "الإنسان الفاني, بينما لديه جذور أصله وكيانه في التربة الحيوانية للطبيعة البشرية, يمكنه بالإيمان أن يرفع طبيعته الروحية إلى نور شمس الحق السماوي ويحمل في الواقع ثمار الروح النبيلة."
156:5.2 (1738.1) لقد كان خلال هذه العظة نفسها أن استخدم يسوع مثله الأول والوحيد الذي له علاقة بمهنته الخاصة ــ النجارة. في سياق تحذيره "لبناء الأسس جيداً لأجل نمو الطبع النبيل من الهبات الروحية", قال: "من أجل إنتاج ثمار الروح, يجب أن تكون مولوداً من الروح. يجب أن تكون معَّلَماً بالروح ومرشداً بالروح إذا كنت تود أن تعيش حياة مليئة بالروح بين زملائك. لكن لا ترتكب خطأ النجار الأحمق الذي يبدد وقتاً ثميناً في تربيع وقياس, وتنعيم أخشابه التي أكلها الدود والعفن في الداخل وبعد ذلك, عندما يكون قد منح كل عمله على القاعدة غير السليمة, يجب أن يرفضها باعتبارها غير لائقة للدخول في أسس البناء الذي يود أن يشيده ليتحمل هجمات الزمن والعواصف. ليتأكد كل إنسان من أن الأسس الفكرية والأخلاقية للطبع هي التي ستدعم بشكل كافٍ البنية الفوقية للطبيعة الروحية المتوسعة والمُشَّرفة, التي بالتالي ستعمل على تحويل العقل الفاني وبعد ذلك, بالاشتراك مع ذلك العقل المعاد تكوينه, لتحقيق تطور النفـْس لمصير خالد. طبيعة روحك ــ النفـْس المخلوقة بشكل مشترك ــ هي نمو حي, لكن عقل الفرد وأخلاقه هي التربة التي يجب أن تنبثق منها تلك التجليات العليا للتطور البشري والمصير الإلَهي. إن تربة النفـْس المتطورة بشرية ومادية, لكن مصير هذا المخلوق المُرَّكب للعقل والروح هو روحاني وإلَهي."
156:5.3 (1738.2) في مساء هذا اليوم نفسه سأل نثانئيل يسوع: "يا سيد, لماذا نصَّلي بألا يقودنا الله نحو الإغراء عندما نعلم جيداً من كشفك عن الأب بأنه لا يفعل مثل هذه الأشياء أبداً؟ أجاب يسوع نثانئيل:
156:5.4 (1738.3) "ليس من الغريب أن تسأل مثل هذه الأسئلة ناظراً بأنك بدأت تعرف الأب كما أعرفه, وليس كما رآه الأنبياء العبريون الأوائل بغير وضوح. أنت تعرف جيداً كيف كان آباؤنا مستعدين لرؤية الله في كل شيء يحدث تقريباً. لقد بحثوا عن يد الله في كل الأحداث الطبيعية وفي كل حلقة غير عادية من التجربة البشرية. لقد ربطوا الله مع كل من الخير والشر. ظنوا أنه ليَن قلب موسى وقسي قلب فرعون. عندما كان لدى الإنسان حث قوي لفعل شيء ما, خيراً أو شراً, كان معتاداً على حساب هذه المشاعر غير العادية من خلال الإشارة: ’كلمني الرب قائلاً, افعل كذا وهكذا, أو اذهب هنا وهناك‘. بناء على ذلك, نظرًا لأن الناس غالباً جداً وبعنف للغاية اصطدموا بإغراء, فقد أصبح من عادة آبائنا أن يعتقدوا بأن الله قادهم إلى هناك من أجل الإختبار, أو القصاص, أو التقوية. لكنك, في الواقع, تعرف الآن بشكل أفضل. أنت تعلم بأن الناس غالباً ما يُقادون نحو الإغراء بدافع أنانيتهم الخاصة وبدوافع طبائعهم الحيوانية. عندما تـُغرى بهذه الطريقة, فإنني أحذرك, بينما تتعرف على الإغراء بأمانة وإخلاص لما هو عليه بالضبط, أن تعاود بذكاء توجيه طاقات الروح, والعقل, والجسد, التي تسعى إلى التعبير, نحو قنوات أعلى وأهداف أكثر مثالية. بهذه الطريقة يمكنك تحويل إغراءاتك نحو أعلى أنواع الإسعاف البشري الرافع بينما تتجنب تقريباً كليا هذه الصراعات المهدرة والمُضعفة بين الطبيعتين الحيوانية والروحية.
156:5.5 (1738.4) "لكن دعني أحذرك من حماقة التعهد بالتغلب على الإغراء بجهد إزاحة رغبة ما بإحلال أخرى مكانها ومن المفترض أنها رغبة فائقة من خلال مجرد قوة الإرادة البشرية. إذا كنت ستنتصر حقاً على مُغريات الطبيعة الأقل والأدنى, يجب أن تصل إلى ذلك المكان من الطائل الروحي حيث ستكون حقاً وصدقاً قد طورت اهتماماً فعلياً ومحبة من أجل تلك الأشكال الأعلى والأكثر مثالية من السلوك, التي يرغب عقلك في استبدالها بعادات السلوك تلك الأدنى والأقل مثالية التي تتعرف عليها كإغراء. بهذه الطريقة ستكون مُخَّلـَصاً من خلال التحول الروحي بدلاً من أن تكون مثقل الكاهل بشكل متزايد بالكبت الخادع للرغبات البشرية. سيتم نسيان القديم والوضيع في محبة الجديد والفائق. ينتصر الجمال دائماً على القبح في قلوب جميع المستنيرين بمحبة الحقيقة. هناك قوة هائلة في الطاقة الداقعة للخارج للعاطفة الروحية الجديدة والصادقة. ومرة أخرى أقول لك, لا تكن مُتغلباً عليك بالشر بل تغلب على الشر بالخير."
156:5.6 (1739.1) استمر الرُسل والإنجيليون طويلاً نحو الليل في طرح الأسئلة, ومن الإجابات العديدة سنقدم الأفكار التالية, معيدين بيانها في نص حديث:
156:5.7 (1739.2) الطموح القوي, والحُكم الذكي, والحكمة المحنكة هي أساسيات النجاح المادي. تعتمد القيادة على القدرة الطبيعية, وحسن التقدير, وقوة المشيئة, والتصميم. يعتمد المصير الروحي على الإيمان, والمحبة, والتكريس للحق ــ الجوع والعطش من أجل البر ــ الرغبة من كل القلب في العثور على الله وأن تكون مثله.
156:5.8 (1739.3) لا تصبحوا مثبطي الهمة عندما تكتشفون أنكم بشر. قد تميل الطبيعة البشرية نحو الشر, لكنها ليست خاطئة بطبيعتها. لا تكونوا منكسري الخاطر بسبب فشلكم تمامًا في نسيان بعض تجاربكم المؤسفة. الأخطاء التي تفشل في نسيانها في الزمان ستُنسى في الأبدية. خففوا أعباء أنفـْسكم عن طريق الاكتساب بسرعة لوجهة نظر بعيدة المدى عن مصيركم, توسع كون لمهمتكم.
156:5.9 (1739.4) لا تخطئوا في تقدير قيمة النفـْس عن طريق عيوب العقل أو شهوات الجسد. لا تحكموا على النفـْس ولا تقيموا مصيرها بمعايير حادثة إنسانية واحدة مؤسفة. مصيركم الروحي مشروط فقط بأهدافكم وأشواقكم الروحية.
156:5.10 (1739.5) الدِين هو التجربة الروحية الحصرية للنفـْس الخالدة المتطورة للإنسان الذي يعرف الله, لكن القدرة الأخلاقية والطاقة الروحية هي قوى جبارة يمكن استخدامها في التعامل مع المواقف الاجتماعية الصعبة وفي حل المشكلات الاقتصادية المعقدة. هذه الهبات الأخلاقية والروحية تجعل كل مستويات العيش البشري أكثر ثراء ومعنى.
156:5.11 (1739.6) أنتم مقـَّدرون لعيش حياة ضيقة وشحيحة إذا تعلمتم أن تحبوا فقط أولئك الذين يحبونكم. قد تكون المحبة البشرية في الواقع متبادلة, لكن المحبة الإلَهية مُنفتحة في كل سعيها للرضى. كلما قلت المحبة في طبيعة أي مخلوق, كلما زادت الحاجة إلى المحبة, وكلما سعت المحبة الإلَهية إلى إشباع هذه الحاجة. ليست المحبة أبداً باحثة عن الذات, ولا يمكن أن تكون مغدقة بالذات. المحبة الإلَهية لا يمكن أن تكون محتواة بالذات؛ يجب أن تُغدق بدون أنانية.
156:5.12 (1739.7) يجب على المؤمنين بالملكوت أن يمتلكوا إيماناً ضمنياً, ايمان من كل النفـْس في الانتصار الأكيد للبر. يجب ألا يشك بناة الملكوت في حقيقة إنجيل الخلاص الأبدي. يجب على المؤمنين أن يتعلموا بشكل متزايد كيفية الابتعاد عن زحمة الحياة ــ الهروب من مضايقات الوجود المادي ــ بينما ينعشون النفـْس ويلهمون العقل, ويُجددون الروح عن طريق التواصل التعبدي.
156:5.13 (1739.8) الأفراد الذين يعرفون الله لا يثبطهم سوء الحظ أو خيبة الأمل. المؤمنون محصنون ضد الاكتئاب الناتج عن الاضطرابات المادية البحتة؛ الذين يحيون بالروح لا تقلقهم أحداث العالَم المادي. المرشحون للحياة الأبدية هم ممارسون لتقنية منشّطة وبناءة لمواجهة كل تقلبات ومضايقات العيش البشري. كل يوم يعيشه مؤمن حقيقي, يجد أنه من الأسهل فعل الشيء الصحيح.
156:5.14 (1740.1) العيش الروحي يزيد بقوة من احترام الذات الحقيقي. لكن احترام الذات ليس الإعجاب بالذات. احترام الذات دائماً منسق مع محبة وخدمة زملاء المرء. لا يمكن أن تحترم نفسك أكثر مما تحب جارك؛ الواحد هو مقياس السعة من أجل الآخر.
156:5.15 (1740.2) مع مرور الأيام, يصبح كل مؤمن حقيقي أكثر مهارة في إغراء زملائه لمحبة الحقيقة الأبدية. هل أنت اليوم أوسع حيلة في إظهار الخير للبشرية مما كنت عليه بالأمس؟ هل تًوصي هذا العام بالبر أكثر مما كنت عليه في العام الماضي؟ هل تصبح فنياً على نحو متزايد في أسلوبك لقيادة نفوس جائعة نحو الملكوت الروحي؟
156:5.16 (1740.3) هل مُثلك عالية بما يكفي لتأمين خلاصك الأبدي بينما أفكارك عملية لدرجة بحيث تجعلك مواطناً نافعاً للعمل على الأرض بالاشتراك مع زملائك البشر؟ في الروح, مواطنتكم في السماء؛ في الجسد, ما زلتم مواطنين لممالك الأرض. أدوا لقيصر الأشياء المادية ولله تلك الروحية.
156:5.17 (1740.4) مقياس الاستطاعة الروحية للنفـْس المتطورة هي إيمانكم بالحق ومحبتكم للإنسان, لكن مقياس قوة سجيتكم الإنسانية هي قدرتكم على مقاومة التمسك بالضغائن واستطاعتكم لاحتمال إطالة التفكير في وجه الحزن العميق. الهزيمة هي المرآة الحقيقية التي يمكنكم من خلالها رؤية أنفسكم الحقيقية بصدق.
156:5.18 (1740.5) بينما تغدون أقدم في السنين وأكثر خبرة في شؤون الملكوت, هل تصبحون أكثر لباقة في التعامل مع البشر المزعجين, وأكثر تسامحاً في التعايش مع الزملاء العنيدين؟ اللباقة هي مرتكز العتلة الاجتماعية, والتسامح هو سمة النفـْس العظيمة. إذا ملكتم هاتين الهديتين النادرتين والفاتنتين, ستصبحون بمرور الأيام أكثر يقظة وخبرة في جهودكم القيمة لتجنب كل سوء فهم اجتماعي غير ضروري. مثل هذه النفوس الحكيمة قادرة على تجنب الكثير من المشاكل التي من المؤكد أنها حصة كل من يعاني من نقص التكيف العاطفي, أولئك الذين يرفضون أن يكبروا, وأولئك الذين يرفضون أن يكبروا في السن بنعماء.
156:5.19 (1740.6) تجنبوا عدم الأمانة وعدم الإنصاف في كل جهودكم لوعظ الحق وإعلان الإنجيل. لا تسعوا للحصول على اعتراف غير مُكتسَب ولا تتوقوا لأي عطف غير مستحق. المحبة, استلموها بحرية من كل من المصادر الإلَهية والبشرية بغض النظر عن أهليتكم, وأحبوا بحرية في المقابل. لكن في كل الأشياء الأخرى المتعلقة بالشرف والتملق لا تسعوا إلا إلى ما يخصكم بأمانة.
156:5.20 (1740.7) البشري الواعي الله أكيد من الخلاص؛ غير خائف من الحياة؛ أمين ومتماسك. يعرف كيف يتحمل بشجاعة المعاناة التي لا بد منها؛ لا يشتكي عندما يُواجه مصاعب لا مفر منها.
156:5.21 (1740.8) المؤمن الحقيقي لا يغدو منهكاً في فعل الخير لمجرد أنه مُحبط. الصعوبة تشحذ حماسة مُحبي الحقيقة, بينما تتحدى العقبات فقط مساعي بنّاء الملكوت الباسل.
156:5.22 (1740.9) وكثير من الأشياء الأخرى علمهم يسوع قبل أن يستعدوا للرحيل من صور.
156:5.23 (1740.10) في اليوم السابق لمغادرة يسوع صور للعودة إلى منطقة بحر الجليل, دعا رفاقه معاً ووَّجَه الإنجيليين الاثني عشر للرجوع بطريق مختلف عن ذلك الذي كان عليه أن يسلكه هو والرُسل الاثني عشر. وبعد أن ترك الإنجيليون يسوع, لم يعودوا مرتبطين به بشكل وثيق مرة أخرى أبداً.
156:6.1 (1741.1) حوالي ظهر يوم الأحد, 24 تموز, غادر يسوع والاثنا عشر بيت يوسف جنوب صور, متجهين نزولاً بطريق الساحل إلى بتوليماس. هنا انتظروا ليوم, يتكلمون بكلمات تعزية إلى جماعة من المؤمنين المقيمين هناك. وعظ بطرس إليهم مساء 25 تموز.
156:6.2 (1741.2) يوم الثلاثاء غادروا بتوليماس, متجهين شرقاً داخل اليابسة بالقرب من يوتاباطا عبر طريق طبريا. توقفوا الأربعاء في يوتاباطا وأرشدوا المؤمنين أكثر في أمور الملكوت. يوم الخميس تركوا يوتاباطا متجهين شمالاً على درب الناصرة ـ جبل لبنان إلى قرية زبولون, بطريق الرامه. عقدوا اجتماعات في الرامه يوم الجمعة وبقوا هناك يوم السبت. وصلوا زبولون يوم الأحد, 31 تموز, وعقدوا اجتماعاً مساء ذلك اليوم وغادروا في صباح اليوم التالي.
156:6.3 (1741.3) بعد مغادرتهم زبولون, سافروا إلى مفترق طريق مجدلا ـ صيدا بالقرب من غيشالا, ومن هناك شقوا طريقهم إلى جينساريت على الشواطئ الغربية لبحيرة الجليل, جنوب كفرناحوم, حيث كانوا قد عَّينوا موعداً لمقابلة داود زَبـِدي, وحيث كانوا يعتزمون التشاور بشأن الخطوة التالية التي يجب اتخاذها في عمل وعظ إنجيل الملكوت.
156:6.4 (1741.4) أثناء مؤتمر قصير مع داود عَلِموا أن العديد من القادة كانوا عند ذاك متجمعين معاً على الجانب الآخر من البحيرة بالقرب من خِريسا, وبناءً عليه, تلك الأمسية بالذات أخذهم قارب عبر البحيرة. ارتاحوا ليوم واحد بهدوء في التلال, ذاهبين في اليوم التالي إلى المنتزه القريب, حيث أطعم السيد مرة الخمسة آلاف. هنا استراحوا لمدة ثلاثة أيام وعقدوا اجتماعات يومية, حضرها حوالي خمسين رجلاً وامرأة, بقايا من الفرقة التي كانت مرة المؤمنين العديدين المقيمين في كفرناحوم وجوارها.
156:6.5 (1741.5) بينما كان يسوع غائباً عن كفرناحوم والجليل, فترة الإقامة الفينيقية, اعتقد أعداؤه أن الحركة بأكملها قد تفككت واستنتجوا بأن إسراع يسوع في الانسحاب يشير إلى أنه كان خائفًا للغاية بحيث أنه لن يعود على الأرجح لإزعاجهم. كانت كل معارضة نشطة لتعاليمه تقريباً قد همدت. كان المؤمنون يبدأون في عقد اجتماعات علنية مرة أخرى, وهناك كان يحدث اندماج تدريجي إنما فعّال للناجين المجَرَبين والحقيقيين من الغربلة الكبيرة التي مر بها مؤمنو الإنجيل للتو.
156:6.6 (1741.6) كان فيليبُس, شقيق هيرودس, قد أصبح مؤمناً فاتراً بيسوع وأرسل كلمة بأن السيد كان حراً ليعيش ويعمل في مناطقه.
156:6.7 (1741.7) كان الأمر بإغلاق كنائس كل اليهود أمام تعاليم يسوع وكل أتباعه قد عمل بشكل سلبي على الكتبة والفريسيين. فور قيام يسوع بإزالة نفسه كموضوع للجدال, كان هناك ردة فعل بين الشعب اليهودي بأسره؛ كان هناك استياء عام ضد الفريسيين وقادة السنهدرين في أورشليم. بدأ العديد من حكام المعابد اليهودية خلسة في فتح معابدهم لأبنير وزملائه, مُدَّعين بأن هؤلاء المعلمين كانوا أتباع يوحنا وليسوا تلامذة يسوع.
156:6.8 (1741.8) حتى هيرودس أنتيباس اختبر تغييراً في القلب, عندما علم بأن يسوع كان يمكث عبر البحيرة في إقليم أخيه فيليبُس, أرسل كلمة إليه بأنه, بينما كان قد وقـَّع أمراً باعتقاله في الجليل, لم يأذن بالقبض عليه في بيريا, مشيراً بهذا بأن يسوع لن يتعرض للمضايقة إذا بقي خارج الجليل؛ وقد أبلغ هذا المرسوم نفسه لليهود في أورشليم.
156:6.9 (1742.1) وكان هذا هو الوضع في الأول من آب, عام 29 م., عندما عاد السيد من المهمة الفينيقية وبدأ في إعادة تنظيم قواته المشتتة, والمختبرة, والمستنزفة من أجل هذا العام الحافل بالأحداث والأخير لمهمته على الأرض.
156:6.10 (1742.2) كانت قضايا المعركة مرسومة بوضوح بينما استعد السيد ورفاقه لبدء إعلان دِين جديد, دِين روح الله الحي الذي يسكن في عقول الناس.
كِتاب يورانشيا
ورقة 157
157:0.1 (1743.1) قبل أن يأخذ يسوع الاثني عشر من أجل إقامة قصيرة في جوار قيصرية-فيليبي, رتب من خلال رسل داود للذهاب إلى كفرناحوم يوم الأحد, 7 أب, للقاء عائلته. كان من المفترض أن تحدث هذه الزيارة بترتيب مسبق في ورشة زَبـِدي للقوارب. كان داود زَبـِدي قد رتب مع يهوذا, شقيق يسوع, لحضور جميع أفراد عائلة الناصرة ــ مريم وجميع إخوة وأخوات يسوع ــ وذهب يسوع مع أندراوس وبطرس للحفاظ على هذا الموعد. كانت نية مريم والأولاد بالتأكيد الحفاظ على هذا الموعد, لكن حدث بأن جماعة من الفريسيين, عارفين بأن يسوع كان على الجهة المقابلة للبحيرة في مناطق فيليبُس, قرروا دعوة مريم لمعرفة ما يمكنهم عن مكان وجوده. وصول مبعوثي أورشليم هؤلاء أقلق مريم إلى حد كبير, وملاحظون توتر وعصبية العائلة بأكملها, استنتجوا بأن يسوع لا بد كان من المتوقع أن يقوم بزيارة لهم. بناء على ذلك أقاموا أنفسهم في بيت مريم, وبعد أن استدعوا تعزيزات, انتظروا بصبر وصول يسوع. وهذا, بالطبع, منع بشكل فعال أي فرد من العائلة من محاولة الحفاظ على هذا الموعد مع يسوع. عدة مرات أثناء النهار سعى كل من يهوذا وراعوث للتملص من يقظة الفريسيين في جهدهما لإرسال كلمة إلى يسوع, لكن ذلك لم يكن ذا جدوى.
157:0.2 (1743.2) في وقت مبكر من بعد الظهر أحضر رسل داود إلى يسوع كلمة بأن الفريسيين يخَّيمون عند عتبة منزل أمه, ولذلك لم يقم بأي محاولة لزيارة عائلته. وهكذا مرة أخرى, من دون أي خطأ من جانب أي منهم, فشل يسوع وعائلته الأرضية في جعل اتصال.
157:1.1 (1743.3) بينما مكث يسوع, مع أندراوس وبطرس, بجانب البحيرة بالقرب من ورشة القوارب, جاء إليهما جابي ضريبة الهيكل, ومتعرف على يسوع, دعا بطرس إلى جانب وقال: "ألا يدفع سيدك ضريبة الهيكل؟" كان بطرس ميالاً لإظهار السخط عند الاقتراح بأن يسوع يجب أن يُتوقع منه أن يساهم في الحفاظ على الأنشطة الدينية لأعدائه الألداء, لكن, متى لاحظ التعبير الغريب على وجه جابي الضرائب, ظن بحق بأنه كان الهدف لإيقاعهم في شراك رفض دفع نصف الشاقل المعتاد لدعم خدمات الهيكل في أورشليم. وفقاً لذلك, أجاب بطرس: "لماذا السيد بالطبع يدفع ضريبة الهيكل. انتظر عند البوابة, وسأعود في الحال مع الضريبة."
157:1.2 (1743.4) الآن كان بطرس قد تكلم على عجل. حمل يوداص أموالهم, وكان عبر البحيرة. لا هو, ولا أخوه, ولا يسوع أحضروا معهم أي مال. وعالمين بأن الفريسيين كانوا يبحثون عنهم, لم يتمكنوا من الذهاب إلى بيت-صيدا للحصول على المال. عندما أخبر بطرس يسوع عن الجابي وبأنه قد وعده بالمال, قال يسوع: "إذا وعدته, عندئذٍ يجب أن تدفع. لكن بماذا ستفي بوعدك؟ هل ستصبح مرة أخرى صياد سمك بحيث تفي بكلمتك؟ على كل حال, يا بطرس, إنه من الجيد في الظروف بأن ندفع الضريبة. دعنا لا نعطي هؤلاء الرجال فرصة للإساءة إلى موقفنا. سننتظر هنا بينما تذهب بالقارب وتصطاد السمك, وعندما تبيعه في السوق هناك, ادفع للجابي من أجل ثلاثتنا."
157:1.3 (1744.1) كان كل هذا مسموعاً من قبل رسول سري لداود, الذي وقف بالقرب, والذي أشار عند ذاك إلى زميل له, يصطاد السمك قرب الشاطئ, ليأتي بسرعة. عندما استعد بطرس للخروج في القارب من أجل الصيد, قدم له هذا الرسول وصديقه الصياد عدة سلال كبيرة من الأسماك وساعدوه في حملها إلى تاجر الأسماك القريب, الذي اشترى الصيد, دافعاً ما فيه الكفاية, مع ما أضيف إليه برسول داود, لسداد ضريبة الهيكل للثلاثة. قبـِل الجابي الضريبة, صافحاً عن عقوبة التأخير في السداد لأنهم كانوا غائبين لبعض الوقت عن الجليل.
157:1.4 (1744.2) ليس غريباً بأن لديكم سجل عن صيد بطرس لسمكة في فمها شاقل. كانت تتناقل في تلك الأيام العديد من القصص حول العثور على كنوز في أفواه الأسماك؛ كانت حكايات هذه المعجزات شائعة. لذلك, عندما تركهم بطرس للذهاب نحو القارب, عَلَقَ يسوع, بنصف فكاهة: "غريب بأن أبناء الملك يجب أن يدفعوا جزية؛ عادة ما يكون الغريب هو من يُفرض عليه ضرائب نظير صيانة البلاط, لكن يليق بنا ألا نمنح حجر عثرة للسُلطات. اذهب من ثم! ربما ستصطاد السمكة مع شاقل في فمها." حيث إن يسوع تكلم هكذا, وسرعان ما ظهر بطرس مع ضريبة الهيكل, فليس من المستغرب أن تكون الواقعة قد توسعت فيما بعد إلى معجزة كما سجلها كاتب إنجيل متـّى.
157:1.5 (1744.3) انتظر يسوع, مع أندراوس وبطرس, بجانب الشاطئ حتى غروب الشمس تقريباً. أحضر الرسل كلمة إليهم بأن منزل مريم لا يزال تحت المراقبة؛ لذلك, عندما حل الظلام, دخل الرجال الثلاثة المنتظرون قاربهم وجدفوا ببطء نحو الشاطئ الشرقي لبحر الجليل.
157:2.1 (1744.4) يوم الاثنين, 8 أب, بينما كان يسوع والرُسل الاثني عشر يخَّيمون في منتزه مجادان, بالقرب من بيت-صيدا-يوليوس, كان أكثر من مائة من المؤمنين, والإنجيليين, وكتيبة النساء, وغيرهم من المهتمين بتأسيس الملكوت, قد جاءوا من كفرناحوم لحضور مؤتمر. وكثير من الفريسيين, عالمين بأن يسوع كان هنا, جاءوا أيضًا. بحلول هذا الوقت كان بعض الصدوقيين متحدين مع الفريسيين في جهودهم لإيقاع يسوع في شرك. قبل الذهاب إلى المؤتمر المغلق مع المؤمنين, عقد يسوع اجتماعاً عاماً حضره الفريسيون, وضايقوا السيد بكثرة الأسئلة وسوى ذلك سعوا لإزعاج التجمع. قال قائد المزعجين: "أيها المعلم, نود أن تعطينا علامة على سُلطتك في التدريس, وعندئذٍ, عندما يحدث الأمر نفسه سيعرف كل الناس بأنك مرسل من الله." فأجابهم يسوع: "عندما يكون مساء, تقولون سيكون الطقس لطيفًا, لأن السماء حمراء؛ في الصباح سيكون طقساً رديئاً, لأن السماء حمراء ومكفهرة. عندما ترون الغيم يرتفع في الغرب, تقولون ستأتي زخات المطر؛ عندما تهب الرياح من الجنوب, تقولون سيأتي حر لافح. كيف تعرفون جيداً تمييز وجه السماوات لكنكم غير قادرين تمامًا على تمييز علامات الأزمنة؟ لأولئك الذين يودون معرفة الحقيقة, قد أُعطيت لهم بالفعل علامة؛ لكن لجيل شرير ومرائي لن تُعطى أي علامة."
157:2.2 (1745.1) عندما قال يسوع هذا, انسحب واستعد لمؤتمر المساء مع أتباعه. في هذا المؤتمر تقرر القيام بمهمة موَّحدة في أنحاء كل مدن وقرى المدن-العشرة بمجرد عودة يسوع والاثني عشر من زيارتهم المقترحة إلى قيصرية-فيليبي. شارك السيد في التخطيط لمهمة المدن-العشرة, وفي صرف الجماعة, قال: "أقول لكم, احذروا من خمير الفريسيين والصدوقيين. لا تكونوا مخدوعين بإظهارهم قدراً كبيراً من التعليم وبولائهم العميق لأشكال الدِين. كونوا مهتمين فقط بروح الحقيقة الحية وقدرة الدِين الحقيقي. إنه ليس خوف الدِين الميت الذي سيخلصكم بل بالأحرى إيمانكم في التجربة الحية في الحقائق الروحية للملكوت. لا تسمحوا لأنفسكم أن تصابوا بالعمى بسبب التعصب ومشلولين بالخوف. ولا تسمحوا بتقديس التقاليد لينحرف فهمكم بحيث لا ترى عيونكم وآذانكم لا تسمع. ليس هدف الدِين الحقيقي مجرد إحلال السلام بل بالأحرى لضمان التقدم. ولا يمكن أن يكون هناك سلام في القلب أو تقدم في العقل إلا إذا وقعتم في حب الحقيقة من صميم القلب, ومُثل الحقائق الأبدية. قضايا الحياة والموت موضوعة أمامكم ــ المسرات الخاطئة للزمن ضد الحقائق الصالحة للأبدية. حتى الآن يجب أن تبدأوا في العثور على الخلاص من عبودية الخوف والشك بينما تدخلون على عيش حياة الإيمان والرجاء الجديدة. وعندما تنشأ في نفسك مشاعر الخدمة من أجل زملائك الناس, لا تكبتها؛ عندما تنبع في قلبك عواطف المحبة تجاه جارك, أعطي تعبيراً لتلك المستحثات من المودة في إسعاف ذكي للإحتياجات الحقيقية لزملائك."
157:3.1 (1745.2) في وقت مبكر من صباح الثلاثاء, غادر يسوع والرُسل الاثني عشر منتزه مجادان إلى قيصرية-فيليبي, عاصمة ولاية تاترارش فيليبُس. كانت قيصرية-فيليبي واقعة في منطقة رائعة الجَمال. في وادٍ ساحر بين تلال ذات مناظر خلابة حيث تدفق الأردن من كهف تحت الأرض. كانت مرتفعات جبل حرمون في مرأى تام إلى الشمال, بينما من التلال إلى الجنوب مباشرة كان منظر رائع لأعالي الأردن وبحر الجليل.
157:3.2 (1745.3) كان يسوع قد ذهب إلى جبل حرمون في تجربته المبكرة مع شؤون الملكوت, والآن حيث أنه على وشك الدخول في المرحلة النهائية من عمله, أراد العودة إلى جبل التجربة والانتصار هذا, حيث كان يأمل بأن يكتسب الرُسل رؤية جديدة لمسؤولياتهم ويحصلون على قوة جديدة للأوقات العصيبة التي تنتظرهم. أثناء رحلتهم على طول الطريق, حوالي وقت العبور جنوب مياه ميروم, وقع الرُسل في الحديث فيما بينهم عن تجاربهم الأخيرة في فينيقيا وأماكن أخرى وسرد كيف تم تلقي رسالتهم وكيف نظرت الشعوب المختلفة لسيدهم.
157:3.3 (1745.4) بينما توقفوا لتناول الغداء, واجه يسوع الاثني عشر فجأة بالسؤال الأول الذي أبداً وجهه إليهم بشأن نفسه. سأل هذا السؤال المفاجئ, "ماذا يقول الناس عن من أنا؟"
157:3.4 (1746.1) كان يسوع قد أمضى شهوراً طويلة في تدريب هؤلاء الرُسل بالنسبة إلى طبيعة وسجية ملكوت السماء, وعرف جيداً بأن الوقت قد حان عندما يجب أن يبدأ في تعليمهم المزيد عن طبيعته الخاصة وعلاقته الشخصية بالملكوت. والآن, بينما كانوا جالسين تحت أشجار التوت, استعد السيد لعقد أحد اجتماعاته الأكثر أهمية لزمالته الطويلة مع الرُسل المختارين.
157:3.5 (1746.2) أكثر من نصف الرُسل شاركوا في الإجابة على سؤال يسوع. أخبروه بأنه كان يُعتبَر نبياً أو رجلًا غير عادي من قِبل كل من عرفه؛ بأن حتى أعدائه كانوا يخشونه بشدة, حاسبين من أجل قدراته بالاتهام بأنه متحالف مع أمير الأبالسة. أخبروه بأن البعض في يهودا والسامره ممن لم يلتقوا به شخصياً اعتقدوا بأنه يوحنا المعمدان قام من الموت. أوضح بطرس بأنه في أوقات مختلفة وبأشخاص متنوعين, يُقارن بموسى, وإيليا, وإشعياء, وإرميا. عندما استمع يسوع إلى هذا التقرير, وقف على قدميه ومتطلع على الاثني عشر جالسين حوله في نصف دائرة, مع تشديد مذهل أشار إليهم بإيماءة كاسحة من يده وسأل, "لكن ماذا تقولون أنتم من أنا؟" كانت هناك لحظة من صمت متوتر. لم يرفع الاثنا عشر أعينهم عن السيد, وبعدئذٍ سمعان بطرس بسرعة ناهضاً على قدميه, هتف: "أنت المخلص, ابن الله الحي." والرُسل الأحد عشر الجالسون نهضوا على أقدامهم باتفاق واحد مشيرين بذلك إلى أن بطرس قد تكلم نيابة عنهم جميعاً.
157:3.6 (1746.3) عندما أومأ يسوع إليهم مرة أخرى للجلوس, وبينما كان لا يزال واقفاً أمامهم, قال: "هذا كُشف لكم بأبي. لقد حان الوقت عندما يجب أن تعرفوا الحقيقة عني. لكن للوقت الكائن أعهد لكم أن لا تخبروا أي إنسان بهذا. فلنذهب من هنا."
157:3.7 (1746.4) وهكذا استأنفوا رحلتهم إلى قيصرية-فيليبي, واصلين في وقت متأخر ذلك المساء وتوقفوا عند بيت سيلسوس, الذي كان ينتظرهم. نام الرُسل قليلاً في تلك الليلة؛ بدا أنهم شعروا بأن حدثاً عظيماً قد بان في حياتهم وفي عمل الملكوت.
157:4.1 (1746.5) منذ مناسبات معمودية يسوع على يد يوحنا وتحويل الماء إلى نبيذ في قانا, كان الرُسل, قد قبلوه, في أوقات مختلفة,، عملياً باعتباره المسيح. لفترات قصيرة كان البعض منهم يعتقد حقًا أنه المخلص المتوَقَع. لكن بالكاد كانت تبرز مثل هذه الآمال في قلوبهم عندما كان السيد يحطمها إلى قطع بكلمة ساحقة ما أو بمأثرة مخيبة للأمل. لقد كانوا لفترة طويلة في حالة من الاضطراب بسبب الصراع بين مفاهيم المسيح المنتظر الذي كانوا يحتفظون به في أذهانهم وتجربة ارتباطهم غير العادي بهذا الرجل الاستثنائي الذي تمسكوا به في قلوبهم.
157:4.2 (1746.6) لقد كان في وقت متأخر من ظهر هذا الأربعاء عندما تجَّمع الرُسل في حديقة سيلسوس من أجل وجبة طعام الظهيرة. أثناء معظم الليل ومنذ نهوضهم ذلك الصباح, كان سمعان بطرس وسمعان زيلوطس يعملان بجد مع إخوانهما لإحضارهم إلى درجة القبول من كل القلب للسيد, ليس فقطً كالمسيح, بل أيضًا باعتباره الابن الإلَهي لله الحي. كان السمعانان على وشك الاتفاق في تقديرهما ليسوع, وعملا باجتهاد لإحضار إخوانهما إلى القبول الكامل بوجهات نظرهما. بينما استمر أندراوس كموَّجه عام للكتيبة الرسولية, كان شقيقه سمعان بطرس يصبح بشكل متزايد وبموافقة عامة, المتحدث باسم الاثني عشر.
157:4.3 (1747.1) كانوا جالسين جميعًا في الحديقة تماماً حوالي الظهر عندما ظهر السيد. كانوا يرتدون تعبيرات الوقار الجليل, وكلهم نهضوا على أقدامهم بينما اقترب منهم. خفف يسوع التوتر بتلك الابتسامة الودية والأخوية التي كانت من سماته عندما أخذ أتباعه أنفسهم, أو حَدَث ما متعلق بهم على محمل الجد للغاية. بإيماءة آمرة أشار بأنهم يجب أن يجلسوا. ولا مرة أخرى حيا الاثنا عشر سيدهم بالنهوض عندما جاء إلى حضورهم. لقد رأوا بأنه لم يوافق على مثل هذا الإظهار للاحترام الخارجي.
157:4.4 (1747.2) بعد أن تناولوا وجبتهم وكانوا منشغلين في مناقشة الخطط الخاصة بالجولة القادمة للمدن-العشرة, نظر يسوع فجأة في وجوههم وقال: "الآن حيث إن يوماً كاملاً قد مضى منذ صادقتم على تصريح سمعان بطرس بشأن هوية ابن الإنسان, أود أن أسأل إذا ما زلتم تتمسكون بقراركم؟" عند سماع هذا, وقف الاثنا عشر على أقدامهم, وسمعان بطرس, وهو يخطو خطوات قليلة إلى الأمام نحو يسوع, قال: "نعم, يا سيد, لا نزال. نؤمن بأنك ابن الله الحي." وجلس بطرس مع إخوانه.
157:4.5 (1747.3) يسوع, لا يزال واقفاً, عندئذٍ قال للاثني عشر: "أنتم سفرائي المختارين, لكنني أعلم أنه, في ظل هذه الظروف, لا يمكنكم إضمار هذا المعتقد كنتيجة للمعرفة البشرية فقط. هذه وحي لروح أبي إلى أعماق نفوسكم. وعندما, بالتالي, تجعلون هذا الاعتراف ببصيرة روح أبي الذي يسكن داخلكم, فإنني مُوجه لأعلن بأنه على هذا الأساس سأبني أخوة ملكوت السماء. على صخرة الواقع الروحي هذه سأبني الهيكل الحي للزمالة الروحية في الحقائق الأبدية لملكوت أبي. كل قوى الشر وجيوش الخطيئة لن تسود ضد هذه الأخوة الإنسانية للروح الإلهي. وبينما سيكون روح أبي دائماً المرشد والمعلم الإلَهي لكل الذين يدخلون روابط زمالة الروح هذه, إليكم وإلى خلفائكم أسلم الآن مفاتيح الملكوت الظاهري ــ السيادة على الأشياء الدنيوية ــ الملامح الاجتماعية والاقتصادية لهذه الرابطة من الرجال والنساء كزملاء للملكوت." ومرة أخرى عهد إليهم, للوقت الكائن, بأن لا يخبروا أي إنسان بأنه ابن الله.
157:4.6 (1747.4) كان يسوع قد بدأ يؤمن بولاء ونزاهة رُسله, استوعب السيد بأن الإيمان الذي يستطيع تحمل ما مر به ممثلوه المختارون مؤخراً سيتحمل بدون شك الإختبارات النارية التي كانت أمامهم بالضبط ويبرزوا من الحطام البادي لكل آمالهم إلى النور الجديد لافتقاد إلَهي جديد وبهذا ليكونوا قادرين للانطلاق لتنوير عالَم جاثم في الظلام. على هذا اليوم بدأ السيد يصدق إيمان رُسله, ما عدا واحد.
157:4.7 (1747.5) ومنذ ذلك اليوم كان هذا يسوع نفسه يبني ذلك الهيكل الحي على ذلك الأساس الأبدي ذاته لبنوته الإلَهية, وأولئك الذين أصبحوا بذلك أبناء واعين بالذات لله هم الأحجار البشرية التي تشكل هذا الهيكل الحي للبنوة المشيدة على مجد وشرف حكمة ومحبة الأب الأزلي للأرواح.
157:4.8 (1747.6) وعندما تكلم يسوع بهذا, وجَّه الاثني عشر أن يفترقوا بأنفسهم في التلال طلباً للحكمة, والقوة, والإرشاد الروحي حتى وقت وجبة المساء. ونفذوا ما نصحهم به السيد.
157:5.1 (1748.1) كانت السمة الجديدة والحيوية لاعتراف بطرس هي الاعتراف الواضح بأن يسوع هو ابن الله, بألوهيته التي لا جدال فيها. دائماً منذ معموديته وزفاف قانا اعتبره هؤلاء الرُسل المسيح بشكل مختلف, لكن لم يكن جزءًا من المفهوم اليهودي عن المخلص القومي بأنه يجب أن يكون إلهياً؛ لم يُعَّلم اليهود بأن المسيح سينبثق من الألوهية. كان ليكون "الممسوح", لكن بالكاد تصوروا أنه "ابن الله". في الاعتراف الثاني تم التركيز بشكل أكبر على الطبيعة المركبة, الواقع الفائق أنه كان ابن الإنسان و ابن الله, ولقد كان على هذه الحقيقة العظيمة لوحدة الطبيعة البشرية مع الطبيعة الإلَهية التي أعلنها يسوع بأنه سيبني ملكوت السماء.
157:5.2 (1748.2) كان يسوع قد سعى ليعيش حياته على الأرض ويتمم مهمة إغداقه كإبن الإنسان. كان أتباعه ميالين لاعتباره المسيح المنتظر. عارف بأنه لا يمكنه أن يفي بتوقعاتهم عن المسيح, فقد سعى لإحداث مثل هذا التعديل لمفهومهم عن المسيح الذي سيمكنه جزئياً من تلبية توقعاتهم. لكنه أدرك الآن أنه من الصعب تنفيذ مثل هذه الخطة بنجاح. لذلك اختار بجرأة أن يكشف عن الخطة الثالثة ــ ليعلن جهراً ألوهيته, يقر بحقيقة اعتراف بطرس, ويعلن مباشرة للاثني عشر أنه كان ابناً لله.
157:5.3 (1748.3) لثلاث سنوات كان يسوع يعلن أنه "ابن الإنسان", بينما خلال هذه السنوات الثلاث نفسها كان الرُسل مُصّرين على نحو متزايد بأنه المسيح اليهودي المنتظر. لقد أعلن الآن أنه ابن الله, وبناءً على مفهوم الطبيعة المُرَّكبة لابن الإنسان وابن الله, صمم على بناء ملكوت السماء. قرر الإمتناع عن بذل أي جهود إضافية لإقناعهم بأنه لم يكن المسيح. اقترح الآن بجرأة أن يكشف لهم ماذا هو, ثم يتجاهل إصرارهم على الاستمرار في اعتباره المسيح.
157:6.1 (1748.4) بقي يسوع والرُسل يوماً آخر في بيت سيلسوس في انتظار وصول الرسل من عند داود زَبـِدي مع أموال. بعد انهيار شعبية يسوع مع الجماهير حدث انخفاض كبير في الدخل. عندما وصلوا إلى قيصرية-فيليبي, كانت الخزينة فارغة. كان متـّى كارهاً أن يترك يسوع وإخوانه في مثل هذا الوقت, ولم تكن لديه أموال حاضرة خاصة به لتسليمها إلى يوداص كما فعل مرات عديدة في الماضي, على كل, كان داود زَبـِدي قد سبق وتوقع هذا التناقص المحتمل في الإيرادات وبناءً عليه أوعز إلى رُسله بأنهم, عندما يشقون عبر يهودا, والسامره, والجليل, يجب أن يعملوا كجامعي أموال ليتم إرسالها إلى الرُسل المنفيين وسيدهم. وهكذا, بحلول مساء هذا اليوم, وصل هؤلاء الرُسل من بيت-صيدا جالبين أموالاً كافية لدعم الرُسل حتى عودتهم للشروع في جولة المدن-العشرة. توقع متـّى أن يحصل على أموال من بيع آخِر قطعة عقار له في كفرناحوم بذلك الوقت, بعد أن كان قد رتب أن هذه الأموال يجب تسليمها بشكل مجهول إلى يوداص.
157:6.2 (1749.1) لم يكن لدى بطرس ولا الرسل الآخرون تصور كافٍ عن ألوهية يسوع. قليلاً أدركوا بأن هذه كانت بداية عهد جديد لمهمة سيدهم على الأرض, الوقت عندما المعلم الشافي كان يصبح المسيح الذي تم تصوره حديثاً ــ ابن الله. من هذا الوقت وصاعداً ظهرت نبرة جديدة في رسالة السيد. من الآن فصاعداً كان مثاله الوحيد للعيش هو إعلان الأب, بينما كانت فكرته الواحدة في التعليم هي أن يقدم لكونه تجسيداً لتلك الحكمة السامية التي لا يمكن فهمها إلا من خلال عيشها. لقد جاء بحيث قد تكون لنا جميعًا حياة ونحصل عليها بوفرة.
157:6.3 (1749.2) دخل يسوع الآن على المرحلة الرابعة والأخيرة من حياته البشرية في الجسد. كانت المرحلة الأولى تلك لطفولته, السنوات عندما كان واعياً بشكل خافت فقط لأصله, وطبيعته, ومصيره كإنسان. كانت المرحلة الثانية وعي-الذات المتزايد لسنوات الصبا والرجولة المتقدمة, التي في أثنائها أتى ليستوعب بشكل أوضح طبيعته الإلَهية ورسالته الإنسانية. انتهت هذه المرحلة الثانية بالتجارب والكشوفات التي لازمت معموديته. امتدت المرحلة الثالثة لتجربة السيد الأرضية من المعمودية خلال سنوات إسعافه كمعلم وشافي صعوداً إلى هذه الساعة الهامة لاعتراف بطرس عند قيصرية-فيليبي. هذه الفترة الثالثة من حياته الأرضية ضمت الأوقات عندما عرفه رُسله وأتباعه المباشرين على أنه ابن الإنسان واعتبروه المسيح. بدأت الفترة الرابعة والأخيرة من مهمته الأرضية هنا في قيصرية-فيليبي وامتدت إلى الصَلب. تميزت هذه المرحلة من إسعافه بإقراره بالألوهية وضمت أعمال عامه الأخير في الجسد. خلال الفترة الرابعة, بينما كان غالبية أتباعه لا يزالون يعتبرونه المسيح, أصبح معروفاً لدى الرُسل باعتباره ابن الله. علـَّم اعتراف بطرس بداية الفترة الجديدة للإدراك الأكثر اكتمالاً لحقيقة إسعافه السامي كإبن إغداق على يورانشيا ومن أجل الكون بأسره, والتعرف على تلك الحقيقة, على الأقل بشكل ضبابي, من قِبل سفرائه المختارين.
157:6.4 (1749.3) هكذا جسـَّد يسوع في حياته ما علـَّمه في دِينه: نمو الطبيعة الروحية بأسلوب العيش التقدمي. لم يركز, كما فعل أتباعه فيما بعد, على الصراع المتواصل بين النفـْسِ والجسد. بالأحرى علـَّم بأن الروح كان منتصراً سهلاً على كِلاهما وفعال في المصالحة المربحة للكثير من هذه الحرب الفكرية والغريزية.
157:6.5 (1749.4) يتعلق مغزى جديد إلى كل تعاليم يسوع من هذه النقطة وصاعداً. قبل قيصرية-فيليبي هو قدم إنجيل الملكوت كمعلم رئيسي له. بعد قيصرية-فيليبي ظهر ليس كمعلم فحسب بل كممثل إلَهي للأب الأبدي, الذي هو مركز ومحيط هذا الملكوت الروحي, وكان مطلوباً بأنه يفعل كل هذا كإنسان, ابن الإنسان.
157:6.6 (1749.5) سعى يسوع بإخلاص ليقود أتباعه نحو الملكوت الروحي كمعلم, عند ذاك كمعلم-شافي, لكنهم لم يودوا ذلك. كان يعلم جيداً بأن مهمته الأرضية لا يمكن أن تحقق التوقعات المسيحية للشعب اليهودي؛ لقد صَوَرَ الأنبياء القدامى مسيحاً لم يمكن أبداً أن يكونه. هو سعى إلى تأسيس ملكوت الأب كابن الإنسان, لكن أتباعه لم يودوا المضي قُدماً في المغامرة. يسوع, بعد أن رأى هذا, اختار عند ذاك أن يلقى المؤمنين به في منتصف الطريق وفي فعله هذا استعد علانية لتولي دور ابن الله المُغدَق.
157:6.7 (1750.1) وفقاً لذلك, سمع الرُسل الكثير مما كان جديداً عندما كلمهم يسوع هذا اليوم في الحديقة. وبعض من هذه التصريحات بدت غريبة حتى بالنسبة لهم. من بين إعلانات مذهلة أخرى استمعوا إلى مِثل التالي:
157:6.8 (1750.2) "من هذا الوقت وصاعداً, إذا كان أي إنسان يود أن تكون لديه زمالة معنا, فليتقلد واجبات البنوة ويتبعني. وعندما لا أكون معكم بعد, لا تفـَّكروا بأن العالَم سيعاملكم أفضل مما عامل سيدكم. إذا كنتم تحبونني, فاستعدوا لإثبات هذه المودة من خلال استعدادكم لتقديم التضحية العظمى."
157:6.9 (1750.3) "وادمغوا كلماتي جيداً: لم آتي لأدعو الأبرار, بل الخطاة. لم يأت ابن الإنسان ليُسعَف إليه, بل ليُسعْف وليغدق حياته كهدية من أجل الجميع. أعلن إليكم بأني أتيت لأبحث عن الضائعين وأخلصهم."
157:6.10 (1750.4) "لا إنسان في هذا العالَم الآن يرى الأب ما عدا الابن الذي جاء من الأب. لكن إذا رُفع الابن, فسوف يجتذب كل الناس إليه, وكل من يؤمن بهذه الحقيقة للطبيعة المرَّكبة للابن سيكون ممنوحاً بحياة أكثر من مجرد دوام-العمر."
157:6.11 (1750.5) "قد لا نعلن علناً حتى الآن بأن ابن الإنسان هو ابن الله, لكن لقد كُشف لكم؛ لذلك أتكلم إليكم بجرأة بشأن هذه الأسرار. ولو إنني أقف أمامكم في هذا الحضور الجسدي, فقد أتيت من الله الأب. قبل أن كان إبراهيم, أنا موجود. لقد أتيت من الأب إلى هذا العالَم كما عرفتموني, وأصرح لكم بأني يجب في الحاضر أن أترك هذا العالَم وأعود إلى عمل أبي."
157:6.12 (1750.6) "والآن هل يستطيع إيمانكم أن يستوعب حقيقة هذه التصريحات في وجه إنذاري لكم بأن ابن الإنسان لن يفي بتوقعات آبائكم كما تصوروا المسيح؟ ليس ملكوتي من هذا العالَم. هل يمكنكم تصديق الحقيقة عني في وجه حقيقة أنه, ولو إن للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار, ليس لدي مكان لأسند رأسي؟"
157:6.13 (1750.7) "مع ذلك, أخبرتكم بأن الأب وأنا واحد. مَن رآني فقد رأى الأب. أبي يعمل معي في كل هذه الأمور, ولن يتركني أبداً وحدي في مهمتي, حتى كما لن أتخلى عنكم عندما تنطلقون في الحاضر لتعلنوا هذا الإنجيل في جميع أنحاء العالَم.
157:6.14 (1750.8) "والآن هل أحضرتكم على حدة معي وبأنفسكم لبعض الوقت ريثما تتمكنون من استيعاب مجد, وفهم عظمة, الحياة التي دعوتكم إليها: مغامرة الإيمان لتأسيس ملكوت أبي في قلوب البشرية, بناء زمالتي للرابطة الحية مع نفوس جميع الذين يؤمنون بهذا الإنجيل".
157:6.15 (1750.9) استمع الرُسل إلى هذه التصريحات الجريئة والمذهلة في صمت؛ كانوا مذهولين. وتفرقوا في جماعات صغيرة ليتناقشوا ويتفكروا في كلمات السيد. كانوا قد اعترفوا بأنه ابن الله, لكنهم لم يتمكنوا من فهم المعنى الكامل لما تم توجيههم إليه.
157:7.1 (1750.10) ذلك المساء أخذ أندراوس على عاتقه عقد مؤتمر شخصي وباحث مع كل واحد من إخوانه, وكانت لديه أحاديث مربحة وقلبية مع كل زملائه ما عدا يوداص إسخريوط. لم يكن أندراوس قد تمتع مطلقًا بمثل هذا الارتباط الشخصي الحميم مع يوداص كما مع الرُسل الآخرين ولذلك لم يعتقد أنه من الأهمية بمكان بأن يوداص لم ينسب نفسه بحرية وبثقة إلى رئيس الكتيبة الرسولية. لكن أندراوس كان الآن قلقاً للغاية من موقف يوداص بحيث, في وقت لاحق من تلك الليلة, بعد أن نام جميع الرُسل سريعاً, سعى إلى يسوع وقدم قضية قلقه إلى السيد. قال يسوع: "ليس في غير موضعه, يا أندراوس, بأنك أتيت إليَ بهذا الأمر, لكن ليس هناك شيء آخر يمكننا القيام به؛ فقط استمر في وضع أقصى ثقتك في هذا الرسول. ولا تقل شيئاً لإخوانه بشأن هذا الحديث معي."
157:7.2 (1751.1) وذلك كان كل ما استطاع أندراوس أن يستخلصه من يسوع. دائماً كان هناك بعض الغرابة بين هذا الرَجل من يهودا وإخوانه الجليليين. كان يوداص مصدوماً بموت يوحنا المعمدان, ومتأذَ بشدة من توبيخات السيد في عدة مناسبات, وخائب الأمل عندما رفض يسوع أن يُجعل ملكاً. ومذلولاً عندما هرب من الفريسيين, ومغموماً عندما رفض قبول تحدي الفريسيين من أجل علامة, وفي حيرة من رفض سيده اللجوء إلى تجليات القدرة, والآن, أكثر حداثة, مكتئباً وأحياناً خائر النفس بخزينة فارغة. وافتقد يوداص إثارة الجماهير.
157:7.3 (1751.2) كان كل من الرُسل الآخرين, في قياس ما وبدرجات متفاوتة, متأثراً بالمثل بهذه التجارب والمحن ذاتها, لكنهم أحبوا يسوع. على الأقل لا بد أنهم قد أحبوا السيد أكثر مما فعل يوداص, لأنهم مشوا معه حتى النهاية المُرة.
157:7.4 (1751.3) كائن من يهودا, استاء يوداص شخصياً من تحذير يسوع الأخير إلى الرُسل "ليحذروا خمير الفريسيين"؛ كان ميالاً لاعتبار هذا التصريح كإشارة مستترة إليه. لكن خطأ يوداص الكبير كان: مراراً وتكراراً, عندما كان يسوع يرسل رُسله وحدهم للصلاة, يوداص, بدلاً من الانخراط في تواصل مخلص مع القوى الروحية للكون, كان منغمسًا في أفكار الخوف البشري بينما استمر في إضمار شكوك دقيقة حول مهمة يسوع بالإضافة إلى الاستسلام لميله المؤسف لإيواء مشاعر الانتقام.
157:7.5 (1751.4) والآن كان يسوع سيأخذ رُسله معه إلى جبل حرمون, حيث عَيَّن ليفتتح طوره الرابع من الإسعاف الأرضي كإبن الله. كان بعض منهم حاضراً عند معموديته في الأردن وكانوا قد شهدوا بداية مهمته كإبن الإنسان, وأراد أن يكون بعضهم أيضًا حاضراً لسماع سلطته لتولي الدور الجديد والعلني لابن الله. بناء على ذلك, في صباح يوم الجمعة, 12 أب, قال يسوع للاثني عشر: ضعوا المؤن واستعدوا لرحلة إلى الجبل هناك, حيث يأمرني الروح بالذهاب لأكون مُعطى من أجل إنهاء عملي على الأرض. وأود أن آخذ إخوتي معي بحيث قد يكونوا معززين أيضاً من أجل الأوقات المجَرِبة في الذهاب معي خلال هذه التجربة."
كِتاب يورانشيا
ورقة 158
158:0.1 (1752.1) لقد كان قرب غروب الشمس بعد ظهر يوم الجمعة, 12 آب عام 29 م., عندما وصل يسوع ورفاقه إلى سفح جبل حرمون, بالقرب من نفس المكان حيث انتظر الصبي تـِغلاث ذات مرة بينما صعد السيد الجبل وحده ليحسم المصائر الروحية ليورانشيا وليُنهي تقنياً تمرد لوسيفر. وهنا أقاموا لمدة يومين في تحضير روحي للأحداث التي سوف تتبع قريباً جداً.
158:0.2 (1752.2) بشكل عام, كان يسوع يعرف مسبقاً ما كان سوف يبان على الجبل ورغب كثيراً بأن يشارك جميع رُسله هذه التجربة. لقد كان لأجل أن يؤهلهم لهذا الوحي عن نفسه بأنه مكث معهم عند سفح الجبل. لكنهم لم يتمكنوا من بلوغ تلك المستويات الروحية التي من شأنها أن تبرر تعرضهم للتجربة الكاملة لزيارة الكائنات السماوية التي ستظهر قريباً على الأرض. ولأنه لم يستطع أخذ كل رفاقه معه, قرر أن يأخذ فقط الثلاثة الذين اعتادوا مرافقته على مثل يقظات المراقبة الخاصة هذه. وفقاً لذلك, شارك بطرس, ويعقوب, ويوحنا فقط جزءًا من هذه التجربة الفريدة مع السيد.
158:1.1 (1752.3) في وقت مبكر من صباح يوم الاثنين, 15 آب, بدأ يسوع والرُسل الثلاثة صعود جبل حرمون, وكان ذلك بعد ستة أيام من اعتراف بطرس الذي لا يُنسى على جانب الطريق تحت أشجار التوت.
158:1.2 (1752.4) كان يسوع قد استُدعي ليصعد الجبل, منفردًا, من أجل التعامل مع أمور هامة لها علاقة بتقدم إغداقه في الجسد لأن هذه التجربة كانت متعلقة بالكون من خلقه الخاص. إنه أمر هام بأن هذا الحدث الإستثنائي تم توقيته ليحدث بينما كان يسوع والرُسل في أراضي الأمميين, وبأنها بانت فعلياً على جبل للأمميين.
158:1.3 (1752.5) وصلوا إلى وجهتهم, حوالي منتصف الطريق إلى أعلى الجبل, قبل الظهر بقليل, وبينما يتناولون الغذاء, أخبر يسوع الرُسل الثلاثة بعض الشيء عن تجربته في التلال إلى الشرق من الأردن بعد وقت قصير من معموديته وكذلك بعض المزيد من تجربته على جبل حرمون فيما يتعلق بزيارته السابقة إلى هذا الملاذ المُنعزل.
158:1.4 (1752.6) عندما كان صبياً, اعتاد يسوع أن يصعد التل قرب بيته ويحلم بالمعارك التي خاضتها جيوش الإمبراطوريات على سهل إسدرليون؛ الآن صعد جبل حرمون ليستلم الهبة التي كانت من المقرر أن تهيئه للهبوط على سهول الأردن لتفعيل المشاهد الختامية لدراما إغداقه على يورانشيا. كان بإمكان السيد أن يتنحى عن النضال هذا اليوم على جبل حرمون ويعود إلى حكمه لمجالات الكون, لكنه لم يختار فقط تلبية متطلبات مرتبته من البنوة الإلَهية التي احتضنتها ولاية الابن الأبدي على الفردوس, لكنه اختار أيضاً أن يفي بالتدبير الأخير والكامل للمشيئة الحاضرة لأبيه الفردوسي. على هذا اليوم في شهر آب رآه ثلاثة من رُسله يرفض منحه سلطة كون كاملة. تطلعوا بدهشة بينما رحل الرسل السماويين, تاركينه وحده ليُنهي حياته الأرضية كابن الإنسان وابن الله.
158:1.5 (1753.1) كان إيمان الرُسل في ذروة وقت إطعام الخمسة آلاف, وبعدئذٍ سرعان ما انخفض إلى الصفر تقريباً. الآن, كنتيجة لاعتراف السيد بألوهيته, ارتفع الإيمان المتثاقل للاثني عشر في الأسابيع القليلة التالية إلى أعلى درجاته, فقط ليخضع لانحدار تدريجي. لم يحدث الإنعاش الثالث لإيمانهم إلا بعد قيامة السيد.
158:1.6 (1753.2) لقد كان حوالي الساعة الثالثة من بعد ظهر هذا اليوم الجميل حينما استأذن يسوع من الرُسل الثلاثة, قائلاً: "أنا ذاهب بمفردي لفصل لأتواصل مع الأب ورسله؛ أطلب منكم الانتظار هنا, وبينما تنتظرون عودتي, صَّلوا من أجل أن تتم مشيئة الأب في كل تجربتكم فيما يتعلق بمهمة الإغداق الإضافية لابن الإنسان." وبعد أن قال لهم هذا, انسحب يسوع من أجل مؤتمر طويل مع جبرائيل, والأب ملكيصادق, ولم يعد حتى حوالي الساعة السادسة. عندما رأى يسوع قلقهم بشأن غيابه الطويل, قال: "لماذا كنتم خائفين؟ تعرفون جيداً أنني يجب أن أكون حول شغل أبي؛ فلماذا تشُكّون عندما لا أكون معكم؟ أعلن الآن بأن ابن الإنسان اختار أن يمضي حياته كاملة في وسطكم وكواحد منكم. كونوا ذوي بهجة جيدة؛ لن أترككم حتى ينتهي عملي.
158:1.7 (1753.3) بينما هم يتناولون وجبتهم المسائية اليسيرة, سأل بطرس السيد, "إلى متى نبقى على هذا الجبل بعيدا عن إخواننا؟" فأجاب يسوع: "حتى تروا مجد ابن الإنسان وتعرفوا بأن كل ما أعلنته لكم هو حق." وتحدثوا عن شؤون تمرد لوسيفر بينما جلسوا حول الجمرات المتوهجة لنارهم حتى حل الظلام وعيون الرُسل باتت متعَبة, لأنهم كانوا قد بدأوا رحلتهم في وقت مبكر جداً من ذلك الصباح.
158:1.8 (1753.4) عندما كان الثلاثة نيامًا سريعًا لنحو نصف ساعة, استيقظوا فجأة على صوت طقطقة قريب, وكثيراً لدهشتهم وذعرهم, عندما نظروا حولهم, شاهدوا يسوع في محادثة ودية مع كائنين متألقين يرتدون كسوة من نور العالَم السماوي, ووجه يسوع وشكله أشرق بضياء نور سماوي. تحدث هؤلاء الثلاثة بلغة غريبة, لكن من خلال بعض الأشياء التي قيلت, ظن بطرس خطأ بأن الكائنين مع يسوع كانا موسى وإيليا؛ في الواقع كانا جبرائيل والأب ملكيصادق. كانت المتحكمات الفيزيائية قد رتبت للرُسل ليشهدوا هذا المشهد بسبب طلب يسوع.
158:1.9 (1753.5) كان الرُسل الثلاثة خائفين للغاية بحيث كانوا بطيئين في استجماع عقولهم, لكن بطرس, الذي كان أول من استعاد نفسه, قال, بينما تلاشت الرؤية المبهرة من أمامهم ولاحظوا أن يسوع يقف وحيدًا: "يسوع, يا سيد, إنه من الجيد أن نكون هنا. نحن نفرح لرؤية هذا المجد. نحن عائفون العودة نزولاً إلى العالَم غير المجيد. إذا شئت, دعنا نقيم هنا, وسننصب ثلاث خيام, واحدة لك, وواحدة لموسى, وواحدة لإيليا". وبطرس قال هذا بسبب ارتباكه, ولأنه لم يخطر بباله شيء آخر في تلك اللحظة بالذات.
158:1.10 (1753.6) بينما كان بطرس لا يزال يتكلم, اقتربت سحابة فضية وألقت بظلالها على الأربعة منهم., أصبح الرُسل الآن خائفين للغاية, وبينما سقطوا على وجوههم للعبادة, سمعوا صوتاً, نفس الصوت الذي تكلم في مناسبة معمودية يسوع, يقول: "هذا هو ابني الحبيب ؛ له اسمعوا". وعندما اختفت السحابة, كان يسوع مرة أخرى وحده مع الثلاثة, وانحنى ولمسهم, قائلاً: "انهضوا ولا تخافوا؛ سترون أشياء أعظم من هذه". لكن الرُسل كانوا حقاً خائفين؛ كانوا ثلاثة صامتين ومفكرين بينما استعدوا لهبوط الجبل قبل منتصف الليل بقليل.
158:2.1 (1754.1) لحوالي نصف المسافة نزولاً في الجبل ولا كلمة قيلت. بعدئذٍ بدأ يسوع المحادثة بالإشارة: "كونوا أكيدين بأن لا تخبروا أي إنسان, ولا حتى إخوانكم, بما رأيتم وسمعتم على هذا الجبل إلى أن يكون ابن الإنسان قد قام من بين الأموات." أصيب الرسل الثلاثة بالصدمة والحيرة من كلمات السيد, "إلى أن يكون ابن الإنسان قد قام من بين الأموات." كانوا مؤخراً قد أكدوا مجدداً إيمانهم به باعتباره المخلص, ابن الله, وشاهدوه للتو يتجلى في مجد أمام أعينهم, والآن بدأ يتكلم عن "القيام من بين الأموات"!
158:2.2 (1754.2) اقشعر بطرس من فكرة موت السيد ــ لقد كانت فكرة غير مقبولة للغاية ــ وخوفاً من أن يعقوب أو يوحنا قد يطرحان بعض الأسئلة المتعلقة بهذا البيان, اعتقد أنه من الأفضل البدء في تحويل المحادثة, وغير عارف عن أي شيء آخر يتحدث عنه, أعطى تعبيراً عن الفكرة الأولى التي خطرت بباله, التي كانت: "يا سيد, لماذا يقول الكتبة بأن إيليا يجب أن يأتي أولاً قبل أن يظهر المسيح؟" ويسوع, عارف بأن بطرس سعى لتجنب الإشارة إلى موته وقيامته, أجاب: "إيليا في الحقيقة يأتى أولاً ليمهد الطريق لابن الإنسان, الذي يجب أن يعاني الكثير من الأشياء ويتم رفضه أخيراً. لكنني أقول لكم بأن إيليا قد جاء بالفعل, ولم يستلموه لكنهم فعلوا به كل ما شاءوا." وعندئذٍ أدرك الرُسل الثلاثة بأنه أشار إلى يوحنا المعمدان باسم إيليا, عرف يسوع أنه, إذا هم أصَّروا على اعتباره المسيح, عندئذٍ يجب على يوحنا أن يكون هو إيليا النبوءة.
158:2.3 (1754.3) أبدى يسوع الصمت حيال ملاحظتهم للتنبؤ بمجد ما بعد قيامته لأنه لم يرغب في تعزيز الفكرة بأنه, كائن الآن قد اُستلم على أنه المسيح, يود في أي درجة أن يفي بمفاهيمهم الخاطئة عن مخلص صانع عجائب. على الرغم من أن بطرس, ويعقوب, ويوحنا تفكروا بكل هذا في عقولهم, إلا أنهم لم يتحدثوا عنه لأي إنسان إلى ما بعد قيامة السيد.
158:2.4 (1754.4) بينما استمروا في النزول من الجبل, قال لهم يسوع: "لن تقبلوني كإبن الإنسان؛ لذلك وافقت على أن أكون مقبولاً وفقًا لإصراركم الثابت, لكن, لا تخطئوا, مشيئة أبي يجب أن تسود. إذا اخترتم بالتالي إتباع ميول مشيئاتكم الخاصة, فيجب أن تستعدوا لمعاناة الكثير من خيبات الأمل واختبار العديد من الابتلاءات, لكن التدريب الذي أعطيته لكم ينبغي أن يفي بالحاجة لإحضاركم بنصر خلال هذه الأحزان من اختياركم الخاص."
158:2.5 (1754.5) لم يصطحب يسوع بطرس, ويعقوب, ويوحنا معه إلى جبل التجلي لأنهم كانوا بأي حال من الأحوال أفضل استعداداً من الرُسل الآخرين ليشهدوا ما حدث, أو لأنهم كانوا روحياً أكثر لياقة ليتمتعوا بمثل هذا الامتياز النادر. على الإطلاق. كان يعلم جيداً بأن لا أحد من الاثني عشر كان مؤهلاً روحياً لهذه التجربة؛ لذلك لم يأخذ معه سوى الرسل الثلاثة الذين كانوا معينين لمرافقته في تلك الأوقات عندما كان يرغب في أن يكون وحيدا للتمتع بتواصل انفرادي.
158:3.1 (1755.1) ما شهده بطرس, ويعقوب, ويوحنا على جبل التجلي كان لمحة عابرة لاحتفال سماوي الذي حدث في ذلك اليوم الحافل بالأحداث على جبل حرمون. كان التجلي مناسبة من أجل:
158:3.2 (1755.2) 1. قبول ملء الإغداق للحياة المتجسدة لميخائيل على يورانشيا من قبل الأم -الابن الأبدية للفردوس. لغاية ما يتعلق الأمر بمتطلبات الابن الأبدي, فقد تلقى يسوع الآن تأكيداً بإتمامها. وجلب جبرائيل ليسوع ذلك التأكيد.
158:3.3 (1755.3) 2. شهادة الرضى من الروح اللانهائي بالنسبة إلى إتمام إغداق يورانشيا في صورة الجسد الفاني. ممثلة الكون للروح اللانهائي. الزميلة المباشرة لميخائيل على ساﻟﭭينغتون ومشاركته في العمل الدائمة الحضور, تكلمت في هذه المناسبة من خلال الأب ملكيصادق.
158:3.4 (1755.4) رحب يسوع بهذه الشهادة فيما يتعلق بنجاح مهمته الأرضية التي قدمها رسل الابن الأبدي والروح اللانهائي, لكنه أشار إلى أن أباه لم يشر إلى أن إغداق يورانشيا قد انتهى؛ فقط الحضور غير المرئي للأب حمل شهادة من خلال ضابط يسوع المشَّخَص, قائلاً, "هذا هو ابني الحبيب؛ له اسمعوا." وهذا قيل بكلمات لتُسمع أيضاً بالرُسل الثلاثة.
158:3.5 (1755.5) بعد هذه الزيارة السماوية سعى يسوع إلى معرفة مشيئة أبيه وقرر أن يتابع الإغداق الفاني حتى نهايته الطبيعية. هذه كانت أهمية التجلي ليسوع. بالنسبة إلى الرُسل الثلاثة كان حدثاً علـَّم دخول السيد في المرحلة الأخيرة من مهمته الأرضية باعتباره إبن الله وابن الإنسان.
158:3.6 (1755.6) بعد الزيارة الرسمية لجبرائيل والأب ملكيصادق, عقد يسوع محادثة رسمية مع هؤلاء, ابناؤه في الإسعاف, وتواصل معهم بخصوص شؤون الكون.
158:4.1 (1755.7) لقد كان قبل وقت الإفطار بوقت قصير في صباح يوم الثلاثاء هذا عندما وصل يسوع ورفاقه إلى المخيم الرسولي. حينما اقتربوا لاحظوا حشداً كبيراً تجمع حول الرُسل وسرعان ما بدأوا يسمعون كلمات المجادلة والنزاع الصاخبة لهذه الجماعة من حوالي خمسين شخصاً, تضم الرُسل التسعة وتجَّمع منقسم بالتساوي بين كتبة أورشليم والتلاميذ المؤمنين الذين اقتفوا يسوع ورفاقه في رحلتهم من مجادان.
158:4.2 (1755.8) بالرغم من أن الحشد انخرط في العديد من المجادلات, كان الجدل الرئيسي حول مواطن معَّين من طبريا وصل في اليوم السابق في طلب يسوع. هذا الرَجل, يعقوب من صفد, كان له ابن يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا تقريباً, ولد وحيد, كان يعاني بشدة من الصرع. بالإضافة إلى هذا المرض العصبي كان هذا الفتى قد أصبح مُمتلكاً بواحد من منتصفي الطريق أولئك المتمردين, والمؤذيين, الهائمين الذين كانوا حاضرين آنذاك على الأرض وغير خاضعين للسيطرة, بحيث كان ذلك الفتى مصاب معاً بالصرع وامتلاك العفاريت.
158:4.3 (1755.9) لحوالي أسبوعين كان هذا الأب القلق, وهو مسؤول ثانوي عند هيرودس أنتيباس, قد تجول عبر الحدود الغربية لمناطق فيليبُس, باحثاً عن يسوع بحيث قد يمكنه استعطافه ليشفي هذا الابن المنكوب. ولم يلحق بالفرقة الرسولية حتى ظهر هذا اليوم تقريبًا عندما صعد يسوع الجبل مع الرُسل الثلاثة.
158:4.4 (1756.1) تفاجأ الرُسل التسعة كثيراً وانزعجوا بشكل كبير عندما جاءهم هذا الرَجل فجأة, برفقة ما يقرب من أربعين شخصاً آخرين يبحثون عن يسوع. عند وقت وصول هذه الجماعة, كان الرُسل التسعة, على الأقل أكثرهم, قد استسلموا لإغراءاتهم القديمة ــ مناقشة من يجب أن يكون الأعظم في الملكوت الآتي؛ كانوا منشغلين في الجدل حول المراكز المحتملة التي سيتم تعيينها للرُسل الأفراد. هم ببساطة لم يتمكنوا من تحرير أنفسهم تماماً من الفكرة التي اعتزوا بها منذ أمد طويل عن مهمة المسيح المادية. والآن حيث أن يسوع نفسه قبـِل اعترافهم بأنه هو المخَلص حقاً ــ على الأقل أقر بحقيقة ألوهيته ــ ماذا كان أكثر طبيعياً من ذلك, أنه أثناء فترة الانفصال هذه عن السيد, يجب أن ينساقوا للتحدث عن تلك الآمال والطموحات التي كانت الأعلى في قلوبهم. وكانوا منخرطين في هذه المناقشات عندما أتى عليهم يعقوب الصفدي ورفاقه الباحثين عن يسوع.
158:4.5 (1756.2) خطى أندراوس ليُحيي هذا الأب وابنه, قائلاً: "عمن تبحثون؟" قال يعقوب: "يا رَجلي الصالح, أبحث عن سيدكم. أطلب الشفاء لأبني المنكوب. أود أن يُخرج يسوع هذا الإبليس الذي يمتلك طفلي." ثم بدأ الأب يروي للرُسل كيف كان ابنه مصاباً لدرجة أنه كاد أن يفقد حياته عدة مرات نتيجة لهذه النوبات المرَضية الخبيثة.
158:4.6 (1756.3) بينما استمع الرُسل, خطى سمعان زيلوطس ويوداص إسخريوط نحو حضرة الأب, قائلين: "نحن يمكننا أن نشفيه؛ لست بحاجة لانتظار عودة السيد, نحن سفراء الملكوت؛ لم نعد نحتفظ بهذه الأشياء في الخفاء. يسوع هو المخَّلص, وقد سُّلمت لنا مفاتيح الملكوت." بحلول هذا الوقت كان أندراوس وتوما في شورى عند جانب واحد. تطلع نثانئيل والآخرون في دهشة؛ كانوا كلهم مشدوهين من الجرأة المفاجئة, إن لم يكن غطرسة, سمعان ويوداص. عندئذٍ قال الأب: "إذا أُعطي لكم لتفعلوا هذه الأعمال, أتوسَّل بأنكم ستتكلمون تلك الكلمات التي ستخلص ابني من هذا الرباط. عند ذاك خطى سمعان إلى الأمام, وواضع يده على رأس الولد, تطلع مباشرة في عينيه وأمر: "اخرج منه أيها الروح النجس؛ باسم يسوع اطعني." لكن الفتى كانت لديه فقط نوبة أكثر عُنفاً, بينما استهزأ الكتبة بالرُسل في سخرية, وعانى المؤمنون الخائبو الأمل من تهكم هؤلاء النقاد غير الودودين.
158:4.7 (1756.4) كان أندراوس منزعجًا بشدة من هذا الجهد غير الحكيم وفشله الذريع. دعا الرُسل جانباً لمؤتمر وللصلاة. بعد هذا الفصل من التأمل, شاعرون بحدة وخزة هزيمتهم واستشعار الإهانة التي لحقت بهم جميعاً, سعى أندراوس, في محاولة ثانية, لإخراج العفريت, لكن الفشل فقط توج جهوده. اعترف أندراوس بصراحة بالهزيمة وطلب من الأب أن يبقى معهم حتى اليوم التالي أو حتى عودة يسوع, قائلاً: "ربما هذا النوع لا يخرج إلا بأمر السيد الشخصي."
158:4.8 (1756.5) وهكذا بينما كان يسوع ينزل من الجبل مع بطرس, ويعقوب, ويوحنا الممتلئين حماساً ونشوةً, كان إخوانهم التسعة بالمثل بدون نوم في ارتباكهم وإذلالهم الكئيب. كانوا جماعة خائرة النفس ومؤدبة. لكن يعقوب الصفدي لم يستسلم. على الرغم من أنهم لم يتمكنوا من إعطائه أي فكرة عن موعد عودة يسوع, فقد قرر البقاء حتى عودة السيد.
158:5.1 (1757.1) حينما اقترب يسوع, كان الرُسل التسعة أكثر من مرتاحين للترحيب به, وتشجعوا كثيراً لمشاهدة البهجة الجيدة والحماس غير العادي الذي دمغ ملامح بطرس, ويعقوب, ويوحنا. هرعوا جميعًا إلى الأمام لتحية يسوع وإخوانهم الثلاثة. بينما تبادلوا التحيات, جاء الحشد, وسأل يسوع, "فيم كنتم تتجادلون عند اقترابنا؟" لكن قبل أن يتمكن الرُسل المرتبكون والمذلون من الرد على سؤال السيد, خطى الأب القلق للفتى المصاب إلى الأمام وركع عند قدمي يسوع, قائلاً, "يا سيد, لدي ابن, ولد وحيد, مُمتلَك بروح شرير. هو ليس فقط يصرخ في رعب, ويزبد في فمه, ويسقط مثل شخص ميت وقت النوبة, لكن معظم الأحيان هذا الروح الشرير الذي يمتلكه يمزقه في تشنجات وأحيانًا يلقيه به في الماء وحتى في النار. مع كثير من صرير الأسنان ونتيجة للعديد من الكدمات, ولدي يضيع بعيداً. حياته أسوأ من الموت؛ وأمه وأنا لدينا قلب حزين وروح منكسرة. حوالي ظهر البارحة, باحث عنك, لحقت بتلاميذك, وبينما كنا ننتظر, سعى رُسلك إلى إخراج هذا العفريت, لكنهم لم يتمكنوا من ذلك, والآن, يا سيد, هل ستفعل هذا من أجلنا, هل ستشفي ابني؟"
158:5.2 (1757.2) عندما استمع يسوع إلى هذه الحيثية, لمس الأب الراكع ودعاه للنهوض بينما أعطى الرُسل القريبين معاينة باحثة. ثم قال يسوع لكل أولئك الواقفين أمامه: "أيها الجيل العديم الإيمان والتائه, إلى متى سأتحمل معكم؟ إلى متى سأكون معكم؟ إلى متى حتى تتعلموا بأن أعمال الإيمان لا تأتي عند دعوة عدم الإيمان الشكوك؟" وبعد ذلك, مشيراً إلى الأب المتحير, قال يسوع, "احضر ابنك إلى هنا." وعندما أحضر يعقوب الفتى أمام يسوع, سأل, "منذ متى كان الصبي مصاباً بهذه الطريقة؟" أجاب الأب, "منذ أن كان طفلاً صغيراً جداً." وبينما يتكلمان, أصابت الفتى نوبة عنيفة وسقط في وسطهم, يصر أسنانه ويزبد في فمه. بعد سلسلة من التشنجات العنيفة استلقى هناك أمامهم كميت. الآن ركع الأب مرة أخرى عند قدمي يسوع بينما توسل إلى السيد, قائلاً: "إذا أمكنك أن تشفيه, أرجوك أن تشفق علينا وتخلصنا من هذا البلاء." وعندما سمع يسوع هذه الكلمات, نظر نحو وجه الأب القلق, قائلاً: "لا تشك بقدرة محبة أبي, فقط صدق إيمانك ومدى وصوله. كل الأشياء ممكنة لمن يؤمن حقاً." وعند ذاك تكلم يعقوب الصفدي تلك الكلمات المتذكرة طويلاً المختلطة بالإيمان والشك, "يا رب, أنا أؤمن, أصَّلي بأنك تساعدني في عدم إيماني."
158:5.3 (1757.3) عندما سمع يسوع هذه الكلمات, تقدم إلى الأمام, وآخذاً الفتى باليد, قال: "سأفعل هذا وفقاً لمشيئة أبي وتكريماً للإيمان الحي. يا بني, قم! أخرج منه, أيها الروح المتمرد, ولا ترجع إليه," وواضعاً يد الفتى في يد الأب قال: "اذهبوا في طريقكم. لقد منح الأب رغبة نفـْسك." وكل الحاضرين, حتى أعداء يسوع, كانوا مذهولين مما رأوا.
158:5.4 (1757.4) كان في الواقع زوال غرور للرُسل الثلاثة الذين استمتعوا مؤخراً بالنشوة الروحية بمشاهد وتجارب التجلي, ليرجعوا قريباً إلى هذا المشهد لهزيمة واندحار زملائهم الرُسل. لكن كان الأمر دائماً كذلك مع هؤلاء السفراء الاثني عشر للملكوت. لم يفشلوا أبداً في التناوب بين التمجيد والإذلال في تجارب حياتهم.
158:5.5 (1758.1) كان هذا شفاءً حقيقياً لمصاب مزدوج, مرض جسدي وداء روحي. وشُفي الفتى تماماً منذ تلك الساعة. عندما رحل يعقوب مع ابنه المستعاد, قال يسوع: "لنذهب الآن إلى قيصرية-فيليبي؛ استعدوا في الحال." وكانوا جماعة هادئة أثناء سفرهم جنوباً بينما تبع الحشد في الخلف.
158:6.1 (1758.2) مكثوا الليلة مع سيلسوس, وفي ذلك المساء في الحديقة, بعدما تناولوا الطعام وارتاحوا, تجمع الاثنا عشر حول يسوع, وقال توما: "يا سيد, بينما نحن الذين تباطأنا لا نزال جاهلين بما بان على الجبل, والذي أبهج إخواننا الذين كانوا معك كثيراً, نتوق لأن تحدثنا بشأن هزيمتنا وإرشادنا في هذه الأمور, ناظرين بأن تلك الأشياء التي حدثت على الجبل لا يمكن الكشف عنها في هذا الوقت."
158:6.2 (1758.3) وأجاب يسوع توما, قائلاً: "كل ما سمعه إخوانكم على الجبل سيُكشف لكم في الوقت المناسب. لكن سأريكم الآن سبب هزيمتكم في ما حاولتموه بغير حكمة. بينما صعد سيدكم ومرافقيه, إخوانكم, ذلك الجبل البارحة بحثاً عن معرفة أكبر لمشيئة الأب ولطلب هبة أغنى من الحكمة للقيام بتلك المشيئة الإلَهية بشكل فعال, أنتم الذين بقيتم على المراقبة هنا مع إرشادات لتكدوا لاكتساب عقل البصيرة الروحية والصلاة معنا من أجل وحيٍ أكمل لمشيئة الأب, فشلتم في ممارسة الإيمان عند إمرتكم لكن, بدلاً من ذلك, خضعتم للإغراء ووقعتم في ميولكم الشريرة القديمة للبحث لأنفسكم عن أماكن مُفـَّضلة في ملكوت السماء ــ الملكوت المادي والدنيوي الذي تتشبثون في التفكير به. وتتمسكون بهذه المفاهيم الخاطئة بالرغم من الإعلان المتكرر بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم.
158:6.3 (1758.4) "ما أن يُدرك إيمانكم هوية ابن الإنسان, حتى تتسلل رغبتكم الأنانية في التفضيل الدنيوي رجوعاً عليكم, وتقعون في النقاش فيما بينكم حول من ينبغي أن يكون الأعظم في ملكوت السماء, الملكوت الذي, كما تتشبثون في فهمه, ليس موجوداً, ولن يكون أبداً. ألم أخبركم بأن مَن يود أن يكون الأعظم في ملكوت الأخوة الروحية لأبي يجب أن يصبح صغيراً في عيونه الخاصة وبالتالي يصبح خادماً لإخوانه؟ تكمن العظمة الروحية في المحبة المتفهمة التي تشبه الله وليس في التمتع بممارسة القوة المادية من أجل تمجيد الذات. في ما حاولتموه, والذي فشلتم به تماماً, لم يكن هدفكم نقياً. لم يكن دافعكم إلَهياً. ومثالكم لم يكن روحياً. لم يكن طموحكم غيرياً. لم يكن إجراءكم مبنياً على المحبة. ولم يكن هدفكم إحراز مشيئة الأب في السماء.
158:6.4 (1758.5) "إلى متى حتى تتعلمون بأنه لا يمكنكم تقصير الزمن لمسار الظواهر الطبيعية القائمة إلا عندما تكون هذه الأشياء متوافقة مع مشيئة الأب؟ ولا يمكنكم القيام بعمل روحي في غياب القدرة الروحية. ولا يمكنكم فعل أي من هذه, حتى عندما تكون إمكاناتها حاضرة, بدون وجود ذلك العامل البشري الثالث والأساسي, التجربة الشخصية لامتلاك الإيمان الحي. أيجب دائماً أن تكون لديكم تجليات مادية كجذب لحقائق الملكوت الروحية؟ ألا يمكنكم إدراك المغزى الروحي لمهمتي بدون العرض المرئي لأعمال غير عادية؟ متى سيمكن الاعتماد عليكم للإلتزام بالحقائق العليا والروحية للملكوت بدون اعتبار للمظهر الخارجي لجميع التجليات المادية؟"
158:6.5 (1759.1) عندما تكلم يسوع بهذا إلى الاثني عشر, أضاف: "والآن اذهبوا إلى راحتكم, لأننا في الغد سنرجع إلى ماجادان وهناك نتشاور بشأن مهمتنا إلى مدن وقرى المدن-العشرة (الديكابولِس). وفي ختام تجربة هذا اليوم, دعوني أعلن لكل واحد منكم ما قلته لإخوانكم على الجبل, ولتجد هذه الكلمات استحكاماً عميقاً في قلوبكم: ابن الإنسان يدخل الآن على المرحلة الأخيرة من الإغداق. نحن على وشك أن نبدأ تلك الأشغال التي ستؤدي في الوقت الحالي إلى الإختبار الكبير والنهائي لإيمانكم وتكريسكم عندما سيتم تسليمي إلى أيدي الرجال الذين يسعون إلى هلاكي. وتذكروا ما أقوله لكم: سيُحكم على ابن الإنسان بالموت, لكنه سيقوم مرة أخرى."
158:6.6 (1759.2) تقاعدوا من أجل الليل, محزونين. كانوا مذهولين؛ لم يتمكنوا من استيعاب هذه الكلمات. وبينما كانوا يخشون أن يسألوا أي شيء بشأن ما قاله لهم, إلا أنهم تذكروا كل ذلك بعد قيامته.
158:7.1 (1759.3) في وقت مبكر من صباح هذا الأربعاء, رحل يسوع والاثنا عشر من قيصرية-فيليبي إلى منتزه ماجادان بالقرب من بيت-صيدا-يوليوس. لم ينام الرُسل سوى القليل جداً تلك الليلة, لذا كانوا مستيقظين باكراً وعلى استعداد للذهاب. حتى التوأم الألفيوس البليدين صدما بهذا الحديث عن موت يسوع. بينما سافروا جنوباً, مباشرة ما بعد مياه ميروم أتوا إلى طريق دمشق, وراغبين في تجنب الكتبة وغيرهم ممن عرف يسوع أنهم سيأتون حالياً وراءهم, وجَّه بأنهم يجب أن يستمروا إلى كفرناحوم بطريق دمشق الذي يمر عبر الجليل. وقد فعل هذا لأنه عرف بأن أولئك الذين تبعوه سوف ينزلون عبر طريق شرق الأردن لأنهم حسبوا بأن يسوع والرُسل سيخشون العبور خلال أراضي هيرودس أنتيباس. سعى يسوع إلى التملص من منتقديه والحشد الذي تبعه حتى يمكنه أن يكون وحده مع رُسله هذا اليوم.
158:7.2 (1759.4) استمروا في السفر خلال الجليل حتى بعد وقت غذائهم, عندما توقفوا في الظل لينعشوا أنفسهم. وبعد أن تناولوا الطعام, قال أندراوس, مخاطبًا يسوع: "يا سيد, إخواني لا يستوعبون أقوالك العميقة. لقد توصلنا كلياً إلى الإيمان بأنك ابن الله, والآن نسمع هذه الكلمات الغريبة عن تركنا, عن الموت. لا نفهم تعليمك. هل تتكلم إلينا في أمثال؟ نتوسل أن تتكلم إلينا بشكل مباشر وغير مُمَوه."
158:7.3 (1759.5) رداً على أندراوس, قال يسوع: "يا إخواني, لأنكم اعترفتم بأنني ابن الله فأنا مضطر لأن أبدأ في كشف الحقيقة لكم عن نهاية إغداق ابن الإنسان على الأرض. أنتم تصّرون على التمسك بالاعتقاد بأنني المسيح, ولن تتخلوا عن فكرة أن المسيح يجب أن يجلس على عرش في أورشليم؛ لذلك أثابر في إخباركم بأن ابن الإنسان يجب في الحاضر أن يذهب إلى أورشليم, ويكابد أشياء كثيرة, ويُرفَض من قِبل الكتبة, والشيوخ, ورؤساء الكهنة. وبعد كل هذا يُقتـَل ويُقام من من بين الأموات. ولست أتكلم في مَثل إليكم؛ أنا أقول لكم الحقيقة بحيث قد تكونوا مستعدين لهذه الأحداث متى جاءت فجأة علينا." وبينما كان لا يزال يتكلم, اندفع سمعان بطرس, بشكل متهور نحوه, ووضع يده على كتف السيد وقال: "يا سيد, ليكن بعيداً عنا لنتخاصم معك, لكنني أعلن بأن هذه الأشياء لن تحدث لك أبداً."
158:7.4 (1760.1) تكلم بطرس بهذا لأنه أحب يسوع؛ لكن طبيعة السيد البشرية أدركت في هذه الكلمات من المودة الصافية النية الاقتراح الخفي للإغراء بأن يغير سياسته للمتابعة إلى النهاية لمهمة إغداقه الأرضية وفقاً لمشيئة أبيه الفردوسي. ولأنه اكتشف خطر السماح باقتراحات حتى أصدقائه المحبين والموالين لثنيه,فقد استدار إلى بطرس والرُسل الآخرين, قائلاً: "ارجعوا إلى خلفي. أنتم تستمتعون بروح الخصم, المُغري. عندما تتكلمون بهذا الأسلوب, فأنتم لستم إلى جانبي بل بالأحرى إلى جانب عدونا. بهذه الطريقة تجعلون محبتكم لي حجر عثرة أمام فعلي لمشيئة الأب. لا تهتموا بطرق الناس بل بالأحرى بمشيئة الله."
158:7.5 (1760.2) بعد أن تعافوا من الصدمة الأولى لتوبيخ يسوع اللاذع, وقبل أن يستأنفوا رحلتهم, تكلم السيد إضافياً. "إذا كان أي إنسان يود أن يأتي ورائي, دعه يتجاهل نفسه, وليحمل مسؤولياته كل يوم, ويتبعني. لأن كل من سيخلص حياته بأنانية, سيخسرها, لكن كل من يخسر حياته من أجلي ومن أجل الإنجيل, سيخلصها. ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالَم كله وخسر نفسه؟ ما الذي سيعطيه الإنسان مقابل الحياة الأبدية؟ لا تخجلوا مني ومن كلماتي في هذا الجيل الخاطئ والمرائي, حتى كما لن أخجل من الاعتراف بكم عندما أظهر في المجد أمام أبي في حضور كل الجماهير السماوية. مع ذلك, فإن كثيرون منكم الواقفين أمامي الآن لن تذوقوا الموت حتى تروا ملكوت الله هذا يأتي بقوة."
158:7.6 (1760.3) وهكذا أوضح يسوع للاثني عشر الطريق المؤلم والمتضارب الذي يجب أن يسلكوه إذا كانوا يودون اتباعه. أي صدمة كانت هذه الكلمات لهؤلاء الصيادين الجليليين الذين تشبثوا في الحلم بمملكة دنيوية مع مراكز شرف لأنفسهم! لكن قلوبهم الوفية كانت مثارة بهذا الالتماس الشجاع, ولا واحد منهم كان ميالاً ليتخلى عنه. ما كان يسوع ليرسلهم وحدهم إلى الصراع؛ كان يقودهم. طلب فقط أنهم يتبعوه بشجاعة.
158:7.7 (1760.4) ببطء كان الاثنا عشر يستوعبون فكرة أن يسوع كان يخبرهم شيئًا عن إمكانية موته. لقد فهموا بشكل غامض فقط ما قاله عن موته, في حين أن تصريحه عن القيام من الموت فشل تماماً في التسجيل في أذهانهم. مع مرور الأيام, بطرس, ويعقوب, ويوحنا, متذكرين تجربتهم على جبل التجلي, وصلوا لفهم أكمل لبعض هذه الأمور.
158:7.8 (1760.5) في كل ارتباط الاثني عشر مع سيدهم, لم يروا تلك العين الوامضة سوى بضع مرات وسمعوا تلك الكلمات الخاطفة من التوبيخ كالتي وجهت لبطرس وبقيتهم في هذه المناسبة. كان يسوع دائماً صبوراً مع أوجه قصورهم البشرية, لكن ليس كذلك عندما واجهه تهديداً وشيكاً ضد برنامج تنفيذ مشيئة أبيه بثبات فيما يتعلق ببقية مهمته الأرضية. كان الرُسل مبهوتين حرفياً؛ كانوا مندهشين ومروعين. لم يتمكنوا من إيجاد الكلمات للتعبير عن حزنهم. بدأوا يدركون ببطء ما يجب أن يتحمله السيد, وبأنهم يجب أن يخوضوا معه هذه التجارب, لكنهم لم يستيقظوا إلى حقيقة هذه الأحداث القادمة إلا بعد فترة طويلة من هذه التلميحات المبكرة للمأساة الوشيكة لأيامه الأخيرة.
158:7.9 (1761.1) في صمت, بدأ يسوع والاثنا عشر في الرحلة إلى مخيمهم عند منتزه ماجادان, ذاهبون بطريق كفرناحوم. مع حلول فترة ما بعد الظهر, ولو إنهم لم يتحدثوا مع يسوع, تحدثوا كثيراً فيما بينهم بينما تحدث أندراوس مع السيد.
158:8.1 (1761.2) عند دخولهم كفرناحوم مع الشفق, ذهبوا بطرقات فرعية غير مسلوكة إجمالاً مباشرة إلى بيت سمعان بطرس, لتناول وجبة العشاء. بينما استعد داود زَبـِدي ليأخذهم عبر البحيرة, توانوا في منزل سمعان, ويسوع, وهو ينظر إلى بطرس والرُسل الآخرين, سأل: "بينما كنتم تمشون معاً هذه العصرية, عن ماذا تحدثتم بجدية للغاية بينكم ؟" أمسك الرُسل بهدوئهم لأن كثيرين منهم واصلوا النقاش الذي بدأوه في جبل حرمون حول المناصب التي سوف يشغلونها في الملكوت القادم؛ ومن يجب أن يكون الأعظم, وهكذا. يسوع, مدرك ما كان يشغل أفكارهم ذلك اليوم, أومأ إلى واحد من أولاد بطرس الصغار, ومُجلس الطفل بينهم, قال: "الحق, الحق, أقول لكم, إلا إذا عدتم وأصبحتم أكثر شبهاً بهذا الطفل, ستحرزون تقدماً قليلاً في ملكوت السماء. كل من يتواضع ويصبح مثل هذا الصغير, هو نفسه سيصبح الأعظم في ملكوت السماء. وكل من يستقبل مثل هذا الصغير يستقبلني. والذي يستقبلني كذلك يستقبل الذي أرسلني. إذا كنت تود أن تكون الأول في الملكوت, إسعى لتسعف هذه الحقائق الجيدة لإخوانك في الجسد. لكن كل من يتسبب في تعثر احد هؤلاء الصغار, سيكون من الأفضل له لو علق حجر رحى حول عنقه وألقي في البحر, إذا كانت الأشياء التي تفعلها بيديك, أو الأشياء التي تراها بعينيك تعطي إساءة في تقدم الملكوت, ضَّحي بتلك الأصنام العزيزة, لأنه من الأفضل دخول الملكوت ناقص الكثير من الأشياء المحبوبة في الحياة أفضل من التمسك بهذه الأصنام وإيجاد نفسك مغلقاً خارج الملكوت. لكن الأهم من ذلك كله, انظروا بأنكم لا تحتقرون أيًا من هؤلاء الصغار, لأن ملائكتهم دائماً ينظرون إلى وجوه الجماهير السماوية."
158:8.2 (1761.3) عندما انتهى يسوع من الكلام, دخلوا القارب وأبحروا إلى ماجادان.
كِتاب يورانشيا
ورقة 159
159:0.1 (1762.1) عندما وصل يسوع والاثنا عشر إلى منتزه مجادان, وجدوا في انتظارهم مجموعة من ما يقرب من مائة إنجيلي وتلميذ, بما في ذلك كتيبة النساء, وكانوا مستعدين على الفور لبدء جولة الوعظ والتعليم في المدن-العشرة (الديكابولِس).
159:0.2 (1762.2) في صباح هذا الخميس, 18 آب, دعا السيد أتباعه معاً ووَّجه بأن كل واحد من الرُسل يجب أن يرافق أحد الإنجيليين الاثني عشر, وأنهم مع آخرين من الإنجيليين يجب أن ينطلقوا في اثنتي عشرة مجموعة للعمل في مدن وقرى الديكابولِس. وجَّه كتيبة النساء وآخرين من التلاميذ للبقاء معه. خصص يسوع أربعة أسابيع لهذه الجولة, مُرشداً أتباعه أن يعودوا إلى ماجادان في موعد لا يتجاوز يوم الجمعة, 16 أيلول. وعد بزيارتهم كثيراً أثناء هذا الوقت. خلال هذا الشهر, عملت هذه الجماعات الاثنتا عشرة في جيراسا, وغامالا, وهيبوس, وزافون, وجادارا, وأبيلا, وعدري, وفيلادلفيا, وحشبون, وديوم, وسكيثوبولِس, والعديد من المدن الأخرى. طوال هذه الجولة لم تحدث معجزات شفاء أو غيرها من الأحداث غير العادية.
159:1.1 (1762.3) في إحدى الأمسيات في هيبوس, رداً على سؤال أحد التلاميذ, علـَّم يسوع الدرس عن المغفرة. قال السيد:
159:1.2 (1762.4) "إذا كان لدى رجل طيب القلب مائة شاة وضل أحدها, ألا يترك في الحال التسعة والتسعين ويخرج في البحث عن الضال؟ وإن كان راعياً صالحاً, ألا يواصل بحثه عن الخروف الضائع حتى يجده؟ وبعد ذاك, عندما يجد الراعي خروفه الضائع, يضعه على كتفه, ويذهب إلى بيته مبتهجاً, داعياً أصدقائه وجيرانه. ’افرحوا معي, لأني وجدت خروفي الذي كان ضائعاً‘. أعلن بأن هناك فرح في السماء لخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين شخص بار ليسوا بحاجة للتوبة. ومع ذلك, إنها ليست مشيئة أبي في السماء بأن واحداً من هؤلاء الصغار يجب أن يتيه, أكثر بالأقل أن يهلك. في دِينكم قد يستلم الله الخطاة التائبين؛ في إنجيل الملكوت ينطلق الأب ليجدهم حتى قبل أن يفكروا بجدّية في التوبة".
159:1.3 (1762.5) "الأب في السماء يحب أولاده, ولذلك يجب أن تتعلموا أن تحبوا بعضكم بعضاً؛ الأب في السماء يغفر خطاياكم؛ لذلك عليكم أن تتعلموا أن تغفروا لبعضكم البعض. إذا أخطأ أخوك ضدك, اذهب إليه وبلباقة وصبر أظهر له خطأه. وافعل كل هذا بينك وبينه وحدكما. إذا كان سيستمع إليك, تكون قد كسبت أخاك. لكن إذا كان أخوك لن يسمعك, إذا تشبث في خطأ طريقه, اذهب إليه مرة أخرى, مصطحباً معك صديقاً أو اثنين من الأصدقاء المشتركين بحيث يكون لديك شاهدين أو حتى ثلاثة شهود لتأكيد شهادتك وإثبات حقيقة أنك تعاملت بعدل ورحمة مع أخيك المسيء. الآن إذا رفض أن يسمع إخوانك, يمكنك أن تروي كل القصة إلى المجمع, وبعدئذٍ, إذا رفض سماع الأخوة, دعهم يتصرفون كما يرون حكيماً؛ فليصبح مثل هذا العضو صعب المراس منبوذاً من الملكوت. بينما لا يمكنك التظاهر بالجلوس في الحكم على نفوس زملائك, وبينما قد لا تغفر خطايا أو سوى ذلك تفترض اغتصاب صلاحيات المشرفين على الجماهير السماوية, في الوقت نفسه, قد فوض إلى يديك بأنك يجب أن تحافظ على النظام الدنيوي في الملكوت على الأرض. في حين لا يمكنك التدخل بالأوامر الإلَهية بما يخص الحياة الأبدية, يجب عليك تحديد قضايا السلوك كما تختص بالرفاهية الدنيوية للأخوة على الأرض. وهكذا, في كل هذه الأمور المتعلقة بانضباط الأخوة, كل ما تقررونه على الأرض سيكون مُعترفاً به في السماء. على الرغم من أنه لا يمكنكم تحديد المصير الأبدي للفرد, إلا أنه يمكنكم التشريع فيما يتعلق بسلوك الجماعة, لأنه, حيث يتفق اثنان أو ثلاثة منكم بما يخص أي من هذه الأشياء وتسألون مني, سوف تُفعل من أجلكم إذا كانت التماساتكم لا تتعارض مع مشيئة أبي في السماء. وكل هذا دائماً صحيح, لأنه, عندما يجتمع اثنان أو ثلاثة من المؤمنين معاً, هناك أكون في وسطهم."
159:1.4 (1763.1) كان سمعان بطرس المسؤول عن العمال في هيبوس, وعندما سمع يسوع يتكلم هكذا, سأل: "يا رب, كم مرة يجب على أخي أن يخطئ ضدي, وأسامحه؟ هل حتى سبع مرات؟" فأجاب يسوع بطرس: "ليس حتى سبع مرات فقط بل حتى إلى سبع وسبعين مرة. لذلك يمكن تشبيه ملكوت السماء بملك معين الذي أمر وكلائه بالحساب المالي. وعندما بدأوا في إجراء فحص الحسابات هذا, تم إحضار أحد كبار خدمته أمامه معترفاً بأنه مدين لملكه بعشرة آلاف وزنة. الآن احتج هذا الضابط لبلاط الملك بأن أوقاتاً صعبة قد مرت عليه, وأنه ليس لديه ما يدفع به هذا الإلتزام. وهكذا أمر الملك بمصادرة أملاكه, وبأن يُباع أولاده لتسديد دَينه. عندما سمع رئيس الخراج هذا المرسوم الصارم, سقط على وجهه أمام الملك وناشده أن يرحمه ويمنحه المزيد من الوقت, قائلاً, ’يا ربي, اصبر قليلاً معي, وسأدفع لك الكل‘. ولما نظر الملك إلى هذا الخادم المهمل وعائلته, رق قلبه بالشفقة. وأمر بأن يُخلى سبيله, وبأن يُسقط الدَين بالكامل.
159:1.5 (1763.2) "ورئيس الخراج هذا, بعد أن نال هكذا رحمة وغفران على يدي الملك, ذهب لشغله, ووجد واحداً من الوكلاء التابعين له الذي كان يدين له بمئة دينار فقط, أمسك به, وآخذاً إياه من الحلق, قال, ’ادفع لي كل ما عليك‘ وعندئذٍ سقط هذا الزميل الوكيل أمام رئيس الوكلاء, ومتضرعاً إليه, قال: ’فقط كن صبوراً معي, وفي الحاضر سأكون قادراً على الدفع لك‘. لكن رئيس الوكلاء لم يبدي رحمة لهذا الوكيل الزميل بل ألقاه في السجن إلى أن يدفع دَينه. عندما رأى رفاقه الخدم ما حدث, شعروا بالأسى لدرجة أنهم ذهبوا إلى ربهم وسيدهم, الملك. عندما سمع الملك بأفعال رئيس وكلاء الخراج هذا, دعا هذا الرَجل الجاحد الذي لا يرحم أمامه وقال: ’أنت وكيل خراج شرير وغير مستحق. عندما طلبت الرحمة, سامحتك بحرية بكل دَينك. لماذا لم تُظهر رحمة أيضاً إلى زميلك الوكيل, حتى كما أظهرت رحمة إليك؟‘ وكان الملك غاضباً جداً لدرجة أنه سلـَّم رئيس وكلاء الخراج الجاحد إلى السجانين حتى يتمكنوا من احتجازه إلى أن يدفع كل ما كان مستحقاً. وحتى هكذا سيُظهر أبي السماوي الرحمة الأكثر وفرة لأولئك الذين يُظهرون رحمة إلى زملائهم بحرية. كيف يمكنكم المجيء إلى الله سائلين مراعاة تقصيراتكم عندما تكونون في عادة معاقبة إخوانكم لأنهم مذنبون بنفس نقاط الضعف البشرية هذه؟ أقول لكم جميعاً: مجانا نلتم خيرات الملكوت؛ لذلك مجاناً أعطوا إلى زملائكم على الأرض."
159:1.6 (1764.1) هكذا علـَّم يسوع الأخطار واوضح ظلم الجلوس في الحكم الشخصي على زملاء المرء. يجب الحفاظ على الإنضباط, يجب إقامة العدل, لكن في كل هذه الأمور يجب أن تسود حكمة الأخوة. وظف يسوع السُلطة التشريعية والقضائية في الجماعة وليس في الفرد. حتى هذا التوظيف للسُلطة في الجماعة يجب ألا يُمارس كسُلطة شخصية. هناك دائماً خطر بأن تكون فتوى الفرد مشوهة بالتحيز ومحرفة بالهوى. من المرجح أكثر أن يؤدي حكم المجموعة إلى إزالة المخاطر والقضاء على ظلم التحيز الشخصي. لقد سعى يسوع دائمًا إلى تقليل عناصر عدم الإنصاف, ومقابلة الأذى بمثله, والثأر.
159:1.7 (1764.2) [إن استخدام المصطلح سبعة وسبعون كتصوير للرحمة وطول الأناة كان مُشتقاً من الكتابات المقدسة المشيرة إلى تهلل لاماك بسبب الأسلحة المعدنية لابنه توبال-قايين, الذي, مقارناً هذه الأدوات المتفوقة مع تلك لأعدائه, هتف: "إذا انتقم قايين, بدون سلاح في يده, سبع مرات, أنا الآن سأنتقم سبع وسبعين."]
159:2.1 (1764.3) ذهب يسوع إلى غامالا لزيارة يوحنا وأولئك الذين عملوا معه في ذلك المكان. في ذلك المساء, بعد جلسة الأسئلة والأجوبة, قال يوحنا ليسوع: "يا سيد, ذهبت البارحة إلى عشتروت لرؤية رجل كان يُعَّلم باسمك وحتى يدَّعي أنه قادر على طرد العفاريت. الآن هذا الزميل لم يكن معنا قط, ولا هو يتبعنا؛ لذلك منعته من فعل هذه الأشياء". عند ذاك قال يسوع: "لا تمنعه. ألا تدرك بأن إنجيل الملكوت هذا سيُعلَن في الحاضر في كل العالَم؟ كيف يمكنك أن تتوقع بأن كل الذين سيؤمنون في الإنجيل سيكونون خاضعين لتوجيهك؟ افرح بأن تعليمنا قد بدأ تواً ليُظهر ذاته ما وراء حدود تأثيرنا الشخصي. ألا ترى, يا يوحنا, أن أولئك الذين يدعون القيام بأعمال عظيمة باسمي يجب في النتيجة أن يدعموا قضيتنا؟ هم بالتأكيد لن يسارعوا في التحدث عني بالشر. يا بني, في أمور من هذا النوع سيكون من الأفضل لك أن تحسب بأن من ليس ضدنا هو معنا. في أجيال لتأتي سيفعل الكثير من غير المستحقين بالكامل الكثير من الأشياء الغريبة باسمي, لكنني لن أمنعهم. أقول لك بأنه, حتى عندما يُعطى فنجان ماء بارد لنفـْس عطشى, فإن رسل الأب سوف يسجلون دائماً مثل هذه الخدمة من المحبة".
159:2.2 (1764.4) حيرت هذه التعليمات يوحنا كثيراً. ألم يسمع السيد يقول, "من ليس معي فهو ضدي؟" ولم يدرك بأن يسوع كان يشير في هذه الحالة إلى علاقة الإنسان الشخصية بالتعاليم الروحية للملكوت, بينما في الحالة الأخرى تمت الإشارة إلى العلاقات الاجتماعية الظاهرية والبعيدة المدى للمؤمنين فيما يتعلق بمسائل الرقابة الإدارية والاختصاص القضائي لجماعة واحدة من المؤمنين فوق عمل جماعات أخرى التي من شأنها أن تشكل في نهاية المطاف الأخوة العالمية القادمة.
159:2.3 (1765.1) لكن يوحنا تذكر مراراً هذه التجربة في علاقة مع أشغاله اللاحقة لمصلحة الملكوت. مع ذلك, في كثير من الأحيان فقد انتقد الرسل مرات عديدة أولئك الذين تجرأوا على التدريس باسم السيد. بالنسبة لهم بدا دائماً أنه من غير المناسب أن يجرؤ أولئك الذين لم يجلسوا أبداً عند قدمي يسوع على التدريس باسمه.
159:2.4 (1765.2) هذا الرجل الذي نهاه يوحنا عن التعليم والعمل باسم يسوع لم يلتفت إلى إيعاز الرسول. واصل جهوده وأنشأ جماعة معتبرة من المؤمنين في كاناتا قبل الذهاب إلى بلاد ما بين النهرين. هذا الرجل, عادن, كان قد أُرشد إلى الإيمان بيسوع من خلال شهادة الرجل المجنون الذي شفاه يسوع بالقرب من خِريسا, والذي آمن بثقة أن الأرواح الشريرة المفترضة التي أخرجها السيد دخلت قطيع الخنازير ودفعتهم فوق الجرف إلى هلاكهم.
159:3.1 (1765.3) في عدري, حيث عمل توما ورفاقه, أمضى يسوع يوماً وليلة, وأثناء مناقشة المساء, أعطى تعبيراً عن المبادئ التي ينبغي أن ترشد أولئك الذين يعظون الحقيقة, والتي يجب أن تنـَّشط كل الذين يعَّلمون إنجيل الملكوت. مُلخصة ومعاد إعلانها في نص حديث, علـَّم يسوع:
159:3.2 (1765.4) دائماً احترم شخصية الإنسان. لا ينبغي أبداً تعزيز قضية صالحة بالإكراه؛ لا يمكن الفوز بالانتصارات الروحية إلا بالقوة الروحية. هذا الإيعاز ضد توظيف التأثيرات المادية يشير إلى القوة العقلية وكذلك إلى القوة الجسدية. لا ينبغي استخدام الحجج المرهبة والتفوق العقلي لإجبار الرجال والنساء على دخول الملكوت. ليس عقل الإنسان ليكون مسحوقاً بمجرد ثقل المنطق أو أن يُرهب بالبلاغة الحاذقة. في حين أن العاطفة كعامل في القرارات البشرية لا يمكن إلغاؤها بالكامل, لا يجب الالتجاء إليها مباشرة في تعليم أولئك الذين سيعززون قضية الملكوت. اجعل مناشداتك مباشرة إلى الروح الإلَهي الذي يسكن عقول الناس. لا تلجأ إلى الخوف, أو الشفقة, أو مجرد العاطفة. في مناشدة الناس, كن منصفاً؛ مارس ضبط التحكم-الذاتي واعرض ضبط النفس المستحق؛ اُظهر الاحترام اللائق لشخصيات تلاميذك. تذكَّر بأنني قلت: "انظروا, أنا أقف عند الباب وأقرع, وإذا أي إنسان سيفتح, سآدخل."
159:3.3 (1765.5) في جلب الناس نحو الملكوت, لا تقلل من احترامهم لذاتهم أو تدمره. في حين أن الإفراط في احترام الذات قد يدمر التواضع اللائق وينتهي في الفخر, والغرور, والغطرسة, غالباً ما ينتهي فقدان احترام الذات في شل المشيئة. إن الغرض من هذا الإنجيل هو إعادة احترام الذات لأولئك الذين خسروه وكبحه في أولئك الذين يمتلكونه. لا ترتكب خطأ إدانة الأخطاء فقط في معايش تلاميذك؛ تذكَّر أيضاً أن تمنح تقديرًا سخيًا لأكثر الأشياء التي تستحق الثناء في حياتهم. لا تنسى بأنني لن أتوقف عند أي شيء لاستعادة احترام الذات لأولئك الذين خسروه, والذين يرغبون حقاً في استعادته.
159:3.4 (1765.6) احذر ألا تجرح احترام الذات للنفوس الخجولة والخائفة. لا تنغمس في التهكم على حساب إخواني ذوي العقلية البسيطة. لا تسخر من أولادي الممتطين بالخوف. البطالة مدمرة لاحترام الذات؛ لذلك, وجه إخوانك أن يظلوا منشغلين دائماً في مهنهم التي اختاروها, وابذل كل جهد لتأمين عمل لأولئك الذين يجدون أنفسهم دون عمل.
159:3.5 (1766.1) لا تكن مذنباً أبداً بمثل هذه التكتيكات غير جديرة كالسعي لتخويف الرجال والنساء نحو الملكوت. الأب المحب لا يخيف أولاده لإطاعة متطلباته العادلة.
159:3.6 (1766.2) في وقت ما سيدرك أبناء الملكوت بأن المشاعر القوية للعاطفة لا تعادل قيادات الروح الإلَهي. أن تتأثر بشكل قوي وغريب لفعل شيء ما أو للذهاب إلى مكان معين, لا يعني بالضرورة بأن هذه الدوافع هي قيادات الروح الساكن.
159:3.7 (1766.3) حذر كل المؤمنين بما يخص هامش الصراع الذي يجب اجتيازه من قِبل كل الذين يعبرون من الحياة كما تُعاش في الجسد إلى الحياة الأعلى كما تُعاش في الروح. بالنسبة لأولئك الذين يعيشون بشكل كامل داخل أي من المجالين, هناك القليل من الصراع أو الارتباك, لكن الجميع محكوم عليهم بتجربة قدر أكبر أو أقل من عدم اليقين أثناء أوقات الانتقال بين المستويين من المعيشة. عند دخول الملكوت, لا يمكنك التهرب من مسؤولياته أو تحاشي التزاماته, لكن تذكَّر: نير الإنجيل هين وعبئ الحق خفيف.
159:3.8 (1766.4) العالَم مليء بنفوس جائعة التي تجوع في ذات الحضور لخبز الحياة؛ يموت الناس باحثين عن الله ذاته الذي يسكن داخلهم. يسعى الناس للحصول على كنوز الملكوت بقلوب متلهفة وأقدام مُتعبة عندما يكونون جميعًا في المتناول المباشر للإيمان الحي. الإيمان هو إلى الدِين ما الأشرعة هي إلى السفينة؛ إنه إضافة للقدرة, ليس عبئاً إضافياً للحياة. ليس هناك سوى كفاح واحد لأولئك الذين يدخلون الملكوت, وذلك لخوض جهاد الإيمان الصالح. لدى المؤمن معركة واحدة فقط, وتلك هي ضد الشك ــ عدم الإيمان.
159:3.9 (1766.5) في وعظ إنجيل الملكوت, أنت ببساطة تعَّلم الصداقة مع الله. وهذه الزمالة ستروق للرجال والنساء على حد سواء لأن كلاهما سيجد ما يُرضي حقاً مُثلهما وأشواقهما المميزة. اخبر أولادي بأني لست فقط ليناً لمشاعرهم وصبوراً مع ضعفهم, لكنني أيضًا عديم الرأفة مع الخطيئة وغير متسامح مع الظلم. أنا في الحقيقة وديع ومتواضع في حضرة أبي, لكنني على قدم المساواة بدون رحمة وعنيد حيث يوجد شر متعمد وتمرد خاطئ ضد مشيئة أبي في السماء.
159:3.10 (1766.6) يجب ألا تصَّوروا معلمكم كرَجل أحزان. ستعرف الأجيال المستقبلية أيضًا إشراقة فرحنا, ونشاط نوايانا الصالحة, وإلهام روح الفكاهة الجيدة لدينا. نحن نعلن عن رسالة بشرى سارة التي هي مُعدْية في قدرتها المحَّولة. ديننا ينبض بحياة جديدة ومعاني جديدة. أولئك الذين يقبلون هذا التعليم ممتلئون بالفرح وفي قلوبهم مجبرون على الفرح إلى الأبد. السعادة المتزايدة هي دائماً تجربة كل الذين هم على يقين من الله.
159:3.11 (1766.7) علـِّم جميع المؤمنين أن يتجنبوا الاتكاء على الدعائم غير الآمنة للتعاطف الزائف. لا يمكنك إنشاء سجايا قوية من الانغماس في الشفقة- على الذات؛ اسعى بأمانة لتجنب التأثير الخادع لمجرد الزمالة في التعاسة. قدم تعاطفاً إلى الشجاع والجريء بينما تُمسك الشفقة المفرطة عن تلك النفوس الجبانة التي تقف فقط بهمة فاترة أمام تجارب الحياة. لا تقدم العزاء لأولئك الذين يستلقون أمام مشاكلهم بدون كفاح. لا تتعاطف مع زملائك لمجرد أنهم قد يتعاطفون معك في المقابل.
159:3.12 (1766.8) متى أصبح أولادي مرة مدركي-الذات لتأكيد الحضور الإلَهي, فإن مثل هذا الإيمان سوف يوسع العقل, ويُشَّرف النفـْس, ويعزز الشخصية, ويزيد السعادة, ويُعَّمق الإدراك الروحي, ويُعزز القدرة للمحبة ولتكون محبوباً.
159:3.13 (1767.1) علم جميع المؤمنين أن أولئك الذين يدخلون الملكوت ليسوا محصنين ضد حوادث الزمن أو كوارث الطبيعة الاعتيادية. إن الإيمان بالإنجيل لن يمنع الوقوع في المتاعب, لكنه سيضمن بأنك لن تكون خائفاً عندما تباغتك المشاكل. إذا كنت تجرؤ على الإيمان بي وباشرت لتتبعني بكل إخلاص, فمن المؤكد أنك بذلك ستدخل على المسار المؤكد للمتاعب. أنا لا أعد بأن أخلصك من مياه الشدائد, لكنني أعد بالذهاب معك خلالها كلها.
159:3.14 (1767.2) وأكثر من ذلك بكثير علـَّم يسوع هذه الجماعة من المؤمنين قبل أن يستعدوا من أجل نوم الليل. والذين سمعوا هذه الأقوال اكتنزوها في قلوبهم وكثيراً ما تلوها لأجل تهذيب الرُسل والتلاميذ الذين لم يكونوا حاضرين عندما قيلت.
159:4.1 (1767.3) وبعد ذلك ذهب يسوع إلى أبيلا, حيث كان نثانئيل ورفاقه يعملون. كان نثانئيل منزعجاً كثيراً من بعض تصريحات يسوع التي بدت وكأنها تنتقص من سلطة الكتب المقدسة العبرية المعترف بها. بناء على ذلك, في هذه الليلة, بعد الفترة المعتادة للأسئلة والأجوبة, أخذ نثانئيل يسوع بعيداً عن الآخرين وسأل: "يا سيد, أيمكنك أن تثق بي لمعرفة حقيقة الكتابات المقدسة؟ ألاحظ بأنك تعلمنا فقط جزءًا من الكتابات المقدسة ــ الأفضل كما أراها ــ وأستنتج بأنك ترفض تعاليم الحاخامات من حيث أن كلمات الشريعة هي كلمات الله ذاتها, حيث إنك كنت مع الله في السماء حتى قبل أزمنة إبراهيم وموسى. ما هي حقيقة الكتابات المقدسة؟" عندما سمع يسوع سؤال رسوله الحائر, أجاب:
159:4.2 (1767.4) "نثانئيل, أنت حكمت بالحق؛ أنا لا أعتبر الكتابات المقدسة كما يفعل الحاخامات. سأتكلم معك عن هذا الأمر على شرط أنك لا تروي هذه الأشياء إلى إخوانك, الذين ليسوا جميعاً على استعداد لتلقي هذا التعليم. لم تكن كلمات شريعة موسى وتعاليم الكتابات المقدسة موجودة قبل إبراهيم. فقط في أزمنة حديثة جُمّعت الكتابات المقدسة معاً كما هي لدينا الآن. بينما تحتوي على الأفضل من أعلى أفكار وأشواق الشعب اليهودي, إلا أنها تحتوي أيضاً الكثير مما هو بعيد عن كونه ممثلاً لسجية وتعاليم الأب في السماء؛ لأجل ذلك يجب أن أختار من بين أفضل التعاليم تلك الحقائق التي يجب استخلاصها من أجل إنجيل الملكوت.
159:4.3 (1767.5) "هذه الكتابات هي عمل أناس, بعضهم رجال مقدسون, وبعضهم الآخر ليس مقدساً تماماً. تمثل تعاليم هذه الكتب وجهات نظر ومدى استنارة الأزمنة التي نشأت فيها. كوحيٍ للحق, فإن الأخيرة يمكن الاعتماد عليها أكثر من الأولى. الكتابات المقدسة معيبة وجملةً إنسانية في الأصل, لكن لا تخطئ, فهي تشكل أفضل مجموعة من الحكمة الدِينية والحقيقة الروحية التي يمكن العثور عليها في كل العالَم عند هذا الوقت.
159:4.4 (1767.6) "الكثير من هذه الكُتب لم تُكتَب من قبل الأشخاص الذين تحمل أسماءهم, لكن هذا لا ينتقص بأي حال من الأحوال من قيمة الحقائق التي تحتويها. إذا كانت قصة يونان لا ينبغي أن تكون حقيقة, حتى لو لم يكن يونان قد عاش قط, فما تزال الحقيقة العميقة لهذه الرواية, محبة الله لنينوى وما يسمى بالوثنيين, لن تكون أقل قيمة في نظر كل أولئك الذين يحبون زملاءهم الناس. الكتابات المقدسة مقدسة لأنها تمثل أفكار وأعمال أناس كانوا يبحثون عن الله, والذين تركوا في هذه الكتابات سجل أعلى مفاهيمهم عن البر, والحق, والقداسة. تحتوي الكتابات المقدسة على الكثير مما هو صحيح, إلى حد كبير, لكن في ضوء تعاليمك الحالية, فأنت تعلم بأن هذه الكتابات تحتوي أيضًا على الكثير مما يمثل تعبيراً خاطئاً عن الأب في السماء, الله المُحب الذي جئت لأكشفه لكل العالمين.
159:4.5 (1768.1) "نثانئيل, لا تسمح لنفسك أبدًا للحظة واحدة أن تصدق سجلات الكتابات المقدسة التي تخبرك بأن إله المحبة وجَّه أجدادك للخروج في معركة ليذبحوا كل أعدائهم ــ رجالاً, ونساءً, وأطفالًا. مثل هذه السجلات هي كلمات أناس, ليس أناس مقدسين كثيراً, وليست كلمة الله. كانت الكتابات المقدسة دائماً, وستظل تعكس الوضع الفكري, والأخلاقي, والروحي لأولئك الذين صنعوها. ألم تلاحظ بأن المفاهيم عن يهوه تنمو في جَمال ومجد بينما يسجل الأنبياء سجلاتهم من صموئيل إلى إشعياء؟ ويجب أن تتذكر بأن الكتابات المقدسة مقصودة من أجل التعليم الدِيني والإرشاد الروحي. هي ليست أعمال المؤرخين أو الفلاسفة.
159:4.6 (1768.2) " أكثر ما يؤسف له ليس مجرد هذه الفكرة الخاطئة عن الكمال المُطلق لسجل الكتابات المقدسة وعصمة تعاليمها, بل بالأحرى سوء التفسير المربك لهذه الكتابات المقدسة من قبل الكتبة والفريسيين المستعبَدين-للتقاليد في أورشليم. والآن سيوظفون كلاً من مذهب إلهام الكتابات المقدسة وتفسيراتهم الخاطئة لها في جهودهم الحثيثة لمقاومة هذه التعاليم الأحدث لإنجيل الملكوت. نثانئيل, لا تنس أبداً, أن الأب لا يحد من إعلان الحق لأي جيل واحد أو أي شعب واحد. العديد من الباحثين الجادين عن الحق كانوا, وسيظلون, مرتبكين ومحبطين بهذه المذاهب الخاصة بكمال الكتابات المقدسة.
159:4.7 (1768.3) "مرجعية الحق هي ذات الروح الذي يسكن تجلياته الحية, وليس الكلمات الميتة لرجال جيل آخر أقل تنويراً وبافتراض مُلهَم. وحتى او كان هؤلاء الرجال المقدسين من القدم قد عاشوا معايش مُلهمة وملآنة بالروح, فذلك لا يعني بأن كلماتهم كانت بالمثل مُلهمة روحياً. اليوم نحن لا نجعل أي سجل لتعاليم إنجيل الملكوت هذا لئلا, عندما أكون قد رحلت, تصبحون بسرعة منقسمين إلى مجموعات متنوعة من المتنازعين على الحق كنتيجة لتنوع تفسيراتكم لتعاليمي. من أجل هذا الجيل من الأفضل أن نعيش هذه الحقائق بينما نتجنب صنع السجلات.
159:4.8 (1768.4) "لاحظ كلماتي جيداً, يا نثانئيل, لا شيء مسّته الطبيعة البشرية يمكن اعتباره منزهاً عن الخطأ. من خلال عقل الإنسان, قد تضيء الحقيقة الإلَهية بالفعل, لكن دائماً ما تكون ذات نقاء نسبي وألوهية جزئية. قد يتوق المخلوق إلى العصمة, لكن الخالقين فقط يمتلكونها.
159:4.9 (1768.5) "لكن الخطأ الأكبر في التعليم عن الكتابات المقدسة هو الاعتقاد بكونها كُتباً مختومة من الغموض والحكمة التي لا يجرؤ على تفسيرها سوى العقول الحكيمة للأمة. ليست كشوف الحقيقة الإلَهية مختومة إلا بسبب الجهل البشري, والتعصب, وعدم التسامح الضيق- الأفق. نور الكتابات المقدسة يخفته التحيز ويظلم بالخرافات فقط. الخوف الكاذب من القداسة منَع الدِين من أن يكون محروساً بالفطرة السليمة. الخوف من سلطة كتابات الماضي المقدسة يمنع بشكل فعال النفوس الصادقة لليوم من قبول النور الجديد للإنجيل, النور الذي تاق لرؤيته بشدة هؤلاء الناس العارفين الله من جيل آخر.
159:4.10 (1769.1) "لكن السمة الأتعس هي حقيقة أن بعض معلمي قدسية هذه التقاليد يعرفون هذه الحقيقة بالذات. إنهم يفهمون تماماً هذه القيود في الكتاب المقدس بشكل أو بآخر, لكنهم جبناء أخلاقيين, وغير أمناء فكرياً, يعرفون الحقيقة بشأن الكتابات المقدسة, لكنهم يُفـَّضلون حجب مثل هذه الحقائق المزعجة عن الناس. وهكذا يحرفون ويشوهون الكتابات المقدسة, جاعلينها دليلًا لتفاصيل مستعبدة للحياة اليومية وسلطة في الأمور غير الروحية بدلاً من الالتجاء إلى الكتابات المقدسة كمستودع للحكمة الأخلاقية, والإلهام الدِيني, والتعليم الروحي, لأناس عارفين الله من أجيال أخرى."
159:4.11 (1769.2) كان نثانئيل مستنيراً, ومصدوماً, ببيان السيد. لقد تأمل طويلاً في هذا الحديث في أعماق نفـْسه, لكنه لم يخبر أي إنسان بشأن هذا المؤتمر إلا بعد صعود يسوع؛ وحتى عند ذاك خاف أن يبَّلغ القصة الكاملة لإرشاد السيد.
159:5.1 (1769.3) في فيلادلفيا, حيث كان يعقوب يعمل, علـَّم يسوع التلاميذ عن الطبيعة الإيجابية لإنجيل الملكوت. عندما, في سياق ملاحظاته ألمح بأن بعض أجزاء الكتابات المقدسة كانت تحتوي على الحقيقة أكثر من أخرى ونصح سامعيه بأن يُطعموا نفوسهم أفضل الأطعمة الروحية, قاطع يعقوب السيد, سائلاً: "هل تود أن تكون جيداً بما فيه الكفاية, يا سيد, لتقترح علينا كيف يمكننا اختيار أفضل المقاطع من الكتابات المقدسة من أجل تهذيبنا الشخصي؟" فأجاب يسوع: "نعم, يا يعقوب, عندما تقراً الكتابات المقدسة إبحث عن تلك التعاليم الصحيحة أبدياً والجميلة إلَهياً, مثل:
159:5.2 (1769.4) ’أخلق فيَ قلباً نقياً, يا رب.
159:5.3 (1769.5) ’الرب راعيَ؛ فلا يعوزني شيء.
159:5.4 (1769.6) ’يجب أن تحب جارك مثل نفسك.
159:5.5 (1769.7) ’لأني أنا, الرب إلَهك, سأمسك بيمينك, قائلاً, لا تخف؛ سأساعدك.
159:5.6 (1769.8) ’ولن تتعلم الأمم الحرب بعد الآن."
159:5.7 (1769.9) وهذا يوضح الطريقة التي فرز بها يسوع, يوماً بعد يوم, قشدة الكتابات المقدسة العبرية من أجل إرشاد أتباعه ومن أجل احتوائها في تعاليم الإنجيل الجديد للملكوت. كانت أديان أخرى قد اقترحت فكرة قرب الله من الإنسان, لكن يسوع جعل رعاية الله للإنسان مثل هاجس أب مُحب لرفاهية أطفاله المعتمدين عليه ثم جعل هذا التعليم حجر الزاوية لدِينه. وهكذا فإن عقيدة الأبوة الإلهية تجعل ممارسة أخوة الإنسان حتمية. أصبحت عبادة الله وخدمة الإنسان مجموع دِينه وجوهره. أخذ يسوع أفضل ما في الدِيانة اليهودية وترجمها إلى تنضيد جدير في التعاليم الجديدة لإنجيل الملكوت.
159:5.8 (1769.10) وضع يسوع روح العمل الإيجابي في العقائد السلبية للدِين اليهودي. بدلاً من الامتثال السلبي للمتطلبات الاحتفالية, أوصى يسوع بالأفعال الإيجابية لما تطلبه دِينه الجديد من أولئك الذين قبلوه. لم يتألف دين يسوع من الإيمان فحسب, بل فعلياً في فعل, تلك الأشياء التي تطلبها الإنجيل. هو لم يعَّلم بأن جوهر دِينه تألف في الخدمة الاجتماعية, بل بالأحرى بأن الخدمة الاجتماعية كانت إحدى التأثيرات الأكيدة لامتلاك روح الدِين الحقيقي.
159:5.9 (1770.1) لم يتردد يسوع في ملاءمة النصف الأفضل من الكتابات المقدسة بينما رفض الجزء الأقل. نصيحته العظيمة, "احب جارك مثل نفسك." أخذها من الكتابات المقدسة التي تقرأ: "يجب أن لا تنتقم من أبناء شعبك, لكن يجب أن تحب جارك مثل نفسك." استنسب يسوع الجزء الإيجابي من هذه الكتابات المقدسة بينما رفض الجزء السلبي. هو حتى عارض عدم المقاومة غير الفعالة أو السلبية البحتة. قال: "عندما يضربك عدو على أحد الخدود, لا تقف هناك أبكم وسلبي لكن في موقف إيجابي حَّول له الآخر؛ أي, إبذل قصارى الجهد الممكن لتقود أخيك الذي في خطأ بعيداً عن مسارات الشر نحو الطرق الأفضل للعيش البار." تطلب يسوع من أتباعه أن يتفاعلوا بإيجابية وبجهاد مع كل موقف حياة. تحويل الخد الآخر, أو أي تصرف آخر قد يمثله, يتطلب مبادرة, ويستلزم تعبيراً قوياً, ونشيطاً, وشجاعاً لشخصية المؤمن.
159:5.10 (1770.2) لم يحبذ يسوع ممارسة الخضوع السلبي لإهانات أولئك الذين قد يسعون لفرضها عمداً على ممارسي عدم المقاومة للشر, لكن بأن أتباعه يجب أن يكونوا حكماء ومتنبهين في رد الفعل السريع والإيجابي من الخير للشر إلى الغاية بحيث يمكنهم التغلب على الشر بالخير بشكل فعال. لا تنس, أن الخير الحقيقي هو دائماً أقوى من الشر الأكثر خبثثاً. علـَّم السيد معياراً إيجابياً للبر: "كل من يرغب بأن يكون تلميذي, ليتغاضى عن نفسه ويأخذ المكيال الكامل لمسؤولياته يومياً ليتبعني." وهكذا عاش هو نفسه في أنه "ذهب يفعل الخير." وقد تم توضيح هذا الجانب من الإنجيل بشكل جيد من خلال العديد من الأمثال التي قالها لاحقاً لأتباعه. لم يحض أتباعه أبداً على تحمل واجباتهم بصبر بل بالأحرى ليعيشوا بـِطاقة وحماس إلى المقدار الكامل لمسؤولياتهم البشرية وامتيازاتهم الإلَهية في ملكوت الله.
159:5.11 (1770.3) عندما أوعز يسوع إلى رُسله بأنهم, عندما أخذ أحد ما المعطف بغير حق, يجب أن يقدموا له الثوب الآخر, هو لم يشير كثيراً بالمعنى الحرفي إلى معطف ثاني كفكرة لفعل شيء إيجابي لتخليص فاعل الشر في مكان النصيحة القديمة لمقابلة المثل بالمثل ــ "العين بالعين" وهكذا. استنكر يسوع كل من فكرة الثأر أو أن يصبح مجرد مُعاني سلبي للظلم أو ضحية له. في هذه المناسبة علـَّمهم الطرق الثلاث لمواجهة الشر ومقاومته:
159:5.12 (1770.4) 1. رد الشر بالشر ــ الأسلوب الإيجابي إنما غير الصائب.
159:5.13 (1770.5) 2. لمعاناة الشر دون تذمر ودون مقاومة ــ الأسلوب السلبي البحت.
159:5.14 (1770.6) 3. رد الخير مقابل الشر, لتأكيد المشيئة بحيث يصبح سيد الموقف, للتغلب على الشر بالخير ــ الأسلوب الإيجابي والصائب.
159:5.15 (1770.7) أحد الرُسل سأل مرة: "يا سيد, ماذا أفعل إذا أجبرني غريب على حمل حمله لمسافة ميل؟" أجاب يسوع: "لا تجلس وتتنهد من أجل الراحة بينما تعنف الغريب تحت أنفاسك. البر لا يأتي من مثل هذه المواقف السلبية. إذا كنت لا تستطيع التفكير في شيء أكثر إيجابية للقيام به, فيمكنك على الأقل حمل الحمل ميلاً ثانياً. ذلك بالتأكيد سيتحدى الغريب الكافر والعديم الاستقامة."
159:5.16 (1770.8) كان اليهود قد سمعوا عن إله يغفر للخطاة التائبين ويُحاول نسيان إساءاتهم, لكن ليس حتى مجيء يسوع, سمع الناس عن إله الذي ذهب بحثاً عن خراف ضالة, الذي يأخذ زمام المبادرة في البحث عن الخاطئين, والذي تهلل عندما وجدهم راغبين للعودة إلى منزل الأب. هذه الملاحظة الإيجابية في الدِين مددها يسوع حتى إلى صلواته. وبدَّلَ القاعدة الذهبية السلبية إلى تحذير إيجابي للعدالة الإنسانية.
159:5.17 (1771.1) في كل تعاليمه, تجنب يسوع بثبات التفاصيل المشتتة للانتباه. اجتنب اللغة المنمقة وتحاشى التصوير الشعري الصرف للتلاعب بالكلمات. كانت عادته وضع معاني كبيرة في تعبيرات صغيرة. لأغراض التوضيح, عكَسَ يسوع المعاني الجارية للعديد من المصطلحات, مثل الملح, والخميرة, وصيد الأسماك, والأولاد الصغار. وظف التباين بمنتهى الفعالية, حيث قارن الدقيق باللامتناهي وما إلى ذلك. كانت تصويراته ملفتة للنظر, مثل, "الأعمى يقود الأعمى." لكن أعظم قوة يمكن العثور عليها في تعاليمه التوضيحية كانت عدم تكلفها. جلب يسوع فلسفة الدِين من السماء نزولاً إلى الأرض. قام بتصوير الاحتياجات الجوهرية للنفـْس ببصيرة جديدة وإغداق جديد للعاطفة.
159:6.1 (1771.2) كانت مهمة الأربعة أسابيع في المدن-العشرة ناجحة إلى حد ما. تم استلام مئات من النفوس في الملكوت, وكان لدى الرُسل والإنجيليين تجربة قيَّمة في القيام بعملهم بدون إلهام الحضور الشخصي المباشر ليسوع.
159:6.2 (1771.3) في يوم الجمعة, 16 أيلول, تجَّمعت كتيبة العمال بأكملها بترتيب مُسبق عند منتزه مجادان. في يوم السبت عُقد مجلس يضم أكثر من مائة مؤمن تم فيه النظر بالكامل في الخطط المستقبلية لتوسيع عمل الملكوت. كان رسل داود حاضرين وقدموا تقارير عن رفاهية المؤمنين في كل أنحاء يهودا, والسامره, والجليل, والمناطق المجاورة.
159:6.3 (1771.4) قلة من أتباع يسوع في هذا الوقت قدَّروا تماماً القيمة العظيمة لخدمات كتيبة الرسل. لم يقتصر الأمر على قيام الرسل بإبقاء المؤمنين في جميع أنحاء فلسطين على اتصال مع بعضهم البعض ومع يسوع والرُسل, لكن خلال هذه الأيام المظلمة خدموا أيضاً كجباة أموال, ليس فقط من أجل إعالة يسوع ورفاقه, ولكن أيضًا من أجل دعم عائلات الرُسل الاثني عشر والإنجيليين الاثني عشر.
159:6.4 (1771.5) حوالي هذا الوقت نقل أبنير قاعدة عملياته من حبرون إلى بيت-لحم, وهذا المكان الأخير كان أيضًا المقر الرئيسي في يهودا لرُسل داود. حافظ داود على خدمة رُسل مناوبة خلال الليل بين أورشليم وبيت-صيدا. غادر هؤلاء الراكضون أورشليم كل مساء, متناوبون عند سيخار, وسكيثوبولِس, وواصلون إلى بيت-صيدا بحلول وقت الإفطار في صباح اليوم التالي.
159:6.5 (1771.6) استعد يسوع ورفاقه الآن لأخذ أسبوع من الراحة قبل أن يستعدوا للبدء في المرحلة الأخيرة من أعمالهم لمصلحة الملكوت. كانت هذه راحتهم الأخيرة, لأن البعثة البيرية تطورت إلى حملة من الوعظ والتعليم التي امتدت حتى وقت وصولهم إلى أورشليم وبدء تنفيذ الوقائع الختامية لمهمة يسوع الأرضية.
كِتاب يورانشيا
ورقة 160
160:0.1 (1772.1) في صباح يوم الأحد, 18 أيلول, أعلن أندراوس أنه لن يتم التخطيط لأي عمل للأسبوع القادم. ذهب جميع الرُسل, باستثناء نثانئيل وتوما, إلى بيوتهم لزيارة عائلاتهم أو للمكوث مع الأصدقاء. هذا الأسبوع تمتع يسوع بفترة راحة تامة تقريباً, لكن نثانئيل وتوما كانا مشغولين جداً بمناقشاتهما مع فيلسوف يوناني معين من الإسكندرية اسمه رودان. كان هذا اليوناني قد أصبح مؤخراً تلميذاً ليسوع من خلال تعليم أحد رفاق أبنير الذي أدار بعثة في الإسكندرية. كان رودان منشغلاً الآن بجدية في مهمة مواءمة فلسفته في الحياة مع تعاليم يسوع الدِينية الجديدة, وكان قد جاء إلى ماجادان على أمل أن السيد قد يتحدث معه حول هذه المسائل. كما رغب في تأمين رواية من المصدر الأصلي وموثوقة من الإنجيل إما من يسوع أو أحد رُسله. ولو إن السيد امتنع عن الدخول في مثل هذا المؤتمر مع رودان, فقد استقبله بإكرام ووجه على الفور بأن يستمع نثانئيل وتوما إلى كل ما لديه ليقوله ويخبراه عن الإنجيل في المقابل.
160:1.1 (1772.2) في وقت مبكر من صباح الاثنين, بدأ رودان سلسلة من عشر خطابات إلى نثانئيل, وتوما, وجماعة من حوالي دزينتي من المؤمنين صادف أن يكونوا في ماجادان. هذه الأحاديث, المُكثفة, والمُدمجة, والمُعاد صياغتها في نص حديث, تقدم الأفكار التالية للنظر فيها:
160:1.2 (1772.3) تتألف الحياة الإنسانية في ثلاث دوافع كبيرة ــ المستحثات, والرغبات, والمغريات. السجية القوية, الشخصية المسيطرة, لا يتم اكتسابها إلا من خلال تحويل المستحث الطبيعي للحياة إلى فن اجتماعي للعيش, عن طريق تحويل الرغبات الحالية إلى تلك الأشواق الأعلى التي يمكن أن تتحقق بشكل دائم, في حين أن الإغواء الشائع للوجود يجب تحويله من أفكار المرء التقليدية والثابتة إلى العوالم الأعلى للأفكار غير المستكشفة والمُثل العليا غير المُكتشَفة.
160:1.3 (1772.4) كلما أصبحت الحضارة أكثر تعقيداً, كلما أصبح فن الحياة أكثر صعوبة. كلما زادت سرعة التغييرات في الاستخدام الاجتماعي, كلما أصبحت مهمة تطوير السجية أكثر تعقيداً. كل عشرة أجيال يجب على البشرية أن تتعلم من جديد فن العيش إذا كان للتقدم أن يستمر. وإذا أصبح الإنسان عبقرياً للغاية بحيث يضيف بسرعة أكبر إلى تعقيدات المجتمع, سيحتاج فن المعيشة لأن يُعاد إتقانه في وقت أقل, ربما في كل جيل واحد. إذا فشل تطور فن المعيشة في مواكبة تقنية الوجود, فسوف ترتد الإنسانية بسرعة إلى المستحث البسيط للمعيشة ــ تحقيق إشباع الرغبات الحالية. بِالتّالي ستبقى البشرية غير ناضجة؛ سوف يفشل المجتمع في النمو إلى النضج الكامل.
160:1.4 (1773.1) النضج الاجتماعي يعادل الدرجة التي يكون فيها الإنسان على استعداد للتنازل عن إرضاء مجرد رغبات عابرة وحالية من أجل الترفيه عن تلك الرغبات الفائقة التي يوفر الكد لإحرازها إرضاءات أكثر وفرة للتقدم التدريجي نحو الأهداف الدائمة. لكن السمة الحقيقية للنضج الاجتماعي هي استعداد شعب ما للتنازل عن حق العيش بسلام وقناعة في ظل المعايير المروجة للسهولة لإغراء المعتقدات الراسخة والأفكار التقليدية من أجل الإغواء المُقلق والذي يتطلب طاقة للسعي وراء الإمكانيات غير المستكشفة لتحقيق أهداف غير مُكتشَفة للحقائق الروحية المُثلى.
160:1.5 (1773.2) تستجيب الحيوانات بنُبلٍ لنداء الحياة, لكن الإنسان وحده هو القادر على اكنساب فن العيش, ولو إن أكثرية البشر يختبرون فقط المستحث الحيواني للعيش. الحيوانات تعرف فقط هذا المستحث الأعمى والغريزي؛ الإنسان قادر على تجاوز هذا المستحث للوطيفة الطبيعية. قد يختار الإنسان العيش على مستوى عالٍ من الفن الذكي, حتى ذلك من الفرح السماوي والنشوة الروحية. الحيوانات لا تتساءل بشأن أهداف الحياة؛ لذلك هي لا تقلق أبداً, ولا تنتحر. الانتحار بين الناس يشهد بأن هذه الكائنات قد برزت من مرحلة الوجود الحيواني البحت, وإلى الواقع الأبعد بأن الجهود الاستكشافية لمثل هؤلاء البشر قد فشلت في بلوغ المستويات الفنية للتجربة البشرية. الحيوانات لا تعرف معنى الحياة؛ لا يمتلك الإنسان القدرة على التعرف على القيم وفهم المعاني فحسب, لكنه يُدرك أيضاً معنى المعاني ــإنه واعي-للذات بالبصيرة.
160:1.6 (1773.3) عندما يجرؤ الناس على التخلي عن حياة من الشغف الطبيعي من أجل حياة من الفن المغامر والمنطق غير المؤكد, يجب أن يتوقعوا معاناة المخاطر المترتبة على الإصابات العاطفية ــ الصراعات, والتعاسة, وعدم اليقين ــ على الأقل حتى وقت بلوغهم درجة ما من النضوج الفكري والعاطفي. الإحباط, والقلق, والتراخي هي دليل إيجابي على عدم النضج الأخلاقي. يواجه المجتمع البشري مشكلتين: إحراز نضوج الفرد, وإحراز نضوج العِرق. سرعان ما يبدأ الإنسان الناضج في النظر إلى جميع البشر الآخرين بمشاعر الحنو وعواطف التسامح. ينظر الناس الناضجون إلى الأشخاص غير الناضجين بالمحبة والاهتمام اللذين يحملهما الآباء لأطفالهم.
160:1.7 (1773.4) العيش الناجح ليس أكثر أو أقل من فن إتقان التقنيات التي يمكن الاعتماد عليها لحل المشاكل الشائعة. الخطوة الأولى في حل أي مشكلة هي تحديد موقع الصعوبة, وعزل المشكلة, وبصراحة الاعتراف بطبيعتها وخطورتها. الخطأ الكبير هو أنه عندما تثير مشاكل الحياة مخاوفنا العميقة, فإننا نرفض الاعتراف بها. وبالمثل, عندما يستلزم الاعتراف بمصاعبنا الحد من غرورنا الذي نعتز به منذ فترة طويلة, الإقرار بالحسد, أو التخلي عن التحيزات العميقة الجذور, فإن الشخص العادي يفضل التمسك بالأوهام القديمة للأمان والمشاعر المزورة المتمكنة والمعززة طويلاً عن السلامة. فقط الشخص الشجاع على استعداد للإعتراف بصدق, وبلا خوف لمواجهة, ما يكتشفه العقل الصادق والمنطقي.
160:1.8 (1773.5) إن الحل الحكيم والفعّال لأي مشكلة يتطلب أن يكون العقل حراً من التحيز, والهوى, وجميع التحيزات الشخصية البحتة التي قد تتدخل بالمعاينة النزيهة للعوامل الفعلية التي تؤدي إلى المشكلة التي تقدم نفسها للحل. يتطلب حل مشاكل الحياة الشجاعة والإخلاص. فقط الأفراد الأمناء والشجعان قادرون على المتابعة بشجاعة من خلال متاهة العيش المربكة والمحيرة إلى حيث قد يؤدي منطق العقل الشجاع. وهذا العتق للعقل والنفـْس لا يمكن أبداً إدخاله حيز التنفيذ بدون القدرة الدافعة للحماس الذكي الذي يحد على الحماس الدِيني. إنه يتطلب إغراء مثال أعلى عظيم لدفع الإنسان في متابعة الهدف الذي تكتنفه مشاكل مادية صعبة ومخاطر فكرية متنوعة.
160:1.9 (1774.1) حتى ولو تسلحت بشكل فعال لمواجهة مواقف الحياة الصعبة, بالكاد يمكنك توقع النجاح إلا إذا كنت مجهزاً بتلك الحكمة للعقل وروعة الشخصية التي تمكنك من كسب التعاون والدعم القلبي من زملائك. لا يمكنك أن تأمل في تحقيق قدر كبير من النجاح في العمل الدِيني أو الدنيوي إلا إذا كان بإمكانك أن تتعلم كيف تقنع زملاءك, بأن تسود مع الناس. ببساطة يجب أن يكون لديك لباقة وتسامح.
160:1.10 (1774.2) لكن الأعظم من كل أساليب حل المشاكل قد تعلمته من يسوع, سيدكم. أشير إلى ما يمارسه بثبات للغاية, والذي علـَّمكم إياه بغاية الإخلاص, عزلة التأمل التعبدي. في هذه العادة المتمثلة في خروج يسوع مرارًا وتكرارًا بنفسه للتواصل مع الأب في السماء يتم إيجاد التقنية, ليس فقط لجمع القوة والحكمة من أجل صراعات العيش العادية, لكن أيضًا للإستئثار بالطاقة لحل المشاكل الأعلى ذات الطبيعة الأخلاقية والروحية. لكن حتى الأساليب الصحيحة لحل المشاكل لن تعوض عن العيوب المتأصلة في الشخصية أو تكفر عن غياب الجوع والعطش إلى البر الحقيقي.
160:1.11 (1774.3) أنا متأثر بعمق بعادة يسوع في الذهاب بمفرده للانخراط في هذه الفصول من المعاينة الانفرادية لمشاكل العيش؛ للبحث عن مخازن جديدة للحكمة والطاقة لتلبية المتطلبات المتنوعة للخدمة الاجتماعية؛ لتسريع وتعميق الهدف الأسمى للعيش من خلال الإخضاع الفعلي لكامل الشخصية لوعي الاتصال مع الألوهية؛ لفهم امتلاك أساليب جديدة وأفضل لتكييف ذات المرء مع المواقف المتغيرة باستمرار للوجود الحي؛ لإحداث عمليات إعادة البناء والتعديلات الحيوية في مواقف المرء الشخصية التي تعتبر ضرورية للغاية لتعزيز البصيرة في كل شيء مستحق وحقيقي؛ وللقيام بكل هذا بعين واحدة لمجد الله ــ لأن تتنفسوا بإخلاص صلاة سيدكم المفضَّلة, "ليست مشيئتي, بل مشيئتك, لتُفعل."
160:1.12 (1774.4) هذه الممارسة التعبدية لسيدكم تجلب ذلك الإسترخاء الذي يجدد العقل؛ وذلك التنوير الذي يُلهم النفـْس؛ وتلك الشجاعة التي تمكن المرء بشجاعة من مواجهة مشاكله؛ وذلك التفهم الذاتي الذي يزيل أثر الخوف المنهك؛ وذلك الوعي بالاتحاد مع الألوهية الذي يزود الإنسان باليقين الذي يمكنه من الجرأة على أن يكون مثل الله. استرخاء العبادة, أو المشاركة الروحية كما يمارسها السيد, تخفف التوتر, وتزيل النزاعات, وتقوي بمقدرة مجموع موارد الشخصية. وكل هذه الفلسفة, بالإضافة إلى إنجيل الملكوت, تشكل الدِين الجديد كما أفهمه.
160:1.13 (1774.5) التحيز يعمي النفـْس عن التعرف على الحقيقة, ولا يمكن إزالة التحيز إلا من خلال تكريس النفس الصادق لعشق القضية التي تضم وتشمل كل الناس زملاء المرء. التحيز مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأنانية. لا يمكن القضاء على التحيز إلا من خلال التخلي عن السعي وراء الذات والاستعاضة عن ذلك بالسعي لإرضاء خدمة قضية ليست أعظم من الذات فحسب, بل قضية أعظم من البشرية جمعاء - البحث عن الله, وإحراز الألوهية. إن الدليل على نضج الشخصية يتمثل في تحول الرغبة البشرية بحيث تسعى باستمرار إلى تحقيق تلك القيم الأعلى والأكثر واقعية من الناحية الإلهية.
160:1.14 (1774.6) في عالم متغير باستمرار, في خضم نظام اجتماعي متطور, من المستحيل الحفاظ على أهداف مصير ثابتة وراسخة. لا يمكن اختبار استقرار الشخصية إلا من قبل أولئك الذين اكتشفوا واحتضنوا الله الحي كهدف أبدي للإنجاز اللامتناهي. وبالتالي, فإن نقل هدف المرء من الوقت إلى الأبدية, من الأرض إلى الفردوس, من الإنساني إلى الإلهي, يتطلب أن يتجدد الإنسان ويتحول ويولد من جديد؛ أنه سيصبح الطفل المخلوق من جديد للروح الإلهي؛ أنه سينال الدخول إلى أخوة ملكوت السماوات. كل الفلسفات والأديان التي تقصر عن هذه المثل العليا غير ناضجة. إن الفلسفة التي أعلمها, المرتبطة بالإنجيل الذي تبشرون به، تمثل دين النضج الجديد, والمثل الأعلى لجميع الأجيال القادمة. وهذا صحيح لأن نموذجنا نهائي, ومعصوم من الخطأ, وأبدي, وكوني, ومطلق, ولامتناهي.
160:1.15 (1775.1) أعطتني فلسفتي الرغبة في البحث عن حقائق الإنجاز الحقيقي, هدف النضج. لكن حافزي كان واهناً؛ وبحثي افتقر إلى القوة الدافعة؛ وعانى طلبي من غياب يقين التوجيه. وتلك النواقص قد تم تزويدها بوفرة من خلال إنجيل يسوع الجديد هذا, مع تعزيزه للبصائر, وترقيته للمُثل, واستقرار للأهداف. بدون شكوك وهواجس يمكنني الآن الدخول من كل قلبي على المشروع الأبدي.
160:2.1 (1775.2) هنالك طريقتان فقط يمكن فيهما للبشر أن يعيشوا معاً: الطريقة المادية أو الحيوانية والطريقة الروحية أو الإنسانية. باستخدام الإشارات والأصوات تتمكن الحيوانات من التواصل مع بعضها البعض بطريقة محدودة. لكن مثل هذه الأشكال من التواصل لا تنقل المعاني, أو القيم, أو الأفكار. الفرق الوحيد بين الإنسان والحيوان هو أن الإنسان يستطيع التواصل مع زملائه من خلال الرموز التي بأكثر التأكيد تحدد وتتعرف على المعاني, والقيم, والأفكار, وحتى المُثل العليا.
160:2.2 (1775.3) حيث إن الحيوانات لا تستطيع توصيل الأفكار لبعضها البعض, فهي لا يمكنها تطوير الشخصية. يُطور الإنسان الشخصية لأنه يستطيع بالتالي التواصل مع زملائه فيما يتعلق بكل من الأفكار والمثل العليا.
160:2.3 (1775.4) إنها هذه المقدرة على التواصل وتبادل المعاني التي تشكل الثقافة الإنسانية وتمكن الإنسان, من خلال الارتباطات الاجتماعية, من بناء الحضارات. تصبح المعرفة والحكمة تراكمية بسبب قدرة الإنسان على توصيل هذه الممتلكات إلى الأجيال اللاحقة. وبذلك تنشأ الأنشطة الثقافية للعرق: الفن, والعِلم, والدِين, والفلسفة.
160:2.4 (1775.5) التواصل الرمزي بين البشر يحدد مسبقاً ظهور مجموعات اجتماعية. الأكثر فعالية من بين جميع الفئات الاجتماعية هي الأسرة, وخاصة الوالدين. المودة الشخصية هي الرابط الروحي الذي يمسك معاً هذه الروابط المادية. هذه العلاقة الفعالة ممكنة أيضًا بين شخصين من نفس الجنس ، كما يتضح للغاية في ولاءات الصداقات الحقيقية.
160:2.5 (1775.6) هذه الروابط من الصداقة والعاطفة المتبادلة هي مُكيفة للحياة الاجتماعية ومُشَّرفة لأنها تشَجع وتسَهل العوامل الأساسية التالية لمستويات أعلى من فن العيش:
160:2.6 (1775.7) 1. التعبير-الذاتي والتفهم-الذاتي المتبادل. تموت العديد من الدوافع البشرية النبيلة لأنه لا يوجد أحد ليسمع تعبيرها. حقاً, ليس من الجيد للإنسان أن يكون وحيدًا. درجة ما من الاعتراف ومقدار معين من التقدير لازِمان لتنمية السجية البشرية. بدون الحب الحقيقي للبيت, لا يمكن لأي طفل تحقيق النمو الكامل للسجية الطبيعية. السجية هي شيء أكثر من مجرد العقل والأخلاق, من بين جميع العلاقات الاجتماعية المحسوبة لتنمية السجية, الأكثر تأثيراً ومثالية هي الصداقة الودية والمتفهمة لرَجل وامرأة في العناق المتبادل للزواج الذكي. إن أفضل تصميم للزواج, بعلاقاته المتنوعة, هو استخلاص تلك الحوافز الثمينة وتلك الدوافع السامية التي لا غنى عنها لتنمية طبع قوي. لهذا لا أتردد في تمجيد الحياة العائلية, لأن سيدكم اختار بحكمة العلاقة بين الأب-الولد كحجر الزاوية بالذات لهذا الإنجيل الجديد للملكوت. ومثل هذا المجتمع الذي لا يضاهى من العلاقة, رَجل وامرأة في الضم المُغرم لأعلى مُثل الزمان, هو تجربة قيَّمة ومُرضّية للغاية بحيث تستحق أي ثمن, أي تضحية, لازمة لامتلاكها.
160:2.7 (1776.1) 2. إتحاد النفوس ــ تعبئة الحكمة. يكتسب كل إنسان عاجلاً أم آجلاً مفهوماً معيناً عن هذا العالم ورؤية معينة للعالم التالي. الآن من الممكن, من خلال ارتباط الشخصية, توحيد وجهات النظر هذه حول الوجود الزمني والآفاق الأبدية. بهذا يزيد عقل المرء من قيمه الروحية من خلال اكتساب الكثير من البصيرة لدى الآخر. بهذه الطريقة يُثري الناس النفـْس بتجميع ممتلكاتهم الروحية الخاصة بكل منهم. بالمثل, بنفس الطريقة, جُعل الإنسان قادراً على اجتناب ذلك المَيل الدائم للوقوع ضحية لتشويه الرؤية, والتحيز في وجهة النظر, وضيق الحكم. لا يُمكن منع الخوف, والحسد, والغرور إلا من خلال الاتصال الودي مع العقول الأخرى. ألفت انتباهكم إلى الواقع بأن السيد لا يرسلكم أبداً بمفردكم للعمل من أجل امتداد الملكوت؛ إنه دائماً يرسلكم اثنين واثنين. وحيث إن الحكمة هي معرفة فائقة, يترتب على ذلك بأن, في اتحاد الحكمة, تشارك المجموعة الاجتماعية, صغيرة كانت أم كبيرة, كل المعرفة بشكل متبادل.
160:2.8 (1776.2) 3. الحماس من أجل العيش. تميل العزلة إلى استنفاد شحنة طاقة النفـْس. يعد الارتباط مع الزملاء أمراً ضرورياً لتجديد الحماس مدى الحياة ولا غنى عنه للحفاظ على الشجاعة لخوض تلك المعارك الناتجة عن الارتقاء إلى مستويات أعلى من العيش البشري. الصداقة تُعزز الأفراح وتمجد انتصارات الحياة. تميل الروابط الإنسانية المُحبة والحميمة إلى سلب المعاناة من أحزانها ومصاعبها من الكثير من مرارتها. إن وجود الصديق يُعزز كل جَمال ويُمجد كل خير. من خلال الرموز الذكية, يستطيع الإنسان تسريع وتوسيع القدرات التقديرية لأصدقائه. أحد الأمجاد المتوجة للصداقة الإنسانية هي هذه القدرة وإمكانية التحفيز المتبادل للمخيلة. القوة الروحية العظيمة متأصلة في وعي التفاني المخلص لقضية مشتركة, الولاء المتبادل لإلَه كوني.
160:2.9 (1776.3) 4. الدفاع المُعزز ضد كل شر. ارتباط الشخصية والود المتبادل هما ضمان فعّال ضد الشر. الصعوبات, والحزن, وخيبة الأمل, والهزيمة تكون أكثر إيلاماً وإحباطاً عندما يتحملها المرء وحده. الرابطة لا تُحول الشر إلى بر, لكنها تساعد في تقليل اللدغة بشكل كبير. قال سيدكم, "طوبى للحزانى" ــ ‘إذا كان صديق في متناول اليد للمؤاساة. هناك قوة إيجابية في معرفة أنك تعيش من أجل رفاهية الآخرين, وبأن هؤلاء الآخرين بالمثل يعيشون من أجل رفاهيتك وتقدمك. يضعف الإنسان في العزلة. يصاب البشر بالإحباط بثبات عندما لا ينظرون إلا إلى التعاملات العابرة للوقت. الحاضر, عندما ينفصل عن الماضي والمستقبل, يصبح تافهاً بسخط. فقط لمحة عن دائرة الأبدية تستطيع إلهام الإنسان لبذل قصارى جهده ويمكن أن تتحدى الأفضل فيه لبذل أقصى ما يمكنه. وعندما يكون الإنسان بهذا في أفضل حالاته, فإنه يعيش بأكثر الغيرية من أجل خير الآخرين, زملائه المقيمين في الزمان والأبدية.
160:2.10 (1777.1) أكرر, تجد مثل هذه الرابطة المُلهمة والمُشَّرفة إمكانياتها المُثلى في علاقة الزواج البشري. صحيح أنه, يتم تحقيق الكثير من الزواج, والعديد من الزيجات, العديد تفشل كلياً في إنتاج هذه الثمار الأخلاقية والروحية. في كثير من الأحيان يتم الدخول على الزواج من قبل أولئك الذين يبحثون عن قيم أخرى أقل من تلك المصاحبات المتفوقة للنضج البشري. يجب أن يتأسس الزواج المثالي على شيء أكثر استقراراً من تأرجحات العاطفة وتقلبات مجرد الانجذاب الجنسي؛ يجب أن يقوم على التفاني الشخصي الحقيقي والمتبادل. ولهذا, إذا استطعت بناء مثل هذه الوحدات الصغيرة الجديرة بالثقة والفعالة من الارتباط البشري, عندما يتم تجميعها في مجملها, فإن العالم سوف يشهد بناء اجتماعياً عظيماً وممجداً, حضارة النضج البشري. قد يبدأ مثل هذا الشعب في إدراك شيء من نموذج سيدكم المثالي عن "السلام على الأرض وحسن النية بين الناس." في حين أن مثل هذا المجتمع لن يكون مثالياً أو خالٍ تمامًا من الشر, فإنه على الأقل سيقارب استقرار النضج.
160:3.1 (1777.2) الجهد نحو النضج يستلزم العمل, والعمل يتطلب طاقة. من أين القوة لإنجاز كل هذا؟ يمكن اعتبار الأشياء المادية أمراً مفروغاً منه, لكن السيد قال حسناً, "لا يمكن للإنسان أن يعيش بالخبز وحده." إذا تم منحنا جسدًا طبيعيًا وصحة جيدة بشكل معقول, يجب بالتالي أن نتطلع لتلك المغريات التي ستعمل بمثابة حافز لاستدعاء القوى الروحية النائمة للإنسان. علـَّمنا يسوع أن الله يعيش في الإنسان؛ إذن كيف يمكننا حث الإنسان على إطلاق هذه القدرات التي تربط النفـْس بالألوهية واللانهائية؟ كيف نحث الإنسان على ترك الله بحيث قد ينطلق لإنعاش نفوسنا أثناء عبوره للخارج ثم لخدمة هدف تنوير, ورفع, ومباركة نفوس أُخرى لا تُعد ولا تحصى؟ ما أفضل طريقة لإيقاظ هذه القدرات الكامنة للخير التي تكمن نائمة في نفوسنا؟ شيء وحيد أنا متأكد منه: الإثارة العاطفية ليست الحافز الروحي المثالي. الإثارة لا تزيد الطاقة؛ بل تستنفذ قوى كل من العقل والجسم. من أين إذن تأتي الطاقة للقيام بهذه الأشياء العظيمة؟ انظروا إلى سيدكم. حتى الآن هو خارجاً في التلال يستجمع قدرة بينما نحن هنا ننشر طاقة. يكمن سر كل هذه المسألة بالتواصل الروحي, في العبادة. من وجهة النظر الإنسانية هي مسألة تأمل واسترخاء معًا. التأمل يصنع اتصال العقل مع الروح؛ الاسترخاء يحدد القدرة على التقبل الروحي. وهذا الاستبدال للقوة بدل الضعف, والشجاعة بدل الخوف, ومشيئة الله بدل عقل الذات, تشكل العبادة. على الأقل, تلك هي الطريقة التي يراها الفيلسوف.
160:3.2 (1777.3) عندما تُكرر هذه التجارب باستمرار, فإنها تتبلور نحو عادات, عادات تعبدية ومعطية للقوة, ومثل هذه العادات بالنتيجة تصوغ ذاتها نحو سجية روحية, وهذه السجية يتم التعرف عليها في النهاية من قبل زملاء المرء على أنها شخصية ناضجة, هذه الممارسات صعبة وتستهلك وقتاً في البداية, لكن عندما تصبح معتادة, تصبح في الحال مُريحة وموفرة للوقت. كلما أصبح المجتمع أكثر تعقيداً, وكلما تكاثرت إغراءات الحضارة, كلما أصبحت ضرورة الأفراد العارفين بالله أكثر إلحاحًا لتكوين مثل هذه الممارسات الوقائية المعتادة المصممة للحفاظ على طاقاتهم الروحية وتعزيزها.
160:3.3 (1778.1) مطلب آخر لبلوغ النضج هو التكيف التعاوني للفئات الاجتماعية إلى بيئة دائمة التغيير. الفرد غير الناضج يثير خصومات زملائه؛ الإنسان الناضج يكسب التعاون الودي لزملائه, وبالتالي يُضاعف مرات كثيرة ثمار جهود حياته.
160:3.4 (1778.2) تخبرني فلسفتي بأن هناك أوقاتاً عندما يجب أن أقاتل, إذا دعت الحاجة, من أجل الدفاع عن مفهومي عن البر, لكنني لست أشك في أن السيد, ذو الشخصية الأكثر نضجًا, سيكسب بسهولة ونعمة انتصارًا متساويًا من خلال أسلوبه المتفوق والرائع من اللباقة والتسامح. في كثير من الأحيان, عندما نناضل من أجل الحق, يتبين بأن كل من المنتصر والمهزوم قد تكبدوا الهزيمة. سمعت السيد يقول بالأمس فقط بأن: "الرجل الحكيم, عندما يسعى للدخول من خلال الباب المقفل, لن يحطم الباب بل بالأحرى سيبحث عن المفتاح الذي يفتحه." في كثير من الأحيان ننشغل في قتال لمجرد إقناع أنفسنا بأننا لسنا خائفين.
160:3.5 (1778.3) يقدم هذا الإنجيل الجديد للملكوت خدمة عظيمة لفن العيش حيث يزود حافزاً جديداً وأكثر ثراءً لحياة أعلى. إنه يقدم هدف مصير جديد وممجد, هدف الحياة الأسمى. وهذه المفاهيم الجديدة للهدف الأبدي والإلَهي للوجود هي في حد ذاتها محفزات فائقة, تستدعي أفضل تفاعل ممكن من أفضل ما يوجد في الطبيعة العليا للإنسان. على كل قمة جبل من التفكير العقلاني يوجد استرخاء للعقل, وقوة للنفـْس, وتواصل للروح. هذه النقاط المتميزة للعيش العالي, يكون الإنسان قادراً على تجاوز المهيجات المادية للمستويات الأدنى من التفكير ــ القلق, والغيرة, والحسد, والانتقام, وفخر الشخصية غير الناضجة. هذه النفوس المتسلقة-عالياً تحرر نفسها من العديد من صراعات التيارات المتعارضة لتوافه المعيشة, بالتالي تصبح حرة لتحقق وعياً بالتيارات العليا لمفهوم الروح والتواصل السماوي. لكن الغرض من الحياة يجب حمايته بغيرة من إغراء السعي لإحراز سهل وعابر؛ بالمثل يجب تعزيزه بحيث يصبح منيعاً ضد التهديدات الكارثية للتعصب.
160:4.1 (1778.4) بينما لديك عين واحدة لتحقيق الحقائق الأبدية, يجب عليك أيضًا توفير ضروريات العيش الدنيوي. في حين أن الروح هو هدفنا, فالجسد حقيقة. من حين لآخر قد تقع ضرورات المعيشة في أيدينا عن طريق الصدفة, لكن بشكل عام, يجب أن نعمل بذكاء من أجلها. مشكلتان رئيسيتان في الحياة هما: كسب العيش الدنيوي وتحقيق البقاء الأبدي. وحتى مشكلة كسب العيش تتطلب الدِين من أجل حل مثالي لها. كل من هذه هي مشاكل شخصية للغاية. الدِين الحقيقي, في الواقع, لا يعمل بمعزل من الفرد.
160:4.2 (1778.5) أساسيات الحياة الدنيوية, كما أراها, هي:
160:4.3 (1778.6) 1. صحة بدنية جيدة.
160:4.4 (1778.7) 2. تفكير واضح ونظيف.
160:4.5 (1778.8) 3. مقدرة ومهارة.
160:4.6 (1778.9) 4. ثروة ــ متاع الحياة.
160:4.7 (1778.10) 5. المقدرة على تحمل الهزيمة.
160:4.8 (1778.11) 6. الحضارة ــ الثقافة والحكمة.
160:4.9 (1779.1) حتى المشاكل الفيزيائية المتعلقة بالصحة الجسدية والكفاءة يتم حلها على أفضل وجه عندما يُنظر إليها من وجهة النظر الدِينية لتعليم سيدنا: بأن جسد الإنسان وعقله هما مسكن هبة الآلهة, روح الله تصبح روح الإنسان. بهذا يصبح عقل الإنسان الوسيط بين الأشياء المادية والحقائق الروحية.
160:4.10 (1779.2) يتطلب الأمر ذكاء لتأمين نصيب المرء من الأشياء المرغوبة في الحياة. إنه من الخطأ تمامًا إفتراض أن الإخلاص في أداء عمل المرء اليومي سيضمن مكافآت الثروة. باستثناء الحصول على الثروة بشكل عرضي أو غير مقصود, فإن المكافآت المادية للحياة الزمنية تتدفق في بعض القنوات المنظمة جيدًا, وفقط أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى هذه القنوات قد يتوقعون نيل مكافآت جيدة من أجل جهودهم الدنيوية. يجب أن يكون الفقر دائماً نصيب كل الناس الذين يبحثون عن الثروة في قنوات منعزلة وفردية. التخطيط الحكيم, بالتالي, يصبح الشيء الوحيد الضروري لتحقيق الرخاء الدنيوي. لا يتطلب النجاح التفاني في عمل الفرد فحسب بل أيضًا أن يعمل المرء كجزء من إحدى قنوات الثروة المادية. إذا كنت غير حكيم, يمكنك أن تمنح جيلك حياة مكرسة بدون ثواب مادي؛ وإذا كنت مستفيدًا عرضياً من تدفق الثروة, قد تنعم بالرفاهية على الرغم من أنك لم تفعل شيئاً يستحق الذكر لزملائك الناس.
160:4.11 (1779.3) المقدرة هي ما ترثه, بينما المهارة هي ما تكتسبه. ليست الحياة حقيقية لمن لا يستطيع القيام بشيئ واحد بشكل جيد, وباحتراف. المهارة هي أحد المصادر الحقيقية لرضى المعيشة. المقدرة تنطوي على موهبة البصيرة, رؤية بعيدة المدى. لا تنخدع بالمكافآت المغرية للإنجاز غير النزيه ؛ كن على استعداد للكدح من أجل عوائد متأخرة متأصلة في المسعى الصادق. الإنسان الحكيم قادر على التمييز بين الوسائل والغايات؛ وإلا, فإن التخطيط المفرط للمستقبل في بعض الأحيان يلغي هدفه السامي الخاص. كباحث عن المسرة يجب أن تهدف دائماً إلى أن تكون مُنتجاً وأيضاً مستهلكاً.
160:4.12 (1779.4) قم بتدريب ذاكرتك لتحمل بثقة مقدسة حلقات الحياة التي تمنح القوة وذات القيمة, التي يمكنك أن تتذكرها متى شئت من أجل مسرتك وتهذيبك. بهذا تبني لنفسك وفي نفسك معارض للجَمال, والخير, والعظمة الفنية. لكن الأنبل من كل الذكريات هي الذكريات العزيزة للحظات عظيمة من الصداقة الرائعة. وجميع كنوز الذاكرة هذه تشع تأثيراتها الأكثر قيمة وتمجيدًا تحت اللمسة المعتقة للعبادة الروحية.
160:4.13 (1779.5) لكن الحياة ستصبح عبئاً للوجود ما لم تتعلم كيف تفشل بلباقة. هناك فن في الهزيمة تكتسبه النفوس النبيلة دائماً؛ يجب أن تعرف كيف تخسر بمرح؛ يجب أن لا تخاف من خيبة الأمل. لا تتردد أبداً في الاعتراف بالفشل. لا تحاول إخفاء الفشل تحت ابتسامات خادعة وتفاؤل بشوش. من الجيد ادعاء النجاح دائماً, لكن النتائج النهائية مروعة. مثل هذا الأسلوب يؤدي مباشرة إلى خلق عالَم غير واقعي وإلى الإنهيار الحتمي لخيبة الأمل المطلقة.
160:4.14 (1779.6) قد يوَّلد النجاح الشجاعة ويعزز الثقة, لكن الحكمة تأتي فقط من تجارب التكيف مع نتائج فشل المرء. الناس الذين يفـَّضلون الأوهام المتفائلة على الواقع لا يمكن أبداً أن يصبحوا حكماء. فقط أولئك الذين يواجهون الحقائق ويكيفونها مع المُثل العليا يمكنهم تحقيق الحكمة. الحكمة تحتضن كلاً من الواقع والمثل الأعلى, لذلك هي تنقذ المكرسين إليها من كل من تلك التطرفات العقيمة للفلسفة ــ الإنسان الذي تستثني مثاليته الوقائع والمادي الذي يخلو من النظرة الروحية. تلك النفوس الخجولة التي لا تستطيع الاستمرار في صراع الحياة إلا بمساعدة أوهام النجاح الزائفة المستمرة محكوم عليهم بالفشل وتجربة الهزيمة بينما يستيقظون في نهاية المطاف من عالم الأحلام في خيالهم.
160:4.15 (1780.1) وإنه في هذا العمل المتمثل في مواجهة الفشل والتكيف مع الهزيمة حيث تمارس الرؤية بعيدة المدى للدِين تأثيرها السامي. الفشل هو ببساطة مجرد حلقة تثقيفية ــ اختبار حضاري في اكتساب الحكمة ــ في تجربة الإنسان الذي يبحث عن الله الذي شرع في المغامرة الأبدية لاستكشاف الكون. بالنسبة لمثل هؤلاء الناس ما الهزيمة سوى أداة جديدة لتحقيق مستويات أعلى من واقع الكون.
160:4.16 (1780.2) قد تبرهن مهمة الإنسان الباحث عن الله لتكون نجاحاً عظيماً في ضوء الأبدية, على الرغم من أن مشروع الحياة الزمنية بأكمله قد يبدو فشلاً ذريعاً, بشرط أن يؤدي كل فشل في الحياة إلى ثقافة الحكمة وإنجاز الروح. لا تقع في خطأ الخلط بين المعرفة, والثقافة, والحكمة. إنهم مرتبطون في الحياة, لكنهم يمثلون قيمًا روحية متباينة إلى حد كبير؛ الحكمة تهيمن دوماً على المعرفة وتمجد الحضارة دائماً.
160:5.1 (1780.3) لقد أخبرتموني بأن سيدكم يعتبر الدِين البشري الأصلي بمثابة تجربة الفرد مع الحقائق الروحية. أنا اعتبرت الدِين بمثابة تجربة تفاعل الإنسان إلى شيء ما يعتبره جديراً بطاعة وتفاني البشرية جمعاء. في هذا المغزى, يرمز الدين إلى إخلاصنا الأعلى لما يمثل أسمى مفهوم لدينا لمُثُل الواقع وأبعد مدى لعقولنا نحو الاحتمالات الأبدية للتحصيل الروحي.
160:5.2 (1780.4) عندما يتفاعل الناس مع الدين بالمعنى القبلي, أو القومي, أو العرقي, فذلك لأنهم ينظرون إلى أولئك الذين لا ينتمون إلى مجموعتهم على أنهم ليسوا بشرًا حقًا. نحن دائماً ننظر إلى هدف ولائنا الدِيني على أنه أمر يستحق تقديس جميع الناس. لا يمكن أن يكون الدِين أبداً مجرد اعتقاد فكري أو تفكير فلسفي؛ الدِين دائماً وإلى الأبد وسيلة تفاعل إلى مواقف الحياة؛ إنه نوع من السلوك. يشمل الدِين التفكير, والشعور, والتصرف بإحترام تجاه واقعية ما نرتئيها جديرة بالتوقير الكوني.
160:5.3 (1780.5) إذا أصبح شيء ما دِيناً في تجربتك, فمن البديهي أنك قد أصبحت تواً إنجيلياً نشيطاً لذلك الدِين بما أنك تعتبر المفهوم الأسمى لدينك على أنه يستحق عبادة البشرية جمعاء, كل عقلاء الكون. إذا لم تكن إنجيلياً إيجابياً ومبشراً لدِينك, فأنت تخدع نفسك لأن ما تسميه ديناً هو مجرد معتقد تقليدي أو مجرد نظام للفلسفة الفكرية. إذا كان دِينك تجربة روحية, يجب أن يكون موضوع عبادتك هو حقيقة الروح الكونية والمثال الأعلى لجميع مفاهيمك الروحانية. كل الأديان المؤسسة على الخوف, والعاطفة, والتقاليد, والفلسفة أسميها الديانات الفكرية, بينما تلك المؤسسة على الخبرة الروحية الحقيقية سأسميها الأديان الحقيقية. قد يكون موضوع الولاء الدِيني مادياً أو روحياً, صحيحًا أو خاطئًا, حقيقيًا أو غير واقعي, بشريًا أو إلهيًا. لذلك يمكن أن تكون الأديان إما جيدة أو شريرة.
160:5.4 (1780.6) ليست الأخلاق والدِين بالضرورة نفس الشيء. قد يصبح نظام من الأخلاق, من خلال فهم موضوع العبادة, دِيناً. قد يتطور الدين, من خلال فقدان جاذبيته الكونية للولاء والتكريس السامي, إلى نظام فلسفي أو قانون أخلاق. إن هذا الشيء, أو الكائن, أو الحالة, أو نظام الوجود, أو إمكانية الإحراز الذي يؤلف المثال الأعلى للولاء الدِيني, والذي هو المُستلَم للتكريس الدِيني من العابدين, هو الله. بغض النظر عن الاسم المطبق على هذا المثل الأعلى لواقع الروح, فهو الله.
160:5.5 (1781.1) تتمثل الخصائص الاجتماعية للدين الحقيقي في حقيقة أنه يسعى دائمًا إلى هداية الفرد وتغيير العالم. ينطوي الدين على وجود مُثُل غير مكتشفة تتجاوز بكثير المعايير المعروفة للأخلاق والأداب المتجسدة حتى في أعلى الأعراف الاجتماعية لأكثر مؤسسات الحضارة نضجًا. يسعى الدين إلى تحقيق المثل العليا غير المكتشفة, والحقائق غير المستكشفة, والقيم الخارقة, والحكمة الإلهية, وإحراز الروح الحقيقي. كل هذا يفعله الدين الحقيقي؛ جميع المعتقدات الأخرى ليست جديرة بالاسم. لا يمكن أن يكون لديك دين روحي حقيقي بدون المثل الأعلى والسامي للإله الأبدي. إن الدين بدون هذا الإله هو من اختراع الإنسان, مؤسسة إنسانية من المعتقدات الفكرية التي لا حياة لها والمراسم العاطفية التي لا معنى لها. قد يَّدعي الدِين أن هدف تكريسه هو مثال عظيم. لكن مثل هذه المُثل لعدم الواقعية لا يمكن تحقيقها؛ مثل هذا المفهوم هو وهم. المُثل الوحيدة التي يمكن أن يحققها الإنسان هي الحقائق الإلَهية للقيم اللانهائية الموجودة في الواقع الروحي لله الأبدي.
160:5.6 (1781.2) كلمة الله, فكرة الله كما تتباين مع مثال الله, يمكن أن تصبح جزءًا من أي دِين, بغض النظر عن مدى صغر أو خطأ ذلك الدِين. وهذه الفكرة عن الله يمكن أن تصبح أي شيء قد يختار أن يجعلها أولئك الذين يخالجونها. تُشَّكل الديانات الأدنى أفكارها عن الله لكي تتوافق مع الحالة الطبيعية لقلب الإنسان؛ تتطلب الديانات الأعلى تغيير قلب الإنسان لتلبية متطلبات المُثل العليا للدِين الحقيقي.
160:5.7 (1781.3) يتجاوز دين يسوع كل مفاهيمنا السابقة عن فكرة العبادة من حيث أنه لا يصور أبيه فقط على أنه المثل الأعلى للواقع اللانهائي بل يعلن بشكل إيجابي أن هذا المصدر الإلهي للقيم والمركز الأبدي للكون يمكن بلوغه حقًا وشخصيًا من قِبل كل مخلوق بشري يختار أن يدخل إلى ملكوت السماء على الأرض, معترفًا بذلك بقبول البنوة مع الله والأخوة مع الإنسان. هذا, حسب رأيي, هو أعلى مفهوم للدِين عرفه العالَم على الإطلاق, وأعلن بأنه لا يمكن أن يكون هناك أعلى حيث إن هذا الإنجيل يشمل لانهائية الوقائع, وألوهية القيَّم, وأبدية الإنجازات الكونية. مثل هذا المفهوم يشكل تحقيق تجربة مثالية الأسمى والمنتهى.
160:5.8 (1781.4) أنا لست مفتوناً فقط بالمُثل البالغة حد الكمال لدين سيدكم هذا, لكنني متأثر بقوة لأعلن إيماني بإعلانه أن هذه المثل العليا للحقائق الروحية يمكن تحقيقها؛ بحيث نتمكن أنتم وأنا من الدخول على هذه المغامرة الطويلة والأبدية مع تأكيده على يقين وصولنا النهائي إلى أبواب الفردوس. يا إخواني, أنا مؤمن, أنا قد باشرت؛ أنا على طريقي معكم في هذا المشروع الأبدي. يقول السيد أنه جاء من الأب, وأنه سوف يُرينا الطريق. أنا مقتنع تماماً أنه يقول الحقيقة. أنا مقتنع أخيراً بأن ليس هناك مُثل يمكن إحرازها للواقع أو قيم الكمال على حدة من الأب الأبدي والكوني.
160:5.9 (1781.5) أنا جئت إذن, لأعبد, ليس فقط إله الوجودات, بل إله الإمكانية لكل الوجودات المستقبلية. لذلك يجب أن يكون تكريسكم لمثال سامي, إذا كان ذلك المثال حقيقياً, فكن تكريساً لهذا الله لأكوان الماضي, والحاضر, والمستقبل للأشياء والكائنات. ولا يوجد إله آخر, لأنه لا يمكن أن يكون هناك أي إله آخر. كل الآلهة الأخرى هي من نسج الخيال, وأوهام العقل الفاني, وتشويهات المنطق الزائف, وأوثان الخداع الذاتي لمن يخلقونها. نعم, يمكن أن يكون لديكم دين بدون هذا الإله, لكنه لا يعني أي شيء. وإذا سعيتم لإبدال كلمة الله بحقيقة هذا المثال الأعلى للإله الحي, فقد خدعتم أنفسكم فقط بوضع فكرة في مكان مثال, واقع إلَهي. هذه المعتقدات هي مجرد أديان تمني خيالية.
160:5.10 (1782.1) أرى في تعاليم يسوع, الدين في أفضل حالاته. هذا الإنجيل يمكننا من البحث عن الله الحقيقي وإيجاده. لكن هل نحن على استعداد لدفع ثمن هذا الدخول إلى ملكوت السماء؟ هل نحن على استعداد لأن نولد من جديد؟ لنكون مجعولين من جديد؟ هل نحن على استعداد للخضوع لهذه العملية الرهيبة والاختبارية المتمثلة في تدمير الذات وإعادة بناء النفـْس؟ ألم يقل السيد: "كل من يود أن يخَّلص حياته يجب أن يخسرها. لا تظنوا بأني جئت لأجلب سلاماً بل جهاد النفـْس"؟ صحيح, بعد أن ندفع ثمن التكريس لمشيئة الأب, نختبر سلاماً عظيماً شرط أن نستمر في السير في هذه المسارات الروحية للعيش المُكَرَس.
160:5.11 (1782.2) الآن هل نحن في الحقيقة نتخلى عن مغريات نظام الوجود المعروف بينما نكرس سعينا بدون تحفظ لمغريات نظام وجود مجهول وغير مُكتشَف في حياة مستقبلية من المغامرة في عوالم الروح للمثال الأعلى للواقع الإلَهي. ونحن نسعى لتلك الرموز للمعنى التي ننقل بها إلى زملائنا الناس هذه المفاهيم عن حقيقة مثالية دِين يسوع, ولن نتوقف عن الصلاة من أجل ذلك اليوم عندما تسعد فيه البشرية جميعًا بالرؤية الجماعية لهذه الحقيقة السامية. الآن فقط, مفهومنا المحوري عن الأب, كما نتمسك به في قلوبنا, هو أن الله روح؛ كما نُقل إلى زملائنا, أن الله محبة.
160:5.12 (1782.3) يتطلب دِين يسوع تجربة حية وروحية. قد تتألف الأديان الأخرى في معتقدات تقليدية, ومشاعر عاطفية, ووعي فلسفي, وكل ذلك, لكن تعليم السيد يتطلب بلوغ مستويات فعلية من التقدم الروحي الحقيقي.
160:5.13 (1782.4) وعي الدافع ليكون مثل الله ليس دِيناً حقيقياً. مشاعر العاطفة لعبادة الله ليست دِيناً حقيقاً. معرفة القناعة بالتخلي عن الذات وخدمة الله ليست دِيناً حقيقياً. إن حكمة التفكير بأن هذا الدِين هو الأفضل على الإطلاق ليست الدين كتجربة شخصية وروحية. الدِين الحقيقي لديه مرجع إلى المصير وواقعية التحصيل بالإضافة إلى واقعية ومثالية ذلك المقبول به بالإيمان من كل القلب. وكل هذا يجب أن يُجعل شخصيًا لنا بوحي روح الحق.
160:5.14 (1782.5) وهكذا انتهت أطروحات الفيلسوف الإغريقي, واحد من الأعظم من عِرقه الذي أصبح مؤمناً بإنجيل يسوع.
كِتاب يورانشيا
ورقة 161
161:0.1 (1783.1) في يوم الأحد, 25 أيلول, عام 29 م., تجَّمَع الرُسل والإنجيليون في ماجادان. بعد مؤتمر طويل في ذلك المساء مع رفاقه, فاجأ يسوع الجميع بإعلانه أنه في وقت مبكر من اليوم التالي سينطلق هو والرُسل الاثني عشر إلى أورشليم لحضور عيد المظال. وجَّه بأن يزور الإنجيليون المؤمنين في الجليل وبأن تعود كتيبة النساء لفترة إلى بيت-صيدا.
161:0.2 (1783.2) عندما حانت الساعة للمغادرة إلى أورشليم, كان نثانئيل وتوما لا يزالان في خضم مناقشاتهما مع رودان الإسكندرية, وحصلا على إذن من السيد بالبقاء في ماجادان لبضعة أيام. وهكذا, بينما كان يسوع والعشرة في طريقهم إلى أورشليم, كان نثانئيل وتوما منخرطين في نقاش جاد مع رودان. في الأسبوع السابق, الذي شرح فيه رودان فلسفته, تناوب توما ونثانئيل في تقديم إنجيل الملكوت إلى الفيلسوف اليوناني. اكتشف رودان بأنه قد تلقى تعليماً جيداً في تعاليم يسوع من قِبل أحد رُسل يوحنا المعمدان السابقين الذي كان معلمه في الإسكندرية.
161:1.1 (1783.3) كان هناك مسألة واحدة لم يرها رودان والرسولان على حد سواء, وتلك كانت شخصية الله. تقبل رودان دون تردد كل ما تم تقديمه إليه بما يخص سجايا الله, لكنه جادل بأن الأب في السماء, ليس, ولا يمكن أن يكون, شخصاً كما يتصور الإنسان الشخصية. بينما وجد الرسل أنفسهم يواجهون صعوبة في محاولة إثبات أن الله شخص, وجد رودان أنه لا يزال أكثر صعوبة إثبات أنه ليس شخصاً.
161:1.2 (1783.4) جادل رودان بأن حقيقة الشخصية تكمن في حقيقة التواصل الكامل والمتبادل بين كائنات متساوية, كائنات قادرة على التفاهم الودي. قال رودان: "لكي يكون شخصاً, يجب أن يكون لدى الله رموز للتواصل الروحي من شأنها أن تمكن أولئك الذين يتواصلون معه من فهمه تماماً. لكن بما أن الله لانهائي وأبدي, الخالق لكل الكائنات الأخرى, يترتب على ذلك, فيما يتعلق بكائنات المساواة, أن الله وحده في الكون. ليس هناك مساوٍ له, ليس هناك أحد يستطيع أن يتواصل معه على قدم المساواة. قد يكون الله بالفعل مصدر كل شخصية, لكن على هذا النحو هو متعالي عن الشخصية, حتى كما الخالق هو فوق وما بعد المخلوق ".
161:1.3 (1783.5) أقلق هذا الخلاف توما ونثانئيل للغاية, وطلبا من يسوع أن يأتي لإنقاذهما, لكن السيد رفض الدخول في مناقشاتهم. قال لتوما: "لا يهم كثيرًا أي فكرة قد تخالج عن الأب طالما أنك على دراية روحياً بالمثل الأعلى لطبيعته اللانهائية والأبدية."
161:1.4 (1784.1) جادل توما بأن الله يتواصل مع الإنسان, وبالتالي فإن الأب هو شخص, حتى ضمن تعريف رودان. هذا رفضه اليوناني على أساس أن الله لا يكشف عن نفسه شخصياً؛ بأنه لا يزال لغزاً. عندئذٍ التجأ نثانئيل إلى تجربته الشخصية مع الله, وذلك سمح به رودان, مؤكدا أنه مر مؤخرًا بتجارب مماثلة, ولكن هذه التجارب, كما جادل, أثبتت فقط حقيقة الله, وليس شخصيته.
161:1.5 (1784.2) بحلول ليلة الاثنين استسلم توما. ولكن بحلول مساء الثلاثاء كان نثانئيل قد ربح رودان للإيمان بشخصية الأب, وأدخل هذا التبديل في وجهة نظر اليوناني حيز التنفيذ من خلال الخطوات التالية من التفكير المنطقي:
161:1.6 (1784.3) 1. يتمتع الأب في الفردوس بالمساواة في التواصل مع كائنين آخرين على الأقل اللذين هما متساويين تماماً مع نفسه وكلياً مثله ــ الابن الأبدي والروح اللانهائي. في ضوء عقيدة الثالوث, كان اليوناني مضطراً للتسليم بإمكانية شخصية الأب الكوني. (لقد كان الاعتبار الأخير لهذه المناقشات الذي أدّى إلى توسيع مفهوم الثالوث في أذهان الرُسل الاثني عشر. بالطبع, كان الاعتقاد السائد بأن يسوع هو الابن الأبدي.)
161:1.7 (1784.4) 2. حيث إن يسوع كان متساوياً مع الأب, وبما أن هذا الابن قد حقق تجلي الشخصية لأولاده الأرضيين, فقد شكلت مثل هذه الظاهرة دليلاً على حقيقة, وإثبات لإمكانية, امتلاك الشخصية من قِبل كل جميع الآلهة الثلاثة وحسمت إلى الأبد المسألة المتعلقة بمقدرة الله على التواصل مع الإنسان وإمكانية تواصل الإنسان مع الله.
161:1.8 (1784.5) 3. أن يسوع كان على علاقة متبادلة وتواصل كامل مع الإنسان؛ أن يسوع كان ابن الله. أن العلاقة بين الابن والأب تفترض مسبقاً المساواة في التواصل ومبادلة التفاهم الودي؛ أن يسوع والأب كانا واحداً. أن يسوع قد حافظ عند وقت واحد وفي نفس الوقت على تواصل متفهم مع كل من الله والإنسان, وأنه, بما أن الله والإنسان أدركا معنى رموز تواصل يسوع, فقد امتلك كل من الله والإنسان سمات الشخصية بقدر ما متطلبات القدرة على التواصل معنية. أن شخصية يسوع أظهرت شخصية الله, بينما أثبتت بشكل قاطع حضور الله في الإنسان. أن الشيئين المرتبطين بنفس الشيء مرتبطان ببعضهما البعض.
161:1.9 (1784.6) 4. أن الشخصية تمثل أسمى مفهوم للإنسان عن الواقع البشري والقيم الإلَهية؛ أن الله يمثل أيضًا أعلى مفهوم للإنسان عن الواقع الإلَهي والقيم اللانهائية؛ لذلك, يجب أن يكون الله شخصية إلَهية ولانهائية, شخصية في الواقع على الرغم من تجاوزه لمفهوم الإنسان وتعريفه للشخصية, لكن مع ذلك شخصية دائماً وكونياً.
161:1.10 (1784.7) 5. أن الله يجب أن يكون شخصية بما أنه خالق كل شخصية ومصير كل شخصية. كان رودان متأثراً للغاية بتعليم يسوع, "كونوا إذًا مثاليين, حتى كما أباكم في المساء مثالي."
161:1.11 (1784.8) عندما سمع رودان هذه الحجج, قال: "أنا مقتنع. سأقر بالله كشخص إذا سمحت لي بتأهيل اعترافي بمثل هذا المعتقد من خلال الإلصاق بمعنى الشخصية مجموعة من القيم الموسعة, مثل فائق عن الإنساني, ومتعالٍ, وسامي, ولانهائي, وأبدي, ونهائي, وكوني. أنا مقتنع الآن أنه, في حين أن الله يجب أن يكون لانهائياً أكثر من مجرد شخصية, فلا يمكن أن يكون أي شيء أقل من ذلك. أنا راضٍ لإنهاء الجدل وقبول يسوع باعتباره الوحي الشخصي للأب والإرضاء لكل العوامل غير الراضية في المنطق, والعقل, والفلسفة."
161:2.1 (1785.1) حيث إن نثانئيل وتوما كانا موافقين على وجهة نظر رودان بشأن إنجيل الملكوت, فقد بقي هناك نقطة واحدة أخرى يجب مراعاتها, وهي التعاليم التي تتناول الطبيعة الإلَهية ليسوع, وهي عقيدة أُعلن عنها مؤخراً جداً فقط. قَدَّم نثانئيل وتوما معاً وِجهة نظرهما حول الطبيعة الإلَهية للسيد, والسرد التالي هو تقديم مكثف, ومعاد ترتيبه, ومعاد صياغته لتعليمهما:
161:2.2 (1785.2) 1. أقر يسوع بألوهيته, ونحن نؤمن به. حدثت العديد من الأشياء الجديرة بالإعتبار فيما يتعلق بإسعافه التي لا يمكننا أن نفهمها إلا من خلال الإيمان بأنه ابن الله وكذلك ابن الإنسان.
161:2.3 (1785.3) 2. يمثل ارتباط حياته معنا مثالاً للصداقة البشرية؛ فقط كائن إلَهي يمكنه أن يكون مثل هذا الصديق البشري. إنه أكثر شخص غير أناني حقًا عرفناه على الإطلاق. هو الصديق حتى للخاطئين؛ يجرؤ على حب أعدائه. هو مخلص جداً لنا. في حين أنه لا يتردد في توبيخنا, فمن الواضح للجميع بأنه حقاً يحبنا. كلما عرفته بشكل أفضل, ستحبه أكثر. ستكون مفتوناً بتفانيه الذي لا يتزعزع. خلال كل هذه السنوات من فشلنا في استيعاب رسالته, كان صديقاً وفياً. في حين أنه لا يستخدم الإطراء, فقد عاملنا جميعًا بحنو متساوٍ؛ إنه حنون ورحيم على الدوام. لقد شارك حياته وكل شيء آخر معنا. نحن جماعة سعيدة؛ نتشارك كل الأشياء المشتركة. نحن لا نعتقد أن مجرد إنسان يمكن أن يعيش مثل هذه الحياة الخالية من اللوم في ظل هذه الظروف المجرِبة.
161:2.4 (1785.4) 3. نعتقد بأن يسوع إلَهي لأنه لا يخطئ أبداً؛ لا يرتكب أخطاء. حكمته غير عادية؛ وتقواه رائعة. إنه يعيش يوماً بيوم في توافق مثالي مع مشيئة الأب. لا يندم أبداً على إساءات لأنه لا يخالف أياً من قوانين الأب. يصَّلي من أجلنا ومعنا, لكنه لا يسألنا أبداً أن نصَّلي لأجله. نعتقد أنه بلا خطيئة على الدوام. لا نعتقد بأن أي شخص هو مجرد إنسان أقـَّر أبداً أن يعيش مثل هذه الحياة. يدَّعي ليعيش حياة مثالية, ونحن نعترف بذلك. تنبع تقوانا من التوبة, لكن تقواه تنبع من البر. هو حتى يقر ليغفر خطايا وفعلاً يشفي أمراض. لا مجرد إنسان يقر بعقل كامل أن يغفر الخطيئة؛ ذلك امتياز إلَهي. وقد بدا ليكون هكذا مثالياً في بره منذ أوقات أول اتصال لنا به. نحن ننمو في نعمة وفي معرفة الحقيقة, لكن سيدنا يُظهر نضجًا من البر منذ البدء. كل الناس, أخيار وأشرار, يتعرفون على عناصر الصلاح هذه في يسوع, ومع ذلك في تقواه ليس أبداً لحوحاً أو متفاخراً. إنه معاً وديع ولا يعرف الخوف. يبدو أنه يوافق على إيماننا بألوهيته. هو إما ما يدعي أنه هو, أو أنه أعظم مرائي ومزور عرفه العالَم على الإطلاق. نحن مقتنعون بأنه بالضبط ما يدَّعي أن يكون.
161:2.5 (1785.5) 4. تفرد طبعه وكمال تحَّكمه العاطفي يقنعنا بأنه مزيج من الإنسانية والألوهية. يستجيب بلا كلل لمشهد الحاجة الإنسانية؛ والمعاناة لا تفشل أبداً في مناشدته. تتأثر شفقته على حد سواء بالمعاناة الجسدية, أو الكرب العقلي, أو الحزن الروحي. إنه سريع في الإدراك وسخي في الإقرار بوجود الإيمان أو أي نعمة أخرى في زملائه من الناس. إنه منصف وعادل للغاية وفي نفس الوقت رحيم ومراعٍ للغاية. يحزن على التعنت الروحي للناس ويفرح عندما يوافقون على رؤية نور الحقيقة.
161:2.6 (1786.1) 5. يبدو أنه يعرف أفكار عقول الناس ويفهم أشواق قلوبهم. ودائماً متعاطف مع أرواحنا المضطربة. يبدو أنه يمتلك كل مشاعرنا البشرية, لكنها ممجدة بشكل رائع. يحب الخير بشدة ويكره الخطيئة بنفس القدر. يمتلك وعياً فائقاً بحضور الإلَه. يصَّلي كإنسان لكنه يعمل مثل الله. يبدو أنه يعلم الأشياء مسبقاً؛ حتى أنه يجرؤ الآن على الحديث عن موته, إشارة باطنية ما إلى تمجيده في المستقبل. بينما هو لطيف, فهو أيضًا شجاع وصنديد. لا يتردد في أداء واجبه.
161:2.7 (1786.2) 6. نحن متأثرون على الدوام بظاهرة معرفته الخارقة. لا يكاد يمر يوم دون أن يبان شيء يكشف بأن السيد يعرف ما يجري بعيداً عن حضوره المباشر. كما يبدو أنه يعرف أفكار زملائه. بدون شك لديه تواصل مع شخصيات سماوية؛ إنه يعيش بلا شك على مستوى روحي أعلى بكثير من بقيتنا. كل شيء يبدو ليكون مفتوحاً إلى فهمه الفريد. يسألنا أسئلة لاستخراجنا, وليس للحصول على معلومات.
161:2.8 (1786.3) 7. في الآونة الأخيرة لا يتردد السيد في تأكيد إنسانيته الخارقة. منذ يوم رسامتنا كرُسل حتى إلى أوقات حديثة, لم ينكر أبداً بأنه جاء من الأب أعلاه. يتكلم بسُلطة معلم إلَهي. لا يتردد السيد في دحض التعاليم الدِينية لليوم وإعلان الإنجيل الجديد بسُلطة إيجابية. إنه حازم, وإيجابي, وموثوق. حتى يوحنا المعمدان, عندما سمع يسوع يتكلم, أعلن بأنه ابن الله. يبدو ليكون مكتفياً للغاية داخل نفسه. لا يشتهي نصرة الجموع؛ إنه غير مبالٍ بآراء الناس. إنه شجاع ومع ذلك خالٍ للغاية من الفخر.
161:2.9 (1786.4) 8. إنه يتحدث باستمرار عن الله كرفيق دائم الحضور في كل ما يفعله. يذهب يعمل الخير, لأنه يبدو أن الله فيه. يقدم أكثر التأكيدات إثارة للدهشة عن نفسه ومهمته على الأرض, وهي تصريحات ستكون عبثية إن لم يكن إلَهياً. أعلن ذات مرة, "قبل ما كان إبراهيم, أنا موجود." لقد ادَّعى الألوهية بالتأكيد؛ يعلن أنه في شراكة مع الله. تقريباً يستنفذ إمكانيات اللغة في تكرار ادعاءاته عن ارتباط وثيق مع الأب السماوي. حتى أنه يجرؤ على تأكيد أنه والأب واحد. يقول بأن كل من رآه قد رأى الأب. ويقول ويفعل كل تلك الأشياء العظيمة بطبيعة طفولية. يُلمح إلى ارتباطه بالأب بنفس الأسلوب الذي يشير به إلى ارتباطه معنا. يبدو ليكون واثقاً جدًا من الله ويتكلم عن هذه العلاقات بطريقة الأمر-الواقع.
161:2.10 (1786.5) 9. في حياة الصلاة لديه يبدو أنه يتواصل مباشرة مع أبيه. لقد سمعنا القليل من صلواته, لكن هذه القلة تشير إلى أنه يتحدث مع الله, كما لو كان, وجهاً لوجه. يبدو أنه يعرف المستقبل كما الماضي. ببساطة لا يمكن أن يكون كل هذا ويقوم بكل هذه الأشياء غير العادية إلا إذا كان أكثر من إنسان. نعلم بأنه إنسان, نحن على يقين من ذلك, لكننا تقريباً بالتساوي على يقين من أنه إلَهي أيضًا. نؤمن بأنه إلَهي. نحن مقتنعون بأنه ابن الإنسان وابن الله.
161:2.11 (1787.1) عندما أنهى نثانئيل وتوما مؤتمرهما مع رودان, أسرعا نحو أورشليم للانضمام إلى زملائهم الرُسل, ووصلوا يوم الجمعة من ذلك الأسبوع. كانت هذه تجربة عظيمة في حياة هؤلاء المؤمنين الثلاثة, وتعلم الرُسل الآخرون الكثير من سرد هذه التجارب من قبل نثانئيل وتوما.
161:2.12 (1787.2) عاد رودان إلى الإسكندرية, حيث درس فلسفته لفترة طويلة في مدرسة ميجانطا. أصبح رَجلاً قديراً في الشؤون اللاحقة لملكوت السماء؛ كان مؤمناً مُخلِصاً حتى نهاية أيامه الأرضية, مُعطياً حياته في اليونان مع آخرين عندما كانت الاضطهادات في أوجها.
161:3.1 (1787.3) كان وعي الألوهية نمواً تدريجياً في عقل يسوع حتى مناسبة معموديته. بعدها أصبح واعياً تماماً بطبيعته الإلَهية, ووجوده السابق عن البشري, وامتيازاته الكونية, يبدو أنه امتلك القدرة على الحد من وعيه البشري بألوهيته بتنوع. يبدو لنا أنه منذ معموديته حتى الصلب كان اختيارياً تماماً مع يسوع سواء ليتكل فقط على العقل البشري أو ليستفيد من معرفة كل من عقليه البشري والإلَهي. في بعض الأحيان بدا أنه يستفيد فقط من تلك المعلومات التي كانت موجودة في العقل البشري. في مناسبات أخرى بدا أنه يتصرف بملء من المعرفة والحكمة كما لا يمكن توفيره إلا من خلال استخدام المحتوى الفائق لوعيه الإلَهي.
161:3.2 (1787.4) يمكننا أن نفهم أداءه الفريد فقط بقبول النظرية بأنه يستطيع, وفقاً لإرادته, أن يحد-بنفسه من وعيه الإلَهي. نحن مدركون تمامًا بأنه حجب مراراً عن زملائه معرفته المسبقة بالأحداث, وبأنه كان على دراية بطبيعة تفكيرهم وتخطيطهم. نحن نفهم أنه لم يرغب في أن يعرف أتباعه تماماً أنه كان قادرًا على تمييز أفكارهم واختراق خططهم, لم يرغب في أن يتعالى كثيراً عن المفهوم البشري كما كان محتفظًا به في أذهان رُسله وتلاميذه.
161:3.3 (1787.5) نحن كلياً في حيرة من أمرنا في التمييز بين ممارسته المتمثلة في الحد من وعيه الإلهي وتقنيته في إخفاء علمه المسبق وفكره عن زملائه من البشر. نحن مقتنعون بأنه استخدم كلتا هاتين التقنيتين, لكننا لسنا قادرين دائماً, في حالة ما, على تحديد الطريقة التي ربما استخدمها. كثيرا ما لاحظناه يتصرف فقط بالمحتوى البشري للوعي؛ بعدها نراه في مؤتمر مع موَّجهي الجماهير السماوية للكون ونميز الأداء الذي لا شك فيه للعقل الإلهي. وبعدها في مناسبات لا حصر لها تقريباً شهدنا عمل هذه الشخصية المُرَّكَبة للإنسان والله كما تم تفعيلها من خلال الاتحاد المثالي الجلي للعقلين البشري والإلَهي. هذا هو حد معرفتنا بهذه الظاهرة؛ نحن في الواقع لا نعرف الحقيقة الكاملة حول هذا اللغز.
كِتاب يورانشيا
ورقة 162
162:0.1 (1788.1) عندما بدأ يسوع في طريقه إلى أورشليم مع الرُسل العشرة, خطط أن يمر عبر السامره, ذلك كائن الطريق الأقصر. تبعاً لذلك, عبروا الشاطئ الشرقي للبحيرة, وعن طريق سكيثوبولِس, دخلوا حدود السامره. قرب حلول الليل أرسل يسوع فيليبُس ومتـّى إلى قرية على المنحدرات الشرقية لجبل الجلبوع لتأمين مكان إقامة للجماعة. لقد حدث أن هؤلاء القرويين كانوا متحيزين إلى حد كبير ضد اليهود, حتى أكثر من السامريين العاديين, وكانت هذه المشاعر عند ذروتها في هذا الوقت بالذات بينما كان كثيرون في طريقهم إلى عيد المظال. عرف هؤلاء الناس القليل جداً عن يسوع, ورفضوا إيواءه لأنه ورفاقه كانوا من اليهود. عندما أبدى متـّى وفيليبُس سخطهما وأبلغا هؤلاء السامريين بأنهم يرفضون ضيافة قدوس إسرائيل, طاردهم القرويون الهائجون خارج البلدة الصغيرة بالعصي والحجارة.
162:0.2 (1788.2) بعد أن عاد فيليبُس ومتـّى إلى زملائهما وأبلغا عن كيفية طردهما من القرية, خطى يعقوب ويوحنا إلى يسوع وقالا: "يا سيد, نصَّلي بأن تمنحنا إذناً لنأمر نار تنزل من السماء لتلتهم هؤلاء السامريين السفهاء وغير التائبين. لكن عندما سمع يسوع كلمات الانتقام هذه, استدار إلى ابنا زَبـِدي ووبخهما بشدة: "أنتما لا تعرفان أي موقف من السلوك تُظهران. الانتقام لا يتذوق تباشير ملكوت السماء. بدلاً من الخصام, لنرحل إلى القرية الصغيرة بجوار مقطع الأردن." وهكذا بسبب التحيز الطائفي أنكر هؤلاء السامريون على أنفسهم شرف إظهار كرم الضيافة للابن الخالق لكون.
162:0.3 (1788.3) توقف يسوع والعشرة من أجل الليل في القرية القريبة من مقطع الأردن. في وقت مبكر من اليوم التالي عبروا النهر ومضوا إلى أورشليم عبر طريق شرق الأردن العمومية, ووصلوا إلى بيت-عنيا في وقت متأخر من مساء الأربعاء. وصل توما ونثانئيل يوم الجمعة, بعد أن تأخرا بسبب لقاءاتهما مع رودان.
162:0.4 (1788.4) بقي يسوع والإثني عشر في جوار أورشليم حتى نهاية الشهر التالي (تشرين الأول), حوالي أربعة أسابيع ونصف. ذهب يسوع نفسه إلى المدينة مرات قليلة فقط, وقد تمت هذه الزيارات القصيرة خلال أيام عيد المظال. قضى جزءًا مُعتبراً من شهر تشرين الأول مع أبنير ورفاقه في بيت-لحم.
162:1.1 (1788.5) قبل وقت طويل من هروبهم من الجليل, كان أتباع يسوع قد ناشدوه أن يذهب إلى أورشليم لإعلان إنجيل الملكوت من أجل أن تكون لرسالته هيبة التبشير بها في مركز الثقافة والتعليم اليهودي؛ لكن الآن حيث أنه قد جاء بالفعل إلى أورشليم لكي يُعَّلِم, كانوا خائفين على حياته. عارفون بأن السنهدرين قد سعوا لإحضار يسوع إلى أورشليم للمحاكمة ومتذكرون تصريحات السيد التي كررها مؤخرًا بأنه يجب أن يخضع للموت, كان الرُسل مصعوقين حرفياً بقراره المفاجئ لحضور عيد المظال. إلى كل التماساتهم السابقة بأن يذهب إلى أورشليم كان قد أجاب, "لم تأت الساعة بعد." الآن, إلى احتجاجاتهم من الخوف أجاب فقط, "لكن الساعة قد حانت."
162:1.2 (1789.1) أثناء عيد المظال ذهب يسوع بجرأة إلى أورشليم في عدة مناسبات وعلـَّم علناً في الهيكل. وقد فعل هذا بالرغم من جهود رُسله لإقناعه بالعدول. رغم أنهم كانوا قد حثوه منذ فترة طويلة على إعلان رسالته في أورشليم, الآن خافوا رؤيته يدخل المدينة في هذا الوقت, وهم يعلمون جيدًا أن الكتبة والفريسيين كانوا مصممين على موته.
162:1.3 (1789.2) ظهور يسوع الجريء في أورشليم أربك أتباعه أكثر من أي وقت مضى. العديد من تلاميذه, وحتى يوداص إسخريوط, الرسول, كانوا قد تجرأوا على الاعتقاد بأن يسوع هرب على عجل إلى فينيقيا لأنه كان يخشى القادة اليهود وهيرودس أنتيباس. فشلوا في استيعاب أهمية تحركات السيد. كان حضوره في أورشليم في عيد المظال, حتى في معارضة لنصيحة أتباعه, كافياً إلى الأبد لوضع حد لكل همسات الخوف والجُبن.
162:1.4 (1789.3) أثناء عيد المظال, الآلاف من المؤمنين من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية رأوا يسوع, وسمعوه يعَّلم, بل إن كثيرين حتى سافروا إلى بيت-عنيا للتشاور معه بشأن تقدم الملكوت في مناطقهم الوطنية.
162:1.5 (1789.4) كان هناك العديد من الأسباب التي جعلت يسوع قادرًا على التبشير علانية في أروقة الهيكل طوال أيام العيد, والسبب الرئيسي كان الخوف الذي حل على ضباط السنهدرين نتيجة الانقسام السري للمشاعر في صفوفهم. لقد كان حقاً أن العديد من أعضاء السنهدرين إما آمنوا سراً بيسوع أو كانوا بشكل قاطع معارضين لإلقاء القبض عليه خلال العيد, عندما كانت مثل هذه الأعداد الكبيرة من الناس حاضرة في أورشليم, كثير منهم إما آمنوا به أو كانوا على الأقل مصادقين للحركة الروحية التي رعاها.
162:1.6 (1789.5) كذلك فعلت جهود أبنير ورفاقه في كل أنحاء يهودا الكثير لترسيخ المشاعر المؤيدة للملكوت, كثيراً لدرجة أن أعداء يسوع لم يجرؤوا على أن يكونوا صريحين في معارضتهم. كان هذا أحد الأسباب وراء تمكن يسوع من زيارة أورشليم علناً وأن يعيش ليستمر. قبل شهر أو شهرين من هذا كان من المؤكد سيُعدَم.
162:1.7 (1789.6) لكن جسارة يسوع الجريئة في الظهور علناً في أورشليم أرهبت أعداءه؛ لم يكونوا مستعدن لمثل هذا التحدي الجريء. عدة مرات خلال هذا الشهر, قام السنهدرين بمحاولات واهنة لوضع السيد رهن الاعتقال, لكن لم تأت هذه الجهود بأي شيء. لقد اندهش أعداؤه من ظهور يسوع العلني غير المتوقع في أورشليم بحيث ظنوا بأنه يجب أن يكون قد وُعد بالحماية من قِبل السُلطات الرومانية. عارفون بأن فيليبُس (شقيق هيرودس أنتيباس) كان تقريباً من أتباع يسوع, تكهن أعضاء السنهدرين بأن فيليبُس قد ضمن ليسوع وعوداً بالحماية ضد أعدائه. كان يسوع قد رحل من منطقة نفوذهم قبل أن يستيقظوا على إدراك أنهم أخطأوا في الاعتقاد بأن ظهوره المفاجئ والجريء في أورشليم كان بسبب تفاهم سِري مع المسؤولين الرومان.
162:1.8 (1789.7) فقط الرُسل الاثني عشر كانوا يعرفون أن يسوع كان ينوي حضور عيد المظال عندما غادروا ماجادان. كان الأتباع الآخرون للسيد مذهولين للغاية عندما ظهر في أروقة الهيكل وبدأ يعَّلم علناً, وكانت السُلطات اليهودية متفاجئة بما يتجاوز التعبير عندما أفيد بأنه كان يعَّلم في الهيكل.
162:1.9 (1790.1) مع أن تلاميذه لم يتوقعوا أن يحضر يسوع العيد, إلا أن الغالبية العظمى من الحجاج من بعيد ممن كانوا قد سمعوا به كانوا يأملون في رؤيته في أورشليم. ولم يكونوا خائبي الأمل, لأنه في عدة مناسبات قام بالتدريس في رواق سليمان وأماكن أخرى في فناءت الهيكل. كانت هذه التعاليم في الحقيقة الإعلان الرسمي أو الشكلي عن ألوهية يسوع بالنسبة للشعب اليهودي والعالَم أجمع.
162:1.10 (1790.2) كانت الجموع التي استمعت إلى تعاليم السيد منقسمة في آرائها. بعضهم قال بأنه رَجل صالح؛ وقال البعض بأنه نبي؛ وبعضهم قالوا أنه حقاً المسيح؛ قال آخرون بأنه متطفل مؤذي, بأنه يضل الناس بمذاهبه الغريبة. تردد أعداؤه في التنديد به علانية خوفًا من المؤمنين الودودين, في حين خشي أصدقاؤه الاعتراف به علانية خوفًا من القادة اليهود, عارفون بأن السنهدرين كانوا مصممين على إعدامه. لكن حتى أعداءه تعجبوا من تعليمه, عارفون بأنه لم يتلقى تعليمه في مدارس الحاخامات.
162:1.11 (1790.3) في كل مرة ذهب يسوع إلى أورشليم, كان رُسله مملوءين بالرعب. كانوا أكثر خوفاً بينما, من يوم لآخر, استمعوا إلى تصريحاته المتزايدة في الجرأة بشأن طبيعة مهمته على الأرض. لم يكونوا معتادين على سماع يسوع يصرح بمثل هذه الادعاءات الإيجابية وهذه التأكيدات المدهشة حتى عندما وعظ بين أصدقائه.
162:2.1 (1790.4) بعد ظهر اليوم الأول الذي علـَّم فيه يسوع في الهيكل, جلست جماعة كبيرة تستمع إلى كلماته التي تصور حرية الإنجيل الجديد وفرح أولئك الذين يؤمنون بالبشارة, عندما قاطعه مُستمع فضولي ليسأل: "أيها المعلم, كيف يمكنك أن تستشهد بالكتابات المقدسة وتـُعَّلم الناس بطلاقة عندما قيل لي بأنك غير متعلم في تعاليم الحاخامات؟" أجاب يسوع: "لم يعلمني أحد الحقائق التي أعلنها لكم. وهذا التعليم ليس مني بل للذي أرسلني. إذا كان أي شخص يرغب حقًا في أن يفعل مشيئة أبي, فسوف يعرف بالتأكيد عن تعليمي, سواء كان من الله أو ما إذا كنت أتكلم من نفسي. من يتكلم عن نفسه يسعى لمجده الخاص, لكن عندما أُعلن كلمات الأب, فإنني بهذا أطلب مجد الذي أرسلني. لكن قبل أن تحاول الدخول إلى النور الجديد, ألا يجدر بك بالأحرى أن تتبع النور الذي لديك بالفعل؟ أعطاكم موسى الناموس, لكن كم منكم يسعى بصدق إلى الوفاء بمتطلباته؟ أوصاكم موسى في هذه الشريعة, قائلاً, ’لا تقتل‘؛ بالرغم من هذه الوصية يسعى بعضكم لقتل ابن الإنسان."
162:2.2 (1790.5) عندما سمع الجمع هذه الكلمات, وقعوا في جدال فيما بينهم. بعضهم قال بأنه مجنون؛ والبعض بأن لديه إبليس. وقال آخرون إن هذا كان بالفعل نبي الجليل الذي طالما سعى الكتبة والفريسيون لقتله. بعضهم قال أن السُلطات الدِينية كانت تخشى التحرش به؛ آخرون ظنوا بأنهم لم يلقوا أيديهم عليه لأنهم أصبحوا مؤمنين به. بعد جدال مُعتبَر تقدم واحد من الجمع إلى الأمام وسأل يسوع, "لماذا يسعى الحكام لقتلك؟" فأجاب: "يسعى الحكام لقتلي لأنهم مستاءون من تعليمي عن بشارة الملكوت, إنجيل يحرر الناس من التقاليد المرهقة لدين رسمي من الاحتفالات التي عقد هؤلاء المعلمون العزم على دعمها بأي ثمن. إنهم يختنون وفقاً للشريعة في يوم السبت, لكنهم يودون قتلي لأني ذات مرة في يوم السبت أطلقت سراح رجل كان محتجزاً في رباط الضيق. إنهم يتبعونني في يوم السبت للتجسس علي ولكنهم سيقتلونني لأنني في مناسبة أخرى اخترت أن أشفي رَجلاً مصاباً بشكل خطير في يوم السبت. إنهم يسعون لقتلي لأنهم يعلمون جيداً أنه إذا كنت تؤمن بصدق وتجرؤ على قبول تعليمي, فسوف يتم الإطاحة بنظامهم الديني التقليدي, سيتم تدميره إلى الأبد. هكذا سيُحرَمون من السُلطة على ما كرسوا حياتهم من أجله حيث إنهم يرفضون بحزم قبول هذا الإنجيل الجديد والأكثر مجداً لملكوت الله. والآن أناشد كل واحد منكم: لا تحكموا وفقاً للمظاهر الخارجية بل بالأحرى احكموا بالروح الحقيقية لهذه التعاليم؛ احكموا بالعدل."
162:2.3 (1791.1) عندئذٍ قال مستفسر آخر: "نعم, يا معلم, نحن نتطلع من أجل المسيح, لكنه عندما يأتي, نعلم بأن ظهوره سيكون في غموض. نحن نعرف من أين أنت. لقد كنت من بين إخوانك منذ البداية. سوف يأتي المخلص بقدرة ليستعيد عرش مملكة داود. هل حقاً تدَّعي أنك المسيح؟" فأجاب يسوع: "أنت تدَّعي أنك تعرفني وتعرف من أين أنا. أتمنى لو كانت ادعاءاتك صحيحة, لأنك حينئذٍ ستجد حياة وافرة في تلك المعرفة. لكنني أعلن بأنني لم آت إليكم من أجل نفسي؛ لقد أُرسلت من قبل الأب, والذي أرسلني هو صادق وأمين. برفضك سماعي, أنت ترفض أن تستلم الذي أرسلني. أنت, إذا كنت ستستلم هذا الإنجيل فستعرف من أرسلني. أنا أعرف الأب, لأني أتيت من الأب لأعلنه واكشفه إليكم."
162:2.4 (1791.2) أراد عملاء الكتبة أن يضعوا أيديهم عليه, لكنهم خافوا من الجموع, لأن كثيرين آمنوا به. كان عمل يسوع منذ معموديته قد أصبح معروفاً جيداً لجميع اليهود, وبقدر ما تذكر من هؤلاء الناس هذه الأشياء, قالوا فيما بينهم: "حتى ولو إن هذا المعلم من الجليل, وحتى لو إنه لا يلبي كل توقعاتنا عن المسيح, إلا أننا نتساءل عما إذا كان المُخَلِص, عندما يأتي, سيفعل في الحقيقة أي شيء أكثر روعة مما فعله يسوع الناصري حتى الآن."
162:2.5 (1791.3) عندما سمع الفريسيون وعملائهم الناس يتحدثون بهذه الطريقة, تشاوروا مع قادتهم وقرروا أنه ينبغي القيام بشيء ما على الفور لوضع حد لهذه الظهورات العلنية ليسوع في أفنية الهيكل. كان قادة اليهود, بشكل عام, عازمين على تجنب الصدام مع يسوع, معتقدين بأن السُلطات الرومانية وعدته بالحماية. لم يتمكنوا سوى ذلك من تفسير جرأته في المجيء إلى أورشليم في هذا الوقت؛ لكن ضباط السنهدرين لم يصدقوا هذه الإشاعة تماماً. اعتقدوا بأن الحكام الرومان لن يفعلوا شيئاً كهذا سِراً ودون معرفة أعلى هيئة حاكمة للأمة اليهودية.
162:2.6 (1791.4) وفقاً لذلك, تم إرسال إيبر, الضابط اللائق للسنهدرين, مع اثنين من المساعِدين لإلقاء القبض على يسوع. بينما كان إيبر يشق طريقه نحو يسوع, قال السيد: "لا تخف من الاقتراب مني. اقترب بينما تستمع إلى تعليمي. أعلم بأنك أُرسلت لإلقاء القبض علىَ, لكن يجب أن تفهم بأن لا شيء سيحِل بابن الإنسان حتى تأتي ساعته. أنت لست مصطفاً ضدي؛ أتيت فقط لتقوم بأوامر أسيادك, وحتى حكام اليهود هؤلاء يعتقدون حقاً أنهم يؤدون خدمة لله عندما يسعون سراً إلى هلاكي.
162:2.7 (1792.1) لا أحمل ضغينة ضد أي منكم. الأب يحبكم, ولذلك أتوق من أجل خلاصكم من رباط التحيز وظلمة التقاليد. أعرض عليكم حرية الحياة وفرح الخلاص. أنا أعلن عن الطريق الجديد والحي, الخلاص من الشر وكسر رباط الخطيئة. لقد أتيت بحيث قد تكون لديكم حياة, وتكون لديكم للأبد. أنتم تسعون للتخلص مني ومن تعاليمي المزعجة. إذا استطعتم فقط أن تدركوا بأنني سأكون معكم لبعض الوقت فقط! في وقت قصير فقط سأذهب إليه الذي أرسلني إلى هذا العالّم. وعند ذاك كثيرون منكم سيطلبونني بجد, لكنكم لن تكتشفوا حضوري, لأن حيث أنا على وشك أن أذهب لا يمكنكم المجيء. لكن كل من يسعون حقاً ليجدوني سيحققون في وقت ما الحياة التي تؤدي إلى حضور أبي."
162:2.8 (1792.2) قال بعض المستهزئين فيما بينهم: "إلى أين سيذهب هذا الرَجل بحيث لا يمكننا العثور عليه؟ هل سيذهب ليعيش بين اليونانيين؟ هل سيهلك نفسه؟ وماذا يقصد عندما يعلن بأنه سيَرحل عنا قريباً, وبأننا لا يمكننا الذهاب إلى حيث يذهب؟"
162:2.9 (1792.3) رفض إيبر ومساعديه اعتقال يسوع؛ عادوا إلى مكان اجتماعهم بدونه. عندما, لذلك, وبخ رئيس الكهنة والفريسيون إيبر ومساعديه لأنهم لم يجلبوا يسوع معهم, أجاب إيبر فقط: "خفنا أن نلقي القبض عليه وسط الجموع لأن الكثيرين يؤمنون به. إلى جانب ذلك, لم نسمع أبداً رجلاً يتكلم مثل هذا الرَجل. هناك شيء ما غير عادي في هذا المعلم. كلكم ستفعلون حسناً بالذهاب لسماعه." ولما سمع الحكام الرؤساء هذه الكلمات كانوا مذهولين وتكلموا بتعنيف إلى إيبر: "هل ضللت أنت أيضًا؟ هل توشك أن تؤمن بهذا المخادع؟ هل سمعت بأن أياً من رجالنا المتعلمين أو أياً من الحكام قد آمن به؟ هل انخدع أي من الكتبة أو الفريسيين بتعاليمه البارعة؟ كيف جرى لتتأثر بسلوك هذه الجموع الجاهلة الذين لا يعرفون الشريعة أو الأنبياء؟ ألا تعلم بأن هكذا شعب غير متعلم ملعون؟" وعندئذٍ أجاب إيبر: "حتى مع ذلك يا أسيادي, لكن هذا الرَجل يتكلم إلى الجموع كلمات الرحمة والأمل. يُبهج منكسري القلب, وكانت كلماته مؤاسية حتى إلى نفوسنا. ما الذي يمكن أن يكون خطأ في هذه التعاليم حتى ولو إنه قد لا يكون مسيح الكتابات المقدسة؟ وحتى عند ذاك أليست شريعتنا تتطلب الإنصاف؟ هل نُدين إنسان قبل سماعه؟" وكان رئيس السنهدرين حانقاً على إيبر. وانقلب عليه, قال: "هل جننت؟ هل أنت أيضًا من الجليل بأي حال من الأحوال؟ ابحث في الكتابات المقدسة, وستكتشف بأنه لم يقم ولا نبي من الجليل, أقل بكثير من المسيح."
162:2.10 (1792.4) انحَّل السنهدرين في ارتباك, وانسحب يسوع إلى بيت-عنيا من أجل الليل.
162:3.1 (1792.5) كان خلال هذه الزيارة إلى أورشليم حينما تعامل يسوع مع امرأة معينة سيئة السمعة التي أتى بها متهموها وأعدائه. قد يوحي السجل المشوه لديكم عن هذه الواقعة بأن هذه المرأة أتى بها الكتبة والفريسيون إلى يسوع, وأن يسوع تعامل معهم حتى يشير إلى أن هؤلاء القادة الدينيين لليهود أنفسهم قد يكونون مذنبين بارتكاب الفجور. كان يسوع يعلم جيداً أنه, بينما أن هؤلاء الكتبة والفريسيين كانوا عمياناً روحياً ومتحيزين فكرياً بولائهم للتقاليد, فقد كانوا يُعَّدون بين الرجال الأكثر دقة أخلاقياً في ذلك اليوم والجيل.
162:3.2 (1793.1) ما حدث بالحقيقة كان هذا: في وقت مبكر من صباح اليوم الثالث من العيد, حينما اقترب يسوع من الهيكل, التقى بجماعة من عملاء السنهدرين المستأجرين الذين كانوا يجرون امرأة معهم. ولما اقتربوا, قال الناطق: "يا سيد, هذه المرأة أُخذت في الزنا ــ في الفعل ذاته. الآن, تأمر شريعة موسى بأننا يجب أن نرجم مثل هذه المرأة. فماذا تقول ينبغي أن نفعل بها؟"
162:3.3 (1793.2) كانت خطة أعداء يسوع, إذا هو أيد شريعة موسى التي تتطلب رجم المعتدية المعترفة, لإشراكه في صعوبة مع الحكام الرومان, الذين أنكروا على اليهود حق تنفيذ عقوبة الإعدام دون موافقة محكمة رومانية. إذا هو نهى عن رجم المرأة, سيتهمونه أمام السنهدرين بأنه وضع نفسه أعلى من موسى والشريعة اليهودية. إذا بقي صامتاً, فسيتهمونه بالجُبن. لكن السيد تمكن من إدارة الموقف بحيث انهارت المكيدة بأكملها إلى قطع من ثقلها الدنيء.
162:3.4 (1793.3) كانت هذه المرأة, ذات مرة حسناء, زوجة مواطن وضيع من الناصرة, رَجل كان مسببًا للمتاعب ليسوع طوال أيام شبابه. الرجل, بعد أن تزوج هذه المرأة, أجبرتها بشكل مخجل على كسب عيشهم من خلال المتاجرة بجسدها. كان قد صعد إلى العيد في أورشليم بحيث تتمكن زوجته من ممارسة بغاء مفاتنها الجسدية من أجل مكسب مالي. كان قد دخل في صفقة مع مستأجَرين من الحكام اليهود هكذا ليخون زوجته في تجارتها الرذيلة. وهكذا جاءوا مع المرأة ورفيقها في الخطيئة بقصد إيقاع يسوع في شرك الإدلاء ببعض التصريحات التي يمكن استخدامها ضده في حال تم اعتقاله.
162:3.5 (1793.4) يسوع, متطلع إلى الجموع, رأى زوجها واقفاً خلف الآخرين. كان يعرف أي نوع من الرجال كان وأدرك أنه طرف في الصفقة الحقيرة. مشى يسوع في البداية حولهم بالقرب من مكان وقوف هذا الزوج المنحط, وكتب على الرمل بضع كلمات جعلته يغادر على عجل. ثم رجع أمام المرأة وكتب مرة أخرى على الأرض لصالح من قد يكونوا متهميها؛ وعندما قرأوا كلماته, هم أيضاً, ذهبوا بعيداً, الواحد تلو الآخر. وعندما كتب السيد للمرة الثالثة على الرمل, رحل رفيق المرأة في السوء, بحيث أنه, عندما نهض السيد من هذه الكتابة, رأى المرأة واقفة بمفردها أمامه. قال يسوع: "يا امرأة, أين متهميك؟ ألم يبقى رَجل ليرجمك؟" والمرأة رافعة عينيها, أجابت, "ولا رجل, يا رب". وعندئذٍ قال يسوع: "أنا أعرف عنكِ؛ ولا أدينكِ. اذهبي بطريقك في سلام." وهذا المرأة, هيلدانا, هجرت زوجها الأثيم والتحقت بتلامذة الملكوت.
162:4.1 (1793.5) حضور أناس من كل العالَم المعروف, من إسبانيا إلى الهند, جعل عيد المظال مناسبة مثالية من أجل يسوع ليعلن علناً للمرة الأولى إنجيله الكامل في أورشليم. في هذا العيد عاش الناس كثيراً في الهواء الطلق, في أكشاك مورقة. لقد كان عيد جمع الحصاد, وآتياً كما حصل, في برودة أشهر الخريف, كان يحضره يهود العالم بشكل عام أكثر من عيد الفصح في نهاية الشتاء أو عيد العنصرة في بداية الصيف. أخيراً رأى الرُسل سيدهم وهو يعلن بجرأة عن مهمته على الأرض أمام العالَم أجمع, كما كان.
162:4.2 (1794.1) كان هذا عيد الأعياد, حيث إن أي تضحية لم تُقدَّم في الأعياد الأخرى, كان يُمكن تقديمها في هذا الوقت. كانت هذه مناسبة لتلقي قرابين الهيكل؛ لقد كان مزيجاً من متع الإجازة مع طقوس العبادة الدينية الحازمة. هنا كان وقت الابتهاج العنصري, الممزوج بالذبائح, والهتافات اللاوية, والنفخات الحازمة لأبواق الكهنة الفضية. في الليل كان المشهد المؤثر للهيكل وحشود حجاجه مُنَّوَراً ببهاء بواسطة الشمعدانات الكبيرة التي اشتعلت بتألق في رواق النساء بالإضافة إلى وهج عشرات المشاعل القائمة حول أروقة الهيكل. كانت المدينة بأكملها مزينة بحبور باستثناء حصن أنطونيا الروماني, الذي تطلع نزولاً في تباين قاتم على هذا المشهد الإحتفالي والتعبدي. وكم كره اليهود هذا المُذكِر الدائم الحضور للنير الروماني!
162:4.3 (1794.2) تم التضحية بسبعين ثوراً أثناء العيد, رمز الأمم السبعين للوثنية. كان طقس تدفق الماء يرمز إلى تدفق الروح الإلَهي. أعقبت مراسم الماء هذه موكب شروق الشمس للكهنة واللاويين. مر العابدون نزولاً على الدرجات المؤدية من رواق إسرائيل إلى رواق النساء بينما تُنفخ نفخات متتالية على الأبواق الفضية. وبعدئذٍ تابع المؤمنون السير نحو البوابة الجميلة, التي انفتحت على رواق الأمميين. هنا استداروا ليواجهوا الغرب, لترديد ترانيمهم, ومواصلة مسيرتهم من أجل المياه الرمزية.
162:4.4 (1794.3) في اليوم الأخير من العيد قام حوالي أربعمائة وخمسون كاهناً مع عدد مماثل من اللاويين بالخدمة. عند مطلع النهار تجَّمع الحجاج من كل أنحاء المدينة, كل يحمل في يده اليمنى حزمة ريحان, وصفصاف, وأغصان نخيل, بينما في اليد اليسرى حمل كل واحد غصن تفاحة الفردوس ــ النارنج, أو "الثمرة المحَّرمة." انقسم هؤلاء الحجاج إلى ثلاث مجموعات لهذا الحفل الصباحي الباكر. بقيت فرقة واحدة في الهيكل لحضور تضحيات الصباح؛ وسارت مجموعة أخرى نزولاً تحت أورشليم إلى قرب مازا لقطع أغصان الصفصاف لتزيين مذبح الأضاحي, في حين شَكـَّلت المجموعة الثالثة موكباً للسير من المعبد خلف كاهن الماء, الذين, على صوت الأبواق الفضية, حملوا الأباريق الذهبية المحتوية على الماء الرمزي, خارجاً خلال أوفيل إلى قرب سيلوام, حيث تقع بوابة الينبوع. بعد أن امتلأ الإبريق الذهبي من بـِركة سيلوام, عاد الموكب إلى الهيكل, داخلين عن طريق بوابة الماء وذاهبين مباشرة إلى رواق الكهنة, حيث انضم إلى الكاهن حامل إبريق الماء الكاهن الذي يحمل النبيذ لقربان الشراب. عند ذاك توجه هذان الكاهنان معاً إلى الأقماع الفضية المؤدية إلى قاعدة المذبح وسكبا فيه محتويات الأباريق. كان تنفيذ هذا الطقس المتمثل في سكب النبيذ والماء إشارة للحجاج المجتمعين لبدء إنشاد المزامير من 113 إلى 118 شاملين, بالتناوب مع اللاويين. وبينما كرروا هذه السطور, كانوا يلوحون بحزماتهم عند المذبح. ثم تبعت التضحيات من أجل اليوم, مرافقة بتكرار المزمور من أجل اليوم, مزمور اليوم الأخير للعيد كائن الثاني والثمانين, مبتدئاً من الآية الخامسة.
162:5.1 (1794.4) في المساء التالي لليوم الأخير من العيد, عندما كان المشهد مُضاءً بتألق بأنوار الشمعدانات والمشاعل, وقف يسوع وسط الحشد المتجمع وقال:
162:5.2 (1795.1) "أنا نور العالَم, من يتبعني لن يمشي في ظلمة بل سيكون لديه نور الحياة. زاعمون أن تحاكموني ومفترضون أن تجلسوا كقضاة عليَ, أنتم تعلنون بأنني, إذا شهدت لنفسي, فإن شاهدي لا يمكن أن يكون صادقاً. لكن لا يمكن أبداً للمخلوق أن يجلس في قضاء على الخالق. حتى لو كنت أشهد عن نفسي, فإن شهادتي صحيحة إلى الأبد, لأنني أعرف من أين أتيت, ومن أنا, وإلى أين أذهب. أنتم الذين تودون قتل ابن الإنسان لا تعرفون من أين أتيت, ولا من أنا, ولا إلى أين أذهب. أنتم تحكمون فقط من خلال مظاهر الجسد؛ ولا تدركون حقائق الروح. أنا لا أحاكم أي إنسان, ولا حتى عدوي اللدود. لكن إذا اخترت أن أحكم, فسيكون حكمي صحيحًا وعادلًا, لأنني لن أحكم بمفردي لكن بالإشتراك مع أبي, الذي أرسلني إلى العالَم, والذي هو مصدر كل قضاء صحيح. أنتم حتى تسمحون بأن شهادة شخصين موثوق بهما يمكن قبولها ــ حسناً, إذن, أنا أشهد على هذه الحقائق؛ وهكذا أيضاً يفعل أبي في السماء. وعندما أخبرتكم بهذا بالأمس, في ظلمتكم سألتموني, ’أين أباك؟‘ حقاً, أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي, لو كنتم تعرفونني لعرفتم الأب أيضاً.
162:5.3 (1795.2) "لقد سبق أن أخبرتكم بأنني سأذهب بعيداً, وبأنكم ستطلبونني ولن تجدوني لأنه حيث أذهب لا يمكنكم المجيء. انتم الذين ترفضون هذا النور أنتم من أسفل؛ وأنا من فوق. أنتم من تفـَّضلون الجلوس في الظلمة, أنتم من هذا العالَم؛ وأنا لست من هذا العالَم, وأعيش في النور الأبدي لأب الأنوار. لقد أتيحت لكم جميعاً فرصة وفيرة لمعرفة من أنا, لكن سيكون لديكم دليل آخر يؤكد هوية ابن الإنسان. أنا نور الحياة, وكل من يرفض عن عمد وبفهم هذا النور المخلص سيموت في خطاياه. يجب أن أخبركم الكثير, لكنكم غير قادرين على استلام كلماتي. مع ذلك, فإن الذي أرسلني حقيقي ومُخْلص؛ أبي يحب حتى أولاده الخاطئين. وكل ما قاله أبي أنا أيضاً أعلنه للعالَم.
162:5.4 (1795.3) "عندما يُرفع ابن الإنسان, عندئذٍ ستعلمون جميعاً بأنني هو, وبأنني لم أفعل شيئاً من نفسي لكن فقط كما علـَّمني الأب. أتكلم بهذه الكلمات إليكم وإلى أولادكم. والذي أرسلني فهو معي حتى الآن؛ لم يتركني وحدي, لأني دائماً أفعل ما يسر نظره."
162:5.5 (1795.4) عندما علـَّم يسوع الحجاج هذا في أروقة الهيكل, آمن كثيرون. ولم يجرؤ أحد على وضع أيادي عليه.
162:6.1 (1795.5) في اليوم الأخير, يوم العيد العظيم, بينما كان الموكب من بـِركة سيلوام يمر عبر أروقة الهيكل, ومباشرة بعد أن صب الكهنة الماء والنبيذ على المذبح, قال يسوع, واقفاً بين الحجاج: "إذا عطش أي إنسان, فليأتي إليَ ويشرب. من الأب من فوق أُحضر إلى هذا العالَم ماء الحياة. مَن يؤمن بي سيمتليء بالروح الذي يمثله هذا الماء, لأن الكتابات المقدسة حتى قالت, ’منه ستتدفق أنهار ماء حي‘. عندما يُنهي ابن الإنسان عمله على الأرض, سوف يُسكب روح الحق الحي على كل جسد. ولن يعرف أولئك الذين يستلمون هذا الروح العطش الروحي أبداً.‘"
162:6.2 (1795.6) لم يقاطع يسوع الخدمة ليقول هذه الكلمات. لقد خاطب المصلين مباشرة بعد ترنيمة الهاليل, القراءة المتجاوبة للمزامير المصحوبة بتلويح الأغصان أمام المذبح. هنا بالتمام كانت فترة توقف أثناء تحضير التضحيات, وكان في هذا الوقت حينما سمع الحجاج الصوت الساحر للسيد يعلن بأنه المعطي للماء الحي لكل نفـْس عطشى-للروح.
162:6.3 (1796.1) عند ختام خدمة هذا الصباح الباكر واصل يسوع تعليم الجموع قائلاً: "أما قرأتم في الكتابات المقدسة: ’انظروا, كما تُسكب المياه على الأرض اليابسة وتنتشر فوق التربة الجافة, هكذا سأعطي روح القداسة لتُسكب على أولادكم من أجل البركة حتى لأولاد أولادكم‘؟ فلماذا ستعطشون من أجل إسعاف الروح بينما تسعون إلى سقي نفوسكم بتقاليد الناس, المسكوبة من الأباريق المكسورة لخدمة الطقوس؟ ما ترونه يجري حول هذا الهيكل هو الطريق الذي فيه سعى أباؤكم ليعبروا بالرموز عن إغداق الروح الإلَهي على أولاد الإيمان, وقد أحسنتم في إدامة هذه الرموز, حتى إلى هذا اليوم. لكن قد وصل الآن إلى هذا الجيل وحي أب الأرواح من خلال إغداق ابنه, وسيُتبع كل هذا بالتأكيد بإغداق روح الأب والابن على أولاد الناس. إلى كل من لديه إيمان سيصبح هذا الإغداق للروح المعلم الحقيقي للطريق الذي يقود إلى الحياة الأبدية, إلى مياه الحياة الحقيقية في ملكوت السماء على الأرض وفي فردوس الأب هناك."
162:6.4 (1796.2) واستمر يسوع في الإجابة على أسئلة كل من الجموع والفريسيين. اعتقد البعض أنه نبي؛ والبعض آمن بأنه المسيح؛ قال آخرون إنه لا يمكن أن يكون المسيح, ناظرين بأنه جاء من الجليل, وبأن المسيح يجب أن يسترد عرش داود. ومع ذلك لم يجرؤوا على اعتقاله.
162:7.1 (1796.3) بعد ظهر اليوم الأخير من العيد وبعد أن فشل الرُسل في جهودهم لإقناعه بالهرب من أورشليم, ذهب يسوع مرة أخرى إلى الهيكل ليعَّلم. فوجد جماعة كبيرة من المؤمنين مجتمعين في رواق سليمان, فكلمهم قائلاً:
162:7.2 (1796.4) "إذا أقامت كلماتي فيكم وأنتم راغبون في فعل مشيئة أبي, فأنتم تلاميذي حقاً. ستعرفون الحق, والحق سيحرركم. أنا أعرف كيف ستجيبونني: نحن أولاد إبراهيم, ولسنا مستعبدين لأحد؛ فكيف إذاً سنُجعل أحراراً؟ رغم ذلك, أنا لا أتكلم عن الخضوع الظاهري لحكم الآخرين؛ أنا أشير إلى حريات النفـْس. الحق, الحق, أقول لكم, إن كل مَن يقترف خطيئة هو عبد-وثاق الخطيئة. وأنتم تعلمون بأن عبد-الوثاق من غير المرجح أن يقيم إلى الأبد في منزل السيد. كما تعلمون أن الابن يبقى في منزل أبيه. إذا, لذلك, سيجعلكم الابن أحراراً, سيجعلكم أبناء, ستكونون حقاً أحراراً.
162:7.3 (1796.5) "أعلم بأنكم نسل إبراهيم, ومع ذلك يسعى قادتكم لقتلي لأن كلمتي لم يُسمح لها بأن يكون لها تأثيرها المُحَّول في قلوبهم. إن نفوسهم مختومة بالتحيز وأعماها كبرياء الثأر. أعلن إليكم الحق الذي يظهره الأب الأبدي لي, في حين يسعى هؤلاء المعلمون المخدوعون لفعل الأشياء التي تعلموها من آبائهم الدنيويين فقط. وعندما تُجيبون بأن إبراهيم هو أباكم, عندئذٍ فهل أخبركم بأنه, إذا كنتم أولاد إبراهيم, كنتم ستعملون أعمال إبراهيم. بعضكم يؤمن بتعليمي, بينما يسعى البعض الآخر إلى إهلاكي لأني قلت لكم الحقيقة التي تلقيتها من الله. لكن إبراهيم لم يتعامل مع حقيقة الله على هذا النحو. أدرك بأن البعض منكم مُصّرون على فعل أعمال الشرير. لو كان الله أباكم, لكنتم تعرفونني وتحبون الحق الذي أكشفه. ألا ترون بأني آتي من الأب, وأن الله قد أرسلني, وأنني لست أقوم بهذا العمل من نفسي؟ لماذا لا تفهمون كلماتي؟ هل لأنكم قد اخترتم أن تصبحوا أولاد الشر؟ إذا كنتم أولاد الظلمة, فلن تسيروا في نور الحق الذي أكشفه. يتبع أولاد الشر فقط في طريق أبيهم, الذي كان مخادعاً ولم يقف مع الحق لأنه لم يكن فيه حق. لكن الآن يأتي ابن الإنسان يتكلم ويعيش الحق, والكثير منكم يرفض أن يؤمن.
162:7.4 (1797.1) "من منكم يدينني بخطيئة؟ إذا كنت, إذن, أعلن وأعيش الحق الذي أظهره لي الأب, فلماذا لا تؤمنون؟ الذي هو من الله يسمع بسرور كلمات الله. لهذا السبب لا يسمع الكثيرون منكم كلماتي, لأنكم لستم من الله. معلموكم حتى زعموا أن يقولوا بأنني أؤدي أعمالي بقدرة أمير الأبالسة. واحد بالقرب قد قال للتو بأن لدي إبليس, بأني ولد لإبليس. لكن جميعكم الذين تتعاملون بأمانة مع نفوسكم تعلمون جيداً بأني لست إبليساً. تعرفون بأنني أكرم الأب حتى بينما لا تودون تشريفي. أنا لا أسعى إلى مجدي الخاص, فقط مجد أبي الفردوسي. ولا ادينكم, لان هناك من يحكم لي.
162:7.5 (1797.2) "الحق, الحق, أقول لكم الذين تؤمنون بالإنجيل, إنه إذا كان إنسان سيحفظ كلمة الحق هذه حية في قلبه, فلن يذوق الموت أبدًا. والآن للتو إلى جانبي كاتب يقول أن هذا البيان يُثبت بأن لدي إبليساً, ناظر بأن إبراهيم ميت, والأنبياء أيضًا. ويسأل: ’هل أنت أعظم بكثير من إبراهيم والأنبياء بحيث تتجرأ على الوقوف هنا وتقول أن كل من يحفظ كلمتك لن يذوق الموت؟ من تدَّعي لتكون بحيث تجرؤ على التفوه بمثل هذه التجديفات؟‘ وأقول لكل هؤلاء بأني, إذا مجدت نفسي, فإن مجدي ليس كشيء. لكن الأب هو الذي سيمجدني, حتى الأب نفسه الذي تدعونه الله. لكنكم فشلتم في معرفة هذا إلَهكم وأبي, ولقد أتيت لأجمعكم معاً؛ لأريكم كيف تصبحون حقاً أبناء الله. على الرغم من أنكم لا تعرفون الأب, فأنا أعرفه حقًا. حتى إبراهيم تهلل لرؤية يومي, وبالإيمان رآه وكان مسروراً."
162:7.6 (1797.3) عندما سمع هذه الكلمات اليهود غير المؤمنين وعملاء السنهدرين الذين كانوا قد تجمعوا بهذا الوقت, قاموا بإثارة الضجيج, صارخين: "أنت لم تبلغ من العمر خمسين سنة, ومع ذلك تتكلم عن رؤية إبراهيم؛ أنت ولد لإبليس!" لم يكن يسوع قادراً على مواصلة المحاضرة. قال فقط عند مغادرته, "الحق, الحق, أقول لكم, قبل أن يكون إبراهيم, أنا موجود." هرع كثيرون من غير المؤمنين إلى الحجارة لإلقائها عليه, وسعى عملاء السنهدرين لإلقاء القبض عليه, لكن السيد سرعان ما شق طريقه عبر أروقة الهيكل وأفلت إلى مكان لقاء سِري بالقرب من بيت-عنيا حيث مارثا, ومريم, ولِعازر انتظروه.
162:8.1 (1797.4) كان قد تم الترتيب أن يمكث يسوع مع لِعازر وشقيقتيه في منزل أحد الأصدقاء, بينما كان الرُسل منتشرين هنا وهناك في مجموعات صغيرة, وقد تم اتخاذ هذه الاحتياطات لأن السُلطات اليهودية كانت قد أصبحت مجدداً جريئة في خططها لاعتقاله.
162:8.2 (1797.5) لسنوات كانت عادة هؤلاء الثلاثة أن يتركوا كل شيء ويستمعوا إلى تعليم يسوع كلما صادف أن يزورهم. مع فقدان والديهم, تقلدت مارثا مسؤوليات الحياة المنزلية, وهكذا على هذه المناسبة, بينما كان لِعازر ومريم جالسان عند قدمي يسوع يتشربان تعليمه المنعش, استعدت مارثا لتقديم وجبة العشاء. يجب التوضيح بأن مارثا كانت مشتتة بلا داع في العديد من المهام التي لا داعي لها, وبأنها كانت مثقلة بالعديد من الاهتمامات التافهة؛ كان ذلك مزاجها.
162:8.3 (1798.1) بينما شغلت مارثا نفسها بكل هذه الواجبات المفترضة, كانت منزعجة لأن مريم لم تفعل شيئاً للمساعدة. لذلك ذهبت إلى يسوع وقالت: "يا سيد, ألا تبالي بأن شقيقتي تركتني وحدي لأقوم بكل الخدمة؟ ألا تأمرها أن تأتي وتساعدني؟" أجاب يسوع: "مارثا, مارثا, لماذا أنتِ دائماً قلقة بشأن الكثير من الأشياء ومضطربة بتافهات كثيرة؟ هناك شيء واحد فقط يستحق في الحقيقة, وحيث إن مريم قد اختارت هذا الجزء الجيد والضروري, فلن آخذه منها. لكن متى تتعلمان كِلاكما العيش كما عَّلمتكما: كِلاكما تخدمان في تعاون وكِلاكما تنعشان نفسيكما في انسجام؟ ألا يمكنك أن تتعلمي أن هناك وقتًا لكل شيء ــ بأن الأمور الأقل أهمية في الحياة يجب أن تفسح المجال أمام الأشياء الأعظم للملكوت السماوي؟"
162:9.1 (1798.2) طوال الأسبوع الذي أعقب عيد المظال, تجَّمع عشرات المؤمنين في بيت-عنيا واستلموا الإرشاد من الرسل الاثني عشر. لم يبذل السنهدرين أي جهد للتحرش بهذه التجمعات حيث إن يسوع لم يكن حاضراً؛ كان طوال هذا الوقت يعمل مع أبنير ورفاقه في بيت-لحم. في اليوم التالي لنهاية العيد, كان يسوع قد رحل إلى بيت-عنيا, ولم يُعَّلم مرة أخرى في الهيكل خلال هذه الزيارة إلى أورشليم.
162:9.2 (1798.3) في هذا الوقت, كان أبنير يتخذ مقراً له في بيت-لحم, ومن ذلك المركز تم إرسال العديد من العمال إلى مدن يهودا وجنوب السامرة وحتى إلى الإسكندرية. في غضون أيام قليلة من وصوله, أتم يسوع وأبنير الترتيبات لتوحيد عمل مجموعتي الرُسل.
162:9.3 (1798.4) في كل أثناء زيارته لعيد المظال, قَسَّم يسوع وقته بالتساوي بين بيت-عنيا وبيت-لحم. في بيت-عنيا أمضى وقتاً معتبراً مع رُسله؛ وفي بيت-لحم أعطى الكثير من الإرشاد لأبنير ورُسل يوحنا السابقين الآخرين. وكان هذا الاتصال الودي الذي قادهم في النهاية إلى الإيمان به. كان هؤلاء الرُسل السابقون ليوحنا المعمدان متأثرين بالشجاعة التي أظهرها في تعليمه العلني في أورشليم وكذلك بالتفهم المتعاطف الذي اختبروه في تعليمه الخاص في بيت-لحم. كسبت هذه التأثيرات أخيراً وكلياً كل من زملاء أبنير إلى القبول من كل القلب للملكوت وكل ما انطوت عليه هذه الخطوة.
162:9.4 (1798.5) قبل مغادرة بيت-لحم للمرة الأخيرة, اتخذ السيد ترتيبات من أجلهم جميعاً للانضمام إليه في الجهد الموحد الذي كان يسبق انتهاء مهمته الأرضية في الجسد. تم الإتفاق بأن يلتحق أبنير ورفاقه بيسوع والاثني عشر في المستقبل القريب في منتزه ماجادان.
162:9.5 (1798.6) تبعاً لهذا التفاهم, ألقى أبنير ورفاقه الأحد عشر في وقت مبكر من شهر تشرين الثاني قرعتهم مع يسوع والاثني عشر وعملوا معهم كتنظيم واحد نزولاً إلى وقت الصلب.
162:9.6 (1798.7) في الجزء الأخير من شهر تشرين الأول انسحب يسوع والاثنا عشر من جوار أورشليم المباشر. في يوم الأحد, 30 تشرين الأول, غادر يسوع ورفاقه مدينة إفرايم, حيث كان يستريح في عزلة لبضعة أيام, وذاهبون بطريق غرب الأردن مباشرة إلى منتزه ماجادان, وصلوا في وقت متأخر من عصر الأربعاء, 2 تشرين الثاني.
162:9.7 (1799.1) كان الرُسل مرتاحين إلى حد كبير لعودة السيد إليهم على أرض صديقة؛ ولم يحثوه بعد الآن على الصعود إلى أورشليم ليعلن إنجيل الملكوت.
كِتاب يورانشيا
ورقة 163
163:0.1 (1800.1) بعد أيام قليلة من عودة يسوع والاثني عشر إلى ماجادان من أورشليم, وصل أبنير وجماعة من حوالي خمسين تلميذاً من بيت-لحم. في هذا الوقت كان هناك أيضاً تجمع في مخيم ماجادان للكتيبة الإنجيلية, وكتيبة النساء, وحوالي مائة وخمسين تلميذاً صادقاً ومُجَّرباً من كل أنحاء فلسطين. بعد تكريس أيام قليلة لزيارة المخيم وإعادة تنظيمه, بدأ يسوع والاثنا عشر دورة تدريبية مكثفة لهذه المجموعة الخاصة من المؤمنين, ومن هذا التجمع من التلاميذ المدربين جيداً وذوي الخبرة اختار السيد لاحقاً السبعين معلمًا وأرسلهم لإعلان إنجيل الملكوت. بدأ هذا الإرشاد النظامي يوم الجمعة, 4 تشرين الثاني, واستمر حتى يوم السبت, 19 تشرين الثاني.
163:0.2 (1800.2) تكلم يسوع إلى هذه الجماعة كل صباح. علـَّم بطرس أساليب الوعظ العلني؛ وأرشدهم نثانئيل في فن التعليم؛ وشرح توما كيفية الإجابة على الأسئلة؛ بينما أدار متـّى تنظيم الشؤون المالية لمجموعتهم. كما اشترك الرُسل الآخرون في هذا التدريب وفقاً لخبراتهم الخاصة ومواهبهم الطبيعية.
163:1.1 (1800.3) تمت رسامة السبعين من قِبل يسوع بعد ظهر يوم السبت, 19 تشرين الثاني, في مخيم ماجادان, ووُضِع أبنير على رأس هؤلاء الواعظين والمعلمين للإنجيل. تألفت هذه الكتيبة المكونة من سبعين من أبنير وعشرة من رُسل يوحنا السابقين, وواحد وخمسين من الإنجيليين الأبكر, وثمانية تلاميذ آخرين كانوا قد تميزوا في خدمة الملكوت.
163:1.2 (1800.4) حوالي الساعة الثانية من بعد ظهر هذا السبت, بين زخات المطر, تجَّمعت جماعة من المؤمنين, زادها وصول داود وأغلبية كتيبته من المراسيل وتجاوز عددهم أربعمائة, على شاطئ بحيرة الجليل ليشهدوا رسامة السبعين.
163:1.3 (1800.5) قبل أن يضع يسوع يديه على رؤوس السبعين لكي يميزهم كرسل للإنجيل, مخاطباً إياهم, قال: "الحصاد في الحقيقة وافر, لكن العمال قليلون؛ لذلك أحثكم جميعاً على الصلاة من أجل أن يرسل رب الحصاد المزيد من العمال إلى حصاده. أنا على وشك أن أميزكم كرُسل للملكوت؛ أنا على وشك أن أرسلكم إلى اليهود والأمميين مثل الحملان بين الذئاب. بينما تمضون في طرقكم, اثنان واثنان, أوصيكم ألا تحملوا محفظة ولا ملابس إضافية, لأنكم تنطلقون على هذه المهمة الأولى من أجل فصل قصير فقط. لا تُحَّيوا أي شخص في الطريق, اهتموا فقط بعملكم. عندما تذهبون للمكوث في بيت, قولوا أولاً: السلام على أهل هذا البيت. إذا كان أولئك الذين يحبون السلام يسكنون هناك, فستبقون هناك؛ وإن لم يكن كذلك, عندئذٍ ترحلون. وعندما تكونون قد اخترتم هذا البيت, أبقوا هناك طوال فترة إقامتكم في تلك المدينة, آكلين وشاربين مما يُوضع أمامكم. وأنتم تفعلون هذا لأن العامل يستحق رزقه. لا تنتقلوا من منزل لآخر لأنه قد عُرض سكن أفضل. تذكَّروا, بينما تنطلقون لإعلان السلام على الأرض وحسن النية بين الناس, أنكم يجب أن تتعاملوا مع أعداء ألداء ومضللين-بالذات؛ لذلك كونوا حكماء كالأفاعي بينما تكونون أيضاً بدون أذى مثل اليمامات.
163:1.4 (1801.1) "وحيثما تذهبون عظوا, قائلين ’ملكوت السماء قريب‘, وأسعفوا إلى كل من قد يكون مريضاً إن كان في العقل أو في الجسد. مجاناً استلمتم الأشياء الصالحة للملكوت؛ مجاناً أعطوا. إذا استقبلكم شعب أي مدينة, فسيجدون مدخلاً وافراً إلى ملكوت الأب؛ لكن إذا رفض سكان أي مدينة تلقي هذا الإنجيل, فلا يزال يتعين عليكم أن تعلنوا رسالتكم بينما ترحلون من ذلك المجتمع غير المؤمن, قائلين, حتى بينما ترحلون, لأولئك الرافضين تعليمكم: ’بالرغم من أنكم رفضتم الحق, يبقى بأن ملكوت الله قد أتى قربكم.‘ الذي يسمعكم يسمعني. والذين يسمعني يسمع الذي أرسلني. الذي يرفض رسالة إنجيلكم يرفضني. والذي يرفضني يرفض الذي أرسلني."
163:1.5 (1801.2) عندما تكلم يسوع بهذا إلى السبعين, بدأ مع أبنير, وبينما ركعوا في دائرة حوله, وضع يديه على رأس كل رجل منهم.
163:1.6 (1801.3) باكراً في الصباح التالي, أرسل أبنير الرسل السبعين إلى كل مدن الجليل, والسامره, ويهودا. وانطلق أولئك الخمسة والثلاثون زوج واعظين ومعلمين لحوالي ستة أسابيع, وعادوا جميعهم إلى المخيم الجديد بالقرب من بـِلا, في بيريا, يوم الجمعة, 30 كانون الأول.
163:2.1 (1801.4) تم رفض أكثر من خمسين من التلاميذ الذين طلبوا الرسامة والتعيين في عضوية السبعين من قبل اللجنة التي عينها يسوع لاختيار هؤلاء المرشحين. تكونت هذه اللجنة من أندراوس, وأبنير, والرئيس القائم بأعمال كتيبة الإنجيليين. في جميع الحالات التي لم تكن فيها هذه اللجنة المكونة من ثلاثة أشخاص مجمعة في اتفاقها, أحضروا المُرَشَح إلى يسوع, وبينما لم يرفض السيد أي شخص يتوق إلى الرسامة كرسول إنجيلي, كان هناك أكثر من دزينة من الذين, عندما تحدثوا مع يسوع, لم يعودوا راغبين في أن يصبحوا رُسلاً للإنجيل.
163:2.2 (1801.5) أحد التلاميذ الجادين أتى إلى يسوع, قائلاً: "يا سيد أود أن أكون واحداً من رُسلك الجدد, لكن أبي شيخ كبير وقريب من الموت؛ هل يمكن السماح لي بالعودة إلى البيت لأدفنه؟" لهذا الرَجل قال يسوع: "يا بني, للثعالب أوجرة, ولطيور السماء أوكار, لكن ابن الإنسان ليس لديه مكانًا يسند رأسه فيه. أنت تلميذ مُخْلص, ويمكنك البقاء هكذا بينما تعود إلى البيت لتُسعف إلى أحبائك, لكن ليس كذلك مع رسل إنجيلي. هم هجروا الجميع ليتبعوني ويعلنوا الملكوت. إذا كنت تود أن تكون معلماً مرسوماً, يجب أن تدع الآخرين يدفنون الموتى بينما تنطلق لتنشر البشائر." وانصرف هذا الرجل في خيبة أمل عظيمة.
163:2.3 (1801.6) جاء تلميذ آخر إلى السيد وقال: "أود أن أصبح رسولاً مُرسماً, لكنني أود أن أذهب إلى بيتي لفترة قصيرة لأؤاسي عائلتي." فأجاب يسوع: "إذا كنت ستُرسم, فلا بد أن تكون على استعداد للتخلي عن كل شيء. رسل الإنجيل لا يمكنهم أن يكونوا منقسمي العواطف. لا أحد, بعد أن وضع يده على المحراث, إذا هو رجع للوراء, يستحق أن يصبح رسولاً للملكوت.
163:2.4 (1801.7) ثم أحضر أندراوس إلى يسوع شاباً ثرياً معيناً كان مؤمناً ورعاً, ورغب في أن ينال الرسامة. هذا الشاب ماتادورموس, كان عضواً في سنهدرين أورشليم؛ كان قد سمع يسوع يُعَّلم وتلقى فيما بعد إرشادات في إنجيل الملكوت من قِبل بطرس والرُسل الآخرين. تحدث يسوع مع ماتادورموس فيما يخص متطلبات الرسامة وطلب منه تأجيل القرار إلى أن يكون قد فكر ملياً في الأمر. في وقت مبكر من صباح اليوم التالي, عندما كان يسوع ذاهباً للمشي, اقترب هذا الشاب وبادره بالكلام وقال: "يا سيد, أود أن أعرف منك تأكيدات الحياة الأبدية. حيث أرى أنني قد راعيت كل الوصايا منذ صباي, أود أن أعرف ما الذي يجب علي فعله أكثر لأكسب الحياة الأبدية؟" رداً على هذا السؤال قال يسوع: "إذا حافظت على كل الوصايا ــ لا تزني, لا تقتل, لا تسرق, لا تشهد شهادة زور, لا تغش, اكرم والديك ــ تفعل حسناً, لكن الخلاص هو مكافأة الإيمان, ليس الأعمال فقط. هل تؤمن بإنجيل الملكوت هذا؟" وأجاب ماتادورموس: "نعم, يا سيد, أؤمن بكل شيء أنت ورُسلك قد علمتموني." فقال يسوع, "عندئذٍ أنت حقاً تلميذي وابن الملكوت."
163:2.5 (1802.1) ثم قال الشاب: "لكن يا سيد, أنا لست راضياً بأن أكون تلميذك؛ أود أن أكون أحد رُسلك الجدد." عندما سمع يسوع هذا, نظر إليه بمحبة عظيمة وقال: "ستكون أحد رسليِ إذا كنت على استعداد لدفع الثمن, إذا كنت ستزود الشيء الوحيد الذي ينقصك." أجاب ماتادورموس, "يا سيد, سأفعل أي شيء إذا أمكن السماح لي بأن أتبعك". يسوع, مُقـَّبلاً الشاب الراكع على جبهته, قال: "إذا كنت تود أن تكون رسولاً لي, اذهب وبع كل ما لديك, وعندما تكون قد أغدقت العوائد على الفقراء أو على إخوانك, تعال واتبعني, وسيكون لديك كنز في ملكوت السماء."
163:2.6 (1802.2) عندما سمع ماتادورموس هذا, سقطت ملامحه. قام ومضى حزيناً, لأنه كانت لديه ممتلكات كثيرة. كان هذا الشاب الفريسي الثري قد تربى على الاعتقاد بأن الثروة هي دليل منة الله. عرف يسوع بأنه لم يكن حراً من محبة نفسه وثرواته. أراد السيد أن يحرره من حب الثروة, وليس بالضرورة من الثروة. بينما لم يفارق تلاميذ يسوع كل خيراتهم الدنيوية, الرُسل والسبعون فعلوا. رغب ماتادورموس أن يكون واحداً من الرسل الجدد السبعين, وذلك كان السبب وراء طلب يسوع إليه بالتخلي عن جميع ممتلكاته الدنيوية.
163:2.7 (1802.3) تقريباً كل إنسان لديه شيء واحد ما يتمسك به كأليف شرير, والذي يتطلبه الدخول إلى ملكوت السماء كجزء من ثمن القبول. لو فـَّرق ماتادورموس ثروته, ربما كانت ستُعاد إلى يديه مباشرة من أجل الإدارة كأمين صندوق للسبعين. لأنه في وقت لاحق, بعد تأسيس كنيسة أورشليم, امتثل لإيعاز السيد, على أنه كان متأخراً جداً آنذاك ليتمتع بعضوية السبعين, وأصبح أمين صندوق كنيسة أورشليم, التي كان رئيسها يعقوب شقيق الرب في الجسد.
163:2.8 (1802.4) هكذا دائماً كان ودائماً سيكون: يجب أن يصل الناس إلى قراراتهم الخاصة. هناك مدى معين من حرية الاختيار التي يمكن أن يمارسها البشر. قوى العالَم الروحي لن تُكره الإنسان؛ إنها تسمح له بالسير في طريق اختياره الخاص.
163:2.9 (1802.5) تنبأ يسوع بأن ماتادورموس, مع ثرواته, لا يمكن أن يصبح زميلاً مرسومًا للناس الذين هجروا كل شيء من أجل الإنجيل؛ في الوقت نفسه, رأى أنه, بدون ثرواته, سيصبح في النهاية القائد المُطلق لهم جميعاً. لكن, مثل أشقاء يسوع, لم يصبح أبداً عظيماً في الملكوت لأنه حرم نفسه من الارتباط الحميم والشخصي مع السيد التي كان من الممكن أن تكون تجربته لو كان على استعداد في هذا الوقت للقيام بالشيء نفسه الذي طلبه يسوع, والذي, بعد عدة سنوات, فعله بالفعل.
163:2.10 (1803.1) ليس للثروات أية علاقة مباشرة بالدخول إلى ملكوت السماء, لكن حب الثروه له علاقة بذلك, الولاءات الروحية للملكوت لا تتوافق مع الخضوع لسلطان الجشع المادي. لا يجوز للإنسان أن يُشارك ولاءه السامي لمثال روحي مع تكريس مادي.
163:2.11 (1803.2) لم يعَّلم يسوع أبداً أنه من الخطأ امتلاك الثروة. هو تطلب فقط من الاثني عشر والسبعين أن يكرسوا كل ممتلكاتهم الدنيوية للقضية المشتركة. حتى عند ذاك, زود من أجل تصفية حسابات ممتلكاتهم بشكل مربح, كما في حالة الرسول متـّى. نصح يسوع عدة مرات تلاميذه الأثرياء كما علـَّم رَجل روما الغني. اعتبر السيد الاستثمار الحكيم للإيرادات الزائدة شكلاً مشروعاً من الضمان ضد الشدائد المستقبلية التي لا يمكن تجنبها. عندما كانت الخزينة الرسولية تفيض, وضع يوداص أموالاً في ودائع لاستخدامها لاحقاً عندما يعانون بشكل كبير من انخفاض الدخل. هذا فعله يوداص بعد التشاور مع أندراوس. لم يكن لدى يسوع شخصياً أي علاقة بالاموال الرسولية ما عدا في صرف الصدقات. لكن كان هناك سوء استعمال اقتصادي واحد أدانه مرات عديدة, وذلك كان الاستغلال غير العادل للضعفاء, وغير المتعلمين, والأقل حظاً من الناس من قِبل زملائهم الأقوياء, والحريصين, والأكثر ذكاء. أعلن يسوع بأن مثل هذه المعاملة اللا إنسانية للرجال, والنساء, والأولاد تتعارض مع مُثل الأخوة في ملكوت السماء.
163:3.1 (1803.3) في الوقت الذي انتهى فيه يسوع من الحديث مع ماتادورموس, كان بطرس وعدد من الرُسل قد تجَّمعوا حوله, وبينما كان الشاب الغني يغادر, استدار يسوع ليواجه الرُسل وقال: "ترون مدى صعوبة أن يدخل أولئك الذين لديهم ثروات إلى ملكوت الله بشكل كلي! لا يمكن مشاركة العبادة الروحية مع الولاءات المادية؛ لا يمكن لإنسان أن يخدم سيدين. لديكم قول مأثور مفاده ’من الأسهل للجَمل أن يمر خلال ثقب الإبرة من أن يرث الوثني الحياة الأبدية‘. وأعلن بأنه هين على هذا الجَمل المرور خلال ثقب الإبرة من أن يدخل هؤلاء الأغنياء الراضين عن أنفسهم ملكوت السماء."
163:3.2 (1803.4) عندما سمع بطرس والرُسل هذه الكلمات, اندهشوا للغاية, لدرجة أن بطرس قال: "مَن إذن, يا رب’ يمكن أن يُخلص؟ هل يُحرم كل من لديه ثروات من الملكوت؟ فإجاب يسوع: "لا, يا بطرس, لكن كل من يضع ثقته في الثروات بالكاد سيدخل إلى الحياة الروحية التي تؤدي إلى التقدم الأبدي. لكن حتى عند ذاك, الكثير مما هو مستحيل على الإنسان ليس بعيد عن متناول الأب في السماء؛ بل يجب أن ندرك بأنه مع الله كل الأشياء ممكنة."
163:3.3 (1803.5) عندما ذهبوا بأنفسهم, كان يسوع حزيناً لأن ماتادورموس لم يبق معهم, لأنه أحبه كثيراً. وعندما مشوا نزولاً بجانب البحيرة, جلسوا هناك بجانب الماء, وقال بطرس, متكلم نيابة عن الاثني عشر (الذين كانوا جميعاً حاضرين بهذا الوقت): "نحن قلقون من كلماتك إلى الشاب الغني. هل نطالب أولئك الذين سيتبعونك بالتخلي عن كل خيراتهم الدنيوية؟" وقال يسوع: "لا, يا بطرس, فقط أولئك الذين يودون أن يصبحوا رُسلاً, والذين يرغبون في العيش معي كما تفعلون أنتم وكعائلة واحدة. لكن الأب يتطلب أن يكون ود أولاده نقي وغير منقسم. أي شيء أو شخص يأتي بينك وبين محبة حقائق الملكوت يجب تسليمه. إذا لم تغزو ثروة المرء مشارف النفـْس, فليس لها أي تأثير في الحياة الروحية لأولئك الذين يودون دخول الملكوت."
163:3.4 (1804.1) وعندئذٍ قال بطرس, لكن, يا سيد, لقد تركنا كل شيء لنتبعك, ماذا إذن سيكون لدينا؟" ويسوع تكلم إلى كل الاثني عشر: "الحق, الحق, أقول لكم, ما من إنسان ترك ثروة, أو بيت, أو زوجة, أو إخوان, أو آبوين, أو أولاد من أجلي ومن أجل ملكوت السماء والذي لن يستلم أضعاف أكثر في هذا العالَم, ربما مع بعض الاضطهادات, وفي العالَم الآتي الحياة الأبدية. لكن كثيرون ممن هم أولون سيكونون أخيرين, بينما الأخيرين غالباً سيكونون أولين. يتعامل الأب مع مخلوقاته وفقاً لاحتياجاتهم وفي امتثال لقوانينه العادلة ذات الاعتبار الرحيم والمحب لرفاهية الكون.
163:3.5 (1804.2) "يشبه ملكوت السماء رب منزل لديه عدد كبير من الرجال الموظفين, والذي خرج في الصباح الباكر لاستئجار عمال ليعملوا في كَرمه. عندما اتفق مع العمال ليدفع لهم ديناراً في اليوم, أرسلهم إلى الكَرم. ثم خرج في حوالي الساعة التاسعة, وناظر آخرين واقفين في السوق عاطلين, قال لهم: ’اذهبوا أنتم أيضاً للعمل في كَرْمي, وما كان حق سأدفعه لكم‘. وذهبوا في الحال للعمل. وخرج مرة أخرى حوالي الساعة الثانية عشرة وحوالي الساعة الثالثة وفعل الشيء نفسه. وذاهب إلى السوق حوالي الساعة الخامسة بعد الظهر, وجد آخرين لا يزالون واقفين بلا عمل, واستفسر منهم, ’لماذا تقفون هنا خاملين طوال النهار؟‘ فأجاب الرجال, ’لأنه لم يوظفنا أحد‘. عندئذٍ قال رب المنزل ’اذهبوا أنتم أيضاً للعمل في كَرْمي, وما يحق سأدفعه لكم.‘
163:3.6 (1804.3) عندما حل المساء, قال مالك الكَرم هذا لوكيل خراجه: ’أدع العمال وادفع لهم أجورهم, مبتدئاً بالمستأجَر الأخير ومنتهياً بالأول.‘ عندما جاء أولئك الذين تم تعيينهم في حوالي الساعة الخامسة, حصل كل منهم على دينار, وهكذا كان مع كل من العمال الآخرين. عندما رأى الرجال الذين تم تعيينهم في بداية النهار كم دُفع للعمال المتأخرين, توقعوا الحصول على أكثر من المبلغ المتفق عليه. لكن مثل الآخرين لم يتلق كل رجل سوى دينار. وعندما استلم كل واحد منهم أجرته, اشتكوا إلى رب المنزل, قائلين: ’هؤلاء الرجال الذين تم تعيينهم في الأخير عملوا ساعة واحدة فقط, ومع ذلك فقد دفعت لهم نفس الثمن الذي دفعته لنا نحن الذين تحملنا عبء النهار في الشمس الحارقة.‘
163:3.7 (1804.4) "عندئذٍ أجاب رب المنزل: "يا أصدقائي, لم أخطيء بحقكم. ألم يوافق كل واحد منكم على العمل مقابل دينار في اليوم؟ الآن خذوا ما هو لكم واذهبوا في طريقكم, لأنها رغبتي أن أعطي لأولئك الذين جاءوا في الأخير بقدر ما أعطيتكم. أليس من حقي أن أفعل ما أشاء بمالي الخاص؟ أو هل تحقدون على كَرَمي لأني أرغب في أن أكون صالحاً وأن أُظهر رحمة؟"
163:4.1 (1804.5) لقد كان وقت إثارة حول مخيم ماجادان يوم انطلق السبعون على مهمتهم الأولى. في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم, في آخِر حديث له مع السبعين, ركز يسوع على ما يلي:
163:4.2 (1804.6) 1. يجب أن يُعلَن إنجيل الملكوت لكل العالَم, إلى الأممي كما إلى اليهودي.
163:4.3 (1804.7) 2. بينما تسعفون إلى المرضى, امتنعوا عن تعليم توقع المعجزات.
163:4.4 (1805.1) 3. أعلنوا الأخوة الروحية لأبناء الله, ليس مملكة ظاهرية ذات قدرة دنيوية ومجد مادّي.
163:4.5 (1805.2) 4. تجنبوا ضياع الوقت من خلال الزيارات الاجتماعية الزائدة وغيرها من التفاهات التي قد تنتقص من التفاني القلبي لوعظ الإنجيل.
163:4.6 (1805.3) 5. إذا ثبت أن المنزل الأول الذي اخترتموه ليكون مركز إدارة سيكون بيتاً جديراً, فأقيموا هناك طوال فترة مكوثكم في تلك المدينة.
163:4.7 (1805.4) 6. أوضحوا لكل المؤمنين المخلصين بأن الوقت للانفصال العلني عن القادة الدِينيين لليهود في أورشليم قد حان الآن.
163:4.8 (1805.5) 7. علـِّموا بأن واجب الإنسان بأكمله يتلخص في هذه الوصية الواحدة: احب الرب إلَهك بكل عقلك ونفسك, وأحب جارك كنفسك, (كان عليهم أن يعلموا هذا كواجب الإنسان الكامل بدلاً من أحكام العيش الـ 613 التي شرحها الفريسيون).
163:4.9 (1805.6) عندما تحدث يسوع بهذا إلى السبعين في حضور جميع الرُسل والتلاميذ, أخذهم سمعان بطرس جانباً بأنفسهم ووعظ إليهم خطبة رسامتهم, التي كانت تفصيلاً لعهدة السيد التي أُعطيت في الوقت عندما وضع يديه عليهم وفصلهم كرسل للملكوت. حث بطرس السبعين على أن يعتزوا في تجربتهم بالفضائل التالية:
163:4.10 (1805.7) 1. الولاء المكرس. أن يُصَّلوا دائماً من أجل إرسال المزيد من العمال إلى حصاد الإنجيل. أوضح بأنه, عندما يصَّلي أحدهم هكذا, على الأرجح سيقول, "ها أنا؛ أرسلني." وحثهم على عدم إهمال عبادتهم اليومية.
163:4.11 (1805.8) 2. الشجاعة الحقيقية. حذرهم بأنهم سيواجِهون العداء وأن يكونوا أكيدين من مواجهة الاضطهاد. أخبرهم بطرس بأن مهمتهم لم تكن تعهدًا للجبناء ونصح أولئك الذين كانوا يخشون الخروج قبل أن يبدأوا. لكن لم ينسحب أحد.
163:4.12 (1805.9) 3. الإيمان والثقة. يجب عليهم المضي قدمًا في هذه المهمة القصيرة كلياً بدون مؤونة؛ يجب أن يثقوا في الأب من أجل الغذاء والمأوى وكل الأشياء الأخرى اللازمة.
163:4.13 (1805.10) 4. الحماس والمبادرة. يجب أن يمتلكوا حماسة وغيرة ذكية؛ ويجب أن يلازموا بدقة شغل سيدهم. كانت التحية الشرقية مراسم طويلة ومتقنة؛ لذلك تم توجيههم أن لا "تُحيوا أي إنسان في الطريق", الذي كان أسلوباً شائعاً لحث المرء على الذهاب حول شغله دون إهدار الوقت. لم يكن لذلك أي علاقة بمسألة التحية الودية.
163:4.14 (1805.11) 5. اللطف والمجاملة. أرشدهم السيد أن يتجنبوا الإهدار غير الضروري للوقت في الاحتفالات الاجتماعية, لكنه أمر بالكياسة تجاه كل الذين يجب أن يأتوا في إتصال معهم. كان عليهم أن يُظهروا كل اللطف لأولئك الذين قد يستضيفونهم في بيوتهم. تم تحذيرهم بشدة من مغادرة بيت متواضع لكي يُستضافوا في بيت أكثر راحة أو نفوذاً.
163:4.15 (1805.12) 6. الإسعاف إلى المرضى. عُهد إلى السبعين من قبل بطرس بالبحث عن المرضى في العقل والجسم وبذل كل ما في وسعهم للتخفيف من أمراضهم أو شفاءها.
163:4.16 (1805.13) وحين تم توجيههم وعُهد إليهم بهذا الأمر, بدأوا, اثنان واثنان, على مهمتهم في الجليل, والسامره, ويهودا.
163:4.17 (1806.1) مع أن اليهود كان لديهم اعتبار خاص للعدد سبعين, فقد اعتبروا أحيانًا أن الأمم الوثنية هي سبعين في العدد, ومع أن هؤلاء الرسل السبعين كان عليهم أن يذهبوا بالإنجيل إلى جميع الشعوب, لا يزال لغاية ما يمكننا أن نميز, أنه كان من قبيل الصدفة فقط أن هذه الجماعة تصادف أن يبلغ عددها سبعين بالضبط. من المؤكد أن يسوع كان سيقبل ما لا يقل عن ستة آخرين, لكنهم لم يكونوا مستعدين لدفع ثمن التخلي عن الثروة والعائلات.
163:5.1 (1806.2) استعد يسوع والاثنا عشر الآن لتأسيس مقرهم الأخير في بيريا, بالقرب من بـِلا, حيث تم تعميد السيد في نهر الأردن. تم قضاء الأيام العشرة الأخيرة من شهر تشرين الثاني في مجلس عند ماجادان, وفي يوم الثلاثاء, 6 كانون الأول, بدأت المجموعة الكاملة المكونة من حوالي ثلاثمائة عند الفجر مع كل متاعهم للمكوث تلك الليلة قرب بـِلا بجانب النهر. كان هذا هو نفس الموقع, بجانب النبع, الذي شغِله يوحنا المعمدان مع مخيمه قبل عدة سنوات.
163:5.2 (1806.3) بعد تفكك مخيم ماجادان, عاد داود زَبـِدي إلى بيت-صيدا وبدأ على الفور في تقليص خدمة المراسيل. كان الملكوت يأخذ مرحلة جديدة. يومياً, وصل الحجاج من كل أنحاء فلسطين وحتى من مناطق نائية من الإمبراطورية الرومانية. كان المؤمنون يأتون من حين لآخر من بلاد ما بين النهرين ومن الأراضي الواقعة شرقي نهر دجلة. بناء على ذلك, يوم الأحد, 18 كانون الأول, قام داود, بمساعدة كتيبته من المراسيل, بتحميل معدات المخيم على الدواب, المخزونة آنذاك في منزل والده, حيث كان يدير سابقاً مخيم بيت-صيدا بجانب البحيرة. موَّدعاً بيت-صيدا للوقت الكائن, سار نزولاً إلى جانب البحيرة وعلى طول نهر الأردن إلى نقطة تبعد حوالي نصف ميل شمال المخيم الرسولي؛ وفي أقل من أسبوع كان مستعداً لتقديم الضيافة لما يقرب من ألف وخمسمائة زائر حاج. كان بإمكان المخيم الرسولي إيواء حوالي خمسمائة. كان هذا موسم الأمطار في فلسطين وكانت تلك التجهيزات مطلوبة لرعاية العدد المتزايد باستمرار من المستفسرين, ومعظمهم جادين, الذين جاءوا إلى بيريا لرؤية يسوع وسماع تعليمه.
163:5.3 (1806.4) قام داود بكل هذا بمبادرته الخاصة, ولو إنه تشاور مع فيليبُس ومتـّى في ماجادان. وظف الجزء الأكبر من كتيبة مراسيله السابقين كمساعدين له في إدارة هذا المخيم؛ لقد استخدم الآن أقل من عشرين رَجلاً في مهام المراسيل النظامية. قرب نهاية شهر كانون الأول وقبل عودة السبعين, تجَّمع ما يقرب من ثمانمائة زائر حول السيد, ووجدوا إيواء في مخيم داود.
163:6.1 (1806.5) في يوم الجمعة, 30 كانون الأول, بينما كان يسوع خارجاً في التلال القريبة مع بطرس, ويعقوب, ويوحنا, كان الرسل السبعون يتوافدون في أزواج, برفقة عدد كبير من المؤمنين, إلى مقر بـِلا. تجَّمَع السبعون جميعًا في موقع التعليم حوالي الساعة الخامسة عندما عاد يسوع إلى المخيم. تم تأخير وجبة العشاء لأكثر من ساعة بينما روى هؤلاء المتحمسون لإنجيل الملكوت تجاربهم. كان رسل داود قد نقلوا الكثير من هذه الأخبار إلى الرُسل خلال الأسابيع السابقة, لكن كان من الملهم حقاً سماع هؤلاء المعلمين المعينين حديثاً للإنجيل يخبرون شخصياً كيف استقبل الأمميون واليهود الجياع رسالتهم. أخيراً كان يسوع قادراً على رؤية أناس يخرجون لنشر البشائر بدون حضوره الشخصي. عرف السيد الآن أنه يمكنه مغادرة هذا العالَم دون إعاقة تقدم الملكوت بشكل خطير.
163:6.2 (1807.1) عندما روى السبعون كيف "حتى الأبالسة كانت خاضعة" لهم, أشاروا إلى الشفاءات المدهشة التي قدموها في حالات ضحايا الاضطرابات العصبية. مع ذلك, كان هناك عدد قليل من حالات التملك الروحي الحقيقي التي أُغاثها هؤلاء المسعفين, وفي إشارة إلى هذه, قال يسوع: "ليس من الغريب ان تخضع هذه الأرواح الصغيرة المتمردة لكم, لأنني رأيت الشيطان يسقط كالبرق من السماء. لكن لا تفرحوا كثيراً بهذا, لأني سأعلن لكم أنه, حالما أعود إلى أبي, سنرسل أرواحنا إلى عقول الناس بالذات حتى لا يعود بإمكان هذه الأرواح القليلة الضالة ان تدخل عقول البشر البائسين. أفرح معكم بأن لديكم قدرة مع الناس, لكن لا تتعالوا بسبب هذه التجربة بل تهللوا لأن أسماءكم مكتوبة على لوائح السماء, وبأنكم بالتالي ستمضون قدمًا في مهنة لا نهاية لها من الفتح الروحي."
163:6.3 (1807.2) ولقد كان عند هذا الوقت, قبل تناول وجبة العشاء مباشرة, حين اختبر يسوع إحدى تلك اللحظات النادرة من النشوة العاطفية التي شهدها أتباعه من حين لآخر. قال: "أشكرك, يا أبتاه, رب السماء والأرض, بأنه, بينما هذا الإنجيل المدهش كان مخفيأً عن الحكيم والبار, فقد كشف الروح هذه الأمجاد الروحية لأبناء الملكوت هؤلاء. نعم, يا أبتاه, لا بد أن يكون مُسراً في عينيك فعل هذا, وأتهلل لمعرفة أن البشائر ستنتشر في كل العالَم حتى بعد أن أعود إليك والعمل الذي منحتني لأقوم به. أنا مُتأثر بشدة عندما أدرك بأنك على وشك أن تُسَّلم كل سُلطة إلى يداي, بأنك أنت فقط تعرف حقاً من أنا, وبأني فقط أعرفك حقاً, وأولئك الذين كشفتك إليهم. وعندما أنتهي من هذا الوحي إلى إخواني في الجسد, سأواصل الوحي لمخلوقاتك في العُلى."
163:6.4 (1807.3) عندما تكلم يسوع بهذا إلى الأب, استدار جانباً ليخاطب رُسله ومسعفيه: "طوبى للعيون التي تبصر والآذان التي تسمع هذه الأشياء. دعوني أقول لكم بأن العديد من الأنبياء وكثير من الرجال العظماء في العصور الماضية رغبوا في مشاهدة ما ترونه الآن, لكن لم يتم منحه لهم. وأجيال عديدة من أبناء النور لتأتي, عندما يسمعون عن هذه الأشياء, سيحسدونكم أنتم الذين سمعتموها وشاهدتموها."
163:6.5 (1807.4) ثم, تحدث إلى جميع التلاميذ, قائلاً: "لقد سمعتم كم من المدن والقرى استلمت بشرى الملكوت, وكيف استقبل كل من اليهود والمعلمين مُسعفيَ ومعلمي. ومباركة حقًا هذه المجتمعات التي اختارت أن تؤمن بإنجيل الملكوت. لكن ويل للسكان الرافضين النور لخورازين, وبيت-صيدا-يوليوس, وكفرناحوم, المدن التي لم تستلم هؤلاء الرسل جيدًا. أعلن بأنه, إذا كانت الأعمال الجبارة التي تم القيام بها في هذه الأماكن قد تمت في صور وصيدا, لكانت شعوب ما يسمى بالمدن الوثنية قد تابت منذ فترة طويلة في المسوح والرماد. سوف يكون بالفعل أكثر احتمالاً من أجل صور وصيدا يوم الدَينونة."
163:6.6 (1807.5) اليوم التالي كائن السبت, انفصل يسوع عن السبعين وقال لهم: "فرحت معكم حقاً عندما رجعتم حاملين بشائر استلام إنجيل الملكوت بكثير جداً من الناس المنتشرين في جميع أنحاء الجليل, والسامره, ويهودا. لكن لماذا كنتم مبتهجين بشكل غير متوقع للغاية؟ ألم تتوقعوا بأن رسالتكم ستُظهر قدرة في إيصالها؟ هل انطلقتم بقليل جداً من الإيمان بهذا الإنجيل بحيث تعودون في دهشة من فعاليته؟ والآن, بينما لن أطفئ روح ابتهاجكم. أود أن أحذركم بشدة من خفايا الفخر, الفخر الروحي. لو أمكنكم أن تفهموا سقوط لوسيفر, الأثيم, فستتجنبون بحزم كل أشكال الفخر الروحي.
163:6.7 (1808.1) "لقد دخلتم على هذا العمل العظيم لتعليم الإنسان الفاني أنه ابن لله. لقد أريتكم الطريق؛ انطلقوا لأداء واجبكم ولا تكونوا تعبين في العمل الجيد. إليكم وإلى كل من سيتبعون في خطواتكم نزولاً خلال العصور, دعوني أقول: أنا دائماً أقف بالقرب, ونداء دعوتي هو, ودائماً سيكون, تعالوا إليَ كلكم المُتعبون والمثقلون بالأعباء, وسأعطيكم راحة. خذوا نيري عليكم وتعَّلموا مني, فأنا صادق ومخلص, وستجدون راحة روحية لنفوسكم."
163:6.8 (1808.2) ووجدوا أن كلمات السيد صحيحة عندما وضعوا وعوده إلى الإختبار. ومنذ ذلك اليوم قام عدد لا يحصى من الآلاف باختبار وإثبات ضمان هذه الوعود نفسها.
163:7.1 (1808.3) كانت الأيام القليلة التالية أوقاتاً مشغولة في مخيم بـِلا؛ كانت الاستعدادات من أجل المهمة البيرية تُتمم. كان يسوع ورفاقه على وشك الدخول في مهمتهم الأخيرة, جولة الشهور الثلاثة إلى كل بيريا, التي انتهت فقط بدخول السيد إلى أورشليم من أجل أعماله الأخيرة على الأرض. طوال هذه الفترة تم الحفاظ على المقر الرئيسي ليسوع والرُسل الاثني عشر هنا في مخيم بـِلا.
163:7.2 (1808.4) لم يعد من الضروري ليسوع أن يذهب إلى الخارج ليعَّلم الناس. كانوا يأتون إليه الآن بأعداد متزايدة كل أسبوع ومن جميع الأنحاء, ليس فقط من فلسطين, بل من العالَم الروماني كله ومن الشرق الأدنى. مع أن السيد شارك مع السبعين في جولة بيريا, إلا أنه أمضى معظم وقته في مخيم بـِلا, يعَّلم الجموع ويرشد الاثني عشر. طوال فترة الأشهُر الثلاثة هذه بقي عشرة من الرُسل على الأقل مع يسوع.
163:7.3 (1808.5) كذلك استعدت كتيبة النساء للخروج, اثنتان واثنتان, مع السبعين للعمل في مدن بيريا الكبرى. كانت هذه المجموعة الأصلية من اثنتي عشرة امرأة قد دربت مؤخراً كتيبة أكبر من خمسين امرأة في عمل الزيارات المنزلية وفي فن الإسعاف إلى المرضى والمنكوبين. أصبحت بيربيتوا, زوجة سمعان بطرس, عضواً في هذا القسم الجديد من السلك النسائي وكانت مستأمنة بقيادة العمل النسائي المتوسع تحت قيادة أبنير. بعد العنصرة بقيت مع زوجها اللامع, ترافقه في جميع جولاته التبشيرية؛ وفي اليوم الذي صُلب فيه بطرس في روما, أُطعمت إلى الوحوش البرية في الساحة. هذه الكتيبة الجديدة للنساء كان لديها كأعضاء أيضاً زوجات فيليبُس ومتـّى وأم يعقوب ويوحنا.
163:7.4 (1808.6) تهيأ عمل الملكوت الآن للدخول في مرحلته النهائية تحت القيادة الشخصية ليسوع. وكانت هذه المرحلة الحالية تتسم بعمق روحي مقارنة بالجموع المهتمين بالمعجزات والباحثين عن العجائب الذين تبعوا السيد خلال أيام الشعبية السابقة في الجليل. مع ذلك, كان لا يزال هناك أي عدد من أتباعه ذوي العقلية المادية, والذين فشلوا في فهم حقيقة أن ملكوت السماء هو الأخوة الروحية للإنسان مؤسسة على الواقع الأبدي لأبوة الله الكونية.
كِتاب يورانشيا
ورقة 164
164:0.1 (1809.1) أثناء إنشاء المخيم في بـِلا, صعد يسوع سِراً إلى أورشليم, آخذاً معه نثانئيل وتوما لحضور عيد التكريس. لم يدرك الرسولان بأن سيدهما كان ذاهباً إلى أورشليم إلا بعد أن عبروا الأردن عند معبر بيت-عنيا. عندما أدركا أنه كان يعتزم حقاً أن يكون حاضراً في عيد التكريس, احتجا لديه بجدية, ومستخدمان كل نوع من الحجة, سعيا إلى ثنيه. لكن جهودهما باءت بالفشل؛ كان يسوع مصمماً على زيارة أورشليم. لكل التماساتهما وكل تحذيراتهما المؤكدة لحماقة وخطر وضع نفسه في أيدي السنهدرين, كان يجيب فقط, "سأعطي هؤلاء المعلمين في إسرائيل فرصة أخرى ليروا النور, قبل أن تأتي ساعتي."
164:0.2 (1809.2) على الطريق نحو أورشليم, استمر الرسولان في التعبير عن مشاعر الخوف لديهما والإعراب عن شكوكهما حول الحكمة في مثل هذا المأخذ الجريء على ما يبدو. وصلوا أريحا حوالي الساعة الرابعة والنصف واستعدوا للمكوث هناك من أجل الليل.
164:1.1 (1809.3) في ذلك المساء تجمعت جماعة معتبرة حول يسوع والرسولين لطرح الأسئلة, أجاب الرسولان على كثير منها, بينما ناقش السيد أسئلة أخرى. خلال المساء, قال أحد رجال الشريعة, في مسعي لتوريط يسوع في جدال مثير للشبهة: "يا معلم, أود أن أسألك ما الذي ينبغي أن أفعله بالضبط لأرث الحياة الأبدية؟" أجاب يسوع, "ما هو مكتوب في الشريعة والأنبياء؛ كيف تقرأ الكتابات المقدسة؟" أجاب رجل الشريعة, عارف بتعاليم كل من يسوع والفريسيين: "أن تحب الرب الإلَه من كل قلبك, ونفسك, وعقلك, وقوتك, وجارك مثل نفسك." عندئذٍ قال يسوع: "لقد أجبت بالصواب؛ هذا, إذا أنت فعلته حقاً, سيقودك إلى الحياة الأبدية."
164:1.2 (1809.4) لكن رجل الشريعة لم يكن مخلصاً تماماً في طرح هذا السؤال, ورغبة في تبرير نفسه بينما كان يأمل أيضاً في إحراج يسوع, فقد جازف بطرح سؤال آخر. مقترباً قليلاً من السيد, قال, "لكن, يا معلم, أود أن تخبرني بالضبط من هو جاري؟" طرح رجل الشريعة هذا السؤال على أمل أن يُوقع يسوع في شرك الإدلاء ببيان ما قد يتعارض مع الشريعة اليهودية التي تُعرّف جار المرء بأنه "أبناء شعب المرء." كان اليهود ينظرون إلى كل الآخرين على أنهم "كلاب أممية." كان رجل الشريعة هذا ملماً إلى حد ما بتعاليم يسوع ولذلك عرف جيداً بأن السيد فكَّر بطريقة مختلفة؛ لهذا كان يأمل أن يقوده إلى قول شيء يمكن تأويله على أنه هجوم على الشريعة المقدسة.
164:1.3 (1810.1) لكن يسوع فطن إلى دافع رجل الشريعة, وبدلاً من الوقوع في الفخ, شرع في إخبار سامعيه قصة, قصة التي ستحظى بتقدير كامل من قبل أي جمهور في أريحا. قال يسوع: "كان رجلاً ما نازلاً من أورشليم إلى أريحا, ووقع في أيدي قطاع طرق قساة, الذين سرقوه, وجردوه, وضربوه, وراحلين, تركوه نصف ميت. قريباً جداً, بالصدفة, كان كاهن معَّين نازل في ذلك الطريق, وعندما أتى على الرجل الجريح, ناظر محنته المؤسفة, مر على الجانب الآخر من الطريق. وفي أسلوب مشابه, أيضاً أحد اللاويين, عندما جاء ورأى الرَجل, مر على الجانب الآخر. الآن, حوالي هذا الوقت, أحد السامريين, بينما يسافر نزولاً إلى أريحا, صادف الرَجل الجريح, وعندما رأى كيف تعرض للسرقة والضرب, كان مُحركاً بالشفقة, وذاهب إليه, ضمد جراحه, يصب عليها الزيت والنبيذ, ووضع الرَجل على دابته الخاصة, أحضره هنا إلى الفندق واعتنى به. وفي الغد أخذ بعض المال, وأعطاه للمضيف, قائلاً: ’اهتم جيداً بصديقي, وإذا كانت النفقة أكثر, سأدفع لك المزيد, عندما أعود مرة أخرى‘. الآن دعني أسألك: أي مِن هؤلاء الثلاثة تبين أنه جار الذي وقع بين اللصوص؟" وعندما شعر رجل الشريعة بأنه وقع في فخه الخاص, أجاب, "الذي أظهر رحمة له." فقال يسوع, "اذهب وافعل بالمثل."
164:1.4 (1810.2) أجاب رجل الشريعة, "الذي أظهر الرحمة," بحيث يمكنه الامتناع حتى عن قول تلك الكلمة البغيضة, السامري. كان رجل الشريعة مجبراً على إعطاء الإجابة ذاتها على السؤال, "من هو جَاري؟" الذي رغب يسوع بأن يُعطى, والذي, لو كان يسوع قاله هكذا, لكان مشمولاً مباشرة بتهمة الهرطقة. يسوع لم يربك رجل الشريعة المخادع فحسب, لكنه أخبر سامعيه قصة كانت في نفس الوقت تحذيرًا رائعًا لجميع أتباعه وتوبيخاً صاعقاً لكل اليهود فيما يتعلق بموقفهم من السامريين. واستمرت هذه القصة في الترويج للمحبة الأخوية بين جميع الذين آمنوا فيما بعد بإنجيل يسوع.
164:2.1 (1810.3) كان يسوع قد حضر عيد المظال ليُعلن الإنجيل إلى الحجاج من كل أنحاء الإمبراطورية؛ صعد الآن إلى عيد التكريس لغرض واحد فقط: لإعطاء السنهدرين والقادة اليهود فرصة أخرى لرؤية النور. وقع الحدث الرئيسي في هذه الأيام القليلة في أورشليم ليلة الجمعة في بيت نيقوديموس. اجتمع هنا معاً حوالي خمسة وعشرون من قادة اليهود الذين آمنوا بتعليم يسوع. وكان من بين هذه المجموعة أربعة عشر رجلاً كانوا آنذاك, أو كانوا في الآونة الأخيرة, أعضاء في السنهدرين. حضر هذا الاجتماع إيبر, وماتادورموس, ويوسف الأريماضِا.
164:2.2 (1810.4) في هذه المناسبة كان جميع مستمعي يسوع رجالاً متعلمين, وقد اندهشوا هم ورسله الاثنين من اتساع وعمق الملاحظات التي أدلى بها السيد لهذه الجماعة المتميزة. ليس منذ الأوقات التي كان يدرّس فيها في الإسكندرية, وروما, وفي جزر البحر الأبيض المتوسط, كان قد عَرض مثل هذا العلم وأظهر مثل هذا الفهم لشؤون الناس, الدنيوية والدِينية على حد سواء.
164:2.3 (1810.5) عندما تفكك هذا اللقاء الصغير, كلهم ذهبوا في حيرة من شخصية السيد, ومفتونين بأسلوبه الكريم, وفي محبة لهذا الرَجل. لقد سعوا لتقديم المشورة ليسوع بشأن رغبته في الفوز بالأعضاء المتبقين من السنهدرين. استمع السيد بانتباه, لكن بصمت, إلى كل مقترحاتهم. كان يعلم جيداً بأن أيا من خططهم لن تنجح. حدس بأن غالبية القادة اليهود لن يقبلوا إنجيل الملكوت؛ مع ذلك, فقد منحهم كلهم هذه الفرصة الإضافية للاختيار. لكن عندما خرج في تلك الليلة, مع نثانئيل وتوما, للمكوث على جبل الزيتون, لم يكن قد قرر بعد الأسلوب الذي سيتبعه في إحضار عمله مرة أخرى إلى انتباه السنهدرين.
164:2.4 (1811.1) في تلك الليلة نام نثانئيل وتوما قليلاً؛ كانا مندهشين كثيراً مما سمعاه في منزل نيقوديموس. لقد فكرا كثيراً في الملاحظة الأخيرة ليسوع بشأن عرض الأعضاء السابقين والحاليين للسنهدرين للذهاب معه أمام السبعين. قال السيد: "لا, يا إخواني, لن يكون لأي هدف. ستُضاعفون السخط الذي سيقع على رؤوسكم, لكن لن يخفف في الأقل من الكراهية التي يكنونها لي. اذهبوا كل واحد منكم حول شغل الأب كما يقودكم الروح بينما أُحضر الملكوت مرة أخرى إلى انتباههم بالطريقة التي قد يوَّجْهها أبي."
164:3.1 (1811.2) في الصباح التالي ذهب الثلاثة إلى بيت مارثا في بيت-عنيا لتناول الإفطار ثم ذهبوا مباشرة إلى أورشليم. في صباح هذا السبت, عندما دنا يسوع ورسوليه من الهيكل, صادفوا متسولاً معروفاً, رَجلاً وُلد أعمى, جالساً في مكانه المعتاد. مع أن هؤلاء المتسولين لم يلتمسوا أو يتلقوا الصدقات في يوم السبت, فقد سُمح لهم بالجلوس في أماكنهم المعتادة. توقف يسوع ونظر إلى المتسول. وبينما تفرس في هذا الرَجل الذي وُلد أعمى, خطرت في ذهنه فكرة كيف سيجلب مرة أخرى مهمته على الأرض إلى انتباه السنهدرين والقادة اليهود والمعلمين الدِينيين الآخرين.
164:3.2 (1811.3) بينما وقف السيد هناك أمام الرَجل الأعمى, مستغرقاً في تفكير عميق, نثانئيل, متمعن في السبب المحتمل لعمى هذا الرجل, سأل: "يا سيد, من الذي أخطأ, هذا الرجل أم والديه, حتى يتوجب أن يولد أعمى؟"
164:3.3 (1811.4) علـَّم الحاخامات بأن كل حالات العمى هذه منذ الولادة سببها الخطيئة, ليس أن الأولاد تم الحمل بهم وولدوا في الخطيئة فحسب, لكن يمكن أن يولد طفل أعمى كعقاب على خطيئة معينة ارتكبها والده. حتى أنهم علـَّموا بأن الطفل نفسه قد يخطئ قبل أن يولد في العالَم. كما علـَّموا بأن مثل هذه العيوب قد تكون ناجمة عن خطيئة ما أو انغماس آخر للأم أثناء حمل الطفل.
164:3.4 (1811.5) كان هناك, في جميع أنحاء هذه المناطق, اعتقاد راسخ في التقمص. تسامح المعلمون اليهود الأقدم, سوية مع أفلاطون, وفيلو, والعديد من الإيسينين, مع النظرية القائلة بأن الناس قد يحصدون في تقمص واحد ما زرعوه في وجود سابق؛ لهذا في حياة واحدة كان يُعتقَد لتكون مكَّفرة عن خطايا اُقترفت في معايش سابقة. وجد السيد صعوبة في جعل الناس يؤمنون بأن نفوسهم لم يكن لها وجود سابق.
164:3.5 (1811.6) مع ذلك, مناقض كما يبدو, في حين كان من المفترض أن يكون هذا العمى نتيجة للخطيئة, تمسك اليهود بأنه من الجدير بدرجة عالية إعطاء الصدقات لهؤلاء المتسولين العميان. كانت عادة هؤلاء الناس المكفوفين أن يهتفوا باستمرار للمارة, "يا رقيق القلب, اكسب فضيلة بمساعدة المكفوفين."
164:3.6 (1811.7) دخل يسوع في مناقشة هذه القضية مع نثانئيل وتوما, ليس فقط لأنه قرر تواً استخدام هذا الرَجل الأعمى كوسيلة لذلك اليوم ليجلب رسالته مرة أخرى بشكل بارزإلى انتباه القادة اليهود, لكن أيضًا لأنه شجع رُسله دائماً على البحث عن الأسباب الحقيقية لكل الظواهر, طبيعية كانت أم روحية. لقد حذرهم في كثير من الأحيان لتجنب الميل الشائع لإسناد أسباب روحية للأحداث الفيزيائية الاعتيادية.
164:3.7 (1812.1) قرر يسوع استخدام هذا المتسول في خططه لعمل ذلك اليوم, لكن قبل أن يفعل أي شيء للرَجل الأعمى, يوصيا بالاسم, شرع في الإجابة على سؤال نثانئيل. قال السيد: "لم يخطئ هذا الرجل ولا والديه بحيث قد تتجلى أعمال الله فيه. لقد أصابه هذا العمى في مجرى الأحداث الطبيعي, لكن يجب علينا الآن أن نؤدي أعمال الذي أرسلني, بينما لا يزال نهاراً, لأن الليل بالتأكيد سيأتي عندما سيكون من المستحيل القيام بالعمل الذي نحن على وشك القيام به. عندما أكون في العالَم, فأنا نور العالَم, لكن بعد قليل فقط لن أكون معكم."
164:3.8 (1812.2) عندما تكلم يسوع, قال لنثانئيل وتوما: "دعونا نخلق بصر هذا الرَجل الأعمى في يوم السبت بحيث يكون لدى الكتبة والفريسيين الفرصة التامة التي يسعون إليها لاتهام ابن الإنسان". ثم, انحنى, وبصق على الأرض ومزج الطين مع البصاق, ومتكلم عن كل هذا بحيث يتمكن الرجل الأعمى من السماع, صعد إلى يوصيا ووضع الطين على عينيه التي لا ترى, قائلاً: "اذهب, يا بني, أغسل هذا الطين في بـِركة سيلوام, وفي الحال ستبصر." ولما غسل يوصيا هكذا في بـِركة سيلوام, رجع إلى أصدقائه وعائلته, يرى.
164:3.9 (1812.3) حيث إنه كان دائماً متسولاً, لم يكن يعرف شيئاً آخر؛ وهكذا, عندما مرت الإثارة الأولى لخلق بصره, عاد إلى مكانه المعتاد لطلب الصدقات. أصدقاؤه, وجيرانه, وكل من عرفه من قبل, عندما لاحظوا أنه يستطيع الرؤية, قالوا جميعًا, "أليس هذا يوصيا المتسول الأعمى؟" قال البعض أنه هو, بينما قال آخرون, "لا, إنه يشبهه, لكن هذا الرَجل يستطيع أن يرى." لكن عندما سألوا الرَجل نفسه, أجاب, "أنا هو."
164:3.10 (1812.4) عندما بدأوا يستفسرون منه كيف كان قادراً أن يرى, أجابهم: "جاء رَجل يُدعى يسوع من هنا, وعندما تحدث عني مع أصدقائه, عمل طيناً بالبصاق ومسح عيناي, ووَّجه بأني يجب أن أذهب واغتسل في بـِركة سيلوام. فعلت ما قاله لي هذا الرَجل, وفي الحال استلمت بصري. وذلك منذ ساعات قليلة فقط. حتى الآن لا أعرف معنى الكثير مما أراه." وعندما سأل الناس الذين بدأوا يتجمعون حوله أين يمكنهم أن يجدوا هذا الرَجل الغريب الذي شفاه, أجاب يوصيا فقط أنه لا يعلم.
164:3.11 (1812.5) هذه واحدة من أغرب معجزات السيد. هذا الرَجل لم يطلب الشفاء. لم يعلم بأن يسوع الذي وجَّهه أن يغتسل في سيلوام, والذي وعده بالرؤية, كان نبي الجليل الذي وعظ في أورشليم خلال عيد المظال. هذا الرَجل لم يكن لديه سوى القليل من الإيمان بأنه سيبصر, لكن الناس في ذلك اليوم كان لديهم إيمان عظيم في فعالية بصاق رَجل عظيم أو مقدس؛ ومن محادثة يسوع مع نثانئيل وتوما, استنتج يوصيا بأن المُنعم عليه كان رَجلاً عظيماً, معلماً مثقفاً أو نبياً مقدساً؛ وفقاً لذلك فعل كما وجَّهه يسوع.
164:3.12 (1812.6) استخدم يسوع الطين والبصاق ووجَّهه بأن يغتسل في بـِركة سيلوام الرمزية لثلاثة أسباب:
164:3.13 (1812.7) 1. لم تكن هذه استجابة معجزة لإيمان الفرد. كانت هذه إحدى العجائب التي اختار يسوع أن يقوم بها لغرض خاص به, لكن التي رتبها بحيث يمكن لهذا الرجل أن يستمد منفعة منها بشكل دائم.
164:3.14 (1813.1) 2. بما أن الرَجل الأعمى لم يطلب الشفاء, وحيث إن إيمانه كان ضعيفاً, فقد تم اقتراح هذه الأعمال المادية بهدف تشجيعه. لقد كان يؤمن بخرافة فعالية البصاق, وكان يعلم أن بـِركة سيلوام كانت مكاناً شبه مقدس. لكنه لم يكن ليذهب إلى هناك لو لم يكن من الضروري أن يغسل طين مسحه. كان هناك شعيرة كافية حول التعامل لحثه على التصرف.
164:3.15 (1813.2) 3. لكن كان لدى يسوع سبب ثالث للجوء إلى هذه الوسائل المادية فيما يتعلق بهذا التعامل الفريد: لقد كانت هذه معجزة شُغلت بحتاً في طاعة لاختياره الخاص, ومن ثم أراد أن يُعَّلم أتباعه في ذلك اليوم وكل العصور اللاحقة أن يمتنعوا عن ازدراء أو إهمال الوسائل المادية في شفاء المرضى. أراد أن يعَّلمهم أنه عليهم التوقف عن اعتبار المعجزات الطريقة الوحيدة لشفاء الأمراض البشرية.
164:3.16 (1813.3) أعطى يسوع هذا الرَجل بصره بعمل معجز, في صباح يوم السبت هذا وفي أورشليم بالقرب من الهيكل, لهدف أساسي هو جعل هذا العمل تحدياً مفتوحاً للسنهدرين وجميع المعملين اليهود والقادة الدِينيين. كانت هذه طريقته في إعلان انفصال مفتوح عن الفريسيين. كان دائماً إيجابياً في كل شيء فعله. وكان لغرض جلب هذه الأمور أمام السنهدرين بأن أحضر يسوع رسوليه إلى هذا الرَجل في وقت مبكر من بعد ظهر يوم السبت هذا وأثار عمدا تلك المناقشات التي أجبرت الفريسيين على ملاحظة المعجزة.
164:4.1 (1813.4) بحلول منتصف الظهيرة كان شفاء يوصيا قد أثار مثل هذا النقاش حول الهيكل بحيث أن قادة السنهدرين قرروا عقد المجلس في مكان الاجتماع المعتاد في الهيكل. وفعلوا هذا في انتهاك لقانون قائم يمنع اجتماع السنهدرين في يوم السبت. عرف يسوع بأن نقض السبت سيكون إحدى التهم الرئيسية التي سيتم توجيهها ضده عندما يأتي الإختبار النهائي, وأراد أن يمثل أمام السنهدرين للفصل في تهمة أنه شفى رَجلاً أعمى في يوم السبت, عندما الاجتماع ذاته للمحكمة اليهودية العليا الجالسة في الحكم عليه بسبب عمل الرحمة هذا, سوف تتداول في هذه الأمور في يوم السبت وفي انتهاك مباشر لشرائعهم التي فرضوها بأنفسهم.
164:4.2 (1813.5) لكنهم لم يدعوا يسوع أمامهم؛ خافوا ذلك. بدلاً من ذلك, أرسلوا على الفور ليوصيا. بعد بعض الإستجواب الأولي, وجه المتحدث باسم السنهدرين (حوالي خمسين عضواً حاضرا) يوصيا ليخبرهم بما حدث له. منذ شفائه ذلك الصباح كان يوصيا قد علم من توما ونثانئيل, وآخرين بأن الفريسيين كانوا غاضبين من شفائه في السبت, وبأنهم كانوا على الأرجح سيثيرون المتاعب لجميع المعنيين؛ لكن يوصيا لم يدرك بعد بأن يسوع كان هو الذي يُدعى المخلص. هكذا, عندما سأله الفريسيون, قال: "جاء هذا الرَجل, ووضع طيناً على عيني, وقال لي أن أذهب واغتسل في سيلوام, وأنا الآن أبصر."
164:4.3 (1813.6) قال أحد الفريسيين الأكبر سناً, بعد أن ألقى كلمة مطولة: "هذا الرَجل لا يمكن أن يكون من الله لأنكم يمكنكم رؤية أنه لا يراعي السبت. إنه يخالف الناموس, أولاً, في صنع الطين, وبعدها, في إرسال هذا المتسول ليغتسل في سيلوام يوم السبت. لا يمكن لمثل هذا الرجل أن يكون معلماً مرسلاً من الله.
164:4.4 (1813.7) عندئذٍ قال أحد الشبان الذي آمن سراً بيسوع: "إذا لم يُرسل هذا الرجل من الله, فكيف يمكنه أن يفعل هذه الأشياء؟ نحن نعرف بأن المرء الذي هو خاطئ عادي لا يستطيع أن يصنع مثل هذه المعجزات. كلنا نعرف هذا المتسول وبأنه وُلد أعمى؛ الآن يرى. هل لا تزالون تقولون بأن هذا النبي يفعل كل هذه العجائب بقدرة أمير الأبالسة؟" ولكل فريسي تجرأ على اتهام يسوع والتنديد به كان واحد ينهض ليطرح أسئلة مربكة ومحرجة, حتى ينشأ بينهم انقسام خطير. رأى الضابط المترئس إلى أين كانوا ينجرفون, ومن أجل تهدئة المناقشة, استعد لاستجواب الرجل نفسه. متحولاً إلى يوصيا, قال: "ماذا لديك لتقول عن هذا الرَجل, يسوع هذا, الذي تدَّعي بأنه فتح عينيك؟" فأجاب يوصيا, "اعتقد أنه نبي."
164:4.5 (1814.1) كان القادة قلقين للغاية, وغير عارفين أي شيء آخر ليفعلوه, قرروا الإرسال من أجل والدي يوصيا ليعلموا ما إذا كان قدً وُلد أعمى بالفعل. كانوا يكرهون تصديق أن المتسول قد شفي.
164:4.6 (1814.2) كان معروفاً جيداً حول أورشليم, ليس فقط بأن يسوع مُنع من دخول جميع المعابد, بل أن كل الذين آمنوا بتعاليمه سيُخرجون أيضًا من الكنِيس ويُحرمون من التجمعات في إسرائيل؛ وهذا عنى الحرمان من جميع الحقوق والامتيازات من كل نوع في جميع اليهود باستثناء الحق في شراء ضروريات الحياة.
164:4.7 (1814.3) عندما, لذلك, ظهر والدا يوصيا, نفسان فقيران ومثقلان بالخوف, أمام السنهدرين المهيب خافا التكلم بحرية. قال المتحدث باسم المحكمة: "هل هذا ابنكم؟ وهل نفهم الصواب بأنه وُلد أعمى؟ إذا كان هذا صحيحاً, فكيف يمكنه أن يرى الآن؟" ثم أجاب والد يوصيا, بتأييد من والدته: "نحن نعرف بأن هذا ابننا, وبأنه وُلد أعمى, لكن كيف أصبح يرى, أو من فتح عينيه, لا نعلم. اسألوه؛ فهو بالغ؛ فليتكلم عن نفسه."
164:4.8 (1814.4) الآن استدعوا يوصيا أمامهم للمرة الثانية. لم يكونوا متفقين بشكل جيد مع مخططهم لعقد محاكمة رسمية, وبدأ البعض يشعر بالغرابة حيال القيام بذلك في يوم السبت؛ وفقاً لذلك, عندما استدعوا يوصيا مرة ثانية, حاولوا إيقاعه بأسلوب مختلف من الهجوم. تكلم ضابط المحكمة إلى الرَجل الأعمى سابقاً, قائلاً: "لماذا لا تعطي المجد لله من أجل هذا؟ لماذا لا تخبرنا بالحقيقة الكاملة لما حدث؟ كلنا نعرف بأن هذا الرَجل خاطئ. لماذا ترفض تمييز الحقيقة؟ تعرف بأنكما كلاكما أنت وهذا الرَجل تقفان متهمان بنقض السبت. ألا تكفر عن خطيتك بالاعتراف بالله كشافيك, إذا كنت لا تزال تدّعي بأن عينيك انفتحت هذا اليوم؟"
164:4.9 (1814.5) لكن يوصيا لم يكن أبكم ولا يفتقر إلى الفكاهة؛ فأجاب ضابط المحكمة: "إن كان هذا الرَجل خاطئًا, لا أعرف؛ لكن هناك شيئًا واحداً أعرفه ــ ذلك, أنه بينما كنت أعمى, الآن أرى." وحيث إنهم لم يتمكنوا من الإيقاع بيوصيا, فقد سعوا لاستجوابه مرة أخرى, سائلين: "بالضبط كيف فتح عينيك؟ ماذا فعل لك فعلياً؟ ماذا قال لك؟ هل طلب منك أن تؤمن به؟"
164:4.10 (1814.6) أجاب يوصيا, بنفاذ صبر إلى حد ما: "لقد أخبرتكم بالضبط كيف حدث كل شيء, وإذا كنتم لا تصدقون شهادتي, فلماذا تودون سماعها مرة أخرى؟ هل بأي صدفة ستصبحون كذلك تلاميذه؟" عندما تكلم يوصيا على هذا النحو, انفجر السنهدرين في ارتباك, وشبه عُنف, لأن القادة اندفعوا على يوصيا, هاتفين بغضب: "قد تتكلم عن كونك تلميذاً لهذا الرَجل, لكننا تلاميذ موسى, ونحن معلمو شرائع الله. نعلم بأن الله تكلم من خلال موسى, لكن بالنسبة لهذا الرَجل يسوع, فإننا لا نعلم من أين هو."
164:4.11 (1814.7) عند ذاك يوصيا, واقف على كرسي, صرخ للخارج إلى جميع الذين أمكنهم سماعه, قائلاً: " اسمعوا, أنتم الذين تدَّعون أنكم معلمو كل إسرائيل, بينما أعلن لكم بأن هذه عجيبة عظيمة حيث إنكم تعترفون بأنكم لا تعرفون من أين هذا الرجل, ومع ذلك فأنتم تعلمون يقينًا, من الشهادة التي سمعتموها, بأنه فتح عيني. كلنا نعرف بأن الله لا يؤدي مثل هذه الأعمال للأشرار؛ وبأن الله لا يفعل شيئًا كهذا إلا عند طلب متعبد صادق ــ لمن هو قدوس وبار. أنتم تعلمون أنه منذ بداية العالَم لم يُسمع عن فتح عيني شخص وُلد أعمى. انظروا إليّ, إذاً, جميعاً, وأدركوا ما تم القيام به هذا اليوم في أورشليم! أقول لكم, إن لم يكن هذا الرَجل من الله, فلن يستطيع أن يفعل هذا." وبينما غادر السنهدرين في حالة من الغضب والارتباك, صاحوا به: "أنت ولدت بالكامل في الخطيئة, والآن تزعم أن تعَّلمنا؟ ربما لم لم تكن حقًا قد ولدت أعمى, وحتى لو فُتحت عيناك على يوم السبت, فقد تم هذا بقدرة أمير الأبالسة". وذهبوا على الفور إلى الكنِيس لإلقاء يوصيا خارجاً.
164:4.12 (1815.1) دخل يوصيا هذه المحاكمة بأفكار يسيرة عن يسوع وطبيعة شفائه. معظم الشهادة الجريئة التي حملها بذكاء وشجاعة أمام هذه المحكمة العليا لكل إسرائيل نشأت في عقله بينما سارت المحكمة على طول خطوط غير عادلة وظالمة.
164:5.1 (1815.2) طوال الوقت الذي كان فيه إجتماع السنهدرين المناقض للسبت هذا يجري في إحدى غرف الهيكل, كان يسوع يسير بالقرب منهم, يعَّلم الناس في رواق سليمان, على أمل أن يتم استدعاؤه أمام السنهدرين حيث يمكنه إخبارهم ببشائر الحرية وفرح البنوة الإلَهية في ملكوت الله. لكنهم كانوا يخشون الإرسال من أجله. كانوا دائماً منزعجين من هذه الظهورات المفاجئة والعلنية ليسوع في أورشليم. ذات الفرصة التي سعوا إليها بحماس شديد, أعطاهم إياها يسوع الآن, لكنهم خافوا من إحضاره أمام السنهدرين حتى كشاهد, بل وأكثر خافوا من اعتقاله.
164:5.2 (1815.3) كان هذا منتصف الشتاء في أورشليم, وسعى الناس للحصول على مأوى جزئي في رواق سليمان؛ وبينما توانى يسوع, سأله الجموع أسئلة كثيرة, وعلـَّمهم لأكثر من ساعتين. سعى بعض المعلمين اليهود إلى الإيقاع به بسؤاله علناً: "إلى متى ستبقينا في ترقب؟ إذا كنت المسيح, فلماذا لا تخبرنا بصراحة؟" قال يسوع: "لقد أخبرتكم عن نفسي وأبي عدة مرات, لكنكم لن تصدقوني. ألا ترون أن الأعمال التي أقوم بها باسم أبي تشهد لي؟ لكن الكثير منكم لا يؤمنون لأنكم لا تنتمون إلى حظيرتي. معلم الحق يجذب فقط أولئك يتوقون إلى الحق والذين يتعطشون إلى البر. خِرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وهي تتبعني. ولكل من يتبع تعليمي أعطي الحياة الأبدية؛ هم لن يموتوا أبدًا, ولن يخطفهم أحد من يدي. أبي, الذي أعطاني هؤلاء الأولاد, هو أعظم من الجميع, بحيث لا يتمكن أحد من انتزاعهم من يد أبي. الأب وأنا واحد." اندفع بعض اليهود غير المؤمنين إلى حيث كانوا لا يزالون يبنون الهيكل لالتقاط الحجارة لرميها على يسوع, لكن المؤمنين منعوهم.
164:5.3 (1815.4) تابع يسوع تعليمه: "العديد من الأعمال المُحبّة قد أريتكم من الأب, بحيث أود الآن أن أستفسر عن أي من تلك الأعمال الصالحة تعتقدون لترجموني؟" وعندئذٍ أجاب أحد الفريسيين: "ليس لأجل عمل صالح نرجمك لكن من أجل التجديف, نظراً إلى أنك, كونك رجلاً, تجرؤ على أن تساوي نفسك مع الله." فأجاب يسوع: "تتهمون ابن الإنسان بالتجديف لأنكم ترفضون أن تصدقوني عندما أعلنت لكم أن الله قد أرسلني. إذا كنت لا أفعل أعمال الله, فلا تصدقوني, لكن إذا كنت أعمل أعمال الله, بالرغم من أنكم لا تؤمنون بي, يجب أن أعتقد أنكم ستؤمنون بالأعمال. لكن لكي تكونوا على يقين مما أعلنه, دعوني أؤكد مرة أخرى بأن الأب فيَ وأنا فيه, وبأنه, كما يسكن الأب فيَ, هكذا سأسكن في كل من يؤمن بهذا الإنجيل." ولما سمع الناس هذه الكلمات, اندفع الكثير منهم لوضع أيديهم على الحجارة لرميها عليه, لكنه عبر خلال أروقة الهيكل؛ والتقى نثانئيل وتوما, اللذان كانا حاضِرين في جلسة السنهدرين, انتظر معهما بالقرب من الهيكل إلى أن جاء يوصيا من قاعة المجلس.
164:5.4 (1816.1) لم يذهب يسوع والرسولان بحثًا عن يوصيا في بيته حتى سمعوا بأنه طُرد من الكنِيس. عندما أتوا إلى منزله, دعاه توما خارجاً إلى الفناء, ويسوع, متكلم إليه, قال: "يوصيا, هل تؤمن بابن الله؟" فأجاب يوصيا, أخبرني من هو لأؤمن به." فقال يسوع: "لقد رأيته وسمعته, وهو الذي يكلمك الآن." فقال يوصيا, "يا رب, أؤمن," فخرّ, وسجد.
164:5.5 (1816.2) عندما عَلِمَ يوصيا بأنه طُرد من الكنِيس, كان في البداية محبطًا للغاية, لكنه تشجع كثيراً عندما وجَّه يسوع بأنه يجب أن يستعد على الفور للذهاب معهم إلى المخيم في بـِلا. هذا الرَجل البسيط العقلية من أورشليم كان قد طُرد بالفعل من الكنيس اليهودي, لكن انظر إلى خالق الكون يقوده إلى الأمام لينضم إلى النبلاء الروحيين لذلك اليوم والجيل.
164:5.6 (1816.3) والآن غادر يسوع أورشليم, ليس ليعود مرة أخرى حتى قرب الوقت عندما استعد لمغادرة هذا العالم. مع الرسولين ويوصيا, عاد السيد إلى بـِلا. وبرهن يوصيا ليكون أحد المستلمين لإسعاف السيد العجائبي الذي أضحى مثمراً, لأنه اصبح واعظاً مدى الحياة لإنجيل الملكوت.
كِتاب يورانشيا
ورقة 165
165:0.1 (1817.1) يوم الثلاثاء, 3 كانون الثاني, عام 30 م., أبنير, الرئيس السابق لرُسل يوحنا المعمدان الاثني عشر, ناصري وفي أحد الأوقات رئيس لمدرسة النصارى في عين-جَدي, والآن رئيس الرسل السبعين للملكوت, دعا زملاءه معاً وأعطاهم إرشادات أخيرة قبل إرسالهم في مهمة إلى كل مدن وقرى بيريا. استمرت هذه المهمة البيرية لما يقرب من ثلاثة أشهُر وكانت الإسعاف الأخير للسيد. من خلال هذه الأعمال ذهب يسوع مباشرة إلى أورشليم ليمر خلال تجاربه النهائية في الجسد. السبعون, مضاف إليهم الأعمال الدورية ليسوع والرسل الاثني عشر, عملوا في المدن والبلدات التالية ونحو خمسين قرية إضافية: زافون, وغادارا, وماكاد, وعربـِلا, وراماث, وعدري, وبوصورا, وكاسبـِن, وميسبه, وجيراسا, وراغابا, وساكوث, وأماثوس, وآدم, وبنوئيل, وكابتولياس, وديون, وهاتيتا, وغاده, وفيلادلفيا, وجوغبيهاه, وجيلاد, وبيت-نمرا, وطيروس, والليله, وﻟﭭياس, وحشبون, وكاليرهو, وبيت-بيور, وشيطِم, وسيبما, ومأدبا, وبيت-ميون, وأرِوبولِس, وأرؤر.
165:0.2 (1817.2) في كل أثناء هذه الجولة البيرية, تولت كتيبة النساء التي تعد الآن اثنتان وستون امرأة معظم أعمال خدمة المرضى. كانت هذه هي الفترة النهائية لتطور الجوانب الروحية الأعلى لإنجيل الملكوت, وبالتالي, كان هناك, غياب لعمل المعجزات. لم يعُمل في أي جزء آخر من فلسطين بشكل كامل من قبل رُسل وتلاميذ يسوع, ولم تقبل الطبقات الأفضل من المواطنين في أي منطقة أخرى تعليم السيد بشكل عام.
165:0.3 (1817.3) كانت بيريا في هذا الوقت تقريباً أممية ويهودية بالتساوي, بعد أن تم إبعاد اليهود بشكل عام من هذه المناطق في زمن يوداص ماكابي. كانت بيريا أجمل ولاية في كل فلسطين. كان اليهود يشيرون إليها على أنها "الأرض الواقعة ما وراء الأردن."
165:0.4 (1817.4) طوال هذه الفترة قَسَّم يسوع وقته بين المخيم في بـِلا والرحلات مع الاثني عشر لمساعدة السبعين في مختلف المدن حيث قاموا بالتدريس والتبشير. تحت إرشادات أبنير عمَّد السبعون كل المؤمنين, مع أن يسوع لم يعهد إليهم بذلك.
165:1.1 (1817.5) بحلول منتصف شهر كانون الثاني تجَّمع أكثر من ألف ومائتي شخص معاً في بـِلا, وعلـَّم يسوع هذا الجمهور مرة واحدة على الأقل كل يوم عندما كان يقيم في المخيم, عادة ما كان يتحدث في الساعة التاسعة في الصباح إذا لم يمنعه المطر. علـَّم بطرس والرُسل الآخرون بعد ظهر كل يوم. خصص يسوع الأمسيات لجلسات الأسئلة والأجوبة المعتادة مع الاثني عشر والتلاميذ المتقدمين الآخرين. بلغ متوسط المجموعات المسائية حوالي خمسين.
165:1.2 (1817.6) بحلول منتصف آذار, وهو الوقت الذي بدأ فيه يسوع رحلته نحو أورشليم, ألف أكثر من أربعة آلاف شخص الجمهور العريض الذي سمع يسوع أو بطرس يعظان كل صباح. اختار السيد أن يُنهي عمله على الأرض عندما يكون الاهتمام في رسالته قد وصل إلى نقطة عالية, أعلى نقطة تم بلوغها خلال هذه المرحلة الثانية أو غير العجائبية من تقدم الملكوت. في حين أن ثلاثة أرباع الجموع كانوا من الباحثين عن الحقيقة, فقد كان هناك أيضاً عدد كبير من الفريسيين من أورشليم وأماكن أخرى, إلى جانب العديد من المشككين والمتعصبين.
165:1.3 (1818.1) كرس يسوع والرُسل الاثنا عشر جزءًا كبيرًا من وقتهم للجموع المتجمعة في مخيم بـِلا. لم يول الاثنا عشر اهتمامًا يذكر للعمل الميداني. ذاهبون فقط مع يسوع لزيارة زملاء أبنير من وقت لآخر. كان أبنير ملماً جداً بالمنطقة البيرية حيث كان هذا هو الميدان الذي قام فيه سيده السابق يوحنا المعمدان بمعظم عمله. بعد بدء المهمة البيرية, لم يعد أبنير والسبعون إلى مخيم بـِلا أبدًا.
165:2.1 (1818.2) قامت جماعة من أكثر من ثلاثمائة أورشليمي وفريسي وآخرين, بإتباع يسوع شمالاً إلى بـِلا عندما أسرع بعيداً عن منطقة نفوذ الحكام اليهود عند نهاية عيد التكريس؛ وكان في حضور هؤلاء المعلمين والقادة اليهود, وكذلك في سماع الرُسل الاثني عشر, حيث ألقى يسوع الموعظة عن "الراعي الصالح". بعد نصف ساعة من النقاش غير الرسمي, متكلم إلى مجموعة من حوالي مائة, قال يسوع:
165:2.2 (1818.3) "هذه الليلة لدي الكثير لأخبركم به, وبما أن العديد منكم هم تلاميذي وبعض منكم أعدائي الألداء, فسأقدم تعليمي في مَثل, حتى يتسنى لكل واحد منكم أن يأخذ لنفسه ما يجد استقبالا في قلبه.
165:2.3 (1818.4) "الليلة, هنا أمامي أناس مستعدون للموت من أجلي ومن أجل إنجيل الملكوت, وسيقدم البعض منهم أنفسهم في السنوات القادمة؛ وهنا أيضاً بعض منكم, عبيد التقاليد, الذين تبعوني من أورشليم, والذين, مع قادتكم المظلمين والمضَللين, يسعون لقتل ابن الإنسان. الحياة التي أعيشها الآن في الجسد ستدين كلاكما, الرعاة الحقيقيين والرعاة الكذبة. إذا كان الراعي الكاذب أعمى, فلا خطيئة له, لكنكم تدَّعون بأنكم ترون؛ تعلنون أنكم معلمين في إسرائيل؛ لذلك تبقى خطيئتكم عليكم.
165:2.4 (1818.5) "الراعي الحقيقي يجمع قطيعه إلى الحظيرة من أجل الليل في أوقات الخطر. وعندما يأتي الصباح, يدخل الحظيرة من الباب, وعندما يُنادي, تعرف الخراف صوته. كل راعي يدخل حظيرة الخراف بأي وسيلة أخرى غير الباب هو لص وسارق. الراعي الحقيقي يدخل الحظيرة بعد أن يفتح البواب له الباب, وخرافه, عارفة صوته, تخرج عند كلمته؛ وعندما يتم هكذا إخراج هؤلاء الذين هم خرافه, يسير الراعي الحقيقي أمامها؛ يقود الطريق والخراف تتبعه. خرافه تتبعه لأنها تعرف صوته؛ لن تتبع غريباً. ستهرب من الغريب لأنها لا تعرف صوته. هذا الجمع الذي تجَّمع حولنا هنا هو مثل خراف بدون راعٍ, لكن عندما نتكلم إليهم, فإنهم يعرفون صوت الراعي, ويتبعوننا؛ على الأقل, أولئك الجياع للحقيقة والعطشى للبر يفعلون. البعض منكم لستم من حظيرتي؛ ولا تعرفون صوتي, ولا تتبعونني. ولأنكم رعاة كذبة, لا تعرف الخراف صوتكم ولن تتبعكم."
165:2.5 (1819.1) ولما قال يسوع هذا المثل, لم يسأله أحد سؤالاً. بعد فترة بدأ يتكلم مجدداً وتابع مناقشة المَثل:
165:2.6 (1819.2) "أنتم الذين ستكونون مساعدي الرعاة لقطعان أبي لا يجب أن تكونوا مجرد قادة مستحقين, بل يجب عليكم أيضًا أن تطعموا القطيع بطعام صالح؛ لستم رعاة صادقين إلا إذا قدتم قطعانكم نحو مراعي خضراء وبجوار مياه هادئة.
165:2.7 (1819.3) "والآن, لئلا يفهم البعض منكم هذا المَثل بسهولة, سأصرح بأنني معاً الباب لحظيرة خراف الأب وفي نفس الوقت الراعي الحقيقي لقطعان أبي. كل راعٍ يسعى لدخول الحظيرة بدوني سيفشل, ولن تسمع الخراف صوته, أنا, مع أولئك الذين يسعفون معي, أنا الباب. كل نفـْس تدخل على الطريق الأبدي بالوسائل التي خلقتها وعينتها ستخَّلـَص وستكون قادرة على المضي قدمًا في بلوغ مراعي الفردوس الأبدية.
165:2.8 (1819.4) " لكنني أيضاً الراعي الحقيقي الذي يرغب حتى في أن يبذل حياته من أجل الخراف. اللص يقتحم الحظيرة فقط ليسرق, ويقتل, ويخرب؛ لكنني جئت بحيث قد تكون لديكم جميعاً حياة وأن تحصلوا عليها بوفرة أفضل. الذي هو أجير, عندما ينشأ الخطر, سوف يهرب ويسمح للأغنام أن تتشتت وتهلك؛ لكن الراعي الحقيقي لن يهرب عندما يأتي الذئب؛ سوف يحمي قطيعه, وإذا لزم الأمر يبذل حياته من أجل خرافه. الحق, الحق, أقول لكم. أصدقاء وأعداء, أنا الراعي الحقيقي؛ أعرف خاصتي وخاصتي تعرفني. لن أهرب في وجه الخطر. سأنهي هذه الخدمة من إتمام مشيئة أبي, ولن أتخلى عن القطيع الذي استأمنه الأب إلى حفظي.
165:2.9 (1819.5) "لكن لدي العديد من الخراف الأخرى ليست من هذه الحظيرة, وهذه الكلمات صحيحة ليس فقط لهذا العالَم. هذه الخراف الأخرى كذلك تسمعني وتعرف صوتي, وقد وعدت الأب بأنها ستحضر جميعًا في حظيرة واحدة, أخوة واحدة لأبناء الله. وعند ذاك ستعرفون جميعًا صوت راعي واحد, الراعي الحقيقي, وستعترفون جميعًا بأبوة الله.
165:2.10 (1819.6) وهكذا ستعرفون لماذا يحبني الأب ووضع كل قطعانه في هذا المجال بين يدي من أجل الحفظ؛ ذلك لأن الأب يعلم بأنني لن أتعثر في حماية حظيرة الخراف, أنني لن أتخلى عن خرافي, وبأنه إذا لزم الأمر, لن أتردد في وضع حياتي في خدمة قطعانه العديدة. لكن, ضعوا في اعتباركم, إذا بذلت حياتي, فسأصعدها مرة أخرى. لا إنسان ولا أي مخلوق آخر يمكنه أن يسلب حياتي. لدي الحق والقدرة لأضع حياتي ولدي نفس القدرة والحق لأستعيدها مرة أخرى. لا يمكنكم أن تفهموا هذا, لكنني استلمت هذه السُلطة من أبي حتى قبل ما كان هذا العالَم."
165:2.11 (1819.7) لما سمعوا هذه الكلمات, كان رُسله مرتبكين, وتلاميذه مندهشين, بينما خرج الفريسيون من أورشليم ومن حولها في الليل, قائلين, "إما أنه مجنون أو به إبليس. لكن حتى بعض معلمي أورشليم قالوا: "إنه يتكلم كواحد لديه سُلطة؛ إلى جانب ذلك, من رأى واحد لديه إبليس يفتح عيني رجل ولد أعمى ويفعل كل الأشياء المدهشة التي فعلها هذا الرَجل؟"
165:2.12 (1819.8) في الغد أعلن حوالي نصف هؤلاء المعلمين اليهود الإيمان بيسوع, وعاد النصف الآخر في يأس إلى أورشليم وبيوتهم.
165:3.1 (1819.9) بحلول نهاية شهر كانون الثاني كان عدد جموع يوم السبت بعد الظهر يقارب ثلاثة آلاف. يوم السبت, 28 كانون الثاني, ألقى يسوع العظة التي لا تنسى حول "الثقة والإستعداد الروحي." بعد ملاحظات تمهيدية أدلى بها سمعان بطرس, قال السيد:
165:3.2 (1820.1) "ما قلته مرات عديدة لرُسلي وتلاميذي, أعلنه الآن لهذا الجمع: احذروا من خمير الفريسيين الذي هو نفاق, مولود من التحيز ومغذى بعبودية التقاليد, ولو إن الكثير من هؤلاء الفريسيين صادقون في القلب وبعضهم يقيم هنا كتلاميذي. في الحاضر كلكم ستفهمون تعليمي, لأنه ليس هناك شيء مغطى الآن لن يتم الكشف عنه. كل ما تم إخفاؤه عنكم الآن سيُجعل معروفاً عندما يكون ابن الإنسان قد أتم مهمته على الأرض وفي الجسد.
165:3.3 (1820.2) "قريباً, قريباً جداً, الأشياء التي يخطط أعداؤنا الآن في الخفاء وفي الظلام ستُحضر إلى النور ويتم الإعلان عنها من أسطح المنازل. لكن أقول لكم, يا أصدقائي, عندما يسعون لإهلاك ابن الإنسان, لا تخافوا منهم. لا تخافوا أولئك الذين, مع أنهم قد يكونون قادرين على قتل الجسد, بعد ذلك ليس لديهم المزيد من القدرة عليكم. أنصحكم أن لا تخافوا أحداً, في السماء أو على الأرض, لكن أن تتهللوا في معرفة مَن لديه القدرة على أن يخلصكم من كل إثم وأن يقدمكم بلا لوم أمام كرسي الدينونة لكون.
165:3.4 (1820.3) "أليست خمسة عصافير تُباع بفلسين؟ ومع ذلك, عندما ترفرف هذه الطيور بحثاً عن قوتها, ولا واحدة منها توجد بدون علم الأب, مصدر كل الحياة. بالنسبة إلى الحارسات السيرافيات فإن شعور رؤوسكم بالذات معدودة. وإذا كان كل هذا صحيحاً, فلماذا تعيشون في خوف من التفاهات الكثيرة التي تظهر في معايشكم اليومية؟ أقول لكم: لا تخافوا؛ فأنتم أكثر قيمة بكثير من عصافير كثيرة.
165:3.5 (1820.4) " جميعكم الذين كانت لديكم الشجاعة للإعتراف بالإيمان في إنجيلي أمام الناس في الحاضر سأعترف بكم أمام ملائكة السماء؛ لكن مَن ينكر عن عمد حقيقة تعاليمي أمام الناس ستنكره حارسة مصيره حتى أمام ملائكة السماء.
165:3.6 (1820.5) "قولوا ما شئتم بشأن ابن الإنسان, وسوف يُغفر لكم؛ لكن من يفترض أن يجدف على الله بالكاد سيجد المغفرة. عندما يذهب الناس إلى حد إسناد أعمال الله عن قصد لقوى الشر, فإن مثل هؤلاء المتمردون المتعمدون بالكاد سيطلبون الغفران لخطاياهم.
165:3.7 (1820.6) "وعندما يُحضركم أعداؤنا أمام حكام المجامع وأمام سُلطات عُليا أخرى, لا تهتموا بما ينبغي أن تقولوا ولا تقلقوا بشأن كيفية الإجابة على أسئلتهم, لأن الروح الذي يسكن داخلكم بالتأكيد سيعَّلمكم في تلك الساعة بالذات ما يجب أن تقولوا في تشريف إنجيل الملكوت.
165:3.8 (1820.7) "إلى متى سوف تتباطأون في وادي القرار؟ لماذا تتوقفون بين رأيين؟ لماذا يجب أن يتردد اليهودي أو الأممي في قبول البشارة بأنه ابن الله الأبدي؟ كم يلزمنا لإقناعكم بالدخول بفرح إلى ميراثكم الروحي؟ لقد أتيت إلى هذا العالَم لأكشف الأب لكم ولأرشدكم إلى الأب. الأول قد فعلته, لكن الأخير لا يمكنني فعله بدون موافقتكم؛ لا يجبر الأب أبدًا أي إنسان على دخول الملكوت. الدعوة دائماً كانت وأبداً ستكون: كل من شاء فليأت ويتناول مجاناً من ماء الحياة."
165:3.9 (1820.8) عندما انتهى يسوع من الكلام, انطلق الكثيرون ليتعَّمدوا بواسطة الرُسل في الأردن بينما استمع إلى أسئلة أولئك الذين بقوا.
165:4.1 (1821.1) بينما يُعَّمد الرُسل المؤمنين, تحدث السيد مع أولئك الذين تمهلوا, فقال له شاب: "يا سيد, مات أبي تاركاً لي ولأخي ممتلكات كثيرة, لكن أخي يرفض أن يعطيني ما هو لي. هل, إذن, ستأمر أخي أن يقـّسم هذا الميراث معي؟" كان يسوع غاضباً إلى حد ما من أن هذا الشاب ذو العقلية المادية يجب أن يطرح للمناقشة سؤالاً عن مثل هذه المسألة؛ لكنه باشر في استخدام هذه المناسبة لنقل المزيد من الإرشاد. قال يسوع: "يا رَجل, من جعلني قاسماً عليكم؟ من أين أتيت بفكرة أني أهتم بالشؤون المادية لهذا العالَم؟" ثم, ملتفتاً إلى كل من حوله, قال: "انتبهوا وحرروا أنفسكم من الطمع؛ فحياة الإنسان لا تتكون من وفرة الأشياء التي قد يمتلكها. السعادة لا تأتي من قوة الثروة, ولا ينبع الفرح من الثروات. الثروة, في حد ذاتها, ليست لعنة, لكن حب الثروات في كثير من الأحيان يؤدي إلى مثل هذا التكريس لأشياء هذا العالَم بحيث تصبح النفـْس عمياء إلى عوامل الجذب الجميلة للحقائق الروحية لملكوت الله على الأرض وإلى أفراح الحياة الأبدية في السماء.
165:4.2 (1821.2) "دعوني أخبركم قصة رَجل ثري, الذي أحضَرت أرضه بوفرة؛ وعندما أصبح ثرياً جداً, بدأ يفـكر مع نفسه, قائلاً: ’ماذا سأفعل بكل ثرواتي؟ لدي الآن الكثير جداً بحيث ليس لدي مكان لتخزين ثروتي‘. وعندما تأمل في مشكلته, قال: ’هذا ما سأفعله؛ سوف أهدم مخازني وأبني أكبر منها, وبهذا سيكون لدي متسع وافر لتخزين ثماري وبضائعي. بعدئذٍ يمكنني أن أقول لنفـْسي, يا نفـْس, لديك الكثير من الثروة التي تراكمت على مدى سنوات عديدة؛ استريحي الآن؛ كُلي, واشربي, وكوني مسرورة, لأنكِ غنية وزادت خيراتك.‘
165:4.3 (1821.3) "لكن هذا الرَجل الغني كان أيضاً أحمق. في التزويد من أجل المتطلبات المادية لعقله وجسده, فشل في وضع كنوز في السماء من أجل رضى الروح وخلاص النفـْس. وحتى عند ذاك لم يكن ليتمتع بمسرة استهلاك ثروته المكتنزة, لأن تلك الليلة بالذات كانت نفـْسه مطلوبة منه. في تلك الليلة جاء قطاع الطرق الذين اقتحموا منزله ليقتلوه, وبعد أن نهبوا مخازنه, أحرقوا ما بقي, ومن أجل الملكية التي نجت من اللصوص سقط ورثته في القتال فيما بينهم. وضع هذا الرجل لنفسه كنوزاً على الأرض, لكنه لم يكن غنياً تجاه الله."
165:4.4 (1821.4) هكذا تعامل يسوع مع الشاب وميراثه لأنه عرف أن مشكلته كانت الطمع. حتى لو لم يكن الأمر كذلك, لما تدخل السيد, لأنه لم يتدخل أبداً في الشؤون الدنيوية حتى لرُسله, كم بالأحرى تلاميذه.
165:4.5 (1821.5) عندما انتهى يسوع من قصته, نهض رَجل آخر وسأله: "يا سيد, أنا أعرف بأن رُسلك قد باعوا كل ممتلكاتهم الأرضية ليتبعوك, وأن لديهم كل الأشياء مشتركة كما فعل الإيسنيين, لكن هل تود بأننا جميعاً تلاميذك نفعل نفس الشيء؟ هل من الخطيئة امتلاك ثروة شريفة؟" فأجاب يسوع على هذا السؤال: "يا صديقي, ليس من الخطيئة ان تمتلك ثروة شريفة؛ لكن الخطيئة إذا حوَّلت ثروة المقتنيات المادية إلى كنوز قد تستوعب اهتماماتك وتحَّول عواطفك عن التكريس إلى المساعي الروحية للملكوت. ليس هناك خطيئة في امتلاك ممتلكات نزيهة على الأرض بشرط أن يكون كنزك في السماء, لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا. هناك فرق كبير بين الثروة التي تؤدي إلى الطمع والأنانية وتلك التي تُمسك وتُصرف في روح الخدمة من قبل أولئك الذين لديهم وفرة من خيرات هذا العالَم, والذين يساهمون بوفرة للغاية في دعم أولئك الذين يكرسون كل طاقاتهم لعمل الملكوت. الكثيرون منكم هنا وبدون مال يتم إطعامهم وإيواءهم في مدينة الخيام البعيدة لأن رجالاً ونساءً أحراراً من ذوي الإمكانيات قدموا الأموال لمضيفكم, داود زَبـِدي, لمثل هذه الأهداف.
165:4.6 (1822.1) "لكن لا تنس أبداً بأن الثروة, بعد كل شيء, لا تدوم. محبة الثروات غالباً ما تحجب الرؤية الروحية بل وتدمرها. لا تفشل في إدراك خطورة أن تصبح الثروة, ليس خادمك, إنما سيدك."
165:4.7 (1822.2) لم يعَّلم يسوع ولم يؤيد الإسراف, والبطالة, واللامبالاة في توفير الضروريات المادية لعائلة المرء, أو الاعتماد على الصدقات. لكنه علـَّم بأن المادي والدنيوي يجب أن يكون خاضعاً لرفاهية النفـْس وتقدم الطبيعة الروحية في ملكوت السماء.
165:4.8 (1822.3) بعد ذلك, وبينما نزل الناس بجانب النهر ليشهدوا التعميد, جاء الرَجل الأول على انفراد إلى يسوع بشأن ميراثه نظراً لأنه اعتقد أن يسوع قد عامله بقسوة؛ وعندما سمعه السيد مرة أخرى, أجاب: "يا بني, لماذا تضيع الفرصة لتتغذى بخبز الحياة في يوم مثل هذا من أجل أن تنغمس في نزعتك الطامعة؟ ألا تعلم بأن الشرائع اليهودية للميراث ستكون مدبَرة بشكل عادل إذا ذهبت بشكواك إلى محكمة الكنِيس؟ ألا تستطيع أن ترى بأن عملي يتعلق بالتأكد بأنك تعرف عن ميراثك السماوي؟ ألم تقرأ في الكتابات المقدسة: ’هناك من يصبح غنياً بتقتيره والكثير من البخل, وهذا جزء من مكافأته: حيث يقول, لقد وجدت راحة وأنا الآن أستطيع أن آكل باستمرار من خيراتي, مع ذلك فهو لا يعلم ما يجلبه الوقت عليه, وكذلك بأنه يجب أن يترك كل هذه الأشياء للآخرين عندما يموت‘.أما قرأتم الوصية: ’يجب ألا تشتهي‘. ومرة أخرى, ’أكلوا وملأوا بطونهم وأصبحوا سمينين, وبعدئذٍ تحَّولوا إلى آلهة أخرى‘. ألم تقرأ في المزامير بأن ’الرب يمقت الطامع‘, وبأن ’القليل الذي لدى الرَجل البار أفضل من ثروات أثيمين كثيرين‘. ’إذا كثرت الثروات, فلا تضع قلبك عليها‘. هل قرأت حيث قال إرميا, ’لا تدع الإنسان الغني يفتخر بغناه‘؛ وحزقيال تكلم الصدق عندما قال, ’بأفواههم جعلوا عرضاً للمحبة, لكن قلوبهم موضوعة على مكسبهم الأناني.‘"
165:4.9 (1822.4) صرف يسوع الشاب, قائلاً له, "يا بني ماذا ينفعك إذا ربحت العالَم كله وخسرت نفـْسك؟"
165:4.10 (1822.5) إلى آخر يقف بالقرب الذي سأل يسوع كيف سيقف الغني في يوم القضاء, أجاب: "لم آتي لأحكم لا على الغني ولا الفقير, لكن المعايش التي يعيشها الناس تجلس في قضاء على الكل. أي شيء آخر قد يختص بالغني في القضاء, يجب الإجابة على ثلاثة أسئلة على الأقل من قبل كل من يكتسب ثروة كبيرة, وهذه الأسئلة هي:
165:4.11 (1822.6) "1. كم من الثروة جمعت؟
165:4.12 (1822.7) "2. كيف حصلت على هذه الثروة؟
165:4.13 (1822.8) "3. كيف استخدمت ثروتك؟"
165:4.14 (1822.9) بعدئذٍ ذهب يسوع إلى خيمته ليستريح لبعض الوقت قبل العشاء. عندما انتهى الرُسل من التعميد, جاءوا هم أيضاً وكانوا سيتحدثون معه عن الثروة على الأرض والكنز في السماء, لكنه كان نائماً.
165:5.1 (1823.1) في ذلك المساء بعد العشاء, عندما اجتمع يسوع والاثني عشر معاً لمؤتمرهم اليومي, سأل أندراوس: "يا سيد, بينما كنا نعَّمد المؤمنين, تكلمت بكلمات كثيرة إلى الجموع المنتظرة لم نسمعها. هل أنت على استعداد لتكرار هذه الكلمات لمنفعتنا؟" واستجابة لطلب أندراوس, قال يسوع:
165:5.2 (1823.2) "نعم يا أندراوس, سوف أتحدث إليكم عن هذه الأمور المتعلقة بالثروة والدعم الذاتي, لكن كلماتي إليكم, أيها الرُسل, يجب أن تكون مختلفة إلى حد ما عن تلك التي تحدثت بها إلى التلاميذ والجمهور حيث إنكم قد تخليتم عن كل شيء, ليس فقط لتتبعوني, لكن لكي يتم تعيينكم كسفراء للملكوت. لديكم بالفعل خبرة عدة سنوات, وأنتم تعلمون بأن الأب الذي تعلنون ملكوته لن يهجركم. لقد كرستم حياتكم من أجل خدمة الملكوت؛ فلا تقلقوا ولا تهتموا بشأن أمور الحياة الدنيوية, مثل ماذا ستأكلون, ولا حتى عن أجسامكم, ماذا ستلبسون. رفاهية النفـْس هي أكثر من الطعام والشراب؛ التقدم في الروح هو أعلى بكثير من الحاجة إلى الكساء. عندما تميلون إلى الشك في ضمان خبزكم, فكروا في الغربان؛ إنها لا تزرع ولا تحصد, وليس لديها مخازن أو حظائر, ومع ذلك فإن الأب يوفر الطعام لكل من يبحث عنه منها. وكم أنتم أكثر قيمة بكثير من كثير من الطيور! إلى جانب ذلك, فإن كل قلقكم أو شكوككم المقلقة لا يمكنها فعل أي شيء لتوفير احتياجاتكم المادية. أي منكم يمكنه من خلال القلق أن يزيد شبراً إلى قامتكم أو يوماً إلى حياتكم؟ نظراً لأن مثل هذه الأمور ليست في أيديكم, فلماذا تفكرون بقلق في أي من هذه المشاكل؟
165:5.3 (1823.3) " تأملوا الزنابق, كيف تنمو, فهي لا تتعب, ولا تغزل؛ مع ذلك أقول لكم, حتى سليمان في كل مجده لم يكن يرتدي مثل واحدة منها. إذا كان الله يُلبس هكذا عشب الحقل, الذي هو اليوم حي وغداً يُقطع ويُلقى في النار, كم بالحري سوف يُلبسكم أنتم, سفراء الملكوت السماوي. أنتم أيها القليلي الإيمان! عندما تكرسون أنفسكم من كل القلب لإعلان إنجيل الملكوت, ينبغي ألا تشكوا في أذهانكم فيما يتعلق بدعم أنفسكم أو العائلات التي هجرتموها. إذا أعطيتم حياتكم حقاً للإنجيل, فستعيشون حسب الإنجيل. إذا كنتم فقط تلاميذ مؤمنين, يجب أن تكسبوا خبزكم وتساهموا في إعالة كل الذين يعظون ويعَّلمون ويُشّفون. إذا كنتم قلقين على خبزكم ومائكم, فأين تختلفون عن أمم العالَم التي تبحث بجد عن مثل هذه الضروريات؟ كرسوا أنفسكم لعملكم, مؤمنين بأن كلا من الأب وأنا نعرف بأنكم بحاجة إلى كل هذه الأشياء. دعوني أؤكد لكم, مرة وإلى الأبد, بأنكم, إذا كرستم حياتكم لعمل الملكوت, فسوف يتم توفير جميع احتياجاتكم الحقيقية. اطلبوا الأشياء الأعظم, والأشياء الأقل ستكون موجودة في ذلك؛ اطلبوا السماوي, والأرضي سوف يكون مشمولاً. الظل من المؤكد أن يتبع العنصر.
165:5.4 (1823.4) "أنتم مجرد جماعة صغيرة, لكن إذا كان لديكم إيمان, إذا كنتم لن تتعثروا في الخوف, فإنني أعلن أنه من دواعي سرور أبي أن يمنحكم هذا الملكوت. لقد وضعتم كنوزكم حيث لا تغدو المحفظة قديمة, وحيث لا يمكن أن يسلب سارق, وحيث لا يمكن لعث أن يُخَّرب. وكما قلت للناس, حيث يكون كنزك, هناك سيكون قلبك أيضاً.
165:5.5 (1824.1) "لكن في العمل الذي ينتظرنا مباشرة, وفي ما سيبقى من أجلكم بعد أن أذهب إلى الأب, ستكونون مُجَرَبين بشدة. يجب أن تكونوا جميعًا في حذر من الخوف والشكوك. كل واحد منكم, شمروا عن سواعد عقولكم واحفظوا مصابيحكم مشتعلة. احفظوا أنفسكم مثل أناس يراقبون عودة سيدهم من وليمة الزفاف بحيث, عندما يأتي ويقرع, يمكنكم أن تفتحوا له بسرعة. مثل هؤلاء الخدم اليقظين يباركهم السيد الذي يجدهم مخلصين في مثل هذه اللحظة العظيمة. عندها سيجعل السيد خدمه يجلسون بينما يخدمهم هو بنفسه. الحق, الحق, أقول لكم بأن هناك أزمة بالضبط أمامكم في معايشكم, ويتعين عليكم أن تراقبوا وتكونوا مستعدين.
165:5.6 (1824.2) "أنتم تدركون جيداً أنه لن يعانى أحد من اقتحام منزله إذا كان يعلم في أي ساعة سيأتي اللص. كذلك كونوا متيقظين من أجل أنفسكم, لأنه في الساعة التي يكون فيها توقعكم الأقل وبطريقة لا تظنونها, سيرحل ابن الإنسان."
165:5.7 (1824.3) جلس الاثنا عشر في صمت لبضع دقائق. بعض هذه التحذيرات سمعوها من قـَبل لكن ليس في الوضع الذي تم تقديمه لهم في هذا الوقت.
165:6.1 (1824.4) بينما هم جالسون يفكرون, سأل سمعان بطرس: "هل تقول هذا المَثل لنا نحن رُسلك, أم أنه لكل التلاميذ؟" فأجاب يسوع:
165:6.2 (1824.5) "في وقت الإختبار, تُكشف نفـْس الإنسان؛ وتكشف التجربة عن حقيقة ما هو في القلب. عندما يُختبر الخادم ويثبت, عندها يجوز لرب البيت أن يضع مثل هذا الخادم على أهل بيته ويثق بأمان في هذا الوكيل الأمين ليرى بأن أولاده يتغذون ويتم تربيتهم. بالمثل, سأعرف قريباً من يمكن الوثوق به من أجل رعاية أولادي عندما أكون قد عدت إلى الأب. كما سيضع رب الأسرة الخادم الصادق والمتمرس على شؤون عائلته, هكذا سأرفع أولئك الذين يتحملون محن هذه الساعة في شؤون ملكوتي.
165:6.3 (1824.6) "لكن إذا كان الخادم كسولاً وبدأ يقول في قلبه, ’سيدي يؤخر مجيئه‘, ويبدأ في إساءة معاملة زملائه الخدم ويأكل ويشرب مع السكارى, عندئذٍ سيأتي رب ذلك الخادم في وقت لا يتوقعه, وواجداً إياه غير مُخْلص, سيلقيه خارجاً في خزي. لذلك أنتم تفعلون حسناً لإعداد أنفسكم لذلك اليوم عندما ستُزارون فجأة وبطريقة غير متوَقَعة. تذكَّروا, لقد أُعطي إليكم الكثير؛ لذلك سيطلب منكم الكثير. المحاكمات النارية تقترب منكم. لدي معمودية لأتعمد بها, وأنا في مراقبة حتى يُنجز هذا. أنتم تعظون السلام على الأرض, لكن مهمتي لن تجلب السلام في الشؤون المادية للناس ــ ليس لفترة من الوقت, على الأقل. الانقسام يمكن فقط أن يحصل حيث يؤمن بي اثنان من أفراد من عائلة ويرفض ثلاثة أفراد هذا الإنجيل. الأصدقاء, والأقارب, والمحبّين مقدَّرين لأن يوضعوا ضد بعضهم البعض بالإنجيل الذي تعظونه. صحيح, كل من هؤلاء المؤمنين سيكون لديه سلام عظيم ودائم في قلبه, لكن السلام على الأرض لن يأتي حتى يكون الجميع راغبين بالإيمان والدخول نحو ميراثهم المجيد للبنوة مع الله. مع ذلك, اذهبوا نحو إلى العالَم معلنين هذا الإنجيل لجميع الأمم, لكل رَجل, وامرأة, وطفل."
165:6.4 (1824.7) وكانت هذه نهاية يوم سبت حافل ومشغول. في الغد ذهب يسوع والاثني عشر إلى مدن شمال بيريا للزيارة مع السبعين, الذين كانوا يعملون في هذه المناطق تحت إشراف أبنير.
كِتاب يورانشيا
ورقة 166
166:0.1 (1825.1) من 11 إلى 20 شباط, قام يسوع والاثنا عشر بجولة في كل مدن وقرى بيريا الشمالية حيث كان يعمل زملاء أبنير وأعضاء الكتيبة النسائية. وجدوا رُسل الإنجيل هؤلاء يلاقون نجاحاً, ولفت يسوع مراراً انتباه رُسله إلى حقيقة أن إنجيل الملكوت يمكن أن ينتشر بدون مرافقة المعجزات والعجائب.
166:0.2 (1825.2) تم تنفيذ هذه المهمة بأكملها التي استمرت ثلاثة أشهر في بيريا بنجاح بقليل من المساعدة من الرُسل الاثني عشر, وقد عكس الإنجيل منذ هذا الوقت وصاعداً, ليس الكثير عن شخصية يسوع, بقدر ما عكس تعاليمه. لكن أتباعه لم يتبعوا إرشاداته لفترة طويلة, لأنه بعد فترة وجيزة من وفاة يسوع وقيامته ابتعدوا عن تعاليمه وبدأوا في بناء الكنيسة الأولى حول المفاهيم العجائبية والذكريات المجيدة لشخصيته البشرية -الإلَهية.
166:1.1 (1825.3) يوم السبت, 18 شباط, كان يسوع في راغابا, حيث عاش فريسي ثري اسمه نثانئيل؛ وبما أن عددًا ليس قليلاً من زملائه الفريسيين كانوا يتبعون يسوع والاثني عشر حول البلاد, فقد أعد وجبة الإفطار في صباح هذا السبت لهم جميعاً, حوالي عشرين في العدد, ودعا يسوع كضيف الشرف.
166:1.2 (1825.4) بحلول وقت وصول يسوع إلى هذا الإفطار, كان معظم الفريسيين, مع اثنين أو ثلاثة من رجال الشريعة, هناك بالفعل وقد جلسوا على المائدة. أخذ السيد مقعده في الحال على يسار نثانئيل دون الذهاب إلى أحواض الماء لغسل يديه. عرف الكثير من الفريسيين, خاصة أولئك الذين يؤيدون تعاليم يسوع, بأنه يغسل يديه فقط لأغراض النظافة, وبأنه مقت هذه العروض الاحتفالية البحتة؛ لهذا لم يتفاجأوا من مجيئه المباشر إلى الطاولة دون أن يغسل يديه مرتين. لكن نثانئيل كان مصدوماً بفشل السيد هذا في الإمتثال للمتطلبات الصارمة للممارسة الفريسية. ويسوع لم يغسل يديه, كما فعل الفريسيون, بعد كل طَبَق طعام ولا عند نهاية الوجبة.
166:1.3 (1825.5) بعد همس مُعتبَر بين نثانئيل وفريسي غير ودود على يمينه وبعد الكثير من رفع الحواجب وسخرية الشفتين من قبل أولئك الذين جلسوا مقابل السيد, أخيراً قال يسوع: "لقد ظننت أنكم دعوتموني إلى هذا المنزل لكسر الخبز معكم ولعلكم تسألونني بشأن إعلان الإنجيل الجديد لملكوت الله؛ لكنني أدرك بأنكم قد أحضرتموني إلى هنا لأشهد معرض تكريس احتفالي لبـِركم الذاتي. تلك الخدمة قد قدمتموها لي الآن؛ بماذا بالتالي ستشرفونني كضيفكم في هذه المناسبة؟"
166:1.4 (1826.1) عندما تكلم السيد هكذا, ألقوا أعينهم على الطاولة وظلوا صامتين. وبما أنه لم يتكلم أحد, تابع يسوع: "كثيرون منكم أيها الفريسيون معي هنا كأصدقاء, بل إن بعض منكم تلاميذي, لكن غالبية الفريسيين مصرين على رفضهم رؤية النور والاعتراف بالحق, حتى عندما يُحضر عمل الإنجيل أمامهم في قدرة عظيمة. كم بحرص تنظفون الكؤوس والأطباق من الخارج بينما أوعية الطعام الروحي قذرة وملوثة! تتأكدون من تقديم مظهر ورع ومقدس للناس, لكن نفوسكم الداخلية مملوءة بالبر الذاتي, والطمع, والابتزاز, وكل أنواع الإثم الروحي. حتى أن قادتكم يجرؤون على التآمر والتخطيط لقتل ابن الإنسان. ألا تفهمون أيها الرجال الحمقى بأن إله السماء ينظر إلى الدوافع الداخلية للنفـْس وكذلك إلى ادعاءاتكم الخارجية ومجاهرتكم التقية؟ لا تظنوا بأن إعطاء الحسنات ودفع العشور سيطهركم من الإثم ويمَّكنكم من الوقوف طاهرين في حضور قاضي كل الناس. ويل لكم أيها الفريسيون المُصرون على رفض نور الحياة! أنتم شديدو التقيد بالعشور وتتباهون في إعطاء الحسنات, لكنكم عن عمد ترفضون زيارة الله وترفضون إعلان محبته. ولو إنه لا بأس أن تهتموا بهذه الواجبات البسيطة, ما كان ينبغي أن تتركوا هذه المتطلبات الأثقل مُهمَلة. ويل لكل الذين يتجنبون العدل, ويزدرون الرحمة, ويرفضون الحق! ويل لكل الذين يحتقرون وحي الأب بينما يسعون وراء المقاعد الرئيسية في الكنِيس ويتوقون إلى التحيات الإطرائية في الأسواق!"
166:1.5 (1826.2) عندما نهض يسوع ليغادر, قال أحد رجال الشريعة الذي كان عند المائدة, مخاطباً إياه: "لكن, يا سيد, في بعض تصريحاتك قد عيرتنا نحن أيضاً. أليس هناك أي شيء صالح في الكتبة, أو الفريسيين, أو رجال الشريعة؟" ويسوع, واقفاً, أجاب رجل الشريعة: "أنتم, مثل الفريسيين, تبتهجون في الأماكن الأولى في الولائم وفي لبس الأثواب الطويلة بينما تضعون أحمالاً ثقيلة, حملها مفجع, على أكتاف الناس. وعندما تترنح نفوس الناس تحت هذه الأعباء الثقيلة, لا ترفعون حتى واحداً من أصابعكم. ويل لكم أنتم الذين تتخذون أعظم ابتهاج في بناء قبور الأنبياء الذين قتلهم آباؤكم! وكونكم توافقون على ما فعله آباؤكم يبدو متجلياً عندما تخططون الآن لقتل أولئك الذين يأتون في هذا اليوم فاعلين ما فعله الأنبياء في يومهم ــ معلنين بر الله وكاشفين رحمة الأب السماوي. لكن من بين جميع الأجيال الماضية, سيكون دم الأنبياء والرُسل مطلوباً من هذا الجيل المتمرد والبار-للذات. ويل لكم جميعاً يا رجال الشريعة الذين أخذتم مفتاح المعرفة من عامة الناس! أنتم أنفسكم ترفضون الدخول في طريق الحق, وفي نفس الوقت تعيقون جميع الآخرين الذين يسعون للدخول إليها. لكنكم لن تتمكنوا بهذا من إغلاق أبواب ملكوت السماء؛ التي فتحناها لجميع الذين لديهم الإيمان للدخول, ولن تغلق بوابات الرحمة هذه بتحيز وغطرسة المعلمين الكذبة والرعاة غير الحقيقيين الذين هم مثل قبور مبيضة التي, رغم أنها تبدو جميلة من الخارج, داخلها مملوء بعِظام ناس أموات وكل أنواع النجس الروحي."
166:1.6 (1826.3) ولما فرغ يسوع من الكلام عند مائدة نثانئيل, خرج من المنزل بدون تناول الطعام. ومن الفريسيين الذين سمعوا هذه الكلمات, أصبح البعض مؤمناً بتعليمه ودخلوا نحو الملكوت, لكن العدد الأكبر استمر في طريق الظلام, وأصبحوا عاقدين العزم أكثر على أن يكمنوا له حتى يتمكنوا من التقاط بعض كلماته التي يمكن استخدامها لجلبه إلى المحاكمة والقضاء أمام السنهدرين في أورشليم.
166:1.7 (1827.1) كان هناك بالضبط ثلاثة أشياء أولاها الفريسيون اهتماماً خاصاً:
166:1.8 (1827.2) 1. ممارسة العشور الصارمة.
166:1.9 (1827.3) 2. التقيد الصارم بشرائع التطهير.
166:1.10 (1827.4) 3. تجنب الصِلة مع غير الفريسيين.
166:1.11 (1827.5) عند هذا الوقت سعى يسوع لفضح العقم الروحي للممارستين الأولتين, بينما احتفظ بملاحظاته المصممة لتوبيخ رفض الفريسيين الدخول في اتصال اجتماعي مع غير الفريسيين لمناسبة أخرى ولاحقة عندما كان سيتناول الطعام مرة أخرى مع العديد من هؤلاء الناس أنفسهم.
166:2.1 (1827.6) في اليوم التالي ذهب يسوع مع الاثني عشر إلى أماثوس, بالقرب من حدود السامرة, وعندما اقتربوا من المدينة, واجهوا جماعة من عشرة برص الذين أقاموا بالقرب من هذا المكان, تسعة من هذه الجماعة كانوا يهود, وواحد سامري. عادة ما كان هؤلاء اليهود يمتنعون عن أي ارتباط أو اتصال بهذا السامري, لكن مصابهم المشترك كان اكثر من كافِ للتغلب على كل تحيز دِيني. كانوا قد سمعوا الكثير عن يسوع ومعجزاته السابقة للشفاء, وبما أن السبعين قاموا بممارسة الإعلان عن وقت وصول يسوع المتوقع عندما كان السيد في الخارج مع الاثني عشر في هذه الجولات, تم إعلام البُرص العشرة بأنه من المتوقع أن يظهر في هذا الجوار حوالي هذا الوقت؛ وكانوا, وبالتالي, واقفين هنا على مشارف المدينة حيث كانوا يأملون في جذب انتباهه وطلب الشفاء. عندما رأى البُرص يسوع يقترب منهم, غير متجرئين على الإقتراب منه, وقفوا بعيداً وصرخوا إليه: "يا سيد, ارحمنا؛ طهرنا من مصابنا. اشفنا كما شفيت آخرين."
166:2.2 (1827.7) كان يسوع قد شرح للتو للاثني عشر لماذا أمميو بيريا, سويةً مع اليهود الأقل أرثوذكسية, كانوا أكثر استعداداً للإيمان بالإنجيل الذي وعظه السبعون أكثر من يهود يهودا الأكثر أرثوذكسية والمقيدين بالتقاليد. كان قد لفت انتباههم إلى حقيقة أن رسالتهم قد اُستلمت بالمثل بسهولة أكبر من قِبل الجليليين, وحتى من قِبل السامريين. لكن الرُسل الاثني عشر بالكاد كانوا مستعدين حتى الآن للترفيه عن مشاعر طيبة تجاه السامريين المحتقرين منذ أمد طويل.
166:2.3 (1827.8) تبعاً لذلك, عندما لاحظ سمعان زيلوطس السامري بين البُرص, سعى ليستميل السيد ليعبر نحو المدينة بدون حتى أن يتمهل لمبادلة التحيات معهم. قال يسوع لسمعان: "لكن ماذا لو كان السامري يحب الله مثل اليهود؟ هل يجب أن نجلس في قضاء على إخوتنا الناس؟ من يستطيع أن يقول؟ إذا شفينا هؤلاء الرجال العشرة, فربما سيبرهن السامري ليكون اكثر امتناناً حتى من اليهود. هل تشعر باليقين بشأن آرائك, يا سمعان؟ فأجاب سمعان بسرعة, "إذا قمت بتطهيرهم, فستكتشف في الحال." فأجاب يسوع: "هكذا سيكون, يا سمعان, وقريباً ستعرف الحقيقة بما يخص امتنان الناس ورحمة الله المحبة."
166:2.4 (1827.9) يسوع, ذاهب قرب البُرص, قال: "إن تُشافون, فانطلقوا وأروا أنفسكم للكهنة كما هو مطلوب بموجب شريعة موسى." وبينما ذهبوا شفوا. لكن عندما رأى السامري بأنه قد شفي, رجع, وذاهب في طلب يسوع, بدأ يمجد الله بصوت عالٍ. وعندما وجد السيد, وقع على ركبتيه عند قدميه وأعطى شكراً من أجل تطهيره. التسعة الآخرون, اليهود, كذلك اكتشفوا شفاءهم, وبينما هم أيضاً كانوا ممتنين لتطهيرهم, استمروا في طريقهم لإظهار أنفسهم للكهنة.
166:2.5 (1828.1) بينما بقي السامري راكعاً عند قدمي يسوع, قال السيد, وهو ينظر حول الاثني عشر, خاصة سمعان زيلوطس: "ألم يتطهر العشرة؟ أين, إذن, التسعة الآخرون, اليهود؟ فقط واحد, هذا الغريب, عاد ليعطي المجد لله." ثم قال للسامري, " قم واذهب في طريقك؛ إيمانك قد شفاك."
166:2.6 (1828.2) نظر يسوع مرة أخرى إلى رُسله بينما رحل الغريب, ونظر الرُسل جميعاً إلى يسوع, ما عدا سمعان زيلوطس, الذي كانت عيناه متجهة إلى أسفل. لم يقل الاثنا عشر كلمة, ولا يسوع تكلم؛ لم يكن من الضروري أن يفعل.
166:2.7 (1828.3) مع أن كل العشرة من هؤلاء الرجال كانوا يعتقدون حقاً بأنهم مصابون بالبرص, إلا أن أربعة فقط كانوا مصابين بذلك. الستة الآخرون شُفوا من مرض جلدي أخطيء على أنه برص. لكن السامري كان مصاباً بالفعل بالبرص.
166:2.8 (1828.4) أوصى يسوع الاثني عشر أن لا يقولوا شيئاً عن تطهير البُرْص, وبينما استمروا نحو أماثوس, أشار: "ترون كيف أن أولاد المنزل, حتى عندما لا يكونون خاضعين لمشيئة أبيهم يأخذون بركاتهم كأمر مسلم به. يعتقدون أنه أمر صغير إذا أهملوا إعطاء شكر عندما يغدق الأب عليهم الشفاء, لكن الغرباء عندما يتلقون هدايا من رب المنزل, يمتلئون بالعجب ويضطرون لإعطاء الشكر تقديراً للخيرات التي تُمنح لهم." ولا يزال الرُسل لم يقولوا شيئاً رداً على كلمات السيد.
166:3.1 (1828.5) بينما كان يسوع والاثنا عشر يزورون رسل الملكوت في جيراسا, سأل أحد الفريسيين الذين آمنوا به هذا السؤال: "يا رب, هل سيخَلَص قلة أم كثيرون حقاً؟" ويسوع, مجيباً, قال:
166:3.2 (1828.6) "لقد عُلـِّمتم بأن أولاد إبراهيم فقط هم من سيُخلصون؛ وبأن الأمميين بالتبني فقط هم من يمكنهم أن يأملوا في الخلاص. بعض منكم قد استنتج بأنه, حيث إن الكتابات المقدسة تسجل بأن كالب ويشوع فقط من بين كل الجماهير التي خرجت من مصر عاشا ليدخلا الأرض الموعودة, بالمقارنة فقط عدد قليل من الذين يطلبون ملكوت السماء سيجدون مدخلاً إليه.
166:3.3 (1828.7) "ولديكم أيضًا قول آخر بينكم, وواحد الذي فيه الكثير من الحقيقة: بأن الطريق الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية مستقيم وضيق, وبأن الباب المؤدي إليها ضيق بالمثل بحيث إن, من الذين يسعون للخلاص, فقط قليلون هم من يجدون مدخلًا من خلال هذا الباب. لديكم أيضًا تعليم بأن الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك واسع, وبأن مدخله واسع, وأن هناك كثيرون ممن يختارون الذهاب في هذه الطريق. وهذا المَثل لا يخلو من معناه. لكنني أعلن بأن الخلاص هو أولاً مسألة اختيارك الشخصي. حتى لو كان باب طريق الحياة ضيقاً, فهو واسع بما فيه الكفاية ليسمح بدخول كل من يسعى بصدق للدخول, لأنني ذلك الباب. ولن يرفض الابن دخول أي طفل ولد من الكون, الذي, يسعى بإيمان, إلى إيجاد الأب من خلال الابن.
166:3.4 (1829.1) "لكن هنا يكمن الخطر على كل الذين يؤجلون دخولهم إلى الملكوت بينما يستمرون في السعي وراء ملذات عدم النضج والانغماس في إشباع الأنانية: بعد أن رفضوا دخول الملكوت كتجربة روحية, فقد يسعون لاحقاً لطلب الدخول إليه عندما يصبح مجد الطريق الأفضل مكشوفاً في العصر الآتي. وعندما, بالتالي, يسعى أولئك الذين استهانوا بالملكوت عندما جئت في شبه البشرية لإيجاد مدخل عندما يُكشف في شبه إلَهي, عندئذٍ سأقول لكل هؤلاء الأنانيين: لا أعرف من أين أنتم. لقد أتيحت لكم فرصة الاستعداد لهذه المواطنة السماوية, لكنكم رفضتم كل عروض الرحمة هذه؛ لقد رفضتم كل الدعوات للحضور بينما كان الباب مفتوحاً. الآن, إليكم الذين رفضتم الخلاص, الباب مغلق. هذا الباب ليس مفتوحاً للذين يودون دخول الملكوت من أجل المجد الأناني. الخلاص ليس لأولئك الذين لا يرغبون في دفع ثمن التفاني المخلص لفعل مشيئة أبي. عندما في الروح والنفـْس أدرتم ظهوركم لملكوت الأب, فلا جدوى في العقل والجسم أن تقفوا أمام هذا الباب وتقرعوا, قائلين, ’يا رب, افتح لنا؛ نود كذلك أن نكون عظماء في الملكوت‘. عندئذٍ سأصرح بأنكم لستم من حظيرتي. لن استقبلكم لتكونوا بين أولئك الذين حاربوا معركة الإيمان الطيب وفازوا بمكافأة الخدمة اللا-أنانية في الملكوت على الأرض. وحين تقولون, ’ألم نأكل ونشرب معك, وألم تُعَّلم في شوارعنا؟‘ عندئذ سأعلن مرة أخرى بأنكم غرباء روحيين؛ بأنكم لم تكونوا خادمين زملاء في إسعاف رحمة الأب على الأرض؛ بأني لا أعرفكم؛ وحينئذ سيقول قاضي كل الأرض لكم: ’ارحلوا عنا, يا جميع الذين ابتهجتم في أعمال الإثم.‘
166:3.5 (1829.2) "لكن لا تخافوا؛ كل مَن يرغب بإخلاص في العثور على الحياة الأبدية بالدخول إلى ملكوت الله بالتأكيد سيجد هذا الخلاص الأبدي. لكن أنتم الذين ترفضون هذا الخلاص يوماً ما سترون أنبياء نسل إبراهيم يجلسون مع المؤمنين من أمم الأمميين في هذا الملكوت الممجد ليتناولوا من خبز الحياة وينعشوا أنفسهم بمائها. والذين سيأخذون الملكوت بقوة روحية وبهجمات مستمرة من الإيمان الحي سيأتون من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب. وهوذا, كثيرون من الأولين سيكونون أخيرين, والأخيرين مرات عديدة سيكونون أولين."
166:3.6 (1829.3) هذا كان حقاً نسخة جديدة وغريبة من المثل القديم والمألوف عن الطريق المستقيم والضيق.
166:3.7 (1829.4) ببطء كان الرُسل والعديد من التلاميذ يتعلمون معنى تصريح يسوع الباكر: "ما لم تولدوا ثانيةً, من الروح, لا يمكنكم دخول ملكوت الله." مع ذلك, لجميع الأمناء في القلب والصادقين في الإيمان, يبقى صحيحًا إلى الأبد: "انظروا, ها أنا أقف عند أبواب قلوب الناس وأقرع, وإذا كان أي إنسان سيفتح لي, سآتي وأتغذى معه وسأطعمه خبز الحياة؛ سنكون واحداً في الروح والهدف, وهكذا سنكون دائماً إخوة في الخدمة الطويلة والمثمرة في البحث عن الأب الفردوسي." وهكذا, سواء سيتم خلاص القليل أو الكثير يعتمد إجمالاً على ما إذا كان قليلون أو كثيرون سيستجيبون للدعوة: "أنا الباب, أنا الطريق الجديدة والحية, وكل من شاء يمكنه الدخول للشروع في البحث عن الحقيقة الذي لا نهاية له للحياة الأبدية".
166:3.8 (1829.5) حتى الرُسل لم يكونوا قادرين تماماً على فهم تعاليمه فيما يتعلق بضرورة استخدام القوة الروحية لغرض اختراق كل المقاومة المادية وللتغلب على كل عقبة أرضية قد تصادف أن تقف في طريق استيعاب القيم الروحية الكلية الأهمية للحياة الجديدة في الروح كأبناء الله المحررين.
166:4.1 (1830.1) في حين أن معظم الفلسطينيين تناولوا وجبتين فقط في اليوم, فقد كانت عادة يسوع والرُسل, عندما في سفر, أن يتوقفوا عند منتصف النهار من أجل الراحة والانتعاش. ولقد كان في مثل وقفة الظهيرة هذه على الطريق إلى فيلادلفيا حينما سأل توما يسوع: "يا سيد, من سماع ملاحظاتك بينما ارتحلنا هذا الصباح, أود الاستفسار عما إذا كانت الكائنات الروحية معنية بإنتاج الحوادث الغريبة وغير العادية في العالَم المادي, وكذلك, أن أسأل عما إذا كانت الملائكة والكائنات الروحية الأخرى قادرة على منع الحوادث ".
166:4.2 (1830.2) ردًا على استفسار توما, قال يسوع: "كنت معكم لوقت طويل, ومع ذلك تستمر في طرح مثل هذه الأسئلة علي؟ هل فشلت في ملاحظة كيف يعيش ابن الإنسان كواحد معكم ويرفض باستمرار أن يوظف قوى السماء من أجل رزقه الشخصي. ألا نعيش جميعاً بنفس الوسائل التي يتواجد بها جميع الناس؟ هل ترى قدرة العالَم الروحي تتجلى في الحياة المادية لهذا العالَم, باستثناء من أجل وحي الأب وشفاء أولاده المنكوبين أحياناً؟
166:4.3 (1830.3) "اعتقد آباؤكم لوقت طويل جداً بأن الازدهار هو رمز للموافقة الإلهية؛ وبأن الشدائد كانت دليلًا على استياء الله. أصرح بأن مثل هذه المعتقدات هي خرافات. ألا تلاحظ بأن أعداداً أكثر بكثير من الفقراء يستلمون الإنجيل بفرح ويدخلون الملكوت على الفور؟ إذا كانت الثروات دليلاً على الحظوة الإلَهية, لماذا يرفض الأغنياء مرات عديدة أن يؤمنوا بهذه البشائر من السماء؟
166:4.4 (1830.4) "الأب يجعل مطره يسقط على العادل والظالم؛ الشمس بالمثل تشرق على البار والأثيم. أنت تعرف عن أولئك الجليليين الذين خلط بيلاطس دمهم مع التضحيات, لكنني أخبرك لم يكن هؤلاء الجليليين بأي حال خطاة فوق كل زملائهم لمجرد أن هذا حدث لهم. أنت تعرف أيضًا عن الرجال الثمانية عشر الذين سقط عليهم برج سيلوام, وقتلهم. لا تظن بأن هؤلاء الناس الذين هلكوا بهذه الطريقة كانوا مسيئين أكثر من كل إخوانهم في أورشليم. هؤلاء القوم كانوا ببساطة ضحايا أبرياء لإحدى حوادث الزمان.
166:4.5 (1830.5) "هناك ثلاث مجموعات من الأحداث التي قد تحدث في حياتكم:
166:4.6 (1830.6) "1. قد تشارك أنت في تلك الأحداث الطبيعية التي تشكل جزءًا من الحياة التي تعيشها أنت ورفاقك على الأرض.
166:4.7 (1830.7) "2. قد يصادف أن تقع ضحية لواحدة من حوادث الطبيعة, واحدة من حوادث سوء حظ الناس, عارف تماماً أن مثل هذه الأحداث لا يتم ترتيبها أو إنتاجها بأي شكل من الأشكال من قبل القوى الروحية للحَيز.
166:4.8 (1830.8) "3. قد تجني ثمار جهودك المباشرة للامتثال للقوانين الطبيعية التي تحكم العالَم.
166:4.9 (1830.9) "كان هناك رَجل زرع شجرة تين في فنائه, ولما سعى عدة مرات إلى الثمار ولم يجد شيئاً, دعا الكرامين أمامه وقال: ’لقد مر ثلاثة مواسم وأنا أتطلع من أجل الثمر على شجرة التين هذه ولم أجد شيئًا. اقطعوا هذه الشجرة القاحلة؛ فلماذا تُثقل على الأرض؟‘ لكن رئيس الكرامين أجاب سيده: ’اتركها لسنة واحدة أخرى بحيث أحفر حولها وأضع السماد, وبعد ذلك, في العام المقبل, إذا لم تحمل ثمر, فسوف تُقطع‘. وعندما امتثلوا هكذا لقوانين الإثمار, بما أن الشجرة كانت حية وصالحة, فقد كوفئوا بغِلة وافرة.
166:4.10 (1831.1) "فيما يتعلق بالمرض والصحة, يجب أن تعلم بأن هذه الحالات الجسدية هي نتيجة لأسباب مادية؛ فالصحة ليست ابتسامة السماء, ولا البلاء عبوس الله.
166:4.11 (1831.2) "أولاد الأب البشر لديهم استطاعة متساوية لتلقي البركات المادية؛ لذلك هو يغدق أشياء فيزيائية على أولاد الناس دون تمييز. عندما يتعلق الأمر بإغداق العطايا الروحية, فإن الأب مقيد باستطاعة الإنسان على تلقي هذه الهِبات الإلَهية. مع أن الأب ليس عنده محاباة أشخاص, إلا أنه في إغداق العطايا الروحية محدود بإيمان الإنسان واستعداده دائماً للإلتزام بمشيئة الأب."
166:4.12 (1831.3) بينما كانوا في طريقهم نحو فيلادلفيا, واصل يسوع تعليمهم والإجابة على أسئلتهم المتعلقة بالحوادث, والمرض, والمعجزات, لكنهم لم يكونوا قادرين على استيعاب هذا التعليم بالكامل. ساعة واحدة من التعليم لن تغير كلياً معتقدات زمن حياة, وهكذا وجد يسوع أنه من الضروري أن يكرر رسالته, ليقول مرة تلو المرة ما كان يرغب في أن يفهموه؛ وحتى عند ذاك فشلوا في إدراك معنى مهمته الأرضية حتى إلى بعد موته وقيامته.
166:5.1 (1831.4) كان يسوع والاثنا عشر في طريقهم لزيارة أبنير ورفاقه, الذين كانوا يعظون ويعَّلمون في فيلادلفيا. من بين جميع مدن بيريا, كان في فيلادلفيا حيث اعتنقت أكبر مجموعة من اليهود والأمميين, أغنياء وفقراء, متعلمين وغير متعلمين, تعاليم السبعين, بالتالي دخلوا إلى ملكوت السماء. لم يكن كنِيس فيلادلفيا أبداً خاضعاً لإشراف السنهدرين في أورشليم ولذلك لم يُغلق أبداً أمام تعاليم يسوع وزملائه. في هذا الوقت تماماً, كان أبنير يُعَّلم ثلاث مرات في اليوم في كنِيس فيلادلفيا.
166:5.2 (1831.5) هذا الكنِيس بالذات أصبح فيما بعد كنيسة مسيحية وكان المقر الإرسالي لنشر الإنجيل عبر المناطق الواقعة إلى الشرق. لقد كان لوقت طويل معقلاً لتعاليم السيد ووقف وحده في هذه المنطقة كمركز للتعليم المسيحي لعدة قرون.
166:5.3 (1831.6) كان لدى اليهود في أورشليم دائماً مشاكل مع يهود فيلادلفيا. وبعد وفاة يسوع وقيامته, بدأت كنيسة أورشليم, التي كان يعقوب شقيق الرب رئيسها, في مواجهة صعوبات جدية مع محفل فيلادلفيا من المؤمنين. أصبح أبنير رئيساً لكنيسة فيلادلفيا, واستمر على هذا النحو حتى وفاته. وهذا التباعد مع أورشليم يفـَّسر لماذا لم يُسمع أي شيء عن أبنير وعمله في سجلات إنجيل العهد الجديد. هذا الخلاف بين أورشليم وفيلادلفيا دام طوال حياة يعقوب وأبنير واستمر لبعض الوقت بعد تدمير أورشليم. كانت فيلادلفيا في الواقع المقر الرئيسي للكنيسة المبكرة في الجنوب والشرق مثلما كانت إنطاكية في الشمال والغرب.
166:5.4 (1831.7) لقد كان سوء الحظ البادي لأبنير أن يكون على خلاف مع كل قادة الكنيسة المسيحية المبكرة, لقد كان على خصام مع بطرس ويعقوب (شقيق يسوع) حول مسائل الإدارة وسلطة كنيسة أورشليم؛ وانفصل عن بولس بسبب اختلافات فلسفية ولاهوتية. كان أبنير بابلي أكثر مما كان يوناني في فلسفته, وقاوم بعناد كل محاولات بولس لإعادة صياغة تعاليم يسوع بحيث تقدم أقل مما كان غير مقبول, أولاً لليهود, ثم للمؤمنين الرومان-الإغريق في الباطنيات.
166:5.5 (1832.1) هكذا اضطر أبنير لأن يعيش حياة عزلة. كان رئيس كنيسة بدون مقام في أورشليم. تجرأ على تحدي يعقوب شقيق الرب, الذي دعمه بطرس فيما بعد. وقد فَصَله هذا التصرف بفعالية عن كل زملائه السابقين. بعدئذٍ تجرأ ليقاوم بولس. على الرغم من أنه كان متعاطفاً تماماً مع بولس في مهمته إلى الأمميين, ولو إنه دعمه في منازعاته مع الكنيسة في أورشليم, فقد عارض بمرارة نسخة تعاليم يسوع التي اختارها بولس للوعظ. في سنواته الأخيرة شجب أبنير بولس باعتباره "مُفسداً بارعاً لتعاليم حياة يسوع الناصري, ابن الله الحي."
166:5.6 (1832.2) خلال السنوات اللاحقة لأبنير ولبعض الوقت بعدها, تمسك المؤمنون في فيلادلفيا بصرامة أكثر بدِين يسوع, كما عاشه وعلـَّمه, أكثر من أي جماعة أخرى على وجه الأرض.
166:5.7 (1832.3) عاش أبنير ليبلغ التاسعة والثمانين من العمر, ومات في فيلادلفيا في 21 تشرين الثاني, عام 74 م. وكان حتى ذات النهاية مؤمناً مخلصاً في, إنجيل الملكوت السماوي, ومعلماً له.
كِتاب يورانشيا
ورقة 167
167:0.1 (1833.1) في كل أثناء هذه الفترة من الإسعاف البيري, عندما يُذكر يسوع والرُسل الذين يزورون مختلف الأماكن التي كان يعمل فيها السبعون, يجب أن نتذكر أنه, كقاعدة عامة, كان معه عشرة فقط حيث كانت الممارسة أن يُترك اثنين من الرُسل على الأقل في بـِلا لتوجيه الجموع. بينما استعد يسوع للذهاب إلى فيلادلفيا, عاد سمعان بطرس وشقيقه, أندراوس, إلى مخيم بـِلا لتعليم الحشود المتجمعة هناك. عندما غادر السيد المخيم في بـِلا لزيارة بيريا, لم يكن من غير المألوف أن يتبعه من ثلاثمائة إلى خمسمائة من المخيمين. عندما وصل إلى فيلادلفيا, كان برفقته أكثر من ستمائة تابع.
167:0.2 (1833.2) لم تحضر أي معجزات جولة الوعظ الحديثة خلال المدن-العشرة, وباستثناء تطهير البُرص العشرة, لغاية هذا لم يكن هناك معجزات في هذه المهمة البيرية. كانت هذه فترة أعلن فيها الإنجيل بقوة, وبدون معجزات, وفي معظم الأوقات دون حضور يسوع الشخصي أو حتى رُسله.
167:0.3 (1833.3) وصل يسوع والرُسل العشرة إلى فيلادلفيا يوم الأربعاء, 22 شباط, وأمضوا الخميس والجمعة يستريحون من أسفارهم وأعمالهم الأخيرة. ليلة الجمعة تلك, تكلم يعقوب في الكنِيس, وتم استدعاء مجلس عام في المساء التالي. كانوا مبتهجين كثيراً بتقدم الإنجيل في فيلادلفيا وبين القرى المجاورة. جلب رُسل داود أيضًا أخبارًا عن المزيد من التقدم للملكوت في جميع أنحاء فلسطين, بالإضافة إلى أخبار سارة من الإسكندرية ودمشق.
167:1.1 (1833.4) عاش هناك في فيلادلفيا فريسي ثري جداً وذا نفوذ الذي كان قد قبـِل تعاليم أبنير, ودعا يسوع إلى منزله صباح السبت لتناول الإفطار. كان من المعروف بأن يسوع كان مُتوقَعاً في فيلادلفيا في هذا الوقت؛ لذلك جاء عدد كبير من الزوار, من بينهم العديد من الفريسيين, من أورشليم ومن أماكن أخرى. وبناءً على ذلك, تمت دعوة حوالي أربعين من هؤلاء الرجال القياديين وعدد قليل من رجال الشريعة إلى هذا الإفطار, الذي تم تنظيمه على شرف السيد.
167:1.2 (1833.5) بينما توانى يسوع عند الباب, يتحدث مع أبنير, وبعد أن جلس المضيف, دخل إلى الغرفة أحد قادة الفريسيين في أورشليم, وهو عضو في السنهدرين, وكما كانت عادته, توجه رأساً إلى مقعد الشرف على يسار المضيف. لكن بما أن هذا المكان كان محجوزاً للسيد, والمكان الموجود على اليمين لأبنير, أومأ المضيف إلى فريسي أورشليم ليجلس في المعقد الرابع إلى اليسار, وكان هذا الموقر مستاءً للغاية لأنه لم يحصل على كرسي الشرف.
167:1.3 (1834.1) سرعان ما كانوا جالسين ويستمتعون بالزيارة فيما بينهم حيث إن غالبية الحاضرين كانوا تلاميذ يسوع أو سوى ذلك مصادقين للإنجيل. فقط أعداءه لاحظوا حقيقة أنه لم يراعي الغسيل الإحتفالي ليديه قبل أن يجلس لتناول الطعام. غسل أبنير يديه في بداية الوجبة ولكن ليس أثناء التقديم.
167:1.4 (1834.2) قرب نهاية الوجبة جاء من الشارع رجل مصاب منذ وقت طويل بمرض مزمن وكان الآن في حالة استسقاء. كان هذا الرجل مؤمناً, وعُمد مؤخراً على يد زملاء أبنير. لم يطلب من يسوع الشفاء, لكن السيد كان يعلم جيداً بأن هذا الرجل المصاب أتى إلى هذا الإفطار على أمل أن يهرب بذلك من الجموع التي حشدته وبالتالي يكون من المرجح أن يجذب انتباهه. علم هذا الرجل أنه تم إجراء القليل من المعجزات آنذاك؛ مع ذلك, فقد كان يعتقد في قلبه أن محنته المؤسفة قد تروق ربما لشفقة السيد. ولم يكن مخطئاً, لأنه عندما دخل الغرفة, لاحظه يسوع والفريسي البار-بالذات من أورشليم. لم يكن الفريسي بطيئاً في التعبير عن استيائه من السماح لمثل هذا الشخص بدخول الغرفة. لكن يسوع نظر إلى الرَجل المريض وابتسم برأفة بحيث أنه اقترب وجلس على الأرض. بينما كانت الوجبة تنتهي, نظر السيد إلى زملائه الضيوف وعندئذٍ, بعد رمقةٍ معتبرة على الرجل المصاب بالاستسقاء, قال: "يا أصدقائي, المعلمون في إسرائيل ورجال الشريعة المتعلمون, أود أن أطرح عليكم سؤالاً: هل هو شرعي شفاء المرضى والمنكوبين يوم السبت, أم لا؟" لكن أولئك الذين كانوا حاضرين كانوا يعرفون يسوع جيداً؛ لزموا الصمت؛ لم يجيبوا على سؤاله.
167:1.5 (1834.3) عند ذاك ذهب يسوع إلى حيث جلس الرَجل المريض, وآخذ إياه باليد, قال: "قم واذهب في طريقك, أنت لم تطلب أن تُشفى, لكنني أعرف رغبة قلبك وإيمان نفسك." قبل أن يغادر الرَجل الغرفة, عاد يسوع إلى مقعده, ومخاطباً أولئك الجالسين على المائدة, قال: مثل هذه الأعمال يفعلها أبي, ليس ليغريكم بها للدخول إلى الملكوت, بل ليكشف نفسه لأولئك الموجودين بالفعل في الملكوت. يمكنكم أن تدركوا أنه سيكون مثل الأب أن يفعل مثل هذه الأشياء فقط لأن أي واحد منكم, لديه حيوان مفضل سقط في البئر في يوم السبت, لا يذهب فوراً ويخرجه؟" وبما أنه لم يجيبه أحد, ونظراً إلى أن مضيفه كان موافقاً بوضوح على ما يحدث, وقف يسوع وتكلم إلى جميع الحاضرين: "يا إخواني, عندما تُدعَون إلى وليمة زواج, لا تجلسوا في المعقد الرئيسي, لئلا يكون, بالصدفة, إنسان أكثر تكريمًا منكم قد يكون مدعواً, وسيتعين على المضيف أن يأتي إليكم ويطلب منكم إعطاء مكانكم لهذا الضيف الآخر والمُشَّرَف. في هذه الحادثة, سيُطلب منكم مع عار أن تأخذوا مكاناً أقل على الطاولة. عندما تُدعون إلى وليمة, سيكون جزءًا من الحكمة, عند الوصول إلى طاولة الحفل, أن تسعوا للمكان الأدنى وتأخذوا مقعدكم فيه, بحيث, عندما ينظر المضيف إلى الضيوف, قد يقول: ’يا صديقي, لماذا تجلس في المقعد الأقل؟ اصعد للأعلى‘؛ وهكذا سيكون لمثل هذا المرء المجد في حضور زملائه الضيوف. لا تنسوا, كل من يرفع نفسه سيكون متواضعاً, بينما الذي يتواضع حقاً سيُرفع. لذلك, عندما تُضيف على غذاء أو تقدم عشاء, لا تدعو دائماً أصدقائك, أو إخوانك, أو أقاربك, أو جيرانك الأغنياء بحيث في المقابل قد يدعونك إلى ولائمهم, وبالتالي سيتم تعويضك. عندما تُقيم مأدبة, أحياناً ادعوا الفقراء, والمكفوفين, والمقعدين. بهذه الطريقة ستكون مباركاً في قلبك, لأنك تعرف جيداً بأن الأعرج والمُقعد لن يتمكنوا من إعادة الدفع لك مقابل إسعافك المُحب."
167:2.1 (1835.1) عندما انتهى يسوع من حديثه على مائدة الفريسي, أحد رجال الشريعة الحاضرين, راغبًا في تخفيف الصمت, قال بلا تفكير: :"طوبى لمَن سيأكل خبزاً في ملكوت الله" ــ ذلك كائن قول شائع في تلك الأيام. وعند ذاك قال يسوع مثلًا, الذي حتى مضيفه الودود كان مجبرًا على أخذه بعين الاعتبار. قال:
167:2.2 (1835.2) "أقام حاكم معَّين عشاءًا كبيراً, وحيث إنه دعا العديد من الضيوف, أرسل خدمه في وقت العشاء ليقول لأولئك المدعوين, ’تعالوا, لأن كل شيء جاهز الآن‘. وكلهم باتفاق واحد بدأوا في تقديم الأعذار. قال الأول, ’لقد اشتريت حقلاً للتو, ولا بد لي من الذهاب لإثبات ذلك؛ أرجوك أن تعذرني. وقال آخر, ’لقد اشتريت خمسة نير من الثيران, ويجب أن أذهب لاستلامها, أرجوك أن تعذرني‘.وقال آخر, ’لقد تزوجت للتو, ولذلك لا أستطيع المجيء‘. هكذا رجع الخدم وأبلغوا سيدهم بهذا. عندما سمع سيد المنزل هذا, كان غاضباً للغاية, والتفت إلى خدمه, فقال: ’لقد أعددت وليمة الزفاف هذه, الذبائح مذبوحة, وكل شيء جاهز من أجل ضيوفي, لكنهم ازدروا دعوتي؛ لقد ذهبوا كل رَجل وراء أراضيه وبضائعه, وحتى أنهم أظهروا عدم احترام لخدمي الذين دعوهم ليأتوا إلى وليمتي. اخرجوا بسرعة, لذلك, إلى شوارع المدينة وحاراتها, خارجاً في الطرقات العامة والجانبية, وأتوا بالفقراء والمنبوذين, والمكفوفين والعُرج, بحيث يكون لحفل الزفاف ضيوف‘. وفعل الخدم كما أمر ربهم, ومع ذلك كان هناك متسع لمزيد من الضيوف. ثم قال رب المنزل لخدمه: ’اخرجوا الآن إلى الطرقات والريف واغصبوا من هم هناك ليأتوا بحيث قد يمتلئ منزلي. أعلن بأن أيا من أولئك الذين دُعِوا أولاً سوف يتذوق عشائي.‘ وفعل الخدم كما أمر سيدهم, وامتلأ المنزل."
167:2.3 (1835.3) ولما سمعوا هذه الكلمات, انصرفوا؛ كل واحد ذهب إلى مكانه. على الأقل أحد الفريسيين الساخطين الذي كان حاضراً ذلك الصباح استوعب معنى هذا المَثل, لأنه تعمد في ذلك اليوم وأعلن عن إيمانه بإنجيل الملكوت. وعظ أبنير هذا المَثل تلك الليلة في المجلس العام للمؤمنين.
167:2.4 (1835.4) في اليوم التالي انشغل جميع الرُسل في التمرين الفلسفي لمحاولة تفسير معنى هذا المَثل للعشاء العظيم. على الرغم من أن يسوع استمع باهتمام لكل هذه التفسيرات المختلفة, إلا أنه رفض بثبات تقديم المزيد من المساعدة لهم في فهم المثل. كان فقط يقول, "فليجد كل إنسان المعنى لنفسه وفي نفسه الخاصة."
167:3.1 (1835.5) رتب أبنير للسيد من أجل أن يُعَّلم في الكنِيس يوم السبت هذا, وهي المرة الأولى التي ظهر فيها يسوع في كنِيس منذ أن أُغلقت كلها أمام تعاليمه بأمر من السنهدرين. عند ختام الخدمة نظر يسوع أمامه إلى امرأة مسنة كانت تعابيرها مكتئبة, وكانت منحنية كثيراً في القوام. كانت هذه المرأة ممتطاة بالخوف منذ وقت طويل, وقد تلاشى كل الفرح من حياتها. عندما نزل يسوع من على المنبر, ذهب إليها, ولامساً قوامها المنحني على الكتف, قال: "يا امرأة, إذا كنت ستؤمنين فقط, يمكنك أن تتخلصي كلياً من روح ضعفك." وهذه المرأة التي كانت منحنية ومقيدة بكآبات الخوف لأكثر من ثمانية عشر عاماً, صدّقت كلمات السيد وبالإيمان انتصبت في الحال. عندما رأت هذه المرأة بأنها جُعلت مستقيمة, رفعت صوتها ومَّجدت الله.
167:3.2 (1836.1) بالرغم من أن معاناة هذه المرأة كانت نفسية تمامًا, فقد كان انحناء قوامها نتيجة لعقلها المكتئب. اعتقد الناس بأن يسوع قد شفى اضطرابًا جسديًا حقيقيًا. مع أن مجمع الكنِيس في فيلادلفيا كانوا وديين تجاه تعاليم يسوع, إلا أن رئيس الكنِيس كان فريسياً غير ودود. وبينما شارك رأي المجمع بأن يسوع قد شفى اضطرابًا جسديًا, وكونه ساخط لأن يسوع تجرأ أن يفعل مثل هذا الشيء في يوم السبت, وقف أمام المجمع وقال: "ألا يوجد ستة أيام يجب على الرجال فيها أن يقوموا بكل عملهم؟ تعالوا في أيام العمل هذه, لذلك, وكونوا شافين, لكن ليس في يوم السبت."
167:3.3 (1836.2) عندما تكلم الحاكم غير الودود على هذا النحو, عاد يسوع إلى منصة المتحدث, وقال: "لماذا لعب دور المرائين؟ أليس كل واحد منكم, في يوم السبت, يفك ثوره من المربط ويقوده من أجل الشرب؟ إذا كانت مثل هذه الخدمة مسموح بها يوم السبت, أفلا ينبغي لهذه المرأة, ابنة لإبراهيم التي قيدها الشر منذ ثماني عشرة سنة, أن تُفك من رباطها وتُقاد لتتناول من مياه الحرية والحياة, حتى في يوم السبت هذا؟" وبينما استمرت المرأة في تمجيد الله, وضِع ناقده في عار, وتهلل المجمع معها بأنها شُفيت.
167:3.4 (1836.3) نتيجة لانتقاده العلني ليسوع في يوم السبت هذا, عُزل رئيس الكنِيس, وعُين أحد أتباع يسوع مكانه.
167:3.5 (1836.4) كثيرًا ما خلـَّص يسوع ضحايا الخوف هؤلاء من روح ضعفهم, ومن كآبة عقلهم, ومن رباط خوفهم. لكن الناس اعتقدوا أن كل هذه الآلام كانت إما اضطرابات جسدية أو امتلاك أرواح شريرة.
167:3.6 (1836.5) علـَّم يسوع مرة أخرى في الكنِيس يوم الأحد, وكثيرون تعَّمدوا على يدي أبنير ظهر ذلك اليوم في النهر الذي كان يتدفق جنوب المدينة. في الغد كان يسوع والرُسل العشرة سيبدأون بالعودة إلى مخيم بـِلا لو لم يكن لوصول أحد رُسل داود, الذي أحضر رسالة عاجلة ليسوع من أصدقائه في بيت-عنيا, بالقرب من أورشليم.
167:4.1 (1836.6) في وقت متأخر جداً من ليلة الأحد, 26 شباط, وصل عداء من بيت-عنيا إلى فيلادلفيا, يحمل رسالة من مارثا ومريم تقول, "يا رب, من تحبه مريض جداً." وصلت هذه الرسالة إلى يسوع عند انتهاء مؤتمر المساء وبالضبط بينما كان الرُسل يستأذنون من أجل الليل. في البداية لم يجب يسوع. حدثت واحدة من تلك الفواصل الغريبة, وقت بدا فيه ليكون على تواصل مع شيء ما خارج نفسه, وما بعدها. وبعد ذلك, ناظر إلى الأعلى, خاطب المرسال في سماع الرُسل, قائلاً: "هذا المرض ليس في الحقيقة للموت, لا تشّكوا بأنه قد يُستخدم لتمجيد الله وتعظيم الابن."
167:4.2 (1837.1) كان يسوع مولعاً جداً بمارثا, ومريم, وشقيقهما لِعازر؛ لقد أحبهم بعاطفة متوقدة. كان تفكيره الأول والإنساني, أن يذهب لمساعدتهم في الحال, لكن فكرة أخرى خطرت في عقله المُرَّكب. كان تقريباً قد تخلى عن الأمل في أن القادة اليهود في أورشليم سيقبلون الملكوت على الإطلاق, لكنه لا يزال أحب شعبه, وهناك الآن تراءت له خطة يمكن بمقتضاها أن يكون لدى الكتبة والفريسيين في أورشليم فرصة أخرى لقبول تعاليمه؛ وقرر, إن شاء أباه, أن يجعل هذا النداء الأخير لأورشليم العمل الظاهري الأكثر عمقاً وفخامة لكامل مهمته الأرضية. تشبث اليهود بفكرة المخلص عامل العجائب. ولو أنه رفض الانحدار إلى أداء العجائب المادية أو تفعيل معارض دنيوية للسلطة السياسية, فقد طلب الآن موافقة الأب من أجل إظهار سلطته غير الظاهرة حتى الآن على الحياة والموت.
167:4.3 (1837.2) كان اليهود معتادون على دفن موتاهم يوم وفاتهم؛ كانت هذه ممارسة ضرورية في مثل هذا المناخ الدافئ. غالباً ما حدث أنهم وضعوا في القبر من كان في غيبوبة فقط, بحيث في اليوم الثاني, أو حتى الثالث, مثل هذا الشخص قد يخرج من القبر. لكن كان اعتقاد اليهود بأنه, في حين أن الروح أو النفـْس قد تبقى بالقرب من الجسد لمدة يومين أو ثلاثة أيام, فإنها لا تنتظر بعد اليوم الثالث؛ حيث إن التحلل كان قد تقدم جيدًا بحلول اليوم الرابع, ولم يعد أحد من القبر بعد انقضاء مثل هذه الفترة. ولقد كان من أجل هذه الأسباب بأن يسوع انتظر يومين كاملين في فيلادلفيا قبل أن يستعد للسير إلى بيت-عنيا.
167:4.4 (1837.3) بناء على ذلك, في وقت مبكر من صباح الأربعاء قال لرُسله: "لنستعد على الفور للذهاب إلى يهودا مرة أخرى." وعندما سمع الرُسل سيدهم يقول هذا, انصرفوا لوحدهم لبعض الوقت للتشاور مع بعضهم البعض. تولى يعقوب توجيه المؤتمر, واتفقوا جميعاً على أنه من الحماقة السماح ليسوع بالذهاب إلى يهودا مرة أخرى, وعادوا كرَجل واحد وأخبروه بذلك. قال يعقوب: "يا سيد, لقد كنت في أورشليم قبل أسابيع قليلة, وقد سعى القادة إلى موتك, بينما كان الناس يفكرون برجمك بالحجارة. في ذلك الوقت أعطيت هؤلاء الناس فرصتهم لتلقي الحق, ولن نسمح لك بالذهاب مرة أخرى إلى يهودا."
167:4.5 (1837.4) عندئذٍ قال يسوع: "لكن ألستم تفهمون بأن هناك اثنتي عشرة ساعة في النهار يمكن فيها القيام بالعمل بأمان؟ إذا مشى إنسان في النهار فإنه لا يتعثر حيث أن لديه ضوء. إذا مشى إنسان في الليل, فهو عرضة للتعثر حيث إنه بلا ضوء. طالما استمر نهاري, لا أخشى دخول يهودا. أود القيام بعمل عظيم آخر من أجل هؤلاء اليهود؛ سأمنحهم فرصة أخرى ليؤمنوا, حتى بشروطهم الخاصة ــ شروط المجد الظاهري والتجلي المرئي لقدرة الأب ومحبة الابن. إلى جانب ذلك, ألا تدركون بأن صديقنا لِعازر قد نام, وأود أن أذهب لإيقاظه من هذا النوم!"
167:4.6 (1837.5) عندئذٍ قال أحد الرُسل: "يا سيد, إذا كان لِعازر قد نام, عند ذاك بأكثر التأكيد سيشفى." لقد كانت عادة اليهود في ذلك الوقت أن يتحدثوا عن الموت كشكل من أشكال النوم, لكن بما أن الرسل لم يفهموا أن يسوع قصد أن لعازر قد رحل عن هذا العالَم, فقد قال الآن بوضوح: "لِعازر مات. وأنا سعيد من أجلكم, حتى لو لم يُخَّلَص الآخرون بذلك, لأنني لم أكن هناك, إلى النهاية بحيث سيكون لديكم الآن سبباً جديداً لتؤمنوا بي؛ وبذلك الذي ستشهدونه, يجب أن تتقووا جميعاً في التحضير لذلك اليوم عندما سأرحل فيه عنكم وأذهب إلى الأب."
167:4.7 (1838.1) عندما لم يتمكنوا من إقناعه بالامتناع عن الذهاب إلى يهودا, وعندما كان بعض الرُسل كارهين حتى لمرافقته, خاطب توما رفاقه, قائلاً: "لقد أخبرنا السيد عن مخاوفنا, لكنه مُصِّر على الذهاب إلى بيت-عنيا. أنا واثق بأن هذا يعني النهاية؛ هم بالتأكيد سيقتلونه, لكن إذا كان ذلك اختيار السيد, فلنُبرئ ذمتنا مثل رجال شجعان؛ فلنذهب أيضًا بحيث قد نموت معه." ولقد كان دائماً كذلك؛ في الأمور التي تتطلب شجاعة مقصودة ومستدامة, كان توما دائماً الدعامة الأساسية للرُسل الاثني عشر.
167:5.1 (1838.2) في الطريق إلى يهودا تُبع يسوع بجماعة من حوالي خمسين من أصدقائه وأعدائه. عند وقت طعام الظهيرة, يوم الأربعاء, تحدث إلى رُسله وإلى هذه الجماعة من الأتباع حول "شروط الخلاص," وعند نهاية هذا الدرس أخبر مَثل الفريسي والعشار (جابي الضرائب). قال يسوع: " أنتم ترون, إذن, بأن الأب يعطي الخلاص لأولاد البشر, وهذا الخلاص هو هدية مجانية لكل من لديه الإيمان لينال البنوة في العائلة الإلَهية. ليس هناك شيء يمكن أن يفعله الإنسان لكسب هذا الخلاص. لا يمكن لأعمال البر الذاتي أن تشتري منة الله, والكثير من الصلاة في الأماكن العامة لن يعوض عن نقص الإيمان الحي في القلب. قد تضلون الناس بخدمتكم الظاهرية, لكن الله ينظر إلى نفوسكم. ما أُخبركم به مُصَّور جيداً برَجلين دخلا الهيكل للصلاة, أحدهما فريسي والآخر عشار. وقف الفريسي وصَّلى لنفسه: ’يا الله, أشكرك لأني لست مثل بقية الناس. مبتزين, غير متعلمين, ظالمين, زناة, أو حتى مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع؛ وأعطي عُشر كل ما أحَّصِل." لكن العشار, واقف عن بُعد, لم يرفع حتى عينيه نحو السماء بل لطم صدره, قائلاً, ’يا الله ارحمني أنا خاطئ‘. أخبركم بأن العشار ذهب إلى بيته باستحسان الله أكثر من الفريسي, لأن كل من يرفع نفسه سيُذل لكن من يذل نفسه سيُرفَع."
167:5.2 (1838.3) تلك الليلة, في أريحا, سعى فريسيون غير ودودين للإيقاع بالسيد عن طريق حثه على مناقشة الزواج والطلاق, كما فعل رفاقهم ذات مرة في الجليل, لكن يسوع تجنب ببراعة جهودهم لاقحامه في نزاع مع شرائعهم المتعلقة بالطلاق. كما أوضح العشار والفريسي الدين الجيد والسيئ, فإن ممارسات الطلاق الخاصة بهم خدمت في تناقض قوانين الزواج الأفضل للقانون اليهودي مع التراخي المشين للتفسيرات الفريسية لدساتير الطلاق الموسوية هذه. كان الفريسي يحكم على نفسه وفقا لأدنى مقياس؛ عادَلَ العشار نفسه بالمثل الأعلى. كان التكريس, للفريسي, وسيلة للحث على همود البر-الذاتي وضمان الأمن الروحي الكاذب؛ كان التكريس, بالنسبة للعشار, وسيلة لحث نفـْسه لإدراك الحاجة إلى التوبة, والاعتراف, والقبول, بالإيمان, للغفران الرحيم. سعى الفريسي للعدل؛ سعى العشار للرحمة. قانون الكون هو: اسألوا وستستملون؛ اسعوا وستجدون.
167:5.3 (1838.4) على الرغم من أن يسوع رفض الانجرار إلى جدال مع الفريسيين بخصوص الطلاق, إلا أنه أعلن تعاليم إيجابية عن أسمى المُثل المتعلقة بالزواج. لقد رفع الزواج باعتباره الأكثر مثالية والأعلى من كل العلاقات البشرية. وبالمثل, أشار باستنكار شديد إلى ممارسات الطلاق المتراخية وغير المنصفة ليهود أورشليم, الذين سمحوا في ذلك الوقت أن يطلق الرجل زوجته لأكثر الأسباب تفاهة, مثل كونها طباخة ركيكة, أو مدبرة منزل معيبة, أو لغير سبب أفضل سوى أنه قد أصبح مفتوناَ بامرأة ذات مظهر أفضل.
167:5.4 (1839.1) حتى أن الفريسيين ذهبوا إلى حد تعليم أن الطلاق من هذا الصنف السهل كان افتقاداً إلَهياً خاصاً ممنوحًا للشعب اليهودي, وخاصة الفريسيين. وهكذا, في حين أن يسوع رفض الإدلاء بتصريحات تتعلق بالزواج والطلاق, إلا أنه أدان بمرارة هذا الاستهزاء المخزي بعلاقة الزواج وأشار إلى ظلمهم للنساء والأطفال. لم يصادق أبداً على أي ممارسة طلاق تمنح الرَجل أي طائل فوق المرأة؛ استصوب السيد فقط تلك التعاليم التي منحت النساء المساواة مع الرجال.
167:5.5 (1839.2) مع أن يسوع لم يقدم تفويضات جديدة تحكم الزواج والطلاق, فقد حث اليهود على الارتقاء إلى مستوى شرائعهم وتعاليمهم العليا الخاصة. لجأ باستمرار إلى الكتابات المقدسة في جهوده لتحسين ممارستها على طول هذه الخطوط الاجتماعية. بينما يؤيد بهذا المفاهيم العليا والمثالية للزواج, تجنب يسوع بمهارة الصدام مع سائليه حول الممارسات الاجتماعية التي تمثلها إما قوانينهم المكتوبة أو امتيازات الطلاق المعززة كثيراً لديهم.
167:5.6 (1839.3) كان من الصعب للغاية على الرُسل أن يفهموا إحجام السيد عن إصدار تصريحات إيجابية تتعلق بالمشكلات العلمية, والاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية. لم يُدركوا تماماً بأن مهمته على الأرض كانت معنية حصرياً بكشف الحقائق الروحية والدِينية.
167:5.7 (1839.4) بعد أن تحدث يسوع عن الزواج والطلاق, في وقت لاحق من ذلك المساء سأله رُسله على انفراد العديد من الأسئلة الإضافية, وقد أغاثت إجاباته على هذه التساؤلات عقولهم من العديد من المفاهيم الخاطئة. في ختام هذا المؤتمر قال يسوع: "الزواج مُشَّرَف وينبغي أن يكون مرغوباً من جميع الرجال. الواقع بأن ابن الإنسان يتابع مهمته الأرضية وحده لا يعكس بأي حال من الأحوال مرغوبية الزواج. بأني يجب أن أعمل هكذا هو مشيئة الأب, لكن هذا الأب نفسه قد وجَّه خلق الذَكر والأنثى, وإنها المشيئة الإلَهية بأنه يجب أن يجد الرجال والنساء أعلى خدمة لهم وما يترتب على ذلك من فرح في تأسيس البيوت من أجل استلام الأطفال وتدريبهم, الذين في خلقهم, يصبح هؤلاء الآباء شركاء مشاركين مع صانعي السماء والأرض. ولهذا الهدف سيترك الرَجل أباه وأمه ويلتصق بزوجته, ويجب أن يصبح الاثنان واحداً."
167:5.8 (1839.5) وبهذه الطريقة أراح يسوع عقول الرُسل من الكثير من القلق بشأن الزواج وأزال الكثير من سوء الفهم فيما يتعلق بالطلاق؛ في الوقت نفسه فعل الكثير لإعلاء مُثلهم الخاصة بالتوحيد الاجتماعي ولزيادة احترامهم للنساء والأطفال ومن أجل البيت.
167:6.1 (1839.6) في ذلك المساء انتشرت رسالة يسوع المتعلقة بالزواج وبركة الأطفال في كل أنحاء أريحا, بحيث في الصباح التالي, قبل وقت طويل من استعداد يسوع والرسل للرحيل, حتى قبل وقت الإفطار, جاءت عشرات الأمهات إلى حيث مكث يسوع, جالبات أطفالهن على أذرعهن وقائدينهم بأيديهن, وقد رغبن في أن يبارك الصغار. عندما خرج الرُسل لمشاهدة هذا التجمع للأمهات مع أطفالهن, حاولوا إبعادهن, لكن هؤلاء النساء رفضن الرحيل حتى يضع السيد يديه على أطفالهن ويباركهم. ولما انتهر الرُسل هؤلاء الأمهات بصوت عالٍ, يسوع سامع الضوضاء, خرج وزجرهم ساخطًا, قائلاً: " دعوا الأولاد الصغار يأتون إليَ؛ لا تمنعوهم, لأنه لمثل هؤلاء ملكوت السماء. الحق, الحق, أقول لكم, كل من لا يستلم ملكوت الله مثل طفل صغير بالكاد سيدخل إليه لينمو إلى مكانة الرجولية الروحية الكاملة."
167:6.2 (1840.1) وعندما تكلم السيد إلى رُسله, استلم جميع الأطفال, واضعاً يديه عليهم, بينما تكلم بكلمات التشجيع والأمل لأمهاتهم.
167:6.3 (1840.2) كثيراً ما تحدث يسوع إلى رُسله عن المنازل السماوية وعلـَّم بأن أولاد الله المتقدمين يجب أن يكبروا روحياً كما يكبر الأطفال جسدياً في هذا العالَم. وهكذا يبدو المقدس ليكون في كثير من الأحيان هو الشائع, لأنه في هذا اليوم قليلاً أدرك هؤلاء الأطفال وأمهاتهم بأن ذكاءات نِبادون الناظرين قد رأوا أطفال أريحا يلعبون مع خالق الكون.
167:6.4 (1840.3) تحسنت مكانة المرأة في فلسطين كثيراً بتعليم يسوع؛ وهكذا كان سيكون في كل أنحاء العالَم لو أن أتباعه لم ينحرفوا كثيراً عما عَّلمهم إياه بشق الأنفس.
167:6.5 (1840.4) لقد كان أيضاً في أريحا, في علاقة بمناقشة التدريب الدِيني المبكر للأطفال على عادات العبادة الإلَهية, حيث أثـَّر يسوع على رُسله القيمة العظيمة للجَمال كتأثير يقود إلى الحث على العبادة, خاصةً مع الأطفال. علـَّم السيد بالمبدأ والمَثل قيمة عبادة الخالق في وسط البيئة الطبيعية للخليقة. لقد فـَّضل أن يتواصل مع الأب السماوي وسط الأشجار وبين المخلوقات المتواضعة للعالَم الطبيعي. لقد ابتهج بتأمل الأب من خلال المشهد المُلهم للعوالم النجمية للأبناء الخالقين.
167:6.6 (1840.5) عندما لا يكون من الممكن عبادة الله في هياكل الطبيعة, يجب على الناس أن يبذلوا قصارى جهدهم لتوفير منازل ذات جَمال, معابد ذات بساطة جذابة وزخارف فنية, بحيث قد توقظ أعظم المشاعر البشرية بالإقتران مع المقاربة الفكرية للتواصل الروحي مع الله. الحقيقة, والجمال, والقداسة هي أدوات مساعدة قوية وفعالة للعبادة الحقة. لكن تواصل الروح لا يتم تعزيزه من خلال مجرد الزخرفة الهائلة والتزيين المفرط لفن الإنسان المتقن والمتفاخر. يكون الجَمال أكثر تديناً عندما يكون أكثر بساطة وطبيعيًا. كم هو مؤسف أن الأطفال الصغار يجب أن يحصلوا على أول مقدمة لمفاهيم العبادة العامة في غرف باردة وقاحلة ومجردة جداً من فتنة الجمال وفارغة للغاية من كل اقتراح بهجة جيدة وقداسة مُلهمة! يجب أن يقـَّدم الطفل للعبادة في الهواء الطلق في الطبيعة وفيما بعد يرافق والديه إلى دور التجمع الديني التي تكون على الأقل جذابة من الناحية المادية وجميلة من الناحية الفنية مثل البيت الذي يسكن فيه يومياً.
167:7.1 (1840.6) بينما ارتحلوا عبر التلال من أريحا إلى بيت-عنيا, مشى نثانئيل معظم الطريق بجانب يسوع, وأدى نقاشهم حول الأطفال فيما يتعلق بملكوت السماء بشكل غير مباشر إلى النظر في إسعاف الملائكة. في النهاية سأل نثانئيل السيد هذا السؤال: "إذ أرى أن الكاهن العالي صدّوقي, وبما أن الصدّوقيين لا يعتقدون في الملائكة, فماذا يجب أن نُعَّلم الناس بشأن المسعفات السماويات؟" عند ذاك, من بين أشياء أخرى, قال يسوع:
167:7.2 (1841.1) "الجيوش الملائكية هي مرتبة منفصلة من الكائنات المخلوقة؛ مختلفة كلياً عن المرتبة المادية لمخلوقات البشر, ويعملون كفئة مميزة من ذكاءات الكون. الملائكة ليسوا من تلك الفئة من المخلوقات المسماة ’أبناء الله‘ في الكتابات المقدسة؛ ولا هم أرواح ممجدة لأناس فانين الذين واصلوا التقدم من خلال العوالم المنزلية على العُلى. الملائكة هم خُلق مباشر, ولا يتكاثرون. الجيوش الملائكية لديها فقط قرابة روحية مع الجنس البشري. بينما يتقدم الإنسان في الرحلة إلى الأب في الفردوس, فإنه يجتاز حالة من الوجود في وقت ما مماثلة لحالة الملائكة, لكن الإنسان الفاني لا يصبح ملاكاً أبداً.
167:7.3 (1841.2) "الملائكة لا يموتون أبداً, كما يموت الإنسان. الملائكة خالدون ما لم يتورطوا, بطريق الصدفة, في الخطيئة كما فعل بعضهم بتضليلات لوسيفر. الملائكة هم خدام الروح في السماء, وليسوا كليو الحكمة ولا كليو القدرة. لكن كل الملائكة المخلصين طاهرون ومقدسون حقًا.
167:7.4 (1841.3) "ثم ألا تتذكر بأني قلت لك مرة من قبل بأنه, إذا مُسحت عيناك الروحية, عند ذاك سترى السماوات مفتوحة وتشاهد ملائكة الله تصعد وتنزل؟ إنه من خلال إسعاف الملائكة بأن عالمًا ما يمكن أن يظل على اتصال بعوالم أخرى, لأنه ألم أخبركم مراراً بأن لدي خرافًا أخرى ليست من هذه الحظيرة؟ وهؤلاء الملائكة ليسوا جواسيس عالَم الروح الذين يراقبونك وبعد ذلك ينطلقون لإخبار الأب بأفكار قلبك والإبلاغ عن مآثرك في الجسد. لا يحتاج الآب إلى مثل هذه الخدمة نظراً لأن روحه تسكن داخلك. لكن هذه الأرواح الملائكية تعمل على إبقاء جزء من الخليقة السماوية على علم بأفعال أجزاء أخرى ونائية من الكون. وكثير من الملائكة, أثناء العمل في حكومة الأب وأكوان الأبناء, يتم تعيينهم لخدمة الأجناس البشرية. عندما علـَّمتكم بأن العديد من هؤلاء السيرافيم هن أرواح مُسعفة, لم أتكلم بلغة مجازية ولا في انفعالات شاعرية. وكل هذا صحيح بغض النظر عن صعوبة استيعابكم لمثل هذه الأمور.
167:7.5 (1841.4) "العديد من هؤلاء الملائكة منخرطون في عمل إنقاذ الناس, ألم أخبركم عن الفرح السيرافي عندما تختار نفـْس واحدة أن تهجر الخطيئة وتبدأ في البحث عن الله؟ حتى أخبرتكم عن الفرح في حضور ملائكة السماء على خاطئ واحد يتوب, مشيراً بذلك إلى وجود مراتب أخرى وأعلى من الكائنات السماوية, الذين يهتمون بالمثل بالرفاه الروحي وبالتقدم الإلهي للإنسان الفاني.
167:7.6 (1841.5) "هؤلاء الملائكة أيضًا مهتمون جداً بالوسائل التي يتم بها إطلاق روح الإنسان من هياكل الجسد ومُرافَقة نفـْسه إلى القصور في السماء. الملائكة هم المرشدون الأكيدون والسماويون لنفـْس الإنسان في أثناء تلك الفترة الزمنية المجهولة وغير المحددة التي تتداخل بين موت الجسد والحياة الجديدة في مقامات الروح."
167:7.7 (1841.6) وكان سيتحدث أكثر مع ناثانيل فيما يتعلق بإسعاف الملائكة, لو لم يُقاطَع باقتراب مارثا, التي كانت قد أبلغت بأن السيد يقترب من بيت-عنيا من قِبل أصدقاء لاحظوه يصعد التلال إلى الشرق. وأسرعت الآن لتحييه.
كِتاب يورانشيا
ورقة 168
168:0.1 (1842.1) كان بعد الظهر بقليل عندما بدأت مارثا السير للقاء يسوع بينما أتى من حافة التل بالقرب من بيت-عنيا. كان شقيقها, لِعازر, قد مات منذ أربعة أيام ووضِع في قبرهم الخاص في نهاية الحديقة في وقت متأخر من بعد ظهر يوم الأحد. كان الحجر عند مدخل القبر قد دُحرج في مكانه صباح هذا اليوم, الخميس.
168:0.2 (1842.2) عندما بعثت مارثا ومريم كلمة إلى يسوع بخصوص مرض لِعازر, كانتا واثقتين بأن السيد سيفعل شيئاً حيال ذلك. كانتا تعلمان بأن شقيقهما كان مريضاً بشكل يائس, ولو إنهما بالكاد تجرأتا على الأمل بأن يترك يسوع عمله في التعليم والوعظ ليأتي لمساعدتهم, كانت لديهما ثقة كبيرة في قدرته على شفاء المرض بحيث اعتقدتا أنه سيتكلم الكلمات الشافية فقط, وسوف يتعافى لِعازر على الفور. وعندما مات لِعازر بعد ساعات قليلة من مغادرة المرسال بيت-عنيا إلى فيلادلفيا, استنتجتا أن السبب هو أن السيد لم يَعلَم بمرض شقيقهما إلا بعد فوات الأوان, بعد أن كان ميتاً بالفعل لعدة ساعات.
168:0.3 (1842.3) لكنهما, مع جميع أصدقائهما المؤمنين, كانوا في حيرة كبيرة من الرسالة التي أعادها العداء يوم الثلاثاء قبل الظهيرة عندما وصل بيت-عنيا. أصَّر المرسال بأنه سمع يسوع يقول, "... هذا المرض في الحقيقة ليس للموت." لم يستطعوا أن يفهموا سبب عدم إرساله كلمة لهم ولا عرض المساعدة بطريقة أخرى.
168:0.4 (1842.4) جاء العديد من الأصدقاء من قرى صغيرة قريبة وآخرون من أورشليم لمؤاساة الشقيقتين المنكوبتين. كان لِعازر وأخواته أبناء يهودي ميسور الحال ومكرّم, الذي كان الساكن الوجيه في قرية بيت-عنيا الصغيرة. وعلى الرغم من أن الثلاثة كانوا منذ فترة طويلة من أتباع يسوع المتحمسين, فقد كانوا مُحترَمين للغاية من قبل كل من عرفهم. لقد ورثوا كروماً واسعة وبساتين زيتون في هذا الجوار, وأنهم كانوا أثرياء شهد إضافياً على حقيقة أنهم يستطيعون أن يكون لديهم قبر خاص على عقارهم الخاص. كِلا والديهم قد دفنوا بالفعل في هذا القبر.
168:0.5 (1842.5) كانت مريم قد تخلت عن فكرة مجيء يسوع وتُركت إلى حزنها, لكن مارثا تشبثت بالأمل بأن يسوع سيأتي, حتى إلى ذلك الصباح بالذات عندما دحرجوا الحجر أمام القبر وختموا المدخل. حتى في ذلك الوقت أرشدت جاراً ليراقب طريق أريحا من حافة التل إلى شرق بيت-عنيا؛ وكان هذا الفتى الذي بشر مارثا بأن يسوع وأصدقاؤه يقتربون.
168:0.6 (1842.6) عندما لاقت مارثا يسوع, خرت عند قدميه, هاتفة, "يا سيد, لو كنت هنا, لما مات أخي!" العديد من المخاوف كانت تمر خلال عقل مارثا, لكنها لم تعطي تعبيراً لأي شك, ولم تجرؤ على انتقاد سلوك السيد أو التشكيك فيه فيما يتعلق بوفاة لِعازر. عندما تكلمت, انحنى يسوع ورافعاً إياها على قدميها, قال, "ليكن لديك إيمان فقط, يا مارثا, وسوف يقوم أخوك مرة أخرى." عند ذاك أجابت مارثا: "أعلم أنه سيقوم مرة أخرى في قيامة اليوم الأخير؛ وحتى الآن أعتقد بأنك مهما طلبت من الله, فإن أبانا سيعطيك."
168:0.7 (1843.1) عندئذٍ قال يسوع, وهو ينظر مباشرة إلى عيني مارثا: "أنا هو القيامة والحياة؛ الذي يؤمن بي, ولو مات, فسيَحيا. في الحقيقة, كل من يعيش ويؤمن بي لن يموت حقاً. مارثا, هل تؤمنين بهذا؟" فأجابت مارثا السيد: "نعم, لقد آمنت منذ فترة طويلة بأنك المخَّلِص, ابن الله الحي, حتى هو الذي يجب أن يأتي إلى هذا العالَم."
168:0.8 (1843.2) حيث إن يسوع استفسر عن مريم, ذهبت مارثا على الفور إلى المنزل, وهامسة لأختها, قالت, "السيد هنا وقد سأل عنكِ." ولما سمعت مريم هذا, قامت بسرعة وأسرعت للخارج للقاء يسوع, الذي كان لا يزال ينتظر في المكان, على مسافة قريبة من المنزل, حيث لاقته مارثا أولاً. الأصدقاء الذين كانوا مع مريم, يسعون إلى مواساتها, عندما رأوا أنها نهضت بسرعة وخرجت, تبعوها, مفترضين أنها ذاهبة إلى القبر لتبكي.
168:0.9 (1843.3) كان العديد من أولئك الحاضرين أعداء يسوع اللدودين. لهذا خرجت مرثا لمقابلته بمفردها, وأيضاً السبب في لماذا ذهبت سراً لإبلاغ مريم بأنه سأل عنها. مارثا بينما تتوق لرؤية يسوع, رغبت في تجنب أي مكروه محتمل قد يكون سببه مجيئه المفاجيء وسط جماعة كبيرة من أعدائه من أورشليم. كانت نية مارثا البقاء في المنزل مع أصدقائهم أثناء ذهاب مريم لتحية يسوع, لكنها فشلت في هذا, لأنهم جميعًا تبعوا مريم وهكذا وجدوا أنفسهم بشكل غير متوقع في حضرة السيد.
168:0.10 (1843.4) قادت مارثا مريم إلى يسوع, وعندما رأته, خرت عند قدميه, هاتفةً. "لو كنت هنا فقط, لما مات أخي!" وعندما رأى يسوع كيف حزنوا جميعاً على موت لِعازر, كانت نفسه مُحرَكة بالشفقة.
168:0.11 (1843.5) عندما رأى المعَّزون بأن مريم قد ذهبت لكي تحيي يسوع, انسحبوا لمسافة قصيرة بينما تحدثت كل من مارثا ومريم مع السيد واستلمتا المزيد من كلمات المؤاساة والوعظ للحفاظ على إيمان قوي بالأب وتسليم تام للمشيئة الإلَهية.
168:0.12 (1843.6) كان العقل البشري ليسوع مُحرَكاً بقوة بالنزاع بين محبته للِعازر والأخوات الثكلى وازدراءه واحتقاره للعرض الخارجي للمودة الذي أظهره بعض هؤلاء اليهود غير المؤمنين وذوي النية القاتلة. استاء يسوع بسخط من عرض الحداد القسري والظاهري للِعازر من قبل بعض هؤلاء الأصدقاء المزعومين حيث أن هذا الحزن الكاذب كان مرتبطًا في قلوبهم بكثير من العداء المرير تجاهه. بعض هؤلاء اليهود, مع ذلك, كانوا مخلصين في عزائهم, لأنهم كانوا أصدقاء حقيقيين للعائلة.
168:1.1 (1843.7) بعدما أمضى يسوع لحظات قليلة في تعزية مارثا ومريم, على حدة من المعَّزين, سألهما, "أين وضعتموه؟" فقالت مارثا, "تعال وانظر." وبينما تبع السيد في صمت مع الشقيقتين الحزينتين, بكى. لما رأى اليهود الودودون الذين تبعوهم دموعه, قال أحدهم: "انظروا كم كان يحبه. ألا يستطيع مَن فتح عيون الأعمى أن يحفظ هذا الرَجل من أن يموت؟" بحلول هذا الوقت كانوا يقفون أمام قبر العائلة, كهف طبيعي صغير, أو انحدار, في إفريز صخرة التي ارتفعت حوالي ثلاثين قدماً عند الطرف البعيد من قطعة أرض الحديقة.
168:1.2 (1844.1) من الصعب أن نشرح للعقول البشرية بالضبط لماذا بكى يسوع. في حين أن لدينا منفذ إلى تسجيل العواطف الإنسانية والأفكار الإلَهية المشتركة, كما هو مُسجل في عقل الضابط المُشَّخَص, فإننا لسنا متأكدين تماماً من السبب الحقيقي لهذه التجليات العاطفية. نحن ميالون للاعتقاد بأن يسوع بكى بسبب عدد من الأفكار والمشاعر التي كانت تدور في ذهنه في هذا الوقت, مثل:
168:1.3 (1844.2) 1. أنه شعَرَ بتعاطف حقيقي وحزين من أجل مارثا ومريم؛ كان لديه عاطفة إنسانية حقيقية وعميقة تجاه هاتين الأختين اللتين فقدتا أخيهن.
168:1.4 (1844.3) 2. كان منزعجاً في عقله من حضور حشد المُعَّزين, بعضهم مخلص وبعضهم مجرد مُدّعين. لقد استاء دائماً من عروض العزاء الظاهرية هذه. كان يعلم أن الشقيقات أحبت أخيهن وكان لديهن إيمان ببقاء المؤمنين, قد تفسر هذه المشاعر المتنازعة سبب تأوهه عندما اقتربوا من القبر.
168:1.5 (1844.4) 3. لقد تردد حقاً في إعادة لِعازر إلى الحياة الفانية. كانت شقيقتاه بحاجة إليه حقًا, لكن يسوع ندم على استحضار صديقه ليقاسي الاضطهاد المُر الذي كان يعلم جيداً بأن لِعازر سيتحمله نتيجة لكونه موضوع أعظم كل تجليات القدرة الإلَهية لابن الإنسان.
168:1.6 (1844.5) والآن قد نروي حقيقة مثيرة للاهتمام ومفيدة: مع أن هذه الرواية تنكشف كحدث اعتيادي وطبيعي على ما يبدو في الشؤون الإنسانية, إلا أنها تحتوي على بعض الأنوار الجانبية المثيرة للاهتمام. بينما ذهب المرسال إلى يسوع يوم الأحد, مخبراً إياه بمرض لِعازر, وبينما أرسل يسوع كلمة بأن مرضه "ليس للموت", في الوقت نفسه ذهب شخصياً إلى بيت-عنيا وحتى سأل الشقيقتين, "أين وضعتموه؟" على الرغم من أن كل هذا يبدو أنه يشير إلى أن السيد كان يسير وفقًا لطريقة هذه الحياة ووفقًا للمعرفة المحدودة للعقل البشري, مع ذلك, تكشف سجلات الكون بأن الضابط المُشَّخَص ليسوع أصدر أوامر بالإحتجاز غير المُحدَد الأمد لضابط فكر لِعازر على الكوكب لاحقاً لموت لِعازر, وبأن هذا الأمر وُضع على السجل بالضبط قبل خمس عشرة دقيقة من تنفس لِعازر نفَسه الأخير.
168:1.7 (1844.6) هل عرف العقل الإلَهي ليسوع, حتى قبل موت لِعازر, بأنه سيقيمه من الأموات؟ لا نعلم. نحن نعرف فقط ما نضعه على السُجل.
168:1.8 (1844.7) كان كثير من أعداء يسوع يميلون إلى السخرية من مظاهر عطفه, وقالوا فيما بينهم: إذا هو فكَّر كثيراً في هذا الرَجل, فلماذا انتظر طويلاً قبل المجيء إلى بيت-عنيا؟ إذا كان هو ما يَدّعونه, لماذا لم ينقذ صديقه العزيز؟ ما الخير من شفاء الغرباء في الجليل إذا كان لا يستطيع إنقاذ من يحبهم؟ و وبطرق أخرى كثيرة سخروا من تعاليم يسوع وأعماله واستخفوا بها.
168:1.9 (1844.8) وهكذا, بعد ظهر هذا الخميس في حوالي الساعة الثانية والنصف, كانت المنصة كلها معدة في هذه المزرعة الصغيرة لبيت-عنيا للشروع بأعظم الأعمال المتعلقة بالإسعاف الأرضي لميخائيل نِبادون, أعظم تجلي للقدرة الإلَهية أثناء تجسده في الجسد. حيث إن قيامته الخاصة حدثت بعد أن تحرر من قيود السكن البشري.
168:1.10 (1845.1) قليلاً أدركت الجماعة الصغيرة التي تجمعت أمام قبر لِعازر الحضور عن قرب للحشد الشاسع من كل مراتب الكائنات السماوية المتجمعة تحت قيادة جبرائيل والآن في الانتظار, بتوجيه من الضابط المُشَّخَص ليسوع, تتأرجح بالتوقع ومستعدة لتنفيذ أوامر سُلطانها الحبيب.
168:1.11 (1845.2) عندما قال يسوع كلمات الأمر تلك, "أزيحوا الحجر," استعدت الجيوش السماوية المتجمعة لتشرع دراما قيامة لِعازر في شبه جسده الفاني. مثل هذا الشكل من القيامة ينطوي على صعوبات في التنفيذ تتجاوز بكثير الطريقة المعتادة لقيامة المخلوقات البشرية في شكل المورونشيا وتتطلب شخصيات سماوية أكثر بكثير وتنظيماً أكبر بكثير من مرافق الكون.
168:1.12 (1845.3) عندما سمعت مارثا ومريم هذا الأمر ليسوع مُوَّجهاً بأن يُدحرَج الحجر أمام القبر, امتلأتا بالمشاعر المتضاربة. كانت مريم تأمل بأن يُقام لِعازر من الأموات, لكن مارثا, بينما كانت تشارك إلى حد ما إيمان شقيقتها, كانت أكثر خوفاً بأن لِعازر لن يكون بحالة جيدة في مظهره, ليسوع, والرُسل, وأصدقائهن. قالت مارثا: "أيجب أن ندحرج الحجر؟ شقيقي الآن ميت منذ أربعة أيام, بحيث بهذا الوقت قد بدأ انحلال الجسد." قالت مارثا هذا أيضاً لأنها لم تكن متأكدة من سبب طلب السيد بأن يُزال الحجر؛ اعتقدت أنه ربما أراد يسوع فقط أن يلقي نظرة أخيرة على لِعازر. لم تكن مستقرة وثابتة في موقفها. بينما هم يترددون في دحرجة الحجر, قال يسوع: "ألم أقل لكم في البداية بأن هذا المرض لم يكن للموت؟ ألم آتي لأفي بوعدي؟ وبعد أن أتيت إليكم, ألم أقل أنه, إذا كنتم فقط ستؤمنون, سترون مجد الله؟ لماذا إذن تشّكون؟ إلى متى قبل أن تؤمنوا وتطيعوا؟"
168:1.13 (1845.4) عندما انتهى يسوع من الكلام, أمسك رسله بالحجر بمساعدة الجيران الراغبين, ودحرجوه بعيداً عن مدخل القبر.
168:1.14 (1845.5) كان الاعتقاد السائد عند اليهود بأن قطرة المرارة على رأس سيف ملاك الموت بدأت تعمل بنهاية اليوم الثالث, بحيث أخذت مفعولها الكامل في اليوم الرابع. سمحوا بأن نفـْس الإنسان قد تتوانى حول القبر حتى نهاية اليوم الثالث, ساعية لإعادة إحياء الجسد الميت؛ لكنهم اعتقدوا اعتقادا راسخا أن مثل هذه النفـْس تكون قد انصرفت إلى مقام الأرواح الراحلة قبل فجر اليوم الرابع.
168:1.15 (1845.6) هذه المعتقدات والآراء المتعلقة بالموتى ورحيل أرواح الموتى خدمت لتؤكد, في عقول جميع الذين كانوا حاضرين الآن عند قبر لِعازر وبعد ذلك لجميع الذين قد يسمعون بما كان على وشك أن يحدث, بأن هذا كان في الواقع وحقاً حالة من إقامة الموتى من خلال العمل الشخصي للذي أعلن أنه "القيامة والحياة."
168:2.1 (1845.7) بينما وقفت هذه الجماعة من حوالي خمسة وأربعين فانياً أمام القبر, كان بإمكانهم رؤية شكل لِعازر بشكل خافت, ملفوفاً في أربطة كتانية, ومُستقراً على الجانب الأيمن السفلي في كهف الدفن. بينما وقفت هذه المخلوقات الأرضية هناك في صمت بدون تنفس تقريباً, كانت جيوش شاسعة من الكائنات السماوية قد تأرجحت نحو أماكنها استعداداً للإستجابة لإشارة العمل عندما ستُعطى من قبل جبرائيل, قائدها.
168:2.2 (1846.1) رفع يسوع عينيه وقال: "أبتاه, أنا ممتن بأنك سمعت طلبي ومنحته. أعلم أنك تسمعني دائماً, لكن بسبب أولئك الذين يقفون هنا معي, هكذا أتكلم معك, بحيث أنهم قد يؤمنوا أنك أرسلتني إلى العالَم, وبحيث قد يعرفوا بأنك تعمل معي في ما نحن على وشك القيام به." وعندما صَّلى, صرخ بصوتٍ عالٍ, "لِعازر, هلم خارجًا!"
168:2.3 (1846.2) على الرغم من أن هؤلاء المراقبين البشريين ظلوا بلا حراك, فقد كانت الجيوش السماوية الشاسعة كلها في هرج في عمل موَّحد امتثالاً لكلمة الخالق. في غضون اثنتي عشرة ثانيةً فقط من زمن الأرض, بدأ شكل لِعازر الذي كان بلا حياة حتى الآن يتحرك وجلس حالياً على حافة الرف الحجري حيث استراح. كان جسده مقيداً بثياب القبر, ووجهه مغطى بمنديل. وفيما وقف أمامهم ــ حياً ــ قال يسوع, "فكوه وأخلوا سبيله."
168:2.4 (1846.3) الجميع, ما عدا الرُسل, مع مارثا ومريم, هربوا إلى المنزل. كانوا شاحبين من الرعب ومُتغلب عليهم بالذهول. بينما انتظر البعض, أسرع كثيرون إلى منازلهم.
168:2.5 (1846.4) حيا لِعازر يسوع والرُسل وسأل عن معنى ثياب القبر ولماذا استيقظ في الحديقة. انسحب يسوع والرُسل إلى جانب بينما أخبرت مارثا لِعازر عن موته, ودفنه, وقيامته. كان عليها أن تشرح له بأنه قد مات يوم الأحد والآن أُعيد إلى الحياة يوم الخميس, حيث لم يكن واعياً بالوقت منذ وقوعه في نوم الموت.
168:2.6 (1846.5) بينما خرج لِعازر من القبر, أعطى الضابط المُشَّخَص ليسوع, الآن رئيس نوعه في هذا الكون المحلي, أمراً لضابط لِعازر السابق, الذي ينتظر الآن, لاستئناف الإقامة في عقل ونفـْس الرَجل المُقام.
168:2.7 (1846.6) بعد ذلك ذهب لِعازر إلى يسوع, ومع شقيقتيه, جثوا عند قدمي السيد ليعطوا الشكر ويقدموا الحمد لله. يسوع, آخذاً لِعازر باليد, رفعه, قائلاً: "يا بني, ما حدث لك سيختبره أيضًا كل من يؤمن بهذا الإنجيل باستثناء أنهم سيُبعثون بشكل أكثر مجداً. ستكون شاهداً حياً للحق الذي قلتُه ــ أنا القيامة والحياة. لكن دعونا الآن ندخل جميعًا إلى المنزل ونشارك في التغذية لهذه الأجسام المادية."
168:2.8 (1846.7) بينما مشوا نحو المنزل, صرف جبرائيل المجموعات الإضافية من الجيوش السماوية المتجمعة بينما سجل الحالة الأولى على يورانشيا, والأخيرة, حيث تم بعث مخلوق بشري في شبه الجسد المادي للموت.
168:2.9 (1846.8) بالكاد استوعب لِعازر ما حدث. كان يعلم أنه كان مريضاً جداً, لكنه لم يتذكر سوى أنه نام وأُيقظ. لم يكن قادراً على إخبار أي شيء عن هذه الأيام الأربعة في القبر لأنه كان غير واعي تماماً. الزمن لا وجود له لمن ينامون نوم الموت.
168:2.10 (1846.9) على الرغم من أن الكثيرين آمنوا بيسوع نتيجة لهذا العمل الجبار, إلا أن آخرون فقط قـَّسوا قلوبهم أكثر لرفضه. بحلول ظهر اليوم التالي كانت هذه القصة قد انتشرت في جميع أنحاء أورشليم. ذهب العشرات من الرجال والنساء إلى بيت-عنيا لمشاهدة لِعازر والتحدث معه, والفريسيين المذعورين والمضطربين دعوا لاجتماع للسنهدرين على عجل بحيث قد يقرروا ما يجب فعله حيال هذه التطورات الجديدة.
168:3.1 (1847.1) على الرغم من أن شهادة هذا الرَجل الذي أُقيم من بين الأموات ساهمت كثيرًا في ترسيخ إيمان جماهير المؤمنين بإنجيل الملكوت, فقد كانت ذات تأثير ضئيل أو معدوم على موقف الحكام والقادة الدِينيين في أورشليم إلا لتسريع قرارهم بإهلاك يسوع وإيقاف عمله.
168:3.2 (1847.2) عند الساعة الواحدة في اليوم التالي, الجمعة, اجتمع السنهدرين لمزيد من النقاش حول السؤال, "ماذا سنفعل بيسوع الناصري؟" بعد أكثر من ساعتين من النقاش والجدال الحاد, قدَّم أحد الفريسيين حلاً يدعو لموت يسوع الفوري, معلناً بأنه يمثل تهديداً لكل إسرائيل ويُلزم السنهدرين رسمياً بقرار الموت, دون محاكمة وفي تحدي لكل السوابق.
168:3.3 (1847.3) مراراً وتكراراً أمرت هذه الهيئة المهيبة من قادة اليهود بإلقاء القبض على يسوع وتقديمه للمحاكمة بتهم التجديف والعديد من الاتهامات الأخرى بخرق الشريعة المقدسة اليهودية. حتى أنهم ذهبوا مرة قبل الآن إلى حد إعلان أنه يجب أن يموت, لكن هذه كانت المرة الأولى التي يُسجل فيها أن السنهدرين رغب في إصدار أمر بموته قبل المحاكمة. لكن هذا القرار لم يتم التصويت عليه حيث إن أربعة عشر عضواً من السنهدرين استقالوا في هيئة عندما تم اقتراح مثل هذا الإجراء الذي لم يسمع به. في حين لم يتم اتخاذ إجراء رسمي بشأن هذه الاستقالات لمدة أسبوعين تقريبًا, فقد انسحبت هذه المجموعة المكونة من الأربعة عشر من السنهدرين في ذلك اليوم, ولم يعودوا ليجلسوا مرة أخرى في المجلس. عندما تم تنفيذ هذه الاستقالات لاحقاً, تم طرد خمسة أعضاء آخرين لأن رفاقهم اعتقدوا بأن لديهم مشاعر ودية تجاه يسوع. مع إخراج هؤلاء الرجال التسعة عشر كان السنهدرين في وضع يسمح لهم بمحاكمة وإدانة يسوع بأكثرية تحد على الإجماع.
168:3.4 (1847.4) في الأسبوع التالي تم استدعاء لِعازر وشقيقتيه للمثول أمام السنهدرين. عندما تم الاستماع إلى شهادتهم, لا شك أُمكن إضماره بأن لِعازر قد أُقيم من بين الأموات. على الرغم من أن تعاملات السنهدرين أقـَّرت فعلياً قيامة لِعازر, إلا أن السجل حمل قراراً ينسب هذا وجميع العجائب الأخرى التي صنعها يسوع إلى قدرة أمير الأبالسة, الذي تم الإعلان أن يسوع متحالف معه.
168:3.5 (1847.5) بغض النظر عن مصدر قدرته في العمل العجائبي, كان هؤلاء القادة اليهود مقتنعين بأنه, إذا لم يتم إيقافه في الحال, قريباً جداً سيؤمن به كل عامة الناس, علاوة على ذلك, فأن تعقيدات خطيرة ستنشأ مع السُلطات الرومانية حيث إن كثيرين جداً من المؤمنين به اعتبروه المسيح, مخلص إسرائيل.
168:3.6 (1847.6) كان في هذا الاجتماع نفسه للسنهدرين حينما عبّر قيافا الكاهن العالي لأول مرة عن ذلك المَثل اليهودي القديم, الذي كرره مرات كثيرة جداً: "من الأفضل أن يموت رجل واحد, من أن يهلك المجتمع."
168:3.7 (1847.7) مع أن يسوع تلقى تحذيراً من أفعال السنهدرين في ظهيرة يوم الجمعة المظلم هذا, إلا أنه لم يكن في الأقل منزعجاً واستمر في استراحة السبت مع أصدقاء في بيت-فاج, قرية صغيرة بالقرب من بيت-عنيا. في وقت مبكر من صباح الأحد, تجَّمع يسوع والرُسل, بترتيب مسبق, في بيت لِعازر, ومستأذنين عائلة بيت-عنيا, بدأوا رحلتهم رجوعاً إلى مخيم بـِلا.
168:4.1 (1848.1) في الطريق من بيت-عنيا إلى بـِلا طرح الرُسل على يسوع العديد من الأسئلة, أجاب السيد عليها جميعاً بحرية باستثناء تلك التي تتضمن تفاصيل قيامة الموتى. هذه المسائل كانت تتجاوز استطاعة رُسله على الفهم؛ لذلك رفض السيد مناقشة هذه الأسئلة معهم. حيث إنهم رحلوا من بيت-عنيا سِراً, كانوا وحدهم. لذلك انتهز يسوع الفرصة ليقول أشياء كثيرة للعشرة التي اعتقد أنها ستهيئهم للأيام العصيبة المقبلة.
168:4.2 (1848.2) كان الرُسل مثارين كثيراً في أذهانهم وأمضوا وقتاً طويلاً في مناقشة تجاربهم الحديثة من حيث صلتها بالصلاة واستجابتها. تذكَّروا جميعًا ما قاله يسوع لمرسال بيت-عنيا في فيلادلفيا, عندما قال بوضوح, "هذا المرض ليس في الحقيقة للموت." ومع ذلك, بالرغم من هذا الوعد, فقد مات لِعازر بالفعل. طوال ذلك اليوم, المرة تلو المرة, عادوا إلى مناقشة هذا السؤال عن استجابة الصلاة.
168:4.3 (1848.3) يمكن تلخيص إجابات يسوع على أسئلتهم العديدة على النحو التالي:
168:4.4 (1848.4) 1. الصلاة هي تعبير العقل المتناهي في جهد للاقتراب إلى اللانهائي. يجب, لذلك, أن يكون القيام بالصلاة محدوداً بمعرفة, وحكمة, وسجايا المتناهي؛ بالمثل, يجب أن تكون الإجابة مشروطة برؤية, وغايات, ومُثل, وامتيازات اللانهائي. لا يمكن أن يُلاحظ أبداً استمرارية غير منقطعة للظواهر المادية بين القيام بالصلاة واستلام الإجابة الروحية الكاملة عليها.
168:4.5 (1848.5) 2. عندما يبدو أن الصلاة غير مُستجابة, غالباً ما يدل التأخير على إجابة أفضل, على أنها واحدة لسبب وجيه ما مؤخرة للغاية. عندما قال يسوع بأن مرض لِعازر لم يكن في الحقيقة للموت, كان قد مات بالفعل لإحدى عشرة ساعة. لا تُمنع أي صلاة مُخلِصة من الإجابة إلا عندما تكون وجهة النظر الفائقة للعالَم الروحي قد استنبطت إجابة أفضل, إجابة تلبي التماس روح الإنسان كما يتباين مع صلاة مجرد عقل الإنسان.
168:4.6 (1848.6) 3. صلوات الزمن, عندما تـكون مُحرضة بالروح ويتم التعبير عنها في إيمان, غالباً ما تكون واسعة وشاملة للغاية بحيث يمكن إجابتها فقط في الأبدية؛ يكون الالتماس المحدود أحياناً محفوفاً بفهم اللانهائي بحيث يجب أن تؤَّجَل الإجابة لفترة طويلة لانتظار خلق استطاعة كافية لأجل الاستلام؛ قد تكون صلاة الإيمان شاملة للغاية بحيث لا يمكن تلقي الإجابة إلا على الفردوس.
168:4.7 (1848.7) 4. غالبًا ما تكون إجابات صلاة العقل الفاني من هكذا طبيعة بحيث لا يمكن تلقيها والتعرف عليها إلا بعد أن يكون ذات العقل المصَّلي قد أحرز الوضع الخالد. مرات كثيرة يمكن الإجابة على صلاة الكائن المادي فقط عندما يكون مثل هذا الفرد قد تقدم إلى مستوى الروح.
168:4.8 (1848.8) 5. قد تكون صلاة الشخص العارف بالله مشوهة جداً بسبب الجهل وممسوخة بالخرافة بحيث سيكون الجواب عليها غير مرغوب للغاية. عندئذٍ يجب على كائنات الروح المتداخلة أن تترجم تلك الصلاة بحيث, عندما يصل الجواب, يفشل مقدم الالتماس كليا في التعرف عليها كإجابة لصَلاته.
168:4.9 (1848.9) 6. كل الصلوات الحقيقية يتم توجيهها إلى كائنات روحية, وكل هذه الالتماسات يجب أن تُجاب في مصطلحات روحية, ويجب أن تتكون كل هذه الإجابات في حقائق روحية. لا تستطيع الكائنات الروحية إغداق إجابات مادية لالتماسات الروح حتى للكائنات المادية. يمكن للكائنات المادية أن تصلي بفعالية فقط عندما "تصَّلي في الروح."
168:4.10 (1849.1) 7. لا يمكن لأي صلاة أن تأمل في إجابة ما لم تولد في الروح ويرعاها الإيمان. إيمانك الصادق يعني ضمناً أنك قد منحت فعلياً سلفاً سامعي صلاتك الحق الكامل في إجابة التماساتك وفقاً لتلك الحكمة السامية وتلك المحبة الإلَهية التي يصَّورها إيمانك كمحركة دائماً لأولئك الكائنات الذين تصَّلي لهم.
168:4.11 (1849.2) 8. يكون الطفل دائماً ضمن حقوقه عندما يفترض أن يلتمس من الوالد؛ ويكون الوالد دائماً ضمن التزاماته الأبوية تجاه الطفل غير الناضج عندما تُملي حكمته الفائقة تأخير استجابة صلاة الطفل, أو تعديلها, أو فصلها, أو تجاوزها, أو تأجيلها إلى مرحلة أخرى من الارتقاء الروحي.
168:4.12 (1849.3) 9. لا تتردد بأن تصَّلي صلوات اشتياق الروح؛ لا تشك بأنك ستتلقى الإجابة إلى التماساتك. ستكون هذه الإجابات قيد الإيداع, في انتظار تحقيقك لتلك المستويات الروحية المستقبلية من التحصيل الكوني الفعلي, على هذا العالَم أو على عوالم أخرى, حيث سيصبح من الممكن لك التعرف على الإجابات التي طال انتظارها وملاءمتها إلى التماساتك الأبكر إنما المُساء توقيتها.
168:4.13 (1849.4) 10. جميع الالتماسات الأصلية المولودة من الروح هي أكيدة لتلقى الإجابة. اسألوا وسوف تستلمون. لكن يجب أن تتذكروا أنكم مخلوقات تقدمية للزمان والفضاء؛ لذلك يجب أن تحسبوا باستمرار لعامل الزمان-الفضاء في تجربة استلامكم الشخصي للإجابات الكاملة لصلواتكم والتماساتكم المتنوعة.
168:5.1 (1849.5) بقي لِعازر في بيته في بيت-عنيا, حيث كان مركز اهتمام عظيم لكثير من المؤمنين المخلصين والعديد من الأشخاص الفضوليين, حتى أسبوع صلب يسوع, عندما تلقى تحذيراً بأن السنهدرين قد أصدر مرسوماً بموته. كان حكام اليهود مصممين على وضع حد للانتشار الإضافي لتعاليم يسوع, وحكموا جيداً بأنه سيكون من غير المجدي إعدام يسوع إذا سمحوا للِعازر, الذي مثل ذروة عمله العجائبي, أن يعيش ويحمل شهادة على حقيقة أن يسوع أقامه من بين الأموات. لقد عانى لعازر بالفعل من الاضطهاد المرير منهم.
168:5.2 (1849.6) وهكذا استأذن لِعازر بسرعة شقيقتيه في بيت-عنيا, هارباً خلال أريحا وعبر الأردن, ولم يسمح لنفسه بالراحة لفترة طويلة حتى وصل فيلادلفيا. كان لِعازر يعرف أبنير جيداً, وهنا شعر بالأمان من مؤامرات السنهدرين الأثيمين القاتلة.
168:5.3 (1849.7) بعد وقت قصير من هذا تخلصت مارثا ومريم من أراضيهما في بيت-عنيا والتحقتا بشقيقهما في بيريا. في هذه الأثناء, كان لِعازر قد أصبح أمين صندوق الكنيسة في فيلادلفيا. أصبح داعماً قوياً لأبنير في خلافه مع بولس وكنيسة أورشليم وتوفي في النهاية, عندما كان يبلغ من العمر 67 سنة, بذات المرض الذي حمله عندما كان شاباً في بيت-عنيا.
كِتاب يورانشيا
ورقة 169
169:0.1 (1850.1) في وقت متأخر من مساء الاثنين, 6 آذار, وصل يسوع والرُسل العشرة إلى مخيم بـِلا. كان هذا هو الأسبوع الأخير من إقامة يسوع هناك, وكان نشيطاً جداً في تعليم الجموع وإرشاد الرُسل. كان يعظ كل عصرية للجموع وكل ليلة يجيب على أسئلة الرُسل وبعض التلاميذ الأكثر تقدماً المقيمين في المخيم.
169:0.2 (1850.2) كانت الأخبار المتعلقة بقيامة لِعازر قد وصلت إلى المخيم قبل يومين من وصول السيد, وكان التجمع بأكمله في ترقب. لم يحدث أي شيء منذ إطعام الخمسة آلاف مما أثار مخيلة الناس. ولهذا كان في ذروة المرحلة الثانية من الإسعاف العام للملكوت حينما خطط يسوع لتعليم هذا الأسبوع القصير في بـِلا ثم البدء بالجولة إلى جنوب بيريا التي أدت مباشرة إلى التجارب الأخيرة والمأساوية للأسبوع الأخير في أورشليم.
169:0.3 (1850.3) كان الفريسيون ورؤساء الكهنة قد بدأوا في صياغة شكاواهم وبلورة اتهاماتهم. اعترضوا على تعاليم السيد على هذه الأسس:
169:0.4 (1850.4) 1. هو صديق للعشارين والخطاة؛ يستلم الكافرين وحتى يأكل معهم.
169:0.5 (1850.5) 2. هو مُجَّدف؛ يتكلم عن الله باعتباره أبيه ويعتقد بأنه مساوٍ لله.
169:0.6 (1850.6) 3. هو مخالف للشريعة. يشفي أمراض في يوم السبت وفي نواح كثيرة أخرى يستهزئ بالشريعة المقدسة لإسرائيل.
169:0.7 (1850.7) 4. هو متحالف مع الأبالسة. يعمل عجائب ويقوم بمعجزات على ما يبدو بقدرة بعلزبوب, أمير الأبالسة.
169:1.1 (1850.8) بعد ظُهر يوم الخميس تحدث يسوع إلى الجموع عن "نعمة الخلاص." في سياق هذه الموعظة أعاد سرد قصة الخروف الضائع وقطعة النقود الضائعة وبعدئذٍ أضاف مَثله المُفـَّضل عن الابن المُسرف. قال يسوع:
169:1.2 (1850.9) "لقد حذركم الأنبياء من صموئيل إلى يوحنا بأنكم يجب أن تسعوا إلى الله ــ تبحثوا عن الحقيقة. قالوا دائماً, ’اطلبوا الرب ما دام يمكن العثور عليه‘. وكل هذا التعليم يجب أن يؤخذ إلى القلب. لكنني جئت لأريكم بأنه, بينما تسعون لتجدوا الله, الله بالمثل يسعى ليجدكم. لقد أخبرتكم مرات عديدة قصة الراعي الصالح الذي ترك خرافه التسعة والتسعين في الحظيرة بينما انطلق بحثاً عن واحد ضائع, وكيف, عندما وجد الخروف الضال, وضعه فوق كتفه وأعاده بحنان إلى الحظيرة. وعندما أُعيد الخروف الضائع إلى الحظيرة, تتذكرون بأن الراعي الصالح استدعى أصدقاءه ودعاهم ليبتهجوا معه بالعثور على الخروف الذي كان ضائعاً. مرة أخرى أقول, هناك فرح في السماء على خاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين شخصاً مستقيمين لا يحتاجون إلى التوبة. واقع أن هناك نفوس ضائعة فقط يزيد من اهتمام الأب السماوي. لقد جئت إلى هذا العالم لأقوم بأمر أبي, وقد قيل حقاً عن ابن الإنسان بأنه صديق للعشارين والخطاة.
169:1.3 (1851.1) "لقد عُلـِّمتم بأن القبول الإلَهي يأتي بعد توبتكم ونتيجة لكل أعمال تضحياتكم وتوبتكم, لكنني أؤكد لكم بأن الأب يقبَلكم حتى قبل أن تتوبوا ويرسل الابن رفاقه ليجدونكم ويعيدونكم, بفرح, إلى الحظيرة, ملكوت البنوة والتقدم الروحي. أنتم جميعاً مثل الخروف الذي ضل, وقد جئت لأبحث عن أولئك الضائعين وأخلصهم.
169:1.4 (1851.2) "ويجب أن تتذكروا أيضاً قصة المرأة التي, حيث كان لديها عشر قطع من الفضة صنعت منها عقداً من الزينة, وأضاعت قطعة واحدة, وكيف أضاءت السراج وكنَّست المنزل بكَد وواصلت البحث إلى أن وجدت قطعة الفضة الضائعة. وبمجرد أن عثرت على قطعة النقود التي كانت ضائعة, دعت رفاقها وجيرانها معاً, قائلة, ’افرحوا معي, لأني وجدت القطعة التي كانت ضائعة‘.لذا أقول مرة أخرى, هناك دائماً فرح في حضور ملائكة السماء على خاطئ واحد يتوب ويعود إلى حظيرة الأب. وأخبركم هذه القصة لأؤثر عليكم بأن الأب وابنه ينطلقان للبحث عن أولئك الضائعين, وفي هذا البحث نوظف كل التأثيرات القادرة على تقديم المساعدة في جهودنا الدؤوبة للعثور على أولئك الذين فقدوا, أولئك الذين يحتاجون إلى الخلاص. وهكذا, بينما يخرج ابن الإنسان إلى البرية في طلب الخروف الضال, هو يبحث أيضًا عن قطعة النقود التي ضاعت في المنزل. الخروف يتيه بعيداً, عن غير قصد؛ وقطعة النقود مغطاة بغبار الزمن ومستورة بتراكم أشياء الناس.
169:1.5 (1851.3) "والآن أود أن أحكي لكم قصة ابن طائش لمزارع ميسور الذي ترك منزل والده عن عمد وذهب إلى أرض غريبة, حيث وقع في كثير من الشدائد. تذكرون بأن الخروف ضل بدون قصد, لكن هذا الشاب ترك بيته بتدبير مُسبق. لقد كان على هذا النحو:
169:1.6 (1851.4) "رَجل معين كان لديه ابنان؛ أحدهما, الأصغر سناً, كان خفيف القلب وعديم المبالاة, يسعى دائماً إلى قضاء وقت ممتع ويتهرب من المسؤولية, بينما شقيقه الأكبر كان دائماً جادًا, ورصينًا, ويعمل بكد, ومستعد لتحمل المسؤولية. الآن لم يتفق هذان الشقيقان معاً بشكل جيد؛ كانا دائماً يتشاجران ويتنازعان. كان الفتى الأصغر سناً مرحاً وخفيف الروح, لكنه كان كسولًا ولا يُعتمد عليه؛ كان الابن الأكبر مستقراً ومجتهدًا, وفي الوقت نفسه مُعجب بنفسه, وجافي الطبع, ومغرور. استمتع الابن الأصغر باللعب لكنه تجنب العمل؛ كرس الأكبر نفسه للعمل لكنه نادراً ما لعب. أصبحت هذه العلاقة غير مرغوب فيها لدرجة أن الابن الأصغر جاء إلى والده وقال: ’يا أبي, اعطني الجزء الثلث من ممتلكاتك التي ستقع لي واسمح لي بالخروج إلى العالَم لأنشد حظي الخاص.‘ وعندما سمع الأب هذا الطلب, وهو يعلم مدى تعاسة الشاب في البيت ومع شقيقه الأكبر, قسَّم ممتلكاته,معطياً الشاب نصيبه.
169:1.7 (1851.5) "في غضون أسابيع قليلة جمَّع الشاب كل أمواله وانطلق في رحلة إلى بلاد بعيدة, وليس واجداً أي شيء مربح ليفعله مما كان مُسراً أيضاً, سرعان ما أهدر كل ميراثه في معيشة صاخبة. وعندما أنفق كل ما لديه, قامت هناك مجاعة مطولة في ذلك البلد, ووجد نفسه في حاجة. وهكذا, عندما عانى من الجوع وكانت محنته عظيمة, وجد عملاً مع أحد مواطني ذلك البلد, الذي أرسله إلى الحقول ليُطعم الخنازير. وكان الشاب راغباً أن يملأ بطنه بالقشور التي تأكلها الخنازير, لكن لا أحد يعطيه أي شيء.
169:1.8 (1852.1) "في أحد الأيام, عندما كان جائعاً جداً, رجع إلى نفسه وقال: ’كم من الخدم المُستأجَرين عند أبي لديهم ما يكفي من الخبز ويفضل عنهم بينما أنا أهلك من الجوع, أُطعم الخنازير في بلاد غريبة! سأقوم وأذهب إلى أبي, وسأقول له: ’أبي, لقد أخطأت في حق السماء وضدك, أنا لست مستحقاً بعد الآن أن أدعى ابنك؛ فقط كن راغباً لتجعلني أحد خدمك المستأجَرين‘. وعندما وصل الشاب إلى هذا القرار, قام وانطلق إلى منزل والده.
169:1.9 (1852.2) "الآن كان هذا الأب قد حزن كثيراً على ابنه؛ فقد افتقد الفتى المرح, ولو إنه طائش. هذا الأب أحب هذا الابن وكان دائماً يترقب من أجل رجوعه, بحيث على يوم اقترابه من بيته, حتى بينما كان لا يزال بعيداً, رآه الأب, وكائناً مُحركاً بالشفقة المحبة, ركض خارجاً ليلقاه, وبتحية ودودة عانقه وقـَّبله. وبعد أن التقيا هكذا, تطلع الابن في وجه أبيه الدامع وقال: ’يا أبي, لقد أخطأت ضد السماء وفي نظرك؛ لم أعد مستحقاً أن أدعى ابن‘ ــ لكن الفتى لم يجد فرصة لإكمال اعترافه لأن الأب الفرح فرحاً غامراً قال للخدم الذين كانوا بهذا الوقت قد أتوا راكضين إليه: ’احضروا بسرعة ثوبه المفـَّضل, الذي قمت بحفظه, وضعوه عليه وضعوا خاتم الابن في يده واحضروا صندلاً لقدميه‘.
169:1.10 (1852.3) "وبعد ذلك, بعد أن قاد الأب السعيد الفتى المتقرح القدَمين والمتعب إلى المنزل, نادى خدمه: ’احضروا العجل المسمن واقتلوه, ولنأكل ونفرح, لأن ابني هذا كان ميتاً وهو حي مرة أخرى؛ كان ضائعاً ووُجد‘. فتجَّمعوا كلهم حول الأب ليفرحوا معه باسترجاع ابنه.
169:1.11 (1852.4) "في هذا الوقت تقريباً بينما كانوا يحتفلون, دخل الابن الأكبر من عمل يومه في الحقل, وبينما اقترب من المنزل, سمع الموسيقى والرقص. وعندما صعد إلى الباب الخلفي, استدعى أحد الخدم واستفسر منه عن معنى كل هذه الاحتفالات. وعند ذاك قال الخادم: ’لقد عاد أخوك المفقود منذ فترة طويلة إلى البيت, وقد قتل والدك العجل المسمن ليبتهج بعودة ابنه بسلامة. ادخل لكي تحيي أنت أيضاً أخيك وتستقبله في إلى منزل أبيك‘.
169:1.12 (1852.5) "لكن لما سمع الأخ الأكبر هذا, كان متأذياً جداً وغاضباً لدرجة أنه لم يود الدخول إلى المنزل. عندما سمع أبوه باستيائه من الترحيب بأخيه الأصغر, خرج ليستعطفه. لكن الابن الأكبر لم يستسلم لإقناع أبيه. أجاب والده, قائلاً: ’هنا كل هذه السنوات الكثيرة خدمتك, ولم أتجاوز أبدًا الأقل من أوامرك, ومع ذلك لم تعطني حتى جَديٍ بحيث قد أفرح مع أصدقائي. لقد بقيت هنا لأهتم بك طوال هذه السنوات, ولم تفرح أبدًا بخدمتي المخلصة, لكن عندما يعود ابنك هذا, بعد أن بعثر ثروتك مع العاهرات, تسرع لتذبح العجل المسمن وتفرح عليه.‘
169:1.13 (1852.6) "حيث إن هذا الأب أحب كِلا ابنيه حقًا, فقد حاول أن يتعقل مع هذا الابن الأكبر: ’لكن يا بني, لقد كنت معي كل الوقت. وكل ما لدي هو لك. كان يمكنك أن تأخذ جَدي في أي وقت يكون لديك أصدقاء لمشاركة فرحك. لكنه الآن من اللائق فقط بأنك يجب أن تنضم إلي في كونك مسروراً وفرحاً لأن أخاك عاد. فكِر في الأمر يا بني, أخوك كان ضائعاً ووُجد؛ لقد عاد حياً إلينا!‘"
169:1.14 (1853.1) كان هذا واحداً من أكثر الأمثال تأثيراً وفعالية من بين جميع الأمثال التي قدمها يسوع لتؤثر على سامعيه برغبة الأب ليستلم كل من يسعون للدخول إلى ملكوت السماء.
169:1.15 (1853.2) كان يسوع مُشايعاً جداً في رواية هذه القصص الثلاث في نفس الوقت. قدم قصة الخروف الضائع ليُري بأنه, عندما يضل الناس عن غير قصد بعيداً عن طريق الحياة, فإن الآب مدرك لمثل هؤلاء الضائعين ويخرج, مع أبنائه, الرعاة الحقيقيين للقطيع, ليبحث عن الخروف الضائع. بعد ذلك كان يتلو قصة عملة النقود الضائعة في المنزل لكي يُصَّور مدى دقة البحث الإلَهي عن كل المرتبكين, أو الحائرين, أو سوى ذلك الذين عموا روحياً بسبب الهموم المادية وتراكمات الحياة. ومن ثم سيشرع في رواية هذا المَثل عن الابن الضائع, استقبال الضال العائد, ليبين مدى اكتمال استعادة الابن الضائع إلى منزل أبيه وقلبه.
169:1.16 (1853.3) مرات, ومرات عديدة أثناء سنواته في التعليم, روى يسوع وأعاد سرد هذه القصة عن الابن المُسرف. كان هذا المَثل وقصة السامري الصالح وسيلته المُفـَّضلة لتعليم محبة الأب وحسن جوار الإنسان.
169:2.1 (1853.4) في إحدى الأمسيات, قال سمعان زيلوطس, معلقاً على إحدى أقوال يسوع: "يا سيد, ماذا عنيت عندما قلت اليوم بأن كثيرين من أولاد العالَم هم أكثر حكمة في جيلهم من أولاد الملكوت بما أنهم بارعون في تكوين صداقة مع شيطان جشع الإثم؟" أجاب يسوع:
169:2.2 (1853.5) "بعض منكم, قبل أن تدخلوا الملكوت, كنتم بارعين جداً في التعامل مع زملائكم في العمل. إذا كنتم ظالمين وغالبًا ما تكونون غير منصفين, فقد كنتم مع ذلك حذرين وبعيدي النظر بحيث تعاملتم في أشغالكم بعين واحدة لربحكم الحالي وأمانكم المستقبلي. بالمثل يجب عليكم الآن أن ترتبوا حياتكم في الملكوت بحيث تزودون من أجل فرحكم الحالي بينما تتأكدون من استمتاعكم المستقبلي بالكنوز الموضوعة في السماء. إذا كنتم مجتهدين للغاية في تحقيق مكاسب لأنفسكم عندما تكونون في خدمة الذات, فلماذا يجب أن تُظهروا اجتهاداً أقل في كسب النفوس للملكوت بما أنكم الآن خدام أخوة الإنسان ووكلاء الله؟
169:2.3 (1853.6) "كلكم قد تتعلمون درساً من قصة رَجل ثري معَّين كان لديه وكيل أريب لكنه ظالم. هذا الوكيل لم يقمع عملاء سيده من أجل مكسبه الأناني فحسب, لكنه أيضاً أهدر وبدد أموال سيده بشكل مباشر. عندما بلغ كل هذا أخيراً أُذني سيده, دعا الوكيل أمامه وسأل عن معنى هذه الشائعات وطلب منه تقديم حساب فوري عن وكالته وأن يستعد لتسليم شؤون سيده إلى آخر.
169:2.4 (1853.7) "الآن هذا الوكيل غير المُخلِص بدأ يقول لنفسه: ’ماذا أفعل حيث إنني على وشك أن أفقد هذه الوكالة؟ ليس لدي قوة للحرث, وأخجل من التسول. أنا أعرف ماذا سأفعل للتأكد من أنه عندما أخرج من هذه الإدارة, سيتم الترحيب بي في منازل جميع الذين يتعاملون مع سيدي‘. وعند ذاك, داعياً كل من مديني سيده, قال للأول, ’بكم أنت مدين لسيدي؟‘ وأجاب هذا, ’بمائة مكيال من الزيت‘. عند ذاك قال الوكيل, خذ لوح ختم سندك, اجلس بسرعة, وقم بتغييره إلى خمسين. بعد ذلك قال لمدين آخر, كم عليك؟‘ فأجاب, ’مائة مكيال من الحنطة‘. فقال الوكيل, ’خذ صكك واكتب أربعين‘. وهذا ما فعله مع العديد من المدينين الآخرين. وهكذا سعى هذا الوكيل غير النزيه لجعل أصدقاء لنفسه بعد أن يكون قد سُرح من وكالته. حتى ربه وسيده, عندما علم بهذا لاحقاً, كان مضطراً للاعتراف بأن وكيله غير المخلص على الأقل قد أظهر فطنة في الأسلوب الذي سعى به ليزود من أجل أيام العوز والشدائد في المستقبل.
169:2.5 (1854.1) "وبهذه الطريقة يُظهر أبناء هذا العالَم أحياناً حكمة أكثر في استعدادهم للمستقبل أكثر مما يفعل أبناء النور. أقول لكم أنتم الذين تدعون أنكم تقتنون كنزاً في السماء: خذوا دروس من أولئك الذين يُصادقون سلطان جشع الإثم, وبالمثل دبروا معايشكم بحيث تصنعون صداقة أبدية مع قوى البر لكي, عندما تفشل كل الأشياء الأرضية, ستُستلَمون بفرح في المساكن الأبدية.
169:2.6 (1854.2) "أؤكد أن من كان مخلصًا في القليل سيكون كذلك مخْلِصاً في الكثير, بينما الذي هو غير بْار في القليل سيكون كذلك غير بْار في الكثير. إذا لم تُظهر بصيرة ونزاهة في شؤون هذا العالَم, كيف يمكنك أن تأمل أن تكون مخلصاً وحكيمًا عندما تكون مؤتمنًا على وكالة الثروات الحقيقية للملكوت السماوي؟ إذا لم تكن وكيلاً صالحاً ومصرفياً مخْلصاً, إذا لم تكن مخلصاً في ما يخص آخر, فمن سيكون أحمقاً بما يكفي ليمنحك كنزاً عظيماً باسمك؟
169:2.7 (1854.3) "ومرة أخرى أؤكد أنه لا يمكن لأي إنسان أن يخدم سيدين؛ هو إما سيكره أحدهما ويحب الآخر, وإلا سيتمسك بأحدهما بينما يزدري الآخر. لا يمكنك أن تخدم الله وسلطان الجشع."
169:2.8 (1854.4) عندما سمع الفريسيون الذين كانوا حاضرين هذا, بدأوا في السخرية والاستهزاء لأنهم كانوا معطين كثيراً لاكتساب الثروات. لقد سعى هؤلاء المستمعون غير الودودين إلى إشراك يسوع في نقاش غير مربح, لكنه رفض الجدال مع أعدائه. عندما وقع الفريسون في الخلاف فيما بينهم, جذب كلامهم الصاخب أعداداً كبيرة من الجموع المخيمين على مقربة منهم؛ وعندما بدأوا يتنازعون بين بعضهم, انسحب يسوع, وذهب إلى خيمته من أجل الليل.
169:3.1 (1854.5) عندما أصبح الاجتماع صاخباً جداً, وقف سمعان بطرس وتولى زمام الأمور, قائلاً: "أيها الرجال والإخوة, ليس من اللائق النزاع بين بعضكم. لقد تكلم السيد, وتفعلون حسناً أن تتأملوا بكلماته. وهذا ليس مذهباً جديداً أعلنه لكم. ألم تسمعوا أيضًا القصة الرمزية للنصارى عن الرَجل الغني والمتسول؟ بعض منا سمع يوحنا المعمدان يرعد هذا المَثل تحذيراً لمن يحبون الغنى ويطمعون بالثروة غير الشريفة. وبينما لا يتوافق هذا المثل القديم مع الإنجيل الذي نعظه, فمن الأفضل لكم أن تكترثوا بدروسه حتى يحين الوقت عندما تستوعبون النور الجديد لملكوت السماء. القصة كما رواها يوحنا كانت مثل هذا:
169:3.2 (1854.6) "كان هناك رَجل ثري معين اسمه داﻴﭭس, كان يرتدي ثياباً أرجوانية والكتان الناعم, عاش في مرح وزهو كل يوم. وكان هناك متسول معين اسمه لِعازر, الذي استلقى عند بوابة هذا الرَجل الغني, مغطى بالقروح وراغب أن يُطعَم الفتات التي تسقط من مائدة الرَجل الغني؛ نعم, حتى الكلاب أتت ولعقت قروحه. وحدث أن المتسول مات وحملته الملائكة ليرتاح في حضن إبراهيم, وبعد ذلك, في الوقت الحاضر, مات هذا الرَجل الغني أيضاً ودُفن في موكب فخم وأبهة ملكية. عندما رحل الرَجل الغني من هذا العالَم, استيقظ في الجحيم, وواجد نفسه في عذاب, رفع عينيه وشاهد إبراهيم عن بُعد ولِعازر في حضنه. وعند ذلك صرخ داﻴﭭس بصوت عالٍ: ’أبونا إبراهيم, ارحمني وأرسل لِعازر ليغمس طرف إصبعه في الماء ليُبَّرد لساني, فأنا في كرب عظيم بسبب عقابي‘. وعندئذٍ أجاب إبراهيم: ’يا بني, يجب أن تتذكر بأنك استمتعت في حياتك بالأشياء الجيدة بينما عانى لِعازر الشر في أسلوب مماثل. لكن الآن تغَّير كل هذا, إذ ترى أن لِعازر مرتاح بينما أنت في عذاب. وإلى جانب ذلك, بيننا وبينك هوة كبيرة بحيث لا يمكننا أن نذهب إليك ولا أنت يمكنك المجيء إلينا‘. عند ذاك قال داﻴﭭس لإبراهيم: ’أتوسل أن تُعيد لِعازر إلى منزل أبي, حيث أن لي خمسة أخوة, بحيث يكون شاهداً ليمنع أخوتي من المجيء إلى مكان العذاب هذا‘. لكن إبراهيم قال: ’يا بني, لديهم موسى والأنبياء؛ فليسمعوهم‘. وعندئذٍ أجاب داﻴﭭس: ’لا, يا أبونا إبراهيم! لكن إذا ذهب إليهم واحد من الأموات, سيتوبون‘. عند ذلك قال إبراهيم: ’إذا لم يسمعوا موسى والأنبياء, فلن يقتنعوا حتى لو قام واحد من بين الأموات.‘"
169:3.3 (1855.1) بعد أن تلا بطرس هذا المَثل القديم للأخوة النصرانية, وحيث إن الجموع هدأت, قام أندراوس وصرفهم من أجل الليل. مع أن كِلا الرُسل وتلاميذه سألوا يسوع بشكل متكرر أسئلة حول مَثل داﻴﭭس ولِعازر, إلا أنه لم يوافق أبداً على الإدلاء بتعليق عليه.
169:4.1 (1855.2) كان لدى يسوع صعوبة دائماً في محاولة أن يشرح للرُسل أنه, بينما أعلنوا تأسيس ملكوت الله, فإن الأب في السماء لم يكن ملكاً. في الوقت الذي عاش فيه يسوع على الأرض وعلـَّم في الجسد, عرفت شعوب يورانشيا في الغالب بملوك وأباطرة في حكومات الأمم, وكان اليهود قد تأملوا منذ فترة طويلة في مجيء ملكوت الله. لهذه الأسباب وغيرها, فكـَّر السيد اأنه من لأفضل أن يُسمي الأخوة الروحية للإنسان على أنها ملكوت السماء والرأس الروحي لهذه الأخوة على أنه الأب في السماء. لم يشِر يسوع أبداً إلى أبيه كملك. في محادثاته الحميمة مع الرُسل دائماً أشار إلى نفسه على أنه ابن الإنسان وأخوهم الأكبر. لقد صَوَّر جميع أتباعه على أنهم خدام للبشرية ورُسل إنجيل الملكوت.
169:4.2 (1855.3) لم يعطي يسوع رُسله أبداً درسًا منهجيًا بشأن شخصية وصفات الأب في السماء. لم يطلب من الناس أبداً أن يؤمنوا بأبيه؛ سلم جدلاً بأنهم فعلوا. لم يقلل يسوع من شأن نفسه أبداً بتقديم الحجج لإثبات حقيقة الأب. تمحورت كل تعاليمه حول الأب في إعلان أنه والأب واحد؛ ان من رأى الابن فقد رأى الأب؛ بأن الأب, مثل الابن, يعرف كل الأشياء؛ وبأن الابن فقط يعرف الأب حقاً, والذي في الحقيقة سيكشفه الابن؛ بأن من يعرف الابن يعرف الأب أيضاً؛ وأن الأب أرسله إلى العالَم ليكشف طبيعتهما المُرَّكبة وليظهر عملهما المشترك. لم يصدر أي تصريحات أخرى عن أبيه أبداً ما عدا إلى المرأة السامرية عند بئر يعقوب, عندما أعلن أن, "الله هو روح."
169:4.3 (1856.1) أنت تتعلم عن الله من يسوع من خلال ملاحظة ألوهية حياته, وليس بالاعتماد على تعاليمه. من حياة السيد قد يستوعب كل منكم ذلك المفهوم عن الله الذي يمثل مقياس استطاعته لإدراك الحقائق الروحية والإلَهية, الحقائق الحقيقية والأبدية. لا يمكن للمتناهي أبداً أن يأمل في فهم اللانهائي إلا عندما يتبؤر اللانهائي في شخصية الزمان-الفضاء للتجربة المتناهية للحياة البشرية ليسوع الناصري.
169:4.4 (1856.2) كان يسوع يعلم جيدًا أنه لا يمكن معرفة الله إلا بحقائق التجربة؛ ولا يمكن أن يُفهم أبداً بمجرد تعليم العقل. علـَّم يسوع رُسله أنه, في حين أنهم لن يتمكنوا مطلقاً من فهم الله بشكل كامل, فإنهم يمكنهم معرفته بأكثر التأكيد, حتى كما عرفوا ابن الإنسان. أنت تقدر أن تعرف الله, ليس من خلال فهم ما قاله يسوع, لكن بمعرفة ماذا كان يسوع. كان يسوع وحيًا لله.
169:4.5 (1856.3) ما عدا عند الاستشهاد بالكتابات المقدسة العبرية, أشار يسوع إلى الإلَه بإسمين فقط: الله والأب. وعندما أشار السيد إلى أبيه باعتباره الله, كان عادة يوظف الكلمة العبرية الدالة على الله جمع (الثالوث) وليس كلمة يهوه, التي رمزت إلى المفهوم التدريجي لله القبلي لليهود.
169:4.6 (1856.4) لم يسمي يسوع الآب ملكاً أبداً, وأعرب عن أسفه الشديد لأن الأمل اليهودي باستعادة المملكة وإعلان يوحنا عن مملكة قادمة جعل من الضروري من أجله أن يسمي أخوته الروحية المقترحة ملكوت السماء. باستثناء واحد ــ التصريح بأن "الله هو روح" ــ لم يشِر يسوع أبداً إلى الإلَه بأي أسلوب آخر ما عدا في عبارات وصفية لعلاقته الشخصية مع المصدر والمركز الأول للفردوس.
169:4.7 (1856.5) استخدم يسوع كلمة الله لتدل على فكرة الإلَه وكلمة الأب لتدل على تجربة معرفة الله. عندما يتم استخدام كلمة الأب للدلالة على الله, يجب أن تكون مفهومة بأكبر معنى ممكن لها. لا يمكن أبداً تعريف كلمة الله وبالتالي فهي تمثل المفهوم اللانهائي للأب, في حين أن مصطلح الأب, كائن قادر على تعريف جزئي, يمكن استخدامه لتمثيل المفهوم البشري عن الأب الإلَهي كما هو مرتبط بالإنسان أثناء مسار الوجود الفاني.
169:4.8 (1856.6) بالنسبة لليهود, كان إلوهيم إله الآلهة, بينما كان يهوه إله إسرائيل. قَبـِل يسوع مفهوم الإلوهيم ودعا هذه المجموعة العليا من الكائنات الله. بدلاً من مفهوم يهوه, الإلَه العنصري, قـَّدم فكرة أبوة الله وأخوة الإنسان التي تعم العالَم. هو رفع مفهوم يهوه للأب العنصري المؤَّلَه إلى فكرة الأب لجميع أبناء الناس, أب إلَهي للمؤمن الفرد. وعلـَّم كذلك بأن إله الأكوان هذا وهذا الأب لكل الناس كانا واحداً ونفس الإلَه الفردوسي.
169:4.9 (1856.7) لم يَدَّعي يسوع أبداً أنه تجلي الإلوهيم (الله) في الجسد. لم يعلن أبداً أنه كان وحيًا للإلوهيم (الله) للعالمين. لم يُعَّلم أبداً بأن من رآه قد رأى إلوهيم (الله). لكنه أعلن نفسه باعتباره وَحي الأب في الجسد, وقال أن كل مَن رآه قد رأى الأب. بصفته الابن الإلَهي ادعى أنه يمثل الأب فقط.
169:4.10 (1857.1) هو كان, حقاً, الابن حتى لله الإلوهيم؛ لكن في شبه الجسد الفاني وإلى أبناء الله الفانين, اختار أن يقتصر وَحي حياته على تصوير طبع الأب بقدر ما يمكن أن يكون هذا الوحي مفهوماً للإنسان الفاني. فيما يتعلق بطبع الأشخاص الآخرين لثالوث الفردوس, علينا أن نكتفي بالتعليم بأنهم تمامًا مثل الأب, الذي تم الكشف عنه في تصوير شخصي في حياة ابنه المتجسد, يسوع الناصري.
169:4.11 (1857.2) مع أن يسوع كشف الطبيعة الحقيقية للأب السماوي في حياته الأرضية, إلا أنه لم يعلّم عنه سوى القليل. في الواقع, لقد علـَّم شيئين فقط: بأن الله في حد ذاته هو روح, وبأنه في كل أمور العلاقة مع مخلوقاته, هو أب. في هذه الأمسية أعلن يسوع التصريح الأخير عن علاقته بالله عندما قال: "لقد خرجت من الأب, وأتيت إلى العالَم؛ ومرة أخرى, سأترك العالَم وأذهب إلى الأب."
169:4.12 (1857.3) لكن ضع علامة! لم يقل يسوع أبداً, "من سمعني فقد سمع الله." لكنه قال, "مَن رآني فقد رأى الأب." إن سماع تعليم يسوع ليس معادلاً إلى معرفة الله, لكن رؤية يسوع هي تجربة التي هي في حد ذاتها وَحي من الله إلى النفـْس. إله الأكوان يحكم الخليقة البعيدة المدى, لكن الأب في السماء هو الذي يُرسل روحه لتسكن في عقولكم.
169:4.13 (1857.4) يسوع هو العدسة الروحية في الشبه البشري الذي يجعل مرئياً للمخلوق المادي ما لا يُرى. هو أخوكم الأكبر الذي, في الجسد, يجعل معروفاً إليكم كائناً ذا سجايا لانهائية الذي حتى الجيوش السماوية لا يمكنها ادعاء فهمه تماماً. لكن كل هذا يجب أن يتكون في التجربة الشخصية للفرد المؤمن. الله الذي هو روح يمكن معرفته فقط كتجربة روحية. الله يُمكن أن يُكشف لأبناء العوالم المادية المتناهيين, بواسطة الابن الإلَهي للعوالم الروحية, فقط كأب, يمكنك أن تعرف الأبدي كأب؛ يمكنك أن تعبده باعتباره إله الأكوان, الخالق اللامتناهي لكل الوجودات.
كِتاب يورانشيا
ورقة 170
170:0.1 (1858.1) بعد ظهر يوم السبت, 11 آذار, وعظ يسوع خطبته الأخيرة في بـِلا. كانت هذه من بين الخطابات البارزة في إسعافه العام, التي ضمت مناقشة كاملة وتامة عن ملكوت السماء. كان مدركاً للارتباك الذي ساد في أذهان رُسله وتلاميذه فيما يتعلق بمعنى وأهمية مصطلحات "ملكوت السماء" و "ملكوت الله", التي استخدمها كدلالات قابلة للتبادل لمهمة إغداقه. على الرغم من أن مصطلح ملكوت السماء كان يجب أن يكون كافياً لفصل ما يمثله عن كل علاقة مع الممالك الأرضية والحكومات الدنيوية, إلا أنه لم يكن كذلك. كانت الفكرة عن ملك دنيوي عميقة الجذور في العقل اليهودي بالتالي ليتم إزاحتها هكذا في جيل واحد. لذلك لم يعارض يسوع علانية في البداية هذا المفهوم المُغذى منذ فترة طويلة عن الملكوت.
170:0.2 (1858.2) بعد ظُهر يوم السبت هذا سعى السيد لتوضيح التعليم عن ملكوت السماء؛ ناقش الموضوع من كل وجهة نظر وسعى لتوضيح العديد من المعاني المختلفة التي استُخدم فيها المصطلح. في هذا السرد سنقوم بتضخيم الخطاب بإضافة العديد من العبارات التي أدلى بها يسوع في المناسبات السابقة وبتضمين بعض الملاحظات التي تم الإدلاء بها فقط إلى الرُسل أثناء مناقشات أمسية نفس هذا اليوم. سنقوم أيضًا بإبداء بعض التعليقات التي تتناول التنفيذ اللاحق لفكرة الملكوت كما تتعلق بالكنيسة المسيحية اللاحقة.
170:1.1 (1858.3) فيما يتعلق بتلاوة عظة يسوع, تجدر الإشارة إلى أنه في جميع أنحاء الكتابات المقدسة العبرية كان هناك مفهوم مزدوج لملكوت السماء. قـَّدم الأنبياء ملكوت الله على النحو التالي:
170:1.2 (1858.4) 1. واقع حاضر؛ ومثل.
170:1.3 (1858.5) 2. رجاء مستقبلي ــ عندما سيتحقق الملكوت بالكامل عند ظهور المسيح. هذا هو مفهوم الملكوت الذي علـَّمه يوحنا المعمدان.
170:1.4 (1858.6) من أول البداية علـَّم يسوع والرُسل كِلا هذين المفهومين. كان هناك فِكَرتان أخريان عن الملكوت يجب أن تُؤخذ في الإعتبار:
170:1.5 (1858.7) 3. المفهوم اليهودي اللاحق عن ملكوت عالمي ومتعالي ذا أصل خارق وتنصيب عجائبي.
170:1.6 (1858.8) 4. التعاليم الفارسية التي تصور تأسيس الملكوت الإلَهي على أنه تحقيق انتصار الخير على الشر عند نهاية العالَم.
170:1.7 (1858.9) مباشرة قبل مجيء يسوع على الأرض, دمج اليهود وخلطوا بين كل هذه الأفكار عن الملكوت في مفهومهم الرؤيوي عن مجيء المسيح لتأسيس عصر الانتصار اليهودي, العصر الأبدي لحكم الله السامي على الأرض, العالَم الجديد, العهد الذي تعبد فيه البشرية جمعاء يهوه. في اختيار استخدام هذا المفهوم لملكوت السماء, اختار يسوع أن يُناسب بين التراث الأكثر حيوية والبالغ ذروته لكل من الديانتين اليهودية والفارسية.
170:1.8 (1859.1) ملكوت السماء, كما فُهم وأسيء فهمه عبر قرون العهد المسيحي, احتضن أربع مجموعات متميزة من الأفكار.
170:1.9 (1859.2) 1. مفهوم اليهود.
170:1.10 (1859.3) 2. مفهوم الفُرس.
170:1.11 (1859.4) 3. مفهوم التجربة الشخصية ليسوع ــ "ملكوت السماء بداخلك."
170:1.12 (1859.5) 4. المفاهيم المُرَّكَبة والمربكة التي سعى مؤسسو المسيحية ومعلنوها لتأثيرها على العالَم.
170:1.13 (1859.6) في أوقات مختلفة وفي ظروف متغيرة قد يبدو أن يسوع قدَّم العديد من المفاهيم عن "الملكوت" في تعاليمه العامة, لكن بالنسبة لرُسله دائماً علـَّم الملكوت على أنه يحتضن تجربة الإنسان الشخصية فيما يتعلق بزملائه على الأرض والأب في السماء. بما يخص الملكوت, كانت كلمته الأخيرة دائماً, "الملكوت في داخلك."
170:1.14 (1859.7) قرون من الالتباس بشأن معنى مصطلح "ملكوت السماء" ترجع إلى ثلاثة عوامل:
170:1.15 (1859.8) 1. الارتباك الناجم عن ملاحظة فكرة "الملكوت" كما مرت خلال المراحل التقدمية المختلفة لإعادة صياغتها من قبل يسوع ورُسله.
170:1.16 (1859.9) 2. الارتباك الذي كان لا بد أن يرافق نقل المسيحية المبكرة من تربة يهودية إلى تربة أممية.
170:1.17 (1859.10) 3. الارتباك الذي كان متأصلاً في حقيقة أن المسيحية أصبحت دِيناً تم تنظيمه حول الفكرة المركزية لشخص يسوع؛ أصبح إنجيل الملكوت أكثر فأكثر دِيناً عنه.
170:2.1 (1859.11) أوضح السيد بأن ملكوت السماء يجب أن يبدأ مع, ويتركز في, المفهوم المزدوج لحقيقة أبوة الله والحقيقة المرتبطة بأخوة الإنسان. أعلن يسوع, أن قبول مثل هذا التعليم, من شأنه أن يحرر الإنسان من عبودية الخوف الحيواني التي طال أمدها وفي نفس الوقت يثري حياة الإنسان بالمعطيات التالية من الحياة الجديدة للحرية الروحية:
170:2.2 (1859.12) 1. امتلاك شجاعة جديدة وقدرة روحية مُعززة. وُضِعَ إنجيل الملكوت ليحرر الإنسان ويلهمه للتجرؤ على الأمل في الحياة الأبدية.
170:2.3 (1859.13) 2. حمل الإنجيل رسالة ثقة جديدة وعزاء حقيقي لجميع الناس, حتى للفقراء.
170:2.4 (1859.14) 3. كان في حد ذاته معياراً جديداً للقيم الأخلاقية, ومقياسًا أخلاقيًا جديدًا لقياس السلوك البشري. لقد صَّور المثل الأعلى للنظام الجديد الناتج عن المجتمع البشري.
170:2.5 (1859.15) 4. لقد علـَّم تفوق الروحي مقارنة بالمادي؛ مجَّد الحقائق الروحية ورفع المُثل البشرية الفائقة.
170:2.6 (1860.1) 5. رفع هذا الإنجيل الجديد الإحراز الروحي كالهدف الحقيقي للعيش. تلقت الحياة البشرية هبة جديدة من القيمة الأخلاقية والكرامة الإلهية.
170:2.7 (1860.2) 6. علـَّم يسوع بأن الحقائق الأبدية كانت نتيجة (ثواب) الكفاح الدنيوي البْار. اكتسبت إقامة الإنسان الفاني على الأرض معاني جديدة مترتبة على التعرف على المصير النبيل.
170:2.8 (1860.3) 7. أكد الإنجيل الجديد أن خلاص الإنسان هو إعلان لهدف إلَهي بعيد المدى سيكتمل ويتحقق في المصير المستقبلي للخدمة غير المنتهية لأبناء الله الذين تم إنقاذهم.
170:2.9 (1860.4) تغطي هذه التعاليم الفكرة الموسعة للملكوت التي علمها يسوع. بالكاد تم تبني هذا المفهوم العظيم في تعاليم الملكوت الأولية والمرتبكة ليوحنا المعمدان.
170:2.10 (1860.5) لم يكن الرُسل قادرين على فهم المعنى الحقيقي لأقوال السيد فيما يتعلق بالملكوت. يعود التحريف اللاحق لتعاليم يسوع, كما هو مسجل في العهد الجديد, إلى أن مفهوم كُتـّاب الإنجيل قد تم تلوينه بالاعتقاد بأن يسوع كان حينها غائباً عن العالَم لفترة قصيرة فقط؛ وبأنه سيعود قريباً ليؤسس الملكوت في قدرة ومجد ــ تمامًا مثل هذه الفكرة كالتي تمسكوا بها بينما كان معهم في الجسد. لكن يسوع لم يربط تأسيس الملكوت مع فكرة عودته إلى هذا العالَم. بأن قرون قد مرت بدون أي علامات لظهور "العهد الجديد" ليست بأي حال من الأحوال خارجة عن الانسجام مع تعليم يسوع.
170:2.11 (1860.6) كان الجهد العظيم المتجسد في هذه الموعظة هو محاولة ترجمة مفهوم ملكوت السماء إلى المثال الأعلى لفكرة فعل مشيئة الله. لطالما علـَّم السيد أتباعه أن يصَّلوا: "ليأتي ملكوتك؛ لتكن مشيئتك"؛ وفي هذا الوقت سعى بكد لحثهم على التخلي عن استخدام مصطلح ملكوت الله لصالح معادل عملي أكثر, مشيئة الله. لكنه لم ينجح.
170:2.12 (1860.7) رغب يسوع أن يستبدل فكرة الملكوت, والملك, والرعايا, مفهوم العائلة السماوية, والأب السماوي, وأبناء الله المتحررين المنشغلين في خدمة بهيجة وطوعية من أجل زملائهم الناس وفي العبادة السامية والذكية لله الأب.
170:2.13 (1860.8) حتى هذا الوقت كان الرُسل قد اكتسبوا وجهة نظر مزدوجة للملكوت؛ واعتبروه على أنه:
170:2.14 (1860.9) 1. مسألة تجربة شخصية موجودة آنذاك في قلوب المؤمنين الحقيقيين. و
170:2.15 (1860.10) 2. مسألة ظواهر عرقية أو عالمية؛ أن الملكوت كان في المستقبل, شيء ما للتطلع إليه.
170:2.16 (1860.11) تطلعوا على مجيء الملكوت في قلوب الناس على أنه تطور تدريجي, مثل الخميرة في العجين أو مثل نمو حبة الخردل. اعتقدوا بأن مجيء الملكوت في المغزى العرقي أو العالمي سيكون مفاجئاً ومذهلاً على حد سواء. لم يكل يسوع أبداً من إخبارهم بأن ملكوت السماء كان تجربتهم الشخصية في تحقيق أعلى صِفات العيش الروحي؛ بأن هذه الحقائق من التجربة الروحية تُترجَم تدريجياً إلى مستويات جديدة وأعلى من اليقين الإلَهي والعظمة الأبدية.
170:2.17 (1860.12) في عصر هذا اليوم علـَّم السيد بوضوح مفهوماً جديداً للطبيعة المزدوجة للملكوت من حيث أنه صَّور المرحلتين التاليتين:
170:2.18 (1860.13) "أولاً. ملكوت الله في هذا العالَم, الرغبة السامية لفعل مشيئة الله, المحبة اللا-أنانية للإنسان التي تنتج ثماراً صالحة من السلوك الأدبي والأخلاقي المُحَّسَ.
170:2.19 (1861.1) "ثانياً. ملكوت الله في السماء, هدف المؤمنين الفانين, الحالة التي تصبح فيها محبة الله مُكملة, والتي تُفعل فيها مشيئة الله يشكل أكثر إلهية."
170:2.20 (1861.2) علـَّم يسوع أنه, بالإيمان, يدخل المؤمن الملكوت الآن. في مختلف المحاضرات علـَّم أن أمرين أساسيين للدخول بإيمان إلى الملكوت:
170:2.21 (1861.3) 1. إيمان, إخلاص. للمجيء كطفل صغير, لاستلام إغداق البنوة كهدية؛ الخضوع لفعل مشيئة الأب دون تساؤل وفي ثقة كاملة واستئمان حقيقي لحكمة الأب؛ للمجيء نحو الملكوت حراً من التحيز والتصور المُسبق, أن يكون منفتح العقل وقابلاً للتعلم مثل طفل غير ملوث.
170:2.22 (1861.4) 2. الجوع من أجل الحق. التعطش إلى البر, تغيير الفكر, اكتساب الدافع ليكون مثل الله وليجد الله.
170:2.23 (1861.5) علـَّم يسوع بأن الخطيئة ليست وليدة طبيعة معيبة بل بالأحرى خليفة عقل عارف تهيمن عليه مشيئة غير خاضعة. فيما يتعلق بالخطيئة, علـَّم بأن الله قد غفر؛ بأن نجعل مثل هذا الغفران متاحًا شخصياً من خلال فعل مسامحة زملائنا. عندما تغفر لأخيك في الجسد, فأنت بذلك تخلق في نفسك القدرة لاستلام حقيقة مغفرة الله لآثامك الخاصة.
170:2.24 (1861.6) بحلول الوقت الذي بدأ فيه الرسول يوحنا في كتابة قصة حياة يسوع وتعاليمه, كان المسيحيون المبكرون قد عانوا الكثير من المتاعب مع فكرة ملكوت الله كمنتجة للاضطهاد بحيث تخلوا إلى حد كبير عن استخدام المصطلح. يتكلم يوحنا كثيراً عن "الحياة الأبدية". تكلم يسوع غالباً عنها على أنها "ملكوت الحياة." كما أشار مراراً إلى "ملكوت الله في داخلك." تكلم ذات مرة عن تلك التجربة مثل, "زمالة عائلية مع الله الأب." سعى يسوع إلى استبدال العديد من المصطلحات للملكوت ولكن دائما دون جدوى. استخدم, من بين أمور أخرى: عائلة الله, ومشيئة الأب, وأصدقاء الله, وزمالة المؤمنين, وأخوة الإنسان, وحظيرة الأب, وأولاد الله, وزمالة المؤمنين, وخدمة الأب, وأبناء الله المحررين.
170:2.25 (1861.7) لكنه لم يتمكن من الإفلات من استخدام فكرة الملكوت. لقد كان بعد أكثر من خمسين سنة فيما بعد, ليس حتى بعد دمار أورشليم من قِبل الجيوش الرومانية, حينما بدأ هذا المفهوم عن الملكوت بالتحول إلى عقيدة الحياة الأبدية عندما تم الإستيلاء على جوانبه الاجتماعية والمؤسسية بالكنيسة المسيحية المتبلورة والمتوسعة بسرعة.
170:3.1 (1861.8) كان يسوع يحاول دائماً أن يؤثر على رُسله وتلاميذه بأنهم يجب أن يكتسبوا, بالإيمان, برًا يفوق بر العمل الاستعبادي الذي يعرضه بعض من الكتبة والفريسيين بغاية الغرور أمام العالَم.
170:3.2 (1861.9) على الرغم من أن يسوع علم أن الإيمان, الإيمان الطفولي البسيط, هو مفتاح باب الملكوت, فقد علـَّم أيضاً بأنه, حيث دخلت الباب, هناك خطوات تقدمية من البر يجب على كل ولد مؤمن أن يرتقيها من أجل أن ينمو إلى المكانة الكاملة لأبناء الله الأقوياء.
170:3.3 (1861.10) إنه في اعتبار أسلوب استلام غفران الله بأنه يتم الكشف عن بلوغ بر الملكوت. الإيمان هو الثمن الذي تدفعه مقابل الدخول إلى عائلة الله؛ لكن الغفران هو عمل الله الذي يقبل إيمانك كثمن السماح بالدخول. واستلام غفران الله بمؤمن الملكوت ينطوي على تجربة محددة وحقيقية ويتألف في الخطوات الأربع التالية, خطوات الملكوت من البر الداخلي:
170:3.4 (1862.1) 1. غفران الله يُجعل متوفراً فعلياً ويُختبَر شخصياً بالإنسان تماماً بقدر ما يسامح زملائه.
170:3.5 (1862.2) 2. الإنسان لن يسامح زملائه حقاً إلا إذا أحبهم مثل نفسه.
170:3.6 (1862.3) 3. أن تحب جارك مثل نفسك هو أعلى الآداب.
170:3.7 (1862.4) 4. السلوك الأخلاقي, البر الحقيقي, يُصبحان, إذَاً, النتيجة الطبيعية لمثل هذه المحبة.
170:3.8 (1862.5) من الواضح إذن أن الدين الحقيقي والداخلي للملكوت يميل دون كلل وبشكل متزايد إلى إظهار نفسه في السُبل العملية للخدمة الاجتماعية. علـَّم يسوع دِيناً حياً دفع المؤمنين به إلى الانخراط في خدمة المحبة. لكن يسوع لم يضع الآداب في مكان الدِين. علـَّم الدِين كمسبب والآداب كحاصل لذلك.
170:3.9 (1862.6) يجب أن يُقاس بر أي فعل بالدافع؛ لذلك فإن أعلى أشكال الخير هي لا واعية. لم يكن يسوع مهتماً أبداً بالأخلاق أو الآداب على هذا النحو. كان مهتماً كلياً بتلك الزمالة الداخلية والروحية مع الله الأب التي تـتجلى بكل تأكيد وبشكل مباشر كخدمة ظاهرية ومحبة للإنسان. علـَّم بأن دِين الملكوت هو تجربة شخصية أصلية لا يمكن لأحد أن يحتويها داخل نفسه؛ بأن الوعي بالانتماء إلى عائلة المؤمنين لا بد أن يقود إلى ممارسة مباديء السلوك العائلي, الخدمة لإخوة وأخوات المرء في محاولة تعزيز وتوسيع الأخوة.
170:3.10 (1862.7) دِين الملكوت شخصي, فردي؛ الثمار, النتائج, هي عائلية, اجتماعية. لم يفشل يسوع أبداً في تمجيد قدسية الفرد كما تتباين مع المجتمع. لكنه أدرك أيضاً بأن الإنسان يُطور طبعه بالخدمة اللا-أنانية؛ بأنه يكشف طبيعته الأخلاقية في علاقات مُحبة مع زملائه.
170:3.11 (1862.8) من خلال التعليم بأن الملكوت في الداخل, من خلال تمجيد الفرد, سدد يسوع ضربة قاضية للمجتمع القديم من حيث أنه دل على الافتقاد الإلَهي الجديد للبر الاجتماعي الحقيقي. هذا النظام الجديد للمجتمع قد عرف العالَم قليلاً عنه لأنه رفض أن يمارس مبادئ إنجيل ملكوت السماء. وعندما يأتي ملكوت التفوق الروحي هذا على الأرض, فلن يتجلى في مجرد ظروف مادية واجتماعية محَّسنة, لكن بالأحرى في أمجاد تلك القيم الروحية المعززة والمخصبة التي تميز العصر المقترب لعلاقات إنسانية مُحَّسنة وإنجازات روحية متقدمة.
170:4.1 (1862.9) لم يعطِ يسوع أبداً تعريفاً دقيقاً للملكوت. في وقت ما كان يحاضر على طور ما من أطوار الملكوت, وفي وقت آخر يناقش جانباً مختلفاً من أخوّة ملك الله في قلوب الناس. في سياق عظة بعد ظـُهر يوم السبت هذا أشار يسوع إلى ما لا يقل عن خمسة أطوار, أو عهود, للملكوت, وهذه كانت:
170:4.2 (1862.10) 1. التجربة الشخصية والداخلية للحياة الروحية لزمالة الفرد المؤمن مع الله الأب.
170:4.3 (1863.1) 2. الأخوة الموَّسَعة لمؤمني الإنجيل, الجوانب الاجتماعية للأخلاق المُعززة والآداب المُسَّرَعة الناتجة عن حُكم روح الله في قلوب المؤمنين الأفراد.
170:4.4 (1863.2) 3. الأخوة الفائقة للكائنات الروحية غير المرئية التي تسود على الأرض وفي السماء, ملكوت الله الفائق.
170:4.5 (1863.3) 4. احتمالية تحقيق أكثر كمالاً لمشيئة الله, التقدم نحو فجر نظام اجتماعي جديد مرتبط بالعلاقة الروحية المُحَّسَنة ــ العصر التالي للإنسان.
170:4.6 (1863.4) 5. الملكوت في ملئه, العصر الروحي المستقبلي للنور والحياة على الأرض.
170:4.7 (1863.5) لأجل ذلك يجب أن نفحص دائماً تعليم السيد لنتحقق إلى أي من هذه الأطوار الخمسة قد يشير عندما يستخدم مصطلح ملكوت السماء. بهذه العملية من تغيير مشيئة الإنسان بالتدريج وبالتالي التأثير على القرارات البشرية, فإن ميخائيل ورفاقه يُغيرون بالمماثلة وبشكل تدريجي إنما بالتأكيد كامل مجرى التطور البشري, الاجتماعي وسوى ذلك.
170:4.8 (1863.6) أكد السيد في هذه المناسبة على النقاط الخمس التالية باعتبارها تمثل السمات الأساسية لإنجيل الملكوت:
170:4.9 (1863.7) 1. رفعة شأن الفرد.
170:4.10 (1863.8) 2. المشيئة كعامل حاسم في تجربة الإنسان.
170:4.11 (1863.9) 3. الزمالة الروحية مع الله الأب.
170:4.12 (1863.10) 4. الرضاءات السامية لخدمة الإنسان المُحبة.
170:4.13 (1863.11) 5. سمو الروحاني على المادي في الشخصية البشرية.
170:4.14 (1863.12) لم يجرب هذا العالَم أبداً بجدية أو بإخلاص أو بصدق هذه الأفكار الديناميكية والمُثل الإلَهية لعقيدة يسوع عن ملكوت السماء. لكن لا يجب أن تصبحوا مثبطي العزم بسبب التقدم البطيء على ما يبدو لفكرة الملكوت على يورانشيا. تذكروا بأن نظام التطور التقدمي خاضع لتغييرات دَورية مفاجئة وغير متوقعة في كل من العوالم المادية والروحية. كان إغداق يسوع كابن متجسد بالضبط هكذا حدث غريب وغير متوقع في الحياة الروحية للعالَم. ولا ترتكبوا الخطأ الفادح, في التطلع من أجل تجلي العصر للملكوت, الفشل في إدخال تأسيسه حيز التنفيذ في نفوسكم الخاصة.
170:4.15 (1863.13) مع أن يسوع أشار إلى طور واحد من الملكوت إلى المستقبل, وفي مناسبات عديدة, أشار إلى أن مثل هذا الحدث قد يظهر كجزء من أزمة عالمية؛ ولو إنه وعد بالمِثل بأكثر التأكيد, في عدة مناسبات, بالعودة قطعاً يوماً ما إلى يورانشيا, إلا أنه ينبغي أن يُسجل بأنه لم يربط أبداً هاتين الفكرتين معاً بشكل حتمي. لقد وعد بإعلان جديد للملكوت على الأرض وفي وقت ما في المستقبل؛ كما وعد في وقت ما بالعودة إلى هذا العالَم شخصياً؛ لكنه لم يقل بأن هذين الحدثين كانا مترادفين. من كل ما نعرفه قد تشير هذه الوعود, أو لا تشير, إلى نفس الحدث.
170:4.16 (1863.14) رُسله وتلاميذه بأكثر التأكيد ربطوا هذين التعليمين معاً. عندما فشل الملكوت في أن يتحقق مادياً كما توقعوا, متذكرين تعليم السيد بشأن الملكوت المستقبلي ومتذكرين وعده بالمجيء مرة أخرى, قفزوا إلى الاستنتاج بأن هذه الوعود تشير إلى حدث مماثل؛ وبالتالي عاشوا على أمل مجيئه الثاني الفوري ليؤسس الملكوت في ملئه وبقوة ومجد. وهكذا عاشت أجيال مؤمنة متعاقبة على الأرض محتفية بنفس الأمل الملهم إنما المخيب للآمال.
170:5.1 (1864.1) حيث إننا قد لخصنا تعاليم يسوع عن ملكوت السماء, يُسمح لنا برواية بعض الأفكار اللاحقة التي أصبحت مُرتبطة بمفهوم الملكوت وأن ننشغل في تكهن تنبؤي عن الملكوت كما قد يتطور في العصر الآتي.
170:5.2 (1864.2) في كل أثناء القرون الأولى من الدعاية المسيحية, كانت فكرة ملكوت السماء متأثرة بشكل كبير بمفاهيم المثالية اليونانية التي انتشرت بسرعة آنذاك, فكرة الطبيعي كظل للروحي ــ الدنيوي كالظل الزمني للأبدية.
170:5.3 (1864.3) لكن الخطوة الكبرى التي ميزت ازدراع تعاليم يسوع من تربة يهودية إلى تربة أممية تم اتخاذها عندما أصبح مسيح الملكوت هو المخلص للكنيسة, تنظيم دِيني واجتماعي نشأ من نشاطات بولس وخلفائه واستنادًا إلى تعاليم يسوع كما تم استكمالها بأفكار فيلو والعقائد الفارسية عن الخير والشر.
170:5.4 (1864.4) أفكار ومُثل يسوع, المُجسدة في تعليم إنجيل الملكوت, فشلت تقريباً في أن تُدرَك لأن أتباعه شوهوا تصريحاته بشكل تدريجي. مفهوم السيد عن الملكوت تم تعديله بشكل ملحوظ من خلال اتجاهين كبيرين:
170:5.5 (1864.5) 1. أصر المؤمنون اليهود على اعتباره المسيح. لقد اعتقدوا بأن يسوع سيعود قريباً جداً ليؤسس ملكوتاً فعلياً عالمياً وإلى حد ما مادي.
170:5.6 (1864.6) 2. بدأ المسيحيون الأمميون في وقت مبكر جداً بقبول تعاليم بولس, مما أدى بشكل متزايد إلى الإعتقاد العام بأن يسوع كان الفادي لأبناء الكنيسة, الخليفة الجديد والمؤسسي للمفهوم الأبكر عن الأخوة الروحية البحتة للملكوت.
170:5.7 (1864.7) الكنيسة, كناتج اجتماعي للملكوت, كان يمكن أن تكون طبيعية بالكامل وحتى مرغوبة. شر الكنيسة لم يكن وجودها, بل بالأحرى بأنها تقريباً حلت محل مفهوم يسوع عن الملكوت بالكامل. أصبحت كنيسة بولس المؤسسية بديلاً افتراضيًا لملكوت السماء الذي أعلنه يسوع.
170:5.8 (1864.8) لكن لا تشك, أن ملكوت السماء هذا ذاته الذي علـَّمه السيد يتواجد داخل قلب المؤمن, ما زال سيُعلن بعد لهذه الكنيسة المسيحية كما إلى كل الأديان, والأجناس, والأمم الأخرى على الأرض ــ حتى لكل فرد.
170:5.9 (1864.9) ملكوت تعليم يسوع, المثال الروحي للبر الفردي ومفهوم زمالة الإنسان الإلَهية مع الله, أصبح مغموراً بالتدريج في المفهوم الباطني لشخص يسوع باعتباره الخالق الفادي والرئيس الروحي لمجتمع دِيني اجتماعي. بهذه الطريقة أصبحت الكنيسة الرسمية والمؤسسية بديلاً عن أخوة الملكوت الذي يقوده الروح بشكل فردي.
170:5.10 (1864.10) كانت الكنيسة الحاصل الاجتماعي الحتمي والمفيد لحياة يسوع وتعاليمه؛ تألفت المأساة في حقيقة أن رد الفعل الاجتماعي هذا إلى تعاليم الملكوت حل كلياً محل المفهوم الروحي للملكوت الحقيقي كما علـَّمه يسوع وعاشه.
170:5.11 (1865.1) كان الملكوت, لليهود, هو المجتمع الإسرائيلي؛ بالنسبة إلى الأمميين أصبح الكنيسة المسيحية. بالنسبة إلى يسوع, كان الملكوت مجموع أولئك الأفراد الذين أقـَّروا بإيمانهم بأبوة الله, بهذا معلنين تكريسهم من كل القلب لفعل مشيئة الله, بالتالي مصبحين أعضاء في أخوة الإنسان الروحية.
170:5.12 (1865.2) أدرك السيد تماماً بأن بعض النتائج الاجتماعية ستظهر في العالَم نتيجة لانتشار إنجيل الملكوت؛ لكنه قصد بأن تظهر كل هذه التجليات الاجتماعية المرغوبة على أنها نواتج لا واعية وحتمية, أو ثمار طبيعية, لهذه التجربة الشخصية الداخلية للمؤمنين الأفراد, هذه الزمالة الروحية البحتة والتواصل مع الروح الإلَهي الذي يسكن وينَّشط كل هكذا مؤمنين.
170:5.13 (1865.3) تنبأ يسوع بأن تنظيماً اجتماعياً, أو كنيسة سيتبعان تقدم الملكوت الروحي الحقيقي, ولذلك السبب لم يعارض أبداً ممارسة الرُسل لطقوس معمودية يوحنا. علـَّم بأن النفـْس المحبة للحق, التي تجوع وتتعطش إلى البر, من أجل الله, سيُسمح لها بالدخول بالإيمان إلى الملكوت الروحي؛ في الوقت نفسه علـَّم الرُسل بأن مثل هذا المؤمن يُسمح له بالدخول إلى التنظيم الاجتماعي للتلاميذ من خلال طقس المعمودية الخارجي.
170:5.14 (1865.4) عندما أدرك أتباع يسوع المباشرين إخفاقهم الجزئي في إدراك مثاله عن تأسيس الملكوت في قلوب الناس من خلال هيمنة وإرشاد الروح للمؤمن الفرد, شرعوا في إنقاذ تعليمه من أن يُخسر كلياً باستبدال مثال السيد عن الملكوت بالإنشاء التدريجي لتنظيم اجتماعي مرئي, الكنيسة المسيحية. وعندما أنجزوا برنامج الاستبدال هذا, من أجل الحفاظ على الإتساق وللتزويد من أجل التعرف على تعليم السيد فيما يتعلق بحقيقة الملكوت, شرعوا في إطلاق الملكوت نحو المستقبل. الكنيسة, بمجرد أن تأسست جيداً, بدأت في تعليم أن الملكوت كان في الواقع سيظهر عند ذروة العصر المسيحي, عند المجيء الثاني للمسيح.
170:5.15 (1865.5) بهذه الطريقة أصبح الملكوت مفهوم عصر, فكرة زيارة مستقبلية, ومثال الافتداء النهائي لقديسي العلي. لقد فقد المسيحيون الأوائل (وكثير جداً من الذين أتوا فيما بعد) عموماً الرؤية عن فكرة الأب والابن المجسدة في تعليم يسوع عن الملكوت, بينما استبدلوا من أجل ذلك الزمالة الاجتماعية الحسنة التنظيم للكنيسة. بهذا أصبحت الكنيسة في صميمها أخوة اجتماعية حلـَّت بفعالية محل مفهوم يسوع ومثاله عن الأخوة الروحية.
170:5.16 (1865.6) مفهوم يسوع المثالي فشل إلى حد كبير, لكن على أساس حياة السيد الشخصية وتعاليمه, مضاف إليها المفاهيم اليونانية والفارسية عن الحياة الأبدية ومُزاد عليها عقيدة فيلو عن الدنيوي بالتباين مع الروحي, انطلق بولس ليبني إحدى المجتمعات البشرية الأكثر تقدماً التي وُجدت على الإطلاق على يورانشيا.
170:5.17 (1865.7) لا يزال مفهوم يسوع حياً في أديان العالَم المتقدمة. كنيسة بولس المسيحية هي الظل الاجتماعي والإنساني لما قصد يسوع أن يكون ملكوت السماء ــ وما لا يزال سيصبح بأكثر التأكيد. نقل بولس وخلفاؤه قضايا الحياة الأبدية جزئياً من الفرد إلى الكنيسة. أصبح المسيح بهذا رأس الكنيسة بدلاً من الأخ الأكبر لكل مؤمن فرد في عائلة ملكوت الأب. لقد طـَّبق بولس ومعاصروه جميع مضامين يسوع الروحية فيما يتعلق به وبشخص المؤمن الفرد إلى الكنيسة كجماعة من المؤمنين؛ وفي فعلهم هذا, سددوا ضربة قاضية إلى مفهوم يسوع عن الملكوت الإلَهي في قلب المؤمن الفرد.
170:5.18 (1866.1) وهكذا, على مدى قرون, عملت الكنيسة المسيحية تحت إحراج كبير لأنها تجرأت على المطالبة بتلك السلطات والامتيازات الغامضة للملكوت, سلطات وامتيازات التي يمكن ممارستها واختبارها فقط بين يسوع وإخوته المؤمنين الروحيين. وهكذا يتضح بأن العضوية في الكنيسة لا تعني بالضرورة زمالة في الملكوت؛ إحداهما روحية, والأخرى اجتماعية بشكل أساسي.
170:5.19 (1866.2) عاجلاً أم آجلاً من المُنتظر أن يظهر يوحنا معمدان آخر وأعظم معلناً أن "ملكوت الله في متناول اليد" ــ وهذا يعني العودة إلى المفهوم الروحي العالي ليسوع, الذي أعلن بأن الملكوت هو مشيئة أبيه السماوي مهيمنة ومتسامية في قلب المؤمن ــ وفاعل كل هذا دون الإشارة بأي شكل من الأشكال إما إلى الكنيسة المرئية على الأرض أو إلى المجيء الثاني المتوَقَع للمسيح. هناك يجب أن يأتي إحياء للتعاليم الفعلية ليسوع, إعادة صياغة التي ستؤدي إلى إبطال عمل أتباعه المبكرين الذين ذهبوا إلى إنشاء نظام اعتقاد فلسفي-اجتماعي يتعلق بواقع حلول ميخائيل على الأرض. في وقت قصير حل التعليم لهذه القصة عن يسوع تقريباً محل الوعظ عن إنجيل يسوع عن الملكوت. بهذه الطريقة حلت ديانة تاريخية محل ذلك التعليم الذي فيه مزج يسوع أعلى الأفكار الأخلاقية والمُثل الروحية للإنسان مع أسمى آمال الإنسان من أجل المستقبل ــ الحياة الأبدية. وذلك كان إنجيل الملكوت.
170:5.20 (1866.3) إنه بالضبط لأن إنجيل يسوع كان متعدد الجوانب جداً بحيث في غضون قرون قليلة أصبح تلاميذ سجلات تعليمه منقسمين نحو العديد من العقائد والطوائف. هذا الانقسام الذي يُرثى له للمؤمنين المسيحيين ناتج عن الفشل في الإدراك في تعاليم السيد المتنوعة للوحدانية الإلَهية لحياته التي لا مثيل لها. لكن يوماً ما لن يكون المؤمنين الحقيقيين بيسوع منقسمين روحياً هكذا في موقفهم أمام غير المؤمنين. دائماً قد يكون لدينا تنوع في الفهم والتفسير الفكري, حتى بدرجات متفاوتة من التنشئة الإجتماعية, لكن الافتقار إلى الأخوة الروحية أمر لا يمكن تبريره ومستوجب الشجب على حد سواء.
170:5.21 (1866.4) لا تخطيء! توجد في تعاليم يسوع طبيعة أبدية لن تسمح لها أن تبقى إلى الأبد غير مثمرة في قلوب الناس المفكرين. الملكوت كما تصوره يسوع قد فشل إلى حد كبير على الأرض؛ للوقت الكائن, أخذت مكانه كنيسة ظاهرية؛ لكن عليك أن تدرك بأن هذه الكنيسة هي فقط المرحلة اليرقانية للملكوت الروحي المُحبَط, التي ستحمله عبر هذا العصر المادي وما بعده إلى افتقاد إلَهي روحي أكثر حيث قد تتمتع تعاليم السيد بفرصة أكمل من أجل التطور. هكذا تصبح المسماة بالكنيسة المسيحية الشرنقة التي يهجع فيها الآن مفهوم ملكوت يسوع. لا يزال ملكوت الأخوية الإلَهية على قيد الحياة وسيخرج في النهاية وبالتأكيد من هذا الغمر الطويل, تماماً كما تنبثق الفراشة في نهاية المطاف كالانفضاض الجميل من خلقها الأقل جاذبية للتطور التحولي.
كِتاب يورانشيا
ورقة 171
171:0.1 (1867.1) في اليوم التالي للموعظة التي لا تنسى حول "ملكوت السماء," أعلن يسوع أنه في اليوم التالي سيغادر هو والرُسل من أجل عيد الفصح في أورشليم, ويزورون العديد من المدن في جنوب بيريا في الطريق.
171:0.2 (1867.2) الخطاب عن الملكوت والإعلان عن ذهابه إلى الفصح جعل جميع أتباعه يعتقدون أنه ذاهب إلى أورشليم لافتتاح الملكوت الدنيوي للسيادة اليهودية. بغض النظر عما قاله يسوع عن الطابع غير المادي للملكوت, لم يستطع أن يزيل بالكامل من أذهان سامعيه اليهود فكرة أن المسيح كان سيؤسس نوعاً من الحكومة القومية مقرها في أورشليم.
171:0.3 (1867.3) ما قاله يسوع في موعظة هذا السبت مالَ فقط إلى إرباك غالبية أتباعه؛ قليلون جداً استناروا بخطاب السيد. فهم القادة بعض الشيء من تعاليمه فيما يتعلق بالملكوت الداخلي, "ملكوت السماء داخلك," لكنهم عرفوا أيضًا أنه تكلم عن ملكوت آخر ومستقبلي, ولقد كان هذا الملكوت الذي اعتقدوا أنه صاعد الآن إلى أورشليم ليؤسسه. عندما خاب أملهم في هذا التوقع, عندما تم رفضه من قبل اليهود, وفيما بعد, عندما دُمِّرت أورشليم حرفياً, كانوا لا يزالون متشبثين بهذا الأمل, معتقدين بصدق بأن السيد سيعود قريباً إلى العالَم بقدرة عظيمة ومجد مهيب ليؤسس الملكوت الموعود.
171:0.4 (1867.4) لقد كان على عصر هذا الأحد حينما جاءت صالومي أم يعقوب ويوحنا زَبـِدي إلى يسوع مع ابنيها الرسولين, وفي أسلوب الاقتراب من عاهل شرقي, سعت لأن يكون لديها وعد يسوع مسبقاً بمنح أي طلب قد تقدمه. لكن السيد لم يَعِد؛ بدلاً من ذلك, سألها, "ماذا تريديني أن أفعل من أجلكِ؟" عندئذٍ أجابت صالومي: "يا سيد, أنت الآن صاعد إلى أورشليم لتؤسس الملكوت, أود أن أسألك مقدماً أن تعدني بأن ابناي هذين سيكون لهما شرف معك, أحدهما يجلس على يمينك والآخر ليجلس على يسارك في ملكوتك."
171:0.5 (1867.5) عندما سمع يسوع طلب صالومي, قال: "يا امرأة, أنتِ لا تعرفين ماذا تسألين." وبعد ذلك, ناظر مباشرة إلى عيون الرسولين الساعين إلى الشرف, قال: "لأنني عرفتكما وأحببتكما منذ فترة طويلة؛ لأنني حتى عشت في منزل والدتكما؛ ولأن أندراوس عيَّنكما لتكونا معي كل الأوقات؛ لذلك هل تسمحان لوالدتكما أن تأتي إليَ سراً, جاعلة هذا الطلب غير اللائق. لكن دعوني أسألكما: هل أنتما قادران على شرب الكأس التي أنا على وشك أن أشربها؟" وبدون لحظة للتفكير, أجاب يعقوب ويوحنا, "نعم, يا سيد, نحن قادران." قال يسوع: "أنا حزين لأنكما لا تعرفان لماذا نحن صاعدون إلى أورشليم؛ أنا مُكـَّدَر بأنكما لا تفهمان طبيعة ملكوتي؛ أنا خائب الأمل لأنكما أحضرتما والدتكما لتطلب مني هذا الطلب؛ لكنني أعرف بأنكما تحبانني في قلبيكما؛ لذلك أعلن بأنكما ستشربان حقًا من كأس مرارتي وتشاركان في ذلي, لكن للجلوس على يميني وعلى يساري ليس لي لأعطي. مثل هذه التكريمات محجوزة لأولئك الذين عينهم أبي."
171:0.6 (1868.1) بحلول هذا الوقت كان أحدهم قد حمل كلمة عن هذا المؤتمر إلى بطرس والرُسل الآخرين, وكانوا مستاءين للغاية من أن يسعى يعقوب ويوحنا ليكونا مفضلين أمامهم, وبأنهما ذهباً سِراً مع والدتهما لتقديم مثل هذا الطلب. عندما وقعوا في الجدال فيما بينهم, دعاهم يسوع جميعاً معاً وقال: "أنتم تدركون جيداً كيف يحكم حكام الأمميين على رعاياهم, وكيف يمارس أولئك الذين هم عظماء السُلطة. لكن لن يكون الأمر كذلك في ملكوت السماء. من يود أن يكون عظيماً بينكم, فليصبح أولاً خادمكم. من يود أن يكون الأول في الملكوت, فليُصبح مُسعفاً لكم. أصرح لكم بأن ابن الإنسان لم يأت ليُسعَف إليه بل ليُسعِف؛ وأنا الآن صاعد إلى أورشليم لأبذل حياتي في فعل مشيئة الأب وفي خدمة إخواني." عندما سمع الرُسل هذه الكلمات, انسحبوا بأنفسهم للصلاة. ذلك المساء, في تجاوب إلى أشغال بطرس, قدم يعقوب ويوحنا اعتذاراً لائقاً للعشرة وأُعيدوا للنعمة الطيبة لإخوانهم.
171:0.7 (1868.2) في طلب الأمكنة على اليد اليمنى وعلى اليد اليسرى ليسوع في أورشليم, قليلاً أدرك ابنا زَبـِدي أنه في أقل من شهر سيكون معلمهم المحبوب معلقًا على صليب روماني مع لص ميت على جانب واحد ومخالف آخر على الجانب الآخر. ووالدتهما, التي كانت حاضرة عند الصلب, تذكرت جيداً الطلب الأحمق الذي تقدمت به إلى يسوع في بـِلا بشأن الشرف الذي سعت إليه بدون حكمة لابنيها الرسولين.
171:1.1 (1868.3) قبل ظهر يوم الاثنين, 13 آذار, أخذ يسوع ورُسله الاثنا عشر إذناً للمرة الأخيرة من مخيم بـِلا, مسافرين جنوباً في جولتهم إلى مدن جنوب بيريا, حيث كان زملاء أبنير في العمل. أمضوا أكثر من أسبوعين يزورون بين السبعين وبعد ذلك ذهبوا مباشرة إلى أورشليم من أجل عيد الفصح.
171:1.2 (1868.4) عندما غادر السيد بـِلا, تبع وراءه التلاميذ المخيمين مع الرُسل, حوالي ألف في العدد. تقريباً نصف هذه الجماعة تركوه عند معبر الأردن على الطريق إلى أريحا عندما عَلِموا أنه ذاهب إلى حشبون, وبعد أن ألقى العظة عن "حساب الثمن". صعدوا إلى أورشليم, بينما تبعه النصف الآخر لأسبوعين, زائرين البلدات في جنوب بيريا.
171:1.3 (1868.5) بشكل عام, فهم معظم أتباع يسوع المباشرين بأن المخيم في بـِلا قد تم التخلي عنه, لكنهم اعتقدوا حقاً أن هذا يشير إلى أن سيدهم كان ينوي أخيراً الذهاب إلى أورشليم للمطالبة بعرش داود. الغالبية العظمى من أتباعه لم يتمكنوا من فهم أي مفهوم آخر عن ملكوت السماء؛ بغض النظر عما علـَّمهم, فهم لن يتخلوا عن هذه الفكرة اليهودية عن الملكوت.
171:1.4 (1868.6) بناء على تعليمات الرسول أندراوس, أغلق داود زَبـِدي مخيم الزوار في بـِلا يوم الأربعاء, 15 آذار. في هذا الوقت كان ما يقرب من أربعة آلاف زائر مقيمين, وهذا لا يشمل الألف شخص وأكثر الذين حلوا مع الرُسل في ما كان معروفاً بمخيم المعلمين, والذين ذهبوا جنوباً مع يسوع والاثني عشر. بقدر ما كره داود أن يفعل, فقد باع المعدات بأكملها لعدة مشترين وتوجه بالأموال إلى أورشليم, محوَّلاً المال بالتالي إلى يوداص إسخريوط.
171:1.5 (1869.1) كان داود حاضراً في أورشليم أثناء الأسبوع المأساوي. آخذاً والدته رجوعاً معه إلى بيت-صيدا بعد الصلب. بينما ينتظر يسوع والرُسل, توقف داود مع لِعازر في بيت-عنيا وانزعج للغاية من الأسلوب الذي بدأ به الفريسيون في اضطهاده ومضايقته منذ قيامته. كان أندراوس قد وَّجه داود بأن يوقف خدمة المراسلين؛ وكان هذا مفسراً من قبل الجميع على أنه دليل على التأسيس الباكر للملكوت في أورشليم. وجد داود نفسه بلا وظيفة, وكان تقريباً قد قرر أن يصبح المدافع المعين-بالذات عن لِعازر عندما هرب موضوع قلقه الساخط في الوقت الحالي على عجلة إلى فيلادلفيا. تبعاً لذلك, في وقت ما بعد القيامة وأيضًا بعد وفاة والدته, عمد داود للذهاب إلى فيلادلفيا, بعد أن ساعد أولاً مارثا ومريم في تصفية عقاراتهم؛ وهناك, في رفقة أبنير ولِعازر, أمضى بقية حياته, ليصبح المشْرف المالي لكل تلك المصالح الكبيرة للملكوت الذي كان مركزه في فيلادلفيا أثناء زمن حياة أبنير.
171:1.6 (1869.2) في غضون وقت قصير بعد دمار أورشليم, أصبحت إنطاكية مقر المسيحية البولسية, بينما بقيت فيلادلفيا مركز ملكوت السماء الأبنيري. من إنطاكية انتشر النص البولسي لتعاليم يسوع وعن يسوع إلى كل العالَم الغربي؛ انتشر المبشرون للنص الأبنيري لملكوت السماء من فيلادلفيا في كل أنحاء بلاد ما بين النهرين والجزيرة العربية حتى الأوقات اللاحقة عندما غُمر هؤلاء المبعوثين المتصلبي الرأي لتعاليم يسوع بالقيام المفاجئ للإسلام.
171:2.1 (1869.3) عندما وصل يسوع والجماعة من قرابة ألف من أتباعه إلى معبر بيت-عنيا في الأردن أحياناً يُدعي بيت-عبارا, بدأ تلاميذه يدركون بأنه لم يكن ذاهب مباشرة إلى أورشليم. بينما ترددوا وتجادلوا فيما بينهم, تسلق يسوع حجراً كبيراً وألقى ذلك الخطاب الذي أصبح معروفاً باسم "احتساب الثمن." قال السيد:
171:2.2 (1869.4) "أنتم التابعون من بعدي من هذا الوقت فصاعداً, يجب أن تكونوا على استعداد لدفع ثمن التفاني الصادق لفعل مشيئة أبي. إذا وددتم أن تكونوا تلاميذي, يجب أن تكونوا مستعدين لهجر الأب, والأم, والزوجة, والأولاد, والإخوة, والأخوات. إذا كان أي منكم يود الآن أن يكون تلميذي, فيجب أن تكون على استعداد للتخلي عن حياتك تماماً مثلما يوشك ابن الإنسان أن يقدم حياته من أجل إتمام مهمة فعل مشيئة الأب على الأرض وفي الجسد.
171:2.3 (1869.5) "إذا لم تكن على استعداد لدفع الثمن الكامل, بالكاد يمكنك أن تكون تلميذي. قبل أن تذهبوا أبعد من ذلك, يجب على كل منكم أن يجلس ويحسب الثمن لكونه تلميذي. أي منكم سيتعهد ببناء برج مراقبة على أراضيك دون أن تجلس أولاً لحساب التكلفة لمعرفة ما إذا كان لديك ما يكفي من المال لإكماله؟ إذا فشلت هكذا في حساب الثمن, بعد أن تكون قد وضعت الأساس, قد تكتشف أنك غير قادر على إنهاء ما بدأته, وبالتالي سيسخر منك جميع جيرانك, قائلين, ’انظروا, هذا الإنسان بدأ في البناء لكنه لم يتمكن من إنهاء عمله‘. مرة أخرى, أي ملك, عندما يستعد لشن حرب على ملك آخر, لا يجلس أولاً ويأخذ شورى فيما إذا كان سيتمكن, بعشرة آلاف رَجل, من ملاقاة مَن يأتى ضده بعشرين ألفاً؟ إذا كان الملك لا يستطيع تحمل لقاء عدوه لأنه غير مستعد, فإنه يرسل سفارة إلى هذا الملك الآخر, حتى عندما يكون لا يزال على مسافة كبيرة منه, يسأل عن شروط السلام.
171:2.4 (1870.1) "الآن إذن, يجب على كل واحد منكم أن يجلس ويحسب ثمن كونه تلميذي. من الآن وصاعداً لن تكونوا قادرين على متابعتنا, مستمعين إلى التعليم وناظرين الأعمال؛ سيكون مطلوباً منكم أن تواجهوا اضطهادات مريرة وأن تكونوا شاهدين لهذا الإنجيل في مواجهة خيبة أمل ساحقة. إذا لم تكن راغباً في التخلي عن كل ما لديك وأن تكرس كل ما لديك, فأنت لا تستحق أن تكون تلميذي. إذا كنت بالفعل قد هزمت نفسك داخل قلبك, فلا داعي أن يكون لديك خوف من ذلك الانتصار الخارجي الذي يجب أن تكتسبه حالياً عندما يُرفض ابن الإنسان من قبل رؤساء الكهنة والصدوقيين ويتم تسليمه إلى أيدي غير المؤمنين المستهزئين.
171:2.5 (1870.2) "الآن يجب أن تفحص نفسك لتجد دافعك لكونك تلميذي. إذا كنت تسعى إلى الشرف والمجد, وإذا كنت تهتم بالدنيا, قأنت مثل الملح عندما يكون قد فقد مذاقه. وعندما ذلك الذي يُثـَّمن لملوحته يفقد مذاقه, فبماذا سيُمَّلح؟ مثل هذا التابل لا طائل منه؛ لا يصلح إلا للإلقاء بين القمامة. الآن حيث حذرتكم أن ترجعوا إلى بيوتكم بسلام إذا لم تكونوا على استعداد لشرب الكأس معي الذي يتم تحضيره. لقد أخبرتكم مراراً وتكراراً بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم, لكنكم لن تصدقوني. مَن له آذان للسمع فليسمع ما أقول."
171:2.6 (1870.3) مباشرة بعد هذه الكلمات, انطلق يسوع, قائداً الاثني عشر, على الطريق إلى حشبون, يتبعه حوالي خمسمائة. بعد تأخير وجيز صعد النصف الآخر من الجمهور إلى أورشليم. رُسله, سوية مع كبار التلاميذ , فكَّروا كثيراً في هذه الكلمات, لكنهم ما زالوا متمسكين بالاعتقاد أنه, بعد هذه الفترة الوجيزة من المحن والتجربة, بالتأكيد سيتم إنشاء المملكة إلى حد ما وفقا لآمالهم التي طالما اعتزوا بها.
171:3.1 (1870.4) لأكثر من أسبوعين, تجول يسوع والاثني عشر, متبوعين بحشد من عدة مئات من التلاميذ, في جنوب بيريا, زائرين كل البلدات حيث عمل السبعون. عاش العديد من الأمميين في هذه المنطقة, وبما أن قلة كانوا صاعدين إلى عيد الفصح في أورشليم, فقد واصل رسل الملكوت عملهم من التعليم والوعظ.
171:3.2 (1870.5) التقى يسوع بأبنير في حشبون, ووجَّه أنداروس بأنه يجب ألا تُقاطع أعمال السبعين بعيد الفصح؛ نصح يسوع أنه يجب على الرسل المضي قدماً في عملهم في تجاهل تام لما كان على وشك الحدوث في أورشليم. كما أشار لأبنير أن يسمح لكتيبة النساء, على الأقل حسب الرغبة, بالذهاب إلى أورشليم من أجل عيد الفصح. وكانت هذه آخر مرة رأى فيها أبنير يسوع في الجسد. كان وداعه لأبنير: "يا بني, أعلم بأنك ستكون مخلصاً للملكوت, وأصَّلي للأب أن يمنحك الحكمة بحيث قد تحب إخوانك وتفهمهم".
171:3.3 (1870.6) أثناء سفرهم من مدينة إلى أخرى, هجر عدد كبير من أتباعهم للذهاب إلى أورشليم بحيث, في الوقت الذي سار فيه يسوع من أجل الفصح, تناقص عدد الذين تبعوا إلى جانبه يوماً بعد يوم إلى أقل من مائتين.
171:3.4 (1871.1) فهم الرُسل بأن يسوع كان ذاهباً إلى أورشليم من أجل عيد الفصح. كانوا يعلمون بأن السنهدرين قد أذاعوا رسالة إلى كل إسرائيل بأنه قد حُكم عليه بالموت وموَّجهين بأن أي شخص يعرف بمكانه يجب عليه إبلاغ السنهدرين؛ ومع ذلك, بالرغم من كل هذا, لم يشعروا بالقلق الشديد كما كانوا عندما أعلن لهم في فيلادلفيا بأنه ذاهب إلى بيت-عنيا لرؤية لِعازر. هذا التغيير في الموقف من ذلك لحالة خوف شديد إلى حالة توقع صامت كان في الغالب بسبب قيامة لِعازر. وصلوا إلى استنتاج بأن يسوع, في حالة الطوارئ, قد يُثـَّبت قدرته الإلَهية ويُخزي أعدائه. هذا الأمل إلى جانب إيمانهم الأكثر عمقاً ونضجاً في السيادة الروحية لسيدهم, كان السبب وراء الشجاعة الظاهرية التي أظهرها أتباعه المباشرين, الذين استعدوا الآن لاتباعه نحو أورشليم في مواجهة الإعلان الصريح للسنهدرين أنه يجب أن يموت.
171:3.5 (1871.2) غالبية الرسل والعديد من تلاميذه الداخليين لم يؤمنوا أنه من الممكن ليسوع أن يموت؛ هم, معتقدون بأنه "القيامة والحياة", اعتبروه خالداً ومنتصراً بالفعل على الموت.
171:4.1 (1871.3) في مساء الأربعاء, 29 آذار, خيَّم يسوع وأتباعه في ﻟﻴﭭياس على طريقهم إلى أورشليم, بعد أن أتموا جولتهم في مدن بيريا الجنوبية. لقد كان في أثناء هذه الليلة في ﻟﻴﭭياس حينما تآمر سمعان زيلوطس وسمعان بطرس, لتسليم أكثر من مائة سيف لأيديهم في هذا المكان, وقاما باستلام وتوزيع هذه الأسلحة إلى كل الذين قبلوها ولبسوها مخبأة تحت عباءاتهم. كان سمعان بطرس لا يزال متقلداً سيفه ليلة خيانة السيد في الحديقة.
171:4.2 (1871.4) في وقت مبكر من صباح يوم الخميس قبل أن يستيقظ الآخرون, دعا يسوع أندراوس وقال: "أيقظ إخوانك! لدي ما أقوله لهم." علم يسوع بأمر السيوف وأي مِن رُسله قد استلمها ومن كان يتقلد هذه الأسلحة, لكنه لم يُفشي لهم أبداً بأنه عرف بتلك الأشياء. عندما أيقظ أندراوس رفاقه, وتجمعوا من تلقاء أنفسهم, قال يسوع: "يا أولادي, لقد كنتم معي منذ فترة طويلة, وقد علـَّمتكم الكثير مما هو ضروري لهذا الوقت, لكن أود الآن أن أحذركم أن لا تضعوا ثقتكم في عدم اليقين الذي يكتنف الجسد ولا في هشاشة دفاع الإنسان ضد المحاكمات والاختبارات التي تنتظرنا. لقد دعوتكم على حدة هنا بأنفسكم بحيث يمكنني أن أخبركم مرة أخرى بوضوح بأننا صاعدون إلى أورشليم, حيث تعرفون أن ابن الإنسان قد حُكم عليه بالموت بالفعل. مرة أخرى أقول لكم بأن ابن الإنسان سوف يُسَّلم إلى أيدي رؤساء الكهنة والحكام الدِينيين؛ بحيث سيحكمون عليه ومن ثم يسلمونه لأيدي الأمميين. وهكذا سيسخرون من ابن الإنسان, بل يبصقون عليه, ويجلدونه, وسيسلمونه إلى الموت. وعندما يقتلون ابن الإنسان, لا تيأسوا, لأني أعلن أنه سيقوم في اليوم الثالث. انتبهوا لأنفسكم وتذكروا بأني قد حذرتكم مسبقاً."
171:4.3 (1871.5) مرة أخرى كان الرسل مندهشون, مذهولون؛ لكنهم لم يستطيعوا أن يجلبوا أنفسهم إلى اعتبار كلماته على أنها حرفية؛ لم يتمكنوا من استيعاب أن السيد قصد بالضبط ما قاله. كانوا معميين للغاية باعتقادهم المتشبث في الملكوت الدنيوي على الأرض, مع المقر في أورشليم, بحيث أنهم ببساطة لم يستطيعوا ــ ولم يودوا ــ أن يسمحوا لأنفسهم بقبول كلمات يسوع باعتبارها حرفية. تفكروا طوال ذلك اليوم في ما يمكن أن يعنيه السيد بمثل هذه البيانات الغريبة. لكن لم يجرؤ أي منهم على طرح سؤال عليه بخصوص هذه التصريحات. ليس حتى بعد موته أفاق هؤلاء الرُسل الحائرين إلى الإدراك بأن السيد قد تحدث إليهم بوضوح وبشكل مباشر في توقع صلبه.
171:4.4 (1872.1) كان هنا في ﻟﻴﭭياس, بعد الإفطار مباشرة, حيث جاء بعض الفريسيين الودودين إلى يسوع وقالوا: "اهرب في عجلة من هذه النواحي, لأن هيرودس, تماماً كما سعى ليوحنا, يسعى الآن لقتلك. يخشى انتفاضة الشعب وقرر قتلك. نجلب إليك هذا التحذير بحيث قد تهرب."
171:4.5 (1872.2) وكان هذا صحيح جزئياً. قيامة لِعازر أرعبت هيرودس وأنذرته, وعارف بأن السنهدرين قد تجرأوا على إدانة يسوع, حتى قبل المحاكمة, اتخذ هيرودس قراره إما بقتل يسوع أو طرده خارج دوائر نفوذه. لقد رغب حقاً في القيام بالأخير لأنه خافه لدرجة بحيث كان يأمل ألا يُجبر على إعدامه.
171:4.6 (1872.3) عندما سمع يسوع ما كان لدى الفريسيين للقول, أجاب: "أعرف جيداً عن هيرودس وخوفه من إنجيل الملكوت هذا. لكن لا تخطئوا, هو بالأكثر يفـَّضل أن يصعد ابن الإنسان إلى أورشليم ليعاني ويموت على أيدي رؤساء الكهنة؛ هو ليس متشوق, إذ لطخ يديه بدم يوحنا, أن يصبح مسؤولاً عن موت ابن الإنسان. اذهبوا وأخبروا ذلك الثعلب بأن ابن الإنسان يعظ اليوم في بيريا, وغداً يذهب إلى يهودا, وبعد أيام قليلة, سيكون قد اكتمل في مهمته على الأرض ومستعداً للصعود إلى الأب."
171:4.7 (1872.4) بعدئذٍ متحول إلى رُسله, قال يسوع: "منذ أزمنة قديمة هلك الأنبياء في أورشليم, وإنه فقط من اللائق بأن ابن الإنسان يجب أن يصعد إلى مدينة منزل الأب ليُقـَّدَم كثمن للتعصب البشري وكنتيجة للتحامل الدِيني والعمى الروحي. يا أورشليم, يا أورشليم, يا قاتلة الأنبياء وراجمة معلمي الحق! كم مرة جمَّعتُ أولادك معاً حتى كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها, لكنكم لن تدعوني أفعل ذلك! انظروا, منزلكم على وشك أن يُترك إليكم مهجوراً! سترغبون مرات عديدة في رؤيتي, لكنكم لن تروني, سوف تسعون إلي عند ذاك لكن لن تجدوني." وعندما تكلم, استدار إلى الذين حوله وقال: "مع ذلك, فلنصعد إلى أورشليم لنحضر عيد الفصح ونفعل ما يليق بنا في تحقيق مشيئة الأب في السماء."
171:4.8 (1872.5) لقد كانت جماعة مرتبكة وحائرة من المؤمنين الذين تبعوا يسوع هذا اليوم إلى أريحا. استطاع الرُسل أن يميزوا فقط الملاحظة المتيقنة عن انتصار نهائي في تصريحات يسوع بما يخص الملكوت؛ لم يتمكنوا من إحضار أنفسهم إلى ذلك المكان حيث كانوا على استعداد لفهم التحذيرات من النكسة الوشيكة. عندما تكلم يسوع عن "القيام في اليوم الثالث", أمسكوا بهذه العبارة على أنها إشارة إلى انتصار مؤكد للملكوت مباشرة بعد مناوشة تمهيدية غير مُرضية مع القادة الدينيين اليهود. كان "اليوم الثالث" تعبيراً يهودياً شائعاً يشير إلى "حالياً" أو "بعد ذلك بوقت قصير." عندما تكلم يسوع عن "القيام", ظنوا أنه أشار إلى "قيام الملكوت."
171:4.9 (1872.6) كان يسوع قد قُبل بهؤلاء المؤمنين على أنه المسيح, وعرف اليهود قليلاً أو لا شيء عن مسيح مُكابد. لم يفهموا أن يسوع كان سينجز بموته أشياء كثيرة لم يكن من الممكن أن تتحقق من خلال حياته. بينما كانت قيامة لِعازر هي التي شجعت الرُسل على دخول أورشليم, كانت ذكرى التجلي التي عضدت السيد في هذه الفترة العصيبة من إغداقه.
171:5.1 (1873.1) في وقت متأخر عصر يوم الخميس, 30 آذار, اقترب يسوع ورُسله, على رأس فرقة من حوالي مائتي تابع, من أسوار أريحا. بينما اقتربوا من بوابة المدينة, واجهوا حشداً من المتسولين, من بينهم واحد اسمه بارطيميوس, رَجل مسن كان أعمى منذ شبابه. هذا المتسول الأعمى كان قد سمع الكثير عن يسوع وعرف كل شيء عن شفائه للأعمى يوصيا في أورشليم. لم يكن يعلم بزيارة يسوع الأخيرة إلى أريحا إلا بعد أن ذهب إلى بيت-عنيا. قرر بارطيميوس بأنه لن يسمح مرة أخرى ليسوع بزيارة أريحا دون أن يناشده من أجل استعادة بصره.
171:5.2 (1873.2) كانت أخبار اقتراب يسوع قد بُشرت في جميع أنحاء أريحا, وتوافد المئات من السكان لملاقاته. عندما عاد هذا الحشد الكبير مصطحباً السيد نحو المدينة, بارطيميوس, سامع صخب الجموع الثقيل, عرف أن شيئًا ما غير عادي يحدث, ولذلك سأل أولئك الذين يقفون بالقرب منه عما يجري. فأجاب أحد المتسولين, "يسوع الناصري يمر." عندما سمع بارطيميوس أن يسوع قريب, رفع صوته وبدأ بالصراخ بصوت عالٍ, "يا يسوع, يا يسوع, ارحمني!" وبينما واصل الصراخ بصوت أعلى وأعلى, تقدم بعض من أولئك القريبين إلى يسوع وانتهروه, طالبين منه أن يسكت؛ لكن كان بدون جدوى؛ صرخ فقط أكثر وأعلى.
171:5.3 (1873.3) عندما سمع يسوع الرَجل الأعمى يصرخ, توقف ساكناً. وعندما رآه, قال لأصدقائه, "احضروا الرَجل إلَيَ." وعند ذاك ذهبوا إلى بارطيميوس, قائلين: "أبشر؛ تعال معنا, لأن السيد يطلبك." عندما سمع بارطيميوس هذه الكلمات, ألقى عباءته جانباً, قافزاً إلى الأمام نحو منتصف الطريق, بينما أرشده الذين بالقرب إلى يسوع. مخاطباً بارطيميوس, قال يسوع: "ماذا تريدني أن أفعل من أجلك؟" فأجاب الرَجل الأعمى, "أود أن استعيد بصري." وعندما سمع يسوع هذا الطلب ورأى إيمانه, قال: "ستستلم بصرك؛ اذهب في طريقك؛ إيمانك قد شفاك." في الحال استلم بصره, وبقي قرب يسوع, يمجد الله, حتى بدأ السيد بالسير في اليوم التالي إلى أورشليم, ثم ذهب أمام الجموع معلناً للجميع كيف اُستعاد بصره في أريحا.
171:6.1 (1873.4) عندما دخل موكب السيد أريحا, كان الوقت يقترب من غروب الشمس, وكان راغباً بالمكوث هناك من أجل الليل. بينما مر يسوع بجوار دار الجمارك, حدث أن زكا رئيس العشارين, أو جابي الضرائب, كان حاضراً, وكان يرغب كثيراً في رؤية يسوع. كان رئيس العشارين هذا ثرياً جداً وقد سمع الكثير عن نبي الجليل هذا. قرر بأنه يود أن يرى أي نوع من الرجال كان يسوع في المرة التالية التي يصادف أن يزور أريحا؛ بناء على ذلك, سعى زكا ليضغط خلال الزحام, لكنه كان غفيراً جداً, ولأنه كان قصير القامة, لم يتمكن من الرؤية فوق رؤوسهم. وهكذا تبع رئيس العشارين مع الحشد حتى اقتربوا من وسط المدينة وليس بعيداً من حيث كان يعيش. عندما رأى بأنه لن يكون قادراً على اختراق الحشد, ومعتقداً بأن يسوع ربما يمضي قدمًا عبر المدينة دون توقف, ركض إلى الأمام وتسلق شجرة جميز كانت تنشر أغصانها فوق الطريق. علم أنه بهذه الطريقة سيتمكن من الحصول على رؤية جيدة للسيد عندما يمر. ولم يكن خائب الأمل, لأنه, بينما مر يسوع, توقف, ومتطلع إلى زكا, قال: "أسرْع, يا زكا, وانزل, لأن الليلة يجب أن أقيم في منزلك." وعندما سمع زكا هذه الكلمات المذهلة, كاد أن يسقط من الشجرة في عجلته من أمره للنزول, وصاعد إلى يسوع, أعرب عن فرحه الشديد بأن السيد راغب بالتوقف عند منزله.
171:6.2 (1874.1) ذهبوا على الفور إلى بيت زكا, وكان أولئك الذين عاشوا في أريحا مندهشين للغاية بموافقة يسوع أن يقيم مع رئيس العشارين. حتى بينما توانى السيد ورُسله مع زكا أمام باب منزله, أحد فريسيي أريحا, وهو واقف بالقرب, قال: "ترون كيف ذهب هذا الرَجل ليمكث مع آثم, ابن مرتد لإبراهيم الذي هو مبتز وسارق لشعبه الخاص." ولما سمع يسوع هذا, نظر إلى زكا وابتسم. عند ذاك وقف زكا على كرسي صغير وقال: "يا أهل أريحا, اسمعوني! قد أكون عشاراً وخاطئاً, لكن المعلم العظيم جاء ليقيم في منزلي؛ وقبل أن يدخل, أخبركم بأني سأمنح نصف خيراتي كلها للفقراء, وابتداءً من الغد, إذا كنت قد ابتززت خطأً أي شيء من أي إنسان, فسأرد أربعة أضعاف. سأسعى للخلاص من كل قلبي وأتعلم أن أفعل البر في نظر الله."
171:6.3 (1874.2) عندما توقف زكا عن الكلام, قال يسوع: "اليوم جاء الخلاص إلى هذا البيت, وقد صرت بالفعل ابناً لإبراهيم." وملتفتاً إلى الحشد المتجمع حولهم, قال يسوع: "ولا تتعجبوا مما أقوله ولا تستاؤا مما نفعله, لأنني أعلنت طوال الوقت بأن ابن الإنسان قد جاء لينشد ويخلص ما هو ضائع."
171:6.4 (1874.3) مكثوا مع زكا من أجل الليل. قاموا في الغد وشقوا طريقهم صاعدين "طريق اللصوص" إلى بيت-عنيا في طريقهم إلى عيد الفصح في أورشليم.
171:7.1 (1874.4) كان يسوع ينشر بهجة جيدة أينما ذهب. كان مملوءًا بالنعمة والحق. لم يتوقف رفاقه عن التعجب للكلمات الكريمة التي خرجت من فمه. يمكنك أن تصقل النعمة, لكن السماحة هي عطر الود المنبعث من نفـْسٍ مشبعة بالمحبة.
171:7.2 (1874.5) الصلاح دائماً يُجبر على الاحترام, لكن عندما يكون مجرداً من الكياسة, فإنه غالباً ما يصد المودة. لا يكون الخير جذاباً كونياً إلا عندما يكون كريماً. الخير يكون فعالا فقط عندما يكون جذاباً.
171:7.3 (1874.6) فهم يسوع الناس حقاً؛ لذلك كان يمكنه أن يظهر تعاطفًا حقيقيًا ويُظهر رأفة صادقة. لكنه نادرا ما انغمس في الشفقة. بينما كانت رأفته دون حدود, كان عطفه عملياً, وشخصياً, وبنّاءً. إلمامه بالمعاناة لم يوَّلد أبداً لا مبالاة, وكان قادراً على أن يُسعف للنفوس المكروبة دون زيادة شفقتها-على الذات.
171:7.4 (1874.7) استطاع يسوع أن يساعد الناس كثيراً لأنه أحبهم بصدق للغاية. لقد أحب حقاً كل رَجل, وكل امرأة, وكل طفل. كان بإمكانه أن يكون صديقاً مخلصاً بسبب بصيرته الرائعة ــ عرف تماماً ما في قلب الإنسان وعقله. كان ملاحظاً مهتماً ومتحمساً. كان خبيراً في فهم الحاجة الإنسانية, وماهراً في اكتشاف الأشواق الإنسانية.
171:7.5 (1874.8) لم يكن يسوع أبداً في عَجَلة من أمره. كان لديه وقت لتعزية رفاقه الناس "بينما يمر." ودائماً جعل أصدقاءه يشعرون بالراحة. كان مستمعاً ساحراً. لم ينشغل أبداً في السبر الفضولي لنفوس زملائه. بينما واسى العقول الجائعة وأسعف إلى النفوس العطشى, لم يشعر مستلمو رحمته كثيراً بأنهم كانوا يعترفون له بقدر ما كانوا يتشاورون معه. كانوا يثقون به بلا حدود لأنهم رأوا بأن لديه الكثير من الإيمان فيهم.
171:7.6 (1875.1) لم يبدو أبداً ليكون فضولياً تجاه الناس, ولم يُظهر أبداً رغبة في توجيههم, أو إدارتهم, أو متابعتهم. لقد ألهَمَ ثقة عميقة بالنفس وشجاعة قوية في كل الذين تمتعوا بزمالته. عندما ابتسم لإنسان, اختبر ذلك الفاني استطاعة متزايدة على حل مشاكله المتعددة الجوانب.
171:7.7 (1875.2) أحب يسوع الناس كثيراً وبحكمة للغاية بحيث أنه لم يتردد مطلقاً في أن يكون صارماً معهم عندما تطلبت المناسبة مثل هذا الانضباط. كثيرا ما شرع بمساعدة شخص ما من خلال سؤاله من أجل المساعدة. بهذه الطريقة أثار الاهتمام, وناشد الأشياء الأفضل في الطبيعة البشرية.
171:7.8 (1875.3) السيد أمكنه إدراك الإيمان المخَّلِص في الخرافة الجسيمة للمرأة التي سعت إلى الشفاء بلمس طرف ثوبه. كان دائماً مستعداً وراغبًا في إيقاف موعظة أو تأخير حشد, بينما أسعف لاحتياجات شخص فرد, حتى لطفل صغير. حدثت أشياء عظيمة ليس فقط لأن الناس كان لديهم إيمان في يسوع, لكن لأن يسوع كان لديه الكثير من الإيمان فيهم.
171:7.9 (1875.4) معظم الأشياء المهمة حقاَ التي قالها يسوع أو فعلها بدت لتحدث بشكل عرضي, "أثناء مروره." كان هناك القليل جداً من الاحتراف, أو التخطيط الجيد, أو التفكير المسبق في إسعاف السيد الأرضي. لقد وزع الصحة ونثر السعادة بشكل طبيعي وبنعمة بينما سافر خلال الحياة. لقد كان حرفياً صحيح, "لقد تجول يفعل الخير."
171:7.10 (1875.5) وينبغي لأتباع السيد في كل العصور أن يتعلموا ليُسعفوا بينما "يمرون" ــ لفعل الخير غير-الأناني أثناء قيامهم بواجباتهم اليومية.
171:8.1 (1875.6) لم يسيروا من أريحا حتى قرابة الظُهر حيث إنهم سهروا لوقت متأخر في الليلة السابقة بينما علّم يسوع زكا وعائلته إنجيل الملكوت. حوالي منتصف الطريق صعوداً في الطريق الطالعة إلى بيت-عنيا توقفت الزمرة من أجل الغذاء, وبينما تابعت الجموع إلى أورشليم, دون أن يعلموا بأن يسوع ورُسله سيقيمون تلك الليلة على جبل الزيتون.
171:8.2 (1875.7) المَثل عن الجنيهات, على عكس مَثل الطالنات (وحدات الوزن), الذي كان مقصوداً لجميع التلاميذ, الذي تم الحديث عنه بشكل حصري أكثر إلى الرُسل وكان مستنداً إلى حد كبير على خبرة أرخيلاوس ومحاولته العقيمة لكسب حُكم مملكة يهودا. هذا أحد الأمثال القليلة للسيد المؤسسة على شخصية تاريخية فعلية. لم يكن من الغريب أن يكونوا قد وضعوا أرخيلاوس في الإعتبار نظراً إلى أن منزل زكا في أريحا كان قريباً جداً من قصر إرخيلاوس المزخرف, وممر ماء قنطرته امتد على طول الطريق الذي غادروا منه أريحا.
171:8.3 (1875.8) قال يسوع: "أنتم تعتقدون بأن ابن الإنسان يصعد إلى أورشليم ليستلم مملكة, لكنني أعلن بأنه محكوم عليكم بخيبة الأمل. ألا تتذكرون أميراً معيناً ذهب نحو بلد بعيد ليستلم لنفسه مملكة, لكن حتى قبل أن يتمكن من العودة, أرسل مواطنو مقاطعته, الذين كانوا سابقاً قد رفضوه في قلوبهم, سفارة وراءه, قائلين, ’لن يكون لدينا هذا الرَجل ليحكم علينا‘؟ مثلما كان هذا الملك مرفوضاً في الحكم الدنيوي, هكذا ابن الإنسان يتم رفضه في الحكم الروحي. مرة أخرى أعلن بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم؛ لكن إذا مُنح ابن الإنسان الحكم الروحي لشعبه, كان سيقبل هكذا مملكة لنفوس الناس وكان سيحكم على مثل هذه الولاية لقلوب البشر. بالرغم من أنهم يرفضون سلطتي الروحية عليهم, فسأعود مرة أخرى لأستلم من آخرين هكذا ملكوت روحي كما أُنكر علَيَ الآن. سترون ابن الإنسان مرفوضاً الآن, لكن في عصر آخر, فإن ما يرفضه أولاد إبراهيم الآن سيكون مُستَلَماً وممجداً.
171:8.4 (1876.1) "والآن, بصفتي الرَجل النبيل المرفوض لهذا المَثل, أود أن أدعو أمامي خدامي الاثني عشر, الوكلاء الخاصين, وأعطي إلى كل من يديكم مبلغ جنيه واحد, أود أن أنصح كل واحد بالإنتباه جيداً لإرشاداتي بحيث إنكم تتاجرون بجدية في أموال أمانتكم أثناء غيابي حتى يكون لديكم ما تبررون به وكالتكم عندما أعود, عندما يكون الحساب مطلوباً منكم.
171:8.5 (1876.2) "وحتى في حال عدم عودة هذا الابن المرفوض, فسيتم إرسال ابن آخر ليستلم هذا الملكوت, وهذا الابن سيبعث من أجلكم جميعاً ليستلم منكم تقريركم عن الوكالة وليُجعل مبتهجاً بأرباحكم.
171:8.6 (1876.3) "وعندما تم استدعاء هؤلاء الوكلاء في وقت لاحق معاً للمحاسبة, تقدم الأول, قائلاً, ’يا رب بجنيهك قد جنيت عشر جنيهات أخرى‘. فقال له سيده: ’حسناً فعلت؛ أنت خادم صالح؛ لأنك أثبت أنك أمين في هذا الأمر, سأعطيك سُلطاناً على عشر مدن‘. وأتى الثاني, قائلاً, ’جنيهك المتروك معي, يا رب, قد جنى خمس جنيهات‘. فقال السيد, ’تبعاً لذلك سأعطيك سلطاناً على خمس مدن. وهكذا نزولاً خلال الآخرين حتى الأخير من الخدم, عند استدعائه للمحاسبة, أخبر: ’يا رب, أنظر, هذا جنيهك, الذي احتفظت به بأمان في هذا المنديل. وهذا فعلته لأني خفتك؛ اعتقدت بأنك غير منطقي, ناظر بأنك تأخذ حيث لم تضع, وتسعى لتحصد حيث لم تزرع‘. عند ذاك قال ربه: "أنت خادم مهمل وغير مخلص, سأحكم عليك من فمك. لقد علمت بأنني أحصد حيث لم أزرع على ما يبدو؛ لذلك عرفتَ بأن هذا الحساب سيكون مطلوباً منك. عارف بهذا, كان يجب على الأقل أن تعطي مالي للصيرفي بحيث عند مجيئي قد يكون لدي معه فائدة مناسبة.‘
171:8.7 (1876.4) "ثم قال هذا الحاكم لأولئك الواقفين عن قرب: "خذوا المال من هذا الخادم الكسول وأعطوه للذي لديه عشر جنيهات‘. وعندما ذكـَّروا السيد بأن مثل هذا الشخص كان لديه بالفعل عشرة جنيهات, قال: ’إلى كل من لديه سيُعطى أكثر, لكن من ليس لديه, حتى ذلك الذي لديه سيؤخذ منه.‘"
171:8.8 (1876.5) وعند ذاك سعى الرُسل ليعرفوا الفرق بين معنى هذا المَثل وذلك المَثل السابق عن وحدات الوزن, لكن يسوع سيقول فقط, في الإجابة إلى أسئلتهم الكثيرة: "تمعنوا جيداً بهذه الكلمات في قلوبكم بينما يجد كل منكم معناها الحقيقي."
171:8.9 (1876.6) لقد كان نثانئيل الذي علـَّم جيداً جداً معنى هذين المَثلين في السنوات التالية, ملخصاً تعاليمه في هذه الاستنتاجات:
171:8.10 (1876.7) 1. المقدرة هي المقياس العملي لفرص الحياة. لن تُجعل مسؤولاً أبداً عن الإنجاز الذي يتجاوز قدراتك.
171:8.11 (1876.8) 2. الإخلاص هو المقياس الذي لا يخطئ لمصداقية الإنسان. من هو أمين في الأشياء القليلة من المرجح أيضاً أن يعرض الأمانة في كل شيء يتفق مع معطياته.
171:8.12 (1876.9) 3. يمنح السيد ثواباً أقل للأمانة الأقل عندما تكون هناك فرصة مماثلة.
171:8.13 (1877.1) 4. هو يمنح ثواباً مشابهاً لأمانة مشابهة عندما تكون هناك فرصة أقل.
171:8.14 (1877.2) عندما انتهوا من غذائهم, وبعد أن صعدت جموع الأتباع نحو أورشليم, واقف هناك أمام الرُسل في ظل صخرة معلقة بجانب الطريق, بكرامة بهيجة وجلال كريم أشار يسوع بإصبعه نحو الغرب, قائلاً: "تعالوا, يا إخواني, لنصعد نحو أورشليم, هناك لنستلم ما ينتظرنا؛ بهذا سنُحقق مشيئة الأب السماوي في كل الأشياء."
171:8.15 (1877.3) وهكذا استأنف يسوع ورُسله هذه, الرحلة الأخيرة للسيد إلى أورشليم في شبه جسد رجل فاني.
كِتاب يورانشيا
ورقة 172
172:0.1 (1878.1) وصل يسوع والرُسل إلى بيت-عنيا بعد الساعة الرابعة بقليل عصر يوم الجمعة, 31 آذار, عام 30 م. كان لِعازر, وأخواته, وأصدقاؤهم يتوقعون مجيئهم؛ وحيث إن كثير من الناس أتوا كل يوم للتحدث مع لِعازر عن قيامته, أُخبر يسوع أنه قد تم اتخاذ الترتيبات اللازمة له للبقاء مع أحد المؤمنين المجاورين, اسمعه سمعان, المواطن الوجيه في القرية الصغيرة منذ وفاة والد لِعازر.
172:0.2 (1878.2) في ذلك المساء, استقبل يسوع العديد من الزوار, وبذل عامة القوم من بيت-عنيا وبيت-فاج قصارى جهدهم لجعله يشعر أنه مُرَّحب به. مع أن كثيرين اعتقدوا بأن يسوع كان ذاهبًا الآن إلى أورشليم, في تحدٍ تام لمرسوم السنهدرين بالموت, ليعلن نفسه مَلكاً اليهود, إلا أن عائلة بيت-عنيا ــ لِعازر, ومارثا, ومريم ــ أدركوا بشكل أتم بأن السيد لم يكن ذلك النوع من المَلك؛ شعروا بضآلة بأن هذه قد تكون زيارته الأخيرة إلى أورشليم وبيت-عنيا.
172:0.3 (1878.3) تم إخبار رؤساء الكهنة بأن يسوع ماكث في بيت-عنيا, لكنهم اعتقدوا أنه من الأفضل عدم محاولة الإمساك به بين أصدقائه؛ قرروا انتظار مجيئه إلى أورشليم. عرف يسوع بكل هذا, لكنه كان هادئاً بشكل مهيب؛ لم يسبق له أن رآه أصدقاؤه أكثر رباطة جأش وتوافقًا؛ حتى الرُسل ذهلوا بأنه يجب أن يكون غير مهتم هكذاعندما دعا السنهدرين جميع اليهود لتسليمه إلى أياديهم. بينما نام السيد تلك الليلة, قام الرُسل بحراسته اثنان واثنان, وكان كثيرون منهم متمنطقين بالسيوف. في وقت مبكر من صباح اليوم التالي أيقظهم مئات من الحجاج الذين خرجوا من أورشليم, حتى في يوم السبت, لرؤية يسوع ولِعازر, الذي أقامه من بين الأموات.
172:1.1 (1878.4) كان الحجاج من خارج يهودا, وكذلك السُلطات اليهودية, جميعهم يسألون: "ماذا تظن؟ هل سيأتي يسوع إلى العيد؟" لذلك, عندما سمع الناس بأن يسوع كان في بيت-عنيا, ابتهجوا, لكن رؤساء الكهنة والفريسيين كانوا في حيرة من أمرهم نوعاً ما. كانوا سعداء بكونه تحت دائرة نفوذهم, لكنهم كانوا يشعرون بشيء من القلق من جرأته؛ تذكروا بأنه في زيارته السابقة إلى بيت-عنيا, أُقيم لِعازر من الموت, وكان لِعازر يصبح مشكلة كبيرة لأعداء يسوع.
172:1.2 (1878.5) قبل عيد الفصح بستة أيام, في المساء بعد السبت, اشتركت كل بيت-عنيا وبيت-فاج في الاحتفال بوصول يسوع بمأدبة عامة في بيت سمعان. كان هذا العشاء تكريما ليسوع ولِعازر؛ لقد قُدِّم في تحدٍ للسنهدرين. وجَّهت مارثا خدمة الطعام؛ كانت شقيقتها مريم بين النساء المتفرجات حيث كان ضد عادة اليهود أن تجلس المرأة في مأدبة عامة. كان عملاء السنهدرين حاضرين, لكنهم خافوا أن يلقوا القبض على يسوع وسط أصدقائه.
172:1.3 (1879.1) تحدث يسوع مع سمعان عن يشوع منذ القدم, الذي يحمل اسمه, وتلا كيف صعد يشوع والإسرائيليون إلى أورشليم عبر أريحا. في معرض تعليقه على أسطورة سقوط أسوار أريحا, قال يسوع: "لست مهتماً بمثل هذه الجدران من الطوب والحجارة؛ لكن أود أن أسبب لجدران التحيز, وبر-الذات, والكراهية ان تنهار أمام هذا الوعظ عن محبة الأب لجميع الناس."
172:1.4 (1879.2) سارت المأدبة بطريقة مبهجة وطبيعية للغاية باستثناء أن جميع الرسل كانوا يقظين بشكل غير عادي. كان يسوع مبتهجاً للغاية وكان يلعب مع الأولاد حتى وقت المجيء إلى المائدة.
172:1.5 (1879.3) لا شيء خارج عن المألوف حدث حتى قرابة نهاية الوليمة عندما تقدمت مريم شقيقة لِعازر إلى الأمام من بين جماعة النساء المتفرجات, وصاعدة إلى حيث اتكأ يسوع كضيف الشرف, وشرعت بفتح وعاء كبير من المرمر يحتوي على دهون نادرة جداً وثمينة؛ وبعد مسح رأس السيد, بدأت تصبّه على قدميه بينما حلت شعرها ومسحته به. امتلأ المنزل كله برائحة المسوح, وكان جميع الحاضرين مندهشين مما فعلته مريم. لم يقل لِعازر شيئًا, لكن عندما تذمر بعض الناس, مظهرين سخطهم على استخدام تلك الدهون باهظ التكلفة هكذا, صعد يوداص إسخريوط إلى حيث يتكئ أندراوس وقال: "لماذا لم يتم بيع هذا الدهن ويُغدق المال لإطعام الفقراء؟ يجب عليك أن تكلم السيد كي يوبخ مثل هذا الهدر."
172:1.6 (1879.4) يسوع, عارف بما يفكرون به وسامع ما قالوه, وضع يده على رأس مريم بينما ركعت بجانبه, وبتعبير حنون على وجهه, قال: "دعوها وحدها, كل واحد منكم. لماذا تزعجونها في هذا الأمر, ناظرون بأنها فعلت شيئاً جيداً في قلبها؟ إليكم الذين تتذمرون وتقولون بأن هذا الدهن كان ينبغي أن يُباع ويُعطى المال للفقراء, دعوني أقول بأن الفقراء دائماً معكم بحيث قد تسعفون إليهم في أي وقت يبدو جيداً لكم؛ لكنني لن أكون دائماً معكم؛ سأذهب قريباً إلى أبي. لقد احتفظت هذه المرأة منذ فترة طويلة بهذا الدهن لجسدي عند دفنه, والآن حيث إنه بدا حسناً لها أن تقوم بهذا المسح في توقع لموتي, فلن يُنكر عليها هذا الرضا. بفعلها بهذا, وبخت مريم كل منكم في أنها بهذا الفعل تُظهر إيمانًا بكل ما قلته عن موتي وصعودي إلى أبي في السماء. هذه المرأة لن تُلام على ما فعلته هذه الليلة, بالأحرى أقول لكم إنه في عصور لتأتي, حيثما يوعظ عن هذا الإنجيل في كل أنحاء العالَم, ما فعلته سيخبر عنها في ذِكراها."
172:1.7 (1879.5) لقد كان بسبب هذا الانتهار, الذي اعتبره توبيخًا شخصيًا, بأن يوداص إسخريوط عقد قراره أخيراً لأن يسعى للثأر لمشاعره المتأذية. كان قد خالج مرات كثيرة مثل هذه الأفكار دون وعي, لكنه الآن تجرأ على التفكير بتلك الأفكار الأثيمة في عقله المفتوح والواعي. وشجعه كثيرون آخرون في هذا الموقف حيث إن ثمن هذا الدهن كان مبلغاً يساوي مكاسب رَجل واحد لمدة عام ــ ما يكفي لتوفير الخبز لخمسة آلاف شخص. لكن مريم أحبت يسوع؛ لقد قدمت هذا الدهن الثمين الذي به لتحنط جسده في الموت, لأنها آمنت بكلماته عندما سبق وحذرهم من أنه يجب أن يموت, ولم يكن ليُنكر عليها إذا غيَّرت رأيها واختارت أن تمنح هذا التقديم للسيد بينما لا يزال حياً.
172:1.8 (1879.6) عرف كل من لِعازر ومارثا بأن مريم كانت تدخر المال منذ فترة طويلة لشراء هذا الوعاء من الناردين, ووافقا قلبياً على فعلها كما رغب قلبها في ذلك الأمر, لأنهم كانوا ميسورين ويمكنهم بسهولة تقديم مثل هذا التقدمة.
172:1.9 (1880.1) عندما سمع رؤساء الكهنة بهذا العشاء في بيت-عنيا من أجل يسوع ولِعازر, بدأوا يتشاورون فيما بينهم بشأن ما ينبغي عمله مع لِعازر. وفي الحاضر قرروا بأن لِعازر أيضاً يجب أن يموت. استنتجوا بحق بأنه سيكون من غير المجدي إعدام يسوع إذا سمحوا للِعازر, الذي أقامه من الأموات, أن يعيش.
172:2.1 (1880.2) في صباح يوم الأحد هذا, في حديقة سمعان الجميلة, دعا السيد رُسله الاثني عشر حوله وأعطاهم إرشاداتهم الأخيرة استعدادًا لدخول أورشليم. أخبرهم أنه من المحتمل أن يُلقي العديد من الخطابات ويعَّلم العديد من الدروس قبل عودته إلى الأب لكنه نصح الرُسل بالامتناع عن القيام بأي عمل عام خلال إقامة عيد الفصح هذا في أورشليم. أمرهم بالبقاء بالقرب منه وأن "يراقبوا ويُصَّلوا." عرف يسوع أن العديد من رُسله وأتباعه المباشرين حتى عند ذاك حملوا سيوفاً مخبأة على أجسامهم, لكنه لم يُشر إلى هذه الحقيقة.
172:2.2 (1880.3) اشتملت تعليمات هذا الصباح على مراجعة موجزة لإسعافهم من يوم سيامتهم قرب كفرناحوم نزولاً إلى هذا اليوم عندما كانوا يستعدون لدخول أورشليم. استمع الرُسل في صمت؛ لم يسألوا أي أسئلة.
172:2.3 (1880.4) في وقت مبكر من ذلك الصباح حَّول داود زَبـِدي إلى يوداص الأموال المحصلة من بيع معدات مخيم بـِلا, ويوداص, بدوره وضع الجزء الأكبر من هذا المال في يدي سمعان, مضيفهم, من أجل الحفظ الأمين تحسباً لمقتضيات دخولهم إلى أورشليم.
172:2.4 (1880.5) بعد الاجتماع مع الرُسل عقد يسوع محادثة مع لِعازر وأرشده بتجنب التضحية بحياته إلى ثأر السنهدرين. لقد كان امتثالًا لهذا التحذير بأن لِعازر, بعد أيام قليلة, هرب إلى فيلادلفيا عندما أرسل ضباط السنهدرين رجالاً لإلقاء القبض عليه.
172:2.5 (1880.6) بطريقة ما, أحس كل أتباع يسوع بالأزمة الوشيكة, لكنهم مُنعوا من الإدراك الكلي لجديتها بسبب البهجة غير العادية والمزاج الجيد الاستثنائي للسيد.
172:3.1 (1880.7) كانت بيت-عنيا على بعد حوالي ميلين من الهيكل, وكانت الساعة الواحدة والنصف بعد ظهر ذلك الأحد عندما استعد يسوع للسير إلى أورشليم. كان لديه مشاعر من الود العميق لبيت-عنيا وأهلها البسطاء. رفضته الناصرة, وكفرناحوم, وأورشليم, لكن بيت-عنيا قَبلته, آمنت به. ولقد كان في هذه القرية الصغيرة, حيث كان كل رجل, وامرأة, وطفل مؤمنين تقريباً, بحيث اختار أن يُجري أعظم عمل في إغداقه الأرضي, ألا وهو قيامة لِعازر. لم يُقم لِعازر بحيث قد يؤمن القرويين, بل لأنهم آمنوا بالفعل.
172:3.2 (1880.8) طوال الصباح كان يسوع يفكر في دخوله إلى أورشليم. حتى الآن كان دائماً يسعى إلى قمع كل إشادة علنية له باعتباره المسيح, لكن الأمر كان مختلفاً الآن؛ كان يقارب نهاية مهمته في الجسد, وقد صدر قرار بموته من قِبل السنهدرين, ولا ضرر يمكن أن يأتي من السماح لتلاميذه بالتعبير بحرية عن مشاعرهم, تماماً كما قد يحدث إذا اختار القيام بدخول رسمي وعلني إلى المدينة.
172:3.3 (1881.1) لم يقرر يسوع القيام بهذا الدخول العلني إلى أورشليم كمحاولة أخيرة للحصول على تأييد شعبي ولا كإمساك نهائي للسلطة. كما أنه لم يفعل ذلك لإرضاء الأشواق الإنسانية لتلاميذه ورُسله. لم يخالج يسوع أي من تلك الأوهام لحالِم خيالي؛ كان يعلم جيداً ماذا ستكون نتيجة هذه الزيارة.
172:3.4 (1881.2) حيث إنه اتخذ القرار بالدخول العلني إلى أورشليم, واجه السيد ضرورة اختيار طريقة مناسبة لتنفيذ مثل هذا القرار. فكـَّر يسوع في كل ما يسمى نبوءات عن المسيح الكثيرة والمتناقضة إلى حد ما, لكن بدا أنه لا يوجد سوى واحدة فقط ملائمة له لاتباعها. معظم هذه البيانات النبوية صَّورَت ملكاً, ابناً وخليفة لداود, جسور وعدواني دنيوي ومخـَّلِصٌ لكل إسرائيل من نير الهيمنة الغريبة. لكن كان هناك واحدة في الكتابات المقدسة ارتبطت أحياناً بالمسيح من قبل أولئك الذين تمسكوا أكثر بالمفهوم الروحي لرسالته, وهي ما اعتقد يسوع أنه يمكن أخذها بثبات كدليل لدخوله المتوقع إلى أورشليم. هذه الفقرة في الكتابات المقدسة كانت موجودة في كتاب زكريا, وقالت: "تهللي كثيراً, يا ابنة صهيون؛ اهتفي, يا ابنة أورشليم. هوذا ملككِ يأتي إليكِ. إنه عادل ويأتي بالخلاص. يأتي كالمتواضع, راكب على أتان, على جحش, مهر حمار."
172:3.5 (1881.3) دائماً ما كان الملك المحارب يدخل مدينة راكباً على حصان؛ ملك في مهمة سلام وصداقة دائماً دخل راكباً على حمار. لم يود يسوع دخول أورشليم كرجل يمتطي حصاناً, لكن كان راغباً للدخول بسلام وبنية حسنة باعتباره ابن الإنسان على ظهر حمار.
172:3.6 (1881.4) حاول يسوع منذ فترة طويلة عن طريق التعليم المباشر أن يقنع رُسله وتلاميذه بأن ملكوته لم يكن من هذا العالَم, بأنه كان أمر روحي بحت؛ لكنه لم ينجح في هذا الجهد. الآن, ما فشل في القيام به بالتعليم الواضح والشخصي, سيحاول تحقيقه من خلال نداء رمزي. تبعاً لذلك, بعد الغذاء مباشرة, دعا يسوع بطرس ويوحنا, وبعد توجيههما للذهاب إلى بيت-فاج, قرية مجاورة بعيدة قليلاً عن الطريق الرئيسي وعلى مسافة قصيرة إلى الشمال الغربي من بيت-عنيا, قال مضيفاً: "اذهبا إلى بيت-فاج, وعندما تصلان إلى مفترق الطرق, ستجدان جحشاً ابن أتان مربوطاً هناك. قوما بحل الجحش وأعيداه معكما. إذا سألكما أحد عن سبب قيامكا بهذا, فقط قولا, ’السيد بحاجة إليه.‘" وعندما ذهب الرسولان إلى بيت-فاج كما وجَّه السيد, وجدا الجحش مربوطاً قرب أمه في الشارع المفتوح وقريبًا من منزل في الزاوية. حينما بدأ بطرس في فك رباط الجحش, أتى صاحب الأتان وسألهما لماذا فعلا هذا, وعندما أجابه بطرس كما وجَّههما يسوع, قال الرجل: "إذا كان سيدك هو يسوع الجليلي, فليأخذ الجحش. وهكذا رجعا ومعهما الجحش.
172:3.7 (1881.5) بحلول هذا الوقت كان قد تجَّمع عدة مئات من الحجاج حول يسوع ورُسله. منذ منتصف اليوم كان الزوار المارّين في طريقهم إلى عيد الفصح قد تمهلوا. في هذه الأثناء, أخذ داود زَبـِدي وبعض زملائه المراسيل السابقين على عاتقهم الإسراع بالنزول إلى أورشليم, حيث نشروا الخبر بشكل فعال بين حشود الحجاج الزائرين حول الهيكل بأن يسوع الناصري سيقوم بدخول ظافر إلى المدينة. بناء على ذلك, توافد عدة آلاف من هؤلاء الزوار لاستقبال هذا النبي وصانع العجائب الذي كثر الحديث عنه, الذي آمن بعضهم بأنه المسيح. هذا الجمع, الخارج من أورشليم, التقى بيسوع والحشود الذاهبة نحو المدينة بالضبط بعد ما عبروا على حافة الزيتونات وبدأوا النزول إلى المدينة.
172:3.8 (1882.1) عندما انطلق الموكب من بيت-عنيا, كان هناك حماس كبير بين الحشود المحتفلة من تلاميذ ومؤمنين, وحجاج زائرين, وكثير منهم قادمون من الجليل وبيريا. قبل أن يبدأوا بقليل, وصلت الاثنتا عشرة امرأة من كتيبة النساء الأساسية وبرفقة بعض من زميلاتهن, إلى المشهد وانضممن لهذا الموكب الفريد بينما تحرك بفرح نحو المدينة.
172:3.9 (1882.2) قبل أن يبدأوا, وضع التوأم الألفيوس عباءتيهما على الحمار وأمسكوه بينما ركب السيد عليه. مع تحرك الموكب نحو قمة الزيتونات, ألقى الحشد المحتفل بملابسهم على الأرض وأحضروا أغصاناً من الأشجار القريبة ليصنعوا سجادة تكريم للحمار الذي يحمل الابن الملكي, المسيح الموعود. بينما تحركت الجموع الفرحة نحو أورشليم, بدأوا في الترنيم, أو بالأحرى الهتاف بصوت واحد, المزمور: "أوصنا لابن داود؛ مبارك الآتي باسم الرب, أوصنا في الأعلى. مبارك الملكوت النازل من السماء."
172:3.10 (1882.3) كان يسوع خفيف الروح ومرحاً بينما تحركوا حتى وصلوا إلى حافة الزيتونات, حيث ظهرت المدينة وأبراج الهيكل في رؤية تامة؛ هناك أوقف السيد الموكب, وأتى صمت عظيم على الجميع عندما رأوه يبكي. متطلع إلى الحشد الهائل الآتي من المدينة ليحييه, قال السيد, بعاطفة جياشة وبصوت دامع: "يا أورشليم, لو فقط عرفتِ, حتى أنتِ, على الأقل في يومكِ هذا, الأشياء التي تخص سلامكِ, والتي كان بمقدورك أخذها مجاناً! لكن الآن هذه الأمجاد على وشك أن تُخبأ عن عينيكِ. أنتِ على وشكٍ أن ترفضي ابن السلام وتديري ظهركِ لإنجيل الخلاص. ستأتي الأيام قريباً عليك حينما سيقيم أعداؤكِ خندقاً حولكِ ويحاصرونك من كل جانب؛ سوف يدمرونك كلياً حتى لا يترك حجر على حجر آخر. وكل هذا سيحل بكِ لأنكِ لم تعرفي وقت افتقادك الإلَهي. أنتِ على وشك أن ترفضي هدية الله, وسوف يرفضك كل الناس."
172:3.11 (1882.4) عندما انتهى من الكلام, بدأوا نزول الزيتونات وفي الحاضر انضمت إليهم جموع الزائرين الذين أتوا من أورشليم يلوحون بأغصان النخيل, ويصيحون أوصنا, وسوى ذلك يُعبّرون عن الفرح والرفقة الطيبة. لم يخطط السيد أن تخرج هذه الجموع من أورشليم لملاقاتهم؛ ذلك كان عمل آخرين. لم يتعمد مسبقاً أي شيء كان دراماتيكياً.
172:3.12 (1882.5) إلى جانب الجموع التي تدفقت لاستقبال السيد, جاء أيضًا العديد من الفريسيين وأعدائه الآخرين. كانوا منزعجين للغاية من هذا الاندفاع المفاجئ وغير المتوقع للهتاف الشعبي بحيث خافوا أن يلقوا القبض عليه لئلا يؤدي هذا الإجراء إلى ثورة مفتوحة للعامة. لقد خافوا بشدة من موقف الأعداد الكبيرة من الزوار, الذين سمعوا الكثير عن يسوع, والذين, كثير منهم, آمنوا به.
172:3.13 (1882.6) بينما اقتربوا من أورشليم, أصبحت الجموع أكثر تظاهراً, كثيراً جداً بحيث أن بعض الفريسيين شقوا طريقهم إلى جانب يسوع وقالوا: "يا معلم, ينبغي عليك توبيخ تلاميذك وأن تحثهم على التصرف بلياقة أكثر." أجاب يسوع: "إنه فقط من اللائق بأن يرحب هؤلاء الأولاد بابن السلام, الذي رفضه رؤساء الكهنة. سيكون من غير المجدي إيقافهم لئلا عوضاً عنهم ستصرخ هذه الحجارة على جانب الطريق.
172:3.14 (1882.7) أسرع الفريسيون أمام الموكب ليلتحقوا بالسنهدرين, الذي كان حينها منعقدًا في الهيكل, وأبلغوا رفاقهم: "انظروا, كل ما نفعله لا جدوى منه؛ نحن حائرون بهذا الجليلي. لقد جن الشعب عليه؛ إذا لم نوقف هؤلاء الجهلة, فسوف يذهب كل العالَم وراءه."
172:3.15 (1883.1) لم يكن هناك في الحقيقة أي أهمية عميقة تعلق على هذا الفوران الظاهري والتلقائي للحماس العام. هذا الترحيب, على الرغم من أنه كان فرحًا وصادقًا, لم يؤخذ كدليل لأي قناعة حقيقية أو عميقة الجذور في قلوب هذا الجمهور الاحتفالي. كانت هذه الحشود نفسها على نفس القدر من الاستعداد بسرعة لرفض يسوع في وقت لاحق من هذا الأسبوع عندما اتخذ السنهدرين موقفاً حازماً ومقرراً ضده, وعندما أصيبوا بخيبة الأمل ــ عندما أدركوا بأن يسوع لم يكن ذاهب ليؤسس الملكوت وفقاً لتوقعاتهم المعززة منذ أمد طويل.
172:3.16 (1883.2) لكن المدينة بأكملها كانت مُثارة بقوة, لدرجة أن الجميع سألوا, "من هو هذا الرَجل؟" والجموع أجابت, "هذا نبي الجليل, يسوع الناصري."
172:4.1 (1883.3) بينما أعاد التوأم الألفيوس الحمار إلى صاحبه, انفصل يسوع والرُسل العشرة عن زملائهم المباشرين وتجولوا حول الهيكل, مستعرضين الاستعدادات لعيد الفصح. لم تُبذل أي محاولة لمضايقة يسوع حيث إن السنهدرين خافوا الشعب بشدة, وكان ذلك, على كل حال, أحد الأسباب التي كانت لدى يسوع للسماح للجماهير أن يهتفوا له. قليلاً فهم الرُسل بأن هذا كان الإجراء البشري الوحيد الذي كان من الممكن ان يكون فعَّالاً في منع إلقاء القبض الفوري على يسوع عند دخول المدينة. أراد السيد أن يعطي سكان أورشليم, عالين ومنخفضين, بالإضافة إلى عشرات الآلاف من زوار عيد الفصح, هذه الفرصة الإضافية والأخيرة لسماع الإنجيل واستلام, لو رغبوا في ذلك, ابن السلام.
172:4.2 (1883.4) والآن, مع حلول المساء وذهاب الجموع في طلب الغذاء, تُرك يسوع وأتباعه المباشرون وحدهم. أي يوم غريب كان! كان الرُسل كثيري التفكير, لكن عاجزين عن الكلام. أبداً لم يروا مثل هذا اليوم في سنوات ارتباطهم بيسوع,. للحظة جلسوا قرب الخزينة, مراقبين الناس يلقون بمساهماتهم: وضع الأغنياء الكثير في صندوق الاستلام والكل أعطوا شيئاً وفقًا لحجم ممتلكاتهم. أخيراً جاءت أرملة فقيرة, مكسوة بالشح, وراقبوا بينما ألقت فلسين (قطع نحاس صغيرة) في البوق. وعندئذٍ قال يسوع, داعياً انتباه الرُسل إلى الأرملة: "انتبهوا جيداً لما رأيتم للتو. هذه الأرملة المسكينة ألقت أكثر من كل الآخرين. لأن كل هؤلاء الآخرين, من فائضهم, ألقوا مبلغاً زهيداً كهبة, لكن هذه المرأة المسكينة, رغم حاجتها, أعطت كل ما لديها, حتى معيشتها."
172:4.3 (1883.5) مع اقتراب المساء, تجولوا حول أروقة الهيكل في صمت, وبعد أن استطلع يسوع هذه المشاهد المألوفة مرة أخرى, متذكراً مشاعره المتعلقة بالزيارات السابقة, ليس مستثنياً الأبكر منها, قال, لنصعد إلى بيت-عنيا من أجل راحتنا." ذهب يسوع, مع بطرس, ويوحنا, إلى بيت سمعان, بينما أقام الرُسل الآخرون بين أصدقائهم في بيت-عنيا وبيت-فاج.
172:5.1 (1883.6) مساء هذا الأحد بينما عادوا إلى بيت-عنيا, سار يسوع أمام الرُسل. ولا كلمة قيلت حتى انفصلوا بعد أن وصلوا إلى منزل سمعان. لم يسبق أن اختبر أي اثنا عشر كائناً بشرياً مثل هذه المشاعر المتنوعة والتي لا يمكن تفسيرها كما جاشت الآن في عقول ونفوس سفراء الملكوت هؤلاء. كان هؤلاء الجليليون الأقوياء مرتبكين ومضطربين؛ لم يعرفوا ماذا يتوقعون بعد ذلك؛ كانوا مندهشين جداً ليكونوا خائفين. لم يعرفوا شيئاً عن خطط السيد لليوم التالي, ولم يطرحوا أي أسئلة. ذهبوا إلى أماكن مكوثهم, ولو إنهم لم يناموا كثيراً, ما عدا التوأم. لكنهم لم يقيموا حراسة مسلحة ليسوع في منزل سمعان.
172:5.2 (1884.1) كان أندراوس محتاراً تماماً, تقريباً مرتبك. كان الرسول الوحيد الذي لم يأخذ على عاتقه أن يُقيم بجدّية فورة الاستحسان الشعبية. كان منشغلاً للغاية بالتفكير بمسؤولياته كرئيس للكتيبة الرسولية لكي يولي اعتباراً جاداً لمعنى أو مغزى هتافات الأوصنا الصاخبة للجموع. كان أندراوس مشغولاً يراقب بعض زملائه الذين خاف أن ينقادوا بعيداً بعواطفهم أثناء الإثارة, خاصة بطرس, ويعقوب, ويوحنا, وسمعان زيلوطس. طوال هذا اليوم والأيام التي تلت مباشرة, كان أندراوس منزعجاً من شكوك جدّية, لكنه لم يُعرب أبداً عن أي من هذه الهواجس إلى زملائه الرُسل. كان قلقاً إزاء موقف بعض من الاثني عشر الذين كان يعرف أنهم مسلحين بالسيوف؛ لكنه لم يعرف بأن شقيقه الخاص, بطرس, كان يحمل مثل هذا السلاح. وهكذا ترك الموكب إلى أورشليم انطباعاً سطحياً نسبياً على أندراوس؛ كان مشغولاً للغاية بمسؤوليات وظيفته ليكون متأثراً بخلاف ذلك.
172:5.3 (1884.2) كان سمعان بطرس في البداية تقريباً مُكتسحاً عن قدميه بظاهرة الحماس الشعبي هذه؛ لكنه كان متيقظاً بدرجة كبيرة بوقت رجوعهم إلى بيت-عنيا تلك الليلة. لم يتمكن بطرس ببساطة من إدراك مقصد السيد. كان خائب الأمل للغاية لأن يسوع لم يتبع موجة التأييد الشعبي هذه بنوع من التصريح. لم يستطع بطرس فهم لماذا لم يتحدث يسوع إلى الجموع عندما وصلوا إلى الهيكل, أو على الأقل سمح لاحد الرُسل بمخاطبة الجموع. كان بطرس واعظاً عظيماً, وكره رؤية هذا العدد الكبير من المستمعين, والمتقبلين, والمتحمسين يُبَدد. كان يود كثيراً أن يعظ إنجيل الملكوت إلى ذلك الحشد هناك في الهيكل؛ لكن السيد كان قد عهد إليهم على وجه التحديد بعدم القيام بأي تعليم أو وعظ بينما في أورشليم في عيد الفصح هذا. كانت ردة الفعل من الموكب المذهل نحو المدينة كارثية لسمعان بطرس؛ بحلول الليل كان يقظاً وحزيناً بشكل لا يوصف.
172:5.4 (1884.3) بالنسبة ليعقوب زَبـِدي, كان هذا الأحد يوماً من الحيرة والارتباك العميق؛ لم يستطع استيعاب مغزى ما يجري؛ لم يتمكن من فهم هدف السيد في السماح بهذه الإشادة الجامحة وبعدئذٍ في رفض قول كلمة للناس عندما وصلوا إلى الهيكل. بينما تحرك الموكب نزولاً من الزيتونات نحو أورشليم, بالأخص عندما التقوا بالآلاف من الحجاج الذين تدفقوا للترحيب بالسيد, كان يعقوب ممزقاً بقسوة بسبب مشاعره المتضاربة من الغبطة والإمتنان لما رآه وبشعوره العميق من الخوف مما سيحدث عندما يصلون الهيكل. وبعدئذٍ كان منكسر الخاطر ومُتغلب عليه بخيبة الأمل عندما نزل يسوع عن الحمار وتقدم ليمشي على مهل حول أروقة الهيكل. لم يستطع يعقوب فهم سبب التخلي عن مثل هذه الفرصة الرائعة لإعلان الملكوت. بحلول الليل, كان عقله محبوسًا بقوة في قبضة حالة من عدم اليقين مؤلمة ومروعة.
172:5.5 (1884.4) جاء يوحنا زَبـِدي نوعاً ما قريبًا من فهم لماذا فعل يسوع هذا؛ على الأقل أدرك جزئياً المغزى الروحي لهذا المدعو دخول مُظفّر إلى أورشليم. بينما تحركت الجموع نحو الهيكل, وبينما رأى يوحنا سيده جالساً هناك على الأتان, تذكر أنه سمع يسوع في أحد الأوقات يقتبس مقطع الكتابات المقدسة, الكلام عن زكريا, الذي وصف مجيء المسيح كرجل سلام وراكب إلى أورشليم على جحش.بينما قَلبَ يوحنا هذه الكتابة في عقله, بدأ يستوعب المغزى الرمزي لمهرجان بعد ظهر هذا الأحد. على الأقل, استوعب ما يكفي من معنى هذه الكتابات المقدسة لتمكينه إلى حد ما من الاستمتاع بالحدث ومنعه من أن يصبح مكتئباً للغاية بالنهاية التي بلا هدف على ما يبدو للموكب الظافر. كان لدى يوحنا نوع من العقل يميل بشكل طبيعي لأن يفكر ويشعر في رموز.
172:5.6 (1885.1) كان فيليبُس غير مستقر تماماً بفجائية وعفوية الفوران. لم يستطع جمع أفكاره بشكل كافٍ بينما على الطريق نزولاً من الزيتونات للتوصل إلى أي فكرة مستقرة حول معنى المظاهرة. بطريقة ما, استمتع بالأداء, لأن سيده كان يتم تكريمه. بحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى الهيكل, كان قلقاً من فكرة أن يسوع ربما يطلب منه إطعام الجموع, بحيث أن تصرف يسوع في الابتعاد على مهل من الحشود, ما خيَبَ بمرارة أمل غالبية الرُسل, كان فرجاً كبيراً لفيليبُس. كانت الجموع في بعض الأحيان بمثابة تجربة عظيمة إلى مُضيف الاثني عشر. بعد أن تحرر من هذه المخاوف الشخصية فيما يتعلق بالاحتياجات المادية للحشود, انضم فيليبُس إلى بطرس في التعبير عن خيبة الأمل لعدم القيام بأي شيء لتعليم الجموع. تلك الليلة تفكر فيليبُس في هذه التجارب وكان مُغرى في أن يشك بفكرة الملكوت بأكملها؛ بأمانة تساءل عما يمكن أن تعنيه كل هذه الأشياء, لكنه لم يُعرب عن شكوكه لأحد؛ لقد أحب يسوع كثيراً. كان لديه إيمان شخصي كبير بالسيد.
172:5.7 (1885.2) نثانئيل, على حدة من الجوانب الرمزية والنبوية, جاء الأقرب لفهم سبب السيد من تجنيد الدعم الشعبي لحجاج عيد الفصح. لقد استنتج منطقياً, قبل وصولهم إلى الهيكل, أنه بدون مثل هذا الدخول التظاهري إلى أورشليم لكان قد تم القبض على يسوع من قبل مسؤولي السنهدرين وألقي في السجن في اللحظة التي افترض فيها أن يدخل المدينة. لم يكن, لذلك, في الأقل مندهشاً من أن السيد لم يجعل أي استخدام إضافي للحشود الهاتفة متى ما أصبح داخل أسوار المدينة وهكذا أثـَّر عنوة على القادة اليهود بحيث يمتنعون عن وضعه قيد الاعتقال على الفور. من خلال فهم السبب الحقيقي لدخول السيد المدينة بهذه الطريقة, تبع نثانئيل بشكل طبيعي مع المزيد من الاتزان وكان أقل انزعاجاً وخيبة أمل من سلوك يسوع اللاحق من الرُسل الآخرين. كان لدى نثانئيل ثقة عظيمة في تفهم يسوع للناس وكذلك إلى فطنته وبراعته في التعامل مع المواقف الصعبة.
172:5.8 (1885.3) كان متـّى محتاراً في البداية من هذا الأداء للمهرجان. لم يدرك معنى ما تراه عيناه حتى تذكر الكتابات المقدسة في زكريا حيث ألمح النبي إلى تهلل أورشليم لأن ملكها جاء يجلب الخلاص وراكب على أتان. بينما تحرك الموكب في اتجاه المدينة وعندما اقتربوا نحو الهيكل, أصبح متـّى منتشياً؛ كان على يقين من أن شيئاً غير عادي سيحدث عندما يصل السيد إلى الهيكل على رأس هذا الجمهور الصاخب. عندما سخر أحد الفريسيين من يسوع, قائلاً, "انظروا, جميعًا, انظروا من يأتي هنا, ملك اليهود راكباً على حمار!" أبعد متـّى يديه عنه فقط بممارسة ضبط النفس العظيم. لم يكن أي من الاثني عشر أكثر اكتئاباً في طريق العودة إلى بيت-عنيا ذلك المساء. تالياً إلى سمعان بطرس وسمعان زيلوطس, قاسى أعلى توتر عصبي وكان في حالة من الإنهاك بحلول الليل. لكن في الصباح كان متـّى أكثر طيبة نفس؛ لقد كان, بعد كل شيء, خاسراً طيب النفس.
172:5.9 (1886.1) كان توما الرَجل الأكثر حيرةً وارتباكاً من بين الاثني عشر. معظم الوقت هو فقط تبع إلى جانبهم, وهو يحدق في المشهد ويتساءل بصدق عما يمكن أن يكون دافع السيد للمشاركة في هذه المظاهرة الغريبة. في أعماق قلبه اعتبر الأداء كله طفوليًا بعض الشيء, إذا لم يكن أحمقاً بكل ما في الكلمة من معنى. لم يسبق له أن رأى يسوع يفعل شيئاً كهذا وكان في حيرة بسبب سلوكه الغريب بعد ظهر هذا الأحد. بحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى الهيكل, استنتج توما بأن هدف هذه المظاهرة الشعبية كان إرعاب السنهدرين بحيث لن يجرؤوا على إلقاء القبض على السيد على الفور. في طريق العودة إلى بيت-عنيا فكـَّر توما كثيراً لكنه لم يقل شيئاً. بحلول وقت النوم كانت مهارة السيد في إخراج هذا الدخول الصاخب إلى أورشليم قد بدأت في إثارة جاذبية فكاهية إلى حد ما, وقد سُرَّ كثيراً بردة الفعل هذه.
172:5.10 (1886.2) بدأ هذا الأحد كيوم عظيم لسمعان زيلوطس. رأى رؤى لأعمال رائعة في أورشليم في الأيام القليلة التالية, وفي ذلك كان محقًا, لكن سمعان كان يحلم بتأسيس حكم قومي جديد لليهود, مع يسوع على عرش داود. رأى سمعان الوطنيين ينطلقون إلى العمل فور إعلان الملكوت, وكان هو نفسه في القيادة العليا للقوات العسكرية المتجمعة للملكوت الجديد. على طريق النزول من الزيتونات هو حتى تصَّور السنهدرين وجميع المتعاطفين معهم أموات قبل غروب شمس ذلك اليوم. لقد اعتقد حقاً أن شيئاً عظيماً سيحدث. كان الرَجل الأكثر ضجيجًا في كل الجموع. بحلول الساعة الخامسة من عصر ذلك اليوم كان رسولاً صامتاً, ومُحطَّماً, وخائب الأمل. لم يتعافى أبدًا تماماً من انقباض النفس الذي استقر عليه نتيجة لصدمة هذا اليوم؛ على الأقل ليس إلا بعد فترة طويلة من قيامة السيد.
172:5.11 (1886.3) بالنسبة للتوأم الألفيوس كان هذا يوماً ممتازاً. لقد استمتعا به حقًا طوال الوقت, ولم يكونا حاضرين أثناء وقت الزيارة الهادئة حول الهيكل, هربا من الكثير من الهبوط المفاجئ للفوران الشعبي. لم يتمكنا من فهم السلوك المحبَط للرُسل عندما عادوا إلى بيت-عنيا ذلك المساء. في ذاكرة التوأم كان هذا دائماً يوم كونهما الأقرب إلى السماء على الأرض. كان هذا اليوم ذروة الرضا لكل مهمتهما كرُسل. وحملتهما ذكرى التيه عصر هذا الأحد خلال كل مأساة هذا الأسبوع الحافل بالأحداث, صعوداً إلى ساعة الصلب. كان هذا هو الدخول الأكثر لياقة لملك الذي كان بإمكان التوأم أن يتصوراه؛ لقد استمتمتعا بكل لحظة في المهرجان بأكمله. وافقا تمامًا على كل ما رأياه وعززاه في الذاكرة لفترة طويلة.
172:5.12 (1886.4) من بين جميع الرُسل, كان يوداص إسخريوط الأكثر تأثراً بشكل سلبي بهذا الدخول الموكبي إلى أورشليم. كان عقله في اختمار مكروه بسبب توبيخ السيد له في اليوم السابق في علاقة مع مسوح مريم عند الوليمة في منزل سمعان. كان يوداص مشمئزاً من المشهد كله. بالنسبة له بدا الأمر طفولياً, إن لم يكن بالفعل مدعاة للسخرية. بينما نظر هذا الرسول الثأري إلى وقائع عصر هذا الأحد, بدا يسوع إليه ليشبه المهرج أكثر من كونه ملكًا. لقد استاء بشدة من الأداء كله. شارك وجهة نظر اليونانيين والرومان, الذين نظروا بازدراء إلى كل شخص يوافق على ركوب جحش أو حمار. بحلول الوقت الذي دخل فيه الموكب الظافر إلى المدينة, كان يوداص قد اتخذ قراره تقريباً بالتخلي عن فكرة هكذا ملكوت؛ كان تقريباً مصمماً أن يتخلى عن كل هذه المحاولات الهزلية لتأسيس ملكوت السماء. ثم فـَّكر في قيامة لِعازر, وأشياء أخرى كثيرة, وقرر البقاء مع الاثني عشر, على الأقل ليوم آخر. إلى جانب ذلك, كان يحمل الحقيبة, ولم يود الهجر مع الأموال الرسولية التي كانت بحوزته. في طريق العودة إلى بيت-عنيا تلك الليلة لم يبدو سلوكه غريباً حيث أن كل الرُسل كانوا بنفس القدر صامتين وكئيبين.
172:5.13 (1887.1) كان يوداص متأثراً بشدة بالاستهزاء من أصدقائه الصدوقيين. . لم يكن هناك عامل آخر له مثل هذا التأثير القوي عليه, في قراره النهائي لهجر يسوع وزملائه الرُسل, مثل حدث استطرادي معين حدث بالضبط عندما وصل يسوع إلى بوابة المدينة: اندفع إليه صدّوقي وجيه (صديق لعائلة يوداص) بروح استهزاء مرح, ولاطماً إياه على ظَهره, قال: "لماذا قلق الملامح هكذا, يا صديقي الصالح؛ ابتهج وانضم إلينا جميعًا بينما نهتف ليسوع الناصري هذا ملك اليهود وهو يركب عبر أبواب أورشليم جالس على حمار. لم ينكمش يوداص أبداً من الاضطهاد, لكنه لم يتحمل هذا النوع من السخرية. مع عاطفة الانتقام المغذاة منذ أمد طويل كان هناك الآن مزيج من هذا الخوف القاتل من السخرية, وذلك الشعور الرهيب والمخيف من كونه خجلاً بسيده وزملائه الرُسل. في القلب, كان هذا السفير المرسوم للملكوت قد هجر بالفعل؛ فقط بقي له أن يجد عذراً ما شبه مقبول لفسخ مفتوح مع السيد.
كِتاب يورانشيا
ورقة 173
173:0.1 (1888.1) في وقت مبكر من صباح هذا الاثنين, بترتيب مسبق, اجتمع يسوع والرُسل في بيت سمعان في بيت-عنيا, وبعد مؤتمر قصير انطلقوا إلى أورشليم. كان الاثنا عشر صامتين بشكل غريب أثناء سيرهم نحو الهيكل؛ لم يكونوا قد تعافوا من تجربة اليوم السابق. كانوا متوقعين, وخائفين, ومتأثرين بعمق بشعور معين من العزلة ناشيء عن التغيير المفاجئ لتكتيكات السيد, إلى جانب إرشاداته بأن لا يتعاطوا في أي تعليم علني طوال أسبوع الفصح هذا.
173:0.2 (1888.2) بينما سارت هذه الجماعة نزولاً من جبل الزيتون, قاد يسوع الطريق, وتبعه الرُسل عن كثب في صمت تأملي. كانت هناك فكرة واحدة فقط في الصدارة في عقول الجميع باستثناء يوداص إسخريوط, وكانت تلك: ماذا سيفعل السيد اليوم؟ كانت الفكرة الوحيدة التي استحوذت على يوداص: ماذا أفعل؟ هل سأستمر مع يسوع وزملائي, أم سأنسحب؟ وإذا كنت سأترك, فكيف سأنفصل؟
173:0.3 (1888.3) كانت الساعة حوالي التاسعة في هذا الصباح الجميل عندما وصل هؤلاء الرجال إلى الهيكل. ذهبوا في الحال إلى الفناء الكبير حيث علـَّم يسوع في كثير من الأحيان, وبعد تحية المؤمنين الذين كانوا في انتظاره, اعتلى يسوع أحد منابر التعليم وبدأ يخاطب الجمهور المتجمع. انسحب الرُسل لمسافة قصيرة وانتظروا التطورات.
173:1.1 (1888.4) كانت قد نمَت حركة تجارية ضخمة مرتبطة بخدمات واحتفالات العبادة في الهيكل. كان هناك مصلحة تزويد الحيوانات الملائمة لمختلف التضحيات. مع أنه كان مسموحاً للعابد أن يزود تضحياته الخاصة, بقي الواقع بأن هذا الحيوان يجب أن يكون خالياً من كل "عيب" بالمعنى المقصود في الشريعة اللاوية ووفقاً لتفسير المفتشين الرسميين للهيكل. عانى الكثير من العابدين من إذلال رفض فاحصي الهيكل لحيوانهم الذي يفترض أنه مثالي. لذلك أصبح شراء الأضاحي من الهيكل الممارسة الأكثر شيوعاً, وعلى الرغم من وجود العديد من المحطات بالقرب من جبل الزيتون حيث يمكن شراؤها, فقد أصبح الشائع شراء هذه الحيوانات مباشرة من حظائر الهيكل. تدريجياً نمَت هذه العادة لبيع كل أنواع حيوانات التضحية في أروقة الهيكل. وهكذا نشأت أعمال تجارية واسعة النطاق, والتي تم من خلالها تحقيق أرباح هائلة. كان جزء من هذه المكاسب يُخصَص لخزينة الهيكل, لكن الجزء الأكبر ذهب بشكل غير مباشر إلى أيدي عائلات كبار الكهنة الحاكمين.
173:1.2 (1888.5) ازدهر هذا البيع للحيوانات في الهيكل لأنه, عندما اشترى العابد مثل هذا الحيوان, على الرغم من أن السعر قد يكون باهظاً إلى حد ما, لم يتعين عليه دفع رسوم إضافية, وكان يمكنه التأكد بأن التضحية المقصودة لن تُرفَض على أساس أن لديها عيوب حقيقية أو تقنية. في وقت من الأوقات كانت تُمارَس أنظمة من المدفوعات الباهظة الفاحشة على عامة الناس, خاصة أثناء الأعياد الوطنية الكبرى. في أحد الأوقات ذهب الكهنة الجشعون إلى حد المطالبة بما يعادل أسبوع عمل لزوج من الحمام كان ينبغي أن يُباع للفقراء مقابل بضعة بنسات. كان "أبناء آنّاس" قد بدأوا بالفعل في إقامة أسواقهم في حرم الهيكل, تلك الأسواق التجارية ذاتها التي استمرت حتى وقت الإطاحة بها النهائي من قبل الغوغاء قبل ثلاث سنوات من تدمير الهيكل نفسه.
173:1.3 (1889.1) لكن الاتجار في الأضاحي والبضائع المتنوعة لم يكن الطريقة الوحيدة التي تم بها تدنيس أروقة الهيكل. في هذا الوقت كان هناك نظام واسع النطاق للتبادل المصرفي والتجاري يجري مباشرة داخل حرم الهيكل. وحدث كل هذا على النحو التالي: أثناء عهد السلالة الملكية الأصمونية, صك اليهود عملتهم الفضية الخاصة بهم, وأصبح من المعتاد المطالبة برسوم الهيكل من نصف شاقل وجميع مستحقات الهيكل الأخرى لتُدفع بهذه العملة اليهودية. استلزم هذا التنظيم أن يُسمح للصرافين بتبادل أنواع عديدة من العملات المتداولة في جميع أنحاء فلسطين ومقاطعات أخرى من الإمبراطورية الرومانية مقابل هذا الشاقل التقليدي من العملة اليهودية. ضريبة الرأس للهيكل, التي يدفعها الجميع باستثناء النساء, والعبيد, والقًصر, كانت نصف شاقل, عملة معدنية بحجم قطعة العشرة سنتات لكن سمكها ضعف ذلك. في أوقات يسوع كان الكهنة أيضاً معفيين من دفع مستحقات الهيكل. وبناءً عليه, من الخامس عشر إلى الخامس والعشرين من الشهر الذي يسبق عيد الفصح, أقام الصرافون المعتمدون أكشاكهم في المدن الرئيسية في فلسطين بغرض تزويد الشعب اليهودي بالمال المناسب للوفاء برسوم المعبد بعد وصولهم إلى أورشليم. بعد هذه الفترة التي استمرت عشرة أيام انتقل هؤلاء الصرافون إلى أورشليم وباشروا بوضع طاولات الصرف الخاصة بهم في أروقة الهيكل. كان مسموحاً لهم تحصيل ما يعادل من ثلاثة إلى أربعة سنتات عمولة مقابل عملة معدنية قيمتها حوالي عشرة سنتات, وفي حال عرض عملة ذات قيمة أكبر للتبادل, كان مسموحاً لهم أن يأخذوا الضعف. بالمثل استفاد مصرفيو الهيكل هؤلاء من تبديل جميع الأموال المخصصة لشراء الأضاحي ومن أجل دفع النذور وتقديم القرابين.
173:1.4 (1889.2) مصرفيو الهيكل هؤلاء لم يجروا فقط أعمالاً مصرفية نظامية من أجل الربح من خلال مبادلة أكثر من عشرين نوعاً من المال التي كان يجلبها الحجاج الزائرون بشكل دوري إلى أورشليم, لكنهم كذلك تعاطوا في كل أنواع الصفقات الأخرى المتعلقة بالأعمال المصرفية. استفادت كل من خزينة الهيكل وحكام الهيكل بشكل كبير من هذه الأنشطة التجارية. لم يكن من غير المألوف أن تحتفظ خزينة الهيكل بأكثر من عشرة ملايين دولار بينما رزح عامة الشعب في الفقر واستمروا في دفع هذه الرسوم الجائرة.
173:1.5 (1889.3) في وسط هذا التجمع الصاخب من الصيارفة, والتجار, وبائعي الماشية, حاول يسوع, هذا الصباح أن يعَّلم إنجيل الملكوت السماوي. لم يكن وحيداً في الإستياء من هذا التدنيس للهيكل؛ كذلك عامة الناس, خاصة الزوار اليهود من الولايات الأجنبية, استاءوا بشدة من هذا التدنيس الإستغلالي لدار عبادتهم القومي. في هذا الوقت عقد السنهدرين نفسه اجتماعاته النظامية في غرفة محاطة بكل هذه الثرثرة والارتباك من التجارة والمقايضة.
173:1.6 (1890.1) بينما كان يسوع على وشك أن يبدأ خطابه, حدث شيئان لفتا انتباهه. عند طاولة النقود لمبادل بالقرب نشأ جدال عنيف وساخن حول تحصيل زائد مزعوم ليهودي من الإسكندرية, بينما في نفس اللحظة كان الهواء ممزقاً بخوار قطيع من حوالي مائة ثور كانت تُساق من قسم من حظائر الحيوانات إلى آخر. بينما توقف يسوع, تأمل في هذا المشهد من التجارة والارتباك بصمت لكن بتفكير ملي, رأى بالقرب جليلياً بسيط العقلية, رجل كان قد تحدث معه ذات مرة في أيرون, يتعرض للسخرية ويُدفع بالمنكب من قِبل رَجل شامخ الأنف من يهودا ومتفوق عليه؛ وكل هذا تجَّمع لإنتاج واحدة من تلك الانتفاضات الغريبة والدورية للعاطفة الغاضبة في نفـْس يسوع.
173:1.7 (1890.2) لدهشة رُسله, الواقفين عن قُرب, والذين امتنعوا عن المشاركة فيما تبع قريباً, نزل يسوع عن منبر التعليم, وذاهب إلى الفتى الذي كان يسوق الماشية عبر الرواق, أخذ منه سوطه من الحبال وقاد الحيوانات بسرعة من الهيكل. لكن هذا لم يكن كل شيء؛ سار بشكل مهيب أمام التحديق المتعجب للألوف المتجمعة في فناء الهيكل إلى أبعد حظيرة للماشية وشرع في فتح بوابات كل إسطبل وليسوق خارجاً الحيوانات المسجونة. بهذا الوقت كان الحجاج المتجمعون مكهربين, وتحركوا بصراخ صاخب نحو الأسواق وبدأوا في قلب طاولات الصيارفة. في أقل من خمس دقائق تم كنس كل التجارة من الهيكل. بحلول الوقت الذي ظهر فيه الحراس الرومان القريبون على المشهد, كان كل شيء هادئاً, وكانت الجماهير قد أصبحت نظامية؛ يسوع عائد إلى منبر المتكلم, تكلم إلى الجموع: "هذا اليوم شهدتم ما هو مكتوب في الكتابات المقدسة: ’سيُدعى منزلي منزلاً للصلاة لجميع الأمم, لكنكم جعلتموه وكر لصوص.‘"
173:1.8 (1890.3) لكن قبل أن يتفوه بكلمات أخرى, اندلع الجمع العظيم في أوصنا من الحمد, وفي الوقت الحالي خرج حشد من الشباب من بين الجمهور ليغَّنوا ترانيم تقدير ممتنة بأن تم طرد التجار الدنسين والإستغلاليين من الهيكل المقدس. بحلول هذا الوقت وصل بعض الكهنة على المشهد, وقال أحدهم ليسوع, "أما تسمع ما يقوله أبناء اللاويين؟" فأجاب السيد, "أما قرأتم قط, ’من أفواه الأطفال والرضع قد تكامل الحمد‘؟" وطوال بقية ذلك اليوم بينما علـَّم يسوع وقف الحراس الذين وضعهم الشعب يراقبون عند كل قنطرة, ولم يسمحوا لأحد بحمل حتى إناء فارغ عبر أروقة الهيكل.
173:1.9 (1890.4) عندما سمع رؤساء الكهنة والكتبة بهذه الأحداث, أصيبوا بالذهول. زاد خوفهم من السيد, وعزموا أكثر على إهلاكه. لكنهم كانوا ذاهلين. لم يعرفوا كيف يحققون موته, لأنهم خافوا بشدة من الجموع, الذين كانوا الآن صريحين جداً في موافقتهم على إطاحته للمنتهكين الإستغلاليين. وطوال هذا اليوم, يوم من الهدوء والسلام في أروقة الهيكل, سمع الناس تعليم يسوع وتعلقوا بكلماته حرفياً.
173:1.10 (1890.5) كان هذا العمل المفاجئ ليسوع ما فوق استيعاب رُسله. ذهلوا للغاية بهذه الخطوة المفاجئة وغير المتوقعة لسيدهم بحيث ظلوا طوال الحدث متجمعين معاً بالقرب من منبر المتحدث؛ لم يرفعوا يداً واحدة لدعم هذا التنظيف للهيكل. لو كان هذا الحدث المذهل قد وقع في اليوم السابق, وقت وصول يسوع الظافر إلى الهيكل عند انتهاء موكبه الصاخب عبر بوابات المدينة, وكل هذا في أثناء الهتاف العالي للجموع, كانوا جاهزين لذلك, لكن كما حدث, فقد كانوا غير مستعدين للمشاركة كلياً.
173:1.11 (1891.1) هذا التنظيف للهيكل يفشي موقف السيد تجاه المتاجرة بالممارسات الدينية وكذلك عن مقته لكل أشكال الظلم والربح على حساب الفقراء وغير المتعلمين. توضح هذه الحادثة الهامة أيضًا أن يسوع لم ينظر باستحسان إلى رفض استخدام القوة لحماية الأكثرية في أي فئة بشرية معينة ضد الممارسات غير العادلة والاستعبادية للأقليات الظالمة التي قد تكون قادرة على تحصين نفسها وراء السلطة السياسية, أو المالية, أو الكنسية. لا يجوز السماح لأناس دُهاة, وماكرين, وأثيمين أن ينظموا أنفسهم لاستغلال واضطهاد أولئك الذين, بسبب مُثلهم, ليسوا ميالين للجوء إلى القوة لحماية أنفسهم أو لتعزيز مشاريعهم الحياتية المحمودة.
173:2.1 (1891.2) في يوم الأحد أرهب الدخول الظافر إلى أورشليم القادة اليهود بحيث امتنعوا عن وضع يسوع قيد الإعتقال. اليوم, هذا التطهير المذهل للهيكل بالمثل أجَّل بفعالية إلقاء القبض على السيد. يوماً بعد يوم كان حكام اليهود يصبحون أكثر وأكثر إصراراً على إهلاكه, لكنهم كانوا مذهولين من إثنين من المخاوف, التي تواطأت لتأخير ساعة الضرب. لم يكن رؤساء الكهنة والكتبة مستعدين لإلقاء القبض على يسوع علانية خوفاً من أن ينقلب عليهم الجمهور في ثورة من الاستياء؛ كما تخوفوا من إحتمال استدعاء الحراس الرومان لقمع انتفاضة شعبية.
173:2.2 (1891.3) في جلسة الظهيرة للسنهدرين تم الإتفاق بالإجماع على أن يسوع يجب أن يُهلك بسرعة, نظراً إلى أنه لم يحضر أحد من أصدقاء السيد هذا الاجتماع. لكنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على موعد وكيفية اعتقاله. أخيراً اتفقوا على تعيين خمس جماعات للخروج بين الناس والسعي للإيقاع به في تعليمه أو سوى ذلك لتشويه سمعته في نظر من استمع إلى إرشاده. بناء على ذلك, حوالي الساعة الثانية, عندما كان يسوع قد بدأ للتو محاضرته حول "حرية البنوة", جعلت جماعة من هؤلاء الشيوخ في إسرائيل طريقها صعوداً بالقرب من يسوع, ومقاطعينه في أسلوب معتاد, طرحوا هذا السؤال: "بأي سُلطة تفعل هذه الأشياء؟ من أعطاك هذه السُلطة؟"
173:2.3 (1891.4) لقد كان من المناسب تماماً أن يسأل حكام الهيكل وضباط السنهدرين اليهود هذا السؤال لأي شخص يفترض أن يعلم ويؤدّي بالطريقة الاستثنائية التي كانت مميزة ليسوع, خاصة فيما يتعلق بسلوكه الأخير في إخلاء الهيكل من كل تجارة. عَمِلَ هؤلاء التجار والصرافون جميعًا بترخيص مباشر من أعلى الحكام, وكان من المفترض أن تذهب نسبة مئوية من مكاسبهم مباشرة إلى خزينة الهيكل. لا تنسى بأن السُلطة كانت كلمة المرور لكل اليهود. كان الأنبياء دائماً يثيرون المتاعب لأنهم افترضوا بجرأة أن يعَّلموا دون سُلطة, دون أن يكونوا قد تلقوا تعليمًا كما ينبغي في الأكاديميات الحاخامية وبعد ذلك تم تعيينهم بانتظام من قبل السنهدرين. كان يُنظر إلى الافتقار إلى هذه السُلطة في التعليم العلني على أنه يشير إما إلى الافتراض الجاهل أو التمرد المفتوح. في هذا الوقت كان بإمكان السنهدرين فقط تعيين شيخ أو معلم, وكان يجب أن يتم مثل هذا الاحتفال بحضور ثلاثة أشخاص على الأقل سبق أن عُّينوا على هذا النحو. منح هكذا تعيين لقب "رابي" للمعلم وأهَّله أيضًا للعمل كقاضي, "يربط ويحل الأمور التي قد تُعرض عليه للفصل فيها.
173:2.4 (1892.1) جاء رؤساء الهيكل أمام يسوع في ساعة بعد الظُهر هذه ليس فقط لتحدي تعليمه بل أعماله. كان يسوع يعلم جيداً بأن هؤلاء الرجال أنفسهم كانوا قد علـَّموا علناً منذ فترة طويلة بأن سُلطته في التعليم كانت شيطانية, وبأن كل أعماله القديرة كانت من صنع قدرة أمير الأبالسة. لذلك استهل السيد إجابته على سؤالهم بطرح سؤال مضاد عليهم. قال يسوع: "أود أيضًا أن أطرح عليكم سؤالاً واحداً, الذي إذا أجبتموني عليه, أنا سأخبركم أيضًا بأي سُلطة أقوم بهذه الأعمال. معمودية يوحنا, من أين كانت؟ هل حصل يوحنا على سُلطته من السماء أم من الرجال؟"
173:2.5 (1892.2) وعندما سمع سائليه هذا, انسحبوا إلى جانب واحد للتشاور فيما بينهم حول الإجابة التي قد يقدمونها. لقد فكَّروا بإحراج يسوع أمام الجموع, لكنهم الآن وجدوا أنفسهم في حيرة كبيرة من أمرهم أمام كل المتجمعين عند ذلك الوقت في ساحة الهيكل. واندحارهم كان أكثر وضوحاً عندما رجعوا إلى يسوع, قائلين: "بما يخص معمودية يوحنا, لا يمكننا الإجابة؛ لا نعلم." وأجابوا السيد هكذا لأنهم تفكَّروا فيما بينهم: إذا قلنا من السماء, عندئذٍ سيقول, لماذا لم تؤمنوا به, ولعله يُضيف بأنه استلم سُلطته من يوحنا؛ وإذا قلنا من عند الناس, عندئذٍ قد تتحول الجموع ضدنا, لأن معظمهم يعتقد بأن يوحنا نبي؛ وهكذا اضطروا للمثول أمام يسوع والشعب معترفين بأنهم, قادة ومعلمي إسرائيل, لا يستطيعون, (أو لن) يعبروا عن رأي حول مهمة يوحنا. ولما تكلموا, قال يسوع, ناظر إليهم بازدراء, "ولا أنا سأخبركم بأي سُلطة أفعل هذه الأشياء."
173:2.6 (1892.3) لم يقصد يسوع أبداً أن يلتجيء إلى يوحنا من أجل سُلطته؛ لم يكن يوحنا مُعَّيناً أبداً من قبل السنهدرين. كانت سُلطة يسوع في نفسه وفي سيادة أبيه الأبدي.
173:2.7 (1892.4) في توظيف هذا الأسلوب من التعامل مع أعدائه, لم يقصد يسوع أن يتجنب السؤال. في البداية قد يبدو أنه كان مذنباً بتهرب بارع, لكن الأمر لم يكن هكذا. لم يكن يسوع ميالاً أبداً للإستفادة غير المنصفة حتى من أعدائه. في هذا التملص الظاهر هو في الحقيقة قدم لجميع سامعيه الإجابة على سؤال الفريسيين حول السُلطة وراء مهمته. كانوا قد زعموا بأنه كان يؤدي بسُلطة أمير الأبالسة. أكد يسوع مراراً بأن كل تعليمه وأعماله كانت بقدرة وسُلطة أبيه في السماء. هذا رَفَضَ القادة اليهود قبوله وكانوا يسعون لحصاره للإعتراف بأنه معلم غير نظامي حيث إنه لم يُصادَق عليه قط من قِبل السنهدرين. في إجابته إياهم كما فعل, بينما لم يدعي السُلطة من يوحنا, فقد أرضى الناس باستنتاج أن جهود أعدائه للإيقاع به قد تحولت عليهم بشكل فعال وكان كثيراً لتشويه سمعتهم في نظر جميع الحاضرين.
173:2.8 (1892.5) ولقد كانت هذه العبقرية للسيد في التعامل مع خصومه ما جعلهم يخافونه بشدة. لم يحاولوا طرح المزيد من الأسئلة ذلك اليوم؛ تقاعدوا لأخذ مزيد من الشورى فيما بينهم. لكن الناس لم يكونوا بطيئين ليفطنوا إلى عدم الأمانة وعدم الإخلاص في هذه الأسئلة التي طرحها الحكام اليهود. حتى عامة الناس لم يفشلوا في التمييز بين الجلال الأخلاقي للسيد والنفاق المخطط لأعدائه. لكن تطهير الهيكل جلب الصدوقيين إلى جانب الفريسيين في إتقان الخطة لإهلاك يسوع. ومَثـَّل الصدوقيون الآن غالبية السنهدرين.
173:3.1 (1893.1) بينما وقف الفريسيون المماحكون هناك في صمت أمام يسوع, نظر إليهم بازدراء وقال: "بما أنكم في شك من مهمة يوحنا ومصطفين في عداوة ضد تعليم وأعمال ابن الإنسان, انصتوا بينما أخبركم مَثلاً: مالك أراضي معين عظيم ومحترم كان لديه ولدان, وراغب في مساعدة أبنائه في إدارة أملاكه الكثيرة, أتى إلى واحد منهما, قائلاً, ’يا بني اذهب واعمل اليوم في كرمي‘.فأجاب هذا الابن الطائش أبيه, قائلاً, ’لن أذهب‘؛ لكن بعد ذلك ندم وذهب. ولما وجد ابنه الأكبر, قال له بالمثل, ’يا بني, اذهب واعمل في كرمي‘. فأجاب هذا الابن المرائي وغير المخلص, ’نعم, يا أبي, سأذهب‘. لكن عندما رحل أباه, لم يذهب. دعوني أسألكم, أي من هذين الابنين فعل بالفعل مشيئة أبيه؟"
173:3.2 (1893.2) فتكلم الناس بصوت واحد, قائلين, "الابن الأول". وعند ذلك قال يسوع: "حتى هكذا؛ والآن أصرح بأن العشارين والعاهرات, حتى ولو إنهم يبدون أن يرفضوا الدعوة إلى التوبة, سيرون خطأ طريقهم ويدخلون ملكوت الله قبلكم, الذين جعلتم ادعاءات كبيرة لخدمة الأب في السماء بينما ترفضون القيام بأعمال الأب. لم تكونوا أنتم, الفريسيون والكتبة, الذين آمنوا بيوحنا, بل بالأحرى العشارين والخطاة؛ ولا أنتم تؤمنون بتعليمي, لكن عامة الناس يسمعون كلماتي بابتهاج."
173:3.3 (1893.3) لم يحتقر يسوع الفريسيين والصدوقيين شخصياً. كانت أنظمتهم في التعليم والممارسة هي ما سعى ليشين. لم يكن معادياً لأي إنسان, لكن هنا كان يحدث الصدام الحتمي بين دِين الروح الجديد والحي والدِين القديم المتمثل في المراسم, والتقاليد, والسُلطة.
173:3.4 (1893.4) طوال هذا الوقت وقف الرُسل الاثنا عشر بالقرب من السيد, لكنهم لم يشاركوا بأي شكل في هذه التعاملات. كان كل واحد من الاثني عشر يتفاعل بطريقته الخاصة مع أحداث هذه الأيام الأخيرة لإسعاف يسوع في الجسد, وظل كل واحد بالمثل خاضعاً لإيعاز السيد بالإمتناع عن كل تعليم ووعظ علني خلال أسبوع الفصح هذا.
173:4.1 (1893.5) عندما انتهى رؤساء الفريسيين والكتبة الذين سعوا للإيقاع بيسوع بأسئلتهم من الاستماع إلى قصة الإبنين, انسحبوا لأخذ مزيد من المشورة, والسيد مُحَّول انتباهه إلى الجموع المنصتة, أخبر مَثلاً آخر:
173:4.2 (1893.6) "كان هناك رَجل صالح رب منزل, وقد زرع كرماً. أقام سياجاً حوله, وحفر حفرة لمعصرة النبيذ, وبنى برج مراقبة للحراس. بعد ذلك رهن كرمه إلى مستأجرين بينما ذهب في رحلة طويلة إلى بلد آخر. وعندما اقترب موسم الإثمار, أرسل خدامه إلى المستأجرين ليستلموا إيجاره. لكنهم تشاوروا فيما بينهم ورفضوا أن يعطوا هؤلاء الخدام الثمار المستحقة لسيدهم؛ بدلاً من ذلك, وقعوا على خُدامه, ضربوا أحدهم, ورجموا الآخر, وباعثين الآخرين خالي الوفاض. وعندما سمع رب المنزل بكل هذا, أرسل خدام آخرين وأكثر موثوقية للتعامل مع هؤلاء المستأجرين الأشرار, وهؤلاء جرحوهم وكذلك عاملوهم بطريقة مخزية. وعند ذلك أرسل رب المنزل خادمه المفضل, مضيفه, وإياه قتلوا. ومع ذلك, في صبر وطول أناة, أرسل العديد من الخدم الآخرين, لكنهم لن يستلموا أي منهم. قاموا بضرب بعضهم, وقتلوا البعض الآخر, وعندما تم التعامل مع صاحب المنزل على هذا النحو, قرر إرسال إبنه للتعامل مع هؤلاء المستأجرين الجاحدين, قائلاً لنفسه, ’قد يسيئون معاملة خدمي, لكنهم بالتأكيد سيُظهرون الاحترام لابني الحبيب‘. لكن عندما رأى هؤلاء المستأجرون الأشرار وغير التائبين الابن, فكـَّروا فيما بينهم: ’هذا هو الوارث, فلنقتله وحينئذ يكون الميراث لنا‘. هكذا أمسكوه, وبعد إلقائه خارج الكرم, قتلوه. عندما يسمع رب الكرم كيف رفضوا وقتلوا ابنه, ماذا سيفعل بأولئك المستأجرين الأشرار الجاحدين؟"
173:4.3 (1894.1) وحين سمع الناس هذا المَثل والسؤال الذي طرحه يسوع, أجابوا, "سوف يُهلِك أولئك الرجال التعساء ويؤجر كرمه إلى مزارعين آخرين وأمناء يعطونه الثمار في مواسمها." ولما أدرك بعض من الذين سمعوا أن هذا المَثل أشار إلى الأمة اليهودية ومعاملتها للأنبياء وإلى الرفض الوشيك ليسوع وإنجيل الملكوت, قالوا في أسف, "لا قـَّدر الله بأننا سنستمر في فعل هذه الأشياء."
173:4.4 (1894.2) رأى يسوع جماعة من الصدوقيين والفريسيين يشقون طريقهم بين الجموع, وتوقف للحظة حتى اقتربوا منه, عندها قال: "تعرفون كيف رفض آباؤكم الأنبياء, وتعرفون جيداً بأنكم وضعتم في قلوبكم أن ترفضوا ابن الإنسان." وبعدئذٍ, متطلع بنظرة فاحصة إلى أولئك الكهنة والشيوخ الواقفين بالقرب منه, قال يسوع: "ألم تقرأوا قط في الكتابات المقدسة عن الحجر الذي رفضه البناءون, والذي, عندما اكتشفه الناس, جعلوه حجر الزاوية؟ وهكذا أحذركم مرة أخرى بأنكم, إذا استمريتم في رفض هذا الإنجيل, فسوف يؤخذ ملكوت الله منكم في الحاضر ويُعطى لشعب راغب في تلقي الأخبار الصالحة وإخراج ثمار الروح. وهناك سِر حول هذا الحجر, حيث أن من يسقط عليه, بينما يتحطم إلى قطع, سيُخَّلَص؛ لكن كل من وقع عليه هذا الحجر, سيُطحن إلى غبار ويتناثر رماده إلى الرياح الأربع."
173:4.5 (1894.3) عندما سمع الفريسيون هذه الكلمات, فهموا أن يسوع أشار إليهم وإلى القادة اليهود الآخرين. لقد رغبوا بشدة أن يلقوا القبض عليه عند ذاك وهناك, لكنهم خافوا الجموع. مع ذلك, كانوا غاضبين للغاية من كلمات السيد بحيث انسحبوا وعقدوا المزيد من الشورى فيما بينهم بالنسبة إلى كيف يمكن أن يجلبوا موته. وتلك الليلة تضافرت جهود كِلا الصدوقيين والفريسيين في التخطيط للإيقاع به في اليوم التالي.
173:5.1 (1894.4) بعد أن انسحب الكتبة والحكام, خاطب يسوع مرة أخرى الجمهور المتجمع وتحدث عن مَثل وليمة العرس. قال:
173:5.2 (1894.5) "يُمكن تشبيه ملكوت السماء بملك معين أقام وليمة زواج لابنه وأرسل مرسلين لاستدعاء أولئك الذين دعاهم سابقاً إلى الوليمة للمجيء, قائلين, ’كل شيء جاهز من أجل عشاء الزواج في قصر الملك‘. الآن, العديد من أولئك الذين وعدوا مرة بالحضور, في هذا الوقت رفضوا الحضور. فلما سمع الملك برفض دعوته, أرسل خدماً ورسلًا آخرين, قائلاً: ’اخبروا جميع أولئك الذين أمروا أن يأتوا, أن يأتوا, لأنه, هوذا, عشائي جاهز. ثيراني ومسمناتي قد قتلت, والكل جاهز من أجل الاحتفال بالزواج الوشيك لابني‘. لكن مرة أخرى استخف الطائشون بهذه الدعوة من مَلكهم, وذهبوا في طريقهم, واحد إلى المزرعة, وآخر إلى صناعة الفخار, وآخرون إلى بضائعهم. لا يزال آخرون لم يكونوا راضين بالاستخفاف بدعوة المَلِك, لكنهم في تمرد مفتوح وضعوا أيديهم على رسل الملك وأساءوا معاملتهم بشكل مخجل, حتى أنهم قتلوا بعضهم. وعندما أدرك الملك بأن ضيوفه المختارين, حتى أولئك الذين كانوا قد قَبلوا دعوته الأولية ووعدوا بحضور وليمة الزفاف, قد رفضوا أخيراً دعوته وفي تمرد قاموا بالاعتداء على رسله المختارين وذبحهم, كان حانقاً للغاية. وعندئذٍ أمر هذا الملك المهان جيوشه وجيوش حلفائه وأمرهم بتدمير هؤلاء القتلة المتمردين وحرق مدينتهم.
173:5.3 (1895.1) "وعندما عاقب أولئك الذين استهانوا بدعوته, عيَّن يوماً آخر لوليمة العرس وقال لمراسيله: ’إن الذين دُعِوا أولاً إلى العرس لم يكونوا جديرين؛ اذهبوا الآن إلى مفترقات الطرق والطرقات العامة وحتى ما وراء حدود المدينة, وبقدر ما تجدون, ادعوا حتى هؤلاء الغرباء أن يأتوا ويحضروا وليمة العرس هذه‘. وعند ذاك خرج هؤلاء الخدم إلى الطرقات العامة والأماكن البعيدة عن الطريق, وجَّمعوا معًا بقدر ما وجدوا, طيبًا وسيئًا, غنيًا وفقيرًا, حتى امتلأت غرفة العرس أخيراً بالضيوف الراغبين. عندما كان كل شيء جاهزاً, جاء الملك لرؤية ضيوفه, وكثيراً لدهشته رأى رَجلاً بلا لباس زفاف. الملك, حيث إنه قدم ملابس الزفاف لجميع ضيوفه مجاناً, مخاطباً هذا الرَجل, قال: ’يا صديق, كيف تأتي إلى غرفة ضيوفي على هذه المناسبة بدون لباس زفاف؟‘ وهذا الرَجل غير المستعد كان عاجزاً عن الكلام. عندئذٍ قال الملك لخدامه: ’أخرجوا هذا الضيف الطائشر من منزلي ليشارك كل الآخرين الذين استهانوا بضيافتي ورفضوا دعوتي. لن يكون لدي هنا سوى أولئك الذين يبتهجون بقبول دعوتي, والذين يشرفوني بارتداء ملابس الضيوف هذه التي زودتها مجاناً للجميع.‘"
173:5.4 (1895.2) بعد أن قال هذا المَثل, كان يسوع على وشك أن يصرف الجموع عندما سأل مؤمن متعاطف, وهو يشق طريقه بين الجموع نحوه: "لكن, يا سيد, كيف لنا أن نعرف بهذه الأشياء؟ كيف نكون مستعدين لدعوة الملك؟ أي علامة ستعطيها التي بها سنعرف بأنك ابن الله؟" فلما سمع السيد هذا, قال, "علامة واحدة فقط ستُعطى لكم." وعند ذاك, مشيراً إلى جسده الخاص, تابع, "دمروا هذا الهيكل, وفي ثلاثة أيام سأقيمه." لكنهم لم يفهموه, وبينما هم تفرقوا, تحدثوا فيما بينهم, قائلين, "في ما يقرب من خمسين عامًا كان هذا الهيكل في البناء, ومع ذلك يقول أنه سيدمره ويقيمه في ثلاثة أيام." حتى رُسله لم يدركوا أهمية هذا الكلام, لكن لاحقاً, بعد قيامته, تذكروا ما قاله.
173:5.5 (1895.3) في حوالي الرابعة بعد ظهر هذا اليوم دعا يسوع رُسله وأشار إلى رغبته في مغادرة الهيكل والذهاب إلى بيت-عنيا من أجل وجبتهم المسائية وليلة من الراحة. في الطريق صعوداً إلى الزيتونات أرشد يسوع أندراوس, وفيليبُس, وتوما, بأنه ينبغي لهم , في الغد, أن يقيموا مخيماً أقرب للمدينة يمكنهم أن يشغلونه خلال ما تبقى من أسبوع الفصح. امتثالاً لهذه التعليمات نصبوا خيامهم في الصباح التالي في وادٍ بجانب تل يشرف على منتزه التخييم العام في الجثسيماني, على قطعة أرض يملكها سمعان من بيت-عنيا.
173:5.6 (1896.1) مرة أخرى كانت جماعة صامتة من اليهود الذين شقوا طريقهم صعوداً إلى المنحدر الغربي للزيتونات ليلة الاثنين هذه. هؤلاء الرجال الاثنا عشر, كما لم يحدث أبداً من قبل, كانوا يبدأون بالشعور بأن شيئا مأساويا على وشك الحدوث. في حين أن التطهير الدراماتيكي للمعبد خلال الصباح الباكر كان قد أيقظ آمالهم برؤية السيد يُثبت نفسه ويُظهر قدراته العظيمة, إلا أن أحداث فترة ما بعد الظهيرة بأكملها كانت فقط بمثابة ذروة معكوسة بحيث أشارت كلها إلى الرفض المؤكد لتعليم يسوع من قِبل السُلطات اليهودية. استحوذ الترقب على الرُسل وكانوا محتجزين في قبضة حازمة من عدم اليقين المريع. أدركوا بأن بضعة أيام قصيرة فقط يمكنها أن تتداخل بين أحداث اليوم التي انقضت للتو وارتطام قدر غاشم وشيك. شعروا جميعًا بأن شيئاً هائلاً كان على وشك أن يحدث, لكنهم لم يعرفوا ماذا يتوقعون. ذهبوا إلى أماكنهم المختلفة للراحة, لكنهم ناموا قليلاً جداً. حتى التوأم الألفيوس أخيراً استيقظا إلى إدراك أن أحداث حياة السيد كانت تتحرك بسرعة نحو ذروتها النهائية.
كِتاب يورانشيا
ورقة 174
174:0.1 (1897.1) في حوالي الساعة السابعة من صباح هذا الثلاثاء, التقى يسوع بالرُسل, وكتيبة النساء, وحوالي دزينتين من التلاميذ البارزين الآخرين في بيت سمعان. في هذا اللقاء, ودّع لِعازر, وأعطاه تلك التعليمات التي دفعته سريعًا إلى الفرار إلى فيلادلفيا في بيريا, حيث أصبح فيما بعد مرتبطاً بالحركة التبشيرية التي يوجد مقرها في تلك المدينة. ودَّع يسوع أيضًا سمعان المسن, وقدم نصيحته الوداعية لكتيبة النساء, حيث إنه لن يخاطبهن رسمياً مرة أخرى.
174:0.2 (1897.2) هذا الصباح حيا كل من الاثني عشر بتحية شخصية, قال لأندراوس: "لا تنزعج من الأحداث التي أمامنا بالضبط, احفظ قبضة حازمة على إخوانك وانظر بأنهم لا يجدونك منكسر الخاطر." قال لبطرس: "لا تضع ثقتك في ذراع الجسد ولا بأسلحة الفولاذ. ثبت نفسك على الأُسس الروحية للصخور الأبدية." قال ليعقوب: "لا تتعثر بسبب المظاهر الخارجية. ابق ثابتاً في إيمانك, وستعرف قريباً حقيقة ما تؤمن به." قال ليوحنا: "كن لطيفاً؛ أحب حتى أعداءك؛ كن متسامحاً. وتذكَّر بأني قد استأمنتك بأشياء كثيرة." قال لنثانئيل: "لا تحكم بالمظاهر؛ إبق ثابتاً في إيمانك عندما يبدو أن كل شيء يتلاشى؛ كن وفيا لمأموريتك كسفير للملكوت." قال لفيليبُس: "لا تكن مُتأثراً بالأحداث الوشيكة الآن. ابق ثابتًا, حتى عندما لا تستطيع رؤية الطريق. كن مخلصاً ليمين تكريسك." قال لمتـّى: "لا تنس الرحمة التي استقبلتك في الملكوت. لا يخدعك أحد في ثوابك الأبدي. كما صمدتَ أمام ميول الطبيعة الفانية, كن راغباً لأن تكون راسخاً." قال لتوما: "بغض النظر عن مدى صعوبة الأمر, الآن بالضبط يجب أن تسير بالإيمان وليس بالبصر. لا تشك بأني قادر على إنهاء العمل الذي بدأته, وبأني سأرى في نهاية المطاف جميع سفرائي المخلصين في الملكوت ما بعد." قال للتوأم الألفيوس: "لا تسمحا للأشياء التي لا تفهمانها أن تسحقكما. كونا صادقين إلى عواطف قلبيكما ولا تضعا ثقتكما في أي من الرجال العظماء أو في الموقف المتبدل للناس. قفا إلى جانب إخوانكما." ولسمعان زيلوطس قال: "يا سمعان, قد تسحقك خيبة الأمل, لكن روحك ستنهض فوق كل ما قد يأتي عليك. ما فشلت في تعلمه مني, ستعلمه روحي لك. إبحث عن الحقائق الحقيقية للروح وتوقف عن الانجذاب إلى الظلال غير الواقعية والمادية." وليوداص إسخريوط قال: "يوداص, لقد أحببتك وصَّليت لكي تحب إخوانك. لا تتعب من عمل الخير؛ وأود أن أحذرك لتحترس من طرق الإطراء الزلقة ونبال السخرية السامة."
174:0.3 (1897.3) وعندما أنهى هذه التحيات, رحل إلى أورشليم مع أندراوس, وبطرس, ويعقوب, ويوحنا بينما شرع الرُسل الآخرون في إنشاء مخيم الجثسيماني, حيث كانوا سيذهبون تلك الليلة, وحيث جعلوا مقرهم لما تبقى من حياة السيد في الجسد. حوالي منتصف الطريق نزولاً على منحدر جبل الزيتون, توقف يسوع وزار أكثر من ساعة مع الرُسل الأربعة.
174:1.1 (1898.1) لعدة أيام كان بطرس ويعقوب منشغلين في مناقشة اختلاف وجهات نظرهما حول تعليم السيد بخصوص مغفرة الخطيئة. اتفقا على عرض الأمر على يسوع, وتبنى بطرس هذه المناسبة كفرصة مناسبة لتأمين مشورة السيد. بناءً على ذلك, دخل سمعان بطرس على المحادثة التي تتناول الفروق بين الحمد والعبادة, بالسؤال: "يا سيد, أنا ويعقوب لسنا متفقين فيما يتعلق بتعاليمك المختصة بمغفرة الخطيئة, يدَّعي يعقوب بأنك تعَّلم بأن الأب يغفر لنا حتى قبل أن نسأله, وأنا أصّر بأن التوبة والاعتراف يجب أن تسبق المغفرة. فمن منا على حق؟ ماذا تقول؟"
174:1.2 (1898.2) بعد صمت قصير تطلع يسوع بشكل ملحوظ إلى الأربعة وأجاب: "يا إخواني, أنتم تخطئون في آرائكم لأنكم لا تفهمون طبيعة تلك العلاقات الحميمة والمحبة بين المخلوق والخالق, بين الإنسان والله. أنتم تفشلون في إدراك أن التعاطف المتفهم الذي يخالجه الوالد الحكيم تجاه طفله غير الناضج والمخطئ أحياناً. من المشكوك فيه حقاً ما إذا كان الآباء الأذكياء والمحبون مطالبين أبداً بمسامحة طفل عادي وطبيعي. إن فهم العلاقات المرتبطة بمواقف الحب يمنع بشكل فعال كل ذلك النفور الذي يستلزم لاحقاً إعادة تعديل التوبة من قبل الطفل مع تسامح الوالدين.
174:1.3 (1898.3) "يعيش جزء من كل أب في الطفل. يتمتع الأب بأسبقية وتفوق التفهم في كل الأمور المتعلقة بعلاقة الطفل-الوالد. الوالد قادر على رؤية عدم نضوج الطفل في ضوء النضج الأبوي الأكثر تقدماً, الخبرة الأكثر نضجًا للشريك الأكبر سناً. مع الطفل الأرضي والأب السماوي, يمتلك الوالد الإلَهي لانهائية وألوهية التعاطف والاستطاعة على التفهم المحب. الغفران الإلَهي أمر لا بد منه؛ إنه متأصل وغير قابل للتحويل في فهم الله اللامحدود, في معرفته المثالية بكل ما يتعلق بالحكم المغلوط والاختيار الخاطئ للطفل. إن العدالة الإلهية منصفة إلى الأبد بحيث أنها تجسد بلا كلل رحمة متفهمة.
174:1.4 (1898.4) "عندما يفهم رَجل حكيم الدوافع الداخلية لزملائه, فإنه سيحبهم. وعندما تحب أخيك, فقد غفرت له بالفعل. هذه القدرة على فهم طبيعة الإنسان ومسامحة خطئه الظاهر هي شبيهة بالله. إذا كنتم والِدِين حكيمين, فهذه هي الطريقة التي بها ستحبون أولادكم وتفهمونهم, حتى تسامحونهم عندما يفرقكم سوء فهم عابر على ما يبدو. الطفل, كائن غير ناضج وينقصه التفهم الكامل لعمق العلاقة بين الولد-الأب, يجب أن يشعر في كثير من الأحيان بإحساس بالذنب للانفصال عن الموافقة الكاملة للأب, لكن الأب الحقيقي لا يكون واعياً أبداً لأي انفصال من هذا القبيل. الخطيئة هي تجربة وعي المخلوق؛ إنها ليست جزءًا من وعي الله.
174:1.5 (1898.5) "إن عدم مقدرتكم أو عدم رغبتكم في مسامحة زملائكم هو مقياس عدم نضجكم, فشلكم في تحقيق التعاطف الناضج, والتفـَّهم, والمحبة. أنتم تتمسكون بضغائن وتحتضنون ثأراً في تناسب مباشر مع جهلكم بالطبيعة الداخلية والأشواق الحقيقية لأطفالكم وللكائنات زملائكم. المحبة هي العمل الظاهري للحث الإلَهي والداخلي للحياة. إنها مؤسسة على الفهم, وتتغذى بالخدمة اللا-أنانية, وتتكامل في الحكمة."
174:2.1 (1899.1) في مساء الاثنين كان هناك اجتماع بين السنهدرين ونحو خمسين زعيماً إضافياً تم اختيارهم من بين الكتبة, والفريسيين, والصدوقيين. كان الإجماع في هذا الاجتماع بأنه سيكون من الخطر القبض على يسوع في الأماكن العامة بسبب قبضته على مشاعر عامة الشعب. كما كان رأي الأغلبية أنه ينبغي بذل جهد حازم لتشويه سمعته في نظر الجمهور قبل اعتقاله وتقديمه إلى المحاكمة. بناء على ذلك, تم تعيين عدة جماعات من الرجال المتعلمين ليكونوا في متناول اليد في صباح اليوم التالي في الهيكل ليأخذوا على عاتقهم الإيقاع به بأسئلة صعبة وسوى ذلك لإحراجه أمام الناس. في النهاية, اتحد الفريسيون, والصدوقيون, وحتى الهيروديين جميعاً في هذا الجهد لتشويه سمعة يسوع في أعين جموع عيد الفصح.
174:2.2 (1899.2) صباح الثلاثاء, عندما وصل يسوع إلى فناء الهيكل وبدأ في التعليم, لم يكن قد نطق بكلمات قليلة عندما تقدمت مجموعة من التلاميذ الأصغر سنًا من الأكاديميات, الذين تم تدريبهم لهذا الهدف, وخاطب ناطق باسمهم يسوع: "يا سيد, نعلم أنك معلم بار, ونعلم أنك تعلن طُرق الحق, وأنك لا تخدم إلا الله, لأنك لا تخشى أحدًا, وليس عندك محاباة للأشخاص. نحن تلاميذ فقط, ونود أن نعرف الحقيقة عن أمر يقلقنا؛ الصعوبة التي نواجهها هي: هل يجوز لنا أن نعطي جزية لقيصر؟ هل نُعطي أو لا نُعطي؟" يسوع, شاعر بريائهم ومكرهم, قال لهم: "لماذا جئتم." ولما سلموه ديناراً, نظر إليه وقال, "لمن هذه الصورة وهذه الكتابة التي تحملها قطعة النقود هذه ؟" وعندما أجابوه, "لقيصر", قال يسوع, "أعطوا لقيصر ما لقيصر وأعطوا لله ما لله."
174:2.3 (1899.3) عندما أجاب بهذا الشكل على هؤلاء الكتبة الشباب والهيروديين المتواطئين معهم, انسحبوا من محضره, وتمتع الشعب حتى الصدوقيين, بهذا الاندحار. حتى الشباب الذين سعوا لإشراكه تعجبوا كثيرًا من الحكمة غير المتوقعة لإجابة السيد.
174:2.4 (1899.4) كان الحكام قد سعوا في اليوم السابق لإشراكه أمام الجموع في مسائل السلطة الكنسية, وحيث إنهم فشلوا, سعوا الآن لزجه في نقاش مدمر للسُلطة المدنية. كان كل من بيلاطس وهيرودس في أورشليم في هذا الوقت, وتوقع أعداء يسوع أنه, إذا تجرأ على النصح ضد دفع الجزية لقيصر, فيمكنهم الذهاب على الفور أمام السُلطات الرومانية واتهامه بالفتنة. من ناحية أخرى, إذا كان سينصح بدفع الجزية بكلمات عديدة, فهم على حق في تقديرهم أن مثل هذا التصريح من شأنه أن يجرح للغاية الكبرياء القومي لسامعيه اليهود, مما يؤدي إلى تنفير حسن النية والمودة لدى الجموع.
174:2.5 (1899.5) في هذا كله هُزم أعداء يسوع حيث إنه كان حُكماً معروفاً جيداً للسنهدرين, جعلوه من أجل إرشاد اليهود المشتتين بين الأمم الأممية, بأن "حق صك العملة حمل معه الحق في جباية الضرائب." بهذه الطريقة تجنب يسوع شركهم. لو أجاب "لا" على سؤالهم لكان بمثابة تحريض على التمرد؛ ولو أجاب "نعم" كان سيصدم المشاعر القومية العميقة الجذور في ذلك اليوم. السيد لم يتهرب من السؤال؛ هو فقط وظف الحكمة في جعل جواب مزدوج. لم يكن يسوع مراوغاً أبداً, لكنه كان دائماً حكيماً في تعاملاته مع أولئك الذين سعوا لمضايقته وإهلاكه.
174:3.1 (1900.1) قبل أن يتمكن يسوع من البدء بتعليمه, تقدمت مجموعة أخرى لتسأله, هذه المرة جماعة من الصدوقيين المتعلمين والماكرين. وقال الناطق باسمهم, مقترباً إليه: "يا سيد, قال موسى إنه إذا مات رَجل متزوج, ولم يترك أولاداً, فينبغي لأخيه أن يأخذ الزوجة وينشئ نسلاً للأخ الميت. الآن هناك حدثت حالة حيث توفي رَجل معَّين كان لديه ستة أشقاء ولم يكن له أطفال؛ أخوه التالي أخذ زوجته لكنه مات قريبًا أيضًا, ولم يترك أي أطفال. بالمثل اتخذ الأخ الثاني الزوجة, لكنه مات أيضاً دون أن يترك ذرية. وهكذا إلى أن اتخذها جميع الأخوة الستة, وكل الستة توفوا دون أن يتركوا أطفالًا. وبعد ذلك, بعدهم كلهم, ماتت المرأة نفسها. الآن, ما نود أن نسألك هو هذا: زوجة مَن ستكون في القيامة حيث إن كل هؤلاء الإخوة السبعة اتخذوها؟"
174:3.2 (1900.2) علم يسوع, وكذلك الناس, بأن هؤلاء الصدوقيين لم يكونوا مخلصين في طرح هذا السؤال لأنه من غير المحتمل أن تحدث مثل هذه الحالة بالفعل؛ وإلى جانب ذلك, فإن هذه الممارسة لإخوة الرَجل الميت في السعي لإنجاب أطفال من أجله كانت عملياً حبراً على ورق آنذاك بين اليهود. مع ذلك, تلطف يسوع للرد على سؤالهم المؤذي. قال: "أنتم جميعاً تخطئون في طرح مثل هذه الأسئلة لأنكم لا تعرفون الكتابات المقدسة ولا قدرة الله الحية. أنتم تعلمون بأن أبناء هذا العالَم يمكن أن يتزوجوا وهم يُمنحون في الزواج, لكن لا يبدو أنكم تفهمون بأن من يُحسب أنهم مستحقين لنيل العوالم الآتية, من خلال قيامة الأبرار, لا يزوجون ولا يتزوجون. أولئك الذين يختبرون القيامة من الأموات هم أكثر شبهاً بملائكة السماء, وهم لا يموتون أبدًا. هؤلاء المبعوثون من الموت هم إلى الأبد أبناء الله؛ هم أبناء النور بُعثوا في تقدم الحياة الأبدية. وحتى أباكم موسى فهم هذا, لأنه, في علاقة مع تجربته عند الشجيرة المشتعلة, سمع الأب يقول, أنا إله إبراهيم, وإله إسحاق, وإله يعقوب‘. وهكذا, مع موسى, أُعلن أن أبي ليس إله أموات بل إله أحياء. فيه كلكم تعيشون, وتتكاثرون, وتملكون وجودكم الفاني."
174:3.3 (1900.3) عندما انتهى يسوع من الإجابة على هذه الأسئلة, انسحب الصدوقيون, وبعض من الفريسيين نسوا أنفسهم لغاية أن يهتفوا, "صحيح, صحيح, يا سيد, لقد أجبت حسناً هؤلاء الصدوقيين غير المؤمنين." لم يجرؤ الصدوقيين على طرح المزيد من الأسئلة عليه, وتعجب عامة الناس من حكمة تعليمه.
174:3.4 (1900.4) التجأ يسوع إلى موسى فقط في مواجهته مع الصدوقيين لأن هذه الطائفة الدينية-السياسية أقـَّرت فقط بما يسمى بأسفار موسى الخمسة؛ لم يسمحوا بأن تعاليم الأنبياء كانت مقبولة كأساس للعقائد المذهبية. السيد في إجابته, على الرغم من التأكيد الإيجابي لحقيقة بقاء المخلوقات الفانية من خلال تقنية القيامة, لم يتكلم بأي حال من الأحوال باستحسان عن المعتقدات الفريسية في قيامة الجسد البشري الحرفي. النقطة التي أراد يسوع التأكيد عليها كانت: أن الأب قال, "أنا إله إبراهيم, وإسحاق, ويعقوب," ليس كنت إلَههم.
174:3.5 (1900.5) كان الصدوقيون قد فكـَّروا أن يُخضعوا يسوع لتأثير السخرية المهلك, مدركين تمام الإدراك أن الاضطهاد العلني من شأنه أن يخلق بالتأكيد المزيد من التعاطف معه في أذهان الجموع.
174:4.1 (1901.1) كان قد تم توجيه مجموعة أخرى من الصدوقيين لطرح أسئلة متشابكة على يسوع عن الملائكة, لكن عندما رأوا مصير رفاقهم الذين سعوا للإيقاع به في شرك أسئلة تتعلق بالقيامة, قرروا بحكمة بالغة أن يتمسكوا بالصمت؛ تراجعوا دون طرح سؤال. لقد كانت الخطة مرتبة مسبقاً لاتحاد الفريسيين, والكتبة, والصدوقيين, والهيروديين لملء النهار بأكمله بهذه الأسئلة الشائكة, أملين بذلك تشويه سمعة السيد أمام الشعب وفي الوقت نفسه منعه بشكل فعال من أن يكون لديه أي وقت لإعلان تعاليمه المزعجة.
174:4.2 (1901.2) ثم تقدمت إحدى جماعات الفريسيين لطرح أسئلة مضايقة, وقال المتكلم عنهم, في إشارة إلى يسوع: "يا سيد, أنا رجل شريعة, وأود أن أسألك, أيها في رأيك, هي الوصية الأعظم؟" أجاب يسوع: "ليس هناك سوى وصية واحدة, وتلك هي الأعظم من الكل, وتلك الوصية هي: ’اسمعي يا إسرائيل, الرب إلَهنا, رب واحد؛ ويجب أن تحب الرب إلَهك بكل قلبك وبكل نفسك, بكل عقلك, وبكل قوَتك‘. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والوصية الثانية هي مثل هذه الأولى؛ في الواقع إنها تنبع منها مباشرة, وهي: ’يجب أن تحب جارك مثل نفسك‘. ليس هناك وصية أخرى أعظم من هاتين الوصيتين؛ على هاتين الوصيتين تتعلق كل الشريعة والأنبياء."
174:4.3 (1901.3) عندما أدرك رجل الشريعة بأن يسوع أجاب ليس فقط وفقاً لأعلى مفهوم للدِين اليهودي, لكن أيضاً بأنه أجاب بحكمة في نظر الجموع المتجمعة, فقد اعتقد أنه الجزء الأفضل من الشجاعة أن يشيد علانية بإجابة السيد. وفقاً لذلك, قال: "بالحق, يا سيد, لقد قلت حسناً بأن الله واحد وليس هناك أحد غيره؛ وبأنه لتحبه من كل القلب, والفهم, والقوة, وأيضًا أن محبة جار المرء مثل ذات المرء, هي الوصية الأولى والعظمى؛ ونحن متفقون على أن هذه الوصية العظمى يجب مراعاتها أكثر بكثير من كل القرابين والتضحيات المحروقة." عندما أجاب رجل الشريعة بمثل هذه الحصافة, تطلع يسوع نزولاً عليه وقال, "يا صديقي, أرى أنك لست بعيداً عن ملكوت الله."
174:4.4 (1901.4) قال يسوع الحق عندما أشار إلى رجل الشريعة هذا على أنه "ليس بعيداً عن الملكوت", لأنه تلك الليلة بالذات خرج إلى مخيم السيد قرب الجثسيماني, وأقر بإيمانه بإنجيل الملكوت, واعتمد على يد يوصيا, أحد تلاميذ أبنير.
174:4.5 (1901.5) كانت جماعتان أو ثلاث جماعات أخرى من الكتبة, والفريسيين حاضرين وكانوا يعتزمون طرح أسئلة, لكنهم إما كانوا مفحمين بإجابة يسوع لرجل الشريعة, أو كانوا مرتدعين بفشل كل الذين تعهدوا بإشراكه. بعد هذا لم يجرؤ رجل على طرح سؤال آخر عليه علانية.
174:4.6 (1901.6) عندما لم تكن هناك أسئلة إضافية آتية, ومع اقتراب ساعة الظهيرة, لم يستأنف يسوع تعليمه لكن كان مقتنعاً فقط بسؤال الفريسيين وزملائهم سؤالاً. قال يسوع: "حيث إنكم لم تطرحوا المزيد من الأسئلة, أود أن أسألكم سؤالاً واحداً. ما رأيكم في المخلص؟ أي, ابن مَن هو؟" بعد توقف قصير أجاب أحد الكتبة, "المسيح هو ابن داود." وبما أن يسوع كان يعلم أنه كان هناك الكثير من الجدل, حتى بين تلاميذه, حول ما إذا كان ابن داود أم لا, فقد طرح هذا السؤال الإضافي: "إذا كان المخَّلِص هو بالفعل ابن داود, فكيف يكون ذلك, في المزمور الذي تنسبونه لداود, هو نفسه, متكلم في الروح, يقول, ’قال الرب لربي, اجلس عن يميني إلى أن أجعل أعداءك موطئاً لقدميك‘. إذا كان داود يسميه رباً, فكيف إذن يكون ابنه؟" مع أن الحكام, والكتبة, ورؤساء الكهنة لم يجيبوا على هذا السؤال, هم امتنعوا أيضاً عن طرح أي أسئلة إضافية في محاولة للإيقاع به. لم يجيبوا أبداً على هذا السؤال الذي وضعه يسوع لهم, لكن بعد وفاة السيد حاولوا التهرب من الصعوبة بتغيير تفسير هذا المزمور لجعله يشير إلى إبراهيم بدلاً من المسيح. سعى آخرون للهروب من المأزق بإنكار أن داود كان مؤلف هذا المسمى بالمزمور المسيحي.
174:4.7 (1902.1) قبل وقت قصير كان الفريسيون قد استمتعوا بالأسلوب الذي قام السيد بإخراس الصدوقيين به؛ الآن كان الصدوقيون مبتهجين بفشل الفريسيين؛ لكن هذا التنافس كان مؤقتاً فقط؛ لقد نسوا بسرعة اختلافاتهم العريقة في جهد موحد لوقف تعاليم يسوع وأعماله. لكن أثناء كل هذه التجارب سمعه عامة الناس بسرور.
174:5.1 (1902.2) حوالي وقت الظهيرة, بينما كان فيليبُس يشتري لوازم للمخيم الجديد الذي كان يتم إنشاؤه بالقرب من الجثسيماني, دنا منه وفد من الغرباء, جماعة مِن الإغريقيين المؤمنين من الإسكندرية, وأثينا, وروما, الذين قال المتحدث باسمهم للرسول: "لقد دلنا عليك أولئك الذين يعرفونك؛ لذلك أتينا إليك, يا سيد, بطلب رؤية يسوع, سيدك." كان فيليبُس مأخوذاً بالمفاجأة لمقابلة هؤلاء الأممين الإغريقيين البارزين والمستفسرين في السوق, وبما أن يسوع قد أوعز صراحةً إلى كل الاثني عشر ألا يتعاطوا في أي تعليم علني أثناء أسبوع الفصح, فقد شعر بالحيرة قليلاً بشأن الطريقة الصحيحة للتعامل مع هذا الأمر. كان كذلك مضطرباً لأن هؤلاء الرجال كانوا أمميين غرباء. لو كانوا يهوداً أو أمميين قريبين أو لديه إلمام بهم, لما تردد بشكل ملحوظ. ما فعله كان هذا: طلب من هؤلاء اليونانيين البقاء حيث كانوا. بينما أسرع بعيداً, افترضوا إنه ذهب بحثاً عن يسوع, لكنه في الواقع أسرع إلى بيت يوسف, حيث كان يعلم أن أندراوس والرُسل الآخرين كانوا يتناولون الغذاء؛ ومستدعياً أندراوس إلى الخارج, أوضح الغرض من مجيئه, وبعد ذلك, عاد برفقة أندراوس, إلى اليونانيين المنتظرين.
174:5.2 (1902.3) حيث إن فيليبُس كان تقريباً قد انتهى من شراء الحاجيات, عاد هو وأندراوس مع اليونانيين إلى بيت يوسف, حيث استقبلهم يسوع, وجلسوا بالقرب بينما تحدث إلى رُسله وعدد من التلاميذ القادة المتجمعين عند هذا الغذاء. قال يسوع:
174:5.3 (1902.4) "أرسلني أبي إلى هذا العالَم لأكشف محبته الشفوقة لأبناء الناس, لكن أولئك الذين أتيت إليهم أولاً رفضوا أن يستقبلوني. صحيح, في الحقيقة, كثير منكم قد آمنتم بإنجيلي من أجل أنفسكم, لكن أولاد إبراهيم وقادتهم على وشك أن يرفضوني, وبفعلهم هذا سيرفضون الذي أرسلني. لقد أعلنت بصراحة إنجيل الخلاص لهذا الشعب؛ لقد أخبرتهم عن البنوة مع فرح, وحرية, وحياة أكثر وفرة في الروح. لقد قام أبي بالعديد من الأعمال الرائعة بين أبناء الناس هؤلاء الممتطين بالخوف. لكن النبي إشعياء حقاً أشار إلى هذا الشعب عندما كتب: ’يا رب, من صدق تعاليمنا؟ ولمَن قد كُشف الرب؟‘ حقاً لقد أعمى قادة شعبي عيونهم عمداً حتى لا يروا, وقسـّوا قلوبهم لئلا يؤمنوا ويُخَّلصوا. لقد سعيت طوال هذه السنوات لأشفيهم من عدم إيمانهم بحيث قد يحصلوا على خلاص الأب الأبدي. أعرف بأن ليس الكل قد خذلوني؛ بعض منكم قد آمن بالفعل برسالتي. يوجد في هذه الغرفة الآن مجموغة كاملة من الرجال الذين كانوا ذات يوم أعضاء في السنهدرين, أو الذين كانوا على مستوى عالٍ في مجالس الأمة, وإن كان البعض منكم لا يزال يتراجع عن الاعتراف الصريح بالحقيقة خشية طردكم من الكنِيس. يميل البعض منكم أن يحب مجد الناس أكثر من مجد الله. لكنني مضطر لإُظهار الصبر حيث إنني أخشى على سلامة وولاء حتى بعض من أولئك الذين ظلوا بالقرب مني لفترة طويلة, والذين عاشوا بالقرب مني للغاية.
174:5.4 (1903.1) "في غرفة المأدبة هذه, أدرك أنه يوجد يهود وأمميين بأعداد متساوية تقريباً, وأود أن أخاطبكم كالأول والآخر من هكذا جماعة التي يمكنني أن أُرشدها في شؤون الملكوت قبل أن أذهب إلى أبي."
174:5.5 (1903.2) كان هؤلاء اليونانيون حاضرين بأمانة لتعليم يسوع في الهيكل. مساء الاثنين كانوا قد عقدوا مؤتمراً في بيت نيقوديموس, الذي دام حتى فجر اليوم, واختار ثلاثون منهم دخول الملكوت.
174:5.6 (1903.3) بينما وقف يسوع أمامهم في هذا الوقت, أحس بنهاية افتقاد إلَهي وبداية آخر. محولاً انتباهه إلى اليونانيين, قال السيد:
174:5.7 (1903.4) "من يؤمن بهذا الإنجيل, لا يؤمن بي فقط بل بالذي أرسلني. عندما تنظرون إليَ, لا ترون ابن الإنسان فحسب بل أيضاً الذي أرسلني. أنا نور العالَم, وكل من يؤمن ب تعليمي لن يقيم بعد ذلك في الظلام. إذا أنتم الأمميون ستسمعونني, ستستلمون كلمات الحياة وستدخلون على الفور في الحرية المفرحة لحقيقة البنوة مع الله. إذا كان أبناء بلدي, اليهود, يختارون رفضي ورفض تعليمي, لن أجلس في الحكم عليهم, لأني لم آت لأدين العالَم بل لأمنحه الخلاص. مع ذلك, فالذين يرفضونني ويرفضون استلام تعليمي سيُحضرون إلى القضاء في الموعد المستحق بأبي وأولئك الذين عَّيَنهم ليجلسوا في الحكم على مثل من رفض هبة الرحمة وحقائق الخلاص. تذكَّروا, جميعاً, بأنني لا أتكلم عن نفسي, لكنني أعلنت لكم بأمانة أن ما أوصى به الأب يجب أن أكشفه لأولاد الناس. وهذه الكلمات التي وجَّهني الأب لأتكلم بها إلى العالَم هي كلمات حق إلَهي, ورحمة أزلية, وحياة أبدية.
174:5.8 (1903.5) "لكن لكل من اليهودي والأممي أصرح بأن الساعة قد حانت عندما سيُمجَد ابن الإنسان. وأنتم تعلمون جيداً بأنه, إلا أن تسقط حبة القمح في الأرض وتموت, فإنها تبقى وحدها؛ لكن إذا ماتت في تربة صالحة, فإنها تنبت مرة أخرى إلى الحياة وتؤتي ثماراً كثيرة. من يحب حياته بأنانية يواجه خطر خسارتها؛ لكن من يرغب في أن يبذل حياته من أجلي ومن أجل الإنجيل سيتمتع بوجود أكثر وفرة على الأرض وفي السماء, حياة أبدية. إذا كنتم ستتبعونني حقاً, حتى بعد أن أكون قد ذهبت إلى أبي, فحينئذٍ ستصبحون تلاميذي والخدام المخلصين لإخوتكم البشر.
174:5.9 (1903.6) "أعلم أن ساعتي تقترب, وأنا مهموم. أدرك بأن شعبي مُصّر على الإستهانة بالملكوت, لكنني متهلل لاستلام هؤلاء الأمميين الباحثين عن الحقيقة الذين يأتون إلى هنا اليوم للإستفسار عن طريق النور. مع ذلك, فإن قلبي يتألم من أجل شعبي, ونفسي في ذهول مما يكمن أمامي مباشرة. ماذا سأقول بينما أنظر إلى الأمام وأدرك ما هو على وشك أن يحل بي؟ هل أقول, أبتاه نجني من هذه الساعة الرهيبة؟ لا! لأجل هذا الهدف بالذات جئت إلى العالَم وحتى إلى هذه الساعة. بل سأقول, وأصَّلي بأنكم ستنضمون إلَيَ: أيها الأب مجّد اسمك؛ لتكن مشيئتك."
174:5.10 (1904.1) عندما تكلم يسوع بهذا, ظهر أمامه الضابط المُشَّخص لسكنه في أوقات ما قبل المعمودية, وبينما توقف بشكل ملحوظ, هذا الروح القدير الآن لتمثيل الأب تكلم إلى يسوع الناصري قائلاً: "لقد مجَّدَت اسمي في إغداقاتك مرات عديدة, وسأمجده مرة أخرى."
174:5.11 (1904.2) بينما لم يسمع اليهود والأمميون المتجمعون هنا أي صوت, لم يستطيعوا أن يفشلوا في إدراك أن السيد قد توقف في كلامه بينما جاءته رسالة من مصدر ما فائق عن البشري. قالوا جميعاً, كل إنسان لمن كان بقربه, "لقد كلمه ملاك."
174:5.12 (1904.3) ثم تابع يسوع الكلام: "كل هذا لم يحدث من أجلي بل من أجلكم. أنا أعرف يقيناً بأن الأب سيستقبلني ويقبل مهمتي لمصلحتكم, لكن من الضروري بأنه يجب أن تتشجعوا وتستعدوا للتجربة النارية المقبلة تماماً. دعوني أؤكد لكم بأن النصر سيتوج في نهاية المطاف جهودنا الموحدة لتنوير العالَم وتحرير البشرية. النظام القديم يُحاكم نفسه؛ لقد أُلقيت بأمير هذا العالَم تحت؛ وسيصبح جميع الناس أحراراً بنور الروح الذي سأسكبه على كل جسد بعد أن أكون قد صعدت إلى أبي في السماء.
174:5.13 (1904.4) "والآن أعلن لكم بأنني, إذا رُفعت عن الأرض وفي حياتكم, فسوف أسحب كل الناس إلى نفسي ونحو زمالة أبي. لقد اعتقدتم بأن المخلص سيقيم على الأرض إلى الأبد, لكنني أعلن بأن ابن الإنسان سيكون مرفوضاً من قِبل الناس, وأنه سيعود إلى الأب. لفترة قليلة فقط سأكون معكم؛ لوقت قليل فقط سيكون النور الحي وسط هذا الجيل المُظلم. امشوا بينما يكون لديكم هذا النور بحيث لا تدرككم الظلمة والإضطراب القادمين. من يمشي في الظلام لا يعرف إلى أين يذهب؛ لكن إذا اخترتم أن تمشوا في النور, فستصبحون جميعاً بالفعل أبناء متحررين لله. والآن, تعالوا جميعكم معي بينما نعود إلى الهيكل وأقول كلمات الوداع لرؤساء الكهنة, والكتبة, والفريسيين, والصدوقيين, والهيروديين, وحكام إسرائيل الذين دهمتهم الظلمة."
174:5.14 (1904.5) بعد أن قال هذا, قاد يسوع الطريق عبر شوارع أورشليم الضيقة عائداً إلى الهيكل. لقد سمعوا السيد يقول للتو بأن هذا كان ليكون خطابه الوداعي في الهيكل, وتبعوه في صمت وفي تأمل عميق.
كِتاب يورانشيا
ورقة 175
175:0.1 (1905.1) بعد الساعة الثانية من ظهر يوم الثلاثاء هذا بقليل, وصل يسوع إلى الهيكل, برفقة أحد عشر رسولًا, ويوسف الأريماضيا, والثلاثون يونانيًا, وبعض التلاميذ الآخرين, وبدأ إلقاء خطابه الأخير في ساحات الصرح المقدس. كان القصد من هذا الخطاب أن يكون نداءه الأخير للشعب اليهودي ولائحة اتهام نهائية لأعدائه الأشداء والمدمرين المحتملين ــ الكتبة, والفريسيين, والصدوقيين, وكبار حكام إسرائيل. طوال فترة الظُهيرة أتيحت الفرصة للجماعات المختلفة لتسأل يسوع؛ هذه العصرية لم يسأله أحد سؤالاً.
175:0.2 (1905.2) عندما بدأ السيد في الكلام, كان فناء الهيكل هادئاً ونظامياً. لم يجرؤ الصيارفة والتجار على دخول الهيكل مرة أخرى منذ أن طردهم يسوع والجموع الغاضبة في اليوم السابق. قبل بدء الخطاب, نظر يسوع بحنان إلى هذا الجمهور الذي سرعان ما كان سيسمع خطابه العلني الوداعي من الرحمة للبشرية إلى جانب إدانته الأخيرة للمعلمين الكذبة وحُكام اليهود المتعصبين.
175:1.1 (1905.3) "هذه الفترة الطويلة التي كنت معكم فيها, صاعدًا ونازلًا في البلاد معلناً محبة الأب لأبناء الناس, وقد رأى الكثيرون النور, وبالإيمان, دخلوا إلى ملكوت السماء. فيما يتعلق بهذا التعليم والوعظ قام الأب بالعديد من الأعمال الرائعة, حتى قيامة الأموات. لقد شُفي العديد من المرضى والمنكوبين لأنهم آمنوا؛ لكن كل هذا الإعلان للحق وشفاء المرض لم يفتح أعين أولئك الذين يرفضون رؤية النور, أولئك الذين عقدوا العزم على رفض إنجيل الملكوت هذا.
175:1.2 (1905.4) "بكل أسلوب يتفق مع فعل مشيئة أبي, أنا ورُسلي بذلنا قصارى جهدنا للعيش بسلام مع إخواننا, لنمتثل مع المتطلبات المعقولة لشرائع موسى وتقاليد إسرائيل. لقد سعينا بإصرار إلى السلام, لكن قادة إسرائيل لن يحصوا عليه. برفضهم حقيقة الله ونور السماء, إنهم يصطفون إلى جانب الضلال والظلام. لا يمكن أن يكون هناك سلام بين النور والظلام, بين الحياة والموت, بين الحق والضلال.
175:1.3 (1905.5) "لقد تجرأ كثيرون منكم على تصديق تعاليمي ودخلوا بالفعل في فرح وحرية وعي البنوة مع الله. وسوف تشهدون لي بأنني قدمت هذه البنوة نفسها مع الله لكل الأمة اليهودية, حتى لهؤلاء الرجال أنفسهم الذين يسعون الآن إلى هلاكي. وحتى الآن سيستلم أبي هؤلاء المعلمين العميان وهؤلاء القادة المنافقين إذا فقط سيلجأون إليه ويقبلون رحمته. حتى الآن لم يفت الأوان بعد لهذا الشعب لتلقي كلمة السماء والترحيب بابن الإنسان.
175:1.4 (1906.1) "لقد تعاطى أبي منذ أمد طويل بالرحمة مع هذا الشعب, جيلاً بعد جيل أرسلنا أنبياءنا ليعلموهم ويحذروهم, وجيلاً بعد جيل قتلوا هؤلاء المعلمين المرسلين من السماء. والآن سيستمر رؤساء كهنتكم المتعمدين وحكامكم العنيدين برغبة بعمل هذا الأمر عينه؟ مثلما جلب هيرودس موت يوحنا, أنتم الآن بالمثل تستعدون لإهلاك ابن الإنسان.
175:1.5 (1906.2) "ما دامت هناك فرصة بأن يعود اليهود إلى أبي ويطلبون الخلاص, فإن إله إبراهيم, وإسحاق, ويعقوب سيُبقي يديه مبسوطة في رحمة نحوكم؛ لكن عندما تكونون مرة قد ملأتم كأس تماديكم, وعندما مرة تكونون قد رفضتم أخيراً رحمة أبي, ستُترَك هذه الأمة لمستشاريها, وستأتي بسرعة إلى نهاية غير مجيدة. دُعي هذا الشعب ليصبح نور العالَم, ليُظهر المجد الروحي لشعب يعرف الله, لكنكم حتى الآن قد حِدتم عن تحقيق امتيازاتكم الإلَهية بحيث أن قادتكم على وشك أن يقترفوا الحماقة العظمى لكل العصور من حيث أنهم على وشك الرفض النهائي لعطية الله لجميع الناس ولكل العصور ــ إعلان محبة الأب في السماء لجميع مخلوقاته على الأرض.
175:1.6 (1906.3) "وعندما تكونون مرة قد رفضتم وحي الله هذا إلى الإنسان, سيُمنح ملكوت السماء لشعوب أخرى, لأولئك الذين سيستلمونه بفرح وابتهاج. باسم الأب الذي أرسلني, أنذركم بحزم بأنكم على وشك أن تفقدوا مكانتكم في العالَم بصفتكم حاملين-قياسيين للحق الأبدي وأوصياء على الشريعة الإلَهية. أنا الآن فقط أقدم لكم فرصتكم الأخيرة للتقدم والتوبة, لتدلوا على نيتكم أن تطلبوا الله من كل قلوبكم ولتدخلوا, مثل الأطفال الصغار وبإيمان صادق, نحو طمأنينة وخلاص ملكوت السماء.
175:1.7 (1906.4) "لقد عمل أبي طويلاً من أجل خلاصكم, وأنا نزلت لأعيش بينكم ولأريكم الطريق شخصياً. لقد آمن الكثير من اليهود والسامريين, وحتى الأمميين, بإنجيل الملكوت, لكن أولئك الذين يجب أن يكونوا أول من يتقدم ويقبل نور السماء قد رفضوا بثبات تصديق إعلان حقيقة الله ــ الله مكشوف في الإنسان والإنسان مرفوع إلى الله.
175:1.8 (1906.5) "عصر هذا اليوم, يقف رُسلي هنا أمامكم في صمت, لكنكم ستسمعون قريباً أصواتهم ترن بالدعوة إلى الخلاص وبالحث للاتحاد مع الملكوت السماوي كأبناء الله الحي. والآن أدعو للشهادة هؤلاء, تلاميذي والمؤمنين في إنجيل الملكوت, وكذلك المرسلين غير المرئيين بجانبهم, بأني مرة أخرى قد عرضتُ الخلاص والإنقاذ على إسرائيل وحكامها. لكن جميعكم ترون كيف استُخف برحمة الأب وكيف رفضوا رُسل الحق. مع ذلك, فأنا أحذركم بأن هؤلاء الكتبة والفريسيين ما زالوا جالسين في كرسي موسى, ولذلك, إلى أن يعزل الأعلون الذين يحكمون في ممالك الناس أخيراً هذه الأمة ويدمرون مكان هؤلاء الحكام, أطلب منكم أن تتعاونوا مع هؤلاء الشيوخ في إسرائيل. لستم مطالبين بالاتحاد معهم في خططهم لإهلاك ابن الإنسان, لكن في كل ما يتعلق بسلام إسرائيل يجب أن تخضعوا لهم. في كل هذه الأمور افعلوا كل ما يأمرونكم به وراعوا أساسيات الناموس لكن لا تتماشوا مع نمط أعمالهم الشريرة. تذكَّروا, أن هذه هي خطيئة هؤلاء الحكام: يقولون ما هو حسن, لكنهم لا يفعلونه. تعرفون جيداً كيف يلقي هؤلاء القادة أعباءً ثقيلة على أكتافكم, أعباء جسيمة للحمل, وأنهم لن يرفعوا حتى إصبعاً واحدة لمساعدتكم على حمل هذه الأعباء الثقيلة. لقد قهروكم بالمراسم واستعبدوكم بالتقاليد.
175:1.9 (1907.1) "علاوة على ذلك, يبتهج هؤلاء الحكام الأنانيون بالقيام بأعمالهم الصالحة بحيث يراهم الناس. إنهم يجعلون تمائمهم عريضة ويوَّسعون حدود أثوابهم الرسمية. إنهم يتوقون إلى الأماكن الرئيسية في الولائم ويطالبون بالمقاعد الرئيسية في المجامع. إنهم يطمعون بتحيات الثناء في الأسواق ويرغبون أن يُدعوا حاخام من قِبل حميع الناس, وحتى بينما ينشدون كل هذا الشرف من الناس, فإنهم يصادرون سِراً منازل الأرامل ويأخذون الأرباح من خدمات الهيكل المقدس. على سبيل التظاهر يقوم هؤلاء المنافقون بإطالة الصلوات في الأماكن العامة ويعطون الصدقات لجذب انتباه زملائهم.
175:1.10 (1907.2) "بينما يجب أن تُشَّرفوا حكامكم وتوَّقروا معلميكم, يجب ألا تدعو أي إنسان أباً بالمعنى الروحي, لأنه يوجد أب واحد فقط الذي هو أباكم, حتى الله. كما يجب أن لا تسعوا للسيطرة على إخوانكم في الملكوت. تذكَّروا, لقد علـَّمتكم بأن مَن يود أن يكون الأعظم بينكم يجب أن يصبح خادماً للجميع. إذا ادعيتم أن ترفعوا أنفسكم أمام الله, فمن المؤكد أنكم ستذلون؛ لكن كل يتواضع حقاً سيُرفع بالتأكيد. انشدوا في معايشكم اليومية, ليس تمجيد الذات, بل مجد الله. اخضعوا بذكاء مشيئتكم لمشيئة الأب في السماء.
175:1.11 (1907.3) "لا تخطئوا في كلامي. لا أحمل أي نقمة على رؤساء الكهنة والحكام هؤلاء الذين حتى الآن يسعون إلى هلاكي؛ ليس لدي ضغينة لهؤلاء الكتبة والفريسيين الذين يرفضون تعاليمي. أعرف بأن الكثير منكم يؤمنون في السِر, وأعلم بأنكم ستعلنون صراحة ولاءكم للملكوت عندما تأتي ساعتي. لكن كيف سيبرر حاخاماتكم أنفسهم حيث أنهم يدعون أنهم يتكلمون مع الله ثم يفترضون أن يرفضوا ويهلكوا الذي يأتي ليكشف الأب إلى العالمين؟
175:1.12 (1907.4) "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون! ستغلقون أبواب ملكوت السماء في وجه أناس مخلصين لأنهم يصادف أن يكونوا غير متعلمين في طرق تعليمكم. إنكم ترفضون دخول الملكوت وفي الوقت نفسه تفعلون كل ما في وسعكم لمنع كل الآخرين من الدخول. تقفون مع ظهوركم إلى أبواب الخلاص وتحاربون كل من يود الدخول إليها.
175:1.13 (1907.5) "ويل لكم, أيها الكتبة والفريسيون المنافقون أنتم! لأنكم حقاً تطوقون البَر والبحر لتجعلوا مهتدياً واحداً, وعندما تنجحون, لا تكتفون حتى تجعلوه أسوأ ضعفين مما كان عليه عندما كان من أبناء الوثنيين.
175:1.14 (1907.6) "ويل لكم, يا رؤساء الكهنة والحكام الذين يصادرون أملاك الفقراء ويطالبون بمستحقات ثقيلة من أولئك الذين يودون خدمة الله كما يظنون أن موسى قد أمر! أنتم الذين ترفضون أن تُظهروا رحمة, أيمكنكم أن تأملوا بالرحمة في العوالم الآتية؟
175:1.15 (1907.7) "ويل لكم, أيها المعلمون الكذبة, والمرشدون العميان! ما الذي يمكن توقعه من أمة عندما الأعمى يقود الأعمى؟ كِلاهما سيتعثر في حفرة الهلاك.
175:1.16 (1907.8) "ويل لكم أنتم الذين تتظاهرون بما لستم عليه عند حلف اليمين! أنتم المخادعون حيث إنكم تُعَّلمون أنه يجوز لإنسان أن يُقسم بالهيكل وينقض يمينه, لكن كل من يُقسم بذهب الهيكل يجب أن يظل ملزماً. أنتم جميعاً حمقى وعميان. لستم حتى ثابتين في عدم أمانتكم, لأن أيهما أعظم, الذهب أم الهيكل الذي يُفترض أنه قدس الذهب. أنتم أيضاً تُعَّلمون بأنه إذا أقسم الإنسان بالمذبح, فليس بشيء؛ لكن بأنه, إذا أقسم المرء بالعطية التي على المذبح, عندئذٍ سيُعتبر مديناً. مرة أخرى أنتم عميان عن الحق, أيهما أعظم, العطية أم الهيكل الذي يقدس العطية؟ كيف يمكنكم تبرير مثل هذا النفاق وعدم الأمانة في نظر إله السماء؟
175:1.17 (1908.1) "ويل لكم, أيها الكتبة والفريسيون وجميع المنافقين الآخرين الذين يتأكدون من أنهم يعشرون النعناع, واليانسون, والكمون وفي نفس الوقت يتجاهلون أمور الشريعة الأثقل ــ الإيمان, والرحمة, والقضاء! ضمن المعقول, كان يجب أن تفعلوا الأول لكن أن لا تتركوا الآخر غير معمول به. أنتم حقاً مرشدون عميان ومعلمون أغبياء؛ أنتم تجهدون في الناموسة وتبتلعون الجَمل.
175:1.18 (1908.2) "ويل لكم, أيها الكتبة والفريسيون, والمنافقون! لأنكم حريصون على تطهير الجزء الخارجي من الكأس والطبق, لكن في الداخل تبقى قذارة الابتزاز, والتجاوزات, والخداع. أنتم عميان روحياً. ألا تدركون كم سيكون من الأفضل بكثير لتنظيف داخل الكأس أولاً, ومن ثم فإن ما سينسكب سينظف الخارج بنفسه؟ أيها العُصاة الأشرار! تجعلون إجراءات ظاهرية لدِينكم لتتوافق مع نص تفسيراتكم لشريعة موسى بينما نفوسكم غارقة في الإثم وممتلئة بالقتل.
175:1.19 (1908.3) "ويل لكم جميعًا الذين ترفضون الحق وتستهينون بالرحمة! كثيرون منكم مثل قبور مبيضة, التي تبدو ظاهرياً جميلة لكن داخلها مملوء بعظام الموتى وكل أنواع النجاسة. حتى هكذا ترفضون نصيحة الله عن عمد, تظهرون أمام الناس كقديسين وأبرار, لكن من الداخل تمتلئ قلوبكم بالرياء والإثم.
175:1.20 (1908.4) "ويل لكم, أيها المرشدون الكذبة للأمة! هنالك قد نصبتم نصباً تذكارياً للأنبياء الشهداء القدامى, بينما تتآمرون لإهلاك من تحدثوا عنه. تزخرفون قبور الصالحين, وتتملقون أنفسكم بأنكم, لو عشتم في أيام آبائكم, لما قتلتم الأنبياء؛ وبعد ذلك في مواجهة مثل هذا التفكير المستقيم تستعدون لذبحه الذي تحدث عنه الأنبياء, ابن الإنسان. بقدر ما تفعلون هذه الأشياء, أنتم شاهدون على أنفسكم بأنكم الأبناء الأشرار للذين ذبحوا الأنبياء. فاستمروا, إذن, واملأوا كأس دينونتكم إلى الملء!
175:1.21 (1908.5) "ويل لكم, يا أولاد الشر! لقد دعاكم يوحنا بحق ذرية الأفاعي, وأسأل كيف يمكنكم أن تهربوا من الدينونة التي نطق بها يوحنا عليكم؟
175:1.22 (1908.6) "لكن حتى الآن أقدم لكم باسم أبي الرحمة والغفران؛ حتى الآن أقدم اليد المُحبة للزمالة الأبدية. لقد أرسل أبي إليكم الرجال الحكماء والأنبياء؛ بعضهم اضطهدتم وآخرون قتلتم. ثم ظهر يوحنا معلناً مجيء ابن الإنسان, وهو أهلكتم بعد أن آمن كثيرون بتعليمه. والآن تستعدون لسفك المزيد من الدماء البريئة. ألا تدركون بأن يوماً رهيباً من الحساب سيأتي عندما يطلب قاضي كل الأرض من هذا الشعب حساباً للطريقة التي رفضوا بها, واضطهدوا, وأهلكوا رسل السماء هؤلاء؟ ألا تفهمون بأنكم يجب أن تعطوا حساباً لكل هذا الدم الزكي, من أول نبي قُتل حتى زمن زكريا الذي ذبح بين المعبد والمذبح؟ وإذا استمريتم في طرقكم الشريرة, قد يكون هذا الحساب مطلوباً من هذا الجيل بالذات.
175:1.23 (1908.7) "يا أورشليم وأبناء إبراهيم, يا من رجمتم الأنبياء وقتلتم المعلمين الذين أُرسلوا إليكم, حتى ألان سأجمع أولادكم معاً كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها, لكنكم لن تشاؤوا!
175:1.24 (1908.8) "والآن أترككم. لقد سمعتم رسالتي واتخذتم قراركم. أولئك الذين آمنوا بإنجيلي هم حتى الآن آمنين داخل ملكوت الله. إليكم الذين اخترتم أن ترفضوا هدية الله, أقول بأنكم لن تروني بعد الآن أعَّلم في الهيكل. لقد تم عملي من أجلكم. انظروا, الآن أنطلق مع أولادي, ومنزلكم يُترك لكم مقفراً"!
175:1.25 (1908.9) وعند ذلك أومأ السيد إلى أتباعه ليرحلوا من الهيكل.
175:2.1 (1909.1) حقيقة أن الزعماء الروحيين والمعلمين الدينيين للأمة اليهودية في وقت ما رفضوا تعاليم يسوع وتآمروا لإحداث موته القاسي, لا يؤثر بأي شكل من الأشكال على مكانة أي فرد يهودي في موقفه أمام الله. ولا ينبغي أن يُسبب لأولئك الذين يقرون أنهم أتباع المسيح أن يكونوا متحاملين ضد اليهودي كبشري زميل. اليهود, كأمة, كجماعة اجتماعية-سياسية, دفعوا بالكامل الثمن الرهيب لرفض أمير السلام. طويلاً منذ ذلك لم يعودوا حاملي الشعلة الروحية للحق الإلَهي لأجناس البشرية, لكن هذا لا يشكل سبباً وجيهاً لكي يُكابد الأفراد أحفاد هؤلاء اليهود القدامى الاضطهادات التي مورست ضدهم من قِبل أتباع غير متسامحين, وغير جديرين, ومتعصبين ليسوع الناصري, الذي كان, هو نفسه, يهودياً بالمولد الطبيعي.
175:2.2 (1909.2) في كثير من الأحيان انتهت هذه الكراهية والاضطهاد غير المعقولة وغير- الشبيهة بالمسيح لليهود المعاصرين بمعاناة وموت بعض الأفراد اليهود الأبرياء وغير المسيئين الذين كان أسلافهم أنفسهم, في زمن يسوع, قد قبلوا إنجيله قلبياً وماتوا بلا تردد من أجل ذلك الحق الذي آمنوا به بكل إخلاص. يا له من اقشعرار مرعب يمر على الكائنات السماوية المتطلعة عندما يشاهدون أتباع يسوع المعلنين ينغمسون في اضطهاد, ومضايقة, وحتى قتل أحفاد بطرس, وفيليبُس, ومتـّى, وغيرهم من اليهود الفلسطينيين في وقت لاحق الذين بمجد للغاية ضحوا بحياتهم كأول شهداء لإنجيل الملكوت السماوي!
175:2.3 (1909.3) كم هو قاسٍ وغير معقول لإجبار أولاد أبرياء على المعاناة بسبب خطايا أسلافهم, إساءات التي هم جاهلون بها تماماً, والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونوا مسؤولين عنها! وللقيام بمثل هذه الأفعال الشريرة باسم مَن علـَّم تلاميذه أن يحبوا حتى أعدائهم! لقد أصبح من الضروري, في هذه التلاوة لحياة يسوع, تصوير الطريقة التي رفضه بها بعض إخوته اليهود وتآمروا لإحداث موته الشائن؛ لكننا نود تحذير كل الذين يقرأون هذه الرواية بأن تقديم مثل هذه التلاوة التاريخية لا يبرر بأي حال من الأحوال الكراهية الظالمة, ولا يتغاضى عن الموقف غير المنصف للعقل, الذي حافظ عليه الكثير من المسيحيين المقرين تجاه اليهود الأفراد لعدة قرون. يجب على المؤمنين بالملكوت, أولئك الذين يتبعون تعاليم يسوع, التوقف عن إساءة معاملة الفرد اليهودي باعتباره مذنبًا برفض يسوع وصلبه. الأب وابنه الخالق لم يتوقفا أبداً عن محبة اليهود. ليس عند الله محاباة أشخاص, والخلاص هو لليهودي والأممي على حد سواء.
175:3.1 (1909.4) عند الساعة الثامنة من مساء هذا الثلاثاء تم استدعاء الاجتماع المصيري للسنهدرين. في العديد من المناسبات السابقة كانت هذه المحكمة العليا للأمة اليهودية قد أصدرت مرسوماً غير رسمي بموت يسوع. في كثير من الأحيان كانت هذه الهيئة الحاكمة الموقرة مصممة على أن تضع حداً لعمله, لكن أبداً لم يسبق لهم أن قرروا إلقاء القبض عليه وتحقيق موته بأي وكل ثمن. كان بالضبط قبل منتصف ليل هذا الثلاثاء, 4 نيسان, عام 30 م. حينما قام السنهدرين, كما تألف آنذاك, بالتصويت رسمياً, وبالإجماع لفرض عقوبة الموت على كل من يسوع ولِعازر. كان هذا الجواب لمناشدة السيد الأخيرة إلى حكام اليهود التي كان قد قدمها في الهيكل قبل ساعات قليلة فقط, ومثـَّلت ردة فعلهم من الاستياء المرير على ادانة يسوع الأخيرة والعنيفة لهؤلاء الرؤساء للكهنة والفريسيين والصدوقيين غير التائبين أنفسهم. كان إصدار حُكم الإعدام (حتى قبل محاكمته) على ابن الله هو رد السنهدرين على العرض الأخير من الرحمة السماوية الذي امتد إلى الأمة اليهودية, على هذا النحو.
175:3.2 (1910.1) منذ هذا الوقت فصاعداً تُرك اليهود ليُنهوا عقد إيجارهم القصير الأمد من الحياة القومية بالكامل وفقاً لوضعهم الإنساني البحت بين أمم يورانشيا. لقد أنكرت إسرائيل ابن الله الذي أبرم ميثاقاً مع إبراهيم, وتحطمت خطة جعل أبناء إبراهيم الحاملين لنور الحق إلى العالَم. لقد فُسخ الميثاق الإلَهي, ودنت نهاية الأمة العبرية على عجل.
175:3.3 (1910.2) أُعطى ضباط السنهدرين أوامر باعتقال يسوع في وقت مبكر من صباح اليوم التالي, لكن مع إرشادات بعدم إلقاء القبض عليه علناً. قيل لهم أن يخططوا لأخذه في السِر. ويفضل أن يكون ذلك فجأة وفي الليل. فاهمون بأنه قد لا يعود في ذلك اليوم (الأربعاء) للتعليم في الهيكل, فقد أمروا ضباط السنهدرين هؤلاء بإحضاره أمام المحكمة اليهودية العليا في وقت ما قبل منتصف ليل الخميس.
175:4.1 (1910.3) في ختام محاضرة يسوع الأخيرة في الهيكل, تُرك الرُسل مرة أخرى في ارتباك وذعر. قبل أن يبدأ السيد شجبه الرهيب للحكام اليهود, كان يوداص قد عاد إلى الهيكل, بحيث إن الاثني عشر جميعًا سمعوا هذا النصف الأخير من محاضرة يسوع الأخيرة في الهيكل. كان من المؤسف أن يوداص إسخريوط لم يتمكن من سماع النصف الأول والعارض للرحمة من خطاب الوداع هذا. لم يسمع عرض الرحمة الأخير هذا للحكام اليهود لأنه كان لا يزال في اجتماع مع جماعة معينة من الأقارب والأصدقاء الصدوقيين الذين تناول طعام الغذاء معهم, والذين كان يتشاور معهم بشأن أنسب طريقة لينفصل عن يسوع وزملائه الرُسل. لقد كان بينما يستمع إلى اتهام السيد الأخير للقادة والحكام اليهود حينما اتخذ يوداص قرارًا نهائيًا وبالكامل للتخلي عن حركة الإنجيل وغسل يديه من المشروع بأكمله. مع ذلك, فقد غادر الهيكل بصحبة الاثني عشر, وذهب معهم إلى جبل الزيتون, حيث استمع, مع زملائه الرُسل, إلى ذلك الخطاب المصيري حول خراب أورشليم ونهاية الأمة اليهودية, وبقي معهم ليلة الثلاثاء تلك في المخيم الجديد بالقرب من الجثسيماني.
175:4.2 (1910.4) الجموع التي سمعت يسوع يتأرجح من مناشدته الرحيمة لقادة اليهود إلى ذلك التوبيخ المفاجئ واللاذع الذي حد على الإدانة القاسية, كانوا مذهولين ومحتارين. تلك الليلة, بينما جلس السنهدرين في الحُكم بالموت على يسوع, وبينما جلس السيد مع رُسله وبعض تلاميذه خارجاً على جبل الزيتون ينذر بموت الأمة اليهودية, كانت كل أورشليم معطاة إلى المناقشة الجادة والمكبوتة لسؤال واحد فقط: "ماذا سيفعلون بيسوع؟"
175:4.3 (1910.5) في منزل نيقوديموس التقى أكثر من ثلاثين من اليهود البارزين الذين كانوا مؤمنين سريين في الملكوت وناقشوا المسار الذي سيتبعونه في حال حدوث انفصال مفتوح عن السنهدرين. اتفق جميع الحاضرين على أنهم اتفق سيقدمون إقرارًا صريحًا بولائهم للسيد في نفس الساعة التي يسمعون فيها باعتقاله. وذلك بالضبط ما فعلوه.
175:4.4 (1911.1) الصدوقيون, الذين تحَّكموا الآن بالسنهدرين وسيطروا عليه, كانوا راغبين بالتخلص من يسوع للأسباب التالية:
175:4.5 (1911.2) 1. كانوا يخشون من أن التأييد الشعبي المتزايد الذي اعتبره به الجمهور هدد وجود الأمة اليهودية من خلال التورط المحتمل مع السلطات الرومانية.
175:4.6 (1911.3) 2. حماسه لإصلاح الهيكل ضرب مباشرة على إيراداتهم؛ تنظيف الهيكل أثـَّر على دفاتر جيوبهم.
175:4.7 (1911.4) 3. شعروا بأنهم مسؤولون عن الحفاظ على النظام الاجتماعي, وخافوا من عواقب الانتشار الإضافي لعقيدة يسوع الغريبة والجديدة عن أخوة الإنسان.
175:4.8 (1911.5) كان لدى الفريسيين دوافع مختلفة لرغبتهم في رؤية يسوع يُعدم, لقد خافوه لأنه:
175:4.9 (1911.6) 1. كان مصطفاً في إخبار معارضة إلى قبضتهم التقليدية على الناس. كان الفريسيون محافظين للغاية, وقد استاءوا بمرارة من هذه الهجمات المتطرفة المفترضة على مكانتهم المكتسبة كمعلمين دِينيين.
175:4.10 (1911.7) 2. رأوا أن يسوع كان مخالفاً للشريعة؛ بأنه قد أظهر تجاهلًا تامًا للسبت والعديد من المتطلبات الشرعية والاحتفالية الأخرى.
175:4.11 (1911.8) 3. اتهموه بالتجديف لأنه ألمح إلى الله كأبيه.
175:4.12 (1911.9) 4. والآن كانوا غاضبين منه بشدة بسبب محاضرته الأخيرة من التنديد المرير التي ألقاها هذا اليوم في الهيكل كجزء ختامي من خطابه الوداعي.
175:4.13 (1911.10) السنهدرين, حيث أصدر مرسوماً رسمياً بموت يسوع وأصدر أوامر باعتقاله, أجـَّل اجتماعه هذا الثلاثاء قرب منتصف الليل, بعد أن عيّن للاجتماع في الساعة العاشرة من الصباح التالي في بيت قيافا الكاهن العالي لغرض صياغة التهم التي يجب أن يحاكم عليها يسوع.
175:4.14 (1911.11) كانت مجموعة صغيرة من الصدوقيين قد اقترحت في الواقع التخلص من يسوع عن طريق الاغتيال, لكن الفريسيين رفضوا رفضًا قاطعًا الموافقة على مثل هذا الإجراء.
175:4.15 (1911.12) وكان هذا هو الوضع في أورشليم وبين الناس في هذا اليوم الحافل بالأحداث بينما حام حشد شاسع من الكائنات السماوية فوق هذا المشهد التاريخي على الأرض, متلهفين لفعل شيء لمساعدة سُلطانهم المحبوب لكن بدون قدرة على العمل لأنهم تم تقييدهم بشكل فعال من قِبل رؤسائهم القياديين.
كِتاب يورانشيا
ورقة 176
176:0.1 (1912.1) بعد ظُهر هذا الثلاثاء, بينما خرج يسوع والرُسل من الهيكل في طريقهم إلى مخيم الجثسيماني, قال متـّى, لافتاً الانتباه إلى بناء الهيكل: "يا سيد, لاحظ أي نوع من المباني هذه. انظر إلى الحجارة الضخمة والزينة الجميلة؛ هل يمكن تدمير هذه المباني؟" بينما تابعوا نحو الزيتونات, قال يسوع: "أنتم ترون هذه الحجارة وهذا الهيكل الضخم؛ الحق, الحق, أقول لكم: في أيام لتأتي قريباً لن يُترك حجر على آخر. كلها سوف تُنزل." هذه التلميحات التي تصور خراب الهيكل المقدس أثارت فضول الرُسل وهم يسيرون خلف السيد؛ لم يستطيعوا تصور أي حدث يقـَّصِر عن نهاية العالَم الذي من شأنه أن يتسبب في تدمير الهيكل.
176:0.2 (1912.2) من أجل تجنب الحشود العابرة على طول وادي قـَدرون باتجاه الجثسيماني, كان يسوع ورفاقه قد فكروا بتسلق المنحدر الغربي لجبل الزيتون لمسافة قصيرة ثم اتباع الطريق المؤدي إلى مخيمهم الخاص بالقرب من الجثسيماني الواقع على مسافة قصيرة فوق أرض التخييم العامة. بينما استداروا لمغادرة الطريق المؤدي إلى بيت-عنيا, لاحظوا الهيكل, ممجداً بإشعاعات الشمس الغائبة؛ وبينما تمهلوا على الجبل, رأوا أنوار المدينة تظهر وشاهدوا جَمال الهيكل المنير؛ وهناك, تحت الضوء الخافت للبدر, جلس يسوع والاثني عشر. تحدث السيد معهم, وفي الحاضر سأله نثانئيل هذا السؤال: "اخبرنا, يا سيد, كيف سنعرف عندما تكون تلك الحوادث على وشك أن تأتي؟"
176:1.1 (1912.3) رداً على سؤال نثانئيل, قال يسوع: "نعم سأخبركم عن الأوقات عندما سيكون هذا الشعب قد ملأ كأسه من الإثم؛ عندما سيهبط العدل بسرعة على مدينة آبائنا هذه. أنا على وشك أن أترككم؛ أنا ذاهب إلى الأب. بعد أن أترككم, خذوا حذركم من أن لا يخدعكم أحد, لأن كثيرين سيأتون كمخلصين وسيقودون كثيرين نحو الضلال. عندما تسمعون عن حروب وإشاعات عن حروب, لا تقلقوا, لأنه على الرغم من أن كل هذه الأمور ستحدث, إلا أن نهاية أورشليم لم تقترب بعد. لا ينبغي أن تقلقكم المجاعات أو الزلازل؛ ولا ينبغي أن تهتموا عندما يسلمونكم إلى السُلطات المدنية وتُضطهَدون من أجل الإنجيل. سوف تطردون من الكنِيس وتوضعون في السجن من أجلي, وبعض منكم سيُقتَل. عندما تُحضَرون أمام الحكام والزعماء, سيكون ذلك شهادة لإيمانكم ولإظهار ثباتكم في إنجيل الملكوت. ومتى وقفتم أمام القضاة, لا تقلقوا مسبقاً بشأن ما يجب أن تقولوا, لأن الروح سيعَّلمكم في تلك الساعة بالذات ما يجب أن تجيبوا على خصومكم. في أيام الشدة هذه, حتى أقاربكم, تحت قيادة أولئك الذين رفضوا ابن الإنسان, سيسلمونكم إلى السجن والموت. لبعض الوقت قد تكونون مكروهين من كل الناس لأجلي, لكن حتى في هذه الاضطهادات لن أهجركم؛ روحي لن تهجركم. كونوا صبورين! لا تشّكوا في أن إنجيل الملكوت هذا سينتصر على جميع الأعداء, وفي النهاية, سيُعلَن إلى كل الأمم."
176:1.2 (1913.1) توقف يسوع بينما تطلع نزولاً على المدينة. أدرك السيد بأن رفض المفهوم الروحي للمسيح, التصميم على التشبث بإصرار وبشكل أعمى بالمهمة المادية للمخلص المتوقع, في الحاضر سيجلب اليهود إلى صراع مباشر مع الجيوش الرومانية القوية, وأن مثل هذه المنافسة يمكن أن تؤدي فقط إلى الإطاحة النهائية والكاملة للأمة اليهودية. عندما رفض شعبه إغداقه الروحي ورفضوا تلقي نور السماء عندما أشرق عليهم بغاية الرحمة, ختموا بذلك هلاكهم كشعب مستقل له مهمة روحية خاصة على الأرض. حتى القادة اليهود أدركوا لاحقاً بأنها كانت فكرتهم الدنيوية عن المسيح التي أدَّت مباشرةً إلى الاضطرابات التي أدت في نهاية المطاف إلى تدميرهم..
176:1.3 (1913.2) حيث إن أورشليم كانت لتصبح مهد حركة الإنجيل المبكرة, لم يكن يسوع يريد أن يَهلك معلميها وواعظيها في الإطاحة المريعة للشعب اليهودي في علاقة مع دمار أورشليم؛ لأجل ذلك أعطى هذه الإرشادات لأتباعه. كان يسوع قلقاً للغاية خشية أن يصبح بعض تلاميذه متورطين في هذه الثورات التي ستأتي قريباً وهكذا يهلكون في سقوط أورشليم.
176:1.4 (1913.3) ثم تساءل أندراوس: "لكن, يا سيد, إذا كانت المدينة المقدسة والهيكل سيدمران, وإذا لم تكن هنا لتوجيهنا, فمتى يجب أن نهجر أورشليم؟" قال يسوع: "يمكنكم البقاء في المدينة بعد أن أكون قد ذهبت, حتى خلال هذه الأوقات من المعاناة والاضطهاد المرير, لكن عندما ترون أخيراً أورشليم محاصرة من قبل الجيوش الرومانية بعد ثورة الأنبياء الكذبة, عند ذلك ستعرفون بأن دمارها قريب؛ عند ذاك يجب أن تهربوا إلى الجبال. لا تدعوا أحداً من الذين في المدينة وحولها يتمهل ليخلص أي شيء, ولا تدعوا أولئك الذين في الخارج يتجرؤوا على دخولها. ستكون هناك محن عظيمة, لأن هذه ستكون أيام انتقام الأمميين. وبعد أن تكونوا قد هجرتم المدينة, سيسقط هذا الشعب العاصي بحد السيف وسيُقادون أسرى إلى كل الأمم؛ وهكذا ستُداس أورشليم من قبل الأمميين. في ذلك الوقت, أحذركم, لا تنخدعوا. إذا جاءكم أي إنسان قائلاً, ’انظروا, هنا المخلص‘, أو ’انظروا, هناك هو‘, لا تصَّدقوا, لأن العديد من المعلمين الكذبة سيظهرون ويضل كثيرون؛ لكن لا ينبغي أن تضلوا, لأنني قد أخبرتكم بكل هذا مسبقاً."
176:1.5 (1913.4) جلس الرُسل صامتين في ضوء القمر لوقت طويل بينما غاصت هذه التنبؤات المذهلة للسيد في أذهانهم الحائرة. ولقد كان في امتثال مع هذا الإنذار بالذات بأن هربت جماعة المؤمنين والتلاميذ عملياً بأكملها من أورشليم عند أول ظهور للجيوش الرومانية, ووجدوا ملجأ آمناً في بـِلا إلى الشمال.
176:1.6 (1913.5) حتى بعد هذا الإنذار الصريح, فسر العديد من أتباع يسوع هذه التنبؤات على أنها تشير إلى التغييرات التي من الواضح أنها ستحدث في أورشليم عندما يؤدي ظهور المسيح مرة أخرى إلى تأسيس أورشليم الجديدة وفي توسعة المدينة لتصبح عاصمة العالَم, في أذهانهم كان هؤلاء اليهود مصممين على ربط تدمير الهيكل مع "نهاية العالَم." كانوا يعتقدون أن أورشليم الجديدة هذه سوف تملأ كل فلسطين؛ بأن نهاية العالَم ستُتبَع بالظهور الفوري "للسماوات الجديدة والأرض الجديدة." لذلك لم يكن غريباً أن يقول بطرس: "يا سيد, نحن نعلم أن كل الأشياء ستزول عندما تظهر السماوات الجديدة والأرض الجديدة. لكن كيف سنعرف متى ستعود لتحقق كل هذا؟"
176:1.7 (1914.1) عندما سمع يسوع هذا, كان مفكراً لبعض الوقت ثم قال: "أبداً تخطئون لأنكم تحاولون دائماً ربط التعليم الجديد بالقديم؛ أنتم مُصّرون على إساءة فهم كل تعليمي؛ تصّرون على تفسير الإنجيل وفقاً لمعتقداتكم الراسخة. مع ذلك, سأحاول تنويركم."
176:2.1 (1914.2) على عدة مناسبات أدلى يسوع بتصريحات قادت مستمعيه إلى استنتاج أنه, بينما كان ينوي أن يغادر هذا العالم في الوقت الحالي, فمن المؤكد أنه سيعود ليتمم عمل الملكوت السماوي. مع تزايد قناعة أتباعه بأنه كان سيغادرهم, وبعد أن يكون قد رحل عن هذا العالَم, كان من الطبيعي فقط لجميع المؤمنين أن يتمسكوا سريعاً بشدة بهذه الوعود بالعودة, وهكذا أصبحت عقيدة المجيء الثاني للمسيح مدمجة في وقت مبكر في تعاليم المسيحيين, وتقريباً كل جيل لاحق من التلاميذ آمن بشدة بهذه الحقيقة وتطلع بثقة إلى مجيئه في وقت ما.
176:2.2 (1914.3) إذا كانوا سيفترقون عن سيدهم ومعلمهم, فكم بالأحرى أدرك هؤلاء التلاميذ والرُسل الأولين هذا الوعد بالعودة, ولم يضيعوا أي وقت في ربط الخراب المتوقع لأورشليم بهذا المجيء الثاني الموعود. واستمروا على هذا النحو في تفسير كلماته بالرغم من أنه, في كل أثناء هذا المساء من الإرشاد على جبل الزيتون, بذل السيد جهوداً خاصة لمنع مثل هذا الخطأ.
176:2.3 (1914.4) في إجابة إضافية على سؤال بطرس, قال يسوع: "لماذا لا تزال تتطلع من أجل أن يجلس ابن الإنسان على عرش داود وتتوقع أن تتحقق أحلام اليهود المادية؟ ألم أخبركم طوال هذه السنوات بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم؟ الأشياء التي تنظرون إليها الآن بازدراء آتية إلى نهاية, لكن هذه ستكون بداية جديدة من خلالها سيذهب إنجيل الملكوت إلى كل العالَم وسينتشر هذا الخلاص إلى جميع الشعوب. وعندما يكون الملكوت قد أتى إلى إثماره الكامل, كونوا أكيدين بأن الأب في السماء لن يفشل بأن يزوركم بوَحيٍ موَّسع للحق وإظهار مُعزز للبر, حتى كما أغدق في السابق على هذا العالَم مَن أصبح أمير الظلام, وبعد ذلك آدم, الذي تُبع بملكيصادق, وفي هذه الأيام, ابن الإنسان. وهكذا سيستمر الأب في إظهار رحمته وإبداء محبته, حتى لهذا العالَم المظلم والشرير. هكذا كذلك أنا, بعد أن يكون أبي قد قلدني بكل قدرة وسُلطة, سأستمر في متابعة أقداركم وتوجيه شؤون الملكوت بحضور روحي, الذي سيكون قريباً مسكوباً على كل جسد. حتى ولو أنني بهذا سأكون حاضراً معكم في الروح, أعدكم أيضًا بأنني سأعود في وقت ما إلى هذا العالَم, حيث عشت هذه الحياة في الجسد وأنجزت تجربة الكشف عن الله إلى الإنسان وقيادة الإنسان إلى الله في آن واحد. قريباً جداً يجب أن أترككم وأتولى عمل أبي الذي استأمنه في يداي, لكن كونوا ذوي شجاعة جيدة, لأنني سأعود في وقت ما. في هذه الأثناء, روحي, روح الحق للكون سيؤاسيكم ويرشدكم.
176:2.4 (1915.1) "أنتم ترونني الآن في ضعف وفي الجسد, لكن عندما أعود, سيكون بقدرة وفي الروح. عين الجسد ترى ابن الإنسان في الجسد, لكن عين الروح فقط ستشاهد ابن الإنسان ممجداً بالأب وظاهر على الأرض باسمه الخاص.
176:2.5 (1915.2) "لكن أوقات عودة ظهور ابن الإنسان معروفة فقط في مجالس الفردوس؛ ولا حتى ملائكة السماء يعرفون متى سيحدث هذا. مع ذلك, يجب أن تفهموا بأنه, عندما يكون هذا الإنجيل للملكوت قد اُعلن لكل العالَم من أجل خلاص جميع الشعوب, وعندما يكون ملء العصر قد أتى ليعبر, سيرسل الأب لكم إغداق افتقاد إلَهي آخر, وإلا فإن ابن الإنسان سيعود ليَحكم على العصر.
176:2.6 (1915.3) "والآن فيما يتعلق بآلام أورشليم, الذي أخبرتكم عنه, حتى هذا الجيل لن يمر حتى تتم كلماتي؛ لكن فيما يتعلق بأوقات عودة ابن الإنسان مرة أخرى, لا يجوز لأي شخص في السماء أو على الأرض أن يتكلم. لكن يجب أن تكونوا حكماء فيما يتعلق بنضوج العصر؛ يجب أن تكونوا يقظين لتفطنوا إلى علامات الأزمنة. تعرفون متى تُظهر شجرة التين أغصانها الرقيقة وتضع أوراقها بأن الصيف قريب. بالمثل, عندما يكون العالَم قد عبر خلال الشتاء الطويل من التفكير المادي وتميزون قدوم فصل الربيع الروحي لافتقاد إلَهي جديد, يجب أن تعلموا بأن صيف افتقاد جديد يقترب.
176:2.7 (1915.4) "لكن ما أهمية هذا التعليم فيما يتعلق بمجيء أبناء الله؟ ألا تدركون بأنه, عندما يتم استدعاء كل واحد منكم ليلقي كفاح حياته ويمر عبر بوابة الموت, فأنتم تقفون في حضور الدينونة مباشرة, وبأنكم وجهاً لوجه مع حقائق الافتقاد الإلَهي الجديد للخدمة في الخطة الأبدية للأب اللامتناهي؟ ما يجب أن يواجهه كل العالم كحقيقة فعلية عند نهاية عصر ما, أنتم, كأفراد, يجب على كل واحد منكم بأكثر التأكيد أن يواجه كتجربة شخصية عندما تصل إلى نهاية حياتك الطبيعية وبالتالي تعبر لتكون مواجَهاً بالظروف والمتطلبات الكامنة في الكشف التالي للتقدم الأبدي لملكوت الأب."
176:2.8 (1915.5) من بين جميع الخطابات التي قدمها السيد لرُسله, لم تصبح أي منها مُربكة للغاية في عقولهم مثل هذه, التي أعطيت مساء هذا الثلاثاء على جبل الزيتون, فيما يتعلق بالموضوع المزدوج لخراب أورشليم ومجيئه الثاني. كان هناك, بالتالي, اتفاق ضئيل بين الحسابات المكتوبة اللاحقة المؤسسة على ذكريات ما قاله السيد في هذه المناسبة غير العادية. تبعاً لذلك, عندما تُركت السجلات فارغة بشأن الكثير مما قيل مساء ذاك الثلاثاء, نشأت هناك العديد من التقاليد؛ وفي وقت مبكر جداً من القرن الثاني تمت كتابة رؤيا يهودية عن المسيح بواسطة واحد اسمه صِلطا, الذي كان مُلحقاً ببلاط الإمبراطور كاليجولا, نُسخت مادياً إلى إنجيل متـّى وأُضيفت لاحقاً (جزئياً) إلى سجلات مرقس ولوقا. لقد كان في كتابات صِلطا هذه حيث ظهر مَثل العذارى العشر. لم يتعرض أي جزء من سجل الإنجيل لمثل هذا التفسير الخاطئ المربك مثل تعليم هذا المساء. لكن الرسول يوحنا لم يصبح أبداً مرتبكاً بهذه الطريقة.
176:2.9 (1915.6) بينما استأنف هؤلاء الرجال الثلاثة عشر رحلتهم نحو المخيم, كانوا عاجزين عن الكلام وتحت توتر عاطفي كبير. كان يوداص قد أكد أخيرًا قراره في هجر زملائه. لقد كانت ساعة متأخرة عندما رحب داود زَبـِدي, ويوحنا مرقس, وعدد من التلاميذ البارزين بيسوع والاثني عشر في المخيم الجديد, لكن الرُسل لم يرغبوا بالنوم؛ أرادوا معرفة المزيد عن خراب أورشليم, ورحيل السيد, ونهاية العالَم.
176:3.1 (1916.1) بينما تجمَّعوا حول نار المخيم, عشرون منهم, سأل توما: "بما أنك سترجع لتُنهي عمل الملكوت, فماذا يجب أن يكون موقفنا عندما تكون بعيداً في شغل الأب؟" بينما نظر يسوع إليهم في ضوء النار, أجاب:
176:3.2 (1916.2) "وحتى أنت, يا توما, تفشل في فهم ما كنت أقوله. ألم أُعَّلمك كل هذا الوقت بأن علاقتك مع الملكوت هي علاقة روحية وفردية, إنها بالكامل مسألة تجربة شخصيه في الروح من خلال الإدراك-بالإيمان بأنك ابن لله؟ ماذا يجب أن أقول أكثر من ذلك ؟ سقوط الأمم, وانهيار الإمبراطوريات, وهلاك اليهود غير المؤمنين, ونهاية عصر, وحتى نهاية العالَم, ما علاقة هذه الأشياء بمن يؤمن بهذا الإنجيل, والذي خبأ حياته في ضمان الملكوت الأبدي؟ أنتم العارفون الله والمؤمنون بالإنجيل, قد استلمتم بالفعل ضمانات الحياة الأبدية. حيث إن معايشكم قد عيشت في الروح ومن أجل الأب, فلا شيء يمكن أن يكون مصدر قلق جَدّي لكم. إن بُناة الملكوت, المواطنون المعتمدون للعوالم السماوية, ينبغي ألا ينزعجوا من الثورات الدنيوية أو يضطربوا بسبب الكوارث الأرضية. ماذا يهم إليكم أنتم الذين تؤمنون بهذا الإنجيل للملكوت إذا انقلبت أمم, أو انتهى عصر, أو انهارت كل الأشياء المرئية, حيث إنكم تعرفون بأن حياتكم هي عطية الابن, وبأنها آمنة إلى الأبد في الأب؟ حيث إنكم عشتم الحياة الدنيوية بالإيمان وأنتجتم ثمار الروح مثل بر الخدمة المحبة لزملائكم, يمكنكم أن تتطلعوا بثقة إلى الخطوة التالية في المهمة الأبدية بنفس إيمان البقاء الذي حملكم خلال مغامرتكم الأولى والأرضية في البنوة مع الله.
176:3.3 (1916.3) "يجب على كل جيل من المؤمنين أن يواصل عمله. في ضوء العودة المحتملة لابن الإنسان,تماماً كما يحمل كل مؤمن فرد إلى الأمام عمل حياته في ضوء الموت الطبيعي الذي لا مفر منه ودائماً وشيك. متى تكون قد أسست بالإيمان مرة ذاتك كابن الله, فلا شيء آخر يهم بالنسبة إلى ضمان البقاء. لكن لا تخطئ! إن إيمان البقاء هذا هو إيمان حي, وهو يُظهر بشكل متزايد ثمار ذلك الروح الإلَهي الذي ألهمه أولاً في قلب الإنسان. كونك قبلت مرة البنوة في الملكوت السماوي لن يخلصك في وجه الرفض عن معرفة وباستمرار لتلك الحقائق التي لها علاقة بحمل الثمار الروحية التقدمية لأبناء الله في الجسد. أنتم الذين كنتم معي في شغل الأب على الأرض يمكنكم حتى الآن هجر الملكوت إذا وجدتم أنكم لا تحبون طريق خدمة الأب من أجل البشرية.
176:3.4 (1916.4) "كأفراد, وكجيل من المؤمنين, اسمعوني بينما أقول مَثلاً: كان هناك رَجل عظيم معَّين الذي, قبل البدء على رحلة طويلة إلى بلد آخر, دعا جميع خدامه المؤتمنين أمامه وسَّلم إلى أياديهم جميع بضائعه. إلى واحد أعطى خمس وزنات, وإلى آخر اثنتان, وإلى آخر وزنة واحدة. وهكذا عبر جماعة الوكلاء المُشَّرفين بأكملها, لكل واحد استأمن بضائعه وفقاً لقدراتهم المتعددة؛ ثم انطلق في رحلته. عندما رحل سيدهم, شرع عبيده في العمل لجني أرباح من الثروة الموكلة إليهم. في الحال الذي استلم خمس وزنات بدأ يتاجر بها وسرعان ما ربح خمس وزنات أخرى. بنفس الطريقة الذي استلم وزنتين سرعان ما كسب وزنتين أخريين. وهكذا حقق كل هؤلاء الخدام مكاسب لسيدهم باستثناء الذي لم يستلم سوى وزنة واحدة. ذهب بعيداً بنفسه وحفر حفرة في الأرض حيث خبأ مال سيده. في الوقت الحاضر عاد سيد أولئك الخدام بشكل غير متوقع واستدعى كل وكلائه لأجل الحساب. وعندما تم استدعاؤهم جميعاً أمام سيدهم, تقدم الذي استلم الوزنات الخمسة مع المال الذي اُستؤمن إليه وأحضر خمس وزنات إضافية, قائلاً, ’يا رب, أعطيتني خمس وزنات لاستثمرها, وأنا يسعدني أن أقدم خمس وزنات أخرى كربحي‘. وعند ذاك قال له سيده: ’حسناً فعلت, أيها الخادم الصالح والأمين, لقد كنت أميناً على أشياء قليلة؛ الآن سأجعلك وكيلاً على كثيرين؛ ادخل فوراً في فرح سيدك‘. ثم تقدم الذي كانت لديه الوزنتين, قائلاً: ’يا رب, سلمت ليداي وزنتين؛ ها أنا, قد ربحت هاتين الوزنتين الأخريين‘. فقال له سيده: ’حسناً فعلت, أيها الوكيل الصالح والأمين؛ أنت ايضا كنت امينا على بعض الأشياء, والآن سأضعك فوق كثيرين؛ ادخل في فرح سيدك‘.ثم جاء إلى المحاسبة الذي استلم وزنة واحدة. تقدم هذا الخادم, قائلاً, ’يا رب, لقد عرفتك وأدركت أنك رجل طامع من حيث أنك تتوقع مكاسب لم تتعب فيها شخصياً؛ لذلك كنت خائفاً أن أجازف بشيء مما استؤمنت عليه. خبأت وزنتك بأمان في الأرض؛ ها هي؛ لديك الآن ما يخصك‘. لكن سيده أجاب: ’أنت خادم كسول ومتراخِ. بكلماتك الخاصة تعترف بأنك تعلم أنني سأتطلب منك محاسبة ذات ربح معقول, مثلما قدم الخدام زملاؤك المجتهدين هذا اليوم. عارف بهذا, كان عليك, لذلك, على الأقل أن تضع مالي في أيدي الصيارفة حيث عند عودتي ربما استلم خاصتي مع فائدة‘. وعند ذاك قال هذا السيد للوكيل الرئيسي: ’خذوا هذه الوزنة من هذا الخادم غير المُربح وأعطوها لمن لديه عشر وزنات‘.
176:3.5 (1917.1) "إلى كل من لديه, سيُعطى له أكثر, وسيكون عنده وفرة؛ لكن منه الذي ليس عنده, حتى ما عنده سيؤخذ منه. لا يمكنك أن تقف مكتوف الأيدي في شؤون الملكوت الأبدي. أبي يتطلب من كل أولاده أن ينموا في النعمة وفي معرفة الحق. أنتم الذين تعرفون هذه الحقائق يجب أن تنتجوا الزيادة من ثمار الروح وتُظهروا تفانياً متزايداً للخدمة اللا-أنانية لزملائكم الخدام. وتذكَّروا بأنه, بقدر ما تسعفون إلى واحد من الأقل من إخواني, فقد قدمتم هذه الخدمة لي.
176:3.6 (1917.2) "وهكذا ينبغي أن تقوموا بشغل الأب, الآن ومن الآن فصاعداً, وحتى إلى الأبد. داوموا حتى أعود. بأمانة افعلوا ما استؤمن إليكم, وبهذا ستكونون مستعدين من أجل دعوة حساب الموت. وحيث إنكم عشتم هكذا من أجل مجد الأب ورضى الابن, ستدخلون بفرح وبمسرة عظيمة للغاية في الخدمة الأبدية للملكوت الأزلي."
176:3.7 (1917.3) الحق حي؛ روح الحق يقود أبناء النور دائماً إلى عوالم جديدة من الواقع الروحي والخدمة الإلَهية. لستم مُعطين الحق ليتبلور في أشكال مستقرة, وآمنة, ومُشَّرَفة. يجب أن يتعزز كشفكم للحق بالعبور خلال تجربتكم الشخصية بحيث يتم الكشف عن جَمال جديد ومكاسب روحية فعلية لجميع الذين يرون ثماركم الروحية ونتيجة لذلك يقادون إلى تمجيد الأب الذي في السماء. فقط أولئك الخدام الأمناء الذين بهذا ينمون في معرفة الحق, والذين يطورون بذلك القدرة على التقدير الإلَهي للحقائق الروحية, يمكنهم أبداً أن يأملوا "بالدخول الكامل في فرح ربهم". يا له من مشهد مؤسف لأجيال متعاقبة من الأتباع المقرين ليسوع ليقولوا, فيما يتعلق بوكالتهم للحق الإلَهي: "هنا, يا سيد, الحق الذي الزمته لنا منذ مائة أو ألف سنة. لم نخسر شيئاً؛ حفظنا بأمانة كل ما أعطيتنا إياه؛ لم نسمح بأن تُجرى أي تغييرات على ما علـّمتنا إياه؛ هنا الحق الذي أعطيتنا إياه". لكن هكذا ذريعة تخص الكسل الروحي لن تبرر وكيل الحق العاقر في حضور السيد. وفقاً للحق المستأمن إلى يديكم سيتطلب سيد الحق حساباً.
176:3.8 (1918.1) في العالم الآتي سيُطلب منكم تقديم تقرير عن هِبات هذا العالم ووكالاته. سواء كانت المواهب الفطرية قليلة أو كثيرة, فيجب مواجهة حساب عادل ورحيم. إذا تم استخدام الهِبات فقط في المساعي الأنانية ولم يُمنح أي تفكير للواجب الأعلى المتمثل في الحصول على عائد متزايد من ثمار الروح, كما تتجلى في الخدمة الدائمة التنامي للناس وعبادة الله, فإن مثل هؤلاء الوكلاء الأنانيون يجب أن يقبلوا عواقب اختيارهم المتعمد.
176:3.9 (1918.2) وكم كثيراً مثل كل البشر الأنانيين كان هذا الخادم غير الأمين مع الوزنة الواحدة بحيث أنه ألقى اللوم على كسله مباشرة على سيده. كم هو الإنسان عُرضة, عندما يواجه إخفاقات صنعه الخاص, أن يلقي اللوم على الآخرين, في كثير من الأحيان على أولئك الذين يستحقونها الأقل!
176:3.10 (1918.3) قال يسوع تلك الليلة بينما ذهبوا إلى راحتهم: "مجاناً استلمتم؛ لذلك مجاناً يجب أن تعطوا حقيقة السماء, وفي العطاء سوف تتكاثر هذه الحقيقة وتُظهر النور المتزايد من النعمة المخَلصة, حتى وأنتم تسعفونها."
176:4.1 (1918.4) من بين كل تعاليم السيد لم يساء فهم مرحلة واحدة مثل وعده بالعودة شخصياً في وقت ما إلى هذا العالَم. ليس من الغريب بأن يكون ميخائيل مهتماً بالعودة في وقت ما إلى الكوكب الذي اختبر عليه إغداقه السابع والأخير باعتباره بشرًا من الحيز. إنه فقط من الطبيعي الاعتقاد بأن يسوع الناصري, الآن الحاكم ذو السيادة لكون شاسع, سيكون مهتماً بالعودة, ليس مرة واحدة فقط بل حتى مرات عديدة, إلى العالَم الذي عاش عليه مثل هذه الحياة الفريدة وفاز أخيرًا لنفسه بإغداق الأب غير المحدود لقدرة كون وسلطته. ستكون يورانشيا إلى الأبد إحدى الأجواء الأهلية السبعة لميخائيل في الفوز بسيادة الكون.
176:4.2 (1918.5) لقد أعلن يسوع, في مناسبات عديدة ولأفراد كثيرين, عن نيته العودة إلى هذا العالَم. عندما استيقظ أتباعه على حقيقة أن سيدهم لن يعمل كمخلص دنيوي, وبينما استمعوا إلى تنبؤاته حول الإطاحة بأورشليم وسقوط الأمة اليهودية, بدأوا بشكل طبيعي في ربط عودته الموعودة بهذه الأحداث المفجعة. لكن عندما قامت الجيوش الرومانية بتسوية أسوار أورشليم, ودمرت الهيكل, وشتتت يهود يهودا, وما زال السيد لم يكشف عن نفسه في قدرة ومجد, بدأ أتباعه في صياغة ذلك المعتقد الذي ربط في النهاية المجيء الثاني للمسيح مع نهاية العصر, حتى مع نهاية العالَم.
176:4.3 (1918.6) وعَد يسوع أن يفعل شيئين بعد أن يكون قد صعد إلى الأب, وبعد أن تكون كل قدرة في السماء وعلى الأرض قد وُضعت في يديه. وعَد, أولاً, أن يرسل إلى العالَم, وعوضاً عنه, معلمًا آخر, روح الحق؛ وهذا فعله على يوم العنصرة. ثانياً, بأكثر التأكيد وعد أتباعه بأنه في وقت ما سيعود شخصياً إلى هذا العالَم. لكنه لم يقل كيف, أو أين, أو متى سيعاود زيارة هذا الكوكب لتجربة إغداقه في الجسد. في إحدى المناسبات أوعز بأنه, طالما أن عين الجسد قد شاهدته عندما عاش هنا في الجسد, فإنه عند عودته (على الأقل في إحدى زياراته المحتملة) لن يتم تمييزه إلا من خلال عين الإيمان الروحي.
176:4.4 (1919.1) يميل الكثيرون منا إلى الاعتقاد بأن يسوع سيعود إلى يورانشيا عدة مرات خلال العصور القادمة. ليس لدينا وعده المحدد للقيام بهذه الزيارات التعددية, لكنه يبدو من الأرجح بأن الذي يحمل بين ألقاب كونه ذلك للأمير الكوكبي ليورانشيا سيزور مرات عديدة هذا العالَم الذي منح فتحه مثل هذا اللقب الفريد عليه.
176:4.5 (1919.2) نعتقد اعتقاداً راسخاً بأن ميخائيل سيأتي شخصياً مرة أخرى إلى يورانشيا. لكن ليس لدينا أدنى فكرة بالنسبة إلى متى وبأي طريقة قد يختار المجيء. هل سيكون توقيت مجيئه الثاني على الأرض مرتبطاً مع الدينونة المُنهية لهذا العصر الحالي, سواء مع الظهور المرافق لابن قضائي أو بدونه؟ هل سيأتي في علاقة مع انتهاء عصر يورانشي لاحق ما؟ هل سيأتي بدون إعلان وكحدث منعزل؟ لا نعلم. فقط شيء واحد نحن على يقين منه, وهو أنه, عندما يعود, سيعرف كل العالَم بذلك على الأرجح, لأنه يجب أن يعود باعتباره الحاكم السامي للكون وليس كطفل غامض لبيت-لحم. لكن إذا كانت كل عين ستشاهده, وإذا كانت عيون الروح فقط ستميز حضوره, فعندئذٍ يجب أن يؤَّجَل مجيئه طويلاً.
176:4.6 (1919.3) ستفعلون حسناً, لذلك, بفصل عودة السيد الشخصية إلى الأرض عن أي وجميع الأحداث المحددة أو العهود المستقرة. نحن متأكدون من شيء واحد فقط: لقد وعد بالعودة. ليس لدينا أي فكرة عن موعد وفائه بهذا الوعد أو بأي علاقة. على حد علمنا, قد يظهر على الأرض في أي يوم, وقد لا يأتي إلى أن يكون قد مر عصر بعد عصر وتم الفصل كما ينبغي من قِبل الأبناء المرتبطين به من كتيبة الفردوس.
176:4.7 (1919.4) المجيء الثاني لميخائيل على الأرض هو حدث ذو قيمة عاطفية هائلة لكل من منتصفي الطريق والبشر؛ لكن سوى ذلك ليست لحظة مباشرة بالنسبة لمنتصفي الطريق وليست ذات أهمية عملية للبشر أكثر من الحادثة الاعتيادية للموت الطبيعي, الذي هكذا فجأة يُسّرع الإنسان الفاني نحو الإدراك الفوري لذلك التتالي من أحداث الكون الذي يؤدي مباشرة إلى حضرة يسوع هذا نفسه, الحاكم ذو السيادة لكوننا. إن أولاد النور جميعهم مُقدَّرين لرؤيته, وليس من دواعي القلق الجاد ما إذا كنا نذهب إليه أو ما إذا صادف أن يأتي أولاً إلينا. لذلك كونوا دائماً مستعدين للترحيب به على الأرض كما يقف على استعداد ليرحب بكم في السماء. نتطلع بثقة من أجل ظهوره المجيد, حتى لمجيئات متكررة, لكننا جاهلون كلياً بالنسبة إلى كيف, ومتى, وفي أي صلة هو مقدر له أن يظهر.
كِتاب يورانشيا
ورقة 177
177:0.1 (1920.1) عندما لم يضغط عَمَل تعليم الناس عليهم, كان من عادة يسوع ورُسله أن يستريحوا من أشغالهم كل أربعاء. في يوم الأربعاء هذا بالذات تناولوا الإفطار في وقت متأخر بعض الشيء عن المعتاد, وكان المخيم يسود بصمت ينذر بالسوء؛ قيل القليل أثناء النصف الأول من وجبة هذا الصباح. أخيراً قال يسوع: "أرغب في أن تستريحوا اليوم. خذوا وقتاً للتفكير في كل ما حدث منذ مجيئنا إلى أورشليم وفـَّكِروا فيما هو أمامنا تماماً, مما أخبرتكم عنه بصراحة. تأكدوا من أن الحق يقيم في معايشكم, وبأنكم تنمون كل يوم في النعمة."
177:0.2 (1920.2) بعد الإفطار أبلغ السيد أندراوس أنه يعتزم التغيب للنهار واقترح السماح للرُسل بقضاء الوقت وفقًا لاختياراتهم, باستثناء أنه ولا بأي حال من الأحوال يجب أن يذهبوا داخل بوابات أورشليم.
177:0.3 (1920.3) عندما استعد يسوع للذهاب إلى التلال بمفرده, بادره داود زَبـِدي, قائلاً: "أنت تعلم جيداً, يا سيد, بأن الفريسيين والحكام يسعون لإهلاكك, ومع ذلك تتهيأ للذهاب بمفردك إلى التلال. للقيام بذلك هو حماقة, لذلك سأرسل ثلاثة رجال معك مستعدين ليروا أنه لن يصيبك أي ضرر." نظر يسوع إلى الجليليين الثلاثة المدججين بالسلاح والأقوياء وقال لداود: "قصدك حسن, لكنك تخطئ في أنك تفشل في فهم أن ابن الإنسان لا يحتاج إلى من يدافع عنه. لا إنسان سوف يلقي يديه علَيَ حتى تلك الساعة عندما أكون مستعداً للتضحية بحياتي في امتثال لمشيئة أبي. هؤلاء الرجال لا يمكنهم مرافقتي. أرغب في الذهاب وحدي, لكي أتواصل مع الأب."
177:0.4 (1920.4) عند سماع هذه الكلمات, انسحب داود وحراسه المسلحين؛ لكن عندما بدأ يسوع بالسير وحده, تقدم يوحنا مرقس بسلة صغيرة تحتوي على طعام وماء واقترح بأنه, إذا كان ينوي البقاء بعيداً طوال النهار, فقد يجد نفسه جائعاً. ابتسم السيد ليوحنا ومد يده لأخذ السلة.
177:1.1 (1920.5) بينما كان يسوع على وشك أخذ سلة الغذاء من يد يوحنا, تجرأ الشاب بالقول: "لكن, يا سيد, قد تضع السلة على الأرض بينما تنحرف جانباً للصلاة وتذهب بدونها. إضافة لذلك, إذا كنت سأذهب معك لأحمل الغذاء, فستكون لديك حرية أكبر للعبادة, وبالتأكيد سأكون صامتاً. لن أطرح أي أسئلة وسأبقى بجانب السلة عندما تذهب وحدك لتصَّلي.
177:1.2 (1920.6) بينما يجعل هذا الخطاب, الجرأة التي أذهلت بعض المستمعين القريبين, كان يوحنا قد تجرأ على التمسك بالسلة. هناك وقفا كِلا يوحنا ويسوع ممسكين بالسلة. الآن تركها السيد, ومتطلع نزولاً على الفتى, قال: "بما أنك من كل قلبك تتوق للذهاب معي, فلن يُنكر عليك ذلك. سنذهب بأنفسنا وستكون لدينا زيارة جيدة. يمكنك أن تسألني أي سؤال يطرح نفسه في قلبك, وسنؤاسي ونسلي بعضنا. يمكنك أن تبدأ بحمل الغذاء, وعندما تتعب, سأساعدك, اتبع معي."
177:1.3 (1921.1) لم يعد يسوع إلى المخيم ذلك المساء إلا بعد غروب الشمس. أمضى السيد هذا اليوم الأخير من الهدوء على الأرض في زيارة مع هذا الفتى الجائع للحق والتحدث مع أبيه الفردوسي. أصبح هذا الحدث معروفاً عند العُلى على أنه "اليوم الذي قضاه شاب مع الله في التلال." إن هذه المناسبة تجسد إلى الأبد رغبة الخالق في التزامل مع المخلوق. حتى فتى, إذا كانت رغبة القلب حقاً سامية, يمكن أن يفرض الانتباه ويستمتع بالمرافقة المحبة لإله الكون, فعلياً يختبر النشوة التي لا تُنسى للكيان وحيداً مع الله في التلال, وليوم كامل. وكانت هذه هي التجربة الفريدة التي مر بها يوحنا مرقس يوم الأربعاء هذا في تلال يهودا.
177:1.4 (1921.2) زار يسوع كثيراً مع يوحنا, متكلماً بحرية عن شؤون هذا العالَم والعالَم التالي. أخبر يوحنا يسوع عن أسفه بأنه لم يبلغ من العمر ما فيه الكفاية ليكون واحداً من الرُسل وأعرب عن تقديره البالغ لأنه سُمح له باتباعهم باستمرار منذ وعظهم الأول عند معبر الأردن بالقرب من أريحا, باستثناء الرحلة إلى فينيقيا. حذر يسوع الفتى من أن يصبح مثبط الهمة بالأحداث الوشيكة وأكد له بأنه سيعيش ليصبح رسولاً قديراً للملكوت.
177:1.5 (1921.3) كان يوحنا مرقس يشعر بسعادة غامرة بذكرى هذا اليوم مع يسوع في التلال, لكنه لم ينس أبداً تحذير السيد الأخير, الذي قيل بالضبط بينما كانا على وشك العودة إلى مخيم الجثسيماني, عندما قال: "حسنا, يا يوحنا, لقد كان لدينا زيارة جيدة, يوم راحة حقيقي, لكن انظر بأنك لا تخبر أي إنسان بالأمور التي أخبرتك إياها. ولم يكشف يوحنا مرقس قط أي شيء مما حدث في هذا اليوم الذي قضاه مع يسوع في التلال.
177:1.6 (1921.4) طوال الساعات القليلة المتبقية من حياة يسوع الأرضية, لم يسمح يوحنا مرقس أبداً أن يكون السيد غائباً عن نظره لمدة طويلة. دائماً كان الفتى مختبئاً بالقُرب؛ نام فقط عندما نام يسوع.
177:2.1 (1921.5) خلال زيارة هذا اليوم مع يوحنا مرقس, أمضى يسوع وقتاً معتبراً في مقارنة طفولتهما المبكرة وتجارب الصبا اللاحقة. مع أن والدا يوحنا كانا يمتلكان من متاع هذا العالَم أكثر مما كان لدي والدي يسوع, إلا أنه كان هناك الكثير من الخبرة المتشابهة جداً في صباههما. قال يسوع أشياء كثيرة ساعدت يوحنا على فهم والديه وأعضاء آخرين من عائلته بشكل أفضل. عندما سأل الفتى السيد كيف يمكنه أن يعرف أنه سيصبح "رسولاً قديراً للملكوت," قال يسوع:
177:2.2 (1921.6) "أعلم أنك ستثبت ولاءك لإنجيل الملكوت لأنني أستطيع الإعتماد على إيمانك ومحبتك الحاليين عندما تكون هاتان الصفتان مؤسستان على ذلك التدريب الباكر كما كان نصيبك في البيت. أنت نتاج بيت حيث يحمل الوالدان عاطفة صادقة لبعضهما, ولذلك لم تُحَب فوق اللزوم بشكل أضر برفع مفهومك عن أهمية الذات. ولا عانت شخصيتك تشويهاً نتيجة لمناورات والديك غير المُحبة من أجل ثقتك وولائك, لأحدهما ضد الآخر. لقد استمتعت بتلك المحبة الأبوية التي تضمن ثقة بالذات جديرة بالثناء وتعزز مشاعر الطمأنينة الطبيعية. لكنك كنت محظوظاً بأن والديك كانا يمتلكان الحكمة بالإضافة إلى المحبة؛ ولقد كانت الحكمة هي التي دفعتهما لحجب معظم أشكال التساهل والكثير من الكماليات التي يمكن أن تشتريها الثروة بينما أرسلوك إلى مدرسة الكنِيس مع زملاء لعبك في الحي, كما شجعاك على تعلم كيفية العيش في هذا العالَم من خلال السماح لك بأن تكون لديك خبرة أصلية. لقد أتيت إلى الأردن, حيث وعظنا وعمد تلاميذ يوحنا, مع صديقك الشاب عاموس. كِلاكما رغبتما في الذهاب معنا. عندما عُدت إلى أورشليم, وافق والداك؛ لكن والدا عاموس رفضا؛ لقد أحبا ابنهما كثيراً جداً بحيث حرماه من التجربة المباركة التي كانت لديك, حتى مثلما تستمتع بها هذا اليوم. بالهروب من البيت, كان من الممكن لعاموس أن يلتحق بنا, لكنه بفعله هذا كان سيجرح المحبة ويضَّحي بالولاء. حتى لو كان مثل هذا المجرى حكيماً, لكان ثمناً باهظاً مقابل الخبرة, والاستقلال, والحرية. يحرص الآباء الحكماء, مثل والديك, بأنه لا يضطر أولادهما أن يجرحوا المحبة أو يكبتوا الولاء من أجل تنمية الاستقلال والتمتع بالحرية المنعشة عندما يكونوا قد كبروا حتى يبلغوا سنك.
177:2.3 (1922.1) "المحبة, يا يوحنا, هي الواقع الأسمى للكون عندما تُغدق بكائنات كلية الحكمة, لكنها ميزة خطرة وفي كثير من الأحيان شبه أنانية عندما تتجلى في تجربة الوالدين الفانين. عندما تتزوج ويكون لديك أطفال خاصتك لتربيهم, تأكد بأن محبتك منبهة بالحكمة وموجهة بالذكاء.
177:2.4 (1922.2) "صديقك الشاب عاموس يؤمن بإنجيل الملكوت هذا مثلك تماماً, لكن لا يمكنني الإعتماد عليه كلياً؛ لست متأكداً مما سيفعله في السنوات الآتية. لم تكن حياته البيتية المبكرة بحيث ستنتج شخصاً يمكن الإعتماد عليه تماماً. يشبه عاموس إلى حد كبير واحداً من الرُسل الذي فشل في الاستمتاع بتدريب بيتي طبيعي, ومُحب, وحكيم. ستكون حياتك الآخرة بأكملها أكثر سعادة ويمكن الاعتماد عليها لأنك قضيت سنواتك الثمانية الأولى في بيت اعتيادي وحسن التنظيم. أنت تملك طبعاً قوياً ومتماسك-الحبك لأنك نشأت في بيت سادت فيه المحبة وحكمت الحكمة. مثل هذا التدريب في مرحلة الطفولة ينتج نوعًا من الولاء الذي يؤكد لي بأنك ستذهب خلال الحياة بالمسلك الذي بدأته."
177:2.5 (1922.3) لأكثر من ساعة استمر يسوع ويوحنا في هذه المناقشة عن حياة البيت. ومضى السيد ليشرح ليوحنا كيف أن الطفل يعتمد كلياً على والديه وعلى الحياة البيتية المرتبطة بكل مفاهيمه المبكرة عن كل شيء فكري, واجتماعي, وأخلاقي, وحتى روحي بما أن العائلة تمثل للطفل الصغير كل ما يمكنه معرفته في البدء إما عن العلاقات الإنسانية أو الإلَهية. يجب أن يستمد الطفل انطباعاته الأولى عن الكون من رعاية الأُم؛ إنه يعتمد كلياً على أبيه الأرضي في أفكاره الأولى عن الأب السماوي. حياة الطفل اللاحقة تُجعل سعيدة أو تعيسة, سهلة أو صعبة, وفقاً لحياته العقلية والعاطفية المبكرة, مشروطة بهذه العلاقات الاجتماعية والروحية للبيت. حياة الإنسان الآخرة بأكملها تتأثر بشكل كبير بما يحدث خلال السنوات القليلة الأولى من الوجود.
177:2.6 (1922.4) إنه اعتقادنا المخلص بأن إنجيل تعاليم يسوع, مؤسس كما هو على علاقة الأب-الطفل, بالكاد يمكنه التمتع بقبول يعم العالَم حتى ذلك الوقت عندما تضم الحياة البيتية للشعوب المتمدنة الحديثة المزيد من المحبة والمزيد من الحكمة. بالرغم من أن آباء القرن العشرين يملكون معرفة كبيرة وحقيقة متزايدة من أجل تحسين البيت وتشريف الحياة البيتية, تظل حقيقة أن عددًا قليلاً جدًا من البيوت الحديثة هي أماكن صالحة حيث يتربى الصبيان والبنات مثل بيت يسوع في الجليل وبيت يوحنا مرقس في يهودا, ولو إن قبول إنجيل يسوع سيؤدي إلى التحسين الفوري للحياة البيتية. إن حياة المحبة للبيت الحكيم والتفاني المخلص للدِين الحقيقي يبذلان تأثيراً متبادلاً عميقاً على بعضهما البعض. مثل هذه الحياة البيتية تُعزز الدِين, والدِين الحقيقي يمجد البيت دائماً.
177:2.7 (1923.1) إنه صحيح بأن الكثير من تأثيرات التقزم غير المقبولة وغيرها من السمات المقلقة لهذه البيوت اليهودية القديمة قد تم التخلص منها فعلياً من الكثير من البيوت الحديثة المنظمة بشكل أفضل. في الواقع, هناك المزيد من الحرية التلقائية وحرية شخصية أكثر بكثير, لكن هذه الحرية ليست مكبوحة بالمحبة, ولا يحفزها الولاء, ولا يوجهها الانضباط الذكي للحكمة. ما دمنا نعَّلم الطفل أن يصَّلي, "أبانا الذي في السماء", فإن مسؤولية جسيمة تقع على عاتق كل الأباء الأرضيين بحيث يعيشوا ويرتبوا بيوتهم لكي تصبح كلمة الأب مدخرة باستحقاق في عقول وقلوب جميع الأطفال الذين يكبرون.
177:3.1 (1923.2) أمضى الرُسل معظم هذا النهار يتجولون حول جبل الزيتون ويزورن التلاميذ الذين خيَّموا معهم, لكن في وقت مبكر من بعد الظُهر أصبحوا راغبين جداً في رؤية عودة يسوع. مع مرور النهار, ازداد قلقهم بشأن سلامته؛ شعروا بالوحدة بشكل لا يوصف بدونه. كان هناك الكثير من الجدل على مدار اليوم حول ما إذا كان ينبغي السماح للسيد بالخروج وحده في التلال, برفقة صبي لقضاء الأغراض فقط. على الرغم من أنه لم يعبّر أحد عن أفكاره بشكل علني, لم يكن ولا واحد منهم, ما عدا يوداص إسخريوط, الذي لم يرغب بأن يكون بنفسه في مكان يوحنا مرقس.
177:3.2 (1923.3) كان حوالي منتصف الظهيرة عندما ألقى نثانئيل خطابه حول "الرغبة السامية" لنحو ستة من الرُسل وكثير من التلاميذ, والذي كانت نهايته: "ما هو خطأ معظمنا هو أننا لدينا قلب فاتر. فشلنا بأن نحب السيد كما يحبنا. لو أردنا جميعاً أن نذهب معه كما فعل يوحنا مرقس, بالتأكيد كان سيأخذنا جميعاً. وقفنا جانباً بينما اقترب الفتى من السيد وقدم له السلة, لكن عندما أمسكها السيد, لم يتركها الفتى. وهكذا تركنا السيد هنا بينما مضى إلى التلال مع سلة, وصبي, والكل.
177:3.3 (1923.4) حوالي الساعة الرابعة, جاء عداؤون إلى داود زَبـِدي جالبين إليه كلمة من والدته في بيت-صيدا ومن والدة يسوع. قبل عدة أيام كان داود قد قرر أن رؤساء الكهنة والحكام ينوون قتل يسوع. عرف داود بأنهم مُصممون على إهلاك السيد, وكان تقريباً مقتنعاً بأن يسوع لن يمارس قدرته الإلَهية لإنقاذ نفسه ولن يسمح لأتباعه باستخدام القوة في الدفاع عنه. حيث إنه توصل إلى هذه الاستنتاجات, لم يضيع الوقت في إرسال مرسال إلى والدته, يحثها على القدوم فوراً إلى أورشليم وإحضار مريم والدة يسوع وكل فرد من أفراد أسرته.
177:3.4 (1923.5) فعلت أُم داود كما طلب ابنها, والآن رجع العداؤون إلى داود حاملين كلمة بأن والدته وعائلة يسوع بأكملها كانوا في طريقهم إلى أورشليم ويجب أن يصلوا في وقت ما متأخر من اليوم التالي أو باكراً جداً في الصباح التالي. بما أن داود فعل هذا بمبادرته الخاصة, اعتقد أنه من الحكمة أن يحفظ الأمر لنفسه. لذلك, لم يُخبر أحداً, أن عائلة يسوع كانت في طريقها إلى أورشليم.
177:3.5 (1924.1) بعد الظهر بقليل, وصل إلى المخيم أكثر من عشرين يونانيًا ممن التقوا بيسوع والأثني عشر في بيت يوسف الأريماضيا, وقضى بطرس ويوحنا عدة ساعات في مؤتمر معهم. هؤلاء الإغريق, على الأقل بعضهم, كانوا متقدمين جيداً في معرفة الملكوت, حيث أُرشدوا من قبل رودان في الإسكندرية.
177:3.6 (1924.2) في ذلك المساء, بعد العودة إلى المخيم, زار يسوع اليونانيين, ولولا أن مثل هذا المسار كان من شأنه أن يزعج رسله كثيرًا والعديد من تلاميذه البارزين, لكان قد رسم هؤلاء اليونانيين العشرين, حتى كما رسم السبعين.
177:3.7 (1924.3) بينما كان كل هذا يجري في المخيم, كان رؤساء الكهنة والشيوخ في أورشليم مندهشين من أن يسوع لم يرجع ليخاطب الجموع. صحيح, في اليوم السابق, عندما غادر الهيكل, كان قد قال, "أترك لكم منزلكم مقفراً." لكنهم لم يتمكنوا من فهم سبب استعداده للتخلي عن الطائل الكبير الذي بناه في الموقف الودي للجماهير. بينما كانوا يخشون من أن يثير الشغب بين الناس, فإن كلمات السيد الأخيرة للجموع كانت بمثابة حث "ليمتثلوا بكل طريقة معقولة مع سُلطة أولئك الذين "يجلسون على كرسي موسى." لكنه كان يوماً حافلاً في المدينة بينما استعدوا في نفس الوقت لعيد الفصح واتقنوا خططهم لإهلاك يسوع.
177:3.8 (1924.4) لم يأت الكثير من الناس إلى المخيم, لأن تأسيسه كان قد حُفظ بسرية خاضعة لحراسة مشددة من قِبل جميع الذين عرفوا بأن يسوع كان من المتوَقع أن يمكث هناك بدلاً من الخروج إلى بيت-عنيا كل ليلة.
177:4.1 (1924.5) بعد فترة وجيزة من مغادرة يسوع ويوحنا مرقس المخيم, اختفى يوداص إسخريوط من بين إخوانه, ولم يعد حتى وقت متأخر من بعد الظهر. هذا الرسول المضطرب والساخط, بالرغم من طلب سيده المحدد بالامتناع عن دخول أورشليم, سارع للحفاظ على موعده مع أعداء يسوع في بيت قيافا رئيس الكهنة. كان هذا اجتماعاً غير رسمي للسنهدرين وتم تعيينه بعد الساعة العاشرة بقليل من ذلك الصباح. تمت الدعوة إلى هذا الاجتماع لمناقشة طبيعة التهم التي ينبغي توجيهها ضد يسوع والبت في الإجراء الذي يجب اتخاذه لتقديمه إلى السُلطات الرومانية بغرض تأمين التثبيت المدني اللازم لحكم الإعدام الذي سبق أن حكموا به عليه.
177:4.2 (1924.6) في اليوم السابق كان يوداص قد أفشى لبعض أقاربه وبعض الأصدقاء الصدوقيين لعائلة أبيه بأنه قد وصل إلى نتيجة مفادها أنه, بينما كان يسوع حالماً حسن النية ومثالياً, لم يكن هو المخَّلِص المتوقع لإسرائيل. صرح يوداص أنه يرغب بشدة في إيجاد طريقة ما للانسحاب بلباقة من الحركة كلها. أكد له أصدقاؤه بإطراء أن الحكام اليهود سيشيدون بانسحابه كحدث عظيم, وبأن لا شيء سيكون كثيراً من أجله. قادوه للإعتقاد بأنه سيحصل على الفور على تكريم عالٍ من السنهدرين, وبأنه سيكون أخيراً في وضع يمكنه من محو وصمة العار من "ارتباطه حسن النية إنما المؤسف مع جليليين غير متعلمين."
177:4.3 (1924.7) لم يستطع يوداص أن يصدق تماماً بأن أعمال السيد العظيمة كانت قد صنعتها قدرة أمير الأبالسة, لكن كان الآن مقتنعاً تماماً بأن يسوع لن يمارس قدرته في تعظيم الذات؛ كان مقتنعاً أخيراً بأن يسوع سيسمح للحُكام اليهود بإهلاكه, ولم يستطع تحمل الفكرة المهينة لكونه مرتبط بحركة الانهزام. رفض أن يخالج فكرة الفشل الظاهر. لقد فهم تماماً الطبع القوي لسيده وحرص ذلك العقل المهيب والرحيم, مع ذلك استمد مسرة حتى من المخالجة الجزئية لاقتراح أحد أقربائه بأن يسوع, بينما كان متعصباً حسن النية, ربما لم يكن حقا سليم العقل؛ بأنه دائماً بدا ليكون شخصاً غريباً ومُساء فهمه.
177:4.4 (1925.1) والآن, كما لم يكن من قبل, وجد يوداص نفسه مستاءً بشكل غريب لأن يسوع لم يمنحه منصبًا أكثر كرامة. طوال الوقت كان مقـَّدِراً لشرف كونه أمين الصندوق الرسولي, لكن الآن بدأ يشعر بأنه لم يكن موضع تقدير؛ بأن قدراته كانت غير مُعترَف بها. كان مُغلوباً فجأة بالسخط بأن بطرس, ويعقوب, ويوحنا كانا مُكرمين بارتباط وثيق مع يسوع, وفي هذا الوقت, عندما كان في الطريق إلى بيت رئيس الكهنة, كان مصمماً على تصفية الحساب من بطرس, ويعقوب, ويوحنا أكثر مما كان مهتماً بأي تفكير في خيانة يسوع. لكن قبل وفوق كل شيء, بالضبط آنذاك, بدأت فكرة جديدة ومسيطرة تشغل طليعة عقله الواعي: كان قد شرع في الحصول على شرف لنفسه, وإذا أمكن تأمين هذا في نفس الوقت مع تسوية الحساب مع أولئك الذين ساهموا في أعظم خيبة أمل في حياته, كل الأفضل. كان مستولى عليه بمؤامرة رهيبة من الارتباك, والعزة, واليأس, والإصرار. ولذا يجب أن يكون واضحاً بأنه لم يكن من أجل المال أن يوداص كان حينها في طريقه إلى بيت قيافا ليرتب من أجل خيانة يسوع.
177:4.5 (1925.2) عندما اقترب يوداص من بيت قيافا, توصل إلى القرار النهائي بالتخلي عن يسوع وزملائه الرُسل؛ ولما كان قد قرر أن يتخلى عن قضية ملكوت السماء, كان مُصمماً أن يضمن لنفسه أكبر قدر ممكن من الشرف والمجد الذي كان يعتقد أنه سيكون له في وقت ما عندما عرف نفسه لأول مرة مع يسوع وإنجيل الملكوت الجديد. جميع الرُسل شاركوا مرة هذا الطموح مع يوداص, لكن بمرور الزمن تعَّلموا أن يُعجبوا بالحق وأن يحبوا يسوع, على الأقل أكثر مما فعل يوداص.
177:4.6 (1925.3) تم تقديم الخائن إلى قيافا والحكام اليهود من قبل ابن عمه, الذي أوضح بأن يوداص, بعد أن اكتشف خطأه في السماح لنفسه بأن يكون مضللاً بتعاليم يسوع الغامضة, قد وصل عند النقطة حيث رغب أن ينبذ علناً ورسمياً ارتباطه بالجليلي وفي نفس الوقت المطالبة بإعادته إلى ثقة وزمالة إخوانه من يهودا. ومضى هذا المتحدث باسم يوداص ليوضح أن يوداص أدرك أنه سيكون من الأفضل لأجل سلام إسرائيل أن يُعتقل يسوع, وبأنه كإثبات لأسفه في المشاركة في مثل هذه الحركة الخاطئة وكدليل على إخلاصه في العودة الآن إلى تعاليم موسى, فقد جاء ليقدم نفسه إلى السنهدرين باعتباره الشخص الذي يمكن أن يرتب مع القبطان الذي يحمل أوامر القبض على يسوع بحيث يمكن احتجازه بهدوء, وبالتالي لتجنب أي خطر لإثارة الجموع أو ضرورة تأجيل إعتقاله لما بعد عيد الفصح.
177:4.7 (1925.4) عندما انتهى ابن عمه من الكلام, قدَّم يوداص, الذي, تقدم إلى الأمام بالقرب من رئيس الكهنة, قال: "كل ما وعد به ابن عمي, سأفعله, لكن ماذا أنتم مستعدون لإعطائي مقابل هذه الخدمة؟ لم يبدو يوداص ليفطن إلى نظرة الإزدراء وحتى الاشمئزاز التي ظهرت على وجه قيافا القاسي القلب والمغرور؛ كان قلبه شديد التركيز على المجد الذاتي والرغبة في إرضاء تمجيد-الذات.
177:4.8 (1926.1) وعند ذاك نظر قيافا بازدراء إلى الخائن بينما قال: "يوداص, اذهب إلى رئيس الحرس ورتب مع ذلك الضابط لاحضار سيدك إلينا الليلة أو ليلة الغد, وعندما يتم تسليمه من قبلك إلى أيدينا, ستستلم مكافأتك على هذه الخدمة. عندما سمع يوداص بهذا, خرج فوراً من محضر رؤساء الكهنة والحكام وتشاور مع قبطان حراس الهيكل فيما يتعلق بالطريقة التي سيتم فيها القبض على يسوع. علم يوداص بأن يسوع كان حينها غائباً عن المخيم ولم يكن لديه أي فكرة عن موعد عودته في ذلك المساء, وهكذا اتفقا فيما بينهما على إلقاء القبض على يسوع في مساء اليوم التالي (الخميس) بعد أن يكون أهل أورشليم وكل الحجاج الزائرين قد تقاعدوا من أجل الليل.
177:4.9 (1926.2) عاد يوداص إلى رفاقه في المخيم مخموراً بأفكار العظمة والمجد كما لم يكن لديه لأيام كثيرة. كان قد تجند مع يسوع آملاً بأن يصبح يوماً ما رَجلاً عظيماً في الملكوت الجديد. لقد أدرك أخيراً بأنه لن يكون هناك ملكوت جديد كما توقع. لكنه ابتهج بكونه حكيمًا جداً بحيث يقايض خيبة أمله في الفشل بتحقيق المجد في ملكوت جديد متوقع من أجل التحقق الفوري للشرف والمكافأة في النظام القديم, والذي كان يعتقد الآن أنه سيبقى, والذي كان متأكداً أنه سيُدمر يسوع وكل ما وقف من أجله. في دافعه الأخير من النية الواعية, كانت خيانة يوداص ليسوع عملاً جباناً لِهاجِر أناني الذي كان فكره الوحيد هو سلامته ومجده, بغض النظر عما قد تكون نتيجة تصرفه على سيده وعلى زملائه السابقين.
177:4.10 (1926.3) لكن كان هكذا أبداً, لطالما انخرط يوداص في هذا الوعي المتعمد, والدؤوب, والأناني, والانتقامي الذي يبني في عقله بشكل تدريجي, ومتسلياً به في قلبه, هذه الرغبات الحاقدة والشريرة من الثأر وعدم الولاء. لقد أحب يسوع يوداص ووثق به حتى كما أحب الرُسل الآخرين ووثق بهم, لكن يوداص فشل في تنمية الثقة المخلصة وفي اختبار المحبة الصادقة في المقابل. وكم يمكن أن يصبح الطموح خطيراً عندما مرة يصبح مرتبطاً كلياً بالسعي إلى تحقيق الذات وبدافع كبير من الانتقام الحرون والمكبوت منذ أمد طويل! أي شيء ساحق هي خيبة الأمل في حياة أولئك الأشخاص الحمقى الذين, في تثبيت تحديقهم على مغريات الزمان الزائلة والمبهمة, يصبحون عميان عن الإنجازات الأعلى والأكثر واقعيةً للمنجزات الأزلية في العوالم الأبدية ذات القيم الإلَهية والحقائق الروحية الصحيحة. اشتهى يوداص الكرامة الدنيوية في عقله ونمى ليحب هذه الرغبة من كل قلبه؛ وبالمثل, اشتهى الرُسل الآخرون نفس هذا الشرف الدنيوي في أذهانهم, لكن بقلوبهم أحبوا يسوع وبذلوا قصارى جهدهم ليتعلموا حب الحقائق التي علمهم إياها.
177:4.11 (1926.4) لم يُدرْك يوداص في هذا الوقت, لكنه كان ناقداً لا واعياً ليسوع منذ أن قطع هيرودس رأس يوحنا المعمدان. في أعماق قلبه دائماً استاء يوداص من حقيقة أن يسوع لم يخلص يوحنا. يجب ألا تنسى بأن يوداص كان تلميذاً ليوحنا قبل أن يصبح تابعاً ليسوع. وكل هذه التراكمات من الاستياء البشري وخيبة الأمل المُرة التي اختزنها يوداص في نفـْسه في أثواب الكراهية أصبحت الآن منظمة جيداً في عقله الباطني وحاضرة للانطلاق لتبتلعه متى تجرأ مرة على فصل نفسه عن التأثير الداعم لإخوانه بينما يعرض نفسه في ذات الوقت إلى الدسائس الماهرة والاستهزاءات الخبيثة لأعداء يسوع. في كل مرة سمح يوداص لآماله أن تحلق عالياً وكان يسوع يفعل أو يقول شيئاً ما ليحطمها إلى قطع, كان يُترك دائماً في قلب يوداص ندبة من الاستياء المرير؛ وبينما تكاثرت هذه الندوب, في الحاضر ذلك القلب, المجروح في كثير من الأحيان, فقد كل ود حقيقي لمَن تسبب في هذه التجربة المقيتة على شخصية حسنة النية إنما جبانة ومتمحورة حول الذات. لم يدرك يوداص ذلك, لكنه كان جباناً. وفقاً لذلك كان دائماً ميالاً ليُعين الجُبن إلى يسوع باعتباره الدافع الذي دفعه في كثير من الأحيان إلى رفض القبض على السلطة أو المجد عندما كانوا على ما يبدو في متناول يده. وكل إنسان فاني يعرف تماماً كيف يمكن أن تتحول المحبة, حتى عندما تكون مرة أصلية, من خلال خيبة الأمل, والغيرة, والاستياء الذي طال أمده, في النتيجة إلى كره حقيقي.
177:4.12 (1927.1) أخيراً كان بإمكان رؤساء الكهنة والشيوخ أن يتنفسوا بسهولة لبضع ساعات. لن يضطروا إلى إلقاء القبض على يسوع علناً, وفي تأمين يوداص كحليف خائن ضمنوا بأن يسوع لن يفلت من نطاق سلطتهم القضائية مثلما فعل مرات عديدة في الماضي.
177:5.1 (1927.2) حيث إنه كان الأربعاء, كان هذا المساء في المخيم ساعة اجتماعية. حاول السيد ان يُبهج رُسله المنكسري الخاطر, لكن ذلك كان شبه مستحيل. لقد بدأوا جميعاً يدركون بأن أحداثاً مقلقة وساحقة كانت وشيكة. لم يتمكنوا من أن يكونوا مبتهجين, حتى عندما روى السيد سنواتهم من الصِلة الحافلة بالأحداث والمحبة. استفسر يسوع بعناية عن عائلات جميع الرُسل, ومتطلع إلى داود زَبـِدي, سأل ما إذا كان أحد قد سمع مؤخرًا من أُمه, وشقيقته الصغرى, أو أفراد آخرين من عائلته, نظر داود نزولاً إلى قدميه؛ كان خائفاً أن يجيب.
177:5.2 (1927.3) كانت هذه مناسبة تحذير يسوع لأتباعه أن يحذروا من دعم الجموع. سرد تجاربهم في الجليل عندما تبعتهم مراراً حشود كبيرة من الناس بحماس أينما ذهبوا وبعد ذلك وبذات الحمية تماماً انقلبوا ضدهم وعادوا إلى طرقهم السابقة من الاعتقاد والعيش. وبعد ذلك قال: "لذا يجب ألا تسمحوا لأنفسكم بأن تنخدعوا من قبل الجموع الغفيرة التي سمعتنا في الهيكل, والتي بدا أنها تؤمن بتعاليمنا. هؤلاء الجموع يستمعون إلى الحق ويؤمنون به سطحياً في عقولهم, لكن قلة منهم يسمحون لكلمة الحق أن تسقط في القلب بجذور حية. أولئك الذين يعرفون الإنجيل فقط في العقل, والذين لم يختبروه في القلب, لا يمكن الاعتماد عليهم من أجل الدعم عندما تأتي مشكلة حقيقية. عندما يصل حكام اليهود إلى اتفاق لإهلاك ابن الإنسان, وعندما يضربون باتفاق واحد, سترون الجموع إما تفر في يأس أو تقف مكتوفة الأيدي في ذهول صامت بينما يقود هؤلاء الحكام المجانين والعميان معلمي إنجيل الحق لموتهم. وعند ذاك, عندما تهبط الشدائد والاضطهاد عليكم, لا يزال آخرون ممن تعتقدون أنهم يحبون الحق سيكونون مشتتين, وبعضهم سيتخلى عن الإنجيل ويهجركم. بعض ممن كانوا مقربين جداً لنا بالفعل قد حسموا عقولهم ليهجروا. لقد استرحتم اليوم استعداداً لتلك الأوقات التي هي الآن علينا. راقبوا, لذلك, وصَّلوا بأن تتقووا في الغد للأيام التي أمامنا مباشرة."
177:5.3 (1927.4) كان جو المخيم مشحوناً بتوتر لا يمكن تفسيره, جاء رسل صامتون وذهبوا, متواصلون مع داود زَبـِدي فقط. قبل أن يمر المساء, عرف البعض بأن لِعازر قد هرب بسرعة من بيت-عنيا. كان يوحنا مرقس صامتاً بشكل ينذر بالسوء بعد عودته إلى المخيم, بالرغم من أنه أمضى النهار بأكمله في رفقة السيد. كل مجهود لإقناعه بأن يتكلم أشار فقط بوضوح بأن يسوع قد قال له ألا يتكلم.
177:5.4 (1928.1) حتى بهجة السيد الجيدة وحسن معشره غير العادي أرعبهم. لقد شعروا جميعًا بالاقتراب الأكيد عليهم للعزلة الرهيبة التي أدركوا أنها كانت على وشك الهبوط بمفاجأة مُحطمة وهول لا مفر منه. لقد أحسوا بشكل غامض بما كان قادماً, ولم يشعر أي منهم بأنه مستعد لمواجهة الاختبار. كان السيد بعيداً طوال النهار؛ وافتقدوه بشدة.
177:5.5 (1928.2) كان مساء الأربعاء هذا علامة جزر منخفضة لوضعهم الروحي صعوداً إلى الساعة الفعلية لموت السيد. مع أن اليوم التالي كان يوماً آخر أقرب إلى الجمعة المأساوية, إلا أنه كان لا يزال معهم, وقد مروا خلال ساعاته المقلقة بنعمة أكثر.
177:5.6 (1928.3) لقد كان قبل منتصف الليل بقليل عندما يسوع, وهو يعلم أن هذه ستكون آخر ليلة ينام فيها مع عائلته المختارة على الأرض, قال, عندما صرفهم من أجل الليل: "اذهبوا إلى نومكم, يا إخواني, وسلام عليكم حتى قيامنا في الغد, يوم آخر لنعمل مشيئة الأب ونختبر بهجة معرفة أننا أبناؤه."
كِتاب يورانشيا
ورقة 178
178:0.1 (1929.1) خطط يسوع لقضاء هذا الخميس, أخر يوم حُر له على الأرض كابن إلَهي متجسد في الجسد, مع رُسله وعدد قليل من التلاميذ الموالين والمكرسين. بعد وقت قصير من ساعة الإفطار في هذا الصباح الجميل, قادهم السيد إلى مكان منعزل على مسافة قصيرة فوق مخيمهم وهناك علـَّمهم العديد من الحقائق الجديدة. مع أن يسوع ألقى محاضرات أخرى للرُسل أثناء ساعات المساء المبكرة لليوم, إلا أن هذا الحديث لعصر الخميس كان خطابه الوداعي لجماعة المخيم المُشتركة من الرُسل والتلاميذ المختارين, من اليهود والأمميين. كان الاثنا عشر حاضرين جميعًا باستثناء يوداص. علق بطرس وعدة رُسل على غيابه, واعتقد بعضهم أن يسوع أرسله إلى المدينة لحضور أمر ما, ربما ليرتب تفاصيل احتفالهم المقبل بعيد الفصح. لم يعُد يوداص إلى المخيم حتى منتصف بعد الظهر, قبل وقت قصير من قيام يسوع بقيادة الاثني عشر إلى أورشليم للمشاركة في العشاء الأخير.
178:1.1 (1929.2) تحدث يسوع إلى حوالي خمسين من أتباعه الموثوقين لمدة ساعتين تقريبًا وأجاب على عدد من أسئلتهم المتعلقة بعلاقة ملكوت السماء بممالك هذا العالَم, فيما يتعلق بعلاقة البنوة مع الله بالمواطنة في الحكومات الأرضية. ويمكن تلخيص وإعادة صياغة هذا الخطاب, سوية مع إجاباته على الأسئلة, في اللغة الحديثة على النحو التالي:
178:1.2 (1929.3) ممالك هذا العالَم, كونها مادية, غالباً ما تجد أنه من الضروري توظيف القوة الفيزيائية في تنفيذ قوانينها والحفاظ على النظام. في ملكوت المساء, لن يلجأ المؤمنون الحقيقيون إلى استخدام القوة الفيزيائية. ملكوت السماء, بصفته أخوة روحية لأبناء الله المولودين بالروح, يمكن إشهاره فقط من خلال قدرة الروح. يشير هذا التمييز في الإجراء إلى علاقات ملكوت المؤمنين بممالك الحكومات الدنيوية ولا يلغي حق المجموعات الاجتماعية من المؤمنين في الحفاظ على النظام في صفوفهم وإدارة الانضباط على الأعضاء المشاغبين وغير المستحقين.
178:1.3 (1929.4) لا يوجد تعارض بين البنوة في الملكوت الروحي والمواطنة في الحكومة الدنيوية أو المدنية. من واجب المؤمن أن يعطي لقيصر ما هو لقيصر ولله ما هو لله. لا يمكن أن يكون هناك أي تعارض بين هذين المطلبين, أحدهما كائن مادي والآخر روحي, إلا إذا كان سينشأ بأن قيصر يفترض أن يغتصب امتيازات الله ويطالب بإعطائه طاعة روحية وعبادة سامية. في مثل هذه الحالة يجب أن تعبدوا الله فقط بينما تسعوا لتنوير مثل هؤلاء الحكام الأرضيين الضالين وبهذه الطريقة تقودونهم أيضًا إلى الإعتراف بالأب في السماء. يجب ألا تؤدوا العبادة الروحية لحكام أرضيين؛ ولا ينبغي أن توظفوا القوى الفيزيائية للحكومات الأرضية, التي قد يصبح حكامها في وقت ما مؤمنين, في عمل تعزيز رسالة الملكوت الروحي.
178:1.4 (1930.1) البنوة في الملكوت من وجهة نظر الحضارة المتقدمة, يجب أن تساعدكم في أن تصبحوا مواطنين مثاليين لممالك هذا العالَم حيث أن الأخوة والخدمة هما حجارة الزاوية لإنجيل الملكوت. يجب أن تبرهن دعوة المحبة للملكوت الروحي أنها المدمر الفعّال لنزعة الكراهية عند المواطنين غير المؤمنين وذوي العقلية المحاربة للممالك الأرضية. لكن هؤلاء الأبناء ذوي العقلية المادية في الظلام لن يعرفوا أبداً نوركم الروحي للحق إلا إذا دنوتم قريباً جداً منهم بتلك الخدمة الاجتماعية غير الأنانية التي هي النتاج الطبيعي لحمل ثمار الروح في تجربة حياة كل فرد مؤمن.
178:1.5 (1930.2) كأناس فانين وماديين, أنتم حقاً مواطنون في الممالك الأرضية, ويجب أن تكونوا مواطنين صالحين, كل الأفضل لأنكم أصبحتم أبناء مولودين ثانية بالروح للملكوت السماوي. كأبناء لملكوت السماء مستنيرين بالإيمان ومتحررين بالروح, أنتم تواجهون مسؤولية مضاعفة من الواجب إلى الإنسان والواجب تجاه الله بينما تتولون طواعية التزاماً ثالثاً ومقدساً: خدمة أخوة المؤمنين الذين يعرفون الله.
178:1.6 (1930.3) لا يجوز لكم أن تعبدوا حكامكم الدنيويين, وينبغي ألا توظفوا القوة الدنيوية في تعزيز الملكوت الروحي؛ لكن يجب أن تُظهروا الإسعاف البار من الخدمة المحبة للمؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء. في إنجيل الملكوت هناك يقيم روح الحق القدير, وسأقوم في الوقت الحالي بسكب هذه الروح على كل جسد. إن ثمار الروح, خدمتكم المُخْلِصة والمحبة, هي العتلة الاجتماعية القديرة لرفع أجناس الظلام, وسوف يصبح روح الحق هذا مرتكز عتلتكم المضاعفة للقدرة.
178:1.7 (1930.4) اُظهروا الحكمة واعرضوا الفطنة في تعاطيكم مع الحكام المدنيين غير المؤمنين. من خلال حسن التقدير أُظهروا أنفسكم لتكونوا خبراء في تسوية الخلافات البسيطة وفي ضبط سوء التفاهمات التافهة. بكل طريقة ممكنة ــ في كل شيء يُقـَّصر عن وفائكم الروحي لحكام الكون ــ اسعوا إلى العيش بسلام مع كل الناس. كونوا دائماً حكماء مثل الثعابين وبدون أذى مثل الحمائم.
178:1.8 (1930.5) يجب أن تُجعلوا مواطنين أفضل للحكومة الدنيوية كنتيجة لصيرورتكم أبناء الملكوت المستنيرين؛ بحيث يجب أن يصبح حكام الحكومات الأرضية حكاماً أفضل في الشؤون المدنية كنتيجة للاعتقاد بإنجيل الملكوت السماوي هذا. إن موقف الخدمة غير الأنانية للإنسان والعبادة الذكية لله ينبغي أن تجعل كل مؤمني الملكوت مواطنين أفضل في العالم, في حين أن موقف المواطنة الصادقة والتفاني المخلص لواجب الفرد الدنيوي يجب أن يساعدا في جعل مثل هذا المواطن أكثر سهولة للوصول إليه من خلال دعوة الروح إلى البنوة في الملكوت السماوي.
178:1.9 (1930.6) ما دام حكام الحكومات الأرضية يسعون إلى ممارسة سُلطة الدكتاتوريين الدِينيين, فأنتم الذين تؤمنون بهذا الإنجيل يمكنكم أن تتوقعوا فقط المتاعب, والاضطهاد, وحتى الموت. لكن النور ذاته الذي تحملونه إلى العالَم وحتى الأسلوب نفسه الذي فيه ستعانون وتموتون من أجل إنجيل الملكوت هذا, في حد ذاته, سوف ينير العالم بأسره في نهاية المطاف ويؤدي إلى الانفصال التدريجي للسياسة والدِين. إن الوعظ المستمر لإنجيل الملكوت هذا سيجلب يوماً ما لجميع الأمم تحرراً جديداً ولا يصَّدق, وحرية فكرية, وتحرراً دِينياً.
178:1.10 (1931.1) تحت الإضطهادات القادمة قريباً من قِبل أولئك الذين يكرهون إنجيل الفرح والحرية هذا, ستُفلحون وسيزدهر الملكوت. لكنكم ستواجهون خطرًا شديدًا في الأوقات اللاحقة عندما يتحدث معظم الناس بشكل حسن عن مؤمني الملكوت ويقبل الكثيرون في أماكن عُليا اسمياً إنجيل الملكوت السماوي. تعَّلموا أن تكونوا مخلصين للملكوت حتى في أوقات السلام والإزدهار. لا تغروا ملائكة الإشراف عليكم لتقودكم في طرق مزعجة كتأديب محب مصمم لإنقاذ نفوسكم المنجرفة-للسهولة.
178:1.11 (1931.2) تذكَّروا أنه تم تكليفكم بوعظ إنجيل الملكوت هذا ــ الرغبة السامية في فعل مشيئة الأب مقرونة بالفرح السامي للإيمان بتحقيق البنوة مع الله ــ ويجب ألا تسمحوا لأي شيء بتحويل تكريسكم عن هذا الواجب الواحد. دعوا البشرية جمعاء تنتفع من فيض إسعافكم الروحي المحب, وتواصلكم الفكري المنير, وخدمتكم الاجتماعية الرافعة, لكن لا ينبغي السماح لأي من هذه الأعمال الخيرية, ولا كلها, أن تحل محل إعلان الإنجيل. هذه الإسعافات القديرة هي نتاجات اجتماعية ثانوية لما لا يزال إسعافات أكثر قدرة وسناء وتحولات نشأت في قلب مؤمن الملكوت بواسطة روح الحق الحي والإدراك الشخصي بأن إيمان الإنسان المولود بالروح يمنح ضمانة زمالة حية مع الله الأبدي.
178:1.12 (1931.3) يجب ألا تسعوا لنشر الحقيقة ولا لتأسيس البر من خلال سلطة الحكومات المدنية أو عن طريق سن القوانين الدنيوية. يمكنكم أن تجتهدوا دائماً لإقناع عقول الناس, لكن يجب ألا تتجرأوا أبداً على إجبارهم. يجب ألا تنسوا القانون العظيم للعدالة الإنسانية الذي علـَّمتكم إياه بشكل إيجابي: كل ما تودون أن يفعله الناس لكم, افعلوا بالمثل لهم.
178:1.13 (1931.4) عندما يُدعى مؤمن الملكوت لخدمة الحكومة المدنية, فليقدم مثل هذه الخدمة كمواطن دنيوي لمثل هذه الحكومة, وإن كان يجب أن يُظهر هذا المؤمن في خدمته المدنية كل ميزات المواطنة العادية كتلك التي تم تعزيزها من خلال التنوير الروحي للزمالة المُشَّرفة بين عقل الإنسان الفاني مع الروح الساكن لله الأبدي. إذا كان غير المؤمن قادراً على التأهل كخادم مدني فائق, يجب أن تتساءل بجدية عما إذا كانت جذور الحق في قلبك لم تمت من نقص المياه الحية لمُرَّكب المخالطة الروحية والخدمة الاجتماعية. يجب أن يُسرع وعي البنوة مع الله كامل خدمة حياة كل رَجل, وامرأة, وطفل أصبح مالكاً لمثل هذا الحافز القدير لجميع القوى الكامنة في الشخصية البشرية.
178:1.14 (1931.5) أنتم لستم لتكونوا باطنيين سلبيين أو نُساك حياديين؛ يجب ألا تصبحوا حالمين ومنجرفين, واثقين بشكل مُستلقي في عناية إلَهية خرافية لتوفير حتى ضرورات الحياة. يجب أن تكونوا حقاً لطفاء في تعاملكم مع البشر المخطئين, وصبورين في مخالطتكم مع الناس الجهلاء, وطويلي الأناة تحت الاستفزاز؛ لكن عليكم أيضاً أن تكونوا شجعاناً في الدفاع عن البر, وقديرين في إعلان الحق, ومناضلين في وعظ إنجيل الملكوت هذا, حتى إلى أقاصي الأرض.
178:1.15 (1931.6) إنجيل الملكوت هذا هو حقيقة حية. لقد أخبرتكم أنه مثل الخميرة في العجين. أو مثل حبة الخردل؛ والآن أعلن أنه مثل بذرة الكائن الحي, التي, من جيل إلى جيل, بينما تظل نفس البذرة الحية, تبسط نفسها بلا كلل في تجليات جديدة وتنمو بشكل مقبول في قنوات ذات تكيف جديد مع الإحتياجات والظروف الخاصة لكل جيل تالي. الوحي الذي قدمته لكم هو وَحيٌ حي, وأرغب في أنه سيؤتي ثماره المناسبة في كل فرد وفي كل جيل وفقاً لقوانين النمو الروحي, والزيادة, والتطور التكيفي. من جيل إلى جيل يجب أن يُظهر هذا الإنجيل حيوية متزايدة وأن يعرض عمقاً أعظم للقدرة الروحية. يجب ألا يُسمح بأن يصبح مجرد ذكرى مقدسة, مجرد تقاليد عنّي وعن الأوقات التي نعيش فيها الآن.
178:1.16 (1932.1) ولا تنسوا: نحن لم نقم بهجوم مباشر على أشخاص أو على سُلطة أولئك الجالسين على كرسي موسى؛ فقط قدمنا إليهم النور الجديد, الذي رفضوه بعنف للغاية. لقد هاجمناهم فقط بشجب عدم ولائهم الروحي للحقائق ذاتها التي يزعمون أنهم يعلمونها ويحمونها. لقد اصطدمنا مع هؤلاء القادة الراسخين والحكام المعترف بهم فقط عندما ألقوا أنفسهم مباشرة في طريق وعظ إنجيل الملكوت لأبناء الناس. وحتى الآن, لسنا نحن من نهاجمهم, بل هم الذين يسعون لهلاكنا. لا تنسوا أنه قد تم تكليفكم بالخروج للتبشير فقط. لستم لتهاجموا الطرق القديمة؛ أنتم لتضعوا بمهارة خميرة الحقيقة الجديدة في وسط المعتقدات القديمة. دِعوا روح الحق يقوم بعمله. دِعوا الجدل يأتي فقط عندما يفرضه عليكم الذين يحتقرون الحق. لكن عندما يهاجمكم غير المؤمنين العامدين, فلا تتوانوا في الدفاع بقوة عن الحقيقة التي خلصتكم وقدَّستكم.
178:1.17 (1932.2) في كل أثناء تقلبات الحياة, تذكَّروا دائماً أن تحبوا بعضكم البعض. لا تجاهدوا مع الناس, حتى مع غير المؤمنين. اظهروا الرحمة حتى لأولئك الذين يسيئون إليكم باستخفاف. اظهروا أنفسكم لتكونوا مواطنين مخلصين, وحِرفيين مستقيمين, وجيران يستحقون الثناء, وأقارب مكرسين, وآباء متفهمين, ومؤمنين مخلصين بأخوة ملكوت الأب. وستكون روحي عليكم, الآن وحتى نهاية العالَم.
178:1.18 (1932.3) عندما أنهى يسوع تعليمه, كانت الساعة الواحدة تقريباً, وعادوا على الفور إلى المخيم, حيث كان داود ورفاقه قد جهزوا الغذاء من أجلهم.
178:2.1 (1932.4) لم يكن الكثير من مستمعي السيد قادرين على استيعاب حتى جزء من خطابه قبل الظُهر. من بين كل الذين سمعوه, كان اليونانيون أكثر استيعابًا له. حتى الرُسل الأحد عشر كانوا في حيرة من تلميحاته إلى الممالك السياسية في المستقبل وإلى أجيال متعاقبة من مؤمني الملكوت. لم يستطع أتباع يسوع الأكثر تفانياً التوفيق بين النهاية الوشيكة لخدمته الأرضية مع هذه الإشارات إلى مستقبل ممتد لأنشطة الإنجيل. كان بعض من هؤلاء المؤمنين اليهود قد بدأوا يشعرون بأن أعظم مأساة على الأرض كانت على وشك الحدوث, لكنهم لم يتمكنوا من التوفيق بين مثل هذه الكارثة الوشيكة مع إما موقف السيد الشخصي اللامبالي المبتهج أو مع خطابه قبل الظُهر, حين ألمح مراراً إلى التعاملات المستقبلية للملكوت السماوي, الممتدة على فترات زمنية شاسعة وتحتضن علاقات مع العديد من الممالك الدنيوية والمتعاقبة على الأرض.
178:2.2 (1932.5) بحلول ظُهر هذا اليوم كان جميع الرُسل والتلاميذ قد عَلِموا بالهروب السريع للِعازر من بيت-عنيا. بدأوا يشعرون بالإصرار المتجهم للحكام اليهود على إبادة يسوع وتعاليمه.
178:2.3 (1932.6) كان داود زَبـِدي, من خلال عمل عملائه السريين في أورشليم, قد تم إخطاره بشكل كامل فيما يتعلق بتقدم خطة إلقاء القبض على يسوع وقتله. لقد عرف كل شيء عن دور يوداص في هذه المؤامرة, لكنه لم يكشف أبداً عن هذه المعرفة للرُسل الآخرين ولا لأي من التلاميذ. بعد وقت قصير من الغذاء قاد يسوع جانباً, وبجرأة سأله عما إذا كان يعلم ــ لكنه لم يذهب أبعد في سؤاله. السيد, ماسكاً يده, أوقفه, قائلاً: "نعم, يا داود, أنا أعرف كل شيء عن ذلك, وأعلم بأنك تعرف, لكن انظر ألا تخبر أحد. فقط لا تشك في قلبك الخاص بأن مشيئة الله ستسود في النهاية."
178:2.4 (1933.1) هذه المحادثة مع داود قوطعت بوصول مرسال من فيلادلفيا يحمل كلمة بأن أبنير سمع عن المؤامرة لقتل يسوع ويسأل عما إذا كان يجب أن يرحل إلى أورشليم. سارع هذا العداء إلى فيلادلفيا مع هذه الكلمة إلى أبنير: "استمر في عملك. إذا رحلت عنكم في الجسد, سيكون فقط بحيث يمكنني أن أعود في الروح, لن أهجركم. سأكون معكم إلى النهاية."
178:2.5 (1933.2) في هذا الوقت تقريباً جاء فيليبُس إلى السيد وسأل: "يا سيد بما أن وقت الفصح يقترب, أين تريدنا أن نستعد لتناوله؟" وعندما سمع يسوع سؤال فيليبُس, أجاب: "اذهب واحضر بطرس ويوحنا, وسأعطيكم توجيهات بشأن العشاء الذي سنأكله معاً هذه الليلة. أما بالنسبة لعيد الفصح, فسيتعين عليك التفكير فيه بعد قيامنا بهذا أولاً."
178:2.6 (1933.3) عندما سمع يوداص السيد يتحدث مع فيليبُس حول هذه الأمور, اقترب بحيث يمكنه سماع حديثهما. لكن داود زَبـِدي, الذي كان يقف بالقرب, تقدم وشغَل يوداص في محادثة بينما ذهب فيليبُس, وبطرس, ويوحنا إلى جانب واحد للتحدث مع السيد.
178:2.7 (1933.4) قال يسوع للثلاثة: "اذهبوا في الحال إلى أورشليم, وعندما تدخلون البوابة, ستلتقون رجلاً يحمل إبريق ماء. سيتحدث إليكم, ثم ستتبعونه. عندما يقودكم إلى منزل معين, ادخلوا من بعده واسألوا الرجل الصالح لذلك المنزل, ’أين غرفة الضيوف حيث سيتناول السيد العشاء مع رُسله؟‘ وعندما تستفسرون عن ذلك, سيريكم رب المنزل هذا غرفة عليا كبيرة كلها مفروشة وجاهزة من أجلنا".
178:2.8 (1933.5) عندما وصل الرُسل إلى المدينة, التقوا بالرَجل الذي يحمل إبريق الماء بالقرب من البوابة وتبعوه إلى بيت يوحنا مرقس, حيث التقى بهم والد الفتى وأراهم الغرفة العليا حاضرة من أجل وجبة المساء.
178:2.9 (1933.6) وكل هذا حدث نتيجة تفاهم تم التوصل إليه بين السيد ويوحنا مرقس في عصر اليوم السابق عندما كانا بمفردهما في التلال. أراد يسوع أن يتأكد بأنه ستكون لديه هذه الوجبة الأخيرة دون إزعاج مع رُسله, وكان يعتقد أنه إذا علم يوداص مسبقاً بمكان لقائهم أنه قد يرتب مع أعدائه ليأخذوه, فقام بهذا الترتيب السِري مع يوحنا مرقس. بهذه الطريقة لم يعلم يوداص بمكان لقائهم إلا في وقت لاحق عندما وصل إلى هناك برفقة يسوع والرُسل الآخرين.
178:2.10 (1933.7) كان لدى داود زَبـِدي الكثير من الأعمال ليتعامل مع يوداص بحيث منعته بسهولة من اتباع بطرس, ويوحنا, وفيليبُس, كما كان يرغب كثيرًا في القيام به. عندما أعطى يوداص داود مبلغاً معيناً من المال من أجل المؤن, قال له داود: " يوداص, أليس من الجيد, في ظل هذه الظروف تزويدي بقليل من المال مقدماً لاحتياجاتي الفعلية؟" وبعد أن فَكـَّرَ يوداص للحظة, أجاب: "نعم, داود, أعتقد أنه سيكون من الحكمة. في الواقع, في ضوء الظروف المضطربة في أورشليم, أعتقد أنه سيكون من الأفضل بالنسبة لي تسليم كل المال لك. إنهم يتآمرون على السيد, وفي حال حدث أي شيء لي, فلن يتم إعاقتك."
178:2.11 (1934.1) وهكذا استلم داود جميع الأموال النقدية الرسولية والإيصالات عن جميع الأموال المودعة. ليس حتى مساء اليوم التالي أن عَلِم الرُسل بهذا التعامل.
178:2.12 (1934.2) كانت الساعة الرابعة والنصف تقريبًا عندما عاد الرُسل الثلاثة وأخبروا يسوع بأن كل شيء كان جاهزاً للعشاء. استعد السيد في الحال ليقود رُسله الاثني عشر على الدرب المؤدي إلى بيت-عنيا وإلى أورشليم. وكانت هذه أخر رحلة قام بها مع كل الاثني عشر منهم.
178:3.1 (1934.3) ساعين مجددًا لتجنب الحشود التي تمر عبر وادي قدرون ذهاباً وإياباً بين منتزه الجثسيماني وأورشليم, سار يسوع والاثنا عشر فوق السفح الغربي لجبل الزيتون ليلتقوا بالطريق المؤدي من بيت-عنيا إلى المدينة. بينما كانوا يقتربون من المكان الذي تمهل فيه يسوع في المساء السابق ليحاضر على تدمير أورشليم, توقفوا لبرهة دون وعي بينما وقفوا وتطلعوا نزولاً في صمت على المدينة. حيث أنهم كانوا مبكرين قليلاً, وحيث أن يسوع لم يرغب بالمرور عبر المدينة إلا بعد غروب الشمس, قال لمرافقيه:
178:3.2 (1934.4) "اجلسوا واستريحوا بينما أتحدث معكم عما سيحدث قريباً. طوال هذه السنوات عِشت معكم كأخوة, ولقد علـَّمتكم الحقيقة بشأن ملكوت السماء وكشفت لكم أسراره. وقد قام أبي بالفعل بالعديد من الأعمال الرائعة فيما يتعلق برسالتي على الأرض. لقد كنتم شهوداً على كل هذا وشركاء في تجربة كونكم عمالاً معاً مع الله. وستشهدون لي بأني قد أنذرتكم لبعض الوقت من أنه يجب عليّ العودة حالياً إلى العمل الذي أعطاني إياه الأب للقيام به؛ لقد أخبرتكم بوضوح أنني يجب أن أترككم في العالَم لمواصلة عمل الملكوت. لقد كان من أجل هذا الغرض بأني وضعتكم على حدة, في تلال كفرناحوم. التجربة التي مررتم بها معي, يجب الآن أن تستعدوا لمشاركتها مع آخرين. كما أرسلني الأب إلى هذا العالَم, هكذا أنا على وشك أن أرسلكم لتمَثلوني وتنهوا العمل الذي بدأته.
178:3.3 (1934.5) "إنكم تنظرون إلى المدينة هناك في حزن, لأنكم سمعتم كلماتي تخبركم بنهاية أورشليم. لقد سبق أن حذرتكم لئلا تهلكوا في خرابها وبالتالي تؤخرون إعلان إنجيل الملكوت. بالمثل أنذركم أن تحذروا لئلا تعرضوا أنفسكم بلا داع للخطر عندما يأتون لأخذ ابن الإنسان. يجب أن أذهب, لكن عليكم أن تبقوا لتشهدوا لهذا الإنجيل عندما أكون قد ذهبت, حتى كما أوصيت أن يهرب لِعازر من سخط الإنسان بحيث يمكنه العيش ليجعل مجد الله معروفاً. إذا كانت مشيئة الله أن أرحل, فلا شيء قد تفعلونه يمكن أن يحبط الخطة الإلَهية. انتبهوا لأنفسكم لئلا يقتلونكم أيضاً. لتكن نفوسكم شجاعة في الدفاع عن الإنجيل بقدرة الروح لكن لا تضلوا في أي محاولة حمقاء للدفاع عن ابن الإنسان. لست بحاجة إلى دفاع من يد الإنسان؛ جيوش السماء حتى هي الآن قريبة في متناول اليد؛ لكنني مصمم على أن أفعل مشيئة أبي في السماء, ولذلك يجب أن نستسلم لما سيأتي قريباً علينا.
178:3.4 (1934.6) عندما ترون هذه المدينة تُدَّمَر, لا تنسوا بأنكم قد دخلتم بالفعل في الحياة الأبدية للخدمة اللامتناهية في ملكوت السماء الدائم التقدم, حتى في سماء السماوات. يجب أن تعرفوا بأن في كون أبي وفي كوني مساكن كثيرة, وأنه هناك ينتظر أبناء النور الكشف لمدن بانيها الله وعوالم عادتها في الحياة هي البر والفرح في الحق. لقد أحضرت ملكوت السماء إليكم هنا على الأرض, لكنني أعلن بأنكم كلكم الذين دخلتم بالإيمان إليه وتبقون فيه بالخدمة الحية للحق, ستصعدون بالتأكيد إلى عوالم العُلى وتجلسون معي في ملكوت الروح لأبينا. لكن يجب عليكم أولاً أن تمنطقوا أنفسكم وتتموا العمل الذي بدأتموه معي. يجب أولاً أن تمروا عبر الكثير من المحن وتتحملوا العديد من الأحزان ــ وتلك الفتن هي حتى الآن علينا ــ وعندما تكونون قد أتممتم عملكم على الأرض, ستأتون إلى فرحي, حتى كما أنهيت عمل أبي على الأرض وأنا على وشك العودة إلى أحضانه."
178:3.5 (1935.1) بعدما تكلم السيد, قام, وتبعوه جميعًا نازلين جبل الزيتون ونحو المدينة. لم يعرف أي من الرُسل, باستثناء ثلاثة, إلى أين هم ذاهبون وهم يشقون طريقهم في الشوارع الضيقة في اقتراب الظلام. دفعتهم الجماهير بالمناكب, لكن لم يتعرف عليهم أحد ولا علموا بأن ابن الله كان يمر في طريقه إلى ملتقاه البشري الأخير مع سفرائه المختارين للملكوت. ولم يعرف الرُسل بأن واحد من عددهم الخاص قد دخل بالفعل في مؤامرة لخيانة السيد نحو أيدي أعدائه.
178:3.6 (1935.2) كان يوحنا مرقس قد تبعهم طوال الطريق إلى المدينة, وبعد أن دخلوا البوابة, أسرع بشارع آخر بحيث كان ينتظرهم للترحيب بهم في بيت أبيه عند وصولهم.
كِتاب يورانشيا
ورقة 179
179:0.1 (1936.1) خلال فترة ما بعد ظُهر هذا الخميس, عندما ذكـَّر فيليبُس السيد باقتراب عيد الفصح واستفسر عن خططه للاحتفال به, كان يقصد عشاء الفصح الذي كان من المقرر تناوله مساء اليوم التالي, الجمعة. كان من المعتاد أن تبدأ الاستعدادات للاحتفال بعيد الفصح في موعد لا يتجاوز ظهر اليوم السابق. وبما أن اليهود اعتبروا أن اليوم يبدأ عند غروب الشمس, فقد عنى هذا بأن عشاء فصح السبت سيؤكل ليلة الجمعة, في وقت ما قبل ساعة منتصف الليل.
179:0.2 (1936.2) كان الرُسل, لذلك, في حيرة تامة لفهم إعلان السيد بأنهم سيحتفلون بالفصح يوماً أبكر. ظنوا, على الأقل بعض منهم, أنه كان يعلم أنه سيُعتقل قبل وقت عشاء عيد الفصح ليلة الجمعة ولذلك دعاهم معاً من أجل عشاء خاص مساء هذا الخميس. اعتقد آخرون أن هذه كانت مجرد مناسبة خاصة التي كانت لتسبق الاحتفال العادي بعيد الفصح.
179:0.3 (1936.3) عرف الرُسل بأن يسوع احتفل بأعياد فصح أخرى بدون الحمل؛ عرفوا بأنه لم يشارك شخصياً في أي خدمة قربانية للنظام اليهودي. لقد تناول مرات عديدة من خروف الفصح كضيف, لكن دائماً, عندما كان هو المضيف, لم يتم تقديم أي خروف. ما كانت لتكون مفاجأة كبيرة للرُسل أن يروا الخروف محذوفاً حتى في ليلة عيد الفصح, وبما أن هذا العشاء قد أُعطي قبل يوم واحد, لم يفكروا بشيء بشأن غيابه.
179:0.4 (1936.4) بعد تلقي تحيات الترحيب التي قدمها والد ووالدة يوحنا مرقس, ذهب الرُسل مباشرة إلى العليّة بينما توانى يسوع وراءهم للتحدث مع عائلة مرقس.
179:0.5 (1936.5) لقد كان مفهوماً مسبقاً بأن السيد كان سيحتفل بهذه المناسبة وحده مع رُسله الاثني عشر؛ لذلك لم يتم تزويد أي خدم لانتظارهم.
179:1.1 (1936.6) عندما اصطحب يوحنا مرقس الرُسل إلى الطابق العلوي, رأوا غرفة كبيرة ومريحة, مفروشة بالكامل من أجل العشاء, ولاحظوا أن الخبز, والنبيذ, والماء, والبقول كلها جاهزة على أحد أطراف المائدة. باستثناء النهاية حيث وُضع الخبز والنبيذ, كانت هذه المائدة الطويلة محاطة بثلاثة عشر أريكة منحنية, تماماً مثل تلك التي يتم توفيرها للاحتفال بعيد الفصح في منزل يهودي ميسور الحال.
179:1.2 (1936.7) حينما دخل الاثنا عشر هذه العلية, لاحظوا, مباشرة داخل الباب, أباريق الماء, والأحواض, والمناشف لأجل غسل أقدامهم المغبرة؛ وحيث لم يتم تزويد أي خدام ليقوموا بهذه الخدمة, بدأ الرُسل يتطلعون إلى بعضهم البعض حالما تركهم يوحنا مرقس, وبدأ كل واحد يفكّر في نفسه, من سيغسل أقدامنا؟ وكل واحد بالمثل فكـَّر بأنه لن يكون هو مَن سيقوم بدور الخادم للآخرين.
179:1.3 (1937.1) بينما كانوا يقفون هناك, يتجادلون في قلوبهم, ألقوا نظرة فاحصة على ترتيب الجلوس حول المائدة, ملاحظين الأريكة الأعلى للمضيف مع أريكة واحدة على اليمين وأحد عشر مرتبة حول المائدة في الأعلى مقابل مقعد الشرف الثاني هذا على يمين المضيف.
179:1.4 (1937.2) كانوا يتوقعون وصول السيد في أي لحظة, لكنهم كانوا في حيرة بشأن ما إذا كان عليهم الجلوس أو انتظار مجيئه والاعتماد عليه في تخصيص أماكنهم. وبينما هم مترددون, خطى يوداص إلى مقعد الشرف, على يسار المضيف, وأشار إلى أنه يعتزم أن يتكئ هناك كالضيف المُفـَّضَل. تصرف يوداص هذا أثار على الفور نزاعاً ساخناً بين الرُسل الآخرين. ما أن استحوذ يوداص على مقعد الشرف حتى طالب يوحنا زَبـِدي بالمقعد المُفضل التالي, الذي على يمين المضيف. كان سمعان بطرس غاضباً جداً من هذا الادعاء للمراكز المختارة من قِبل يوداص ويوحنا بحيث أنه, بينما تطلع الرُسل الغاضبون الآخرون, سار سالكاً حول المائدة وأخذ مكانه على الأريكة السفلية, في نهاية ترتيب الجلوس وبالضبط مقابل تلك التي اختارها يوحنا زَبـِدي, حيث إن آخرين قد استولوا على المقاعد العليا, فكـَّر بطرس أن يختار الأسفل, وقد فعل هذا, ليس في احتجاج على الكبرياء غير اللائق لإخوانه فحسب, لكن على أمل بأن يسوع, عندما يأتي ويراه في مكان الشرف الأقل, سوف يستدعيه إلى مكان أعلى, بهذا يحل محل الذي افترض أن يُشَّرف نفسه.
179:1.5 (1937.3) مع شغل المركزين الأعلى والأسفل على هذا النحو, اختار باقي الرُسل أماكنهم, بعض بالقرب من يوداص والبعض قرب بطرس, حتى تم تحديد مواقعهم جميعاً. كانوا جالسين حول المائدة التي على شكل حرف على تلك الأرائك المنحنية بالترتيب التالي: على يمين السيد يوحنا؛ وعلى اليسار يوداص, فسمعان زيلوطس, فمتـّى, فيعقوب زَبـِدي, فأندراوس, فالتوأم الألفيوس, ففيليبُس, فنثانئيل, فتوما, فسمعان بطرس.
179:1.6 (1937.4) كانوا مجتمعين معاً ليحتفلوا, على الأقل بالروح, بدستور سبق بالتاريخ حتى موسى وأشار إلى الأوقات عندما كان آباؤهم عبيداً في مصر. هذا العشاء هو ملتقاهم الأخير مع يسوع, وحتى في مثل هذا الوضع المهيب, تحت قيادة يوداص قِيد الرُسل مرة أخرى للاستسلام لميلهم القديم إلى التكريم, والتفضيل, والتمجيد الشخصي.
179:1.7 (1937.5) كانوا لا يزالوا منشغلين في مجاهرة الاتهامات الغاضبة عندما ظهر السيد عند الباب, حيث توانى لحظة بينما تسللت ببطء نظرة خيبة الأمل على وجهه. ذهب دون تعليق إلى مكانه, ولم يزعج ترتيب جلوسهم.
179:1.8 (1937.6) كانوا الآن جاهزين لبدء العشاء, باستثناء أن أقدامهم كانت لا تزال غير مغسولة, وكانوا في أي شيء سوى حالة ذهنية مُسرة. عندما وصل السيد, كانوا لا يزالوا منشغلين في إبداء ملاحظات غير مجزية عن بعضهم البعض, كي لا نقول شيئاً عن أفكار بعض منهم ممن كان لديهم تحكم عاطفي بما يكفي للامتناع عن التعبير العلني عن مشاعرهم.
179:2.1 (1937.7) للحظات قليلة بعد أن ذهب السيد إلى مكانه, ولا كلمة قيلت. نظر يسوع إليهم جميعاً, ومخفف حدة التوتر بابتسامة, قال: "لقد رغبت بشدة في تناول هذا الفصح معكم. أردت أن آكل معكم مرة أخرى قبل أن أعاني, ومدرك بأن ساعتي قد حانت, فقد رتبت ليكون لدي هذا العشاء معكم هذه الليلة, لأنه, فيما يتعلق بالغد, كلنا بين يدي الأب, الذي أتيت لأنَّفذ مشيئته. لن آكل مرة أخرى معكم حتى تجلسوا معي في الملكوت الذي سيمنحني إياه أبي عندما أكون قد أنهيت ما أرسني من أجله نحو هذا العالَم."
179:2.2 (1938.1) بعد أن تم مزج النبيذ والماء, أحضروا الكأس إلى يسوع, الذي, عندما استلمه من يد ثاديوس, أمسكه بينما قدَّم الشكر. ولما انتهى من تقديم الشكر, قال: "خذوا هذا الكأس واقتسموه بينكم, وعندما تتناولون منه, أدركوا أنني لن أشرب معكم مرة أخرى من ثمر الكرمة لأن هذا هو عشاءنا الأخير. عندما نجلس مرة ثانية بهذه الطريقة, سيكون في الملكوت الآتي."
179:2.3 (1938.2) هكذا بدأ يسوع بالتكلم إلى رُسله لأنه عرف بأن ساعته قد أتت. لقد فهم أن الوقت قد حان للعودة إلى الأب, وأن عمله على الأرض قد انتهى تقريباً. علم السيد أنه كشف محبة الأب على الأرض وأنه أظهر رحمته للبشرية, وبأنه قد أتم ما جاء من أجله إلى العالَم, حتى لاستلام كل قدرة وسُلطة في السماء وعلى الأرض. وبالمثل, كان يعلم بأن يوداص إسخريوط قد اتخذ قراره كلياً لتسليمه تلك الليلة إلى أيدي أعدائه. أدرك تماماً أن هذه الخيانة الغادرة كانت من عمل يوداص, لكنها أيضاً أسعدت لوسيفر, الشيطان, وكاليغاسشيا أمير الظلام. لكنه لم يخشى أياً من أولئك الذين سعوا للتغلب عليه روحياً أكثر مما كان يخشى أولئك الذين سعوا لتحقيق موته الجسدي. كان لدى السيد قلق واحد فقط, وكان ذلك من أجل سلامة وخلاص أتباعه المختارين. وهكذا, مع كامل المعرفة بأن الأب قد وضع كل الأشياء تحت سُلطته, تهيأ السيد الآن لسن مَثل المحبة الأخوية.
179:3.1 (1938.3) بعد شُرب الكأس الأول لعيد الفصح, كانت العادة اليهودية للمضيف أن ينهض عن المائدة ويغسل يديه. في وقت لاحق في الوجبة وبعد الكأس الثاني, قام جميع الضيوف بالمثل وغسلوا أيديهم. حيث إن الرُسل عرفوا بأن سيدهم لم يراعي أبداً تلك الشعائر الإحتفالية لغسل الأيدي, فقد كان لديهم فضول شديد لمعرفة ما كان ينوي فعله عندما, بعد أن تناولوا من هذا الكأس الأول, نهض من على المائدة وجعل طريقه بصمت إلى قرب الباب, حيث وضعت أباريق الماء والأحواض والمناشف. وتحول فضولهم إلى ذهول عندما رأوا السيد يخلع ثوبه الخارجي, ويتمنطق بمنشفة, ويبدأ في سكب الماء في أحد أحواض القدم. تخيل دهشة هؤلاء الرجال الاثني عشر, الذين رفضوا للتو أن يغسلوا أقدام بعضهم البعض والذين انشغلوا في مثل هذه النزاعات غير اللائقة حول مراكز الشرف على المائدة, عندما رأوه يشق طريقه حول الطرف غير المشغول للمائدة إلى أسفل مقعد للوليمة, حيث اتكأ سمعان بطرس, وراكع في موقف الخادم, استعد لغسل قدمي سمعان. عندما ركع السيد, نهض جميع الإثني عشر كرَجل واحد على أقدامهم؛ حتى يوداص الخائن نسي الآن شناعته للحظة بحيث نهض مع زملائه الرُسل في هذا التعبير عن الدهشة, والاحترام, والذهول المطلق.
179:3.2 (1938.4) هناك وقف سمعان بطرس, ناظرًا إلى وجه سيده المقلوب إلى فوق. لم يقل يسوع شيئاً؛ لم يكن من الضروري أن يتكلم. أظهر موقفه بوضوح أنه كان ينوي غسل قدمي سمعان بطرس. بالرغم من عجزه في الجسد, أحب بطرس السيد. هذا الصياد الجليلي كان أول كائن إنساني يؤمن قلبياً بألوهية يسوع ويقدم إقراراً كاملاً وعلنياً بهذا الإعتقاد. ولم يشك بطرس أبداً منذ ذلك الحين في الحقيقة في الطبيعة الإلَهية للسيد. بما أن بطرس كان يحترم يسوع ويكرمه في قلبه, فلم يكن غريباً بأن تستاء نفسه من فكرة ركوع يسوع أمامه في موقف خادم وضيع ويعرض أن يغسل قدميه كما يفعل عبد. عندما جَمَّعَ بطرس للتو ذكاءه بما يكفي لكي يخاطب السيد, تكلم بمشاعر قلوب جميع زملائه الرُسل.
179:3.3 (1939.1) بعد بضع لحظات من هذا الإحراج العظيم, قال بطرس, "يا سيد, هل تقصد حقاً أن تغسل قدمي؟" ثم, ناظر في وجه بطرس, قال يسوع: "قد لا تفهم تماماً ما أنا على وشك أن أفعله, لكن فيما بعد ستعلم معنى كل هذه الأشياء." عند ذاك سمعان بطرس, أخذ نفَساً طويلاً, وقال, "يا سيد, لن تغسل قدمي أبداً!" وأومأ كل من الرُسل بموافقته على إعلان بطرس الحازم برفض السماح ليسوع بأن يتواضع أمامهم على هذا النحو.
179:3.4 (1939.2) الالتجاء الدراماتيكي لهذا المشهد غير العادي لمس في البداية حتى قلب يوداص إسخريوط؛ لكن عندما أصدر فكره المتعجرف حكماً على المشهد, خلص إلى أن لفتة التواضع هذه كانت مجرد حلقة أخرى أثبتت بشكل قاطع أن يسوع لن يكون أبداً مؤهلاً كمخلص إسرائيل, وبأنه لم يخطئ في قرار هجر قضية السيد.
179:3.5 (1939.3) بينما وقفوا كلهم هناك في ذهول لاهث, قال يسوع: "بطرس, أعلن بأنه, إذا لم أغسل قدميك, فلن يكون لك نصيب معي في ما أنا على وشك القيام به." عندما سمع بطرس هذا الإعلان, إلى جانب حقيقة أن يسوع استمر في الركوع هناك عند قدميه, اتخذ أحد تلك القرارات من الإذعان الأعمى امتثالاً لرغبة الشخص الذي احترمه وأحبّه. عندما بدأ يلوح لسمعان بطرس بأنه كان مُلحقاً بهذا التشريع من الخدمة المقترحة بعض المغزى الذي يحدد ارتباط المرء المستقبلي بعمل السيد, ليس فقط أصبح متصالحاً مع فكرة السماح ليسوع أن يغسل قدميه, لكن, بأسلوبه الممَيز والمتهور, قال: "إذاً, يا سيد, لا تغسل فقط قدماي بل أيضاً يداي ورأسي."
179:3.6 (1939.4) بينما استعد السيد للبدء في غسل قدمي بطرس, قال: "الذي هو طاهر بالفعل يحتاج فقط إلى غسل قدميه. أنتم الجالسون معي الليلة طاهرين ــ لكن ليس كلكم. لكن كان يجب أن يُغسل غبار أقدامكم قبل أن تجلسوا على الطعام معي. كما أنني, سأؤدي هذه الخدمة لكم كمَثل لتوضيح معنى الوصية الجديدة التي سأقدمها لكم الآن."
179:3.7 (1939.5) بأسلوب مماثل دار السيد حول المائدة, في صمت, يغسل أقدام رُسله الاثني عشر, ليس حتى مستثنياً يوداص. عندما انتهى يسوع من غَسل أقدام الاثني عشر, تسربل بعباءته, عاد إلى مكانه كمضيف, وبعد أن نظر إلى رُسله الحائرين, قال:
179:3.8 (1939.6) "هل تفهمون حقاً ماذا فعلت لكم؟ تدعونني سيد, وتقولون حسناً, لأني كذلك. إذا كنت, إذن, أنا السيد قد غَسل أقدامكم, فلماذا لم تكونوا راغبين بأن تغسلوا أقدام بعضكم البعض؟ ما هو الدرس الذي ينبغي أن تتعلموه من هذا المَثل الذي يقوم فيه السيد عن طيب خاطر بتلك الخدمة التي لم يرغب إخوته في القيام بها من أجل لبعضهم البعض؟ الحق, الحق, أقول لكم: الخادم ليس أعظم من سيده؛ ولا الذي أُرسل أعظم من الذي أرسله. لقد رأيتم طريق الخدمة في حياتي بينكم, ومباركون أنتم الذين ستكون لديكم الشجاعة الكريمة لتخدموا. لكن لماذا أنتم بطيئون جداً في التعَّلم بأن سِر العظمة في الملكوت الروحي ليس مثل أساليب القوة في العالَم المادي؟
179:3.9 (1940.1) "عندما جئت إلى هذه الغرفة الليلة, لم تكونوا فقط راضين بكبرياء لرفض غَسل أقدام بعضكم البعض, لكن يجب عليكم أيضًا أن تقعوا في الجدل فيما بينكم حول مَن سيكون له أمكنة الشرف على مائدتي. مثل هذه التكريمات, يسعى إليها الفريسيون وأبناء هذا العالم, لكن لا ينبغي أن يكون الأمر كذلك بين سفراء الملكوت السماوي. ألا تعلمون بأنه لا يمكن أن يكون هناك مكان للأفضلية على مائدتي؟ ألا تفهمون بأني أحب كل واحد منكم كما أحب الآخرين؟ ألا تعلمون بأن المكان الأقرب إليّ, كما يعتبر الناس مثل هذا الشرف, لا يعني شيئاً بما يخص مكانتكم في ملكوت السماء؟ أنتم تعلمون أن ملوك الأمميين يتسلطون على رعاياهم, في حين أن أولئك الذين يمارسون هذه السلطة يُطلق عليهم أحيانًا اسم المحسنين. لكن لن يكون الأمر كذلك في ملكوت السماء. من يود أن يكون عظيماً بينكم, فليكن كالأصغر؛ بينما الذي يود إن يكون رئيساً, فليكن كالذي يخدم. من هو الأعظم, الذي يجلس عند الطعام, أو الذي يخدم؟ أليس من الشائع أن يُعتبَر الذي يجلس عند الطعام هو الأعظم؟ لكن ستلاحظون بأني بينكم كواحد يخدم. إذا على استعداد لأن تصبحوا خداماً زملاء معي في عمل مشيئة الأب, ففي الملكوت الآتي ستجلسون معي في قدرة, لا تزالون تفعلون مشيئة الأب في المجد المستقبلي."
179:3.10 (1940.2) عندما انتهى يسوع من الكلام, أحضر التوأم الألفيوس الخبز والنبيذ, مع البقول المُرة وعجينة الفواكه المجففة, للدورة التالية من العشاء الأخير.
179:4.1 (1940.3) لبضع دقائق أكل الرُسل في صمت, لكن تحت تأثير سلوك السيد البهيج سرعان ما انجذبوا إلى المحادثة, ولوقت طويل كانت الوجبة تسير كأن لا شيء خارج عن المألوف قد حدث ليتدخل مع البهجة الجيدة والتوافق الاجتماعي لهذه المناسبة الإستثنائية. بعد مرور بعض الوقت, في منتصف الدورة الثانية من الوجبة, قال يسوع, وهو ينظر إليهم: "لقد أخبرتكم كم رغبت كثيراً بأن يكون لي هذا العشاء معكم, وعارف كيف تآمرت قوى الظلام الشريرة لإحداث موت ابن الإنسان, لقد عقدت العزم على تناول هذا العشاء معكم في هذه الغرفة السِرية وقبل يوم من عيد الفصح لأنني لن أكون معكم بحلول هذا الوقت ليلة الغد. لقد أخبرتكم مراراً بأنني يجب أن أعود إلى الأب. الآن حانت ساعتي, لكن لم يكن مطلوباً بأن واحداً منكم يجب أن يخونني نحو أيادي أعدائي."
179:4.2 (1940.4) عندما سمع الاثنا عشر هذا, بعد كانوا للتو قد سلبوا من الكثير من مصداقية-أنفسهم وثقتهم-بأنفسهم من خلال مَثل غسل الأقدام وخطاب السيد اللاحق, بدأوا ينظرون إلى بعضهم بينما في نغمة مضطربة تساءلوا بتردد, "هل هو أنا؟" وعندما تساءلوا جميعًا هكذا, قال يسوع: "في حين أنه من الضروري أن أذهب إلى الأب, لم يكن مطلوباً أن يصبح أحدكم خائناً لتحقيق مشيئة الأب. هذا هو إثمار الشر المستتر في قلب مَن فشِل في أن يحب الحقيقة بكل نفـْسه. كم هو خادع الفخر الفكري الذي يسبق السقوط الروحي! صديقي لسنوات عديدة, الذي الآن حتى يأكل خبزي سيكون راغباً لخيانتي, حتى الآن بينما يغمس يده معي في الطبق."
179:4.3 (1940.5) وعندما تكلم يسوع هكذا, بدأوا جميعًا يسألون مرة أخرى, "هل هو أنا؟" وبينما يوداص, جالس إلى يسار سيده, سأل مرة أخرى, "هل هو أنا؟" يسوع, غامس الخبز في طبق البقول سلمه إلى يوداص, قائلاً, "أنت قُلت." لكن الآخرين لم يسمعوا يسوع يتحدث إلى يوداص. يوحنا, الذي اتكأ عن يمين يسوع, انحنى وسأل السيد: "من هو؟ يجب أن نعرف مَن هو الذي أثبت أنه غير صادق لأمانته." أجاب يسوع: "لقد سبق وأخبرتكم, حتى إليه الذي أعطيت الثريد." كان من الطبيعي جداً للمضيف أن يعطي الثريد لمَن يجلس بجانيه على اليسار ولم يلاحظ أي منهم هذا, على الرغم من أن السيد تكلم وضوح. لكن يوداص كان مدركًا بشكل مؤلم لمعنى كلمات السيد المرتبطة بفعله, وأصبح خائفاً أن يكون إخوانه على دراية بالمثل الآن بأنه كان الخائن.
179:4.4 (1941.1) كان بطرس مهتاجاً بشدة مما قيل, ومائلاً إلى الأمام فوق المائدة, مخاطباً يوحنا, "اسأله من هو, أو إذا أخبرك, اخبرني من هو الخائن."
179:4.5 (1941.2) أحضر يسوع همساتهم إلى نهاية بقوله: " أشعر بالأسى لأن هذا الشر كان يجب أن يمر وآمل حتى إلى هذه الساعة بأن قدرة الحق قد تنتصر على تضليلات الشر, لكن مثل هذه الانتصارات لا تُكسَب بدون الإيمان بمحبة الحق المخلصة. ما كنت لأود إخباركم بهذه الأشياء في هذا, عشاؤنا الأخير, لكنني أرغب في تحذيركم من هذه الأحزان ولذا أعدكم لما نحن عليه الآن. لقد أخبرتكم بهذا لأني أرغب في أن تتذكروا, بعدما أكون قد ذهبت, بأنني كنت أعلم بكل هذه المؤامرات الشريرة, ولقد سبق وحذرتكم من خيانتي وافعل كل هذا بحيث قد تتقوون على الإغراءات والفتن التي أمامنا بالضبط."
179:4.6 (1941.3) عندما قال يسوع هكذا, مائلاً نحو يوداص, قال: "ما قررت أن تفعله, افعله بسرعة." وعندما سمع يوداص هذه الكلمات, نهض من على المائدة وغادر الغرفة على عجل, خارجاً نحو الليل ليفعل ما كان قد قرر في عقله أن ينجزه. عندما رأى الرُسل الآخرون يوداص يسرع خارجاً بعد أن تحدث إليه يسوع, ظنوا أنه ذهب لشراء شيء إضافي للعشاء أو للقيام ببعض المهام الأخرى للسيد حيث إنهم افترضوا أنه لا يزال يحمل الحقيبة.
179:4.7 (1941.4) عرف يسوع الآن أنه لا يمكن عمل شيء لمنع يوداص من أن يصبح خائنًا. بدأ مع اثني عشر ــ الآن لديه أحد عشر. لقد اختار ستة من هؤلاء الرُسل. وعلى الرغم من أن يوداص كان من بين أولئك الذين رشحهم رُسله الذين تم اختيارهم أولاً, لا يزال قَبله السيد, وإلى هذه الساعة بالذات, قام بكل ما يمكن ليطهره ويخَّلصه, حتى كما عمل من أجل سلام وخلاص الآخرين.
179:4.8 (1941.5) هذا العشاء مع حوادثه الاستطرادية اللطيفة ولمساته الرقيقة, كان نداء يسوع الأخير إلى يوداص الهاجر, لكن دون جدوى. التحذير, حتى عندما يُدار في أكثر الأساليب لياقة ويُنقل في ألطف روح, كقاعدة عامة, يؤدي فقط إلى تكثيف الكراهية وإطلاق العزم الشرير للقيام بكامل مشاريع المرء الأنانية, متى أصبحت المحبة ميتة حقًا.
179:5.1 (1941.6) عندما أحضروا ليسوع كأس النبيذ الثالث, "كأس البَرَكة", نهض من الأريكة, وآخذ الكأس بيديه, وباركه, قائلاً: "خذوا هذا الكأس, كلكم, واشربوا منه. هذا سيكون كأس ذكري. هذا كأس نعمة الافتقاد الإلَهي الجديد للنعمة والحق. هذا سيكون لكم شعار إغداق وإسعاف روح الحق الإلهي. ولن أشرب هذا الكأس مرة أخرى معكم حتى أشرب معكم بشكل جديد في ملكوت الأب الأبدي."
179:5.2 (1942.1) شعر الرُسل جميعًا أن شيئاً ما خارجاً عن المألوف كان يبان بينما شربوا من كأس البَركة هذا في وقار عميق وصمت تام. احتفل عيد الفصح القديم بذكرى ظهور آبائهم من حالة العبودية العرقية إلى الحرية الفردية؛ الآن كان السيد يؤسس عشاءً تذكارياً جديداً كرمز للافتقاد الإلَهي الجديد فيه يخرج الفرد المستعبد من عبودية الطقوس والأنانية إلى الفرح الروحي لأخوة وزمالة الأبناء المتحررين بالإيمان لله الحي.
179:5.3 (1942.2) لما فرغوا من شرب كأس الذكرى الجديد هذا, تناول السيد الخبز, وبعد إعطاء الشُكر, كسره إلى قطع, ووجههم لتمريره للجميع, قائلاً: خذوا خبز الذكرى هذا وكلوه. لقد أخبرتكم بأنني خبز الحياة. وخبز الحياة هذا هو الحياة الموحَّدة للأب والابن في عطية واحدة. كلمة الأب, كما كُشفت في الابن, هي حقًا خبز الحياة. عندما تناولوا خبز الذكرى, رمز كلمة الحق الحية المتجسدة في شبه جسد بشري, جلسوا جميعاً.
179:5.4 (1942.3) في تأسيس عشاء الذكرى هذا, كعادته دائماً, لجأ السيد إلى الأمثال والرموز. لقد وظف الرموز لأنه أراد تعليم بعض الحقائق الروحية العظيمة بطريقة تجعل من الصعب على خلفائه إرفاق تفسيرات دقيقة ومعاني مُحَّددة لكلماته. بهذه الطريقة سعى إلى منع الأجيال المتعاقبة من بلورة تعاليمه وربط معانيها الروحية بسلاسل التقاليد والعقيدة الميتة. في إقامة الاحتفال الوحيد أو القداس المرتبط بمهمة حياته كلها, بذل يسوع جهوداً كبيرة ليُلمح إلى معانيه بدلاً من أن يُلزم نفسه بتعاريف محددة. لم يرغب في تدمير مفهوم الفرد عن المخالطة الإلَهية من خلال تأسيس شكل محدد؛ كما أنه لم يرغب في الحد من مخيلة المؤمن الروحية من خلال شَلِ حركتها رسمياً. بدلاً من ذلك سعى إلى تحرير نفـَس الإنسان المولودة من جديد على الأجنحة المبهجة للحرية الروحية الجديدة والحية.
179:5.5 (1942.4) بالرغم من جهد السيد بهذا لتأسيس هذا القداس الجديد للذكرى, فقد رأى أولئك الذين تبعوه في القرون المتداخلة بأن تُعرقل رغبته الصريحة بفعالية في أن رمزيته الروحية البسيطة لتلك الليلة الأخيرة في الجسد قد اختُزلت إلى تفسيرات دقيقة وأُخضعت تقريباً للدِقة الرياضية لصيغة محددة. من بين كل تعاليم يسوع, لم يصبح أي منها أكثر تقيداً بالتقاليد.
179:5.6 (1942.5) عشاء الذكرى هذا, عندما يُتناول بأولئك الذين هم مؤمنون-بالابن وعارفون-بالله, لا يحتاج لأن يقترن برمزيته أي من التفسيرات الصبيانية للإنسان فيما يتعلق بمعنى الحضرة الإلَهية, لأنه على كل مثل هذه المناسبات يكون السيد حاضرًا حقًا. العشاء التذكاري هو الملتقى الرمزي للمؤمن مع ميخائيل. عندما تصبح بهذا واعياً بالروح, يكون الابن حاضراً في الواقع, وروحه تتآخى مع الشظية الساكنة من أبيه.
179:5.7 (1942.6) بعد أن استغرقوا في التأمل للحظات قليلة, تابع يسوع حديثه: "عندما تفعلون هذه الأشياء, تذكروا الحياة التي عشتها على الأرض بينكم وتهللوا بأنني سأستمر في العيش على الأرض معكم ولأخدم من خلالكم. كأفراد, لا تتنافسوا فيما بينكم على من سيكون الأعظم. كونوا جميعاً كإخوان. وعندما ينمو الملكوت ليحتضن جماعات كبيرة من المؤمنين, يجب أيضاً أن تمتنعوا عن التنافس على العظمة أو السعي للتفضيل بين هذه الجماعات ".
179:5.8 (1943.1) وحدثت هذه المناسبة العظيمة في علية صديق. لم يكن هناك أي شيء ذا شكل مقدس أو تكريس شعائري إما حول العشاء أو البناء. أقيم العشاء التذكاري بدون موافقة كنسية.
179:5.9 (1943.2) عندما أقام يسوع بهذا عشاء الذكرى, قال للرُسل: "وكلما فعلتم هذا, افعلوه في ذكراي. وعندما تتذكرونني, انظروا أولاً للوراء إلى حياتي في الجسد, تذكروا بأني كنت معكم مرة, وبعد ذلك, بالإيمان, أدركوا بأنكم كلكم في وقت ما ستتعشون معي في ملكوت الأب الأبدي. هذا هو الفصح الجديد الذي أتركه معكم, حتى الذكرى لحياة إغداقي, كلمة الحق الأبدي؛ ومحبتي لكم, إنسكاب روح الحق لدي على كل جسد."
179:5.10 (1943.3) وأنهوا هذا الاحتفال بعيد الفصح القديم إنما غير الدموي في علاقة بافتتاح عشاء الذكرى الجديد, بالترنيم, الكل معاً, المزمور الثامن عشر بعد المائة.
كِتاب يورانشيا
ورقة 180
180:0.1 (1944.1) بعد ترنيم المزمور في ختام العشاء الأخير, ظن الرُسل بأن يسوع كان يعتزم العودة في الحال إلى المخيم, لكنه أشار لهم بأن يجلسوا. قال السيد:
180:0.2 (1944.2) "أنتم تتذكرون جيداً عندما أرسلتكم بدون حقيبة أو محفظة وحتى نصحت ألا تأخذوا معكم أي ملابس إضافية. وستتذكرون جميعًا أنه لم ينقصكم شيء. لكن الآن قد أتيتم على أوقات عصيبة. لم يعد بإمكانكم الإعتماد على حسن نية الجماهير. من الآن فصاعداً, مَن لديه حقيبة, فليأخذها معه. عندما تخرجون إلى العالم لإعلان هذا الإنجيل, تزودوا بالمؤن من أجل دعمكم كما يبدو الأفضل. لقد أتيت لأجلب السلام, لكنه لن يظهر لبعض الوقت.
180:0.3 (1944.3) "لقد حان الوقت الآن من أجل تمجيد ابن الإنسان, وسيتمجد الأب بي. أصدقائي, سأكون معكم لفترة قصيرة فقط. قريباً سوف تبحثون عني, لكنكم لن تجدوني, لأنني ذاهب إلى مكان حيث لا يمكنكم, في هذا الوقت, أن تأتوا إليه. لكن عندما تنتهون من عملكم على الأرض كما أنهيت عملي الآن, عند ذاك ستأتون إلَيَ حتى كما أستعد الآن للذهاب إلى أبي. في وقت قصير فقط سأترككم, ولن تروني بعد الآن على الأرض, لكن سترونني جميعاً في العصر الذي سيأتي عندما تصعدون إلى الملكوت الذي أعطاني إياه أبي."
180:1.1 (1944.4) بعد لحظات قليلة من المحادثة غير الرسمية, وقف يسوع وقال: "عندما اشترعت لكم مَثلاً يُظهر كيف يجب أن تكونوا راغبين لخدمة بعضكم البعض, قلت بأني أرغب في إعطائكم وصية جديدة؛ وأود أن أفعل هذا الآن بما أنني على وشك أن أترككم. أنتم تعرفون جيداً الوصية التي توجه بأن تحبوا بعضكم بعضاً؛ بأن تحبوا جاركم حتى مثل ذاتكم. لكنني لست راضياً تماما حتى عن هذا التفاني الصادق من جانب أولادي. كنت أود لا يزال لو تؤدون أعمالاً أعظم من المحبة في ملكوت أخوة المؤمنين. ولذا فإنني أعطيكم هذه الوصية الجديدة: أن تحبوا بعضكم بعضاً حتى كما أحببتكم. وبهذا سيعرف كل الناس بأنكم تلاميذي إذا بالتالي أحببتم بعضكم بعضاً.
180:1.2 (1944.5) "عندما أعطيكم هذه الوصية الجديدة, لا أضع أي عبء جديد على نفوسكم؛ بل أجلب لكم فرحاً جديداً وأتيح لكم أن تختبروا مسرة جديدة في معرفة ملذات إغداق عطف قلوبكم على زملائكم من الناس. أنا على وشك أن أختبر الفرح السامي, حتى على الرغم من تحمل المحنة الظاهرية, في إغداق عطفي عليكم وعلى زملائكم البشر.
180:1.3 (1944.6) "عندما أدعوكم لأن تحبوا بعضكم بعضاً, حتى كما أحببتكم, فإنني أرفع أمامكم المقياس الأسمى للمودة الحقيقية, لأنه من أجل محبة أعظم لا يمكن أن يحظى أي إنسان بأكثر من هذا: بأنه سيلقي حياته من أجل أصدقائه. وأنتم أصدقائي؛ ستستمرون في أن تكونوا أصدقائي إذا فقط كنتم راغبين في فعل ما عَّلمتكم إياه. لقد دعوتموني سيداً, لكني لا أدعوكم خدام. إذا كنتم فقط ستحبون بعضكم بعضاً كما أحبكم, ستكونون أصدقائي, وسأتحدث إليكم دائماً بما يكشفه الأب لي.
180:1.4 (1945.1) "أنتم لم تختاروني فحسب, لكنني اخترتكم أيضاً, ولقد عيَّنتكم لتنطلقوا إلى العالَم لتغِلوا ثمار الخدمة المُحبة لزملائكم حتى كما عشت بينكم وأظهرت لكم الأب. الأب وأنا كِلانا سنعمل معكم, وستختبرون ملء الألوهية من الفرح إذا كنتم فقط ستطيعون وصيتي بأن تحبوا بعضكم بعضاً, حتى كما أحببتكم."
180:1.5 (1945.2) إذا كنتم تودون مشاركة السيد فرحه, فعليكم أن تشاركوا محبته. ومشاركة محبته تعني بأنكم قد شاركتم خدمته. تجربة المحبة هذه لا تُخلصكم من صعوبات هذا العالَم؛ إنها لا تخلق عالَماً جديداً, لكنها بأكثر التأكيد تجعل العالَم القديم جديداً.
180:1.6 (1945.3) ضعوا في اعتباركم: إنه الولاء, وليس التضحية, ما يطلبه يسوع. إن وعي التضحية يقتضي غياب تلك المودة الصادقة التي كان من شأنها أن تجعل من هذه الخدمة المحبة فرحاً سامياً. تدل فكرة الواجب على أنك خادم-بالعقلية وبالتالي فهي تفتقد التشويق العظيم لأداء خدمتك كصديق ومن أجل صديق. إن دافع الصداقة يتجاوز كل قناعات الواجب, ولا يمكن اعتبار خدمة الصديق لصديق تضحية. علـَّم السيد الرُسل أنهم أبناء الله. لقد دعاهم إخوة, والآن, قبل أن يغادر, يدعوهم أصدقاءه.
180:2.1 (1945.4) ثم قام يسوع مرة أخرى وواصل تعليم رُسله: "أنا الكرمة الحقيقية, وأبي هو الكَرَام, أنا الكرمة, وأنتم الأغصان. والأب يتطلب مني فقط بأنكم يجب أن تؤتوا ثماراً كثيرة. تُشذب الكرمة فقط لزيادة ثمار أغصانها. كل غصن يخرج مني ولا يأتي بثمر, سيستأصله الأب. كل غصن يأتي بثمر, سينقيه الأب بحيث قد يثمر أكثر. أنتم بالفعل أنقياء من خلال الكلمة التي قلتها, لكن يجب أن تستمروا لتكونوا أنقياء. يجب أن تثبتوا فيِ, وأنا فيكم؛ سيموت الغصن إذا انفصل من الكرمة. لأن الغصن لا يستطيع أن يثمر إلا إذا ثبت في الكرمة, هكذا ولا أنتم تستطيعون إنتاج ثمار الخدمة المحبة إلا إذا ثبتم فيِ. تذكَروا: أنا الكرمة الحقيقية, وأنتم الأغصان الحية. من يسكن فيِ, وأنا فيه, سيؤتي الكثير من ثمر الروح ويختبر الفرح السامي بإعطاء هذا الحصاد الروحي. إذا أردتم الحفاظ على هذه الصلة الروحية الحية معي, ستؤتون ثمراً وافراً. إذا ثبتم فيِ وكلماتي تعيش فيكم, فستكونون قادرين على التواصل معي بحرية, وعند ذلك سيتمكن روحي الحي أن يتشرب فيكم بحيث يمكنكم أن تسالوا كل ما تشاء روحي وتفعلوا كل هذا مع التأكيد بأن الأب سيمنحنا ما نلتمسه. في هذا يتمَجد الأب: بأن للكرمة أغصان حية كثيرة, وأن كل غصن يحمل ثمراً كثيراً. وعندما يرى العالَم هذه الأغصان المثمرة ــ أصدقائي الذين يحبون بعضهم البعض, حتى كما أحببتهم ــ سيعرف جميع الناس بأنكم حقاً تلاميذي.
180:2.2 (1945.5) "كما أحبني الأب, أحببتكم كذلك. عيشوا في محبتي حتى كما أعيش في محبة الأب. إذا فعلتم ما علـَّمتكم إياه, ستقيمون في محبتي حتى كما حفظت كلمة الأب وإلى الأبد أقيم في محبته."
180:2.3 (1946.1) لطالما علـَّم اليهود أن المسيح سيكون "جذعاً ينشأ من الكرمة" لأسلاف داود, وفي ذكرى هذا التعليم القديم زين شعار كبير من العنب والكرمة العالقة به مدخل معبد هيرودس. تذكَّر كل الرُسل هذه الأشياء بينما تحدث السيد إليهم هذه الليلة في العلية.
180:2.4 (1946.2) لكن حزناً كبيراً لازم فيما بعد سوء تفسير استدلالات السيد بخصوص الصلاة. كان سيكون هناك القليل من الصعوبة حول هذه التعاليم إذا تم تذكر كلماته بدقة وسُجِّلت بالتالي بصدق. لكن بينما كان يتم تشكيل السجل, اعتبر المؤمنون في نهاية المطاف الصلاة باسم يسوع نوعًا من السحر السامي, معتقدين بأنهم سيحصلون من الأب أي شيء يطلبونه. لقرون استمرت نفوس أمينة في تحطيم إيمانها ضد حجر العثرة هذا. كم من الوقت سيستغرق عالَم المؤمنين ليفهموا بأن الصلاة ليست عملية للحصول على طريقك ولكنها بالأحرى برنامج لأخذ طريق الله, تجربة لتعلم كيفية التعرف على مشيئة الأب وتنفيذها؟ إنه من الصحيح تمامًا بأنه, عندما تصطف مشيئتك حقًا معه, يمكنك أن تطلب أي شيء مستوعَب باتحاد-المشيئة هذا, وسيتم منحه. ومثل وحدة-المشيئة هذه تُدخل حيز التنفيذ بيسوع ومن خلاله حتى كما تتدفق حياة الكرمة إلى الأغصان الحية ومن خلالها.
180:2.5 (1946.3) عندما توجد هذه العلاقة الحية بين الألوهية والإنسانية, إذا كانت الإنسانية ستصَّلي بلا تفكير وبجهل من أجل الراحة الأنانية والإنجازات المتعجرفة يمكن أن يكون هناك جواب إلَهي واحد فقط: حمل أكثر ومتزايد لثمار الروح على جذوع الأغصان الحية. عندما يكون غصن الكرمة حياً, يمكن أن يكون هناك جواب واحد فقط لكل التماساته: زيادة محصول العنب. في الواقع, الغصن موجود فقط من أجل حمل الثمر, ولا يستطيع أن يفعل أي شيء سوى حمل الثمار, إنتاج العنب. هكذا المؤمن الحقيقي موجود فقط لغرض أن يحصد ثمار الروح: أن يُحب الإنسان لأنه هو نفسه قد أحبه الله ــ بأننا يجب أن نحب بعضنا البعض, حتى كما أحبنا يسوع.
180:2.6 (1946.4) وعندما يتم وضع يد الأب المهذِبة على الكرمة, يتم هذا في محبة, من أجل أن تحمل الأغصان ثمراً كثيراً. والكَرَام الحكيم يشذب فقط الأغصان الميتة وغير المثمرة.
180:2.7 (1946.5) كان لدى يسوع صعوبة كبيرة في قيادة حتى رُسله إلى إدراك أن الصلاة هي عمل المؤمنين المولودين بالروح في الملكوت الذي يهيمن عليه الروح.
180:3.1 (1946.6) كان الأحد عشر بالكاد قد توقفوا عن مناقشة الخطاب حول الكرمة والأغصان عندما السيد, مشيراً إلى رغبته في التحدث إليهم أكثر وعارف بأن وقته قصير, قال: "عندما أكون قد تركتكم, لا تكونوا مثبطي العزم بعداوة العالَم. لا تكونوا منكسري الخاطر حتى عندما ينقلب مؤمنون ضعاف القلوب ضدكم ويتعاونون مع أعداء الملكوت عليكم. إذا كان العالَم سيكرهكم, يجب أن تتذكروا بأنه كرهني حتى قبل أن يكرهكم. إذا كنتم من هذا العالَم, عند ذاك سيحب العالَم خاصته, لكن لأنكم لستم كذلك, يرفض العالَم أن يحبكم. أنتم في هذا العالَم, لكن معايشكم ليست لتشبه العالَم. لقد اخترتكم من بين العالَم لتمثلوا روح عالَم آخر حتى إلى هذا العالَم الذي تم اختياركم منه. لكن تذكَّروا دائماً الكلمات التي قلتها لكم: ليس الخادم أعظم من سيده. إذا تجرأوا على اضطهادي, فسوف يضطهدونكم أيضاً. إذا كان كلامي يسيء إلى غير المؤمنين, هكذا أيضاً ستسيء كلماتكم إلى الأشرار. وكل هذا سيفعلونه بكم لأنهم لا يؤمنون بي ولا به الذي أرسلني؛ لذلك سوف تكابدون الكثير من الأشياء من أجل إنجيلي. لكن عندما تتحملون هذه الضيقات, يجب أن تتذكروا بأني قد عانيت أيضًا قبلكم من أجل إنجيل الملكوت السماوي هذا.
180:3.2 (1947.1) كثيرون من أولئك الذين سيحملون عليكم يجهلون نور السماء, لكن هذا لا ينطبق على بعض الذين يضطهدوننا الآن. لو أننا لم نعَّلمهم الحق, قد يفعلون أشياء غريبة كثيرة دون الوقوع تحت الإدانة, لكن الآن, حيث أنهم قد عرفوا النور وافترضوا أن يرفضوه, فليس لديهم أي عذر لموقفهم. الذي يكرهني يكره أبي. لا يمكن أن يكون الأمر سوى ذلك؛ النور الذي سيخلصكم إذا تم قبوله يمكنه أن يدينكم فقط إذا رفضتموه عن قصد. وماذا فعلت لهؤلاء الناس حتى يكرهوني بمثل هذه الكراهية الرهيبة؟ لا شيء, سوى أن أقدم لهم الزمالة على الأرض والخلاص في السماء. لكن ألم تقرأوا في الكتابات المقدسة القول: ’وكرهوني دون سبب‘؟
180:3.3 (1947.2) "لكنني لن أترككم وحدكم في العالَم. قريباً جداً, بعد أن أكون قد ذهبت, سأرسل لكم روحاً مساعداً. سيكون معكم من يحل مكاني بينكم, الذي سوف يستمر في تعليمكم طريق الحق, الذي حتى سيؤاسيكم.
180:3.4 (1947.3) "فلا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله؛ استمروا لتؤمنوا بي أيضاً. رغم أنني يجب أن أترككم, لن أكون بعيداً عنكم. لقد سبق أن أخبرتكم من قبل بأن في كون أبي هناك أمكنة تمهُل كثيرة. إذا لم يكن هذا صحيحاً, لما أخبرتكم عنها مراراً. أنا ذاهب لأعود إلى عوالم النور هذه, محطات في سماء الأب التي ستصعدون إليها في وقت ما. من هذه الأماكن أتيت إلى هذا العالَم, وحان الوقت الآن عندما يجب أن أعود إلى شغل أبي في الأجواء على العُلى.
180:3.5 (1947.4) "إذا ذهبت قبلكم هكذا إلى ملكوت الأب السماوي, فسأرسل من أجلكم بالتأكيد لكي تكونوا معي في الأماكن التي أعدت لأبناء الله الفانين قبل ما كان هذا العالَم. على الرغم من أنني يجب أن أترككم, سأكون حاضراً معكم بالروح, وفي النهاية ستكونون معي شخصياً عندما تصعدون إليَ في كوني حتى كما أنا على وشك أن أصعد إلى أبي في كونه الأعظم. وما أخبرتكم به حقيقي وأزلي, حتى لو لم تتمكنوا من استيعابه تماماً. أنا ذاهب إلى الأب, ولو إنكم لا يمكنكم أن تتبعوني الآن, فمن المؤكد أنكم ستتبعونني في عصور لتأتي."
180:3.6 (1947.5) عندما جلس يسوع, قام توما وقال: "يا سيد, لا نعرف إلى أين أنت ذاهب؛ لذلك بالطبع لا نعرف الطريق. لكن سنتبعك هذه الليلة بالذات إذا كنت سترينا الطريق."
180:3.7 (1947.6) لما سمع يسوع توما, أجاب: "توما, أنا الطريق, والحق, والحياة. لا إنسان يذهب إلى الأب إلا من خلالي. جميع الذين يجدون الأب, يجدونني أولاً. إذا عرفتني, تعرف الطريق إلى الأب. وأنت تعرفني, لأنك عشت معي وتراني الآن ".
180:3.8 (1947.7) لكن هذا التعليم كان عميقاً للغاية بالنسبة لكثير من الرُسل خاصة بالنسبة إلى فيليبُس, الذي, بعد أن تحدث بضع كلمات مع نثانئيل, قام وقال: "يا سيد, أرنا الأب, وكل ما قلته سيُجعل واضحاً."
180:3.9 (1947.8) وبعدما تكلم فيليبُس, قال يسوع: "يا فيليبُس, هل كنت معك كل هذه المدة الطويلة ومع ذلك حتى الآن لا تعرفني؟ مرة أخرى أصرح: من رآني فقد رأي الأب. فكيف إذاً تقول, أرنا الأب؟ ألا تؤمن بأنني في الأب والأب فيِ؟ أما علمتكم بأن الكلمات التي أتكلم بها ليست كلماتي بل هي كلمات الأب؟ أنا أتكلم من أجل الأب وليس من نفسي. أنا في هذا العالَم لأعمل مشيئة الأب, وذلك قمت به. أبي يقيم فيِ ويعمل من خلالي. صدقني عندما أقول بأن الأب فيِ وأنني في الأب, أو سوى ذلك صدقني من أجل الحياة ذاتها التي عشتها ــ من أجل العمل."
180:3.10 (1948.1) بينما ذهب السيد جانباً لينعش نفسه بالماء, انشغل الأحد عشر في مناقشة نشطة عن هذه التعاليم, وكان بطرس قد بدأ في إلقاء خطاب مطول عندما عاد يسوع وأومأ إليهم بأن يجلسوا.
180:4.1 (1948.2) تابع يسوع تعليمه, قائلاً: "عندما أكون قد ذهبت إلى الأب, وبعد أن يكون العمل الذي قمت به من أجلكم على الأرض قد قَبل تماماً, وبعدما أن أحصل على السيادة النهائية لمجالي الخاص, سأقول لأبي: حيث إنني قد تركت أولادي وحدهم على الأرض, فإنه وفقًا لوعدي أن أرسل لهم معلماً آخر. وعندما يوافق الأب, سأسكب روح الحق على كل جسد. روح أبي بالفعل في قلوبكم, وعندما يأتي هذا اليوم, سأكون معكم أنتم كذلك حتى كما أن الأب معكم الآن. هذه الهِدية الجديدة هي روح الحق الحي. لن يستمع غير المؤمنين في البداية إلى تعاليم هذا الروح, لكن أبناء النور سيقبلونه جميعهم ببهجة ومن كل القلب. وستعرفون هذا الروح عندما يأتي كما عرفتموني, وستستلمون هذه الهدية في قلوبكم, وسيقيم معكم. أنتم بالتالي تدركون بأنني لن أترككم بدون مساعدة وإرشاد. لن أترككم مُتخلى عنكم. اليوم يمكنني أن أكون معكم في الشخص فقط. في الأوقات القادمة سأكون معكم ومع كل الناس الآخرين الذين يرغبون في حضوري, حيثما قد تكونون, ومع كل واحد منكم في نفس الوقت. أما تدركون أنه من الأفضل لي أن أمضي؛ أن أترككم في الجسد بحيث يمكنني أن أكون معكم بالروح بشكل أفضل وأكمل؟
180:4.2 (1948.3) "في ساعات قليلة فقط لن يراني العالَم بعد الآن؛ لكنكم ستستمرون لتعرفوني في قلوبكم إلى أن أرسل إليكم هذا المعلم الجديد, روح الحق. كما عشت معكم شخصياً, إذن سأعيش فيكم؛ سأكون واحداً مع خبرتكم الشخصية في ملكوت الروح. وعندما يتحقق هذا, ستعرفون بالتأكيد أنني في الأب, وأنه, بينما حياتكم مخبأة مع الأب فيّ, فأنا كذلك فيكم. لقد أحببت الأب وحفظت كلمته؛ لقد أحببتموني, وستحفظون كلمتي. كما أعطاني أبي من روحه, هكذا سأعطيكم من روحي. وروح الحق هذا الذي سأغدقه عليكم سيرشدكم ويؤاسيكم وفي النهاية سيقودكم إلى كل الحقيقة.
180:4.3 (1948.4) "أخبركم هذه الأشياء بينما أنا ما زلت معكم بحيث قد تكونون أفضل استعداداً لتحمل تلك المحن التي هي حتى الآن علينا. وعندما يأتي هذا اليوم الجديد, ستكونون مسكونين بالابن وكذلك بالأب. وستعمل عطايا السماء هذه دائماً الواحدة مع الأخرى حتى كما اشتغلنا الأب وأنا على الأرض وأمام أعينكم كشخص واحد, ابن الإنسان. وهذا الصديق الروحي سوف يُحضر إلى ذكراكم كل ما علمتكم إياه".
180:4.4 (1948.5) بينما توقف السيد للحظة, تجرأ يوداص ألفيوس على طرح أحد الأسئلة القليلة التي وجهها إما هو أو أخوه أبداً إلى يسوع علناً. قال يوداص: "يا سيد, لقد عشت دائماً بيننا كصديق؛ كيف سنعرفك عندما لا تعود تُظهر نفسك إلينا إلا بهذا الروح؟ إذا كان العالَم لا يراك, فكيف نكون متأكدين منك؟ كيف ستُظهر لنا نفسك؟"
180:4.5 (1949.1) تطلع يسوع عليهم جميعاً, ابتسم, وقال: "يا أولادي الصغار, أنا ذاهب, عائد إلى أبي. في وقت قليل بينما لن تروني كما تفعلون هنا, كجسد ودم. في وقت قصير جداً أنا ذاهب لأرسل لكم روحي, تماماً مثلي باستثناء هذا الجسد المادي. هذا المعلم الجديد هو روح الحق الذي سيسكن مع كل واحد منكم, في قلوبكم, وهكذا سيُجعل كل أولاد النور واحداً وينجذبون إلى بعضهم البعض. وبهذه الطريقة بالذات سيكون بمقدورنا أبي وأنا أن نعيش في نفوس كل منكم وأيضاً في قلوب جميع الناس الآخرين الذين يحبوننا ويجعلون تلك المحبة حقيقية في تجاربهم من خلال حب بعضهم البعض, حتى كما أنا أحبكم الآن."
180:4.6 (1949.2) لم يفهم يوداص ألفيوس تماماً ما قاله السيد, لكنه استوعب الوعد عن المعلم الجديد, ومن التعبير على وجه أندراوس, أدرك أن سؤاله قد تمت الإجابة عليه بشكل مرضٍ.
180:5.1 (1949.3) المساعد الجديد الذي وعد يسوع أن يرسله إلى قلوب المؤمنين, لكي يُسكب على كل جسد, هو روح الحق. هذه الهبة الإلَهية ليست نصاً أو قانوناً للحق, ولا هي لتعمل كشكل أو تعبير عن الحق. المعلم الجديد هو الاقتناع بالحق, الوعي والتأكيد على المعاني الحقيقية على مستويات الروح الحقيقية. وهذا المعلم الجديد هو روح الحق الحي والمتنامي, الحقيقة المتوسعة, والمنكشفة, والمتكيفة.
180:5.2 (1949.4) الحق الإلَهي مُدرك-بالروح وواقع حي. الحق موجود فقط على مستويات روحية عليا من إدراك الألوهية ووعي المخالطة مع الله. يمكنكم معرفة الحق, ويمكنكم عيش الحق؛ يمكنكم اختبار نمو الحق في النفـْس والتمتع بحرية تنويره في العقل, لكن لا يمكنكم حبس الحق في صيغ, أو قوانين, أو عقائد, أو أنماط فكرية للسلوك البشري. عندما تأخذون على عاتقكم الصياغة الإنسانية للحقيقة الإلَهية, فإنها تموت بسرعة. إن إنقاذ الحقيقة المسجونة بعد الوفاة, حتى في أحسن الأحوال, يمكن أن يتأتى فقط في إدراك شكل خاص من الحكمة المُثقفة الممجدة. الحقيقة الستاتيكية هي حقيقة ميتة, والحقيقة الميتة يمكن اعتبارها فقط كنظرية. الحقيقة الحية ديناميكية ويمكنها أن تتمتع فقط بوجود اختباري في العقل البشري.
180:5.3 (1949.5) ينشأ الذكاء من الوجود المادي الذي ينير بحضور العقل الفلكي. تشتمل الحكمة على وعي المعرفة الذي يرتقي إلى مستويات جديدة من المعنى ويتم تنشيطه بحضور هِبة الكون لمعاون الحكمة. الحق هو قيمة واقعية روحية تُختبَر فقط بكائنات موهوبة بالروح يعملون على مستويات فائقة عن المادي من وعي الكون, والذين, بعد إدراك الحقيقة, يسمحون لروح تنشيطه أن تسكن وتحكم داخل نفوسهم.
180:5.4 (1949.6) يبحث الطفل الحقيقي لبصيرة الكون عن روح الحق الحي في كل قول حكيم. إن الشخص العارف بالله يرفع الحكمة باستمرار إلى مستويات الحقيقة الحية للإحراز الإلَهي؛ النفـْس غير التقدمية روحياً تجر طوال الوقت الحقيقة الحية إلى مستويات ميتة من الحكمة وإلى مجال المعرفة المُفَخّمة البحتة.
180:5.5 (1949.7) القاعدة الذهبية, عندما تُجَّرد من البصيرة الخارقة لروح الحق, تصبح لا شيء أكثر من قاعدة للسلوك الأخلاقي الرفيع. القاعدة الذهبية, عند تفسيرها حرفياً, قد تصبح الأداة ذات الإساءة العظيمة لزملاء المرء. بدون تمييز روحي لقاعدة الحكمة الذهبية قد تُفـَّكر بأنه, بما أنك ترغب في أن يتحدث كل الناس إليك بالحقيقة الكاملة والصريحة لعقولهم, فيجب عليك بالتالي التحدث كلياً وبصراحة بكامل فكر عقلك مع زملائك الكائنات. مثل هذا التفسير غير الروحي للقاعدة الذهبية قد يؤدي إلى تعاسة لا توصف ولا نهاية للحزن.
180:5.6 (1950.1) بعض الأشخاص يميزون القاعدة الذهبية ويفسرونها على أنها إثبات فكري بحت للأخوة الإنسانية. يختبر آخرون هذا التعبير عن العلاقة الإنسانية كإرضاء عاطفي للمشاعر الرقيقة للشخصية الإنسانية. يتعرف بشري آخر على هذه القاعدة الذهبية ذاتها باعتبارها معياراً لقياس جميع العلاقات الاجتماعية, معيار السلوك الاجتماعي. لا يزال آخرون ينظرون إليها على أنها الإيعاز الإيجابي من معلم أخلاقي عظيم الذي جسد في هذا البيان أسمى مفهوم للالتزام الأخلاقي فيما يتعلق بجميع العلاقات الأخوية. في معايش هكذا كائنات أخلاقية تصبح القاعدة الذهبية المركز الحكيم ومحيط كل فلسفتهم.
180:5.7 (1950.2) في ملكوت الأخوة المؤمنة لمحبي الحقيقة العارفين بالله, تأخذ هذه القاعدة الذهبية الصفات الحية للإدراك الروحي على تلك المستويات الأعلى من التفسير الذي يجعل أبناء الله الفانين ينظرون إلى إيعاز السيد هذا على انه يتطلب منهم أن ينتسبوا إلى زملائهم بحيث سيحصلون على أعلى خير ممكن كنتيجة لاتصال المؤمن بهم. هذا هو جوهر الدِين
180:5.8 (1950.3) لكن الإدراك الأسمى والتفسير الأصدق للقاعدة الذهبية يكمن في وعي روح الحق للحقيقة الدائمة والحيّة لمثل هذا الإعلان الإلَهي. إن المعنى الفلكي الصحيح لقانون العلاقة الكونية هذا يُكشف فقط في تحقيقه الروحي, في تفسير قانون السلوك بروح الابن إلى روح الأب الذي يسكن نفـْس الإنسان الفاني. وعندما يُدرك هؤلاء البشر الفانون الذين يُقادون بالروح المعنى الحقيقي لهذه القاعدة الذهبية, فإنهم يمتلئون للفيض بضمان المواطنية في كون ودود, ولا يتم إرضاء مُثلهم عن واقعية الروح إلا عندما يحبون زملاءهم كما أحبنا يسوع جميعاً, وتلك هي حقيقة تحقيق محبة الله.
180:5.9 (1950.4) هذه الفلسفة ذاتها للمرونة الحية والتكيف الفلكي مع الحق الإلَهي إلى متطلبات الفرد واستطاعة كل ابن من أبناء الله, يجب أن تُفهم قبل أن تتمكن من الأمل في أن تفهم بشكل كافٍ تعليم السيد وممارسة عدم مقاومة الشر. تعليم السيد هو في الأساس إعلان روحي. حتى التداعيات المادية لفلسفته لا يمكن اعتبارها بشكل مفيد على حدة من تناسق علاقاتها الروحية. يتألف روح إيعاز السيد في عدم مقاومة كل رد فعل أناني تجاه الكون, إلى جانب الإحراز النضالي والتدريجي لمستويات صالحة من قيم الروح الحقيقية: الجَمال الإلَهي, والصلاح اللامتناهي, والحق الأبدي ــ لمعرفة الله والصيرورة بشكل متزايد مثله.
180:5.10 (1950.5) المحبة, عدم-الأنانية, يجب أن تخضع لتفسير ثابت وتكيفي حي للعلاقات وفقاً لقيادة روح الحق. يجب على المحبة بالتالي أن تحوز على المفاهيم الدائمة التغير والتوسع لأعلى خير فلكي للفرد المحبوب. وحينئذٍ تستمر المحبة لتطرق هذا الموقف نفسه تجاه جميع الأفراد الآخرين الذين يمكن أن يتأثروا بالعلاقة المتنامية والحيوية لمحبة بشري يُقاد بالروح من أجل مواطني الكون الآخرين. وكامل هذا التكيف الحي للمحبة يجب أن يدخل حيز التنفيذ في ضوء كل من بيئة الشر الحاضر والهدف الأبدي المتمثل في كمال المصير الإلَهي.
180:5.11 (1950.6) ولذا يجب علينا أن ندرك بوضوح بأن لا القاعدة الذهبية ولا تعليم عدم المقاومة يمكن أن يُفهما بشكل صحيح على أنهما عقائد أو مبادئ. لا يمكن فهمهما إلا من خلال عيشهما, بإدراك معانيهما في التفسير الحي لروح الحق, الذي يوَّجه الاتصال المحب بين إنسان وآخر.
180:5.12 (1951.1) وكل هذا يشير بوضوح إلى الفرق بين الدِين القديم والجديد. علـَّم الدِين القديم التضحية-بالذات؛ يُعَّلم الدِين الجديد نسيان الذات فقط, تعزيز الإدراك الذاتي في الخدمة الاجتماعية المترابطة والاستيعاب الكوني. كان الدِين القديم مدفوعاً بوعي الخوف؛ يهيمن على إنجيل الملكوت الجديد الاقتناع بالحق, روح الحق الأبدي والكوني. ولا يمكن لأي قدر من التقوى أو الولاء العقائدي أن يعوض عن الغياب في تجربة الحياة لمؤمني الملكوت عن ذلك الود العفوي, والكريم, والمُخْلِص الذي يميز أبناء الله الحي المولودين بالروح. لا التقاليد ولا نظام طقوس العبادة الرسمية يمكن أن تعوض عن الافتقار للتعاطف الحقيقي مع زملاء المرء.
180:6.1 (1951.2) بعد أن طرح بطرس, ويعقوب, ويوحنا, ومتـّى العديد من الأسئلة على السيد, واصل خطابه الوداعي بقوله: "وأنا أخبركم بكل هذا قبل أن أترككم لكي تكونوا على استعداد لما سيأتي عليكم بحيث لا تتعثروا في خطأ جسيم. لن تكون السُلطات راضية بمجرد إخراجكم من المجامع؛ أحذركم من اقتراب الساعة عندما يظن الذين سيقتلونكم بأنهم يؤدون خدمة إلى الله. وكل هذه الأشياء سيفعلونها لكم ولأولئك الذين تقودونهم إلى ملكوت السماء لأنهم لا يعرفون الأب. لقد رفضوا أن يعرفوا الأب برفضهم استقبالي؛ وهم يرفضون استقبالي عندما يرفضونكم, بشرط أن تحافظوا على وصيتي الجديدة بأن تحبوا بعضكم بعضًا حتى كما أحببتكم. أنا أخبركم مُسبقاً عن هذه الأشياء بحيث, عندما تأتي ساعتكم, كما أتت ساعتي الآن, قد تكونوا مقوين في معرفة أن كل شيء كان معروفاً لي, وبأن روحي ستكون معكم في كل معاناتكم من أجلي ومن أجل الإنجيل. لقد كان من أجل هذا الهدف بأني كنت أتحدث إليكم بوضوح للغاية منذ أول البداية. لقد حذرتكم حتى من أن أعداء الإنسان قد يكونون من هل بيته. على الرغم من أن إنجيل الملكوت هذا لا يفشل أبداً في جلب سلام عظيم لنفـْس المؤمن الفرد, إلا أنه لن يجلب السلام على الأرض حتى يكون الإنسان راغباً بأن يؤمن بتعليمي من كل القلب وليؤسس ممارسة فعل مشيئة الأب كالهدف الرئيسي في عيش الحياة الفانية.
180:6.2 (1951.3) "الآن حيث إنني تارككم, ناظر بأن الساعة قد أتت عندما أنا على وشك الذهاب إلى الأب, فأنا مندهش بأن أياً منكم لم يسألني, لماذا تتركنا؟ على كل, أنا أعلم بأنكم تسألون مثل هذه الأسئلة في قلوبكم. سأتحدث معكم بصراحة, كصديق لآخر. إنه حقاً مُربح من أجلكم بأن أرحل. إذا لم أذهب, فلن يتمكن المعلم الجديد من أن يأتي إلى قلوبكم. يجب أن أُتجرد من هذا الجسد الفاني وأُعاد إلى مكاني على العُلى قبل أن أتمكن من إرسال معلم الروح هذا ليسكن في نفوسكم ويقود أرواحكم إلى الحقيقة. وعندما تأتي روحي لتسكنكم, سوف تنير الفرق بين الخطيئة والبر وستمكنكم من أن تحكموا بحكمة في قلوبكم بشأنها.
180:6.3 (1951.4) "لا يزال لدي الكثير لأقوله لكم, لكنكم لا تقدرون أن تتحملوا أكثر الآن بالضبط. وإن يكن, عندما يأتي روح الحق, سيرشدكم في النهاية إلى كل الحقيقة بينما تمرون عبر العديد من المساكن في كون أبي.
180:6.4 (1951.5) "هذا الروح لن يتكلم عن نفسه, لكنه سيعلن لكم ما كشفه الأب للابن, وحتى سيريكم الأشياء التي ستأتي؛ سوف يمجدني حتى كما مجدت أبي. هذا الروح يخرج مني, وسيكشف لكم حقيقتي. كل ما لدى الأب في هذا المجال هو الآن لي؛ لذلك قلت بأن هذا المعلم الجديد سيأخذ مما هو لي ويعلنه لكم.
180:6.5 (1952.1) "بعد فترة وجيزة سوف أترككم لوقت قصير. بعدها, عندما تروني مرة أخرى, سأكون تواً في طريقي إلى الأب بحيث حتى حينئذٍ لن تروني لوقت طويل."
180:6.6 (1952.2) بينما توقف للحظة, بدأ الرُسل يتحدثون فيما بينهم: "ما هذا الذي يخبرنا به؟ ’في برهة قليلة بينما سأترككم‘, و ’عندما تروني مرة أخرى لن يكون لفترة طويلة, لأني سأكون في طريقي إلى الأب‘. ما الذي يمكن أن يقصده بهذه ’الفترة القصيرة‘ و ’ليس لفترة طويلة‘؟ لا نستطيع أن نفهم ما يقوله لنا ".
180:6.7 (1952.3) وبما أن يسوع علم أنهم سألوا هذه الأسئلة, قال: "هل تتساءلون فيما بينكم عما عَنيت عندما قلت بأن في برهة قليلة لن أكون معكم, وبأنه, عندما ستروني مرة أخرى, سأكون في طريقي إلى الأب؟ لقد أخبرتكم بوضوح بأن ابن الإنسان يجب أن يموت, لكنه سوف يقوم مرة أخرى. ألا يمكنكم عندئذٍ تمييز معنى كلامي؟ سوف تشعرون بالحزن أولاً, لكن فيما بعد ستتهللون مع كثيرين ممن سيفهمون هذه الأشياء بعد أن تتحقق. المرأة حزينة حقًا في ساعة مخاضها, لكن متى ولدت طفلها, فإنها تنسى على الفور معاناتها في فرح المعرفة بأن إنساناً قد وُلد نحو العالَم. وهكذا أنتم على وشك أن تحزنوا على رحيلي, لكني سأراكم قريباً مرة أخرى, وعند ذاك سيتحول حزنكم إلى فرح, وسيأتي إليكم وحي جديد عن خلاص الله الذي لا يستطيع أحد أن يسلبه منكم أبداً. وستكون كل العوالم مباركة في هذا الكشف نفسه عن الحياة في إحداث التغلب على الموت. حتى الآن كنتم قد قدمتم كل طلباتكم باسم أبي. بعد أن تروني مرة أخرى, يمكنكم أيضًا أن تسألوا باسمي, وسأسمعكم.
180:6.8 (1952.4) "هنا تحت قد علـَّمتكم في أقوال مأثورة وتكلمت إليكم في الأمثال. لقد فعلت هذا لأنكم كنتم مجرد أولاد في الروح؛ لكن الوقت آتٍ عندما سأتكلم إليكم بوضوح عن الأب وملكوته. وسأفعل هذا لأن الأب نفسه يحبكم ويرغب في أن يكون مكشوفاً لكم بشكل أكمل. لا يستطيع الإنسان الفاني رؤية الآب الروحي؛ لذلك جئت إلى العالَم لأُظهر الأب إلى عيونكم المخلوقة. لكن متى صرتم مُكملين في نمو الروح, عند ذاك سترون الأب نفسه."
180:6.9 (1952.5) لما سمعه الأحد عشر يتحدث, قالوا لبعضهم بعض: "انظروا, إنه فعلاً يتحدث لنا بوضوح. بالتأكيد أتى السيد من الله. لكن لماذا يقول بأنه يجب أن يعود إلى الأب؟" ورأى يسوع أنهم حتى الآن لم يفهموه. لم يتمكن هؤلاء الرجال الأحد عشر من الإفلات من أفكارهم المغذاة منذ زمن طويل حول المفهوم اليهودي عن المسيح. كلما زاد إيمانهم بيسوع باعتباره المسيح, الأكثر إثارة للقلق أصبحت تلك الأفكار عميقة الجذور فيما يتعلق بالإنتصار المادي المجيد للملكوت على الأرض.
كِتاب يورانشيا
ورقة 181
181:0.1 (1953.1) بعد ختام خطاب الوداع للأحد عشر, زار يسوع معهم بشكل غير رسمي وروى العديد من التجارب التي تهمهم كمجموعة وكأفراد. أخيراً بدأ ينبلج على هؤلاء الجليليين بأن صديقهم ومعلمهم كان سيتركهم, وتمسك أملهم بالوعد بأنه, بعد فترة وجيزة, سيكون معهم مرة أخرى, لكنهم كانوا عرضة للنسيان بأن زيارة العودة هذه كانت أيضاً لبرهة قصيرة. اعتقد العديد من الرُسل والتلاميذ البارزين حقاً بأن هذا الوعد بالعودة لفصل قصير (الفاصل القصير المتداخل بين القيامة والصعود) أشار إلى أن يسوع كان ذاهباً لزيارة قصيرة مع أبيه, بعدها سيعود ليؤسس الملكوت. ومثل هذا التفسير لتعاليمه توافق مع معتقداتهم المسبقة ومع آمالهم المتوقدة. حيث إن آمالهم ومعتقداتهم لمدى الحياة من تحقيق الأماني قد تم الإتفاق عليها على هذا النحو, فلم يكن من الصعب عليهم العثور على تفسير لكلمات السيد التي قد تبرر أشواقهم العارمة.
181:0.2 (1953.2) بعد أن نوقش خطاب الوداع وبدأ يستقر في أذهانهم, دعا يسوع الرُسل مرة أخرى إلى النظام وبدأ في الإفصاح عن إنذاراته وتحذيراته الأخيرة.
181:1.1 (1953.3) عندما أخذ الأحد عشر مقاعدهم, وقف يسوع وخاطبهم: "ما دمت معكم في الجسد, لا أقدر أن أكون سوى فرد في وسطكم أو في العالَم بأسره. لكن عندما أكون قد تخلصت من هذا الاستثمار في الطبيعة الفانية, سأكون قادراً على العودة كساكن روحي لكل منكم ولجميع المؤمنين الآخرين في إنجيل الملكوت هذا. بهذه الطريقة سيصبح ابن الإنسان تجسداً روحياً في نفوس جميع المؤمنين الحقيقيين.
181:1.2 (1953.4) "عندما أعود لأسكنكم وأعمل من خلالكم, يمكنني أن أقودكم بشكل أفضل خلال هذه الحياة وأرشدكم خلال العديد من المقامات في الحياة المستقبلية في جنة السماوات. الحياة في خليقة الأب الأبدي ليست راحة لا نهاية لها من الخمول والاِستِرخاء الأناني بل بالأحرى تطور مستمر في النعمة, والحقيقة, والمجد. كل محطة من المحطات العديدة, العديدة في منزل أبي هي نقطة توقف, حياة مصممة لإعدادكم للتي تليها. وهكذا سوف ينتقل أبناء النور من مجد إلى مجد إلى أن يحرزوا المكانة الإلَهية حيث يُكملون بالروح حتى كما أن الأب مثالي في كل الأشياء.
181:1.3 (1953.5) "إذا كنتم ستتبعون بعدي عندما أترككم, فابذلوا جهودكم الجادة للعيش وفقاً لروح تعاليمي ومع المثل الأعلى في حياتي ــ فعل مشيئة أبي. هذا افعلوه بدلاً من محاولة تقليد حياتي الطبيعية في الجسد كما كنت, بحكم الضرورة, مطالباً أن أعيشها في هذا العالَم.
181:1.4 (1954.1) "لقد أرسلني الأب نحو هذا العالَم, لكن قلة منكم فقط اختاروا كلياً أن يستقبلوني. سوف أسكب روحي على كل جسد, لكن لن يختار كل الناس أن يستقبلوا هذا المعلم الجديد كالمرشد والناصح للنفـْس. لكن كل من يقبله سيكون مستنيراً, ومطـَّهراً, ومتعزياً. وروح الحق هذا سيصبح فيهم بئر ماء حي ينبع نحو حياة أبدية.
181:1.5 (1954.2) "والآن, بينما أنا على وشك أن أترككم, سوف أتحدث بكلمات تعزية. سلام أترك معكم؛ سلامي أعطيه لكم. أنا أقدم هذه الهدايا ليس كما يعطي العالَم ــ بمكيال ــ أعطي كل واحد منكم كل ما سيستلمه. فلا تقلق قلوبكم, ولا تدعوها تخاف. لقد تغلبت على العالَم, وفيَ ستنتصرون جميعاً بالإيمان. لقد حذرتكم أن ابن الإنسان سيُقتَل, لكن أؤكد لكم أنني سأعود قبل أن أذهب إلى الأب, على الرغم من أن ذلك سيكون لفترة قصيرة فقط. وبعد أن أكون قد صعدت إلى الأب, سأرسل بالتأكيد المعلم الجديد ليكون معكم وليقيم في قلوبكم بالذات. وعندما ترون كل هذا يمر, لا تيأسوا, بل آمِنوا, بقدر ما كنتم تعرفون كل ذلك مسبقاً. لقد أحببتكم بود عظيم, ولن أود ترككم, لكنها مشيئة الأب. لقد حانت ساعتي.
181:1.6 (1954.3) "لا تشّكوا بأي من هذه الحقائق حتى بعد أن تتشتتوا في الخارج بالاضطهاد وينكسر خاطركم بأحزان كثيرة. عندما تشعرون أنكم وحدكم في العالَم, سوف أعلم بعزلتكم حتى كما, عندما تتشتتون كل إنسان إلى مكانه الخاص, تاركين ابن الإنسان في أيدي أعدائه, ستعرفون عن خاصتي. لكنني لست وحدي أبداً؛ الأب دائماً معي. حتى عند مثل هذا الوقت سأصَّلي من أجلكم. وكل هذه الأشياء قد أخبرتكم عنها بحيث قد يكون لديكم سلام ويكون لديكم بوفرة أكثر. في هذا العالَم سيكون لديكم إبتلاء, لكن كونوا ذوي بهجة جيدة؛ لقد انتصرت في العالَم وأريتكم الطريق إلى الفرح الأبدي والخدمة الأبدية."
181:1.7 (1954.4) يعطي يسوع السلام لزملائه الذين يعملون بمشيئة الله لكن ليس حسب أفراح وإرضاءات هذا العالَم المادي. الماديون غير المؤمنين والقدريون يمكنهم أن يأملوا بالإستمتاع بنوعين فقط من السلام وراحة النفـْس: إما أن يكونوا متحملين, بعزم ثابت عازمين على مواجهة ما لا مفر منه وتحمل الأسوأ؛ أو أن يكونوا متفائلين, منغمسين دائماً في ذلك الأمل الذي ينبع أبدياً في صدر الإنسان, يتوقون عبثاً إلى سلام لا يأتي أبداً في الحقيقة.
181:1.8 (1954.5) قدر معين من الرزانة والتفاؤل يمكن الاستفادة منه في عيش حياة على الأرض, لكن أي منها لا علاقة له بذلك السلام الرائع الذي يغدقه ابن الله على إخوانه في الجسد. السلام الذي يمنحه ميخائيل لأولاده على الأرض هو ذلك السلام ذاته الذي ملأ نفسه الخاصة عندما عاش هو نفسه الحياة الفانية في الجسد وعلى هذا العالَم بالذات. سلام يسوع هو فرح ورضى فرد عارف الله الذي أنجز انتصار التعلم بشكل كامل لكيفية فعل مشيئة الله بينما يعيش الحياة الفانية في الجسد. تأسس سلام عقل يسوع على إيمان إنساني مُطلق في حقيقة حكمة الأب الإلَهية والمتعاطفة. واجه يسوع مشاكل على الأرض, هو حتى دُعي زوراً "رَجل الأحزان". لكن في ومن خلال كل هذه التجارب تمتع براحة تلك الثقة التي مكنته أبداً من المضي قُدماً في هدف حياته في التأكد التام من أنه كان يحقق مشيئة الأب.
181:1.9 (1954.6) كان يسوع مصمماً, ومثابراً, ومكرساً كلياً لإنجاز مهمته, لكنه لم يكن رصيناً عديم المشاعر وعديم التأثر؛ لقد سعى على الدوام للجوانب المبهجة لتجارب حياته, لكنه لم يكن متفائلاً أعمى ومضللاً-بالذات. عرف السيد كل ما كان سيحل به, ولم يكن خائفًا. بعد أن أغدق هذا السلام على كل من أتباعه, كان بإمكانه القول بثبات, "فلا تضطرب قلوبكم, ولا تدعوها تخاف."
181:1.10 (1955.1) سلام يسوع, إذن, هو سلام وثقة الابن الذي يؤمن كلياً بأن مهمته من أجل الزمن والأبدية هي بأمان وكلياً في رعاية وحفظ أب الروح الكلي الحكمة, والكلي المحبة, والكلي القدرة. وهذا, في الواقع, سلام يتخطى فهم العقل الفاني, لكن الذي يمكن التمتع به إلى الطفح بالقلب الإنساني المؤمن.
181:2.1 (1955.2) كان السيد قد انتهى من إعطاء إرشاداته الوداعية ونقل تحذيراته النهائية إلى الرُسل كمجموعة. بعد ذلك وجه كلامه ليقول وداعاً فردياً ولإعطاء كل فرد كلمة نصيحة شخصية, مع بركته للفراق. كان الرُسل لا يزالون جالسين حول المائدة كما عندما جلسوا عند البداية لتناول العشاء الأخير, وبينما دار السيد حول المائدة يتكلم إليهم, قام كل رَجل على قدميه عندما خاطبه يسوع.
181:2.2 (1955.3) ليوحنا, قال يسوع: "أنت, يا يوحنا, أصغر إخواني. لقد كنت قريباً جداً مني, وبينما أحبكم جميعاً بذات المحبة التي أغدقها الأب على أبنائه, أنت تم تعيينك من قبل أندراوس كواحد من الثلاثة الذين يجب أن يكونوا دائماً بالقرب مني. إلى جانب هذا, لقد عملتَ من أجلي ويجب أن تستمر في العمل في العديد من الأمور المتعلقة بعائلتي الأرضية. وأنا ذاهب إلى الأب, يا يوحنا, أنا على ثقة تامة بأنك ستستمر في مراقبة من هم لي في الجسد. انظر بأن حيرتهم الحالية بشأن مهمتي لا تمنع بأي حال من الأحوال أن تقدم لهم كل التعاطف, والمشورة, والمساعدة حتى كما تعرف كنت سأفعل لو بقيت في الجسد. وعندما يأتون جميعًا ليروا النور ويدخلوا نحو الملكوت بالكامل, بينما كلكم سترحبون بهم بفرح, أعتمد عليك, يا يوحنا, أن ترحب بهم عني.
181:2.3 (1955.4) "والآن بينما أدخل في الساعات الختامية من مسيرتي الأرضية, أبقى بقربي بحيث يمكنني أن أترك أي رسالة معك بخصوص عائلتي. فيما يتعلق بالعمل الذي وضعه الأب بين يدي, لقد انتهى الآن باستثناء من أجل موتي في الجسد, وأنا على استعداد لشرب هذه الكأس الأخيرة. لكن فيما يتعلق بالمسؤوليات التي تركها لي أبي الأرضي, يوسف, بينما واظبت على هذه أثناء حياتي, يجب الآن أن أعتمد عليك لتتصرف بدلاً مني في كل هذه الأمور. وقد اخترتك للقيام بهذا من أجلي, يا يوحنا, لأنك الأصغر سنًا ولذلك من المحتمل جدًا أن تعيش أكثر من هؤلاء الرُسل الآخرين.
181:2.4 (1955.5) "مرةً دعوتكما أنت وشقيقك أبناء الرعد. بدأتما معنا بعقول قوية وغير متسامحة, لكنك تغيرت كثيراً منذ أن أردتني أن أدعو ناراً لتنزل على رؤوس غير المؤمنين الجهلاء وعديمي التفكير. ويجب أن تتغير حتى أكثر. يجب أن تصبح رسول الوصية الجديدة التي أعطيتها لكم هذه الليلة. كَرِس حياتك لتعليم إخوانك كيف يحبون بعضهم البعض, حتى كما أحببتكم."
181:2.5 (1955.6) بينما وقف يوحنا زَبـِدي هناك في العلية, الدموع منهمرة على وجنتيه, نظر إلى وجه السيد وقال: "وهكذا سأفعل, يا سيدي, لكن كيف يمكنني أن أتعلم أن أحب إخواني أكثر؟" وعندئذٍ أجاب يسوع: "سوف تتعلم أن تحب إخوانك اكثر عندما تتعلم أولاً أن تحب أبيهم في السماء أكثر, وبعد أن تصبح بحق أكثر اهتماماً برفاهيتهم مع الوقت وفي الأبدية. وكل هكذا اهتمام إنساني يتعزز من خلال التعاطف المتفهم, والخدمة غير الأنانية, والمغفرة غير المحدودة. لا ينبغي لأي شخص أن يستخف بشبابك, لكني أنصحك دائمًا بإيلاء الاعتبار المستحق لحقيقة أن العمر غالب الأحيان يمثل الخبرة, وبأن لا شيء في الشؤون الإنسانية يمكنه أن يحل محل التجربة الفعلية. احرص على أن تعيش بسلام مع كل الناس, خاصةً أصدقاؤك في أخوة الملكوت السماوي, و, يا يوحنا, دائماً تذكَّر لا تجاهد مع النفوس التي تود كسبها من أجل الملكوت."
181:2.6 (1956.1) وبعد ذلك عابر السيد, حول مقعده الخاص, توقف للحظة بجانب مكان يوداص إسخريوط, اندهش الرُسل بأن يوداص لم يعد قبل هذا, وكانوا فضوليين جداً لمعرفة مغزى ملامح يسوع الحزينة بينما وقف بجانب مقعد الخائن الشاغر. لكن لم يكن أي منهم, باستثناء ربما أندراوس, قد خالج حتى أدنى فكرة بأن أمين صندوقهم كان قد خرج ليخون سيده, كما كان يسوع قد ألمح إليهم في وقت مبكر من المساء وفي أثناء العشاء. كان هناك الكثير مما يحدث بحيث, للوقت الكائن, كانوا قد نسوا تماماً إعلان السيد بأن واحداً منهم سيخونه.
181:2.7 (1956.2) ذهب يسوع الآن إلى سمعان زيلوطس, الذي وقف واستمع إلى هذا التحذير: "أنت ابن حقيقي لإبراهيم, لكن أي وقت أمضيته مُحاولاً أن أجعلك ابناً لهذا الملكوت السماوي. أحببتك وكذلك يفعل جميع إخوانك. أعلم أنك تحبني, يا سمعان, وبأنك تحب الملكوت أيضاً, لكنك ما زلت عازمًا على جعل هذا الملكوت يأتي وفقاً لرغبتك. أعلم جيداً بأنك ستدرك في نهاية المطاف الطبيعة الروحية لإنجيلي ومعناه, وبأنك ستقوم بعمل بطولي في إعلانه, لكنني أشعر بالأسى لما قد يحدث لك عندما أرحل. سأتهلل لمعرفة أنك لن تتعثر؛ سأفرح إذا أمكنني معرفة أنك, بعد ما أذهب إلى الأب, لن تتوقف لتكون رسولًا لي, وبأنك ستنفي نفسك بشكل مُرْضٍ كسفير للملكوت السماوي."
181:2.8 (1956.3) بالكاد توقف يسوع عن التحدث إلى سمعان زيلوطس عندما أجابه الوطني الناري, وهو يجفف عينيه: "يا سيد, لا يكن لديك أي مخاوف على ولائي, لقد أدرت ظهري لكل شيء بحيث قد أكرس حياتي لتأسيس ملكوتك على الأرض. وسوف لن أتعثر. لقد نجوت من كل خيبة أمل حتى الآن, ولن أهجرك."
181:2.9 (1956.4) وحينئذٍ, واضعاً يده على كتف سمعان, قال يسوع: "إنه لمن المنعش حقاً سماعك تتكلم هكذا, خاصة في وقت مثل هذا, لكن, يا صديقي الصالح, ما زلت لا تعرف ما الذي تتحدث عنه. ولا للحظة واحدة سأشك بولائك, بتفانيك؛ أعرف أنك لن تتردد في الخروج في معركة والموت من أجلي, كما سيفعل كل هؤلاء الآخرين" (وجميعهم أومأوا بموافقة قوية), "لكن ذلك لن يكون مطلوباً منكم. لقد أخبرتكم مراراً بأن ملكوتي ليس من هذا العالَم, وبأن تلاميذي لن يحاربوا لإحداث تأسيسه. لقد أخبرتك بهذا مرات عديدة, يا سمعان, لكنك ترفض مواجهة الحقيقة. أنا لست مهتماً بولاءك لي وللملكوت, لكن بما ستفعله عندما أرحل وتصحو أخيراً على إدراك أنك فشلت في فهم معنى تعليمي, و أنه يجب عليك تعديل مفاهيمك الخاطئة مع واقع نظام آخر وروحي للشؤون في الملكوت؟"
181:2.10 (1956.5) أراد سمعان أن يتكلم أكثر, لكن يسوع رفع يده, وأوقفه, تابع قائلاً: "لا أحد من رسلي أكثر إخلاصاً وأمانة في القلب منك, لكن أياً منهم لن يكون منزعجاً ومُحبطاً مثلك, بعد رحيلي. في كل تثبيط عزمك ستقيم روحي معك, وهؤلاء, إخوانك, لن يهجروك. لا تنسى ما علـَّمتك بما يخص علاقة المواطنة على الأرض بالبنوة في ملكوت الأب الروحي. تمعن جيداً بكل ما قلته لكم عن إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. كرس حياتك, يا سمعان, لإظهار كيف يمكن للإنسان الفاني بشكل مقبول أن يفي بإيعازي بما يخص الإعتراف في وقت واحد بالواجب الدنيوي للسلطات المدنية والخدمة الروحية في أخوة الملكوت. إذا كنت ستُعَّلم بروح الحق, فلن يكون هناك أي تعارض بين متطلبات المواطنة على الأرض والبنوة في السماء ما لم يزعم الحكام الدنيويون أن يتطلبوا منكم الولاء والعبادة اللذين يخصان الله وحده.
181:2.11 (1957.1) "والآن, يا سمعان, عندما ترى كل هذا أخيراً, وبعد أن تكون قد نفضت عنك كآبتك وانطلقت معلناً هذا الإنجيل بقدرة عظيمة, لا تنسى أبداً بأني كنت معك حتى خلال كل موسم الإحباط الخاص بك, وأنني سأستمر معك حتى النهاية. ستكون دائماً رسولًا لي, وبعد أن تصبح راغباً في الرؤية بعين الروح وبشكل أكثر اكتمالاً لتُخضع مشيئتك إلى مشيئة الأب في السماء, عند ذاك ستعود للعمل كسفير لي, ولا أحد سيأخذ منك السُلطة التي منحتها لك, بسبب بطئك في استيعاب الحقائق التي علمتك إياه. وهكذا, يا سمعان, مرة أخرى أحذرك بأن الذين يحاربون بالسيف يهلكون بالسيف, في حين أن الذين يتعبون في الروح يحققون الحياة الأبدية في الملكوت الآتي مع فرح وسلام في الملكوت الذي هو الآن. وعندما ينتهي العمل المُعطى ليديك على الأرض, أنت, يا سمعان, ستجلس معي في ملكوتي هناك. سترى حقاً الملكوت الذي اشتقت إليه, لكن ليس في هذه الحياة. استمر في الإيمان بي وبما قد كشفته لك, وستنال عطية الحياة الأبدية."
181:2.12 (1957.2) عندما انتهى يسوع من حديثه إلى سمعان زيلوطس, تقدم إلى متـّى لاوي وقال: "لن يؤول إليك بعد الآن لتزود من أجل خزينة الجماعة الرسولية. قريباً, قريباً جداً, ستكونون جميعًا مشتتين؛ لن يُسمح لكم بالتمتع بالرفقة المريحة والداعمة حتى لواحد من إخوانكم. وبينما تمضون قدمًا في وعظ إنجيل الملكوت هذا, عليكم أن تجدوا لأنفسكم زملاء جُدد. لقد أرسلتكم اثنين واثنين أثناء أوقات تدريبكم, لكن الآن حيث أنني تارككم, بعد أن تتعافوا من الصدمة, ستخرجون وحدكم, وإلى نهايات الأرض, معلنين هذه البشائر: بأن البشر المشحوذي الهمة-بالإيمان هم أبناء الله."
181:2.13 (1957.3) عند ذاك تكلم متـّى: "لكن, يا سيد, من سيرسلنا, وكيف سنعرف أين نذهب؟ هل سيرشدنا أندراوس إلى الطريق؟", فأجاب يسوع: "لا, يا لاوي, لن يوَّجهكم أندراوس بعد الآن في إعلان الإنجيل. هو, في الواقع, سيظل صديقك وناصحك حتى ذلك اليوم الذي يأتي فيه المعلم الجديد, وحينذاك سيقود روح الحق كل واحد منكم للخارج للعمل من أجل امتداد الملكوت. لقد طرأت عليك العديد من التغييرات منذ ذلك اليوم في مصلحة الجمارك عندما بدأت تتبعني؛ لكن يجب أن يأتي الكثير قبل أن تتمكن من رؤية رؤيا الأخوة التي فيها يجلس الأممي جنباً إلى جنب مع اليهودي في زمالة أخوية. لكن استمر في رغبتك في كسب إخوانك اليهود إلى أن تكون راضياً كلياً وبعد ذلك تحوَّل بقوة إلى الأمميين. شيء واحد يمكنك أن تكون متأكداً منه, يا لاوي: لقد كسبت ثقة وعطف إخوانك؛ كلهم يحبونك." (وكل العشرة منهم أومأوا إلى موافقتهم لكلمات السيد.)
181:2.14 (1958.1) "يا لاوي, أعرف الكثير عن همومك وتضحياتك, وجهدك للحفاظ على الخزينة ممتلئة مما لا يعرفه إخوانك, وأنا متهلل بأنه, ولو إن الذي حمل الحقيبة غائب, فإن السفير العشار هنا في اجتماع وداعي مع رسل الملكوت. أدعو الله أن تفطن لمعنى تعليمي بعيون الروح. وعندما يأتي المعلم الجديد إلى قلبك, اتبعه كما سيقودك ودع إخوانك يرون ــ حتى كل العالَم ــ ما يمكن أن يفعله الأب من أجل جابي ضرائب مكروه تجرأ على اتباع ابن الإنسان وعلى الإيمان بإنجيل الملكوت. حتى منذ الأول, يا لاوي, أحببتك كما أحببت هؤلاء الجليليين الآخرين. عارف حينذاك جيداً بأن لا الأب ولا الابن لديهما محاباة أشخاص, انظر بأنك لا تميز بين أولئك الذين يصبحون مؤمنين بالإنجيل من خلال إسعافك. وهكذا, يا متـّى, كرس خدمة حياتك المستقبلية بأكملها لتُظهر لكل الناس بأن الله ليس عنده محاباة أشخاص؛ بأنه, في نظر الله وفي زمالة الملكوت, كل الناس متساوون, جميع المؤمنين هم أبناء الله."
181:2.15 (1958.2) بعد ذلك تقدم يسوع إلى يعقوب زَبـِدي, الذي وقف في صمت بينما خاطبه السيد, قائلاً: "يعقوب, عندما أتيت أنت وأخوك الأصغر ذات مرة لي طالبين التفضيل في مرتبة الشرف للملكوت, وأخبرتكما بأن مثل هذه التشريفات هي للأب ليغدقها, سألت إذا كنتما قادرين على أن تشربا كأسي, وكِلاكما أجبتما بأنكما كذلك. حتى لو لم تكونا حينذاك قادران, وإذا كنتما غير قادرين الآن, ستكونان متهيئين قريباً لمثل هذه الخدمة من خلال التجربة التي أنتما على وشك المرور بها. بهكذا تصرف أغضبتما إخوانكما في ذلك الوقت. إذا لم يسامحونكما تماماً بالفعل, فسوف يفعلون ذلك عندما يرونكما تشربان كأسي. سواء كان إسعافكما لفترة طويلة أو قصيرة, أمسكا أنفسكما في صبر. عندما يأتي المعلم الجديد, دعوه يعلمكم اتزان التراحم وذلك التسامح الوجداني المولود من الثقة السامية بي ومن الاستسلام التام لمشيئة الأب. كرس حياتك لإظهار ذلك الود الإنساني المُتكافل والكرامة الإلَهية للتلميذ العارف بالله والمؤمن بالابن. وكل من يعيش هكذا سيعلن الإنجيل حتى في طريقة موته. ستذهب أنت وأخوك يوحنا في طرق مختلفة, وقد يجلس أحدكما معي في الملكوت الأبدي قبل الآخر بوقت طويل. سيساعدك كثيراً إذا كنت ستتعلم بأن الحكمة الحقيقية تشمل التقدير بالإضافة إلى الشجاعة. يجب أن تتعلم الفطنة لتتماشى مع عدوانيتك. هناك ستأتي تلك اللحظات السامية التي لن يتردد فيها تلاميذي في التضحية بحياتهم من أجل هذا الإنجيل, لكن في كل الظروف الاعتيادية سيكون من الأفضل بكثير استرضاء سخط غير المؤمنين بحيث قد تعيش وتواصل الوعظ بالبشائر المبهجة. لغاية ما يقع في قدرتك, عش طويلاً على الأرض بحيث قد تكون حياتك لسنوات عديدة مثمرة في نفوس كُسِبت للملكوت السماوي."
181:2.16 (1958.3) عندما انتهى السيد من التحدث إلى يعقوب زَبـِدي, خطى حول المائدة إلى نهايتها حيث جلس أندراوس, وناظر إلى مساعده المخلص في عينيه, قال: أندراوس, لقد مَّثلتني بإخلاص كرئيس بالنيابة لسفراء الملكوت السماوي. مع أنك شككت بعض الأحيان وفي أوقات أخرى أظهرت استحياء خطيرًا, إلا أنك, كنت دائماً مخلصاً تماماً ومُنصفاً برِفعة في التعامل مع زملائك. منذ رسامتك أنت وإخوانك كرُسل للملكوت, كنت حاكماً-ذاتياً في جميع الشؤون الإدارية للمجموعة باستثناء أنني قمت بتعيينك كرئيس بالنيابة لهؤلاء المختارين. ولا في أي أمر دنيوي آخر تصرفت لتوجيه قراراتك أو التأثير عليها. وقد قمت بهذا من أجل أن أوفر للقيادة في توجيه كل مداولاتك اللاحقة للمجموعة. في كوني وفي عالم أكوان أبي, يتم التعامل مع أبنائنا-إخواننا كأفراد في جميع علاقاتهم الروحية, لكن في جميع العلاقات الجماعية نوفر بلا كلل من أجل قيادة محددة. ملكوتنا هو عالم من النظام, وحيث يعمل اثنان أو أكثر من مخلوقات المشيئة في تعاون, دائماً تُزود السُلطة للقيادة.
181:2.17 (1959.1) "والآن, يا أندراوس, بما أنك رئيس إخوانك بموجب سُلطة تعييني, وحيث إنك خدمت بهذا كممثل شخصي لي, وبما أنني على وشك أن أترككم وأذهب إلى أبي, فأنا أعفيك من كل مسؤولية فيما يتعلق بهذه الشؤون الدنيوية والإدارية. من الآن فصاعداً ينبغي ألا تمارس أي سلطة على إخوانك ما عدا ما قد اكتسبته بصفتك قائداً روحياً, والذي يعترف به إخوانك بالتالي بحرية. من هذه الساعة لا يجوز لك ممارسة أي سُلطة فوق إخوانك ما لم يعيدوا لك هذه السلطة القضائية من خلال إجراء تشريعي محدد بعد أن أكون قد ذهبت إلى الأب. لكن هذا الإعفاء من المسؤولية كرئيس إداري لهذه الجماعة لا يقلل بأي حال من مسؤوليتك الأخلاقية في أن تبذل كل ما في وسعك لتمسك إخوانك معاً بيد حازمة ومُحبة خلال الوقت العصيب الذي أمامكم بالضبط, تلك الأيام التي يجب أن تتداخل بين رحيلي في الجسد وإرسال المعلم الجديد الذي سيسكن في قلوبكم, والذي سيقودكم في النهاية إلى كل الحقيقة. بينما أستعد لأترككم, أود تحريركم من كل مسؤولية إدارية التي كانت بدايتها وسُلطتها في حضوري كواحد بينكم. من الآن فصاعداً سأمارس فقط سُلطة روحية عليكم وبينكم.
181:2.18 (1959.2) "إذا كان إخوانك يرغبون في الإحتفاظ بك كمستشار لهم, فأنا أوصي بأنك يجب أن تبذل قصارى جهدك في جميع الأمور الدنيوية والروحية, لتعزيز السلام والوئام بين الجماعات المختلفة من مؤمني الإنجيل المخلصين. كرّس بقية حياتك لتعزيز الجوانب العملية للمحبة الأخوية بين إخوانك. كن رؤوفاً بأشقائي في الجسد عندما يأتون ليؤمنوا تماماً بهذا الإنجيل؛ اظهر تكريساً محباً ومُحايداً لليونانيين في الغرب ولأبنير في الشرق. مع أن هؤلاء, رُسلي, سوف يتشتتون قريباً إلى زوايا الأرض الأربعة, هناك ليُعلنوا البشرى عن الخلاص في البنوة مع الله, أنت لتمسكهم معاً خلال الوقت العصيب الذي أمامكم بالضبط, ذلك الفصل من الإختبار الشديد الذي يجب أن تتعلم في أثنائه أن تؤمن بهذا الإنجيل دون حضوري الشخصي بينما تنتظر بصبر وصول المعلم الجديد, روح الحق. وهكذا, يا أندراوس, رغم أنه قد لا يقع على عاتقك القيام بالأعمال العظيمة كما يراها الناس, كن قانعاً بأن تكون المعلم والمستشار لأولئك الذين يفعلون مثل هذه الأشياء. استمر في عملك على الأرض حتى النهاية, وبعد ذلك ستواصل هذه الخدمة في الملكوت الأبدي, ألم أخبركم مرات عديدة بأن لدي خرافًا أخرى ليست من هذا القطيع؟"
181:2.19 (1959.3) بعد ذلك ذهب يسوع إلى التوأم الألفيوس, وواقف بينهما, قال: "يا أولادي الصغار, أنتما إحدى المجموعات الثلاث من الإخوة الذين اختاروا أن يتبعوني. كل الستة منكم قد فعلتم حسناً بأن تعملوا بسلام مع لحمكم ودمكم, لكن لا أحد قام بعمل أفضل منكما. أوقات صعبة أمامنا بالضبط. قد لا تفهمان كل ما سيصيبكما وإخوانكما, لكن لا تشكا أبداً في أنه تم استدعاؤكما مرة إلى عمل الملكوت. لبعض الوقت لن يكون هناك جموع لتديروها, لكن لا تصبحا مثبطا العزيمة؛ عندما ينتهي عمل حياتكما, سأستقبلكما في العُلى, حيث ستخبران في مجد عن خلاصكما للجيوش السيرافية ولجموع من أبناء الله العظماء. كرّسا حياتكما لتعزيز الكدح المألوف. أريا كل الناس على الأرض والملائكة في السماء كم ببهجة وشجاعة يمكن للإنسان الفاني, بعد أن دُعِيَ للعمل لفصل في الخدمة الخاصة لله, أن يعود لأشغال الأيام السابقة. إذا, كان ينبغي للوقت الكائن, أن يكتمل عملكما في الشؤون الظاهرية للملكوت, فيجب عليكما العودة إلى أعمالكما السابقة مع الإستنارة الجديدة لتجربة البنوة مع الله ومع الإدراك الممجد بأن, إليه العارف بالله, ليس هناك شيء مثل العمل العام أو الكدح الدنيوي. لكم الذين عملتم معي, قد أصبحت كل الأشياء مقدسة, وكل عمل أرضي قد أصبح خدمة حتى لله الأب. وعندما تسمعان أخبار أفعال زملائكما الرسوليين السابقين, تهللا معهم واستمرا في عملكما اليومي مثل أولئك الذين ينتظرون الله ويخدمون بينما ينتظرون. لقد كنتما رسلًا لي, ودائماً ستكونان, وسأتذكركما في الملكوت الآتي."
181:2.20 (1960.1) ثم ذهب يسوع إلى فيليبُس, الذي بينما هو واقف, سمع هذه الرسالة من سيده: "فيليبُس, لقد سألتني العديد من الأسئلة الحمقاء, لكنني بذلت قصارى جهدي لأجيب على كل منها, والآن أود أن أجيب على الأخير من هكذا أسئلة التي نشأت في عقلك الأكثر صدقاً إنما غير الروحي. كل الوقت الذي كنت آتي فيه حول المائدة نحوك, كنت تقول لنفسك, ’ماذا سأفعل إذا مضى السيد وتركنا وحدنا في العالم؟‘ أيها القليل الإيمان! ومع ذلك لديك تقريباً بقدر الكثير من إخوانك. لقد كنت وكيلاً صالحاً, يا فيليبُس. لقد خذلتنا مرات قليلة فقط, وإحدى تلك الإخفاقات استخدمناها لإظهار مجد الأب. وظيفتك كوكيل على وشك أن تنتهي. يجب أن تقوم قريباً بشكل أتم بالعمل الذي دُعيت للقيام به ــ وعظ هذا الإنجيل للملكوت. فيليبُس, كنت دائماً تريد أن تُرى, وقريباً جداً سترى أشياء عظيمة. كان من الأفضل بكثير لو أنك رأيت كل هذا بالإيمان, لكن بما أنك كنت مُخْلِصاً حتى في نظرتك المادية, ستعيش لترى كلماتي تتم. وعند ذلك, عندما تُبارَك بالرؤية الروحية, انطلق إلى عملك, مكرساً حياتك لقضية قيادة البشرية للبحث عن الله والسعي إلى الحقائق الأبدية بعين الإيمان الروحي وليس بعيون العقل المادي. تذكَّر, فيليبُس, لديك مهمة عظيمة على الأرض, لأن العالَم مملوء بأولئك الذين ينظرون إلى الحياة تمامًا كما كنت ميالاً لتتطلع. لديك عمل عظيم لتقوم به, وعندما ينتهي في إيمان, ستأتي إلي في ملكوتي, وسيسعدني كثيراً أن أريك ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على عقل بشر. في هذه الأثناء, كن طفلاً صغيراً في ملكوت الروح واسمح لي, كروح المعلم الجديد, أن أقودك إلى الأمام في الملكوت الروحي. وبهذه الطريقة سأكون قادراً على فعل الكثير من أجلك مما لم أتمكن من تحقيقه عندما مكثت معكم كبشري من الحيز. ودائماً تذكَر, فيليبُس, مَن رآني فقد رأى الأب."
181:2.21 (1960.2) بعد ذلك ذهب السيد إلى نثانئيل. عندما وقف نثانئيل, أمره يسوع بالجلوس, وجالس إلى جانبه, قال: "نثانئيل, لقد تعلمت أن تعيش فوق التحيز وأن تمارس تسامحاً متزايداً منذ أن أصبحت رسولًا لي. لكن هناك الكثير من أجلك لتتعلمه. لقد كنت نعمة لزملائك بأنهم كانوا دائماً منصوحين بإخلاصك الثابت. عندما أكون قد رحلت, ربما تتعارض صراحتك مع توافقك مع إخوانك, القدماء والجدد على حد سواء, يجب أن تتعلم بأن التعبير حتى عن التفكير الصالح يجب تعديله وفقاً للوضع الفكري والتطور الروحي للسامع. الإخلاص هو الأكثر فائدة للخدمة في عمل الملكوت عندما يقترن بالتعقل.
181:2.22 (1961.1) "إن كنت تود أن تتعلم أن تعمل مع إخوانك, فقد تنجز المزيد من الأشياء الدائمة, لكن إذا وجدت نفسك تنطلق بحثًا عن أولئك الذين يفكرون كما تفعل, في تلك الحالة كـّرس حياتك لإثبات أن التلميذ الذي يعرف الله يمكنه أن يصبح باني ملكوت حتى لو كان وحيدًا في العالَم ومعزولًا تمامًا عن زملائه المؤمنين. أعلم أنك ستكون مُخلصاً حتى النهاية, ويوما ما سأرحب بك في الخدمة الموسَّعة لملكوتي على العُلى."
181:2.23 (1961.2) حينئذٍ تكلم نثانئيل, سائلاً يسوع هذا السؤال: "لقد استمعت إلى تعليمك منذ أن دعوتني لأول مرة لخدمة هذا الملكوت, لكنني بأمانة لا أستطيع أن أفهم المعنى الكامل لكل ما تخبرنا إياه. لا أعرف ماذا أتوقع بعد ذلك, وأعتقد أن معظم إخواني يشعرون بالحيرة بالمثل, لكنهم يترددون في الاعتراف بارتباكهم. هل يمكنك أن تساعدني؟" يسوع واضع يده على كتف نثانئيل, قال: "يا صديقي, ليس من الغريب بأنك يجب أن تواجه الحيرة في محاولتك لفهم معنى تعاليمي الروحية حيث إنك معوق للغاية بتصوراتك المسبقة عن التقاليد اليهودية ومرتبك جداً بسبب ميلك المستمر لتفَسير إنجيلي وفقاً لتعاليم الكتبة والفريسيين.
181:2.24 (1961.3) "لقد عَّلمتكم الكثير عن طريق الكلمات الشفهية, وعشت حياتي بينكم. لقد فعلت كل ما يمكن فعله لتنوير عقولكم ولتحرير نفوسكم, وما لم تكونوا قادرين للحصول عليه من تعاليمي وحياتي, يجب الآن أن تستعدوا لاكتسابه على يد ذلك السيد لكل المعلمين ــ خبرة فعلية. وفي كل هذه التجربة الجديدة التي تنتظركم الآن, سأذهب أمامكم وسيكون روح الحق معكم. لا تخافوا؛ ما تفشلون في فهمه الآن, سيكشفه لكم المعلم الجديد, عندما يأتي, طوال ما تبقى من حياتكم على الأرض واستمراراً خلال تدريبكم في العصور الأبدية."
181:2.25 (1961.4) وبعد ذلك السيد, متحول إليهم جميعاً, قال: "لا تيأسوا لأنكم تفشلون في فهم المعنى الكامل للإنجيل. ما أنتم سوى متناهيين, أناس بشر, وما عَّلمتكم إياه هو لانهائي, وإلَهي وأبدي. كونوا صبورين وذوي شجاعة جيدة حيث إن لديكم العصور الأبدية أمامكم لتواصلوا خلالها إحرازكم التدريجي لتجربة أن تصبحوا مثاليين, حتى كما أباكم في الفردوس مثالي."
181:2.26 (1961.5) ثم ذهب يسوع إلى توما, الذي, واقف, سمعه يقول: "توما, غالباً ما كنت تفتقر إلى الإيمان؛ مع ذلك, عندما كانت لديك فصولك مع الشك, لم تنقصك الشجاعة أبداً. أنا أعلم جيداً بأن الأنبياء الكذبة والمعلمين الزائفين لن يخدعوك. وبعد ما أكون قد ذهبت, سوف يُقـَّدِر إخوانك أكثر طريقتك الانتقادية في رؤية التعاليم الجديدة. وعندما تتشتت إلى أقاصي الأرض في الأوقات القادمة, تذكَّر بأنك ما زلت سفيري. كـَّرس حياتك للعمل العظيم المتمثل في إظهار كيف يمكن لعقل الإنسان المادي المنتقد أن ينتصر على الجمود في الشك الفكري عندما يواجَه بإظهار تجلي الحق الحي بينما يعمل في تجربة رجال ونساء مولودين بالروح الذين ينتجون ثمار الروح في معايشهم, والذين يحبون بعضهم البعض, حتى كما أحببتكم. توما, أنا مسرور لأنك انضممت إلينا, وأنا أعلم, أنه بعد فترة قصيرة من الحيرة, سوف تستمر في خدمة الملكوت. شكوكك قد حيَّرت إخوانك, لكنها لم تزعجني أبداً. لدي ثقة فيك, وسأذهب أمامك حتى إلى أقصى أجزاء الأرض."
181:2.27 (1962.1) بعد ذلك ذهب السيد إلى سمعان بطرس, الذي وقف بينما خاطبه يسوع: "بطرس, أنا أعلم أنك تحبني, وبأنك سوف تكرس حياتك للإعلان العلني لإنجيل الملكوت هذا لليهودي والأممي, لكنني منزعج لأن سنواتك من مثل هذه الصِلة الوثيقة معي لم تفعل المزيد لمساعدتك على التفكير قبل أن تتكلم. أي تجربة يجب أن تمر بها قبل أن تتعلم أن تضع حارساً على شفتيك؟ كم من المشاكل سببتها لنا من خلال كلامك الطائش, بثقتك بنفسك المتجرئة! وأنت مقـَّدر لك أن تبذل متاعب أكثر بكثير لنفسك إذا لم تسيطر على هذا الوهن. أنت تعلم بأن إخوانك يحبونك على الرغم من هذا الضعف, ويجب أن تفهم أيضاً بأن هذا القصور لا يُضعف بأي شكل من الأشكال ودي تجاهك, لكنه يقلل من منفعتك ولا يتوقف أبداً عن إثارة المتاعب لك. لكنك ستحصل بلا شك على مساعدة عظيمة من التجربة التي ستمر بها هذه الليلة بالذات. وما أقوله لك الآن, يا سمعان بطرس, سأقوله أيضاً لجميع إخوانك المجتمعين هنا: هذه الليلة ستكونون كلكم في خطر كبير من التعثر عَلَي. تعرفون أنه مكتوب, ’سيُضرب الراعي وتتشتت الخراف‘. عندما أكون غائباً, هناك خطر كبير من أن يستسلم بعضكم للشكوك ويتعثر بسبب ما يصيبني. لكنني أعدكم الآن بأنني سأعود إليكم لبعض الوقت, وبأني سأذهب بعد ذلك أمامكم إلى الجليل."
181:2.28 (1962.2) عندئذٍ قال بطرس, وهو يضع يده على كتف يسوع: "حتى ولو استسلم كل إخواني للشكوك بسببك, أعدك بأنني لن أتعثر على أي شيء قد تفعله. سأذهب معك, وإذا لزم الأمر, أموت من أجلك."
181:2.29 (1962.3) بينما وقف بطرس هناك أمام سيده, الجميع مرتعشين بالعاطفة الشديدة وطافحين بالمحبة الأصلية له, نظر يسوع مباشرة في عينيه المبللتين وهو يقول: "بطرس, الحق, الحق, أقول لك, هذه الليلة لن يصيح الديك حتى تكون قد أنكرتني ثلاث أو أربع مرات. وبالتالي فإن ما فشلت في أن تتعلمه من رفقتك المسالمة معي, سوف تتعلمه من خلال الكثير من المتاعب والعديد من الأحزان. وبعد أن تكون قد تعلمت حقاً هذا الدرس الضروري, يجب أن تقـَّوي إخوانك وتستمر في عيش حياة مكرسة لوعظ هذا الإنجيل, ولو إنك قد تقع في السجن, وربما, تتبعني في دفع الثمن الأعلى للخدمة المحبة في بناء ملكوت الأب.
181:2.30 (1962.4) "لكن تذكَّروا وعدي: عندما أقوم, سأتمهل معكم لفصل قبل أن أذهب إلى الاب. وحتى هذه الليلة سوف أتضرع إلى الاب أن يقـَّوي كل واحد منكم من أجل ما يجب أن تمروا به قريباً. أحبكم جميعًا بالمحبة التي يحبني بها الأب, ولذلك من الآن فصاعداً ينبغي أن تحبوا بعضكم بعضاً, حتى كما أحببتكم."
181:2.31 (1962.5) وبعد ذلك, بعدما أنشدوا ترنيمة, انطلقوا إلى المخيم على جبل الزيتون.
كِتاب يورانشيا
ورقة 182
182:0.1 (1963.1) كان حوالي الساعة العاشرة مساء هذا الخميس عندما قاد يسوع الرُسل الأحد عشر من بيت إيليا ومريم مرقس على طريق عودتهم إلى مخيم الجثسيماني. منذ ذلك اليوم في التلال, جعل يوحنا مرقس شغله ليحفظ عين حارسة على يسوع. يوحنا, كائن بحاجة إلى النوم, كان قد حصل على عدة ساعات من الراحة بينما كان السيد مع رُسله في العلية, لكن عندما سمعهم ينزلون إلى الطابق السفلي, قام وألقى بسرعة معطفًا من الكتان عليه, وتبعهم خلال المدينة, فوق غدير قدرون, واستمراراً إلى مخيمهم الخاص المجاور لمنتزه الجثسيماني. وبقي يوحنا مرقس قريباً جداً من السيد طوال هذه الليلة واليوم التالي بحيث شهد كل شيء وسمع الكثير مما قاله السيد من هذا الوقت وحتى ساعة الصَلب.
182:0.2 (1963.2) عندما عاد يسوع والآخرون إلى المخيم, بدأ الرُسل يتساءلون عن معنى غياب يوداص المُطول, وتحدثوا فيما بينهم بشأن تكهن السيد بأن واحداً منهم سيخونه, وللمرة الأولى ارتابوا بأن كل شيء لم يكن على ما يرام مع يوداص إسخريوط. لكنهم لم ينشغلوا في تعليق مفتوح عن يوداص حتى وصلوا المخيم ولاحظوا أنه لم يكن هناك, في انتظار استقبالهم. عندما كلهم حاصروا أندراوس ليعرفوا ماذا أصبح من أمر يوداص, قال رئيسهم فقط, "لا أعرف أين يوداص, لكنني أخشى أنه هجرنا."
182:1.1 (1963.3) بعد لحظات قليلة من وصولهم إلى المخيم, قال لهم يسوع: "أصدقائي وإخواني, وقتي معكم الآن قصير جداً, وأرغب بأن نتفرق بأنفسنا بينما نصَّلي لأبينا في السماء من أجل التقوية ليعضدنا في هذه الساعة ومن الآن فصاعداً في كل العمل الذي يتعين علينا أن نقوم به باسمه."
182:1.2 (1963.4) عندما قال يسوع هذا, قاد الطريق لمسافة قصيرة صعوداً إلى جبل الزيتون, وفي مشهد كامل لأورشليم أمرهم بالركوع على صخرة مسطحة واسعة في دائرة حوله كما فعلوا على يوم رسامتهم؛ وبعد ذلك, بينما وقف هناك في وسطهم مُمَجداً في ضوء القمر الخافت, رفع عينيه نحو السماء وصَّلى:
182:1.3 (1963.5) "أبتاه, لقد حانت ساعتي؛ الآن مَّجد ابنك بحيث يمجدك الابن. أعلم أنك قد منحتني سُلطة كاملة على جميع المخلوقات الحية في عالمي, وسأعطي الحياة الأبدية لكل الذين سيصبحون أبناء الله المؤمنين. وهذه هي الحياة الأبدية, بأن مخلوقاتي يجب أن يعرفوك على أنك الإله الحقيقي الوحيد وأب الجميع, وأنهم سيؤمنون بمن أرسلته إلى العالَم. أبتاه, لقد مجدتك على الأرض وأتممت العمل الذي أعطيتني لأقوم به. لقد أوشكت على الانتهاء من إغداقي على أولاد خليقتنا؛ لم يتبق لي سوى أن أسلم حياتي في الجسد. والآن, يا أبي, مجدني بالمجد الذي كان لي عندك قبل ما كان هذا العالَم واستقبلني مرة أخرى عند يمينك.
182:1.4 (1964.1) "لقد أظهرتك إلى الناس الذين اخترتهم من العالَم وأعطيتهم لي. هم لك ــ كما كل الحياة في يديك ــ أعطيتهم لي, وقد عشت بينهم, معلماً إياهم طريق الحياة, وقد آمنوا. هؤلاء الرجال يتعلمون بأن كل ما لدي يأتي منك, وأن الحياة التي أحياها في الجسد هي لتجعل أبي معروفاً للعالمين. الحق الذي أعطيته لي قد كشفته لهم. هؤلاء, أصدقائي, وسفرائي, أرادوا بصدق استلام كلمتك. لقد أخبرتهم بأني أتيت منك, وأنك أرسلتني إلى هذا العالَم, وأنني على وشك أن أعود إليك. أبتاه, أصَّلي من أجل هؤلاء الرجال المختارين. وأصَّلي من أجلهم ليس كما أود أن أصَّلي من أجل العالَم, لكن كما من أجل أولئك الذين اخترتهم من العالَم ليمثلوني إلى العالَم بعد أن أكون قد عدت إلى عملك, حتى كما مثـَّلتك في هذا العالَم أثناء حلولي في الجسد. هؤلاء الرجال هم خاصتي؛ أنت أعطيتهم لي؛ لكن كل ما هو لي هو دائماً لك, وكل ما كان لك جعلته الآن لي. لقد تمجدت فيّ, والآن أصَّلي أن أكون مكرماً في هؤلاء الرجال. ما عاد بإمكاني أن أكون في هذا العالم؛ أنا على وشك أن أعود إلى العمل الذي منحتني للقيام به. يجب أن أترك هؤلاء الرجال ورائي ليمثلونا ويمثلوا ملكوتنا بين الناس. أبتاه, احفظ هؤلاء الرجال مخلصين بينما أستعد لتسليم حياتي في الجسد. ساعد هؤلاء, أصدقائي, ليكونوا واحداً في الروح, حتى كما نحن واحد. طالما استطعت أن أكون معهم, يمكنني مراقبتهم وإرشادهم, لكنني الآن على وشك الرحيل. كن بالقرب منهم, يا أبتاه, إلى أن نتمكن من إرسال المعلم الجديد ليؤاسيهم ويقويهم.
182:1.5 (1964.2) "لقد أعطيتني اثني عشر رَجلاً, ولقد حفظتهم جميعاً ما عدا واحد, ابن الثأر, الذي لا يود يكون له المزيد من الزمالة معنا. هؤلاء الرجال ضعفاء وواهنون, لكنني أعلم أنه يمكننا الوثوق بهم؛ لقد أثبتهم؛ إنهم يحبونني, حتى كما يقدسونك. بينما يجب أن يكابدوا الكثير من أجلي, أرغب بأنهم يجب كذلك أن يكونوا مملوئين بفرح ضمان البنوة في الملكوت السماوي. لقد أعطيت هؤلاء الرجال كلمتك وعلـَّمتهم الحق. قد يكرههم العالَم, حتى كما كرهني, لكنني لا أسألك أن تأخذهم من العالَم, فقط بأن تحميهم من الشر في العالَم. قدّسهم في الحق؛ كلمتك هي الحق. وكما أرسلتني إلى هذا العالَم, فأنا على وشك إرسال هؤلاء الرجال إلى العالَم. من أجلهم عشت بين الناس وكرَّست حياتي لخدمتك بحيث قد ألهمهم أن يكونوا مطهرين من خلال الحق الذي علـَّمته لهم والمحبة التي كشفتها لهم. أعلم جيداً, يا أبي, أنه لا حاجة لي لأسألك أن تراقب فوق هؤلاء الإخوة بعد رحيلي؛ أعلم أنك تحبهم حتى مثلي, لكنني أفعل هذا بحيث قد يدركوا بشكل أفضل بأن الأب يحب الناس الفانين حتى كما يفعل الابن.
182:1.6 (1964.3) "والآن يا أبي, أود أن أصلي ليس فقط من أجل هؤلاء الرجال الأحد عشر ولكن أيضاً من أجل جميع الآخرين الذين يؤمنون الآن, أو الذين قد يؤمنوا فيما بعد بإنجيل الملكوت من خلال كلمة إسعافهم المستقبلي. أريدهم أن يكونوا كلهم واحداً, حتى كما أنا وأنت واحد. أنت فيِ داخلي وأنا فيك, وأرغب بأن يكون هؤلاء المؤمنون بالمثل فينا؛ بحيث كِلا روحينا تسكنهم. إذا كان أولادي واحداً مثلما نحن واحد, وإذا كانوا يحبون بعضهم البعض كما أحببتهم, عندها سيؤمن كل الناس بأنني أتيت منك ويكونوا راغبين ليستقبلوا وحي الحق والمجد الذي صنعتُه. المجد الذي أعطيتني قد كشفته لهؤلاء المؤمنين. كما عشت معي في الروح, هكذا عشتُ معهم في الجسد. كما كنت واحداً معي, هكذا كنتُ واحداً معهم, وكذلك سيكون المعلم الجديد دائماً واحداً معهم وفيهم. وكل هذا فعلته لكي يعرف إخواني في الجسد أن الأب يحبهم حتى كما يحبهم الابن, وأنك تحبهم حتى كما تحبني. أبتاه, اعمل معي لإنقاذ هؤلاء المؤمنين بحيث في الحاضر قد يأتوا ليكونوا معي في المجد وبعد ذلك يستمرون للانضمام إليك في احتضان الفردوس. أولئك الذين يخدمون معي في تواضع, أود أن يكونوا معي في المجد حتى يروا كل ما أعطيته ليدي كالحصاد الأبدي لبذرة زُرعت في الزمن في شبه الجسد الفاني. أتوق لأُري إخواني الأرضيين المجد الذي كان لدي معك قبل تأسيس هذا العالَم. هذا العالَم لا يعرف عنك سوى القليل جداً, أيها الأب البار, لكنني أعرفك, وقد جعلتك معروفاً لهؤلاء المؤمنين, وسيجعلون اسمك معروفاً للأجيال الأخرى. والآن أعدهم بأنك ستكون معهم في العالَم حتى كما كنت معي ــ حتى هكذا."
182:1.7 (1965.1) ظل الأحد عشر راكعين في هذه الدائرة حول يسوع لعدة دقائق قبل أن قاموا وفي صمت عادوا في طريقهم إلى المخيم القريب.
182:1.8 (1965.2) صَّلى يسوع من أجل الوحدة بين أتباعه, لكنه لم يرغب التماثل. الخطيئة تخلق مستوى ميتاً من قوة استمرارية الشر, لكن البر يغذي الروح الخلاَّقة للتجربة الفردية في الحقائق الحية للحَّق الأبدي وفي المخالطة التقدمية للأرواح الإلَهية للأب والابن. في الزمالة الروحية للابن المؤمن مع الأب الإلَهي لا يمكن أن يكون هناك أبداً نهائية مذهبية وتفوق طائفي للوعي الجماعي.
182:1.9 (1965.3) ألمح السيد, أثناء مجرى هذه الصلاة الأخيرة مع رُسله, إلى الواقع بأنه أظهر اسم الأب للعالَم. وذلك ما فعله بالفعل بكشف الله من خلال حياته المثالية في الجسد. لقد سعى الأب في السماء إلى الكشف عن نفسه لموسى, لكنه لم يستطع المُضي أكثر من أن يُسبب بأن يُقال, "أنا". وعندما ضُغط عليه من أجل كشف المزيد عن نفسه, فقط تم إفشاء, "أنا ما أنا". لكن عندما أنهى يسوع حياته الأرضية, هذا الاسم للأب كُشف بحيث السيد, الذي كان الأب متجسداً, أمكنه حقاً أن يقول:
182:1.10 (1965.4) أنا خبز الحياة.
182:1.11 (1965.5) أنا الماء الحي.
182:1.12 (1965.6) أنا نور العالَم.
182:1.13 (1965.7) أنا رغبة كل العصور.
182:1.14 (1965.8) أنا الباب المفتوح للخلاص الأبدي.
182:1.15 (1965.9) أنا حقيقة الحياة اللانهائية.
182:1.16 (1965.10) أنا الراعي الصالح.
182:1.17 (1965.11) أنا طريق الكمال اللانهائي.
182:1.18 (1965.12) أنا القيامة والحياة.
182:1.19 (1965.13) أنا سِر البقاء الأبدي.
182:1.20 (1965.14) أنا الطريق, والحقيقة, والحياة.
182:1.21 (1965.15) أنا الآب اللانهائي لأولادي المتناهين.
182:1.22 (1965.16) أنا الكرمة الحقيقية؛ أنتم الأغصان.
182:1.23 (1965.17) أنا رجاء كل من يعرف الحقيقة الحية.
182:1.24 (1965.18) أنا الجسر الحي من عالَم إلى آخر.
182:1.25 (1965.19) أنا الرابط الحي بين الزمان والأبدية.
182:1.26 (1965.20) بهذا وسَّع يسوع الإعلان الحي لاسم الله إلى جميع الأجيال. مثلما تكشف المحبة الإلَهية طبيعة الله, يكشف الحق الأبدي اسمه في نِسب دائمة التوسع.
182:2.1 (1966.1) كان الرُسل مصدومين بشدة عندما عادوا إلى مخيمهم ووجدوا يوداص غائباً. بينما كان الأحد عشر منشغلين في نقاش ساخن عن زميلهم الرسول الخائن, أخذ داود زَبـِدي ويوحنا مرقس يسوع جانبًا وكشفوا أنهم أبقوا يوداص تحت المراقبة لعدة أيام, وبأنهم علموا أنه كان يعتزم خيانته نحو أيدي أعدائه. استمع لهم يسوع ولكنه قال فقط: "أصدقائي, لا شيء يمكن أن يحدث لابن الإنسان ما لم يشاء الأب في السماء. فلا تضطرب قلوبكم؛ كل الأشياء ستعمل معاًا لأجل مجد الله وخلاص الناس."
182:2.2 (1966.2) كان موقف يسوع المبتهج يذبل. مع مرور الساعة, أصبح جدياً أكثر وأكثر, حتى حزين. الرُسل, كائنين مضطربين للغاية, كانوا كارهين العودة إلى خيامهم حتى عندما طُلب منهم ذلك السيد نفسه. عائد من حديثه مع داود ويوحنا, وجه كلماته الأخيرة إلى الأحد عشر جميعًا قائلاً: "يا أصدقائي, اذهبوا إلى راحتكم. استعدوا لعمل الغد. تذكَّروا, أننا جميعًا يجب أن نُخضع أنفسنا لمشيئة الأب في السماء. سلامي أترك معكم". ولما قال هذا, أومأ إليهم إلى خيامهم, لكن فيما هم يذهبون, دعا بطرس, ويعقوب, ويوحنا, قائلاً, "أرغب بأن تبقوا معي قليلاً".
182:2.3 (1966.3) نام الرُسل فقط لأنهم كانوا حرفياً منهكين؛ كانوا ينامون قليلاً منذ وصولهم إلى أورشليم. قبل أن يذهبوا إلى أماكن نومهم المنفصلة, قادهم سمعان زيلوطس كلهم إلى خيمته, حيث تم تخزين السيوف وأسلحة أخرى, وزَّود كل منهم بهذه المعدات القتالية. استلموا كلهم هذه الأسلحة وتمنطقوا بها باستثناء نثانئيل. نثانئيل في رفضه تسليح نفسه, قال: "إخواني, لقد أخبرنا السيد مراراً بأن ملكوته ليس من هذا العالَم, وأن تلاميذه لا ينبغي أن يقاتلوا بالسيف ليجلبوا تأسيسه. أنا أؤمن بهذا؛ لا أعتقد بأن السيد يحتاج لأن نستخدم السيف في الدفاع عنه. لقد رأينا جميعاً قدرته العظيمة ونعلم أنه قادر على أن يحمي نفسه ضد أعدائه إن هو رغب في ذلك. إذا هو لن يقاوم أعداءه, لا بد أن يكون بأن مثل هذا المسلك يمثل محاولته لتحقيق مشيئة أبيه. سأصَّلي, لكنني لن أُستخدم السيف." عندما سمع أندراوس خطاب نثانئيل, أعاد سيفه إلى سمعان زيلوطس. وهكذا كان تسعة منهم مسلحين عندما انفصلوا من أجل الليل.
182:2.4 (1966.4) الاستياء من كون يوداص خائناً طغى في الوقت الحالي على كل شيء آخر في أذهان الرُسل. تعليق السيد في إشارة إلى يوداص, الذي قاله أثناء الصلاة الأخيرة, فتحت أعينهم إلى حقيقة أنه هجرهم.
182:2.5 (1966.5) بعد أن ذهب الرُسل الثمانية أخيراً إلى خيامهم, وبينما كان بطرس, ويعقوب, ويوحنا واقفين لتلقي أوامر السيد, دعا يسوع داود زَبـِدي, "ارسل لي أسرع وأكثر مرسال لديك جدارة بالثقة." عندما أحضر داود إلى السيد واحد اسمه يعقوب, الذي كان عداءًا مرة على خدمة مرسال الليل بين أورشليم وبيت-صيدا, يسوع, مخاطباً إياه, قال: "بكل سرعة, اذهب إلى أبنير في فيلادلفيا وقل: ’السيد يرسل تحيات السلام لك ويقول بأن الساعة قد جاءت عندما سيُسَّلم إلى أيدي أعدائه, الذين سيقتلونه, لكنه سوف يقوم من بين الأموات ويظهر لكم قريباً, قبل أن يذهب إلى الأب, وبأنه سيعطيكم إرشاداً حينئذٍ للوقت الذي سيأتي فيه المعلم الجديد ليسكن في قلوبكم‘". وعندما أعاد يعقوب تلاوة هذه الرسالة إلى رضى السيد, أرسله يسوع في طريقه, قائلاً: "لا تخف مما قد يفعله أي إنسان لك, يا يعقوب, لأن هذه الليلة مرسالاً غير مرئي سيركض بجانبك."
182:2.6 (1967.1) ثم التفت يسوع إلى رئيس اليونانيين الزائرين الذين كانوا يخَّيمون معهم, وقال: "يا أخي, لا تنزعج مما يوشك أن يحدث حيث إني سبق وأنذرتكم. سيُحكم على ابن الإنسان بالموت بتحريض من أعدائه, رؤساء الكهنة وحكام اليهود, لكنني سأقوم لأكون معكم لوقت قصير قبل أن أذهب إلى الأب. وعندما ترى كل هذا يحدث, مَّجد الله وقـَّوي إخوانك."
182:2.7 (1967.2) في ظروف اعتيادية كان الرُسل يدعون للسيد بليلة جيدة شخصياً, لكنهم في هذه الأمسية كانوا منشغلين جداً بالإدراك المفاجئ لهجر يوداص ومُتغلب عليهم جداً بالطبيعة غير العادية لصلاة السيد الوداعية بحيث استمعوا إلى تحياته الوداعية ومضوا في صمت.
182:2.8 (1967.3) قال يسوع هذا لأندراوس بينما غادر جانبه تلك الليلة: "أندراوس, افعل ما بوسعك للحفاظ على إخوانك معاً حتى آتي إليكم مرة ثانية بعد أن أكون قد شربت هذه الكأس. قـَّوي إخوانك, ناظر بأني قد سبق وأخبرتكم كل شيء. يصحبكم السلام.
182:2.9 (1967.4) لم يتوقع أي من الرُسل حدوث أي شيء خارج عن المألوف تلك الليلة حيث كان الوقت متأخراً جداً بالفعل. سعوا إلى النوم بحيث قد ينهضون باكراً في الصباح ويكونوا مستعدين للأسوأ. اعتقدوا أن رؤساء الكهنة سيسعون لإلقاء القبض على سيدهم باكراً في الصباح حيث لم يتم القيام بأي عمل دنيوي بعد الظهر في يوم التحضير لعيد الفصح. فقط داود زَبـِدي ويوحنا مرقس أدركا أن أعداء يسوع كانوا قادمين مع يوداص تلك الليلة بالذات.
182:2.10 (1967.5) كان داود قد رتب تلك الليلة أن يقف حارساً على الدرب العلوي المؤدي إلى طريق بيت-عنيا ــ أورشليم, بينما كان يوحنا مرقس ليراقب على طول الطريق الصاعدة من قدرون إلى الجثسيماني. قبل أن يذهب داود إلى المهمة التي فرضها على نفسه لواجب النقطة الأمامية, ودَّع يسوع, قائلاً: "سيدي, لقد كان لدي فرح كبير في خدمتي معك. شقيقاي هما رُسلك, لكنني كنت مبتهجاً لأن أفعل الأشياء الأقل كما ينبغي أن تُفعل, وسأفتقدك من كل قلبي عندما تذهب." وعند ذاك قال يسوع لداود: "داود, يا بني, قام الآخرون بما تم توجيههم للقيام به, لكن هذه الخدمة قمت بها من قلبك, وأنا لم أكن غير منتبه لتفانيك. أنت, أيضاً, يوما ما ستخدم معي في الملكوت الأبدي."
182:2.11 (1967.6) وبعد ذلك, بينما استعد للذهاب إلى الحراسة من الدرب العلوي, قال داود ليسوع: "أتعلم, يا سيد, لقد أرسلت لعائلتك, ولدَي كلمة من مرسال بأنهم هذه الليلة موجودون في أريحا. سيكونون هنا في وقت مبكر من الغد قبل الظهر لأنه سيكون خطراً عليهم أن يصعدوا الطريق الدموي في الليل." ويسوع, متطلع على داود, فقط قال: "ليكن هكذا, يا داود."
182:2.12 (1967.7) عندما صعد داود جبل الزيتون, أخذ يوحنا مرقس يقظته بالقرب من الطريق الذي يمر بجانب الجدول نزولاً إلى أورشليم. وكان يوحنا سيبقي في هذا المركز لو لم يكن لرغبته العظيمة في أن يكون بالقرب من يسوع ومعرفة ما يجري. فترة وجيزة بعد ما تركه داود, وعندما لاحظ يوحنا مرقس انسحاب يسوع, مع بطرس, ويعقوب, ويوحنا, إلى وادٍ قريب, كان متغلباً عليه جداً بالتفاني والفضول المزدوجان بحيث تخلى عن مركز حراسته وتبعهم, مختبئاً في الأحراش, حيث رأى وسمع كل ما حدث أثناء تلك اللحظات الأخيرة في الحديقة وبالضبط قبل أن يظهر يوداص والحراس المسلحين لاعتقال يسوع.
182:2.13 (1968.1) بينما كان كل هذا يجري في مخيم السيد, كان يوداص إسخريوط في اجتماع مع قبطان حراس الهيكل, الذي كان قد جمَّع رجاله استعداداً للانطلاق, تحت قيادة الخائن, لاعتقال يسوع.
182:3.1 (1968.2) بعد أن كان كل شيء ساكناً وهادئاً حول المخيم, أخذ يسوع بطرس, ويعقوب, ويوحنا, وذهبوا لمسافة قصيرة إلى وادٍ قريب حيث كان يذهب كثيرًا من قبل للصلاة والتواصل. لم يتمالك الرُسل الثلاثة إدراك أنه متضايق بشدة؛ لم يسبق أن لاحظوا سيدهم أبداً من قبل هكذا مثقلاً وحزيناً للغاية. عندما وصلوا إلى مكان عبادته, أمر الثلاثة بأن يجلسوا ويراقبوا معه بينما ذهب إلى حوالي مرمى حجر ليصَّلي. وعندما سقط على وجهه, صَّلى: "يا أبي, أتيت إلى هذا العالَم لأفعل مشيئتك, وهكذا فعلت. أعرف بأن الساعة قد حانت لألقي هذه الحياة في الجسد, وأنا لا أحجم عن هذا, لكنني أود أن أعرف بأنها مشيئتك أن أشرب هذه الكأس. أرسل لي التأكيد بأني سأرضيك في موتي حتى كما فعلت في حياتي."
182:3.2 (1968.3) بقي السيد في موقف صلاة لبضع لحظات, وبعد ذلك, عندما ذهب إلى الرُسل الثلاثة, وجدهم نائمين بعمق, لأن عيونهم كانت ثقيلة ولم يتمكنوا من البقاء مستيقظين. بينما أوقظهم يسوع, قال: "ماذا! ألا يمكنكم أن تسهروا معي حتى لساعة واحدة؟ ألا ترون بأن نفسي حزينة للغاية, حتى الموت, وبأني أتوق لرفقتكم؟" بعد أن صحا الثلاثة من سباتهم, ذهب السيد مرة أخرى منفرداً بذاته, وساقط على الأرض, صَّلى مرة أخرى: "يا أبي, أعلم أنه بالإمكان تجنب هذه الكأس ــ كل الأشياء ممكنة معك ــ لكنني جئت لأفعل مشيئتك, وفي حين أن هذه الكأس مُرة, سأشربها إذا كانت مشيئتك." ولما صّلى هكذا, نزل ملاك جبار بجانبه, وكلمه, لمسه وقواه.
182:3.3 (1968.4) عندما عاد يسوع ليتحدث مع الرُسل الثلاثة, وجدهم نائمين مرة أخرى. أيقظهم, قائلاً: "في مثل هذه الساعة أحتاج أن تراقبوا وتصَّلوا معي ــ كل الأكثر تحتاجون لأن تُصَّلوا بحيث لا تدخلون في فتنة ــ فلماذا تنامون عندما أترككم؟"
182:3.4 (1968.5) وبعد ذلك, للمرة الثالثة, انسحب السيد وصَّلى: "أبتاه, ترى رُسلي النائمين؛ ارحمهم. الروح حقاً راغب, لكن الجسد ضعيف. والآن, يا أبتاه, إذا لم يكن لهذه الكأس أن تمر, عند ذاك سأشربها. ليس مشيئتي, بل مشيئتك, لتتم." ولما فرغ من الصلاة, سجد للحظة على الأرض. عندما قام وعاد إلى رُسله, وجدهم نائمين مرة أخرى. تفحصهم, وبإيماءة شفوقة, قال بحنان: "ناموا الآن وخذوا قسطًا من الراحة؛ لقد فات وقت اتخاذ القرار. الساعة الآن علينا حينما يُسلم ابن الإنسان في أيدي أعدائه." بينما انحنى يهزهم ليوقظهم, قال: "قوموا, لنعُد إلى المخيم, لأن, هوذا, خائني قريب, والساعة قد أتت عندما سيتشتت قطيعي. لكنني أخبرتكم سابقاً عن هذه الأشياء."
182:3.5 (1968.6) خلال السنوات التي عاشها يسوع بين أتباعه, كان لديهم, بالفعل, الكثير من الأدلة على طبيعته الإلَهية, لكن الآن بالضبط كانوا على وشك أن يشهدوا أدلة جديدة على إنسانيته. بالضبط قبل الأعظم من كل الكشوف عن ألوهيته, قيامته, يجب الآن أن يأتي أعظم البراهين على طبيعته الفانية, إذلاله وصَلبه.
182:3.6 (1969.1) في كل مرة صَّلى في الحديقة, ألقت إنسانيته قبضة إيمان أقوى على ألوهيته؛ أصبحت مشيئته البشرية بشكل أكثر اكتمالاً واحدة مع المشيئة الإلَهية لأبيه. بين كلمات أخرى قالها له الملاك العظيم كانت الرسالة بأن الأب رغب أن يُنهي ابنه إغداقه الأرضي من خلال اجتياز تجربة المخلوق للموت تماماً كما يجب أن تختبر جميع المخلوقات الفانية الانحلال المادي في عبورهم من وجود الوقت إلى تقدم الأبدية.
182:3.7 (1969.2) في وقت مبكر من المساء لم يبدو صعباً للغاية شرب الكأس, لكن عندما ودَّع يسوع البشري رُسله وأرسلهم إلى راحتهم, ازدادت المحنة ترويعاً. لقد اختبر يسوع ذلك الجزر والمد الطبيعي للمشاعر التي تكون عادية في كل التجارب البشرية, وكان الآن بالضبط مرهقاً من العمل, ومُنهَكاً من الساعات الطويلة من العمل الشاق والقلق المؤلم بشأن سلامة رُسله. بينما لا يمكن لأي شخص أن يدعي أنه يفهم أفكار ومشاعر ابن الله المتجسد في وقت مثل هذا, فنحن نعلم أنه تحمل معاناة شديدة وعانى من حزن لا يوصف, لأن العرق تدحرج من وجهه في قطرات كبيرة. كان مقتنعاً أخيراً أن الأب يعتزم السماح للأحداث الطبيعية بأن تأخذ مجراها؛ كان مُصمماً تماماً ألا يوظف أي من قدرته السيادية كالرئيس السامي للكون ليخلص نفسه.
182:3.8 (1969.3) كانت الحشود المتجمعة لخليقة شاسعة تحوم الآن فوق هذا المشهد تحت القيادة المتحدة المؤقتة لجبرائيل والضابط المشَّخَص ليسوع. كان قد تم تحذير قادة فرق جيوش السماء هذه مراراً من التدخل في هذه التعاملات على الأرض ما لم يأمرهم يسوع بنفسه بالتدخل.
182:3.9 (1969.4) كانت تجربة فراق الرُسل عبئاً كبيراً على قلب يسوع البشري؛ حزن المحبة هذا أطبق عليه وزاد من صعوبة مواجهة مثل هذا الموت الذي كان يعلم جيدًا أنه ينتظره. أدرك مدى ضعف رُسله وجهلهم, وخشي أن يتركهم, كان يعلم جيداً أن وقت رحيله قد حان, لكن قلبه البشري تاق لمعرفة ما إذا كان هناك بالإمكان وسيلة شرعية ما للإفلات من هذه المحنة المريعة من المعاناة والحزن. وعندما سعى بهذا للإفلات, وفشِل, كان على استعداد لشرب الكأس. علم العقل الإلَهي لميخائيل بأنه قد بذل قصارى جهده من أجل الرُسل الاثني عشر؛ لكن قلب يسوع البشري تمنى لو أمكن فعل المزيد من أجلهم قبل أن يتوجب أن يُتركوا وحدهم في العالَم. كان قلب يسوع مُحَّطَماً؛ لقد أحب إخوانه حقاً. كان معزولاً عن عائلته في الجسد؛ كان أحد زملائه المختارين يخونه. لقد رفضه شعب أبيه يوسف وبهذا ختموا نصيبهم كشعب له مهمة خاصة على الأرض. كانت نفسه معذبة بمحبة محيرة ورحمة مرفوضة. لقد كانت تماماً إحدى تلك اللحظات البشرية المروعة عندما بدا كل شيء ليرزح تحت وطأة القسوة الساحقة والعذاب المروع.
182:3.10 (1969.5) لم تكن إنسانية يسوع غير مدركة لهذا الموقف من الوحدة الخاصة, والعار العام, ومظهر الفشل لقضيته. كل هذه المشاعر حملت عليه بثُقل لا يوصف. في هذا الحزن الشديد عاد عقله إلى أيام طفولته في الناصرة وإلى عمله الباكر في الجليل. في وقت هذه التجربة العظيمة هناك برزت في ذهنه العديد من تلك المشاهد المبهجة لإسعافه الأرضي. ولقد كان من تلك الذكريات القديمة عن الناصرة, وكفرناحوم, وجبل حرمون, وشروق الشمس وغروبها على بحر الجليل المتلألئ, بأن هدأ نفسه بينما جعل قلبه البشري قوياً ومستعداً لمواجهة الخائن الذي سيخونه قريباً جداً.
182:3.11 (1970.1) قبل وصول يوداص والجنود, كان السيد قد استعاد تمامًا اتزانه المعتاد؛ انتصر الروح على الجسد؛ فرض الإيمان نفسه على كل الميول البشرية للخوف أو مخالجة الشك. تمت مقابلة الإختبار السامي للإدراك الكامل للطبيعة البشرية وتم اجتيازه بشكل مقبول. مرة أخرى كان ابن الإنسان مستعداً لمواجهة أعدائه برباطة جأش وبتأكيد كامل لحصانته كرجل فاني مُكرس بلا تحفظ لفعل مشيئة أبيه.
كِتاب يورانشيا
ورقة 183
183:0.1 (1971.1) أخيراً بعد أن أيقظ يسوع بطرس, ويعقوب, ويوحنا, اقترح أن يذهبوا إلى خيامهم ويسعوا للنوم استعداداً لواجبات الغد. لكن بحلول هذا الوقت كان الرُسل الثلاثة مستيقظين تماماً؛ كانوا قد انتعشوا بقيلولاتهم القصيرة, وإلى جانب ذلك, كانوا مُحفزين ومُثارين بوصول اثنين من المراسيل المتحمسين على المشهد اللذين استفسرا عن داود زَبـِدي وذهبا بسرعة في طلبه عندما أخبرهما بطرس بمكان حراسته.
183:0.2 (1971.2) مع أن ثمانية من الرُسل كانوا نائمين بعمق, إلا أن اليونانيين المخيمين إلى جانبهم كانوا أكثر خوفاً من المتاعب, لدرجة أنهم وضعوا حارساً ليعطي إنذاراً في حالة ظهور خطر. عندما أسرع هذان الرسولان نحو المخيم, شرع الحارس اليوناني بإيقاظ جميع رفاقه, الذين خرجوا من خيامهم, وهم يرتدون ملابس كاملة ومتسلحين بالكامل. المخيم بأكمله كان مستيقظاً الآن ما عدا الرُسل الثمانية. رغب بطرس في استدعاء زملائه, لكن يسوع منعه قطعاً. نصحهم السيد جميعاً بلطف بالعودة إلى خيامهم, لكنهم كانوا ممانعين للامتثال لاقتراحه.
183:0.3 (1971.3) مخفق في تفريق أتباعه, تركهم السيد وسار نزولاً باتجاه معصرة الزيتون بالقرب من مدخل منتزه الجثسيماني. مع أن الرُسل الثلاثة, واليونانيين, وأعضاء آخرين من المخيم ترددوا في اتباعه فوراً, أسرع يوحنا مرقس حولهم من خلال أشجار الزيتون واستتر في سقيفة صغيرة قرب معصرة الزيتون. انسحب يسوع من المخيم ومن أصدقائه بحيث يتسنى لمعتقليه, عند وصولهم, أن يلقوا القبض عليه دون إزعاج رُسله. كان السيد يخشى أن يكون رُسله مستيقظين وحاضرين عند إلقاء القبض عليه لئلا يثير مشهد خيانة يوداص له بغضهم بحيث قد يقاوموا الجنود ويؤخذوا للحجز معه. كان يخشى بأنه, إذا تم القبض عليهم معه, فقد يهلكوا معه أيضاً.
183:0.4 (1971.4) على الرغم من أن يسوع كان يعلم أن خطة موته قد نشأت في مجالس حكام اليهود, كان يدرك أيضاً أن كل هذه المخططات الشائنة حظيت بالموافقة الكاملة للوسيفر, والشيطان, وكاليغاسشيا. وعلم جيداً بأن هؤلاء المتمردين من العوالم سيسعدون أيضاً برؤية جميع الرُسل يهلكون معه.
183:0.5 (1971.5) جلس يسوع, بمفرده, على معصرة الزيتون, حيث انتظر مجيء الخائن, ولم يره في هذا الوقت سوى يوحنا مرقس وحشد لا يُحصى من المراقبين السماويين.
183:1.1 (1971.6) هناك خطر كبير في سوء فهم معنى العديد من الأقوال والعديد من الأحداث المرتبطة بإنهاء مهمة السيد في الجسد. المعاملة القاسية ليسوع من قبل العبيد الجهلة والجنود القساة, والسلوك الجائر في محاكماته, والموقف العديم الشعور للقادة الدِينيين المزعومين, ينبغي عدم إرباكها مع حقيقة أن يسوع, في خضوعه بصبر لكل هذه المعاناة والإذلال, كان حقاً يفعل مشيئة الأب في الفردوس. لقد كانت, بالفعل وفي الحقيقة, مشيئة الأب أن يشرب ابنه للملء كأس التجربة البشرية, من المولد حتى الموت, لكن الأب في السماء لم يكن له أي علاقة بالتحريض على السلوك الهمجي لأولئك الذين يفترض أنهم بشر متحضرين الذين عذبوا السيد بوحشية للغاية وكـَّوموا بغاية الفظاعة الإهانات المتتالية على شخصه غير المقاوم. هذه المعاناة اللاإنسانية والصادمة التي دُعي يسوع لتحملها في الساعات الأخيرة من حياته الفانية لم تكن بأي حال من الأحوال جزءًا من مشيئة الأب الإلَهية, التي تعهدت طبيعته البشرية بإنجازها بغاية الإنتصار عند وقت التسليم النهائي للإنسان إلى الله كما دلت عليها الصلاة الثلاثية التي صاغها في الحديقة بينما نام رُسله المتعبين نوم الإرهاق الجسدي.
183:1.2 (1972.1) لقد أراد الأب في السماء أن يُنهي ابن الإغداق مهمته الأرضية بشكل طبيعي, تماماً كما يجب على جميع البشر أن يُنهوا حياتهم على الأرض وفي الجسد. لا يمكن للرجال والنساء العاديين أن يتوقعوا أن أن تُجعل ساعاتهم الأخيرة على الأرض وحدث الموت الذي يتبع سهلة بافتقاد إلَهي خاص. تبعاً لذلك, اختار يسوع أن يضع حياته في الجسد على النحو الذي كان متماشياً مع العمل الظاهري للأحداث الطبيعية, ورفض بثبات تخليص نفسه من البراثن القاسية للمؤامرة الأثيمة لأحداث غير إنسانية التي اجتاحت بيقين فظيع نحو إذلاله الذي لا يُصَّدَق وموته المُشين. وكل جزء من كل هذا المظهر المذهل للكراهية وهذا العرض غير المسبوق للقسوة كان من عمل أناس أشرار وفانين أثيمين. الله في السماء لم يشاءها, ولا أملاها أعداء يسوع اللدودين, ولو إنهم فعلوا الكثير لضمان أن يرفض بشر غير مفكّرين وأشرار ابن الإغداق. حتى أب الخطيئة أدار وجهه بعيداً عن الفظاعة المؤلمة لمشهد الصَلب.
183:2.1 (1972.2) بعد أن ترك المائدة فجأة أثناء تناول العشاء الأخير, ذهب مباشرة إلى بيت ابن عمه, ثم ذهب الاثنان مباشرة إلى قبطان حرس الهيكل. طلب يوداص من القبطان أن يجمع الحراس وأبلغه بأنه مستعد لقيادتهم إلى يسوع. كون يوداص قد ظهر على المشهد قبل وقت قصير مما كان متوَقَعاً, كان هناك بعض التأخير في بدء السير إلى بيت مرقس, حيث توقع يوداص أن يجد يسوع لا يزال يزور مع رُسله. غادر السيد والأحد عشر بيت إيليا مرقس قبل خمسة عشر دقيقة تماماً من وصول الخائن والحراس. بحلول الوقت الذي وصل فيه المعتقِلون إلى بيت مرقس, كان يسوع والأحد عشر خارج أسوار المدينة وفي طريقهم إلى مخيم جبل الزيتون.
183:2.2 (1972.3) كان يوداص منزعجاً للغاية من هذا الفشل في العثور على يسوع في مسكن مرقس وبرفقة أحد عشر رجلاً, اثنان منهم فقط كانا مسلحين للمقاومة. صادف أنه يعلم بأنه في فترة ما بعد الظهر عندما غادروا المخيم, فقط سمعان بطرس وسمعان زيلوطس كانوا متمنطقين بسيوف؛ كان يوداص يأمل أن يأخذ يسوع عندما كانت المدينة هادئة, وعندما كانت هناك فرصة ضئيلة للمقاومة. خشي الخائن من أنه, إذا انتظرهم ليعودوا إلى مخيمهم, فسيواجهون أكثر من ستين من التلاميذ المخلصين, كما كان يعلم أن سمعان زيلوطس كان لديه مخزوناً وافراً من الأسلحة في حوزته. كان يوداص يزداد توتراً بينما تأمل كيف سيمقته الرُسل الأحد عشر الموالين, وكان يخشى أن يسعوا جميعاً لإهلاكه. لم يكن خائناً فحسب, لكنه كان جباناً حقيقياً في القلب.
183:2.3 (1973.1) عندما فشلوا في العثور على يسوع في العلية, طلب يوداص من رئيس الحرس أن يعود إلى الهيكل. بحلول هذا الوقت كان الحكام قد بدأوا يتجمعون في بيت رئيس الكهنة استعداداً لاستقبال يسوع, حيث رأوا أن مساومتهم مع الخائن دعت إلى اعتقال يسوع بحلول منتصف ليل ذلك اليوم. أوضح يوداص لرفاقه بأنهم قد أخطأوا يسوع في بيت مرقس, وأنه سيكون من الضروري الذهاب إلى الجثسيماني للقبض عليه. ثم استمر الخائن ليعلن بأن أكثر من ستين من الأتباع المكرسين كانوا يخَّيمون معه, وأنهم جميعاً مسلحون جيداً. ذكـَّر حكام اليهود يوداص بأن يسوع كان دائماً يعظ بعدم المقاومة, لكن يوداص أجاب بأنهم لا يستطيعون الاعتماد على كل أتباع يسوع أن يطيعوا هذا التعليم. في الحقيقة خاف على نفسه ولذلك تجرأ على طلب سرية من أربعين جندياً مسلحاً. نظراً لأن السلطات اليهودية لم يكن لديها مثل هذه القوة من الرجال المسلحين الخاضعين لولايتها, فقد توجهوا على الفور إلى حصن أنطونيا وطلبوا من القائد الروماني أن يعطيهم هذا الحرس؛ لكن عندما عَلِم أنهم يعتزمون القبض على يسوع, رفض على الفور الاستجابة لطلبهم وأحالهم إلى رئيسه. بهذه الطريقة تم استنفاذ أكثر من ساعة في الانتقال من سُلطة إلى أخرى حتى اضطروا أخيراً إلى الذهاب إلى بيلاطس نفسه للحصول على إذن لتوظيف الحراس الرومان المسلحين. كان الوقت متأخراً عندما وصلوا إلى منزل بيلاطس وكان قد تقاعد في غرفته الخاصة مع زوجته. لقد تردد في أن يكون له أي علاقة بالمشروع, خاصة وأن زوجته طلبت منه عدم الموافقة على الطلب. لكن نظراً لأن رئيس مجلس السنهدرين اليهودي كان حاضراً ويقدم طلباً شخصياً لأجل هذه المساعدة, اعتقد الحاكم أنه من الحكمة منح الالتماس, معتقداً أنه يستطيع فيما بعد أن يصحح أي خطأ قد يدبروا اقترافه.
183:2.4 (1973.2) بناء على ذلك, عندما خرج يوداص إسخريوط من الهيكل, حوالي الساعة الحادية عشر والنصف, كان برفقته أكثر من ستين شخصاً ــ حراس الهيكل, والجنود الرومان, وخدام رؤساء الكهنة والحكام الفضوليين.
183:3.1 (1973.3) بينما اقتربت هذه الفرقة من الجنود والحراس المسلحين, حاملين مشاعل وقناديل, إلى الحديقة, خطى يوداص أمام الفرقة بحيث يكون مستعداً بسرعة ليُعَّرف على يسوع حتى يتسنى للمعتقلين وضع أيديهم عليه بسهولة قبل أن يستجمع زملاءه قواهم للدفاع عنه. وكان لا يزال هناك سبب آخر لاختيار يوداص أن يكون متقدماً على أعداء السيد. لقد ظن أنه سيبدو أنه وصل على المشهد قبل الجنود حتى لا يربطه الرُسل وغيرهم ممن تجمعوا حول يسوع مباشرة بالحراس المسلحين الذين يتبعون عن كثب على أثره. يوداص حتى فكـَّر أن يتصنع ككونه أسرع لينذرهم بقدوم المعتقلين, لكن هذه الخطة أُحبطت بتحية يسوع المُحطمة للخائن. مع أن السيد تكلم إلى يوداص بلطف, إلا أنه حياه كخائن.
183:3.2 (1973.4) حالما رأى بطرس, ويعقوب, ويوحنا, مع حوالي ثلاثين آخرين من زملائهم المخيمين, الفرقة المسلحة مع المشاعل تتأرجح حول حافة التل, علموا أن هؤلاء الجنود كانوا قادمين لاعتقال يسوع, وهرعوا جميعاً نزولاً إلى قرب معصرة الزيتون حيث كان السيد جالساً وحده في ضوء القمر. بينما اقتربت فرقة الجنود إلى جانب واحد, وصل الرُسل الثلاثة وزملاؤهم على الجانب الآخر. بينما خطا يوداص للأمام ليبادر السيد بالكلام, هناك وقفت المجموعتان, بلا حراك, والسيد بينهما ويوداص يستعد ليطبع القبلة الغادرة على جبينه.
183:3.3 (1974.1) لقد كان أمل الخائن بأنه يستطيع, بعد قيادة الحراس إلى الجثسيماني, أن يشير ببساطة إلى يسوع من أجل الجنود, أو على الأكثر ينفذ الوعد بتحيته بقبلة, وبعد ذلك يتراجع بسرعة من المشهد. كان يوداص يخشى بشدة أن يكون الرُسل كلهم حاضرين, وبأنهم سيكثفون هجومهم عليه انتقاما لجرأته على خيانة معلمهم المحبوب. لكن عندما حياه السيد كخائن, كان مرتبكاً جداً لدرجة أنه لم يحاول الهروب.
183:3.4 (1974.2) بذل يسوع جهداً أخيراً لإنقاذ يوداص من خيانته فعلياً بأنه, قبل أن يصل الخائن إليه, خطى إلى جانب واحد, ومخاطباً الجندي الأقرب إلى اليسار, قبطان الرومان, قال, "عمن تبحثون؟" أجاب القبطان, "يسوع الناصري". وعند ذلك خطى يسوع مباشرة أمام الضابط, وواقف هناك في الجلال الهادئ لإله كل هذه الخليقة, وقال, "أنا هو." كثيرون من هذه الفرقة المسلحة كانوا قد سمعوا يسوع يعَّلم في الهيكل, وعلم آخرون عن أعماله الجبارة, وعندما سمعوه يعلن بجرأة هكذا عن هويته, سقط أولئك في صفوف الطليعة فجأة إلى الوراء. غلبتهم المفاجأة عند إعلانه الهادئ والمهيب عن الهوية. لذلك, لم تكن هناك حاجة لأن يواصل يوداص خطة خيانته. لقد كشف السيد بجرأة عن نفسه لأعدائه, وكان يمكنهم أخذه بدون مساعدة يوداص, لكن كان على الخائن أن يفعل شيئاً ما لتفسير حضوره مع هذه الفرقة المسلحة, وإلى جانب ذلك, أراد أن يستعرض دوره في القيام بالجزء الخاص به من صفقة الخيانة مع حُكام اليهود لكي يكون مؤهلاً للثواب والشرف الكبير الذي اعتقد أنه سيتم تكديسه عليه تعويضاً لوعده بتسليم يسوع إلى أيديهم.
183:3.5 (1974.3) عندما استجمع الحراس قواهم بعد تعثرهم الأول عند رؤية يسوع ومن نبرة صوته غير العادي, وبينما دنا الرُسل والتلاميذ أقرب, تقدم يوداص إلى يسوع, ووضع قبلة على جبينه, قال, "تحية, يا سيد ويا معلم." وبينما عانق يوداص سيده هكذا, قال يسوع, "يا صديقي, أليس كافيًا أن تفعل هذا! هل حتى تخون ابن الإنسان بقبلة؟"
183:3.6 (1974.4) صُدم الرُسل والتلاميذ حرفياً بما رأوا. للحظة لم يتحرك أحد. بعد ذلك, يسوع مفلت من عناق الخائن يوداص, تقدم من الحراس والجنود وسأل مرة أخرى, "عمن تبحثون؟" ومرة أخرى قال القبطان, "يسوع الناصري." ومرة أخرى أجاب يسوع: "لقد أخبرتكم أنني هو. إذاً, لذلك, كنتم تبحثون عني فدعوا الآخرين يذهبون في طريقهم. أنا مستعد للذهاب معكم."
183:3.7 (1974.5) كان يسوع مستعداً للعودة إلى أورشليم مع الحراس, وكان قبطان الجنود على استعداد تام للسماح للرُسل الثلاثة وزملائهم بالذهاب في طريقهم بسلام. لكن قبل أن يتمكنوا من البدء بالسير, بينما وقف يسوع هناك منتظراً أوامر القبطان, واحد اسمه مالخوس, الحارس الشخصي السوري لرئيس الكهنة, تقدم من يسوع وتهيأ لربط يديه خلف ظهره, مع أن القبطان الروماني لم يوَّجه بأن يسوع يجب أن يوثق هكذا. عندما رأى بطرس ورفاقه سيدهم يتعرض لهذه الإهانة, لم يعد بإمكانهم كبح أنفسهم, استل بطرس سيفه واندفع مع الآخرين إلى الأمام لضرب مالخوس. لكن قبل أن يتمكن الجنود من المجيء للدفاع عن خادم رئيس الكهنة, رفع يسوع يداً مانعة لبطرس, وقال بصرامة: "بطرس, رد سيفك. الذين يأخذون السيف سيهلكون بالسيف. ألا تفهم بأنها مشيئة الأب أن أشرب هذه الكأس؟ وألا تعلم كذلك أن بإمكاني حتى الآن أن آمر أكثر من عشرين فيلقاً من الملائكة ورفاقهم, الذين سيخلصوني من أيدي هؤلاء الرجال القلائل؟"
183:3.8 (1975.1) بينما وضع يسوع بهذا حداً فعالاً لهذا العرض للمقاومة الجسدية من قِبل أتباعه, كان كافياً لإثارة خوف قبطان الحرس, الذي الآن, بمساعدة جنوده, ألقي أيدي ثقيلة على يسوع وقيده بسرعة. وبينما أوثقوا يديه بحبال ثقيلة, قال لهم يسوع: "لماذا تخرجون ضدي بالسيوف والهراوات كأنكم تقبضون على لص؟ كنت معكم يومياً في الهيكل, أعَّلم الناس علناً, ولم تبذلوا أي جهد لتأخذوني."
183:3.9 (1975.2) لما أصبح يسوع مقيداً, القبطان, خوفاً من أن يحاول أتباع السيد إنقاذه, أعطى أوامر بالقبض عليهم؛ لكن الجنود لم يسارعوا بما فيه الكفاية, إذ سمعوا أوامر القبطان باعتقالهم, فر أتباع يسوع على عجل عائدين إلى الوادي. ظل يوحنا مرقس كل هذا الوقت محجوباً في السقيفة القريبة. عندما بدأ الحراس بالعودة إلى أورشليم مع يسوع, حاول يوحنا مرقس أن ينسَّل من السقيفة من أجل اللحاق بالرُسل والتلاميذ الهاربين؛ لكن بمجرد أن برز, واحد من أخِر الجنود العائدين من الذين طاردوا التلاميذ الفارين كان ماراً بالقرب, ولما رأى هذا الشاب في معطفه الكتاني, طارده, لاحقاً به تقريباً. في الواقع, اقترب الجندي من يوحنا بما يكفي ليمسك بمعطفه, لكن الشاب حرر نفسه من الثوب, هارباً عرياناً بينما أمسك الجندي بالمعطف الفارغ. شق يوحنا مرقس طريقه بكل سرعة إلى داود زَبـِدي على الدرب العلوي. عندما أخبر داود بما حدث, سارع كِلاهما عائدين إلى خيام الرُسل النائمين وأخبروا الثمانية كلهم بخيانة السيد واعتقاله.
183:3.10 (1975.3) حوالي الوقت عندما كان الرُسل الثمانية يستيقظون, كان أولئك الذين هربوا صعوداً في الوادي يعودون, وتجمعوا جميعًا بالقرب من معصرة الزيتون للتباحث في ما يجب القيام به. في هذه الأثناء, كان سمعان بطرس, ويوحنا زَبـِدي, اللذان كانا مختبئين بين أشجار الزيتون, تواً قد ساروا خلف حشد الجنود, والحراس, والخدام, الذين كانوا الآن يقودون يسوع رجوعاً إلى أورشليم كما لو كانوا يقودون مجرماً يائساً. تبع يوحنا عن قُرب وراء الغوغاء, لكن بطرس تبع عن بُعد. بعد هروب يوحنا مرقس من قبضة الجندي, تزود بعباءة وجدها في خيمة سمعان بطرس ويوحنا زَبـِدي. اشتبه بأن الحراس سيأخذون يسوع إلى بيت آنّاس, رئيس الكهنة الفخري؛ هكذا التف من خلال بساتين الزيتون وكان هناك أمام الغوغاء, مختبئاً بالقرب من مدخل بوابة قصر رئيس الكهنة.
183:4.1 (1975.4) وجد يعقوب زَبـِدي نفسه منفصلاً عن سمعان بطرس وشقيقه يوحنا, وهكذا فقد التحق الآن بالرُسل الآخرين وزملائهم المخَّيمين في معصرة الزيتون للتداول بشأن ما ينبغي القيام به حيال اعتقال السيد.
183:4.2 (1975.5) كان أندراوس قد أُعفي من كل مسؤولية في إدارة جماعة زملائه الرُسل؛ بناء على ذلك, في هذه الأعظم من كل الأزمات في حياتهم, كان صامتاً. بعد نقاش قصير غير رسمي, وقف سمعان زيلوطس على الجدار الحجري لمعصرة الزيتون, ووجه التماساً حماسيًا من أجل الولاء للسيد وقضية الملكوت, وحث رفاقه الرُسل والتلاميذ الآخرين على الإسراع وراء الغوغاء وإحداث إنقاذ يسوع. كانت غالبية الجماعة ستكون ميالة إلى اتباع قيادته العدوانية لو لم يكن لنصيحة نثانئيل, الذي وقف في اللحظة التي انتهى فيها سمعان من الكلام ولفت انتباههم إلى تعاليم يسوع التي كررها مراراً فيما يتعلق بعدم المقاومة. كما ذكـَّرهم بأن يسوع في تلك الليلة بالذات أرشدهم بأن عليهم الحفاظ على حياتهم من أجل الوقت عندما يجب أن يخرجوا إلى العالَم معلنين بشرى إنجيل الملكوت السماوي. وكان نثانئيل مُشجعاً في هذا الموقف بيعقوب زَبـِدي, الذي أخبر الآن كيف سحب بطرس وآخرون سيوفهم من أجل الدفاع عن السيد ضد الاعتقال, وأن يسوع أمر سمعان بطرس ورفاقه حاملي السيوف أن يغمدوا نِصالهم. ألقى متـّى وفيليبُس أيضاً خطابات, لكن لم يأتِ شيء محدد من هذه المناقشة إلى أن دعا توما انتباههم إلى حقيقة أن يسوع نصح لِعازر بعدم تعريض نفسه للموت, أشار بأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء لإنقاذ سيدهم نظراً لأنه رفض السماح لأصدقائه بالدفاع عنه, ولأنه أصر على الامتناع عن استخدام قواه الإلَهية لإحباط أعدائه من البشر. أقنعهم توما بأن يتفرقوا, كل رجل لنفسه, على أساس أن داود زَبـِدي سيبقى في المخيم للحفاظ على مركز تبادل المعلومات وإدارة المراسيل للجماعة. بحلول الساعة الثانية والنصف من صباح ذلك اليوم كان المخيم مهجوراً؛ فقط داود بقي عن قُرب مع ثلاثة أو أربعة مراسيل, كان الآخرون قد أُرسلوا لتأمين معلومات عن المكان الذي أُخذ إليه يسوع, وماذا كان سيُفعل معه.
183:4.3 (1976.1) خمسة من الرُسل, نثانئيل, ومتـّى, وفيليبُس, والتوأم, اختبأوا في بيت-فاج وبيت-عنيا. كان توما, وأندراوس, ويعقوب, وسمعان زيلوطس مختبئين في المدينة. سمعان بطرس ويوحنا زَبـِدي تبعوا إلى بيت آنّاس.
183:4.4 (1976.2) بعد وقت قصير من طلوع الفجر, تجوَّل سمعان بطرس عائداً إلى مخيم الجثسيماني, صورة حزينة لليأس العميق. أرسله داود في عهدة مرسال ليلتحق بشقيقه أندراوس الذي كان في بيت نيقوديموس في أورشليم.
183:4.5 (1976.3) حتى نهاية الصَلب, بقي يوحنا زَبـِدي, كما وجَّهه يسوع, قريباً دائماً, وكان هو الذي زود مراسيل داود بالمعلومات من ساعة إلى ساعة والتي حملوها إلى داود عند مخيم الحديقة, والتي نُقلت بعد ذلك إلى الرسل المختبئين وإلى عائلة يسوع.
183:4.6 (1976.4) بالتأكيد, ضُرب الراعي وتشتتت الخراف! بينما يدركون جميعًا بشكل غامض بأن يسوع سبق وحذرهم من هذا الموقف بالذات, كانوا مصدومين بغاية الحدة من اختفاء السيد المفاجئ ليتمكنوا من استخدام عقولهم بشكل طبيعي.
183:4.7 (1976.5) كان بعد فترة وجيزة من وضح النهار وبالضبط بعد ما أُرسل بطرس ليلتحق بشقيقه, حينما وصل يهوذا, شقيق يسوع في الجسد, إلى المخيم, تقريباً بلا أنفاس ومتقدماً عن بقية عائلة يسوع, فقط ليعلم بأن السيد قد أُلقي القبض عليه تواً؛ وأسرع راجعاً في طريق أريحا ليحمل هذه المعلومات إلى أمه وإخوته وأخواته. أرسل داود زَبـِدي كلمة إلى عائلة يسوع, بواسطة يهوذا, ليتجمعوا عند منزل مارثا ومريم في بيت-عنيا وهناك ينتظروا الأخبار التي كان مراسيله يجلبونها إليهم بانتظام.
183:4.8 (1976.6) كان هذا هو الوضع خلال النصف الأخير من ليلة الخميس والساعات المبكرة من صباح يوم الجمعة فيما يتعلق بالرُسل, وكبار التلاميذ, وعائلة يسوع الأرضية. وتم إبقاء كل هذه الجماعات والأفراد في اتصال مع بعضهم البعض من خلال خدمة المراسيل التي استمر داود زَبـِدي في تشغيلها من مقره في مخيم الجثسيماني.
183:5.1 (1977.1) قبل أن بدأوا السير بعيداً عن الحديقة مع يسوع, نشأ نزاع بين القبطان اليهودي لحراس الهيكل والقبطان الروماني لفرقة الجنود حول المكان الذي سيأخذون يسوع إليه. أعطى قبطان حرس الهيكل أوامر بأخذه إلى قيافا, رئيس الكهنة بالنيابة. وجَّه قبطان الجنود الرومانيين بأن يؤخذ يسوع إلى قصر آنّاس, رئيس الكهنة السابق ووالد زوجة قيافا. وقد فعل هذ لأن الرومان كانوا معتادين على التعامل مباشرة مع آنّاس في جميع الأمور المتعلقة بتنفيذ القوانين الكنسية اليهودية. وأوامر القبطان الروماني أُطيعت؛ أخذوا يسوع إلى بيت آنّاس من أجل فحصه الأولي.
183:5.2 (1977.2) مشى يوداص عن قرب إلى جانب القباطنة, يسمع كل ما قيل, لكنه لم يشارك في النزاع, لأن لا القبطان اليهودي ولا الضابط الروماني كانا يودان التكلم إلى الخائن ــ نظرا إليه بازدراء.
183:5.3 (1977.3) حوالي هذا الوقت يوحنا زَبـِدي, متذكراً تعليمات السيد بالبقاء دائماً في متناول اليد, أسرع قرب يسوع بينما مشى بين القبطانين. قائد حراس الهيكل, عندما رأى يوحنا قادماً إلى جانبهم, قال لمساعده: "خذ هذا الرَجل وأوثقه. إنه أحد أتباع هذا الرفيق." لكن لما سمع القبطان الروماني هذا, ومتطلع حوله, رأى يوحنا, أعطى أوامر بأن يأتي الرسول بجانبه, وألا يتحرش به أحد. حينئذٍ قال القبطان الروماني للقبطان اليهودي: "هذا الرَجل ليس خائناً ولا جباناً. رأيته في الحديقة, ولم يستل سيفاً ليقاومنا. لديه الشجاعة للتقدم ليكون مع سيده, ولا يجوز لأحد أن يضع يده عليه. يسمح القانون الروماني لأي سجين بأن يكون لديه على الأقل صديق واحد ليقف معه أمام محكمة القضاء, ولن يُمنع هذا الرَجل من الوقوف بجانب سيده, السجين." وعندما سمع يوداص هذا, شعر بالخجل والإذلال لدرجة أنه تراجع في السير وراء الساعين, قادم إلى قصر آنّاس وحده.
183:5.4 (1977.4) وهذا يفـَّسر لماذا سُمح ليوحنا زَبـِدي بالبقاء بالقرب من يسوع طوال الطريق خلال محنه المجربة هذه الليلة وفي اليوم التالي. خاف اليهود أن يقولوا أي شيء ليوحنا أو أن يؤذوه بأي طريقة لأن يتمتع بشيء من منزلة مستشار روماني تم تعيينه كمراقب لتعاملات المحكمة الكنسية اليهودية. أصبحت مكانة يوحنا المتميزة أكثر أماناً عندما, في تسليم يسوع إلى قبطان حراس الهيكل عند بوابة قصر آنّاس, الروماني, مخاطباً مساعده, قال: "اذهب مع هذا السجين وانظر بأن لا يقتله هؤلاء اليهود دون موافقة بيلاطس. راقب بأنهم لا يغتالونه, وانظر بأن يُسمح لصديقه الجليلي بأن يقف معه ويراقب كل ما يجري." ولهذا تمكن يوحنا من أن يكون قرب يسوع حتى وقت وفاته على الصليب, مع أن الرُسل العشرة الآخرين اضطروا إلى البقاء مختبئين. كان يوحنا يتصرف تحت الحماية الرومانية, ولم يجرؤ اليهود على التحرش به إلا بعد وفاة السيد.
183:5.5 (1977.5) وعلى طول الطريق إلى قصر آنّاس, لم يفتح يسوع فمه. من وقت إلقاء القبض عليه حتى وقت ظهوره أمام آنّاس, لم يقل ابن الإنسان أي كلمة.
كِتاب يورانشيا
ورقة 184
184:0.1 (1978.1) كان ممثلو آنّاس قد أمروا سِراً قبطان الجنود الرومان بإحضار يسوع فوراً إلى قصر آنّاس بعد اعتقاله. رغب رئيس الكهنة السابق في الحفاظ على هيبته باعتباره السُلطة الكنسية الرئيسية لليهود. كان لديه أيضاً هدف آخر لاحتجاز يسوع في منزله لعدة ساعات, وذلك لإتاحة الوقت لاستدعاء محكمة السنهدرين بشكل قانوني. لم يكن من الشرعي عقد محكمة السنهدرين قبل وقت تقديم الذبيحة الصباحية في الهيكل, وكانت هذه الذبيحة تقـَّدم حوالي الساعة الثالثة صباحاً.
184:0.2 (1978.2) عرف آنّاس أن محكمة السنهدرين كانت تنتظر في قصر صهره, قيافا. كان حوالي ثلاثين عضواً من السنهدرين قد تجمعوا في بيت رئيس الكهنة بحلول منتصف الليل بحيث يكونون جاهزين للجلوس في الحكم على يسوع عندما يُحضر أمامهم. تم تجميع فقط أولئك الأعضاء الذين كانوا معارضين بشدة وعلناً ليسوع وتعاليمه حيث أنه لم يتطلب سوى ثلاثة وعشرين عضواُ لتشكيل محكمة قضائية.
184:0.3 (1978.3) قضى يسوع حوالي ثلاث ساعات في قصر آنّاس على جبل الزيتون, ليس بعيداً عن حديقة الجثسيماني, حيث ألقوا القبض عليه. كان يوحنا زَبـِدي حراً وآمناً في قصر آنّاس ليس فقط بسبب كلمة القبطان الروماني, لكن أيضاً لأنه وشقيقه يعقوب كانا معروفين جيداً للخدام الأكبر سناً, حيث كانا عدة مرات ضيفين في القصر لأن رئيس الكهنة السابق نسيب بعيد لأمهما, صالومي.
184:1.1 (1978.4) آنّاس مستغنياً من عائدات الهيكل, وصهره رئيس الكهنة بالنيابة, وبعلاقاته مع السُلطات الرومانية, كان بالفعل أقدر فرد في كل اليهود. كان دمث الأخلاق ومخططاً ومتآمراً سياسياً. رغب في توجيه أمر التخلص من يسوع؛ كان يخشى أن يثق بمثل هذا التعهد الهام كلياً لصهره الفظ والعدواني. أراد آنّاس أن يتأكد من أن محاكمة السيد كانت ستُبقى في أيدي الصدوقيين؛ كان يخشى التعاطف المحتمل من بعض الفريسيين. معتبراً أنه عملياً جميع أعضاء السنهدرين أولئك الذين استصوبوا قضية يسوع كانوا فريسيين.
184:1.2 (1978.5) لم يكن آنّاس قد رأى يسوع منذ عدة سنوات, ليس منذ أن زار السيد منزله وغادر فورًا بعد أن لاحظ برودته وتحفظه في استقباله. فكـَّر آنّاس أن يتجاوز هذا التعارف الباكر وبالتالي يحاول إقناع يسوع بالتخلي عن ادعاءاته ومغادرة فلسطين. كان متردداً في المشاركة في قتل رَجل صالح وفكـَّر منطقياً بأن يسوع قد يختار مغادرة البلد بدلاً من أن يكابد الموت. لكن عندما وقف آنّاس أمام الجليلي المتعافي والعازم, أدرك على الفور أنه سيكون من غير المجدي تقديم مثل هذه الاقتراحات. كان يسوع حتى أكثر هيبةً واتزاناً مما تذكَّره آنّاس.
184:1.3 (1979.1) عندما كان يسوع شاباً, كان آنّاس قد اهتم به كثيرا, لكن الآن كانت إيراداته مهددة بسبب ما فعله يسوع مؤخراً في طرد الصيارفة وغيرهم من المبادلين التجاريين من الهيكل. لقد أثار هذا الفعل عداوة رئيس الكهنة السابق أكثر بكثير من تعاليم يسوع.
184:1.4 (1979.2) دخل آنّاس قاعته الفسيحة للاستقبال, وجلس على كرسي كبير, وأمر بأن يُحضر يسوع أمامه. بعد لحظات قليلة قضاها في معاينة السيد بصمت, قال: "أنت تدرك أنه يجب فعل شيء حيال تعليمك لأنك تزعج السلام والنظام في بلدنا." بينما تطلع آنّاس إلى يسوع مستفسرًا, تطلع السيد بالكامل إلى عينيه لكنه لم يرد. مرة أخرى تكلم آنّاس, "ما هي أسماء تلاميذك, إلى جانب, سمعان زيلوطس, المحرض؟" مرة أخرى تطلع يسوع عليه, لكنه لم يجيب.
184:1.5 (1979.3) كان آنّاس منزعجاً بشدة من رفض يسوع الإجابة على أسئلته, كثيراً لدرجة أنه قال له: "ألا تهتم بما إذا كنت ودوداً معك أم لا؟ أليس عندك اعتبار لسلطتي في تقرير عواقب محاكمتك القادمة؟" عندما سمع يسوع هذا, قال: "آنّاس, أنت تعلم بأنك لا يمكن أن يكون لديك أي سلطان علي إلا إذا سمح أبي بذلك. البعض يودون إهلاك ابن الإنسان لأنهم جهلاء؛ لا يعرفون أفضل من ذلك, لكنك, يا صديق, تعرف ما تفعله. فكيف يمكنك, بالتالي, رفض نور الله؟"
184:1.6 (1979.4) الأسلوب اللطيف الذي تكلم به يسوع إلى آنّاس حيره تقريباً. لكنه كان قد قرر بالفعل في عقله بأن يسوع يجب إما أن يترك فلسطين أو يموت؛ وهكذا استجمع شجاعته وسأل: "بالضبط ماذا تحاول تعليم الناس؟ ماذا تدَّعي أن تكون؟" أجاب يسوع: "أنت تعلم جيداً بأنني تكلمت علناً إلى العالَم. لقد علـَّمت في المجامع ومرات عديدة في الهيكل, حيث سمعني جميع اليهود والعديد من الأمميين. لم أتكلم بشيء في الخفاء؛ لماذا, إذن, تسألني عن تعليمي؟ لماذا لا تستدعي الذين سمعوني وتستفسر منهم؟ هوذا, قد سمعت كل أورشليم كل ما تكلمت به حتى لو لم تكن قد سمعت بنفسك هذه التعاليم." لكن قبل أن يتمكن آنّاس من الرد, كبير وكلاء القصر, الذي كان واقفاً بالقرب, ضرب يسوع في الوجه بيده, قائلاً, "كيف تجرؤ على الرد على رئيس الكهنة بمثل هذه الكلمات؟" لم يقل آنّاس كلمات توبيخ إلى خادمه, لكن يسوع خاطبه, قائلاً, "يا صديقي, إذا كنت قد تكلمت شراً, فاشهد على الشر؛ لكن إذا قلت الحق, فلماذا, إذن, تضربني؟"
184:1.7 (1979.5) مع أن آنّاس ندم على أن خادمه ضرب يسوع, إلا أنه كان فخوراً جداً ليلاحظ الأمر. في ارتباكه ذهب إلى غرفة أخرى, تاركاً يسوع وحده مع الحاضرين من أهل البيت وحراس الهيكل لمدة ساعة تقريباً.
184:1.8 (1979.6) عندما عاد, صاعد إلى جانب السيد, قال, "هل تدَّعي أنك المسيح, مخلص إسرائيل؟" قال يسوع: "آنّاس, لقد عرفتني منذ صباي. أنت تعلم أنني لا أدَّعي أن أكون شيئاً سوى ما عيَّنه أبي, وبأني قد أُرسلت إلى كل الناس, أمميين ويهود على حد سواء." عندئذٍ قال آنّاس: "قيل لي بأنك تدَّعي أنك المسيح؛ فهل ذلك صحيح؟" تطلع يسوع إلى آنّاس لكنه فقط أجاب, "هكذا أنت قلت."
184:1.9 (1980.1) حوالي هذا الوقت وصل مراسيل من قصر قيافا للاستفسار عن الوقت الذي سيُحضر فيه يسوع أمام محكمة السنهدرين, وحيث إن الفجر كان يقترب, فقد اعتقد آنّاس أنه من الأفضل أن يرسل يسوع مقيداً وفي وصاية حراس الهيكل إلى قيافا. هو نفسه تبعهم بعد فترة وجيزة.
184:2.1 (1980.2) عندما اقتربت فرقة الحراس والجنود من مدخل قصر آنّاس, كان يوحنا زَبـِدي يسير بجانب قبطان الجنود الرومان. تخلف يوداص لبعض المسافة وراءهم, وتبع سمعان بطرس عن بُعد. بعد أن دخل يوحنا إلى ساحة القصر مع يسوع والحراس, أتى يوداص إلى البوابة لكن, لما رأى يسوع ويوحنا, تابع السير إلى بيت قيافا, حيث علم أن المحاكمة الحقيقية للسيد ستنعقد في وقت لاحق. بعد وقت قصير من مغادرة يوداص, وصل سمعان بطرس, وبينما كان واقفاً أمام البوابة, رآه يوحنا بالضبط بينما كانوا على وشك أن يأخذوا يسوع إلى القصر. عرفت الحاجبة التي حفظت البوابة يوحنا, وعندما تحدث معها, طالباً أن تسمح لبطرس بالدخول, وافقت بسرور.
184:2.2 (1980.3) بطرس, عند دخوله فناء الدار, ذهب إلى نار الفحم وسعى لتدفئة نفسه, لأن الليل كان بارداً. شعر كثيراً بأنه في غير محله هنا بين أعداء يسوع, وفي الحقيقة كان في غير محله. لم يرشده السيد ليكون في متناول اليد كما يوحنا. انتمى بطرس إلى الرُسل الآخرين, الذين حُذروا على وجه التحديد من تعريض حياتهم للخطر خلال هذه الأوقات لمحاكمة وصَلب سيدهم.
184:2.3 (1980.4) ألقى بطرس سيفه قبل أن يأتي إلى بوابة القصر بوقت قصير بحيث دخل فناء بيت آنّاس بدون سلاح. كان عقله في دوامة من الارتباك؛ بالكاد كان يدرك بأن يسوع قد أُلقي القبض عليه. لم يستطع أن يدرك حقيقة الوضع ــ أنه كان هنا في فناء آنّاس, يدفئ نفسه بجانب خدام رئيس الكهنة. تساءل عما كان يفعله الرسل الآخرون, وعندما انقلب في عقله كيف سُمح ليوحنا بالدخول إلى القصر, استنتج بأنه كان معروفاً للخدام, حيث إنه كان قد أمر حافظة البوابة أن تسمح له بالدخول.
184:2.4 (1980.5) بعد فترة وجيزة من سماح حافظة البوابة لبطرس بالدخول, وبينما كان يستدفئ بجانب النار, ذهبت إليه وقالت بخبث, "ألست أنت أيضًا واحداً من تلاميذ هذا الرَجل؟" الآن ما كان ينبغي أن يتفاجأ بطرس من هذا التعرف, لأن يوحنا هو الذي طلب من الفتاة السماح له بالمرور عبر بوابة القصر؛ لكنه كان في حالة من التوتر الشديد بحيث رماه هذا التعَّرف عليه كتلميذ خارج اتزانه, وبفكرة واحدة فقط الأهم في عقله ــ فكرة الهروب بحياته ــ أجاب على الفور على سؤال الخادمة بالقول, "أنا لست."
184:2.5 (1980.6) وسرعان ما جاء خادم آخر إلى بطرس وسأل: "ألم أراك في المنتزه عندما ألقوا القبض على هذا الرفيق؟ ألست ايضاً واحداً من أتباعه؟" كان بطرس الآن مذعوراً تماماً؛ لم ير أي وسيلة للهروب بأمان من متهميه؛ لذلك أنكر بشِدة أي صلة له بيسوع, قائلاً, "لا أعرف هذا الرَجل, ولا أنا واحد من أتباعه".
184:2.6 (1980.7) حول هذا الوقت دنت حافظة البوابة من بطرس إلى جانب واحد وقالت: "أنا متأكدة أنك تلميذ ليسوع هذا, ليس فقط لأن أحد أتباعه أمرني بالسماح لك بالدخول إلى ساحة الدار, لكن أختي هنا قد رأتك في الهيكل مع هذا الرَجل. فلماذا تُنكر هذا؟" عندما سمع بطرس الخادمة تتهمه, أنكر كل معرفة بيسوع مع كثير من اللعن والحلف, مرة أخرى قائلاً, "أنا لست من أتباع هذا الرَجل؛ لا أعرفه حتى؛ لم أسمع به أبداً من قبل."
184:2.7 (1981.1) ترك بطرس جانب النار لبعض الوقت بينما مشى حول فناء القصر. كان يود الهروب لكنه كان يخشى أن يلفت الانتباه إلى نفسه. شاعراً بالبرد, عاد إلى جانب النار, فقال أحد الرجال الواقفين بالقرب منه: "بالتأكيد أنت واحد من تلاميذ هذا الرَجل. يسوع هذا جليلي, ولهجتك تخونك, لأنك تتكلم كجليلي أيضًا." ومرة أخرى أنكر بطرس كل علاقة بسيده.
184:2.8 (1981.2) كان بطرس مضطرباً للغاية لدرجة أنه سعى للهروب من التواصل مع متهميه بالابتعاد عن النار والبقاء بنفسه على الشِرفة. بعد أكثر من ساعة من هذه العزلة, حافظة البوابة وأختها صادف لتلاقياه, وكِلاهما اتهمتاه مرة أخرى بإزعاج بأنه من أتباع يسوع. ومرة أخرى أنكر التهمة. بمجرد أن أنكر مرة أخرى أي صلة بيسوع, صاح الديك, وتذكَّر بطرس كلمات التنبيه التي وجهها إليه سيده في وقت سابق من تلك الليلة بالذات. بينما وقف هناك, منسحق القلب ومحطماً بالذنب, فتحت أبواب القصر, وقاد الحراس يسوع عبرها على الطريق إلى قيافا. عندما مر السيد ببطرس, رأى, على ضوء المشاعل, نظرة اليأس على وجه رسوله السابق الواثق بنفسه والشجاع ظاهرياً, التفت ونظر إلى بطرس. لم ينس بطرس تلك النظرة ما دام حياً. كانت هكذا لمحة من الشفقة والمحبة المختلطة كما لم يراها إنسان فاني قط في وجه السيد.
184:2.9 (1981.3) بعد أن مر يسوع والحراس من بوابات القصر, تبعهم بطرس, لكن فقط لمسافة قصيرة. لم يستطع الذهاب أبعد. جلس بجانب الطريق وبكى بمرارة. وعندما ذرف دموع الكرب هذه, أدار خطواته إلى الوراء نحو المخيم, على أمل أن يجد شقيقه, أندراوس. عند الوصول إلى المخيم, وجد داود زَبـِدي فقط, الذي أرسل مرسالاً ليوجهه إلى حيث ذهب شقيقه ليختبئ في أورشليم.
184:2.10 (1981.4) حدثت تجربة بطرس بأكملها في فناء قصر آنّاس على جبل الزيتون. هو لم يتبع يسوع إلى قصر رئيس الكهنة, قيافا. بأن بطرس أُحضر بصياح الديك إلى الإدراك بأنه قد أنكر سيده مراراً يشير بأن كل ذلك حدث خارج أورشليم لأن تربية الدواجن داخل حدود المدينة أمر مخالف للقانون.
184:2.11 (1981.5) إلى أن أحضر صياح الديك بطرس إلى حواسه الأفضل, كان لديه فكرة واحد فقط, بينما مشى صعوداً ونزولاً على الشرفة, كيف تملص بذكاء من اتهامات الخدم, وكيف أحبط هدفهم في التعرف عليه مع يسوع. للوقت الكائن, كان فقط قد اعتبر بأن هؤلاء الخدام ليس لديهم أي حق أخلاقي أو شرعي لاستجوابه على هذا النحو, وحقاً هنأ نفسه على الطريقة التي اعتقد أنه تجنب بها التعرف عليه وربما إخضاعه للإعتقال والسجن. ليس إلى أن صاح الديك أن خطر ببال بطرس أنه قد أنكر سيده. ليس إلى أن نظر إليه يسوع, أن أدرك بأنه فشل في أن يرقى لامتيازاته كسفير للملكوت.
184:2.12 (1981.6) حيث إنه أخذ الخطوة الأولى على مسار التسوية والمقاومة الأقل, لم يكن هناك شيء واضح لبطرس سوى المضي قدمًا في مسار السلوك المقرر. إنه يتطلب سجية عظيمة ونبيلة, حيث بدأ بشكل خاطئ, أن يستدير ويمضي بشكل صحيح. غالباً جداً ما يميل عقل المرء لتبرير الاستمرارية في مسار الخطأ متى ما دخل مرة فيه.
184:2.13 (1982.1) لم يعتقد بطرس مطلقاً بأنه من الممكن أن يُغفر له إلى أن التقى بسيده بعد القيامة ورأى بأنه تم قبوله تماماً كما قبل تجارب هذه الليلة المأساوية من الإنكارات.
184:3.1 (1982.2) كانت الساعة حوالي الثالثة والنصف من صباح يوم الجمعة هذا عندما استدعى رئيس الكهنة, قيافا, محكمة السنهدرين للتحقيق إلى الانعقاد وطلب أن يُجلب يسوع أمامهم من أجل محاكمته الرسمية. في ثلاث مناسبات سابقة, كان السنهدرين قد أصدر, بتصويت بأغلبية كبيرة, مرسوماً بموت يسوع, قرروا بأنه مستحق الموت بتهم غير رسمية من مخالفة الشريعة, والتجديف, والاستهزاء بتقاليد آباء إسرائيل.
184:3.2 (1982.3) لم يكن هذا اجتماعاً نظامياً لدعوة السنهدرين ولم يُعقد في المكان المعتاد, غرفة الحجر المنحوت في الهيكل. كانت هذه محكمة محاكمة خاصة لحوالي ثلاثين من أعضاء السنهدرين وتم عقدها في قصر رئيس الكهنة. كان يوحنا زَبـِدي حاضراً مع يسوع طوال هذه المحاكمة المزعومة.
184:3.3 (1982.4) كيف كان رؤساء الكهنة هؤلاء, والكتبة, والصدوقيون, وبعض الفريسيين يمدحون أنفسهم أن يسوع, المقلق لمنصبهم والمتحدي لسُلطتهم, كان الآن في أياديهم بإحكام! وعقدوا العزم بأنه يجب ألا يعيش أبداً ليفلت من براثنهم الإنتقامية.
184:3.4 (1982.5) في العادة, كان اليهود, عندما يحاكمون إنساناً بتهمة خطيرة, يُباشرون بحذر كبير ويقومون بتزويد كل ضمانات الإنصاف في اختيار الشهود وكامل سير المحاكمة. لكن في هذه المناسبة, كان قيافا مُدعياً عاماً أكثر مما كان قاضياً غير منحاز.
184:3.5 (1982.6) ظهر يسوع أمام هذه المحكمة مرتدياً ثيابه المعتادة ويداه موثوقتان معاً خلف ظهره. كانت المحكمة بأكملها منذهلة ونوعاً ما مرتبكة بمظهره المهيب. لم يكونوا قد تفرسوا أبداً بمثل هذا السجين ولا شهدوا رباطة جأش كهذه في رجل يُمحاكم على حياته.
184:3.6 (1982.7) تطلبت الشريعة اليهودية بأنه يجب أن يتفق شاهدان على الأقل على أي نقطة قبل توجيه تهمة ضد السجين. لم يمكن استخدام يوداص كشاهد ضد يسوع لأن الشريعة اليهودية تمنع على وجه التحديد شهادة خائن. كان هناك أكثر من عشرين شاهد زور في متناول اليد ليشهدوا ضد يسوع, لكن شهاداتهم كانت متناقضة للغايةً وملفقة بشكل واضح بحيث كان أعضاء السنهدرين أنفسهم خجولين كثيراً من الإجراء. وقف يسوع هناك, متطلع برأفة على هؤلاء الحانثين باليمين, ومحياه بالذات أربك شهود الزور. خلال كل شهادة الزور هذه, لم يقل السيد كلمة؛ لم يرد على اتهاماتهم الكاذبة العديدة.
184:3.7 (1982.8) كانت المرة الأولى التي يقترب فيها أي اثنين من شهودهم حتى من شبه اتفاق عندما كان رجلان قد شهدا أنهما سمعا يسوع يقول في سياق إحدى محاضراته في الهيكل بأنه "سيدمر هذا الهيكل المصنوع بالأيدي وفي ثلاثة أيام يصنع هيكلاً آخر بدون أيدي." لم يكن هذا بالضبط ما قاله يسوع, بغض النظر عن الواقع بأنه أشار إلى جسده الخاص عندما أدلى بالملاحظة المشار إليها.
184:3.8 (1982.9) مع أن الكاهن العالي صرخ في يسوع, "ألا ترد على أي من هذه التهم؟" لم يفتح يسوع فمه. وقف هناك في صمت بينما أدلى كل شهود الزور هؤلاء بشهاداتهم. كراهية, وتعصب, ومبالغات مستهترة ميزت كلمات هؤلاء الحانثين بحيث سقطت شهاداتهم في تشابكاتها الخاصة. أفضل دحض لاتهاماتهم الباطلة كان صمت السيد الهادئ والمهيب.
184:3.9 (1983.1) بعد وقت قصير من بدء شهادة شهود الزور. وصل آنّاس وجلس بجانب قيافا. نهض آنّاس الآن وجادل بأن هذا التهديد من يسوع بتدمير الهيكل كان كافياً لتبرير ثلاث تهم ضده:
184:3.10 (1983.2) 1. بأنه كان محرضاً خطراً للناس. أنه علـَّمهم أشياء مستحيلة وبالأحرى خدعهم.
184:3.11 (1983.3) 2. بأنه كان ثورياً متعصباً حيث إنه دعا إلى وضع أيادي عنيفة على الهيكل المقدس, وإلا فكيف يمكنه تدميره؟
184:3.12 (1983.4) 3. بأنه علـَّم السحر نظراً إلى أنه وعد ببناء هيكل جديد, وبدون أيادي.
184:3.13 (1983.5) كان السنهدرين بالكامل قد وافق بالفعل على أن يسوع كان مذنباً بارتكاب تعديات للشرائع اليهودية تستحق الموت, لكنهم كانوا الآن أكثر اهتماماً بإنشاء تهم تتعلق بسلوكه وتعاليمه التي ستبرر لبيلاطس النطق بالحكم بالإعدام على سجينهم. كانوا يعلمون أنه يجب عليهم الحصول على موافقة الحاكم الروماني قبل أن يتم إعدام يسوع قانونياً. وكان آنّاس راغباً في المضي قدماً على طول الخط لجعل الأمر يبدو بأن يسوع كان معلماً خطراً ليكون طليقاً بين الناس.
184:3.14 (1983.6) لكن قيافا لم يعد قادراً على تحمل منظر السيد واقفاً هناك في رباطة جأش مثالية وصمت غير منقطع. اعتقد أنه عرف على الأقل طريقة واحدة فيها قد يُستحث السجين على الكلام. تبعاً لذلك, اندفع إلى جانب يسوع, وهازاً إصبعه الإتهامي في وجه السيد, قال: "استحلفك باسم الله الحي, بأن تخبرنا ما إذا كنت أنت المخلص, ابن الله." أجاب يسوع قيافا: "أنا هو. قريباً سأذهب إلى الأب, وفي الحاضر سيُكسى ابن الإنسان بقدرة ومرة أخرى يسود على جند السماء."
184:3.15 (1983.7) عندما سمع رئيس الكهنة يسوع ينطق بهذه الكلمات, كان غاضباً للغاية, وشاقاً ثوبه الخارجي, هتف: "ما حاجتنا بعد إلى الشهود؟ انظروا, الآن سمعتم جميعاً تجديف هذا الرَجل. ماذا تعتقدون الآن يجب أن يُفعل مع هذا المخالف للقانون والمجدف؟" وكلهم أجابوا بصوت واحد, "إنه مستحق للموت؛ فليُصلَب."
184:3.16 (1983.8) لم يُظهر يسوع أي اهتمام بأي سؤال طرح عليه عندما كان أمام آنّاس أو أعضاء السنهدرين باستثناء السؤال الوحيد المتعلق بمهمة إغداقه. عندما سُئل عما إذا كان هو ابن الله, أجاب على الفور وبشكل قاطع بالإيجاب.
184:3.17 (1983.9) أراد آنّاس أن تمضي المحاكمة أبعد, وأن تُصاغ اتهامات ذات طبيعة محددة تتعلق بعلاقة يسوع بالشريعة الرومانية والمؤسسات الرومانية لتقديمها لاحقاً إلى بيلاطس. كان أعضاء المجلس حريصين على إنهاء هذه الأمور بسرعة, ليس فقط لأنه كان يوم التحضير لعيد الفصح ولا ينبغي القيام بأي عمل دنيوي بعد الظُهر, لكن أيضاً لأنهم خافوا أن بيلاطس قد يعود في أي وقت إلى عاصمة يهودا الرومانية, قيصريه, حيث إنه كان في أورشليم للاحتفال بعيد الفصح فقط.
184:3.18 (1983.10) لكن آنّاس لم ينجح في حفظ السيطرة على المحكمة. بعد أن أجاب يسوع بشكل غير متوقع على قيافا, تقدم رئيس الكهنة ولطمه بيده على الوجه. كان آنّاس في الحقيقة مصدوماً حيث أن أعضاء المحكمة الآخرين, في خروجهم من الغرفة, بصقوا في وجه يسوع, وصفعه العديد منهم باستهزاء بكفوف يديهم. وهكذا في فوضى وبمثل هذا الارتباك الذي لم يسمع به من قبل انتهت هذه الجلسة الأولى من محاكمة السنهدرين ليسوع في الساعة الرابعة والنصف.
184:3.19 (1984.1) ثلاثون قاضياً زائفين ومتحيزين وعميان بالتقاليد, مع شهودهم الزور, يزعمون أن يجلسوا في الحكم على خالق الكون البار. وهؤلاء المتهمون المتحمسون حانقون بالصمت المهيب والتحمل الرائع لهذا الله-الإنسان. صمته مريع ليُحتمَل؛ وكلامه متحدي بلا خوف. إنه غير متأثر بتهديداتهم وغير مًثبط من اعتداءاتهم. الإنسان يجلس في الحكم على الله, لكن حتى عند ذاك هو أحبهم وكان سيخلصهم إذا أمكنه.
184:4.1 (1984.2) تطلبت الشريعة اليهودية بأنه, فيما يتعلق بإصدار حُكم الإعدام, يجب أن تكون هناك جلستين للمحكمة. كان من المقرر أن تُعقد هذه الجلسة الثانية في اليوم التالي للأولى, وكان ينبغي أن يُقضى الوقت المتداخل في صيام وحداد من قِبل أعضاء المحكمة. لكن هؤلاء الرجال لم يتمكنوا من انتظار اليوم التالي لتثبيت قرارهم بأن يسوع يجب أن يموت. لقد انتظروا ساعة واحدة فقط. في هذه الأثناء تُرك يسوع في قاعة الاجتماع في عهدة حراس الهيكل, الذين, مع خدام الكاهن العالي, تسلوا بتكديس كل نوع من الإهانة على ابن الإنسان. سخروا منه, وبصقوا عليه, وصفعوه بقسوة. كانوا يضربونه في الوجه بقضيب ثم يقولون, "تنبأ لنا, أنت المخلص, من ضربك." وهكذا استمروا لساعة كاملة, شاتمين ومسيئين معاملة هذا الرَجل غير المقاوم من الجليل.
184:4.2 (1984.3) خلال هذه الساعة المأساوية من المعاناة ومحاكمات الاستهزاء أمام الخدام والحراس الجهلة وعديمي الشعور, انتظر يوحنا زَبـِدي في رعب وحيداً في غرفة مجاورة. عندما بدأت هذه الإعتداءات أول مرة, أشار يسوع إلى يوحنا بإيماءة رأسه, بأنه يجب أن يتقاعد. عرف السيد جيداً بأنه, إذا سمح لرسوله بالبقاء في الغرفة ليشهد هذه الإهانات, فسوف يُثار استياء يوحنا بحيث يؤدي لاندلاع احتجاج ساخط الذي ربما يؤدي إلى موته.
184:4.3 (1984.4) طوال هذه الساعة المروعة لم يتفوه يسوع بأي كلمة. إلى هذه الروح اللطيفة والحساسة للبشرية, منضمة في علاقة شخصية مع إله كل هذا الكون, لم يكن هناك جزء أكثر مرارة لكأس إهانته من هذه الساعة الرهيبة تحت رحمة هؤلاء الخدام والحراس القساة والجهلة, الذين كانوا محرَضين على إيذائه من خلال مثال ما يسمى محكمة السنهدرين هذه.
184:4.4 (1984.5) لا يمكن للقلب الإنساني أن يتخيل اقشعرار السخط الذي اجتاح كوناً شاسعاً حينما شهدت الذكاءات السماوية هذا المشهد لسُلطانها المحبوب يُخضع نفسه لمشيئة مخلوقاته الجهلاء والمضللين على الجو المعتم بالخطيئة ليورانشيا البائسة.
184:4.5 (1984.6) ما هي هذه الميزة للحيوان في الإنسان التي تدفعه إلى الرغبة في الإهانة والاعتداء الجسدي على ما لا يستطيع تحقيقه روحياً أو عقلياً؟ في الإنسان نصف المتحضر لا تزال هناك وحشية شريرة تسعى للتنفيس عن نفسها على أولئك الذين يتفوقون في الحكمة والإحراز الروحي. إشهد الفظاعة الشريرة والشراسة الوحشية لهؤلاء الذين يُفترض أنهم أناس متمدنين عندما يستمدون شكلاً معيناً من المتعة الحيوانية من هذا العدوان الجسدي على ابن الإنسان غير المقاوم. بينما وقعت هذه الشتائم والتهكمات, والضربات على يسوع, كان غير مدافع لكن ليس أعزل. لم يكن يسوع مهزوماً, فقط غير مقاوم بالمعنى المادي.
184:4.6 (1985.1) هذه هي لحظات أعظم انتصارات السيد في كل مهمته الطويلة والزاخرة بالأحداث كصانع, وداعم, ومخَّلص لكون شاسع وبعيد-المدى. حيث إنه عاش إلى الملء حياة كشف الله إلى الإنسان, يسوع منشغل الآن في جعل كشف جديد وغير مسبوق عن الإنسان إلى الله. يسوع الآن يكشف للعوالم الانتصار النهائي على كل مخاوف عزلة شخصية المخلوق. لقد أنجز ابن الإنسان أخيراً تحقق الهوية باعتباره ابن الله. لا يتردد يسوع في التأكيد على أنه والأب واحد؛ وعلى أساس واقع وحقيقة تلك التجربة السامية والفائقة, فإنه يحث كل مؤمن في الملكوت ان يصبح واحداً معه حتى كما هو وأبيه واحد. هكذا تصبح التجربة الحية في دين يسوع هي الطريقة الأكيدة والمؤكدة التي يتم من خلالها تمكين بشر الأرض المعزولين روحياً والوحيدين فلكياً من الإفلات من العزلة الشخصية, مع كل ما يترتب عليها من الخوف وما يرتبط به من مشاعر العجز. في الحقائق الأخوية لملكوت السماء يجد أبناء الله بالإيمان خلاصاً نهائياً من عزلة الذات, الشخصية والكوكبية على حد سواء. المؤمن العارف بالله يختبر على نحو متزايد نشوة وعظمة التنشئة الاجتماعية الروحية على مستوى الكون ــ المواطنة على العُلى في صِلة مع الإدراك الأبدي لمصير إلَهي من إحراز الكمال.
184:5.1 (1985.2) في الساعة الخامسة والنصف اجتمعت المحكمة من جديد, واقتيد يسوع إلى الغرفة المجاورة, حيث كان يوحنا ينتظر. هنا كان الجندي الروماني وحراس الهيكل يراقبون يسوع بينما بدأت المحكمة في صياغة التُهم التي كان من المقرر تقديمها إلى بيلاطس. أوضح آنّاس لزملائه بأن تهمة التجديف لن يكون لها أي وزن مع بيلاطس. كان يوداص حاضراً أثناء هذا الاجتماع الثاني للمحكمة, لكنه لم يُدلي بأي شهادة.
184:5.2 (1985.3) استغرقت جلسة المحكمة هذه نصف ساعة فقط, وعندما رُفعت للمثول أمام بيلاطس, كانوا قد صاغوا لائحة التُهم ضد يسوع, على أنه مستحق للموت, تحت ثلاثة رؤوس:
184:5.3 (1985.4) 1. أنه كان مفسداً للأمة اليهودية؛ ضلل الناس وحرضهم على التمرد.
184:5.4 (1985.5) 2. أنه علم الناس أن يرفضوا دفع الجزية إلى قيصر.
184:5.5 (1985.6) 3. أنه من خلال إدعائه بأنه ملك ومؤسس لنوع جديد من الملكوت, حرض على خيانة الإمبراطور.
184:5.6 (1985.7) هذا الإجراء برمته كان غير نظامي ويتعارض كلياً مع الشرائع اليهودية. لم يتفق أي شاهدين على أي أمر باستثناء أولئك الذين شهدوا بشأن تصريح يسوع عن تدمير الهيكل وإقامته مرة أخرى في ثلاثة أيام. وحتى فيما يتعلق بهذه النقطة, لم يتكلم أي شهود للدفاع, ولم يُطلب من يسوع أن يشرح المعنى الذي قصده.
184:5.7 (1985.8) النقطة الوحيدة التي كان يمكن للمحكمة أن تحكم عليه بموجبها بتماسك كانت تلك المتعلقة بالتجديف, وتلك كانت ستستند بالكامل على شهادته الخاصة. حتى فيما يتعلق بالتجديف, فشلوا في إلقاء اقتراع رسمي من أجل حُكم الموت.
184:5.8 (1985.9) والآن زعموا أن يصيغوا ثلاث تُهم, التي سيتقدموا بها أمام بيلاطس, والتي لم يسمع أي شهود بشأنها, والتي تم الاتفاق عليها بينما كان السجين المتهم غائباً. ولما تم هذا, استأذن ثلاثة من الفريسيين؛ أرادوا أن يروا يسوع يهلك, لكنهم لن يصيغوا أي اتهامات ضده بدون شهود وفي غيابه.
184:5.9 (1986.1) لم يمثُل يسوع مرة أخرى أمام محكمة السنهدرين. لم يريدوا أن ينظروا إلى وجهه مرة أخرى بينما يجلسون في الحكم على حياته البريئة. لم يعرف يسوع (كرجل) باتهاماتهم الرسمية حتى سمعها تُتلى بواسطة بيلاطس.
184:5.10 (1986.2) بينما كان يسوع في الغرفة مع يوحنا والحراس, وبينما كانت المحكمة في جلستها الثانية, جاءت بعض النساء حول قصر رئيس الكهنة, مع أصدقائهن, لمشاهدة السجين الغريب, وسألته واحدة منهن, "هل أنت المسيح, ابن الله؟" فأجاب يسوع: "إذا قلت لكِ, فلن تصدقيني؛ وإذا سألتكِ لن تجيبي."
184:5.11 (1986.3) في الساعة السادسة من ذلك الصباح اقتيد يسوع من بيت قيافا للمثول أمام بيلاطس من أجل تثبيت حُكم الإعدام الذي قضت به محكمة السنهدرين بشكل جائر وبدون نظام.
كِتاب يورانشيا
ورقة 185
185:0.1 (1987.1) بعد فترة وجيزة من الساعة السادسة من صباح يوم الجمعة هذا, 7 نيسان, عام 30 م., أُحضر يسوع أمام بيلاطس, الحاكم الروماني الذي حكم يهودا, والسامرة, وأدوميا تحت الإشراف المباشر لمفوضية سوريا. تم أُخذ السيد إلى حضرة الحاكم الروماني من قِبل حراس الهيكل, موثوقاً, ومُرافقاً بحوالي خمسين من متهميه, بما فيهم أعضاء محكمة السنهدرين (الصدوقيين بشكل أساسي), ويوداص إسخريوط, ورئيس الكهنة, قيافا, والرسول يوحنا. لم يظهر آنّاس أمام بيلاطس.
185:0.2 (1987.2) كان بيلاطس مستيقظاً وجاهزاً لاستقبال هذه الجماعة من زوار الصباح الباكر, بعد أن أبلغه أولئك الذين حصلوا على موافقته, في الليلة السابقة, على توظيف الجنود الرومان في إلقاء القبض على ابن الإنسان, بأن يسوع سيُجلَب في وقت مبكر أمامه. تم ترتيب هذه المحاكمة ليتم إجراؤها أمام البريتوريوم, (مقر الحرس الإمبراطوري) مُلحق لحصن أنطونيا, حيث اتخذ بيلاطس وزوجته مقرهما عند التوقف في أورشليم.
185:0.3 (1987.3) مع أن بيلاطس أدار الكثير من استنطاق يسوع داخل قاعات البريتوريوم, فقد عُقدت المحاكمة العلنية في الخارج على الدرجات المؤدية إلى المدخل الرئيسي. كان هذا تنازلاً لليهود, الذين رفضوا دخول أي بناء أممي حيث قد يُستعمل الخمير في هذا اليوم من التحضير لعيد الفصح. مثل هذا التصَّرف ليس فقط سيجعلهم نجسين من الناحية الاحتفالية وبالتالي يحرمهم من المشاركة في تناول وليمة الشُكر بعد الظُهر, بل سيتطلب أيضًا إخضاعهم لمراسم التطهير بعد غروب الشمس, قبل أن يكونوا مؤهلين للمشاركة في عشاء الفصح.
185:0.4 (1987.4) على الرغم من أن هؤلاء اليهود لم يكونوا منزعجين ضميرياً على الإطلاق بينما دبروا مكيدة لإحداث القتل القضائي ليسوع, إلا أنهم كانوا مع ذلك حريصين على كل هذه الأمور المتعلقة بالنظافة الاحتفالية والانتظام التقليدي. ولم يكن هؤلاء اليهود الوحيدين في الفشل في التعرف على المتطلبات السامية والمقدسة ذات الطبيعة الإلَهية بينما يولون اهتماماً شديد التدقيق لأشياء ذات أهمية تافهة لرفاهية الإنسان في كل من الزمن والأبدية.
185:1.1 (1987.5) لو لم يكن بيلاطس البنطي حاكماً جيداً إلى حد معقول للولايات الصغرى, لما أجاز له طيباريوس أن يبقى في منصب النائب العام لإقليم يهودا لمدة عشر سنوات. مع أنه كان إدارياً جيداً إلى حد ما, إلا أنه كان جباناً أخلاقياً. لم يكن رَجلاً كبيراً بما يُكفي ليستوعب طبيعة مهمته كحاكم لليهود. فشل في إدراك حقيقة أن هؤلاء العبرانيين كان لديهم دِين حقيقي, عقيدة كانوا على استعداد للموت من أجلها, وبأن ملايين وملايين منهم, منتشرين هنا وهناك في كل أنحاء الإمبراطورية, تطلعوا إلى أورشليم على أنها مزار لإيمانهم وحسبوا السنهدرين في احترام كأعلى محكمة على وجه الأرض.
185:1.2 (1988.1) لم يكن بيلاطس يحب اليهود, وهذه الكراهية العميقة الجذور بدأت في الظهور في وقت مبكر. من بين كل الولايات الرومانية, لم يكن أي منها أصعب للحُكم من يهودا. لم يفهم بيلاطس في الحقيقة المشاكل التي ينطوي عليها تدبير شؤون اليهود, ولذلك, في وقت مبكر جداً من تجربته كحاكم, ارتكب سلسلة من الهفوات المميتة وشبه الانتحارية. وكانت هذه الأخطاء الفادحة هي التي أعطت اليهود مثل هذه القدرة عليه. عندما أرادوا أن يؤثروا على قراراته, كل ما كان عليهم فعله هو التهديد بثورة, وسرعان ما كان بيلاطس يستسلم. وهذا التأرجح الواضح, أو الإفتقار للشجاعة الأخلاقية, لحاكم الإقليم كان يرجع بشكل أساسي لذاكرة عدد من الخلافات التي كانت لديه مع اليهود ولأنهم كانوا يضايقونه في كل مرة. عرف اليهود أن بيلاطس كان خائفاً منهم, وأنه كان يخشى على منصبه أمام طيباريوس, ووظفوا هذه المعرفة للإضرار الكبير بالحاكم على مناسبات عديدة.
185:1.3 (1988.2) جاء استياء بيلاطس من اليهود نتيجة لعدد من المواجَهات المؤسفة. أولاً فشل أن يأخذ بجدية تحاملهم العميق الجذور ضد كل الصور كرموز لعبادة الأوثان. لذلك سمح لجنوده بأن يدخلوا أورشليم دون إزالة صور قيصر من راياتهم, كما كانت الممارسة لجنود الرومان في عهد سَلفه. انتظر وفد كبير من اليهود بيلاطس لخمسة أيام, يتوسلون إليه ليزيل هذه الصور من الرايات العسكرية. رفض رفضاً قاطعاً أن يمنحهم التماسهم وهددهم بالموت الفوري. بيلاطس, نفسه, كائن مرتاب, لم يفهم بأن أناس ذوي مشاعر دِينية قوية لن يتوانوا عن الموت من أجل قناعاتهم الدِينية؛ ولذلك كان حائراً عندما اصطف هؤلاء اليهود بتحد أمام قصره, حانين وجوههم إلى الأرض, وباعثين كلمة بأنهم على استعداد للموت. عندئذٍ أدرك بيلاطس بأنه قد وجه تهديداً لم يكن مستعداً لتنفيذه. استسلم, وأمر بإزالة الصور من رايات جنوده في أورشليم, ووجد نفسه منذ ذلك اليوم فصاعداً خاضعاً إلى حد كبير لأهواء القادة اليهود, الذين اكتشفوا بهذه الطريقة ضعفه في توجيه تهديدات التي كان يخشى تنفيذها.
185:1.4 (1988.3) قرر بيلاطس لاحقاً أن يستعيد هذه الهيبة المفقودة وبناء عليه وضع دروع الإمبراطور, مثل التي كانت شائعة الاستخدام في عبادة القيصر, على جدران قصر هيرودس في أورشليم. عندما احتج اليهود, كان مصراً. عندما رفض الإستماع إلى احتجاجاتهم, ناشدوا روما في الحال, وأمر الإمبراطور على الفور بإزالة الدروع المزعجة. وعند ذاك اعتُبر بيلاطس حتى باحترام أقل من قبل.
185:1.5 (1988.4) شيء آخر أدخله في جفاء كبير مع اليهود هو أنه تجرأ على أخذ مال من خزينة الهيكل لدفع تكاليف بناء قناة جديدة لتوفير إمدادات المياه المتزايدة لملايين الزوار إلى أورشليم في أوقات الأعياد الدِينية الكبرى. اعتقد اليهود أن السنهدرين وحدهم هم الذين يمكنهم إنفاق أموال الهيكل, ولم يتوقفوا أبداً عن التنديد ببيلاطس لهذا الحُكم المتغطرس. ما لا يقل عن عشرين من أعمال الشغب وكثير من إراقة الدماء نتجت عن هذا القرار. آخر هذه الثورات الخطرة كانت تتعلق بذبح جماعة كبيرة من الجليليين حتى بينما كانوا يعبدون في المذبح.
185:1.6 (1988.5) إنه ذا دلالة هامة بأنه, بينما ضحى هذا الحاكم الروماني المتذبذب بيسوع خوفاً من اليهود ولحماية مركزه الشخصي, تم عزله أخيراً نتيجة لذبح السامريين الذي لا داعي له في علاقة مع ادعاءات مسيح مزيف الذي قاد العساكر إلى جبل جيريزيم, حيث ادعى أن أواني الهيكل مدفونة هناك؛ واندلعت أعمال شغب عنيفة عندما فشل في الكشف عن مكان إخفاء الأواني المقدسة, كما كان قد وعد. نتيجة لهذا الحدث الهام, أمر مندوب سوريا بيلاطس إلى روما. توفي طيباريوس بينما كان بيلاطس في طريقه إلى روما, ولم يتم إعادة تعيينه كحاكم إقليمي ليهودا. هو لم يتعافى أبداً من حُكمه الذي ندم عليه لموافقته على صَلب يسوع. غير واجد أي حظوة في نظر الإمبراطور الجديد, تقاعد إلى ولاية لوزان, حيث انتحر في وقت لاحق.
185:1.7 (1989.1) كلوديا بروكولا, زوجة بيلاطس, سمعت الكثير عن يسوع من خلال كلمة وصيفتها, مؤمنة فينيقية بإنجيل الملكوت. بعد موت بيلاطس, أصبحت كلوديا مرتبطة بشكل بارز بانتشار البشائر.
185:1.8 (1989.2) وكل هذا يفـسر الكثير مما بان على بعد ظُهر هذه الجمعة المأساوية. من السهل فهم لماذا افترض اليهود أن يملوا إلى بيلاطس ــ أن يوقظوه عند الساعة السادسة لمحاكمة يسوع ــ وكذلك لماذا لم يتوانوا في التهديد باتهامه بالخيانة العظمى أمام الإمبراطور إذا تجرأ على رفض مطالبهم بموت يسوع.
185:1.9 (1989.3) إن حاكماً رومانياً جديراً الذي لم يصبح متورطاً بشكل غير ملائم مع حكام اليهود ما كان سمح أبداً لهؤلاء المتعصبين الدِينيين المتعطشين للدماء بأن يجلبوا موت رجل أعلن هو نفسه بأنه بريء من اتهاماتهم الباطلة وبدون خطأ. لقد ارتكبت روما خطأ فادحاً, هفوة بعيدة المدى في الشؤون الأرضية, عندما أرسلت بيلاطس الدرجة الثانية ليحكم فلسطين. كان من الأفضل لطيباريوس لو أرسل إلى اليهود أفضل إداري إقليمي في الإمبراطورية.
185:2.1 (1989.4) عندما تجَّمع يسوع ومتهميه أمام قاعة قضاء بيلاطس, خرج الحاكم الروماني, ومخاطباً الجماعة المتجمعة, سأل, "أي تهمة تحضرونها ضد هذا الرفيق؟" كان الصدوقيون والمستشارون الذين أخذوا على عاتقهم إخراج يسوع من الطريق قد قرروا الذهاب أمام بيلاطس وطلب تثبيت حُكم الإعدام الصادر بحق يسوع, دون التطوع بأي تهمة محددة. لذلك أجاب الناطق باسم محكمة السنهدرين بيلاطس قائلا: "لو لم يكن هذا الرَجل فاعل شر, لما كنا سلمناه إليك."
185:2.2 (1989.5) عندما لاحظ بيلاطس أنهم كانوا مترددين في الإفصاح عن اتهاماتهم ضد يسوع, مع أنه كان يعلم بأنهم انشغلوا طوال الليل في مداولات بشأن جرمه, أجابهم: "بما أنكم لم تتفقوا على أي تُهم محددة, لماذا لا تأخذون هذا الرَجل وتحكمون عليه وفقاً لشريعتكم الخاصة؟"
185:2.3 (1989.6) عند ذلك تكلم كاتب محكمة السنهدرين إلى بيلاطس: لا يجوز لنا أن نضع أي إنسان للموت, وهذا المُخرب لأمتنا يستحق أن يموت من أجل الأشياء التي قالها وفعلها. لذلك جئنا أمامك لتثبيت هذا الحُكم."
185:2.4 (1989.7) للمثول أمام الحاكم الروماني مع هذه المحاولة للتملص تكشف معاً عن سوء نية وتعكر مزاج أعضاء السنهدرين تجاه يسوع بالإضافة إلى افتقارهم لاحترام إنصاف, وشرف, وكرامة بيلاطس. أي وقاحة لهؤلاء الرعايا المواطنين للمثول أمام حاكمهم الإقليمي مطالبين بإعدام رجل قبل منحه محاكمة عادلة ودون حتى توجيه تهم جنائية محددة ضده!
185:2.5 (1990.1) كان بيلاطس يعرف شيئاً ما عن عمل يسوع بين اليهود, وظن أن الاتهامات التي قد تُوجه ضده تتعلق بانتهاكات للشرائع الكنسية اليهودية؛ لذلك سعى لإحالة القضية مرة أخرى إلى محكمتهم الخاصة. مرة أخرى, ابتهج بيلاطس بجعلهم يعترفون علناً بأنهم عاجزين عن إعلان حُكم الإعدام وتنفيذه على حتى واحد من عرقهم الخاص قد احتقروه بكراهية مريرة وحسودة.
185:2.6 (1990.2) كان قبل ذلك بساعات قليلة, قبل منتصف الليل بقليل وبعد أن منحهم الإذن باستخدام الجنود الرومان في تنفيذ الإعتقال السري ليسوع, حينما سمع بيلاطس أكثر عن يسوع وتعاليمه من زوجته, كلوديا, التي اعتنقت جزئياً الدِين اليهودي, والتي أصبحت فيما بعد مؤمنة كاملة العضوية بإنجيل يسوع.
185:2.7 (1990.3) كان بيلاطس يود تأجيل هذه الجلسة, لكنه رأى بأن القادة اليهود مصممين على المضي قدمًا في القضية. كان يعلم بأن هذا لم يكن فقط قبل ظُهر يوم التحضير للفصح, لكن حيث إن هذا اليوم, كائن الجمعة, كان أيضاً يوم التحضير للسبت اليهودي من الراحة والعبادة.
185:2.8 (1990.4) بيلاطس, كائن شديد الحساسية تجاه الأسلوب عديم الإحترام لنهج هؤلاء اليهود, لم يكن مستعداً للإمتثال لمطالبهم بأن يُحكم على يسوع بالإعدام دون محاكمة. لذلك, عندما انتظر لحظات قليلة حتى يقَدموا اتهاماتهم ضد السجين, التفت إليهم وقال: "لن أحكم على هذا الرَجل بالإعدام دون محاكمة؛ ولن أوافق على استجوابه حتى تقدموا التهم الموجهة إليه خطياً."
185:2.9 (1990.5) عندما سمع رئيس الكهنة والآخرون بيلاطس يقول هذا, أشاروا إلى كاتب المحكمة, الذي سَّلم عندئذ إلى بيلاطس التهم المكتوبة ضد يسوع. وهذه التهم كانت:
185:2.10 (1990.6) "نجد في محكمة السنهدرين بأن هذا الرَجل فاعل شر ومُزعج لأمتنا في أنه مذنب بـ:
185:2.11 (1990.7) "1. إفساد أمتنا وإثارة شعبنا للتمرد.
185:2.12 (1990.8) "2. منع الناس من دفع الجزية لقيصر.
185:2.13 (1990.9) "3. أن يطلق على نفسه ملك اليهود ويعلم تأسيس ملكوت جديد."
185:2.14 (1990.10) لم يكن يسوع قد حوكم نظامياً ولا أُدين شرعياً بأي من هذه التهم. حتى لم يسمع هذه الاتهامات عندما أُعلنت لأول مرة, لكن بيلاطس أمر بإحضاره من البروتوريوم, حيث كان في حفظ الحراس, وأصَّر على تكرار هذه التهم في جلسة استماع يسوع.
185:2.15 (1990.11) عندما سمع يسوع هذه الاتهامات, عرف جيداً بأنه لم يكن قد سمع بشأن هذه الأمور أمام المحكمة اليهودية, وهكذا فعل يوحنا زَبـِدي ومتهميه, لكنه لم يرد على اتهاماتهم الكاذبة. حتى عندما طلب منه بيلاطس الرد على متهميه, لم يفتح فمه. كان بيلاطس مذهولاً للغاية من عدم إنصاف الإجراء برمته وكان متأثراً جداً بتحمل يسوع الصامت والمُحكم بحيث قرر أن يأخذ السجين داخل القاعة ويستنطقه على انفراد.
185:2.16 (1990.12) كان بيلاطس مرتبكاً في العقل, وخائفاً من اليهود في قلبه, ومثاراً بقوة في روحه بمشهد يسوع واقفاً هناك في جلال أمام متهميه المتعطشين للدماء ومحملق عليهم نزولاً, ليس في ازدراء صامت, لكن مع تعبير عن الشفقة الصادقة والمودة الحزينة.
185:3.1 (1991.1) أخذ بيلاطس يسوع ويوحنا زَبـِدي إلى غرفة خاصة, تاركاً الحراس بالخارج في القاعة, وطالب من السجين الجلوس, جلس بجانبه وطرح عدة أسئلة. بدأ بيلاطس حديثه مع يسوع مؤكداً له أنه لا يصدق التهمة الأولى ضده: بأنه كان مُفسداً للأمة ومحرضاً على التمرد. ثم سأل, "هل علـَّمت أبداً أنه ينبغي رفض دفع الجزية لقيصر؟" قال يسوع, مشيراً إلى يوحنا, "اسأله أو أي إنسان آخر سمع تعليمي. عندئذٍ سأل بيلاطس يوحنا عن أمر الجزية هذا, وشهد يوحنا بخصوص تعليم سيده وأوضح أن يسوع ورُسله دفعوا الضرائب لقيصر والهيكل معاً. فلما سأل بيلاطس يوحنا, قال, "انظر بألا تخبر أي إنسان بأني قد تكلمت معك". ولم يكشف يوحنا عن هذا الأمر أبداً.
185:3.2 (1991.2) ثم استدار بيلاطس ليسأل يسوع المزيد, قائلاً: "والآن بخصوص التهمة الثالثة ضدك, هل أنت ملك اليهود؟" نظراً لوجود نبرة من الاستفسار الصادق في صوت بيلاطس, ابتسم يسوع لحاكم الإقليم وقال: "بيلاطس, هل تسأل هذا لنفسك, أم هل تأخذ هذا السؤال من هؤلاء الآخرين, الذين يتهمونني؟" عندئذ, بنبرة من السخط الجزئي, أجاب الحاكم: "هل أنا يهودي. لقد سلمك شعبك الخاص ورؤساء الكهنة وطلبوا مني أن أحكم عليك بالموت. أنا أتساءل عن صحة اتهاماتهم وفقط أُحاول أن أجد لنفسي ما فعلت. أخبرني, هل قلت أنك ملك اليهود, وهل سعيت لتأسيس ملكوت جديد؟"
185:3.3 (1991.3) عندئذٍ قال يسوع لبيلاطس: "ألا تدرك أن ملكوتي ليس من هذا العالَم؟ إذا كان ملكوتي من هذا العالَم, فمن المؤكد أن تلاميذي سيحاربون حتى لا أُسَّلَم إلى أيدي اليهود. إن حضوري هنا أمامك بهذه القيود كافي ليُظهر لكل الناس أن ملكوتي هو سُلطان روحي, حتى أخوة الناس الذين, من خلال الإيمان وبالمحبة, أصبحوا أبناء الله. وهذا الخلاص هو من أجل الأمميين كما من أجل اليهود."
185:3.4 (1991.4) "إذن أنت ملك بعد كل شيء؟" قال بيلاطس. فأجاب يسوع: "نعم, أنا مثل هكذا ملك, وملكوتي هو عائلة أبناء الإيمان لأبي الذي في السماء. لهذا الهدف وُلدت نحو هذا العالَم, حتى أنني يجب أن أُظهر أبي لكل الناس وأشهد لحقيقة الله, وحتى الآن أُصرح لك بأن كل من يحب الحقيقة يسمع صوتي."
185:3.5 (1991.5) عندئذٍ قال بيلاطس, نصف في سخرية ونصف في صدق, "الحقيقة, ما هي الحقيقة ــ من يدري؟"
185:3.6 (1991.6) لم يكن بيلاطس قادرًا على فهم كلام كلمات يسوع, ولا كان قادراً على فهم طبيعة ملكوته الروحي, لكنه كان الآن على يقين بأن السجين لم يفعل شيئاً يستحق الموت. نظرة واحدة إلى يسوع, وجهاً لوجه, كانت كافية لإقناع حتى بيلاطس بأن هذا الرَجل اللطيف والمُرهق, إنما المهيب والمستقيم, لم يكن ثورياً متوحشاً وخطراً يطمح ليؤسس نفسه على العرش الدنيوي لإسرائيل. اعتقد بيلاطس أنه فهم شيئاً مما قصده يسوع عندما دعا نفسه ملكاً, لأنه كان على دراية بتعاليم الرواقين, الذين أعلنوا بأن "الرجل الحكيم هو ملك." كان بيلاطس مقتنعاً تماماً بأنه, بدلاً من كونه مروجاً خطراً للفتنة, لم يكن يسوع أكثر أو أقل من مجرد رائي غير مؤذي, متعصب بريء.
185:3.7 (1991.7) بعد استجواب السيد, عاد بيلاطس إلى رؤساء الكهنة ومتهمي يسوع وقال: "لقد استنطقت هذا الرَجل, ولم أجد أي خطأ فيه. لا أعتقد أنه مذنب بالتهم التي وجهتموها إليه؛ أُعتقد أنه يجب أن يُطلق سراحه." ولما سمع اليهود هذا, كانوا مُحركين بغضب شديد, لدرجة أنهم صرخوا بوحشية بأن يسوع يجب أن يموت؛ وتقدم واحد من السنهدرين بجرأة إلى جانب بيلاطس, قائلاً: "هذا الرَجل يحرض الشعب, بدءًا من الجليل واستمراراً في كل أنحاء يهودا. إنه مؤذٍ وفاعل شر. سوف تندم طويلاً إذا أطلقت سراح هذا الرَجل الأثيم."
185:3.8 (1992.1) كان بيلاطس في حاجة ماسة ليعرف ماذا يفعل بيسوع؛ لذلك, عندما سمعهم يقولون بأنه بدأ عمله في الجليل, فكـَّر في تجنب مسؤولية البت في القضية, على الأقل لكسب الوقت من أجل التفكير, بإرسال يسوع للمثول أمام هيرودس, الذي كان آنذاك في المدينة يحضر عيد الفصح. كما اعتقد بيلاطس بأن هذه البادرة من شأنها أن تساعد كترياق لبعض المشاعر المريرة التي قامت لبعض الوقت بينه وبين هيرودس, نتيجة لسوء تفاهمات عديدة حول أمور دوائر الاختصاص.
185:3.9 (1992.2) بيلاطس, داعياً الحراس, قال: "هذا الرَجل جليلي. خذوه فوراً إلى هيرودس, وعندما يستنطقه, أبلغوني بما يتوصل إليه من نتائج." وأخذوا يسوع إلى هيرودس.
185:4.1 (1992.3) عندما توقف هيرودس أنتيباس في أورشليم, أقام في قصر المكابين القديم لهيرودس الكبير, ولقد كان إلى هذا البيت للملك السابق حيث أُخذ يسوع الآن من قبل حراس الهيكل, وتبعه متهميه وجموع متزايدة. كان هيرودس قد سمع عن يسوع منذ فترة طويلة, وكان فضولياً جداً بشأنه. عندما وقف ابن الإنسان أمامه, في صباح يوم الجمعة هذا, لم يتذكر الأدومي الأثيم أبداً ولو للحظة فتى السنوات السابقة الذي مثل أمامه في صفوريه يلتمس قراراً عادلاً فيما يتعلق بالمال المستحق لوالده, الذي قُتل بحادث أثناء عمله على إحدى المباني العامة. على حد علم هيرودس, هو لم يسيق له أن رأى يسوع أبداً, على أنه كان قد قلق إلى حد كبير منه عندما كان عمله مُركَّزاً في الجليل. حيث إنه الآن تحت وصاية بيلاطس وأهل يهودا, كان هيرودس راغباً في رؤيته, شاعر بأمان ضد أي مشكلة منه في المستقبل. كان هيرودس قد سمع الكثير عن المعجزات التي صنعها يسوع, كان يأمل حقاً أن يراه يقوم ببعض العجائب.
185:4.2 (1992.4) عندما أحضروا يسوع أمام هيرودس, ذهل أمير الربع بمظهره الجليل والطلعة الهادئة لملامحه. لحوالي خمس عشرة دقيقة طرح هيرودس أسئلة على يسوع, لكن السيد لم يجيب. سخر منه هيرودس وتحداه على القيام بمعجزة, لكن يسوع لم يكن ليجيب على استفساراته الكثيرة أو يتجاوب إلى تهكماته.
185:4.3 (1992.5) ثم التفت هيرودس إلى رؤوساء الكهنة والصدوقيين, ومعيراً السمع إلى اتهاماتهم, سمع الكل وأكثر مما سمع بيلاطس فيما يتعلق بالأفعال الشريرة المزعومة لابن الإنسان. أخيراً, بعد أن اقتنع أن يسوع لن يتكلم ولن يُؤدي عجيبة من أجله, هيرودس, بعد أن سخر منه لبعض الوقت, خلع عليه ثوباً ملكياً أرجوانياً قديماً وأعاده إلى بيلاطس. كان هيرودس يعلم أنه ليس لديه سلطة قضائية على يسوع في يهودا. ولو إنه كان سعيداً للإعتقاد بأنه سيتخلص أخيراً من يسوع في الجليل, فقد كان ممتناً بأن بيلاطس هو مَن كان لديه مسؤولية الحكم عليه بالموت. لم يكن هيرودس قد تعافى أبداً من الخوف الذي لعنه نتيجة لقتله يوحنا المعمدان. حتى أن هيرودس كان يخشى في أوقات معينة من أن يكون يسوع هو يوحنا قام من الموتى. الآن شعر بالإرتياح من هذا الخوف حيث إنه لاحظ بأن يسوع كان نوعاً من الشخص مختلفاً تماماً عن النبي الصريح والناري الذي تجرأ على التشهير بحياته الخاصة واستنكارها.
185:5.1 (1993.1) عندما أعاد الحراس يسوع إلى بيلاطس, خرج إلى الدرجات الأمامية للبريتوريوم, حيث وُضع كرسي حكمه, وداعياً معاً رؤساء الكهنة وأعضاء السنهدرين, قال لهم: "أحضرتم هذا الرَجل أمامي بتهمة أنه يفسد الناس, ويمنع دفع الضرائب, ويدَّعي أنه ملك اليهود. لقد فحصته وفشلت في إيجاده مذنباً بهذه التهم. في الواقع, لم أجد خطأً فيه. ثم أرسلته إلى هيرودس, ولا بد أن أمير الربع قد توصل إلى نفس النتيجة حيث إنه قد أعاده إلينا. بالتأكيد, لم يفعل هذا الرجل شيئًا يستحق الموت. إذا كنتم لا تزالون تعتقدون أنه بحاجة للتأديب فأنا على استعداد لتأديبه قبل أن أطلق سراحه."
185:5.2 (1993.2) تماماً بينما كان اليهود على وشك الإنخراط في صراخ احتجاجاتهم على إخلاء سبيل يسوع, جاء حشد كبير يتقدم إلى البريتوريوم, لمطالبة بيلاطس بالإفراج عن سجين تكريماً لعيد الفصح. لبعض الوقت كان من عادة الحاكم الروماني السماح للجمهور باختيار سجين أو محكوم عليه من أجل العفو في وقت عيد الفصح. والآن حيث أن هذا الحشد قد حضر أمامه للمطالبة بإطلاق سراح سجين, وبما أن يسوع كان مؤخرًا يحظى باهتمام كبير لدى الجموع, فقد خطر لبيلاطس أنه ربما ينقذ نفسه من مأزقه بالاقتراح لهذه الجماعة أنه, بما أن يسوع كان الآن سجيناً, أمام كرسي قضائه, فهو يخلي لهم سبيل هذا الرجل الجليلي كعربون النية الصالحة لعيد الفصح.
185:5.3 (1993.3) بينما ماج الحشد على درجات المبنى, سمعهم بيلاطس ينادون اسم باراباس. كان باراباس محركاً سياسياً بارزاً ولصاً قاتلاً, ابن كاهن, الذي تم القبض عليه مؤخراً في فعل سطو وقتل على طريق أريحا. كان هذا الرَجل تحت طائلة الحكم بالموت بمجرد انتهاء احتفالات عيد الفصح.
185:5.4 (1993.4) وقف بيلاطس وشرح للجمهور بأن يسوع قد أُحضر إليه برؤساء الكهنة, الذين سعوا إلى إعدامه بتهم معينة, وبأنه لا يعتقد أن الرَجل كان يستحق الموت. قال بيلاطس: "مَن, بالتالي, تفـّضلون أن أطلق سراحه لكم, باراباس هذا, القاتل, أم يسوع الجليلي هذا؟" ولما قال بيلاطس هذا, صاح رؤساء الكهنة ومستشارو السنهدرين كلهم بأعلى أصواتهم, "باراباس, باراباس!" وعندما رأى الناس أن رؤساء الكهنة كانوا ميالين لإعدام يسوع, انضموا بسرعة للصياح من أجل حياته بينما صرخوا عالياً من أجل إطلاق سراح باراباس.
185:5.5 (1993.5) قبل أيام قليلة من هذا كانت الجموع قد وقفت في رهبة من يسوع, لكن الغوغاء لم تحترم مَن, زعم أنه ابن الله, الآن وجد نفسه في عهدة رؤساء الكهنة والحُكام في محاكمة أمام بيلاطس من أجل حياته. كان يمكن أن يكون يسوع بطلاً في أعين العامة عندما كان يطرد الصيارفة والتجار خارج الهيكل, لكن ليس عندما كان سجيناً غير مقاوم في أيدي أعدائه وعلى المحاكمة من أجل حياته.
185:5.6 (1993.6) كان بيلاطس غاضباً لمشهد رؤساء الكهنة يصيحون من أجل العفو عن قاتل سيء السمعة بينما يصرخون طالبين دم يسوع. رأى خبثهم وكراهيتهم وشعر بتحاملهم وحسدهم. لذلك قال لهم: "كيف يمكنكم اختيار حياة قاتل في تفضيل على هذا الرَجل الذي أسوأ جريمة فعلها أنه يطلق على نفسه مجازيًا ملك اليهود؟" لكن هذا لم يكن تصريحاً حكيماً لبيلاطس للإدلاء به. كان اليهود شعباً فخوراً, خاضعين الآن للنير السياسي الروماني لكن آمِلين في مجيء المسيح الذي سيخلصهم من رباط الأمميين مع عرض كبير من القوة والمجد. لقد استاؤوا, أكثر مما عرف بيلاطس, من الإشارة إلى أن هذا المعلم الوديع التصرفات ذا العقائد الغريبة, الآن قيد الإعتقال والمتهم بجرائم تستحق الموت, ينبغي أن يُشار إليه على أنه "ملك اليهود." نظروا إلى هذه الملاحظة على أنها إهانة لكل ما اعتبروه مقدساً ومُشَّرفاً في كيانهم القومي, ولذلك أفلتوا كلهم صرخاتهم القديرة من أجل إطلاق سراح باراباس وموت يسوع.
185:5.7 (1994.1) عرف بيلاطس بأن يسوع كان بريئاً من التهم الموجهة إليه, ولو كان قاضياً عادلاً وشجاعاً, لكان برأه وأطلق سراحه. لكنه كان يخشى تحدي هؤلاء اليهود الغاضبين, وبينما كان مترددًا في القيام بواجبه, جاء مرسال وقـَّدم له رسالة مختومة من زوجته, كلوديا.
185:5.8 (1994.2) أشار بيلاطس إلى أولئك المجتمعين أمامه أنه يرغب في قراءة الرسالة التي تلقاها للتو قبل أن يواصل النظر في الأمر المعروض عليه. عندما فتح بيلاطس هذه الرسالة من زوجته, قرأ: " أصلي أن لا يكون لك أي علاقة بهذا الرَجل العادل والبريء الذي يسمونه يسوع. لقد عانيت الكثير من الأشياء في منامي هذه الليلة بسببه." هذه الملاحظة من كلوديا لم تقلق فقط بيلاطس بشكل كبير وبهذا أخَّرت البت في هذا الأمر, لكنها لسوء الحظ وفرت أيضاً وقتاً طويلاً دار فيه الحكام اليهود بحرية بين الجموع وحثوا الناس على المطالبة بالإفراج عن باراباس وأن يصخبوا من أجل صلب يسوع.
185:5.9 (1994.3) أخيراً, وجه بيلاطس نفسه مرة أخرى لحل المشكلة التي واجهته, بسؤاله الجموع المختلطة من حكام اليهود والحشد المطالب بالعفو. "ماذا سأفعل بالمدعو ملك اليهود؟" وكلهم صرخوا بصوت واحد, "اصلبه! اصلبه!" إجماع الجمهور المختلط على هذا الطلب أجفل وسبب الذعر لبيلاطس, القاضي الظالم والممتطى بالخوف.
185:5.10 (1994.4) عند ذلك قال بيلاطس مرة أخرى: "لماذا تودون صلب هذا الرَجل؟ أي شر فعله؟ من سيتقدم ليشهد ضده؟" لكن عندما سمعوا بيلاطس يتكلم دفاعاً عن يسوع, صرخوا أكثر, اصلبه! اصلبه!"
185:5.11 (1994.5) ثم ناشدهم بيلاطس مرة أخرى بخصوص إطلاق سراح سجين عيد الفصح, قائلاً: "مرة أخرى أسألكم, أي من هذين السجينين سأُطلق لكم في وقت عيدكم الفصح هذا؟" ومرة أخرى صاحت الحشود, "اعطنا باراباس!"
185:5.12 (1994.6) عند ذاك قال بيلاطس: "إذا أخليت سبيل القاتل, باراباس, ماذا يجب أن أفعل بيسوع؟" ومرة أخرى صاحت الجموع بصوت واحد, "اصلبه! اصلبه!"
185:5.13 (1994.7) كان بيلاطس مرتاعاً من صخب الغوغاء المُلِح, عاملين تحت القيادة المباشرة لكبار الكهنة وأعضاء مجلس السنهدرين؛ مع ذلك, قرر محاولة واحدة أخرى على الأقل لإرضاء الحشد وإنقاذ يسوع.
185:6.1 (1994.8) في كل ما يحدث في وقت مبكر من صباح يوم الجمعة هذا أمام بيلاطس, فقط أعداء يسوع يشاركون. أصدقاءه الكثيرون إما لا يعلمون بعد باعتقاله في الليل ومحاكمة الصباح الباكر أو هم مختبئين خشية القبض عليهم أيضاً وأن يُحكم عليهم بالموت لأنهم يؤمنون بتعاليم يسوع. في الحشد الذي يصرخ الآن من أجل موت السيد سيُعثر فقط على أعدائه اللدودين والعامة التي يسهل قيادتها والطائشة.
185:6.2 (1995.1) سوف يوجه بيلاطس نداءًا أخيراً لشفقتهم. كائن خائفاً من تحدي صخب هذا الغوغاء المضلل الذين صرخوا من أجل دم يسوع, أمر الحراس اليهود والجنود الرومان أن يأخذوا يسوع ويجلدوه. كان هذا في حد ذاته إجراءً ظالماً وغير قانوني حيث إن القانون الروماني ينص على أن أولئك المحكوم عليهم بالموت بالصلب فقط يجب أن يخضعوا للجَلد. أخذ الحراس يسوع إلى الفناء المفتوح للبريتوريوم من أجل هذه المحنة. مع أن أعداءه لم يشهدوا هذا الجَلد, فقد فعل بيلاطس, وقبل أن ينتهوا من هذا الإيذاء الأثيم, أمر الجلادين بالكف عن ذلك وأشار بأن يسوع يجب أن يُحضر إليه. قبل أن يضع الجلادون سياطهم المعقودة على يسوع وهو مقيد بعمود الجَلد, مرة أخرى وضعوا عليه الثوب الأرجواني, وضفروا تاجاً من الأشواك, ووضعوه على جبهته. ولما وضعوا قصبة في يده كصولجان استهزاء, ركعوا أمامه وسخروا منه قائلين, "السلام عليك, يا ملك اليهود!" وبصقوا عليه وضربوه في الوجه بأيديهم. وواحد منهم, قبل أن يعيدوه إلى بيلاطس, أخذ القصبة من يده وضربه على الرأس.
185:6.3 (1995.2) بعد ذلك قاد بيلاطس هذا السجين النازف والممزق, ومقدماً إياه أمام الجموع المختلطة, قال: "انظروا الرجل! مرة أخرى أُعلن لكم بأني لا أجد أي جريمة فيه, وحيث إنني جلدته, سأطلق سراحه."
185:6.4 (1995.3) هناك وقف يسوع الناصري, متسربلاً بثوب ملكي أرجواني قديم مع تاج من الأشواك يخترق جبينه الحنون. وجهه ملطخ بالدم وقوامه منحني بالمعاناة والحزن. لكن لا شيء يمكنه التماس القلوب العديمة الشعور لأولئك الذين هم ضحايا الكراهية العاطفية الشديدة وعبيد للتحيز الدِيني. أرسل هذا المنظر قشعريرة عظيمة عبر عوالم كون شاسع, لكنه لم يمس قلوب أولئك الذين قرروا في عقولهم إحداث إهلاك يسوع.
185:6.5 (1995.4) عندما تعافوا من الصدمة الأولى لرؤية محنة السيد, هم فقط صرخوا أعلى وأطول, "اصلبه! اصلبه! اصلبه!"
185:6.6 (1995.5) والآن أدرك بيلاطس أنه من غير المجدي مناشدة مشاعرهم المفترضة للشفقة. تقدم إلى الأمام وقال: "أرى أنكم مصممين بأن يموت هذا الرَجل, لكن ماذا فعل ليستحق الموت؟ من سيعلن جريمته؟"
185:6.7 (1995.6) عند ذاك تقدم رئيس الكهنة بنفسه, وصاعد إلى بيلاطس, أعلن بغضب: "لدينا شريعة مقدسة, وبتلك الشريعة يجب أن يموت هذا الرَجل لأنه جعل نفسه ابن الله." عندما سمع بيلاطس هذا, كان أكثر خوفاً, ليس فقط من اليهود, لكن متذكراً ملاحظة زوجته والأساطير اليونانية عن الآلهة التي نزلت على الأرض, ارتجف الآن من فكرة أن يسوع ربما يكون شخصية إلَهية. لوَّح للحشود بأن يهدأوا بينما أخذ يسوع من ذراعه وقاده مرة أخرى داخل المبنى بحيث يستنطقه إضافياً. كان بيلاطس مرتبكاً الآن بالخوف, ومحتاراً بالخرافة, ومنزعجاً من موقف الغوغاء العنيد.
185:7.1 (1995.7) بينما جلس بيلاطس, يرتجف بمشاعر الخوف, إلى جانب يسوع, سأل: "مَن أين أتيت؟ حقاً, مَن أنت؟ ما هذا الذي يقولونه, بأنك ابن الله؟"
185:7.2 (1996.1) لكن يسوع بالكاد أمكنه أن يجيب على مثل هذه الأسئلة عندما سُئلت من قبل قاضي يخاف الناس, وضعيف, ومتذبذب, ظالم للغاية بحيث أخضعه للجلد حتى بعد أن أعلنه بريئاً من كل جُرم, وقبل أن يُحكم عليه بالإعدام حسب الأصول. نظر يسوع إلى بيلاطس مباشرة في الوجه, لكنه لم يجيبه. ثم قال بيلاطس: "هل ترفض أن تكلمني؟ ألا تدرك بأنه لا يزال لدي سلطة على إطلاق سراحك أو لأصلبك؟" عندئذٍ قال يسوع: "لا يمكن أن يكون لك سلطان علي إلا إذا سمح به من فوق. لا يمكنك ممارسة أي سُلطة على ابن الإنسان ما لم يسمح بها الأب في السماء. لكنك لست مذنباً جداً حيث إنك جاهل بالإنجيل. الذي خانني والذي سلمني إليك, لديهما الخطيئة الأعظم."
185:7.3 (1996.2) هذا الحديث الأخير مع يسوع أرعب جُملةً بيلاطس. هذا الجبان الأخلاقي والمستضعف القضائي اشتغل الآن تحت الوطأة المضاعفة من الخوف الخرافي من يسوع والرهبة القاتلة من القادة اليهود.
185:7.4 (1996.3) مرة أخرى ظهر بيلاطس أمام الجماهير, قائلاً: "أنا متأكد من أن هذا الرَجل هو مجرد مسيء دِيني. يجب أن تأخذوه وتحكموا عليه بموجب شريعتكم. لماذا تتوقعون أني سأوافق على موته لأنه تصادم مع تقاليدكم؟"
185:7.5 (1996.4) كان بيلاطس بالضبط على وشك أن يطلق سراح يسوع عندما اقترب قيافا, رئيس الكهنة, من القاضي الروماني الجبان, وهازاً إصبعاً ثأرية في وجه بيلاطس, قال بكلمات غاضبة كان بإمكان الجموع بأكملها سماعها: "إذا أخليت سبيل هذا الرَجل, فأنت لست صديقاً لقيصر, وسأرى بأن الإمبراطور يعرف كل شيء." هذا التهديد العلني كان أكثر من اللازم على بيلاطس. الخوف على ثرواته الشخصية طغى الآن على كل الإعتبارات الأخرى, وأمر الحاكم الجبان, بأن يُحضر يسوع أمام كرسي القضاء. عندما وقف السيد هناك أمامهم, أشار إليه وبشكل تعسفي قال, "هوذا ملككم." فأجاب اليهود, "بعيداً به. اصلبه!" وعند ذاك قال بيلاطس, بتهكم واستهزاء كثير, "أأصلب ملككم؟" فأجاب اليهود, "نعم, اصلبه! ليس لدينا ملك سوى قيصر." وعند ذلك أدرك بيلاطس أن ليس هناك أمل في إنقاذ يسوع لأنه لم يكن مستعداً لتحدي اليهود.
185:8.1 (1996.5) هنا وقف ابن الله المتجسد كابن الإنسان. أُلقي القبض عليه بدون إقامة دعوى؛ واتُهم بدون دليل؛ وحوكم بدون شهود؛ وعُوقب بدون حُكم؛ والآن قريباً سيُحكم عليه بالموت من قبل قاضٍ ظالم اعترف أنه لم يقدر أن يجد أي خطأ فيه. إذا كان بيلاطس قد فكَّر بمناشدة قوميتهم بالإشارة إلى يسوع على أنه "ملك اليهود", فقد فشل تماماً. لم يكن اليهود يتوقعون أي ملك كهذا. كان إعلان رؤساء الكهنة والصدوقيين, "ليس لدينا ملك سوى قيصر," صدمة حتى إلى العامة العديمي التفكير, لكن كان قد فات الأوان الآن لإنقاذ يسوع حتى لو تجرأ الغوغاء على أن يستصوبوا قضية السيد.
185:8.2 (1996.6) كان بيلاطس خائفاً من شغب أو إخلال بالأمن. لم يجرؤ على المخاطرة بحدوث مثل هذا الاضطراب أثناء وقت الفصح في أورشليم. كان قد تلقى مؤخراً توبيخاً من قيصر, ولن يخاطر بآخر. هلل الغوغاء عندما أمر بإخلاء سبيل باراباس. بعد ذلك أمر بحوض وبعض الماء, وهناك أمام الجموع غسل يديه, قائلاً: "أنا بريء من دم هذا الرَجل. لقد صممتم بأنه يجب أن يموت, لكنني لم أجد أي ذنْب فيه. انظروا أنتم في الأمر. سيقوده الجنود." وعند ذاك هتف الغوغاء وأجابوا, "ليكن دمه علينا وعلى أطفالنا".
كِتاب يورانشيا
ورقة 186
186:0.1 (1997.1) عندما سار يسوع ومتهميه لرؤية هيرودس, التفت السيد إلى الرسول يوحنا وقال: "يوحنا, ليس بمقدورك أن تفعل أكثر من أجلي. اذهب إلى أمي وأحضرها لتراني قبل أن أموت." عندما سمع يوحنا طلب سيده, مع أنه كان متردداً في تركه وحده بين أعدائه, أسرع إلى بيت-عنيا, حيث كانت عائلة يسوع بأكملها متجمعة في الانتظار في بيت مارثا ومريم, شقيقتا لِعازر الذي أقامه يسوع من الأموات.
186:0.2 (1997.2) عدة مرات خلال الصباح, أحضر المراسيل أخباراً إلى مارثا ومريم بخصوص سير محاكمة يسوع. لكن عائلة يسوع لم تصل إلى بيت-عنيا إلا قبل دقائق قليلة من وصول يوحنا حاملاً طلب يسوع لرؤية أُمه قبل أن يعدموه. بعد أن أخبرهم يوحنا زَبـِدي بكل ما حدث منذ إلقاء القبض على يسوع عند منتصف الليل, ذهبت مريم والدته على الفور بصحبة يوحنا لرؤية ابنها البكر. بحلول الوقت الذي وصلت فيه مريم ويوحنا إلى المدينة, كان يسوع, مُرافَقاً بالجنود الرومان الذين كانوا سيصلبونه, قد وصل تواً إلى الجلجثه.
186:0.3 (1997.3) عندما سارت مريم أُم يسوع مع يوحنا للذهاب إلى ابنها, رفضت شقيقته راعوث أن تتخلف مع بقية العائلة, حيث إنها كانت مُصّرة على مرافقة والدتها, ذهب شقيقها يهوذا معها. بقي باقي أفراد عائلة السيد في بيت-عنيا تحت توجيه يعقوب, وتقريباً كل ساعة, أحضر مراسيل داود زَبـِدي إليهم تقارير عن تقدم ذلك العمل المريع لإعدام شقيقهم الأكبر, يسوع الناصري.
186:1.1 (1997.4) لقد كان حوالي الساعة الثامنة والنصف صباح الجمعة هذا عندما انتهت جلسة سماع يسوع أمام بيلاطس ووُضع السيد في عهدة الجنود الرومان الذين كانوا سيصلبونه. حالما استحوذ الرومان على يسوع, مشى قبطان حراس اليهود مع رجاله عائدين إلى مركز إدارتهم في الهيكل. تبعهم رئيس الكهنة ورفاقه السنهدرين عن كثب خلف الحراس, متوجهين مباشرة إلى مكان اجتماعهم المعتاد في قاعة الحجر المنحوت في الهيكل. هنا وجدوا العديد من أعضاء السنهدرين الآخرين ينتظرون معرفة ما حدث مع يسوع. بينما كان قيافا منشغلاً بتقديم تقريره إلى السنهدرين بشأن محاكمة وإدانة يسوع, ظهر يوداص أمامهم للمطالبة بمكافأته على الدور الذي قام به في إلقاء القبض على سيده والحكم بالموت.
186:1.2 (1997.5) كل هؤلاء اليهود اشمأزوا من يوداص؛ نظروا إلى الخائن بمشاعر الازدراء التام فقط. طوال محاكمة يسوع أمام قيافا وأثناء مثوله أمام بيلاطس, كان يوداص يشعر بوخز الضمير بشأن تصرفه الخائن. وكان أيضاً قد بدأ يشعر بخيبة الأمل نوعاً ما فيما يتعلق بالمكافأة التي كان سيحصل عليها مقابل خدماته كخائن ليسوع. لم يعجبه برودة وترفع السُلطات اليهودية؛ مع ذلك, كان يتوقع أن يُكافأ بسخاء على تصَّرفه الجبان. توقع أن يتم استدعاؤه أمام الاجتماع الكامل للسنهدرين وهناك يسمع الثناء عليه بينما يضفون عليه التكريم المناسب للخدمة العظيمة التي أطرى نفسه عليها بأنه قدمها لأُمته. تخيل, إذن, المفاجأة العظيمة لهذا الخائن الأناني عندما ربت خادم رئيس الكهنة على كتفه, داعياً إياه خارج القاعة بالضبط وقال: "يوداص, لقد تم تعييني لأدفع لك لأجل خيانة يسوع. ها هي مكافأتك." ومتكلم بهذا, سَّلم خادم قيافا يوداص كيساً يحتوى على ثلاثين قطعة من الفضة ــ الثمن الجاري لعبد جيد, ومتعافِ.
186:1.3 (1998.1) كان يوداص مصعوقاً, معقود اللسان. اندفع عائداً ليدخل القاعة, لكن البواب منعه. أراد أن يُناشد السنهدرين, لكنهم لم يسمحوا له بالدخول. لم يستطع يوداص أن يصدق بأن حكام اليهود هؤلاء سيسمحون له بخيانة أصدقائه وسيده وبعد ذلك يقدمون له كمكافأة ثلاثين قطعة من الفضة. لقد تعرض للإهانة, وخيبة الأمل, والسحق التام. مشى بعيداً عن الهيكل, كما لو كان في غيبوبة. تلقائياً رمى كيس المال في جيبه العميق, ذات الجيب الذي حمل فيه لفترة طويلة جداً الكيس المحتوي على الأموال الرسولية. وهام في أرجاء المدينة وراء الحشود التي كانت في طريقها لتشهد الصَلب.
186:1.4 (1998.2) من مسافة رآهم يوداص يرفعون قطعة الصليب مع يسوع مُسَّمر عليها, وعند رؤية هذا اندفع عائداً إلى الهيكل, متجاوزاً البواب, وجد نفسه واقفاً في حضرة السنهدرين, الذين كانوا لا يزالون في الجلسة. كان الخائن تقريباً مقطوع النفَس ومذهولاً للغاية, لكنه دبر أن يتلعثم بهذه الكلمات: "لقد أخطأت بأني خنت دماً بريئاً. لقد أهنتموني. لقد منحتموني كمكافأة على خدمتي, مال ــ ثمن عبد. أنا نادم بأني فعلت هذا؛ هنا مالكم. أريد الهرب من ذنب هذا الفعل."
186:1.5 (1998.3) عندما سمع حُكام اليهود يوداص, سخروا منه. واحد منهم جالس بالقرب من حيث وقف يوداص, أومأ بأنه يجب أن يغادر القاعة وقال: "قد وضع سيدك تواً للموت على يد الرومان, أما بالنسبة إلى شعورك بالذنب, فماذا لنا في ذلك؟ انظر أنت إلى ذلك ــ وانصرف!"
186:1.6 (1998.4) لما غادر يوداص قاعة السنهدرين, أزال قطع الفضة الثلاثين من الكيس ورماها منثورة على أرض الهيكل. عندما غادر الخائن الهيكل, كان تقريباً معتوهاً. كان يوداص يمر الآن خلال محنة إدراك الطبيعة الحقيقية للخطيئة. لقد اختفى كل سحْر, وافتتان, وسكر ارتكاب الإثم. الآن وقف فاعل الشر وحيدًا وجهاً لوجه مع حُكم قضاء نفـسه المخذولة والخائبة الأمل. كانت الخطيئة ساحرة ومغامِرة في الاقتراف, لكن الآن يجب مواجهة حصاد الحقائق العارية وغير الخيالية.
186:1.7 (1998.5) هذا السفير في أحد الأوقات لملكوت السماء على الأرض مشى الآن خلال شوارع أورشليم, مهجوراً ووحيداً. كان يأسه قانطاً وتقريباً مُطلق. استمر في رحيله عبر المدينة وخارج الأسوار نزولاً نحو العزلة الرهيبة لوادي هينوم, حيث تسلق الصخرة شديدة الإنحدار, وآخذ حزام عباءته, ربط أحد أطرافه إلى شجرة صغيرة, وربط الطرف الآخر حول رقبته, وألقى بنفسه من فوق الهاوية. قبل أن يموت, انفـَّكت العقدة التي ربطتها يداه المتوترة, وتناثرت جثة الخائن إلى قطع عندما وقع على الصخور المسننة أدناه.
186:2.1 (1999.1) عندما أُلقي القبض على يسوع, علم بأن عمله على الأرض, في شبه الجسد الفاني, قد انتهى. فهم تماماً نوع الموت الذي سيموته, وكان قليل الاهتمام بتفاصيل ما يسمى محاكماته.
186:2.2 (1999.2) أمام محكمة السنهدرين رفض يسوع الإدلاء برد على شهادة شهود الزور. لم يكن هناك سوى سؤال واحد الذي كان دائماً يستدعي إجابة, سواء طرحه صديق أم عدو, وذلك كان السؤال المتعلق بطبيعة وألوهية مهمته على الأرض. عندما سُئل ما إذا كان ابن الله, أجاب بدون إخفاق. رفض بثبات أن يتكلم عندما كان في حضرة هيرودس الفضولي والأثيم. تكلم أمام بيلاطس فقط عندما اعتقد بأن بيلاطس أو شخص مُخْلِص ما آخر قد يُساعَد في معرفة الحقيقة بشكل أفضل من خلال ما قاله. كان يسوع قد علـَّم رُسله عدم جدوى إلقاء دررهم أمام الخنازير, والآن تجرأ على ممارسة ما علـَّمه. مثـَّل تصرفه في هذا الوقت الخضوع الصبور للطبيعة البشرية مزدوج مع الصمت المهيب والكرامة الحازمة للطبيعة الإلَهية. كان على استعداد تام لمناقشة أي سؤال مع بيلاطس يتعلق بالتهم السياسية الموجهة إليه ــ أي سؤال يتعرف عليه كمنتميٍ إلى دائرة نفوذ الحاكم.
186:2.3 (1999.3) كان يسوع مقتنعاً بأنها مشيئة الأب بأن يُخضع نفسه للمسار الطبيعي والاعتيادي للأحداث البشرية تمامًا كما ينبغي على كل مخلوق بشري آخر, ولذلك رفض أن يوظف حتى قدراته البشرية البحتة من بلاغة مقنعة للتأثير على نتيجة مكائد زملائه البشر الذين يعانون من قصر النظر اجتماعياً والعميان روحياً. مع أن يسوع عاش ومات على يورانشيا, إلا أن مهمته الإنسانية بأكملها, من البداية إلى النهاية, كانت مشهداً مُصمماً للتأثير على الكون بأكمله من خليقته وتوجيهه ودعمه المستمر.
186:2.4 (1999.4) صخب هؤلاء اليهود قصيري النظر على نحو غير لائق لموت السيد بينما وقف هناك في صمت مروع ينظر إلى مشهد موت الأمة ــ شعب أبيه الأرضي.
186:2.5 (1999.5) كان يسوع قد اكتسب ذلك النوع من الطبع الإنساني الذي يمكنه من الحفاظ على رباطة جأشه ويؤكد كرامته في وجه الإهانة المستمرة وغير المبررة. ما كان يمكن تخويفه. عندما اعتدى عليه خادم أنّاس لأول مرة, اقترح فقط استصواب دعوة الشهود الذين قد يشهدون ضده حسب الأصول.
186:2.6 (1999.6) من البداية إلى النهاية, في ما يسمى محاكمته أمام بيلاطس, لم تقدر الجماهير السماوية المتطلعة أن تمتنع عن إذاعة مشهد "بيلاطس على المحاكمة أمام يسوع". إلى الكون.
186:2.7 (1999.7) عندما أمام قيافا, وعندما انهارت كل شهادات الزور, لم يتردد يسوع في الإجابة على سؤال رئيس الكهنة, بهذا مزوداً في شهادته ما أرادوه كأساس لإدانته بالتجديف.
186:2.8 (1999.8) لم يُبد السيد أبداً أقل اهتمام بجهود بيلاطس الحسنة النية إنما الفاترة لإطلاق سراحه. لقد أشفق حقاً على بيلاطس وسعى بإخلاص لتنوير عقله المعتم. كان سلبياً تماماً إلى كل مناشدات الحاكم الروماني لليهود لسحب اتهاماتهم الجنائية الموجهة إليه. طوال المحنة الحزينة تحَّمل بكرامة بسيطة وجلال غير متباه. لم يود كثيراً إلقاء انعكاسات من عدم الصدق على الذين سيكونون قاتليه عندما سألوا عما إذا كان "ملك اليهود". مع القليل من التفسير المشروط قبـِل الدلالة, عالماً أنه, بينما اختاروا أن يرفضوه, فإنه سيكون آخر من يمنحهم قيادة قومية حقيقية, حتى بالمعنى الروحي.
186:2.9 (2000.1) قال يسوع القليل أثناء هذه المحن, لكنه قال بما فيه الكفاية ليُظهر لكل البشر نوع الطبع الإنساني الذي يمكن للإنسان أن يتقنه في مشاركة مع الله وأن يكشف لكل الكون الأسلوب الذي به يمكن لله أن يصبح متجلياً في حياة المخلوق عندما يختار مثل هذا المخلوق حقاً أن يفعل مشيئة الأب, بهذا مصبحاً ابناً فعالاً لله الحي.
186:2.10 (2000.2) محبته للبشر الجهلاء ظاهرة كلياً من خلال صبره وامتلاكه للذات العظيم في وجه التهكمات, والضربات, واللطمات من الجنود الفظين والخدم عديمي التفكير. لم يكن حتى غاضباً عندما عصبوا عينيه, وضربوه في الوجه بسخرية, هاتفين: "تنبأ لنا من الذي ضربك."
186:2.11 (2000.3) تكلم بيلاطس بصدق أكثر مما كان يعرف عندما, بعد أن جُلد يسوع, قدّمه أمام الجموع هاتفاً, "انظروا الرجل!" في الواقع, الحاكم الروماني الممتطى بالخوف, قليلاً حلم أنه في تلك اللحظة بالذات وقف الكون في انتباه, يحدق بهذا المشهد الفريد لسُلطانه المحبوب هكذا خاضع في تحقير لتعييرات وضربات رعاياه الفانين المظلمين والمنحطين. وبينما تكلم بيلاطس, تردد صدى في كل أنحاء نِبادون, "انظروا الله والإنسان!" في كل أنحاء كون, استمر ملايين لا حصر لهم منذ ذلك اليوم في مشاهدة ذلك الإنسان, بينما إله هاﭭونا, الحاكم السامي لكون الأكوان, يقبل إنسان الناصرة باعتباره الرضى للمثال الأعلى للمخلوقات الفانية لهذا الكون المحلي للزمان والفضاء. في حياته التي لا مثيل لها لم يفشل أبداً في كشف الله إلى الإنسان. الآن, في هذه الوقائع الأخيرة لمهمته البشرية وفي وفاته اللاحقة, قدم وحياً جديداً ومؤثراً عن الإنسان إلى الله.
186:3.1 (2000.4) بعد فترة وجيزة من تسليم يسوع إلى الجنود الرومان في ختام الجلسة أمام بيلاطس, سارعت مفرزة من حراس الهيكل إلى الجثسيماني لتفريق أتباع السيد أو اعتقالهم. لكن قبل وصولهم بوقت طويل كان هؤلاء الأتباع قد تفرقوا. كان الرُسل قد تقاعدوا إلى مخابئ معينة؛ كان اليونانيون قد انفصلوا وذهبوا إلى بيوت مختلفة في أورشليم؛ بالمثل اختفى التلاميذ الآخرون. اعتقد داود زَبـِدي أن أعداء يسوع سيعودون؛ لذلك أزال في وقت مبكر حوالي خمس أو ست خيام في الوادي القريب حيث تقاعد السيد كثيراً للصلاة والعبادة. هنا اقترح إخفاء وفي نفس الوقت الحفاظ على مركز, أو محطة تنسيق, من أجل خدمة مراسيله. كان داود بالكاد قد ترك المخيم عندما وصل حراس الهيكل. غير واجدين أحدًا هناك, اكتفوا بإحراق المخيم ثم أسرعوا بالعودة إلى الهيكل. عند سماع تقريرهم, كان السنهدرين راضين بأن أتباع يسوع كانوا مرتعبين ومقهورين للغاية بحيث لن يكون هناك خطر من انتفاضة أو محاولة لإنقاذ يسوع من أيدي جلاديه. كانوا أخيراً قادرين على التنفس بسهولة, وهكذا رفعوا الجلسة, كل رَجل ذاهب في طريقه للاستعداد لعيد الفصح.
186:3.2 (2000.5) بمجرد أن سلم بيلاطس يسوع إلى الجنود الرومان من أجل الصَلب, سارع مرسال إلى الجثسيماني لإبلاغ داود, وفي غضون خمس دقائق كان العداءون في طريقهم إلى بيت-صيدا, وبـِلا, وفيلادلفيا, وصيدا, وشكيم, وحبرون, ودمشق, والإسكندرية. ونقل هؤلاء المراسيل الأخبار بأن يسوع كان على وشك أن يُصلب على يد الرومان بناء على الإيعاز اللجوج للحكام اليهود.
186:3.3 (2001.1) طوال هذا اليوم المأساوي, حتى انطلقت الرسالة أخيراً بأن السيد قد وُضع في القبر, أرسل داود مراسيل كل نصف ساعة تقريباً مع تقارير إلى الرُسل واليونانيين, وعائلة يسوع الأرضية, المتجمعين عند بيت لِعازر في بيت-عنيا. عندما رحل المراسيل مع كلمة بأن يسوع قد دُفن, صرف داود كتيبته من العدائين المحليين من أجل الاحتفال بعيد الفصح وسبت الراحة القادم مُرشداً إياهم ليأتوا إليه بهدوء صباح الأحد في بيت نيقوديموس, حيث اقترح أن يختبئ لبضعة أيام مع أندراوس وسمعان بطرس.
186:3.4 (2001.2) داود زَبـِدي هذا صاحب العقلية الخاصة كان الوحيد من بين تلاميذ يسوع البارزين الذي كان يميل إلى اتخاذ وجهة نظر حرفية وكأمر واقع لتأكيد السيد بأنه سيموت "ويقوم مرة أخرى على اليوم الثالث." كان داود قد سمعه ذات مرة وهو يتنبأ بهذه النبوءة, وكائن منعطفًا عقلياُ للكلام الحرفي, اقترح الآن أن يجمع مراسيله في وقت مبكر من صباح الأحد في بيت نيقوديموس بحيث سيكونون في متناول اليد لنشر الأخبار في حال قيام يسوع من بين الأموات. سرعان ما اكتشف داود بأن لا أحد من أتباع يسوع كان يتطلع لعودته قريباً جداً من القبر؛ لذلك قال القليل عن إيمانه ولم يقل شيئًا عن حشد كل قوة مراسيله في وقت مبكر من صباح الأحد ما عدا للعدائين الذين تم إرسالهم قبل ظُهر يوم الجمعة إلى المدن البعيدة ومراكز المؤمنين.
186:3.5 (2001.3) وهكذا فإن أتباع يسوع هؤلاء, المنتشرين في كل أنحاء أورشليم وجوارها, تناولوا تلك الليلة عشاء عيد الفصح وفي اليوم التالي بقِوا في عزلة.
186:4.1 (2001.4) بعد أن غسل بيلاطس يديه أمام الجموع, بهذا ساعياً للهروب من ذنب تسليم رَجل بريء ليُصلب لمجرد خوفه من مقاومة صخب حكام اليهود, أمر بتسليم السيد إلى الجنود الرومان وأعطى كلمة لقائدهم بأن يُصلب على الفور. عند استلامهم يسوع, قاده الجنود الرومان رجوعاً إلى فناء البروتوريوم, وبعد أن خلعوا الثوب الذي وضعه هيرودس عليه, ألبسوه ثيابه الخاصة. استهزأ به هؤلاء الجنود وسخروا منه, لكنهم لم ينزلوا به مزيدًا من العقوبة الجسدية. كان يسوع وحده الآن مع هؤلاء الجنود الرومان. كان أصدقاؤه مختبئين؛ وأعداءه قد ذهبوا في طريقهم؛ حتى يوحنا زَبـِدي لم يعد بجانبه.
186:4.2 (2001.5) كان بعد الساعة الثامنة بقليل عندما سلم بيلاطس يسوع للجنود وقبل الساعة التاسعة بقليل عندما ساروا إلى مكان الصَلب. خلال هذه الفترة التي تزيد عن نصف ساعة لم يتكلم يسوع كلمة. كان العمل التنفيذي لكون كبير في حالة توقف تام عملياً. كان جبرائيل وحُكام نِبادون الرئيسيين إما متجمعين هنا على يورانشيا, أو كانوا حاضرين عن كثب على تقارير الفضاء من رؤساء الملائكة في محاولة للحفاظ على إطلاعهم على ما كان يحدث لابن الإنسان على يورانشيا.
186:4.3 (2001.6) في الوقت الذي كان فيه الجنود مستعدين للمغادرة مع يسوع إلى الجلجثه, كانوا قد بدأوا يتأثرون بصموده غير العادي وكرامته الاستثنائية, وبصمته غير الشاكي.
186:4.4 (2001.7) كان الكثير من التأخير في السير مع يسوع إلى موقع الصَلب نتيجة إلى قرار أخر دقيقة للقبطان أن يأخذ معه اثنين من اللصوص حُكم عليهما بالموت؛ نظراً لأن يسوع كان من المقرر أن يُصلب في ذلك الصباح, اعتقد القبطان الروماني أنه من الأفضل أن يموت هذين الاثنين معه بدلاً من الانتظار إلى نهاية احتفالات الفصح.
186:4.5 (2002.1) بمجرد أن جُعل اللصين جاهزين, تم اقتيادهما إلى الساحة حيث حملقا بيسوع, واحد منهم للمرة الأولى, لكن الآخر كان قد سمعه غالباً يتكلم, في الهيكل وقبل عدة أشهر أيضاً في مخيم بـِلا.
186:5.1 (2002.2) ليست هناك علاقة مباشرة بين موت يسوع وعيد الفصح اليهودي. صحيح, أن السيد سلـَّم حياته في الجسد في هذا اليوم, يوم التحضير لعيد الفصح اليهودي, وحوالي وقت ذبح حملان الفصح في الهيكل. لكن هذا الحدث المتزامن لا يشير بأي حال بأن موت ابن الإنسان على الأرض له أي صلة بنظام التضحية اليهودي. كان يسوع يهودياً, لكن بصفته ابن الإنسان كان فانياً من العوالم. الأحداث التي رويت للتو والمؤدية إلى صَلب السيد الوشيك كافية للإشارة إلى أن موته في حوالي هذا الوقت كان شأناً طبيعياً بحتاً وبإدارة الإنسان.
186:5.2 (2002.3) كان الإنسان وليس الله مَن خطط ونفذ موت يسوع على الصليب. صحيح, أن الأب رفض التدخل بسير الأحداث البشرية على يورانشيا, لكن الأب في الفردوس لم يأمر, أو يطلب, أو يتطلب موت ابنه كما تم على الأرض. إنها حقيقة أنه بطريقة ما, عاجلاً أم آجلاً, كان يتعين على يسوع أن يتجرد من جسده الفاني, تجسده في الجسد, لكن كان بإمكانه أن ينفذ هذه المهمة بطرق لا حصر لها دون أن يموت على الصليب بين لصين. كل هذا كان فِعل الإنسان, وليس الله.
186:5.3 (2002.4) في وقت معمودية السيد هو كان قد أتم بالفعل تقنية الخبرة المطلوبة على الأرض وفي الجسد والتي كانت لازمة لإتمام إغداقه الكوني السابع والأخير. في هذا الوقت بالذات كان قد تم واجب يسوع على الأرض. كل الحياة التي عاشها بعد ذلك, وحتى طريقة موته, كانت إسعاف شخصي بحت من جانبه من أجل رفاهية ورفع مخلوقاته الفانية على هذا العالَم وعوالم أخرى.
186:5.4 (2002.5) إن إنجيل البشائر بأن الإنسان الفاني, بالإيمان, قد يصبح واعياً بالروح بأنه ابن الله, لا يعتمد على موت يسوع. صحيح, في الواقع, كل هذا الإنجيل للملكوت قد كان منوراً بشكل هائل بموت السيد, لكن حتى أكثر من خلال حياته.
186:5.5 (2002.6) كل ما قاله أو فعله ابن الإنسان على الأرض زخرف بشكل كبير عقائد البنوة مع الله وأخوة الناس. لكن هذه العلاقات الجوهرية لله والإنسان متأصلة في حقائق الكون لمحبة الله لمخلوقاته والرحمة الفطرية للأبناء الإلَهيين. هذه العلاقات المؤثرة والجميلة إلَهياً بين الإنسان وصانعه على هذا العالَم وعلى كل العوالم الأخرى في جميع أنحاء كون الأكوان قد تواجدت منذ الأزل؛ ولا تتوقف بأي حال على تشريعات الإغداق الدورية هذه لأبناء الله الخالقين, الذين بهذا يتقلدون طبيعة وشبه ذكاءاتهم المخلوقة كجزء من الثمن الذي يتوجب عليهم دفعه لأجل الحصول النهائي على سيادة غير محدودة على أكوانهم المحلية المعنية.
186:5.6 (2002.7) الأب في السماء أحب الإنسان الفاني على الأرض بالضبط مثلما قبل حياة وموت يسوع على يورانشيا كما فعل بعد هذا العرض المتسامي للشراكة بين الإنسان والله. هذه الصفقة الجليلة المتمثلة في تجسد إله نيبادون كرجل على يورانشيا لا تستطيع أن تُحَّسن سجايا الأب الأبدي, واللانهائي, والكوني, لكنها فعلاً أغنت ونورت جميع الإداريين والمخلوقات الأخرى لكون نِبادون. في حين أن الأب في السماء لا يحبنا أكثر بسبب إغداق ميخائيل, فإن كل الذكاءات السماوية الأخرى تفعل. وهذا لأن يسوع لم يقم فقط بكشف الله للإنسان, لكنه كذلك بالمثل قدم كشفاً جديداً عن الإنسان للآلهة والذكاءات السماوية لكون الأكوان.
186:5.7 (2003.1) إن يسوع ليس على وشك أن يموت كذبيحة من أجل الخطيئة. إنه لن يكفر عن ذنب أخلاقي موروث للجنس البشري. ليس لدى جنس الإنسان مثل هذا الذنب العنصري أمام الله. الذنب هو مجرد مسألة خطيئة شخصية ومعرفة, عصيان متعمد لمشيئة الأب وإدارة أبنائه.
186:5.8 (2003.2) إن الخطيئة والتمرد لا علاقة لهما بخطة الإغداق الأساسية لأبناء الله الفردوسيين, وإن كان يبدو لنا بأن خطة الإنقاذ هي سمة مرحلية لخطة الإغداق.
186:5.9 (2003.3) كان خلاص الله من أجل بشر يورانشيا سيكون فعالاً ومؤكداً على نحو لا يخطئ بنفس القدر لو أن يسوع لم يُوضع للموت بأيدي قاسية لبشر جهلاء. لو أن السيد كان قد اُستقبِل بشكل إيجابي من قِبل بشر الأرض ورحل من يورانشيا بالتخلي الطوعي عن حياته في الجسد, واقع محبة الله ورحمة الابن ــ واقع البنوة مع الله ــ لما كان قد تأثر بأي حال من الأحوال. أنتم البشر أبناء الله, وشيء واحد فقط مطلوب لجعل هذه الحقيقة واقعية في تجربتكم الشخصية, وهو إيمانكم المولود بالروح.
كِتاب يورانشيا
ورقة 187
187:0.1 (2004.1) بعد أن تم تحضير اللصين, سار الجنود, تحت إمرة قائد مائة, إلى مكان الصَلب. كان قائد المائة المسؤول عن هؤلاء الجنود الاثني عشر هو نفس القبطان الذي قاد الجنود الرومان في الليلة السابقة لاعتقال يسوع في الجثسيماني. كانت عادة الرومان تعيين أربعة جنود لكل شخص سيُصلب. تم جلد اللصين كما ينبغي قبل أخذهما للصَلب, لكن يسوع لم يُعطى أي عقوبة إضافية؛ اعتقد القبطان بدون شك بأنه تعرض للجلد بما فيه الكفاية, حتى قبل إدانته.
187:0.2 (2004.2) كان اللصان المصلوبان مع يسوع رفاق لبراباس وكانا سيُعدمان لاحقًا مع قائدهما لو لم يُطلق سراحه كعفو لعيد الفصح من بيلاطس. لهذا صُلب يسوع بدلاً من باراباس.
187:0.3 (2004.3) ما يسوع على وشك أن يفعله الآن, الخضوع للموت على الصليب, يفعله بمشيئته الخاصة. في الإخبار مسبقاً عن هذه التجربة, قال: "الأب يحبني ويدعمني لأنني على استعداد لأضع حياتي. لكنني سأرفعها مرة أخرى. لا أحد يأخذ حياتي مني ــ أنا أضعها من نفسي. لدي سُلطة لأضعها, ولديَ سُلطة لأرفعها. لقد استلمت مثل هذه الوصية من أبي."
187:0.4 (2004.4) كان ذلك قبل الساعة التاسعة من هذا الصباح عندما قاد الجنود يسوع من البروتوريوم في الطريق إلى الجُلجثة. تبعهم العديد ممن تعاطفوا سِراً مع يسوع, لكن معظم هذه الجماعة من مائتين أو أكثر كانوا إما أعداء له أو متسكعون فضوليون أرادوا فقط الاستمتاع بصدمة مشاهدة الصَلب. خرج عدد قليل فقط من القادة اليهود لرؤية يسوع يموت على الصليب. عارفون أن بيلاطس قد سلمه إلى الجنود الرومان, وأنه حُكم عليه بالموت, شغلوا أنفسهم باجتماعهم في الهيكل, حيث ناقشوا ما ينبغي فعله مع أتباعه.
187:1.1 (2004.5) قبل مغادرة فناء ساحة البروتوريوم, وضع الجنود الرومان عارضة الصليب على أكتاف يسوع. كان من المعتاد إجبار الرجل المدان على حمل عارضة الصليب إلى موقع الصَلب. مثل هذا الرجل المُدان لم يحمل الصليب كله, فقط الخشب الأقصر. كانت قطع الأخشاب الأطول والقائمة للصلبان الثلاثة قد نُقلت سابقاً إلى الجُلجثة, وبوقت وصول الجنود وسجنائهم, كانت قد غُرزت بثبات في الأرض.
187:1.2 (2004.6) حسب العرف, قاد القبطان الموكب, حاملاً ألواحاً بيضاء صغيرة مكتوب عليها بالفحم أسماء المجرمين وطبيعة الجرائم التي أُدينوا من أجلها. بالنسبة إلى اللصّين, كان لدى قائد المائة إشعارات أعطت أسمائهما, التي كُتب تحتها كلمة واحدة "قاطع طريق." كانت العادة, بعد أن يتم تسمير الضحية على عارضة الصليب وتُرفع إلى مكانها على الخشبة القائمة, أن يثبت هذا الإشعار على قمة الصليب, فوق رأس المجرم مباشرة, بحيث قد يعرف كل الشهود في أي جُرم يتم صلب الإنسان المدان. اللوحة التي حملها قائد المئة لوضعها على صليب يسوع كتبها بيلاطس نفسه باللاتينية, واليونانية, والأرامية, وكان نصها: "يسوع الناصري ــ ملك اليهود."
187:1.3 (2005.1) بعض من السُلطات اليهودية الذين كانوا لا يزالوا حاضرين عندما كتب بيلاطس هذه اللوحة اعترضوا بشدة على تسمية يسوع "ملك اليهود," لكن بيلاطس ذكـَّرهم بأن تلك التهمة كانت جزءًا من الاتهامات التي أدت إلى إدانته. عندما رأى اليهود بأنهم لم يتمكنوا من التغلب على بيلاطس ليغَّير رأيه, توسلوا أن يُعدلها على الأقل لتقرأ, "هو قال, ’أنا ملك اليهود.‘" لكن بيلاطس كان مُصراً؛ لن يغير الكتابة. لكل التوسلات الإضافية فقط أجاب, "ما كتبته قد كتبته."
187:1.4 (2005.2) في العادة, كان العُرف الرحيل إلى الجُلجثة عبر أطول الطرق بحيث يتمكن عدد كبير من الأشخاص من رؤية المجرم المدان, لكن على هذا اليوم ساروا بأكثر الطُرق مباشرة إلى بوابة دمشق, المؤدية إلى خارج المدينة إلى الشمال, وفي اتباع هذه الطريق, سرعان ما وصلوا إلى الجُلجثة, موقع الصَلب الرسمي في أورشليم. ما وراء الجُلجثة كانت فيلات الأثرياء, وعلى الجانب الآخر من الطريق كانت قبور العديد من اليهود ميسوري الحال.
187:1.5 (2005.3) لم يكن الصَلب طريقة يهودية للقصاص. تعلم كل من اليونانيون والرومان طريقة الإعدام هذه من الفينيقيين. حتى هيرودس, بكل قسوته, لم يلجأ إلى الصَلب. لم يصلب الرومان أبداً مواطناً رومانياً؛ فقط العبيد والشعوب الخاضعة هم الذين تعرضوا لمثل هذا الموت المخزي. أثناء حصار أورشليم, بعد أربعين سنة بالضبط من صَلب يسوع, كانت كل الجُلجثة مغطاة بآلاف على آلاف من الصلبان التي عليها, من يوم إلى يوم, هلكت زهرة الجنس اليهودي, حصاد رهيب, حقًا, من زرع البذور لهذا اليوم.
187:1.6 (2005.4) بينما مر موكب الموت على طول شوارع أورشليم الضيقة, العديد من النساء اليهوديات اللينات القلب اللواتي سمعن كلمات يسوع من البهجة والرحمة الجيدة, واللواتي عرفن عن حياته ذات الإسعاف المُحب, لم يقدرن الامتناع عن البكاء عندما رأينه يُقاد إلى ذلك الموت الوضيع. أثناء مروره, العديد من هؤلاء النسوة انتحبن ونُحْن. وعندما تجرأ بعض منهن على المتابعة إلى جانبه, أدار السيد رأسه تجاههن وقال: "يا بنات أورشليم, لا تبكين عليّ, لكن بالأحرى ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن. عملي على وشك الانتهاء ــ قريباً أذهب إلى أبي ــ لكن أوقات الضيق المريع لأورشليم بدأت للتو. انظروا, الأيام آتية حيثما ستقولون: طوبى للعاقرات واللواتي صدورهن لم ترضع صغارهن أبدًا. في تلك الأيام ستصَّلون لصخور التلال لتسقط عليكن من أجل أن تُخلصن من أهوال مشاكلكن."
187:1.7 (2005.5) هؤلاء النسوة من أورشليم كن شجاعات بالفعل لإظهار التعاطف مع يسوع, لأنه كان مخالفًا تمامًا للناموس لإظهار مشاعر ودية لمن يُقاد إلى الصَلب. كان مسموحاً للرعاع بالسخرية, والاستهزاء, والازدراء, بالمحكوم عليه, لكن لم يكن مسموحاً بالتعبير عن أي تعاطف. على الرغم من تقدير يسوع لإظهار التعاطف في هذه الساعة المُظلمة عندما كان أصدقاؤه في الإختباء, لم يرغب في أن تثير هؤلاء النسوة الرحيمات القلوب استياء السُلطات بجرأتهن لإظهار التعاطف لصالحه. حتى في مثل هذا الوقت فكر يسوع قليلاً بنفسه, فقط في الأيام المريعة للنكبة التي تنتظر أورشليم والأمة اليهودية بأكملها.
187:1.8 (2006.1) بينما مشى السيد بتثاقل في الطريق المؤدية إلى الصَلب. كان مرهقاً للغاية؛ كان تقريباً مُنهكاً. لم يكن قد تناول طعام ولا ماء منذ العشاء الأخير في بيت إيليا مرقس؛ ولا سُمح له بالتمتع بلحظة واحدة من النوم. بالإضافةً, كان هناك جلسة مرافعة تلو أخرى حتى ساعة الحُكم عليه, ناهيك عن الجَلد المؤذي والمعاناة الجسدية المصاحبة وفقدان الدم. متراكب على كل هذا كان غمه العقلي الشديد, وتوتره الروحي الحاد, والشعور الرهيب بالوحدة البشرية.
187:1.9 (2006.2) بعد فترة وجيزة من عبور البوابة على الطريق خارج المدينة, عندما ترنح يسوع في حمل عارضة الصليب, تلاشت قوته الجسدية للحظات, وسقط تحت وطأة حمله الثقيل. صرخ عليه الجنود وركلوه, لكنه لم يستطع النهوض. عندما رأى القبطان هذا, عارف ما تحَّمله يسوع حتى الآن, أمر الجنود بأن يكـِّفوا. ثم أمر عابر عن قرب, واحد اسمه سمعان من القيروان, ليأخذ عارضة الصليب عن أكتاف يسوع وأجبره على حملها بقية الطريق إلى الجُلجثة.
187:1.10 (2006.3) هذا الرَجل سمعان كان قد أتى كل الطريق من القيروان, في شمال أفريقيا, لحضور عيد الفصح. كان متوقفاً مع قيروانيين آخرين بالضبط خارج أسوار المدينة وكان في طريقه إلى خدمات الهيكل في المدينة عندما أمره القبطان الروماني بحمل عارضة صليب يسوع. توانى سمعان طوال ساعات موت السيد على الصليب, وتحدث مع العديد من أصدقائه ومع أعدائه. بعد القيامة وقبل أن يُغادر أورشليم, أصبح مؤمناً شجاعاً بإنجيل الملكوت, وعندما عاد إلى بيته, قاد كل عائلته نحو الملكوت السماوي. أصبح إبناه, الكساندر وروفوس, معلمين فعّالين للإنجيل الجديد في أفريقيا لكن سمعان لم يعرف أبداً, بأن يسوع, الذي حمل الثقل عنه, والمعلم اليهودي الذي صادق ذات مرة ابنه الجريح, كانا نفس الشخص.
187:1.11 (2006.4) لقد كان بعد الساعة التاسعة بقليل عندما وصل موكب الموت هذا إلى الجُلجثة, وأخذ الجنود الرومان على عاتقهم مهمة تسمير قاطعي الطريق وابن الإنسان إلى صلبانهم الخاصة بهم.
187:2.1 (2006.5) قام الجنود أولاً بربط ذراعي السيد بالحبال إلى عارضة الصليب, وبعد ذلك دقوا المسامير في يديه إلى الخشب. عندما رفعوا عارضة الصليب هذه على العامود, وبعد أن قاموا بتثبيتها بإحكام على الأخشاب القائمة للصليب, ربطوا ودقوا المسامير في أقدامه على الخشب, مستخدمين مسماراً واحداً طويلاً لاختراق كلتا القدمين. كان للخشبة القائمة وتداً كبيراً, تم إدخاله عند الإرتفاع الملائم, والذي خدم بمثابة ركيزة لدعم ثقل الجسم. لم يكن الصليب مرتفعاً, كانت قدما السيد على بعد حوالي ثلاثة أقدام فقط عن الأرض. لذلك كان قادراً على سماع كل ما قيل عنه في سخرية وأمكنه أن يرى بوضوح التعبير على وجوه كل أولئك الذين سخروا منه بدون تفكير للغاية. وكان بإمكان أولئك الحاضرين أيضاً أن يسمعوا بسهولة كل ما قاله يسوع أثناء هذه الساعات من التعذيب المستمر والموت البطيء.
187:2.2 (2007.1) كانت العادة إزالة كل الثياب من أولئك الذين كانوا سيصلبون, لكن حيث إن اليهود اعترضوا بشدة على الكشف العلني للشكل البشري العاري, فقد وفر الرومان دائماً كساء عورة مناسب لكل الأشخاص المصلوبين في أورشليم. تبعاً لذلك, بعد أن أُزيلت ثياب يسوع, كان لهذا مكسواً قبل أن يوضع على الصليب.
187:2.3 (2007.2) كان يُلجأ للصَلب من أجل تزويد قصاص قاسي وبطيء, في بعض الأحيان لا تموت الضحية لعدة أيام. كان هناك شعور معتبر ضد الصَلب في أورشليم, وكانت هناك جمعية من النساء اليهوديات اللواتي أرسلن دائماً ممثلة عنهن إلى الصَلب بغرض تقديم نبيذ مخدر للضحية من أجل تخفيف معاناته. لكن عندما ذاق يسوع هذا النبيذ المخدر, وإن كان عطشاناً كما هو, رفض أن يشربه. اختار السيد أن يحافظ على وعيه البشري حتى ذات النهاية. رغب أن يلقى الموت, حتى في هذا الشكل القاسي واللا-إنساني, ويقهره بالخضوع الطوعي إلى كامل التجربة البشرية.
187:2.4 (2007.3) قبل أن يوضع يسوع على صليبه, كان قاطِعا الطريق كذلك تواً قد وُضعا على صلبانهما, طوال الوقت بينما يلعنان ويبصقان على جلاديهما. كلمات يسوع الوحيدة, بينما سمّروه على عارضة الصليب, كانت, "يا أبتاه, اغفر لهم, لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لم يكن باستطاعته أن يتشفع برحمة ومحبة للغاية من أجل جلاديه إذا لم تكن مثل هذه الأفكار من التفاني الودي الينبوع الرئيسي لكل حياته من الخدمة غير الأنانية. الأفكار, والدوافع, والأشواق لزمن حياة تُكشف علناً في أزمة.
187:2.5 (2007.4) بعد أن رُفع السيد على الصليب, سمّر القبطان اللافتة فوق رأسه, وقُرأ بثلاث لغات, "يسوع الناصري ــ ملك اليهود." كان اليهود حانقين من هذه المعتقدة إهانة. لكن بيلاطس كان مغتاظاً من سلوكهم المهين؛ شعر أنه تعرض للترهيب والإهانة, واتخذ هذا الأسلوب لتحصيل ثأر زهيد. كان بإمكانه أن يكتب "يسوع, متمرد." لكنه كان يعلم جيدًا كيف أن هؤلاء اليهود في أورشليم كانوا يكرهون اسم الناصرة بالذات, وكان مُصمماً لهذا على إهانتهم. كان يعلم أيضًا بأنهم سيكونون مُقطعين في الصميم برؤية هذا الجليلي المنفذ عليه حُكم الإعدام يُدعى "ملك اليهود."
187:2.6 (2007.5) العديد من قادة اليهود, عندما عَلِموا كيف سعى بيلاطس للسخرية منهم بوضع هذا النقش على صليب يسوع, أسرعوا إلى الجُلجثة, لكنهم لم يجرؤوا على محاولة إزالته لأن الجنود الرومان كانوا على الحراسة. غير قادرين على إزالة اللافتة, اختلط هؤلاء القادة بالجماهير وبذلوا قصارى جهدهم للتحريض على الإستفزاز والسخرية, لئلا يُعطي أي اعتبار جَّدي للنقش.
187:2.7 (2007.6) وصل الرسول يوحنا, مع مريم أم يسوع, وراعوث, ويهوذا, على المشهد بالضبط بعد ما رُفع يسوع إلى موقعه على الصليب, وبالضبط بينما كان القبطان يسمِّر اللافتة فوق رأس السيد. كان يوحنا الوحيد من بين الرُسل الأحد عشر ليشهد الصَلب, وحتى هو لم يكن حاضراً طوال الوقت حيث إنه ركض إلى أورشليم ليجلب أمه وصديقاتها بعد فترة وجيزة من إحضاره أم يسوع إلى المشهد.
187:2.8 (2007.7) عندما رأى يسوع أمه, مع يوحنا وشقيقه وشقيقته, ابتسم لكنه لم يقل شيئاً. في الوقت نفسه كان الجنود الأربعة المعينون لصَلب السيد, كما جرت العادة, قد اقتسموا ثيابه فيما بينهم, أحدهم أخذ الصندل, والآخر العمامة, والآخر الحزام, والرابع الشملة. ترك هذا الرداء, أو ثوب بدون خياطة يصل إلى أسفل قرب الرُكب, ليتم تقطيعه إلى أربع قطع, لكن عندما رأى الجنود أي رداء غير عادي كان, قرروا أن يلقوا قرعة من أجله. تطلع يسوع نزولاً عليهم بينما اقتسموا ثيابه, والجماهير الطائشة سخرت منه.
187:2.9 (2008.1) كان من الجيد بأن جنود الرومان استولوا على ثياب السيد, وإلا, لو كان أتباعه قد اكتسبوا ملكية هذه الثياب, كانوا سيُغرون للالتجاء إلى عبادة أثار خرافية. رغب السيد بألا يكون لدى أتباعه أي شيء مادي ليُربط بحياته على الأرض. أراد أن يترك للبشرية فقط ذكرى حياة بشرية مكرسة للمثال الروحي العالي المتمثل في التكريس لفعل مشيئة الأب.
187:3.1 (2008.2) في حوالي الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الجمعة هذا, كان يسوع مُعلقاً على الصليب. قبل الساعة الحادية عشرة, كان قد تجَّمع ما يزيد عن ألف شخص ليشهدوا هذا المشهد لصَلب ابن الإنسان. في أثناء كل هذه الساعات الفظيعة وقفت الجيوش غير المرئية لكون في صمت بينما تحملق على هذا الظاهرة غير العادية للخالق بينما كان يحتضر بموت المخلوق, حتى الموت الأكثر وضاعة لمجرم مُدان.
187:3.2 (2008.3) واقف قرب الصليب عند وقت ما أو آخر أثناء الصَلب كانت مريم, وراعوث, ويهوذا, ويوحنا, وصالومي (أم يوحنا), وجماعة من النسوة المؤمنات الغيورات بما فيهن مريم زوجة كلوباس وخالة يسوع, ومريم المجدلية, ورفقة, أحد الأوقات من صفوريه. هؤلاء وأصدقاء آخرون ليسوع أمسكوا هدوءهم بينما شهدوا صبره العظيم وتجلده وحدقوا في معاناته الشديدة.
187:3.3 (2008.4) كثيرون من الذين مروا بالقُرب هزوا رؤوسهم, يعيرونه, قائلين: "يا من ستدمر الهيكل وتعيد بناءه في ثلاثة أيام, خلص نفسك. إذا كنت ابن الله, لماذا لا تنزل عن صليبك؟" وبنفس الطريقة سخر منه بعض حكام اليهود قائلين, "خلص آخرين لكن لم يستطع إنقاذ نفسه." قال آخرون, إذا كنت ملك اليهود, انزل عن الصليب, وسنؤمن بك." وفيما بعد سخروا منه أكثر, قائلين: "وثق في الله ليخلصه. بل إنه ادعى أنه ابن الله ــ انظروا إليه الآن ــ مصلوباً بين لصين." حتى اللصين كذلك عيراه وألقيا اللوم عليه.
187:3.4 (2008.5) نظراً إلى أن يسوع لم يرد على تعييرهم, وحيث إنه كان يقارب وقت الظُهر ليوم التحضير الخاص هذا, بحلول الساعة الحادية عشرة والنصف كانت معظم الجماهير المازحة والمعيرة قد ذهبت في طريقها؛ بقي أقل من خمسين شخص عند المشهد. استعد الجنود الآن لتناول طعام الغذاء وشرب نبيذهم الحامض, الرخيص, بينما استقروا لمراقبة الموت الطويلة. بينما تناولوا من نبيذهم, قدموا بسخرية نخباً ليسوع, قائلين, "تحية وحظ جيد! لملك اليهود." وكانوا مذهولين من تسامح السيد مع استهزائهم وسخريتهم.
187:3.5 (2008.6) عندما رآهم يسوع يأكلون ويشربون, تطلع نزولاً عليهم وقال, "أنا عطشان". عندما سمع قبطان الحراس يسوع يقول "أنا عطشان", أخذ بعض النبيذ من زجاجته, وواضع سدادة الإسفنج المشبعة على رأس حربة, رفعها إلى يسوع حتى يتمكن من ترطيب شفتيه الجافتين.
187:3.6 (2008.7) كان يسوع قد تعمد أن يعيش دون اللجوء إلى قدرته الفائقة, وبالمثل اختار أن يموت كبشري عادي على الصليب. عاش كإنسان وسيموت كإنسان ــ فاعل مشيئة الأب.
187:4.1 (2008.8) أحد اللصوص عيَّر يسوع, قائلاً, "إذا كنت ابن الله, لماذا لا تخلص نفسك وتخلصنا؟" لكن عندما عنَّف يسوع, اللص الآخر, الذي كان مرات كثيرة قد سمع السيد يعَّلم, قال: "ألا تخاف حتى من الله؟ ألا ترى بأننا نعاني بالعدل من أجل أعمالنا, لكن هذا الرَجل يعاني ظلماً. من الأفضل أن نطلب الغفران لخطايانا والخلاص لنفوسنا." عندما سمع يسوع اللص يقول هذا, أدار وجهه نحوه وابتسم باستحسان. عندما رأى المجرم وجه يسوع يتجه نحوه, استجمع شجاعته, وأطلق شعلة إيمانه الوامضة, وقال, "يا رب تذكَّرني عندما تدخل ملكوتك." وعند ذاك قال يسوع, "الحق, الحق, أقول لك اليوم, ستكون في وقت ما معي في الفردوس."
187:4.2 (2009.1) كان لدى السيد الوقت وسط نزعات الموت البشري ليستمع إلى اعتراف الإيمان لقاطع طريق مؤمن. عندما طلب هذا اللص الخلاص, وجد الخلاص. عدة مرات من قبل كان مضطراً للإيمان بيسوع, لكن فقط في هذه الساعات الأخيرة من الوعي تحول بقلب كامل نحو تعليم السيد. عندما رأى الطريقة التي واجه بها يسوع الموت على الصليب, لم يعد بإمكان هذا اللص مقاومة الاقتناع بأن ابن الإنسان هذا كان بالفعل ابن الله.
187:4.3 (2009.2) أثناء هذه الواقعة من هداية اللص واستقباله نحو الملكوت بواسطة يسوع, كان الرسول يوحنا غائباً, بعد أن ذهب إلى المدينة لإحضار أُمه وصديقاتها إلى موقع الصَلب. سمع لوقا فيما بعد هذه القصة من قبطان حراس الرومان المهتدي.
187:4.4 (2009.3) أخبر الرسول يوحنا عن الصَلب كما تذكر الحادثة بعد ثلثي قرن من حدوثها. استندت السجلات الأخرى إلى تلاوة قائد المئة الروماني في الواجب الذي, بسبب ما رآه وسمعه, آمن بعد ذلك بيسوع ودخل في الزمالة الكاملة لملكوت السماء على الأرض.
187:4.5 (2009.4) هذا الشاب, قاطع الطريق التائب, كان قد انقاد نحو حياة من العنف والمخالفات من قِبل أولئك الذين امتدحوا مهنة السرقة هذه كاحتجاج وطني فعّال ضد الإضطهاد السياسي والظلم الاجتماعي. وهذا النوع من التعليم, بالإضافة إلى الرغبة في المغامرة, دفع بالعديد من الشباب الذين سوى ذلك ذوي نوايا حسنة إلى الانضمام إلى حملات السرقة الجريئة هذه. كان هذا الشاب قد نظر إلى باراباس كبطل. الآن رأى أنه كان مخطئًا. هنا على الصليب بجانبه رأى رَجلاً عظيماً حقاً, بطلاً حقيقياً. هنا كان بطل الذي أطلق حماسه وألهم أعلى أفكاره عن احترام الذات الأخلاقي وسرع كل مُثله العليا عن الشجاعة, والرجولة, والبسالة. في مشاهدة يسوع, هناك نشأ في قلبه شعور غامر بالمحبة, والولاء, والعظمة الأصلية.
187:4.6 (2009.5) وإذا كان أي شخص آخر بين الحشود الساخرة قد اختبر ولادة الإيمان داخل نفـْسه وناشد رحمة يسوع لكان سيُستلَم بنفس الاعتبار المحب الذي تم إظهاره تجاه قاطع الطريق المؤمن.
187:4.7 (2009.6) بالضبط بعد ما سمع اللص التائب وعد السيد بأنهما سيلتقيان في الفردوس في وقت ما, عاد يوحنا من المدينة, جالباً معه أمه وجماعة من حوالي دزينة من النساء المؤمنات. أخذ يوحنا موقعه بالقرب من مريم أُم يسوع, داعماً إياها. وقف ابنها يهوذا على الجانب الآخر. بينما تطلع يسوع نزولاً على هذا المشهد, كان وقت الظهيرة, وقال لأمه, "يا امرأة, هوذا ابنك!" ومتكلم إلى يوحنا, قال, "يا بني, ها أمك!" ثم خاطبهما, قائلاً, "أرغب بأن ترحلوا من هذا المكان." وهكذا قاد يوحنا ويهوذا مريم بعيداً عن الجُلجثة. اصطحب يوحنا والدة يسوع إلى المكان حيث مكث في أورشليم ثم أسرع راجعاً إلى مكان الصَلب. بعد الفصح عادت مريم إلى بيت-صيدا, حيث عاشت في بيت يوحنا لبقية حياتها الطبيعية. لم تعش مريم تمام سنة واحدة بعد موت يسوع.
187:4.8 (2010.1) بعد أن غادرت مريم, انسحبت النساء الأخريات لمسافة قصيرة وبقين في حضور يسوع حتى مات على الصليب, وكن ما زلن واقفات بالقرب عندما تم إنزال جسد السيد للدفن.
187:5.1 (2010.2) مع أنه كان في وقت مبكر من الفصل لمثل هذه الظاهرة, إلا أنه بعد الساعة الثانية عشرة بقليل أظلمت السماء بسبب الرمال الناعمة في الهواء. عرف أهل أورشليم أن هذا يعني مجيء إحدى تلك العواصف الرملية الساخنة من الصحراء العربية. قبل الساعة الواحدة كانت السماء مُظلمة للغاية بحيث كانت الشمس مخفية, وأسرعت بقية الجماهير رجوعاً إلى المدينة. عندما سلم السيد حياته بعد هذه الساعة بفترة وجيزة, كان أقل من ثلاثين شخصاً حاضرين, فقط الجنود الرومان الثلاثة عشر وجماعة من حوالي خمسة عشر من المؤمنين. هؤلاء المؤمنون كانوا جميعهم من النساء ما عدا اثنان, يهوذا شقيق يسوع, ويوحنا زَبـِدي, الذين عادا إلى المشهد تماماً قبل أن ينتهي السيد.
187:5.2 (2010.3) بعد الساعة الواحدة بوقت قصير, وسط الظلمة المتزايدة للعاصفة الرملية الشديدة, بدأ يسوع يُخفق في الوعي البشري. كانت كلماته الأخيرة من الرحمة, والغفران, والنصيحة قد قيلت. كانت رغبته الأخيرة ــ فيما يتعلق برعاية والدته ــ قد تم التعبير عنها. أثناء هذه الساعة من الاقتراب من الموت التجأ العقل البشري ليسوع إلى تكرار العديد من المقاطع في الكتابات المقدسة العبرية, خاصة المزامير. كان الفكر الواعي الأخير ليسوع الإنسان معنيًا بالتكرار في عقله لجزء من سفر المزامير معروف الآن بالمزامير العشرين, والحادي والعشرين, والثاني والعشرين. في حين أن شفتيه كانت تتحرك غالباً, كان أضعف من أن ينطق كلمات هذه الفقرات, التي عرفها جيداً عن ظهر قلب, تمر خلال عقله. مرات قليلة فقط أدرك أولئك الواقفون بجانبه بعض الكلام, مثل, "أعرف أن الرب سيخلص مسيحه", "يداك ستكتشف كل أعدائي", و "إلَهي, إلَهي, لماذا هجرتني؟" ولا للحظة واحدة خالج يسوع أدنى شك بأنه عاش وفقاً لمشيئة الأب؛ ولم يشك أبداً بأنه كان الآن يضع حياته في الجسد وفقاً لمشيئة أبيه. لم يشعر بأن الأب قد هجره؛ كان فقط يتلو في وعيه المتلاشي العديد من الكتابات المقدسة, بينها هذا المزمور الثاني والعشرون, الذي يبدأ مع "إلَهي, إلَهي, لماذا هجرتني؟" وصادفت هذه لتكون إحدى الفقرات الثلاثة التي قيلت بوضوح كافٍ لتُسمع بأولئك الواقفون عن قُرب.
187:5.3 (2010.4) الطلب الأخير الذي قدمه يسوع الفاني إلى زملائه كان حوالي الساعة الواحدة والنصف عندما قال, للمرة الثانية, "أنا عطشان", ونفس قبطان الحرس مرة أخرى بلل شفتيه بنفس الإسفنجة المبللة في النبيذ الحامض, في تلك الأيام عادة دُعي الخل.
187:5.4 (2010.5) ازدادت حدة العاصفة الرملية وازدادت قتامة السماء. لا يزال الجنود وجماعة صغيرة من المؤمنين وقفوا بالقُرب. جثا الجنود قرب الصليب متجمعين معاً لحماية أنفسهم من الرمل القاطع. راقبت والدة يوحنا وآُخرون من مسافة حيث كانوا محميين إلى حد ما بصخرة معلقة. عندما تنفس السيد أخيرًا نفـَسه الأخير, هناك كان حاضراً عند قاعدة صليبه يوحنا زَبـِدي, وشقيقه يهوذا, وشقيقته راعوث, ومريم المجدلية, ورفقه, في أحد الأوقات من صفوريه.
187:5.5 (2011.1) لقد كان بالضبط قبل الساعة الثالثة عندما صرخ يسوع, بصوت عالٍ, "لقد انتهى! يا أبتاه, في يديك أستودع روحي." ولما قال هذا, أحنى رأسه وسلـَّم كفاح الحياة. عندما رأى قائد المئة الروماني كيف مات يسوع, ضرب على صدره وقال, "هذا كان حقاً رَجلاً باراً؛ حقاً لابد أنه كان ابن الله." ومن تلك الساعة بدأ يؤمن بيسوع.
187:5.6 (2011.2) مات يسوع ملكياً ــ كما عاش. أقـَّر بحرية بملوكيته وبقي سيد الموقف طوال اليوم المفجع. ذهب عن طيب خاطر إلى موته البغيض, بعد أن كان قد أمّن سلامة رُسله المختارين. بحكمة كبح عنف بطرس المسبب للمشاكل, وزود بأن يمكن ليوحنا أن يبقى بالقرب منه حتى نهاية وجوده الفاني. كشف طبيعته الحقيقية للسنهدرين القاتلين وذكـَّر بيلاطس بمصدر سُلطته السيادية كابن الله. سار إلى الجُلجثة حاملاً عارضة صليبه الخاصة ومنهياً إغداقه المحب بتسليم روحه من التحصيل الفاني لأب الفردوس. بعد مثل هذه الحياة ــ وفي مثل هذا الموت ــ يمكن للسيد حقاً أن يقول, "لقد انتهى."
187:5.7 (2011.3) لأن هذا كان يوم التحضير لكل من الفصح والسبت, لم يرغب اليهود أن تُعرض هذه الجثث على الجُلجثة. لذلك ذهبوا أمام بيلاطس يطلبون أن تُكسر أرجل هؤلاء الرجال الثلاثة, بحيث يمكن إنزالهم عن الصلبان وإلقاءهم في حُفر دفن المجرمين قبل غروب الشمس. عندما سمع بيلاطس هذا الطلب, أرسل في الحال ثلاثة جنود لكسر الأرجل وإرسال يسوع واللصين.
187:5.8 (2011.4) عندما وصل هؤلاء الجنود إلى الجُلجثة, فعلوا وفقاً لذلك للصين, لكنهم وجدوا يسوع قد مات بالفعل, الأمر الذي أدهشهم كثيرًا. مع ذلك, للتأكد من موته, وخز أحد الجنود جنبه الأيسر برمحه. على الرغم من أنه كان من الشائع أن يظل ضحايا الصَلب أحياء على الصليب حتى ليومين أو ثلاثة, إلا أن المعاناة العاطفية الساحقة والكرب الروحي الحاد ليسوع أحضرا إلى النهاية حياته الفانية في الجسد في أقل من خمس ساعات ونصف.
187:6.1 (2011.5) في وسط ظلمة العاصفة الرملية, حوالي الساعة الثالثة والنصف, أرسل داود زَبـِدي الأخير من مراسيله حاملاً خبر وفاة السيد. أرسل آخر عدائيه إلى بيت مارثا ومريم في بيت-عنيا, حيث افترض أن أُم يسوع توقفت مع بقية أفراد عائلتها.
187:6.2 (2011.6) بعد وفاة السيد, أرسل يوحنا النساء, في عهدة يهوذا, إلى بيت إيليا مرقس, حيث مكثوا يوم السبت. يوحنا نفسه, كائن معروف جيداً بهذا الوقت لقائد المئة الروماني, بقي في الجُلجثة حتى وصل يوسف ونيقوديموس إلى المكان بأمر من بيلاطس يأذن لهما بحيازة جسد يسوع.
187:6.3 (2011.7) بهذا انتهى يوم من المأساة والحزن لكون شاسع, اقشعر عدد لا يُحصى من ذكاءاته للواقعة الصادمة لصَلب التجسد البشري لسُلطانها المحبوب؛ لقد صعقهم هذا العرض للقسوة الفانية والإنحراف البشري.
كِتاب يورانشيا
ورقة 188
188:0.1 (2012.1) اليوم ونصف اليوم الذي رقد فيه جسد يسوع الفاني في قبر يوسف, الفترة ما بين موته على الصليب وقيامته, هو فصل في مهمة ميخائيل الأرضية المعروف قليلاً لنا. يمكننا أن نروي دفن ابن الإنسان ونضع في هذا السجل الأحداث المرتبطة بقيامته, لكن لا يمكننا توفير الكثير من المعلومات ذات الطبيعة الموثوق بها حول ما حدث بالفعل خلال هذه الفترة التي استمرت حوالي ست وثلاثين ساعة, من الساعة الثالثة بعد ظُهر يوم الجمعة إلى الثالثة صباح الأحد. بدأت هذه الفترة في مهمة السيد قبل وقت قصير من إنزاله عن الصليب من قِبل الجنود الرومان. تعلق على الصليب حوالي ساعة واحدة بعد وفاته. كان سيتم إنزاله قبل ذلك لولا التأخير في إرسال اللصين.
188:0.2 (2012.2) كان حكام اليهود قد خططوا لإلقاء جسد يسوع في حفر الدفن المفتوحة لجـِهينا, جنوب المدينة؛ كانت العادة بهذا للتخلص من ضحايا الصَلب. لو تم اتباع هذه الخطة, لكان جسد السيد قد تعرض للوحوش البرية.
188:0.3 (2012.3) في غضون ذلك, كان يوسف الأريماضِا, برفقة بنيقوديموس, قد ذهبا إلى بيلاطس وطلبا تسليم جسد يسوع إليهما لدفنه بشكل لائق. لم يكن من غير المألوف لأصدقاء المصلوبين تقديم رشاوى للسُلطات الرومانية من أجل الحصول على امتياز حيازة مثل هذه الجثث. ذهب يوسف أمام بيلاطس مع مبلغ كبير من المال, في حال أصبح من الضروري الدفع من أجل السماح بنقل جسد يسوع إلى قبر خاص. لكن بيلاطس لم يكن ليأخذ مالاً من أجل هذا. عندما سمع الطلب, وقـَّعَ بسرعة على الأمر الذي سمح ليوسف بالذهاب إلى الجُلجثة وأخذ الحيازة الفورية والكاملة لجسد السيد. في هذا الوقت, كانت حدة العاصفة الرملية قد تلاشت بشكل كبير, خرجت جماعة من اليهود يمثلون السنهدرين إلى الجُلجثة للتأكد من أن جسد يسوع رافق أولئك لقاطعي الطرق إلى حُفر الدفن العامة المفتوحة.
188:1.1 (2012.4) عندما وصل يوسف ونيقوديموس إلى الجُلجثة, وجدا الجنود يُنزلون يسوع عن الصليب وممثلي السنهدرين واقفين بالقرب ليروا بأن أياً من أتباع يسوع لم يمنع جسده من الذهاب إلى حُفر دفن المجرمين. عندما قدَّم يوسف أمر بيلاطس من أجل جسد السيد إلى قائد المئة, أثار اليهود ضجة وصخبوا لامتلاكه. في هياجهم سعوا للإستيلاء على الجسد بعنف, وعندما فعلوا هذا, أمر قائد المائة أربعة من جنوده بالوقوف إلى جانبه, وبسيوف مسلولة وقفوا مقاطعين لحماية جسد السيد بينما هو ملقى هناك على الأرض. أمر قائد المئة الجنود الآخرين أن يتركوا اللصين بينما يصدون هذه الغوغاء الغاضبة من اليهود الحانقيين. عندما استتب النظام, قرأ قائد المئة تصريح بيلاطس لليهود, وقال ليوسف, وهو يتنحى جانباً: "هذا الجسد لك لتفعل به ما تراه لائقاً. أنا وجنودي سنقف قريباً لنرى بأن لا يتدخل أحد."
188:1.2 (2013.1) لا يمكن دفن شخص مصلوب في مقبرة يهودية؛ كان هناك قانون صارم ضد مثل هذا الإجراء. عرف يوسف ونيقوديموس هذا القانون, وعلى الطريق خارجاً إلى الجُلجثة قررا دفن يسوع في قبر جديد لعائلة يوسف, منحوتاً من صخر صَلب, وواقع على مسافة قصيرة شمال الجُلجثة وعبر الطريق المؤدي إلى السامره. لم يسبق لأحد أن رقد في هذا القبر, واعتقدوا أنه سيكون لائقاً بأن يرقد السيد هناك. لقد آمن يوسف حقاً أن يسوع سوف يقوم من بين الأموات, لكن نيقوديموس كان في شك كبير. كان هذان العضوان السابقان من السنهدرين قد حافظا على إيمانهما بيسوع سِراً إلى حد ما, على أن زملائهم من السنهدرين كانوا يشتبهون بهما منذ فترة طويلة, حتى قبل انسحابهما من المجلس. من الآن فصاعداً كانا تلميذا يسوع الأكثر مجاهرة في أورشليم كلها.
188:1.3 (2013.2) في حوالي الساعة الرابعة والنصف انطلق موكب دفن يسوع الناصري من الجُلجثة إلى قبر يوسف عبر الطريق. كان الجسد ملفوفاً في ملاءة من الكتان بينما حمله الرجال الأربعة, تتبعهم نسوة مؤمنات مراقبات من الجليل. البشر الذين حملوا جسد يسوع المادي إلى القبر كانوا: يوسف, ونيقوديموس, ويوحنا, وقائد المئة الروماني.
188:1.4 (2013.3) حملوا الجسد إلى القبر, حجرة مساحتها حوالي عشرة أقدام مربعة, حيث أعدوها على عجل من أجل الدفن. لم يدفن اليهود في الحقيقة موتاهم؛ هم في الواقع قاموا بتحنيطهم. كان يوسف ونيقوديموس قد أحضرا معهما كمية كبيرة من المُر والعود, والآن لفا الجسد بضمادات مشبعة بهذه المحاليل. عندما تم التحنيط, ربطوا منديلاً حول الوجه, وكفنوا الجسد بملاءة من الكتان, ووضعوه بوقار على رف في القبر.
188:1.5 (2013.4) بعد وضع الجسد في القبر, أشار قائد المئة لجنوده ليساعدوا في دحرجة حجر الباب أمام مدخل القبر. بعد ذلك رحل الجنود إلى جِهينا مع جثث اللصين بينما عاد الآخرون إلى أورشليم, في حزن, لمراعاة عيد الفصح وفقاً لشرائع موسى.
188:1.6 (2013.5) كانت هناك سرعة وتسرع كبير حول دفن يسوع لأن هذا كان يوم تحضير وكان السبت يقترب سريعاً. عاد الرجال مسرعين إلى المدينة, لكن النساء تمهلن بالقرب من القبر حتى كان الظلام شديداً.
188:1.7 (2013.6) بينما كان كل هذا يجري, كانت النساء مختبئات عن قُرب بحيث رأين كل ما جرى ولاحظن أين وُضع السيد. وهكذا أخفين أنفسهن سِراً لأنه لم يكن مسموحاً للنساء بمرافقة الرجال في وقت كهذا. لم تعتقد هؤلاء النساء بأن يسوع قد هُيئ للدفن كما يجب, واتفقن فيما بينهن على العودة إلى بيت يوسف, والراحة خلال يوم السبت, وإعداد التوابل والمسوح, والعودة صباح الأحد لإعداد جسد السيد بشكل صحيح من أجل رقاد الموت. النساء اللواتي مكثن قرب القبر على مساء الجمعة هذا كن: مريم المجدلية, ومريم زوجة كلوباس, ومارثا خالة أخرى ليسوع, ورفقه الصفورية.
188:1.8 (2013.7) على حدة من داود زَبـِدي ويوسف الأريماضِا, قلة قليلة من تلاميذ يسوع حقاً آمنوا أو فهموا بأنه كان من المتوقع أن يقوم من القبر في اليوم الثالث.
188:2.1 (2014.1) إذا كان أتباع يسوع غافلين عن وعده بالقيام من القبر في اليوم الثالث, فإن أعدائه لم يكونوا. تذكَّر رؤساء الكهنة والفريسيون, والصدوقيون بأنهم تلقوا تقارير تفيد بقوله أنه سيقوم من بين الأموات.
188:2.2 (2014.2) ليلة الجمعة هذه, بعد عشاء الفصح, حوالي منتصف الليل تجَّمعت جماعة من القادة اليهود في بيت قيافا, حيث ناقشوا مخاوفهم بشأن تأكيدات السيد بأنه سوف يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث. انتهى هذا الاجتماع بتعيين لجنة من أعضاء السنهدرين الذين كان من المقرر أن يزوروا بيلاطس في وقت مبكر من اليوم التالي, حاملين طلبًا رسميًا من السنهدرين بوضع حارس روماني أمام قبر يسوع لمنع أصدقائه من العبث به. قال المتحدث باسم هذه اللجنة لبيلاطس: "يا سيد, نحن نتذكر بأن هذا المضلل, يسوع الناصري, قال, بينما كان لا يزال حياً, ’بعد ثلاثة أيام سأقوم من جديد. نحن, لذلك, أتينا أمامك لنطلب منك إصدار أوامر تجعل الضريح آمناً ضد أتباعه, على الأقل حتى بعد اليوم الثالث. نخشى بشدة لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه بالليل وبعد ذلك يعلنون إلى الناس بأنه قام من بين الأموات. إذا سمحت بحدوث هذا, سيكون هذا الخطأ أسوأ بكثير مما لو سمحنا له بالعيش."
188:2.3 (2014.3) عندما سمع بيلاطس هذا الطلب من السنهدرين, قال: "سأعطيكم حرسًا من عشرة جنود. اذهبوا في طريقكم واجعلوا القبر آمناً." عادوا إلى الهيكل, وأمَّنوا عشرة من حراسهم, ثم ساروا إلى قبر يوسف مع هؤلاء الحراس اليهود العشرة وعشرة جنود رومانيين, حتى في صباح هذا السبت, ليضعوهم كحراس أمام القبر. دحرج هؤلاء الرجال حتى حجراً آخر أمام القبر ووضعوا ختم بيلاطس على هذه الحجارة وحولها, لئلا تُعَّكر دون علمهم. وبقي هؤلاء الرجال العشرون على الحراسة حتى ساعة القيامة, وكان اليهود يحملون لهم طعامهم وشرابهم.
188:3.1 (2014.4) طوال يوم السبت هذا, بقي التلاميذ والرُسل في الإختباء, بينما ناقشت أورشليم كلها موت يسوع على الصليب. كان هناك ما يقرب من مليون ونصف المليون يهودي موجودون في أورشليم في ذلك الوقت, قادمون من جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية ومن بلاد ما بين النهرين. كانت هذه بداية أسبوع الفصح, وكان كل هؤلاء الحجاج سيكونون في المدينة لكي يعرفوا بقيامة يسوع ويحملوا الخبر إلى مواطنهم.
188:3.2 (2014.5) في وقت متأخر من ليلة السبت, استدعى يوحنا مرقس الرُسل الأحد عشر سِراً ليأتوا إلى بيت والده, حيث, تجمعوا كلهم بالضبط قبل منتصف الليل, في نفس العلية حيث تناولوا العشاء الأخير مع سيدهم منذ ليلتين.
188:3.3 (2014.6) عادت مريم أُم يسوع, مع راعوث ويهوذا, إلى بيت-عنيا ليلتحقوا بعائلتهم مساء هذا السبت مباشرة قبل غروب الشمس. بقي داود زَبـِدي في بيت نيقوديموس, حيث كان قد رتب لمراسيله أن يتجمعوا في وقت مبكر من صباح الأحد. نساء الجليل, اللواتي أعددن الأطياب لأجل التحنيط الإضافي لجسد يسوع, مكثن في بيت يوسف الأريماضا.
188:3.4 (2014.7) لا نستطيع أن نشرح بشكل كامل ما حدث ليسوع الناصري خلال هذه الفترة من يوم ونصف عندما كان من المُفترض أن يكون راقداً في قبر يوسف الجديد. على ما يبدو هو مات نفس الموت الطبيعي على الصليب مثل أي بشري آخر يموت في ظروف مماثلة. سمعناه يقول, "أبتاه, في يديك أستودع روحي." نحن لا نفهم تماماً معنى مثل هذا البيان نظراً إلى أن ضابط فكره كان قد تشخص منذ فترة طويلة وبالتالي حافظ على وجود على حدة من كيان يسوع الفاني. لا يمكن أن يتأثر الضابط المُشَّخَص للسيد بأي حال من الأحوال بموته الجسدي على الصليب. ما وضعه يسوع في يدي الأب للوقت الحالي لا بد أنه كان النظير الروحي لعمل الضابط المبكر في إضفاء الروحانية على العقل الفاني بحيث يزود من أجل تحويل نسخة التجربة البشرية إلى العوالم المنزلية. لا بد أنه كان هناك بعض الواقعية الروحية في تجربة يسوع التي كانت مشابهة لطبيعة الروح, أو النفـْس, للبشر المتنامين-بالإيمان من الأجواء. لكن هذا مجرد رأيُنا ــ في الحقيقة نحن لا نعرف ماذا استودع يسوع إلى أبيه.
188:3.5 (2015.1) نعلم أن الشكل المادي للسيد رقد هناك في قبر يوسف حتى الساعة الثالثة صباح الأحد تقريبًا. لكننا غير متأكدين تماماً بما يخص وضع شخصية يسوع أثناء تلك الفترة التي استمرت ست وثلاثين ساعة. لقد تجرأنا في بعض الأحيان على شرح هذه الأشياء لأنفسنا إلى حد ما على النحو التالي:
188:3.6 (2015.2) 1. لا بد أن وعي الخالق لميخائيل كان طليقاً بشكل عام وكلياً من عقله الفاني المرتبط بالتجسد المادي.
188:3.7 (2015.3) 2. نعرف أن ضابط الفكر السابق ليسوع كان حاضراً على الأرض في أثناء هذه الفترة وبتوجيه شخصي من الجيوش السماوية المتجمعة.
188:3.8 (2015.4) 3. إن هوية الروح المكتسبة لرَجل الناصرة التي بُنيت خلال حياته في الجسد, أولاً, بالجهود المباشرة لضابط فكره, وفيما بعد, من خلال تكيفه المثالي الخاص بين الضرورات الجسدية والمتطلبات الروحية للوجود الفاني المثالي, كما تم إدخالها حيز التنفيذ من خلال اختياره غير المتوقف أبداً لمشيئة الأب, يجب أن تكون قد استودعت إلى وصاية أب الفردوس. سواء عادت واقعية الروح هذه لتصبح جزءًا من الشخصية المقامة أو لم تعد, لا نعرف, لكننا نعتقد بأنها عادت. لكن هناك في الكون أولئك الذين تمسكوا بأن هوية النفـْس هذه ليسوع تستقر الآن في "صدر الأب", ليتم إطلاقها فيما بعد من أجل قيادة كتيبة نِبادون النهائية في مصيرهم غير المُعلن عنه فيما يتعلق بالأكوان غير المخلوقة للعوالم غير المنظمة للفضاء الخارجي.
188:3.9 (2015.5) 4. نعتقد بأن الوعي البشري أو الفاني ليسوع نام خلال هذه الساعات الست والثلاثين. لدينا سبب للإعتقاد بأن يسوع الإنسان لم يعرف شيئاً عما حدث في الكون خلال هذه الفترة. بالنسبة للوعي الفاني لم يظهر أي فوات للوقت؛ قيامة الحياة تبعت نوم الموت كما في نفس اللحظة.
188:3.10 (2015.6) وهذا تقريباً كل ما يمكننا وضعه على السجل فيما يتعلق بوضع يسوع خلال هذه الفترة في القبر. هناك عدد من الحقائق المترابطة التي يمكن أن نشير إليها, على الرغم من أننا بالكاد مؤهلون لنأخذ على عاتقنا تفسيرها.
188:3.11 (2015.7) في الفناء الشاسع لقاعات القيامة في العالَم المنزلي الأول لساتانيا, قد يُلاحظ الآن بناء مادي-مورونشي رائع يُعرف باسم "نصب ميخائيل التذكاري", والذي يحمل الآن ختم جبرائيل. تم إنشاء هذا النصب التذكاري بعد وقت قصير من رحيل ميخائيل عن هذا العالَم, ويحمل هذا النقش: "في ذكرى العبور البشري ليسوع الناصري على يورانشيا."
188:3.12 (2016.1) هناك سجلات تُظهر أنه في أثناء هذه الفترة عقد المجلس الأعلى لساﻟﭭينغتون, البالغ عدده مائة, اجتماعاً تنفيذياً على يورانشيا برئاسة جبرائيل. هناك أيضاً سجلات تُظهر أن قدماء الأيام ليوﭭرسا قد تواصلوا مع ميخائيل بشأن وضع كون نِبادون خلال هذا الوقت.
188:3.13 (2016.2) نحن نعلم أن رسالة واحدة على الأقل مرت بين ميخائيل وعمانوئيل على ساﻟﭭينغتون بينما كان جسد السيد ملقى في القبر.
188:3.14 (2016.3) هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن شخصية ما جلست في مقعد كاليغاسشيا في مجلس نظام أمراء الكواكب على جيروسِم الذي انعقد بينما رقد جسد يسوع في القبر.
188:3.15 (2016.4) تشير سجلات عدنشيا إلى أن أب البرج لنورلاشيادِك كان على يورانشيا, وأنه تلقى تعليمات من ميخائيل أثناء هذا الوقت من القبر.
188:3.16 (2016.5) وهناك الكثير من الأدلة الأخرى التي تشير إلى أن شخصية يسوع لم تكن كلها نائمة وغير واعية أثناء هذا الوقت من الموت الجسدي الظاهر.
188:4.1 (2016.6) مع أن يسوع لم يمت هذا الموت على الصليب للتكفير عن الذنب العنصري للإنسان الفاني ولا لتوفير نوع من المقاربة الفعّالة لإله سوى ذلك مُساء إليه وغير مسامح؛ على الرغم من أن ابن الإنسان لم يقدم نفسه كتضحية لإرضاء غضب الله وفتح الطريق أمام الإنسان الخاطئ لينال الخلاص؛ على الرغم من أن هذه الأفكار عن الكفارة والاستعطاف خاطئة, إلا أن, هناك دلالات مرتبطة بهذا الموت ليسوع على الصليب لا ينبغي التغاضي عنها. إنها حقيقة أن يورانشيا أصبحت معروفة بين الكواكب الأخرى المجاورة المأهولة باسم "عالم الصليب."
188:4.2 (2016.7) أراد يسوع أن يعيش حياة بشرية كاملة في الجسد على يورانشيا. الموت, هو عادة, جزء من الحياة. الموت هو الدور الأخير في الدراما البشرية. في جهودكم الحسنة النية للهروب من الأخطاء الخرافية للتفسير الخاطئ لمعنى الموت على الصليب؛ يجب أن تحرصوا على عدم ارتكاب الخطأ الكبير المتمثل في الفشل في إدراك ألمغزى الحقيقي والمضمون الأصلي لموت السيد.
188:4.3 (2016.8) لم يكن الإنسان الفاني أبداً ملكية الرؤساء المضللين. لم يمت يسوع ليفتدي الإنسان من قبضة الحكام المرتدين والأمراء الساقطين للأجواء. لم يخطر ببال الآب في السماء أبداً مثل هذا الظلم الفادح كلعن نفـْس بشرية بسبب إثم أسلافها. ولا كان موت السيد على الصليب تضحية تألفت من محاولة دفع دين لله الذي أصبح مستحقاً على الجنس البشري.
188:4.4 (2016.9) قبل أن يعيش يسوع على الأرض, ربما كنتم مبرَرين في اعتقادكم بمثل هذا الإله, لكن ليس منذ أن عاش السيد ومات بين زملائكم البشر. علـَّم موسى كرامة وعدالة الله الخالق؛ لكن يسوع صَّور محبة ورحمة الأب السماوي.
188:4.5 (2016.10) قد تكون الطبيعة الحيوانية, الميل نحو فعل الشر ــ وراثية, لكن الخطيئة لا تنتقل من الأب إلى الطفل. الخطيئة هي عمل تمرد واعي ومتعمد ضد مشيئة الأب وشرائع الابن من قبل مخلوق مشيئة فرد.
188:4.6 (2017.1) عاش يسوع ومات من أجل الكون بأسره, ليس فقط من أجل أجناس هذا العالَم الواحد. بينما كان لدى بشر العوالم الخلاص حتى قبل أن عاش يسوع ومات على يورانشيا, إنه مع ذلك واقع بأن إغداقه على هذا العالَم قد أنار طريق الخلاص بشكل كبير؛ فعل موته الكثير ليوضح إلى الأبد يقين البقاء الفاني بعد الموت في الجسد.
188:4.7 (2017.2) مع أنه بالكاد من اللائق الحديث عن يسوع كمُضَّحي, أو فادي, أو مُنقذ, إلا أنه من الصحيح تماماً الإشارة إليه كمخلص. لقد جعل طريق الخلاص (البقاء) أكثر وضوحاً وتأكيداً إلى الأبد. أظهر طريق الخلاص بشكل أفضل وأكثر تأكيدًا لجميع الفانين في كل عوالم كون نِبادون.
188:4.8 (2017.3) عندما تدرك مرة الفكرة عن الله كأب حقيقي ومُحب, المفهوم الوحيد الذي علـَّمه يسوع على الإطلاق, يجب عليك في الحال, وبكل ثبات, أن تتخلى تماماً عن كل تلك الأفكار البدائية عن الله كملك مُساء إليه, أو حاكم صارم وكلي القدرة الذي تتمثل سعادته الرئيسية في أن يكتشف رعاياه في ارتكاب الخطأ ومعرفة أنهم يُعاقبون على نحو مناسب, ما لم يتطوع كائن ما تقريباً مساوي لنفسه لكي يعاني من أجلهم, ليموت كبديل لهم وعوضاً عنهم. إن فكرة الفدية والكفارة كلها لا تتناسب مع مفهوم الله كما علمها يسوع الناصري وضربها مثلاً. إن محبة الله اللانهائية ليست ثانوية لأي شيء في الطبيعة الإلَهية.
188:4.9 (2017.4) كل هذا المفهوم عن الكفارة والخلاص بالتضحية متجذر ومتأصل في الأنانية. علـَّم يسوع بأن خدمة زملاء المرء هي أسمى مفهوم لأخوة المؤمنين بالروح. يجب أن يؤخذ الخلاص كأمر مفروغ منه من قبل أولئك الذين يؤمنون بأبوة الله. لا ينبغي أن يكون اهتمام المؤمن الرئيسي هو الرغبة الأنانية في الخلاص الشخصي بل بالأحرى الحث غير الأناني لمحبة, وبالتالي, خدمة زملاء المرء حتى كما أحب يسوع وخدم البشر الفانين.
188:4.10 (2017.5) ولا يزعج المؤمنون الحقيقيون أنفسهم كثيراً بشأن القصاص المستقبلي للخطيئة. يقلق المؤمن الحقيقي فقط بشأن الانفصال الحالي عن الله. صحيح, أن الآباء الحكيمون قد يؤدبون أبناءهم, لكنهم يفعلون كل هذا في محبة ولأهداف تصحيحية. لا يعاقبون في غضب, ولا يؤدبون عقابًا.
188:4.11 (2017.6) حتى لو كان الله هو الملك الصارم والشرعي لكون تسود فيه العدالة بسمو, فمن المؤكد أنه لن يكون راضياً عن المخطط الصبياني لاستبدال مُعاني بريء بجاني مذنب.
188:4.12 (2017.7) إن الشيء العظيم في موت يسوع, من حيث علاقته بإثراء التجربة البشرية وتوسيع طريق الخلاص, هو ليس حقيقة موته بل بالأحرى الأسلوب الرائع والروح المنقطع النظير اللذان لاقى بهما الموت.
188:4.13 (2017.8) هذه الفكرة بأكملها عن التضحية والكفارة تضع الخلاص على مستوى من اللاواقعية؛ مثل هذا المفهوم هو فلسفي بحت. الخلاص الإنساني حقيقي؛ إنه مؤسس على حقيقتين يمكن إدراكهما بإيمان المخلوق وبالتالي يتم دمجهما في التجربة البشرية الفردية: واقع أبوة الله والحقيقة المرتبطة به, أخوة الإنسان. إنه صحيح, بعد كل شيء, بأنك لكي "تُعفى من ديونك, حتى كما تسامِح المدينين إليك."
188:5.1 (2017.9) يصور صليب يسوع المقياس الكامل للتكريس السامي للراعي الحقيقي حتى لأعضاء قطيعه غير الجديرين. يضع إلى الأبد كل العلاقات بين الله والإنسان على أساس الأسرة. الله هو الأب؛ الإنسان هو الابن. المحبة, محبة الأب لابنه, تصبح الحقيقة المركزية في العلاقات الكونية بين الخالق والمخلوق ــ وليس عدالة ملك يسعى للرضا في عذاب وعقاب الرعية فاعل الشر.
188:5.2 (2018.1) يُظهر الصليب إلى الأبد بأن موقف يسوع تجاه الخاطئين لم يكن إدانة ولا تسامحًا, بل بالأحرى خلاصًا أبديًا ومحبًا. يسوع هو حقاً مُخَّلِص من حيث أن حياته وموته فعلاً يكسبان الناس للخير والبقاء البار. يحب يسوع الناس كثيراً جداً بحيث أن محبته توقظ استجابة المحبة في قلب الإنسان. المحبة حقاً مُعدية وخلاَّقة إلى الأبد. يمثل موت يسوع على الصليب محبة قوية وإلَهية بما يكفي لمغفرة الخطيئة وابتلاع كل أعمال الشر. كشف يسوع لهذا العالَم نوعية أعلى من البر مما من العدل ــ مجرد صواب وخطأ تقنيان. إن المحبة الإلَهية لا تسامح الأخطاء فحسب؛ إنها تمتصها وتدمرها بالفعل. مغفرة المحبة تتخطى تمامًا غفران الرحمة. الرحمة تضع ذنب فعل الشر جانباً؛ لكن المحبة تدمر الخطيئة إلى الأبد وكل ضعف ناتج عنها. جاء يسوع بطريقة جديدة للعيش إلى يورانشيا. لقد عَّلمنا ألا نقاوم الشر بل أن نجد من خلاله الخير الذي يدمر الشر بفعالية. غفران يسوع ليس تسامحًا؛ إنه خلاص من الإدانة. الخلاص لا يستخف بالأخطاء؛ إنه يجعلها حق. المحبة الحقيقية لا تقبل التسوية مع الكراهية ولا تتجاوز عنها؛ بل تدمرها. لن تكتفي محبة يسوع أبداً بمجرد المغفرة. تعني محبة السيد إعادة التأهيل, البقاء الأبدي. إنه من الصحيح تماماً الحديث عن الخلاص كفداء إذا كنت تقصد إعادة التأهيل الأبدي هذا.
188:5.3 (2018.2) يسوع, بقوة محبته الشخصية للناس, تمكن من كسر قبضة الخطيئة والشر. بهذا حرر الناس ليختاروا طرق عيش أفضل. صَّور يسوع خلاصاً من الماضي الذي في حد ذاته وعد بانتصار من أجل المستقبل. زود الغفران بهذا الخلاص. إن جَمال المحبة الإلَهية, عندما يُسمح لها مرة بالدخول إلى قلب الإنسان, تدمر إلى الأبد افتتان الخطيئة وقدرة الشر.
188:5.4 (2018.3) لم تكن ابتلاءات يسوع محدودة إلى الصَلب. في الواقع, أمضى يسوع الناصري فوق الخمس وعشرين سنة على الصليب لوجود بشري حقيقي ومكثف. تتمثل القيمة الحقيقية للصليب في حقيقة أنه كان التعبير الأسمى والأخير لمحبته, الكشف المتمم لرحمته.
188:5.5 (2018.4) على الملايين من العوالم المأهولة, عشرات التريليونات من المخلوقات المتطورة التي ربما تكون قد تعرضت لإغراء اليأس من النضال الأخلاقي والتخلي عن جهاد الإيمان الصالح, ألقوا نظرة أخرى على يسوع على الصليب وبعد ذلك اندفعوا للأمام, ملهمين بمرأى الله وهو يضع حياته المتجسدة في تكريس للخدمة غير الأنانية للإنسان.
188:5.6 (2018.5) إن انتصار الموت على الصليب كله ملخص في روح موقف يسوع تجاه أولئك الذين هاجموه. لقد جعل الصليب رمزاً أبدياً لانتصار المحبة على الكراهية وتغلب الحق على الشر عندما صَّلى, "أبتاه, اغفر لهم, لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." ذلك التكريس من المحبة كان معدياً في جميع أنحاء كون شاسع؛ التقطه التلاميذ من سيدهم. المعلم الأول لإنجيله الذي استدُعي للتضحية بحياته في هذه الخدمة, قال, بينما رجموه إلى الموت, "لا تضع هذه الخطيئة على عاتقهم."
188:5.7 (2018.6) يوجه الصليب مناشدة سامية إلى الأفضل في الإنسان لأنه يكشف مَن كان على استعداد لوضع حياته في خدمة زملائه الناس. لا محبة أعظم من هذه يمكن لأحد أن يحظى بها؛ بأنه سيكون على استعداد للتضحية بحياته من أجل أصدقائه ــ ويسوع كان لديه مثل هذه المحبة بأنه كان راغباً في تقديم حياته لأعدائه, محبة أعظم من أي شيء عُرف حتى الآن على الأرض.
188:5.8 (2019.1) على عوالم أخرى, مثلما على يورانشيا, هذا المشهد المهيب لموت يسوع البشري على صليب الجُلجثة أثار مشاعر البشر بينما أيقظ أعلى درجات تفاني الملائكة.
188:5.9 (2019.2) الصليب هو ذلك الرمز العالي للخدمة المقدسة, تكريس حياة المرء لرفاهية وخلاص زملائه. ليس الصليب رمزاً للتضحية بابن الله البريء بدلاً من خطاة مذنبين ولإرضاء سخط إله مُساء إليه, لكنه يقف إلى الأبد, على الأرض وفي كل أنحاء كون شاسع, كرمز مقدس للصالحين يغدقون أنفسهم على الأشرار وبالتالي يخلصونهم بهذا التكريس نفسه للمحبة. يقف الصليب كرمز لأعلى شكل من أشكال الخدمة غير الأنانية, التفاني الأسمى للإغداق الكامل لحياة بارة في خدمة الإسعاف من كل القلب, حتى في الموت, موت الصليب. وذات المشهد لهذا الرمز العظيم لإغداق حياة يسوع حقاً يلهمنا جميعًا لنريد أن نذهب ونفعل الشيء نفسه.
188:5.10 (2019.3) عندما ينظر رجال ونساء مفكرون إلى يسوع بينما يقدم حياته على الصليب, فإنهم بالكاد سيسمحون لأنفسهم مرة أخرى بالشكوى حتى من أقسى مصاعب الحياة, أقل بكثير على المضايقات التافهة والعديد من مظالمهم الوهمية البحتة. كانت حياته مجيدة للغاية وموته منتصر للغاية بحيث أننا جميعاً مُغرون بالرغبة في مشاركة كِلاهما. هناك قدرة ساحبة حقيقية في كل إغداق ميخائيل, من أيام شبابه إلى هذا المشهد الساحق لموته على الصليب.
188:5.11 (2019.4) تأكد, إذن, بأنك عندما تنظر إلى الصليب على أنه وحي من الله, أن لا تتطلع بعيون الإنسان البدائي ولا من وجهة نظر البربري اللاحق, كِلاهما يعتبران الله سيادة لا هوادة فيها للعدالة الصارمة وإنفاذ القانون الصارم. بدلاً من ذلك, تأكد من أنك ترى في الصليب التجلي النهائي لمحبة يسوع وتفانيه في مهمة حياته من الإغداق على الأجناس البشرية لكونه الشاسع. شاهد في موت ابن الإنسان ذروة انكشاف محبة الأب الإلَهية لأبنائه في الأجواء الفانية. هكذا يُصَّور الصليب تكريس المودة الراغبة وإغداق الخلاص الطوعي على أولئك الذين هم على استعداد لتلقي مثل هذه الهدايا والتفاني. لم يكن هناك شيء في الصليب تطلبه الأب ــ فقط ما أعطاه يسوع عن طيب خاطر للغاية, والذي رفض تجنبه.
188:5.12 (2019.5) إذا لم يستطع الإنسان سوى ذلك أن يُقـَّدر يسوع ويفهم معنى إغداقه على الأرض, فيمكنه على الأقل أن يستوعب زمالة معاناته البشرية. لا يمكن لإنسان أبداً أن يخشى بأن الخالق لا يعرف طبيعة أو مدى مصائبه الدنيوية.
188:5.13 (2019.6) نحن نعلم بأن الموت على الصليب لم يكن لإحداث مصالحة الإنسان مع الله لكن لتحفيز إدراك الإنسان لمحبة الأب الأبدية ورحمة ابنه التي لا تنتهي, ولإذاعة هذه الحقائق الكونية إلى كون بأسره.
كِتاب يورانشيا
ورقة 189
189:0.1 (2020.1) بعد فترة قصيرة من دفن يسوع بعد ظُهر يوم الجمعة, استدعى قائد رؤساء الملائكة في نِبادون, الذي كان حاضرًا آنذاك على يورانشيا, مجلسه لقيامة النائمين من مخلوقات المشيئة ودخل في اعتبار تقنية ممكنة لاستعادة يسوع. هؤلاء الأبناء المتجمعون من الكون المحلي, مخلوقات ميخائيل, قاموا بهذا على مسؤوليتهم الخاصة؛ لم يجمعهم جبرائيل. بحلول منتصف الليل توصلوا إلى استنتاج بأن المخلوق لا يمكنه فعل أي شيئ لتسهيل قيامة الخالق. كانوا ميالين لقبول نصيحة جبرائيل, الذي أوعز لهم بأنه, بما أن ميخائيل "وضع حياته بمحض مشيئته الخاصة, فإنه لديه كذلك القدرة على أخذها مرة أخرى وفقاً لقراره الخاص." بعد فترة وجيزة من فض مجلس رؤساء الملائكة هذا, وحاملي الحياة, ورفاقهم المتنوعين في عمل إعادة تأهيل المخلوق وخلق المورونشيا, الضابط المشَّخَص ليسوع, كائن في قيادة شخصية للجيوش السماوية المتجمعة آنذاك على يورانشيا, قال هذه الكلمات للمراقبين المنتظرين القلقين:
189:0.2 (2020.2) "لا أحد منكم يستطيع أن يفعل شيئاً لمساعدة أباكم-الخالق في العودة إلى الحياة. كبشري من الحيز هو اختبر الموت البشري؛ كسُلطان الكون هو لا يزال حياً. ما تلاحظونه هو العبور البشري ليسوع الناصري من الحياة في الجسد إلى الحياة في المورونشيا. لقد اكتمل عبور الروح هذا ليسوع في الوقت عندما انفصلتُ عن شخصيته وأصبحت مديركم المؤقت. لقد اختار خالقكم-أباكم أن يمر بكامل تجربة مخلوقاته الفانية, من الولادة على العوالم المادية, مرورًا بالموت الطبيعي وقيامة المورونشيا, إلى حالة الوجود الروحي الحقيقي. أنتم على وشك أن تلاحظوا مرحلة معينة من هذه التجربة, لكن لا يجوز لكم المشاركة فيها. تلك الأشياء التي تقومون بها عادة من أجل المخلوق, لا يجوز لكم فعلها من أجل الخالق. الابن الخالق يتمتع في داخله بالقدرة ليغدق نفسه في شبه أي من أبنائه المخلوقين؛ لديه داخل نفسه القدرة على التخلي عن حياته التي يمكن ملاحظتها واستعادتها مرة أخرى؛ ولديه هذه القدرة بسبب الأمر المباشر لأب الفردوس, وأنا أعرف عما أتكلم."
189:0.3 (2020.3) عندما سمعوا الضابط المشَّخَص يتكلم بهذا, اتخذوا جميعًا موقف التوقع القلق, من جبرائيل وصولاً إلى أكثر الشيروبيم تواضعاً. رأوا الجسد البشري ليسوع في القبر؛ واكتشفوا أدلة على نشاط الكون لسُلطانهم المحبوب؛ وليسوا فاهمين مثل هذه الظواهر, انتظروا التطورات بصبر.
189:1.1 (2020.4) عند الساعة الثانية والدقيقة الخامسة والأربعين من صباح يوم الأحد, وصلت لجنة التجسد للفردوس, التي تتألف من سبع شخصيات فردوسية مجهولة الهوية, إلى المشهد وانتشروا في الحال حول القبر. عند عشر دقائق قبل الساعة الثالثة, بدأت ذبذبات شديدة من نشاطات مادية ومورونشية مختلطة تصدر من قبر يوسف الجديد, وعند دقيقتين بعد الساعة الثالثة, من صباح هذا الأحد, 9 نيسان, عام 30 م. خرج الشكل المورونشي وشخصية يسوع الناصري القائمة من الموت من القبر.
189:1.2 (2021.1) بعد ما برز يسوع المُقام من القبر الذي دفن فيه, كان الجسد البدني الذي عاش واشتغل فيه على الأرض لحوالي ست وثلاثين سنة لا يزال ملقى هناك في كوة الضريح, دون إزعاج وملفوف في ملاءة الكتان, تماماً كما وُضع للراحة من قِبل يوسف ورفاقه بعد ظُهر يوم الجمعة. كما لم يتم إزعاج الحجر الذي أمام مدخل القبر بأي شكل من الأشكال؛ وختم بيلاطس لا يزال غير مكسور؛ كان الجنود لا يزالون على الحراسة. كان حراس الهيكل في واجب مستمر؛ تم تبديل الحرس الروماني عند منتصف الليل. لم يرتاب أي من هؤلاء المراقبين بأن غرض حراستهم قد قام إلى شكل جديد وأعلى من الوجود, وبأن الجسد الذي كانوا يحرسونه كان الآن غطاءً خارجياً مرمى ليس لديه أي صِلة إضافية بشخصية يسوع المورونشية المولودة والقائمة من الموت.
189:1.3 (2021.2) جنس الإنسان بطيء في إدراك أن, في كل ما هو شخصي, المادة هي هيكل المورونشيا, وبأن كِلاهما ظل منعكس لواقع الروح الدائم. كم من الوقت حتى تعتبروا الزمن كالصورة المتحركة للأبدية والفضاء كالظل العابر لحقائق الفردوس؟
189:1.4 (2021.3) لغاية ما نستطيع أن نحكم, لم يكن لأي من هذا الكون ولا أي شخصية من كون آخر أي علاقة بهذه القيامة المورونشية ليسوع الناصري. وضع حياته على يوم الجمعة كبشري من الحيز؛ ورفعها مرة أخرى على صباح الأحد ككائن مورونشي لنظام ساتانيا في نورلاشيادِك. هناك الكثير حول قيامة يسوع مما لا نفهم. لكننا نعرف بأنها حدثت كما ذكرنا وحوالي الوقت المشار إليه. يمكننا أيضاً أن نسجل بأن جميع الظواهر المعروفة الملازمة لهذا العبور الفاني, أو القيامة المورونشية, حدثت هناك مباشرة في قبر يوسف الجديد, حيث رقدت بقايا يسوع المادية الفانية ملفوفة في قماش الدفن.
189:1.5 (2021.4) نحن نعلم أنه لم يشارك أي مخلوق من الكون المحلي في صحوة المورونشيا هذه. لقد لاحظنا شخصيات الفردوس السبعة تحيط بالقبر, لكننا لم نراهم يفعلون أي شيء فيما يتعلق بإيقاظ السيد. بمجرد أن ظهر يسوع بجانب جبرائيل, فوق القبر مباشرة, أشارت الشخصيات السبعة من الفردوس إلى نيتها بالرحيل الفوري إلى يوﭭرسا.
189:1.6 (2021.5) لنوضح إلى الأبد مفهوم قيامة يسوع من خلال التصريحات التالية:
189:1.7 (2021.6) 1. لم يكن جسده المادي أو الفيزيائي جزءًا من الشخصية المُقامة. عندما خرج يسوع من القبر, بقي جسده البدني دون إزعاج في القبر. لقد برز من القبر دون تحريك الحجارة أمام المدخل ودون إزعاج أختام بيلاطس.
189:1.8 (2021.7) 2. لم يبرز من القبر كروح ولا كميخائيل نِبادون؛ لم يظهر في شكل السُلطان الخالق, كما كان لديه قبل تجسده في شبه جسد بشري على يورانشيا.
189:1.9 (2021.8) 3. لقد خرج من قبر يوسف هذا في ذات الشبه لشخصيات المورونشيا لأولئك الذين, ككائنات صاعدة مورونشية قائمة, يخرجون من قاعات القيامة في العالَم المنزلي الأول لهذا النظام المحلي لساتانيا. ووجود نصب ميخائيل التذكاري في وسط الفناء الشاسع لقاعات القيامة في مانسونيا رقم واحد يقودنا إلى التخمين بأن قيامة السيد على يورانشيا كانت مُوطدة بطريقة ما على هذا, الأول من عوالم النظام المنزلية.
189:1.10 (2022.1) كان أول عمل ليسوع عند قيامته من القبر هو تحية جبرائيل وتوجيهه لمواصلة العهدة التنفيذية لشؤون الكون تحت قيادة عمانوئيل. ثم وجَّه رئيس الملكيصادقين لينقل تحياته الأخوية إلى عمانوئيل. وعلى ذلك سأل الأعلى لعدنشيا من أجل شهادة قدماء الأيام فيما يتعلق بعبوره البشري؛ ومتحول إلى الجماعات المورونشية المتجمعة من العوالم المنزلية السبعة, الذين اجتمعوا هنا معًا لتحية خالقهم والترحيب به كمخلوق من مرتبتهم, قال يسوع الكلمات الأولى في مهمة ما بعد البشري. قال يسوع المورونشي: "حيث أني قد أنهيت حياتي في الجسد, سأنتظر هنا لفترة قصيرة في شكل انتقالي بحيث يمكنني بشكل أفضل معرفة حياة مخلوقاتي الصاعدة وكشف مشيئة أبي في الفردوس."
189:1.11 (2022.2) بعد أن تكلم يسوع, أشار إلى الضابط المُشَّخَص, وتم إرسال جميع ذكاءات الكون التي كانت متجمعة على يورانشيا لتشهد القيامة في الحال إلى تعيينات الكون الخاصة بهم.
189:1.12 (2022.3) بدأ يسوع الآن الاتصالات على مستوى المورونشيا. كائن مقدَّم, كمخلوق, إلى متطلبات الحياة التي اختار ان يعيشها لفترة قصيرة على يورانشيا. تطلب هذا الانطلاق إلى عالَم المورونشيا أكثر من ساعة من الزمن الأرضي وكان مُقاطعاً مرتين بسبب رغبته في التواصل مع رفاقه السابقين في الجسد عندما خرجوا من أورشليم بدهشة للنظر في القبر الفارغ لاكتشاف ما اعتبروه دليلاً على قيامته.
189:1.13 (2022.4) الآن اكتمل العبور البشري ليسوع ــ قيامة المورونشيا لابن الإنسان ــ. بدأت التجربة الانتقالية للسيد كشخصية في منتصف الطريق بين المادي والروحي. وقد قام بكل هذا من خلال قدرة كامنة في نفسه؛ لم تقدم له أي شخصية أية مساعدة. إنه الآن يعيش كيسوع المورنشي, وبينما يبدأ حياة المورونشيا هذه, يرقد الجسد المادي هناك دون إزعاج في القبر. الجنود لا يزالون على الحراسة, وحتى الآن ختم الحاكم على الصخور لم يكسر بعد.
189:2.1 (2022.5) في الساعة الثالثة وعشر دقائق, بينما تآخى يسوع القائم مع شخصيات المورونشيا المتجمعين من العوالم المنزلية السبعة لساتانيا, اقترب قائد رؤساء الملائكة ــ ملائكة القيامة ــ من جبرائيل وطلب جسد يسوع البشري. قال قائد رؤساء الملائكة: "قد لا نشارك في القيامة المورونشية لتجربة إغداق ميخائيل سُلطاننا, لكننا نود أن توضع رفاته البشرية في وصايتنا من أجل الانحلال الفوري. نحن لا نقترح أن نوظف تقنيتنا في التجريد من المادة؛ نرغب فقط في استحضار عملية تسريع الزمن. يكفي أننا رأينا سُلطاننا يعيش ويموت على يورانشيا؛ سوف يتم تجنيب جيوش السماء ذكرى تحمُّل مشهد الانحلال البطيء للشكل البشري لخالق وداعم الكون. باسم الذكاءات السماوية لكل نِبادون, أطلب تفويضاً يمنحني الوصاية على الجسد البشري ليسوع الناصري وتمكيننا من المضي قدمًا في حله الفوري."
189:2.2 (2023.1) وعندما تشاور جبرائيل مع الأعلى الكبير لعدنشيا, مُنح المتحدث باسم قائد رؤساء الملائكة للجيوش السماوية الإذن بالتصرف في بقايا يسوع الجسدية كما قد يُقرِر.
189:2.3 (2023.2) بعد أن مُنح قائد رؤساء الملائكة هذا الطلب, استدعى لمساعدته العديد من زملائه, سوية مع جماهير عديدة من ممثلي جميع رتب الشخصيات السماوية, وبعد ذلك, بمساعدة منتصفي الطريق في يورانشيا, باشر في امتلاك جسد يسوع الفيزيائي. كان جسد الموت هذا مجرد خلق مادي؛ كان فيزيائياً وواقعياً, لم يمكن نقله من القبر كما كان الشكل المورونشي للقيامة قادراً على الإفلات من القبر المختوم. بمساعدة بعض الشخصيات المساعدة المورونشية, يُمكن جعل الشكل المورونشي في وقت ما مثل الروح بحيث يمكن أن يصبح غير مبالٍ بالمادة العادية, بينما في وقت آخر يمكن أن يصبح قابلاً للتمييز والاتصال بالكائنات المادية, مثل بشر الحيز.
189:2.4 (2023.3) بينما استعدوا لنقل جسد يسوع من القبر تحضيراً لإعطائه الإزالة الكاملة والوقورة من الانحلال شبه الفوري, تم تكليف منتصفي طريق يورانشيا الثانويين بدحرجة الحجارة بعيدًا عن مدخل القبر. الأكبر من هذه الحجارة كان شأناً دائرياً ضخماً, إلى حد كبير مثل حجر الرحى, وتحرك في أخدود منحوت في الصخر, بحيث يمكن دحرجته ذهاباً وإياباً لفتح القبر أو إغلاقه. عندما رأى الحراس اليهود المراقبين والجنود الرومان, في ضوء الصباح الخافت, هذا الحجر الضخم يبدأ بالتدحرج بعيداً عن مدخل القبر, على ما يبدو من تلقاء نفسه ــ دون أي ذريعة مرئية لتفسير مثل هذه الحركة ــ كانوا مستولى عليهم بالخوف والذعر, وفروا مسرعين من الموقع. هرب اليهود إلى بيوتهم, وعادوا بعد ذلك ليخبروا قائدهم في الهيكل بهذه الأعمال. فر الرومان إلى حصن أنطونيا وأبلغوا قائد المئة بما رأوه حالما وصل على الواجب.
189:2.5 (2023.4) بدأ قادة اليهود العمل الدنيء بافتراض التخلص من يسوع بتقديم رشاوى إلى يوداص الخائن, والآن عندما واجهوا هذا الموقف المحرج, بدلاً من التفكير في معاقبة الحراس الذين تركوا موقعهم, لجأوا إلى رشوة هؤلاء الحراس والجنود الرومان. دفعوا لكل من هؤلاء الرجال العشرين مبلغاً من المال وأوصوهم أن يقولوا للجميع: "بينما كنا نياماً أثناء الليل, جاء تلاميذه علينا وأخذوا الجسد." وقدم القادة اليهود وعوداً رسمية للجنود بالدفاع عنهم أمام بيلاطس في حال ما إذا علم الحاكم أنهم قبلوا رشوة.
189:2.6 (2023.5) إن الاعتقاد المسيحي بقيامة يسوع مؤسسً على حقيقة "القبر الفارغ." لقد كان بالفعل حقيقة أن القبر كان فارغًا, لكن هذه ليست حقيقة القيامة. كان القبر فارغاً حقاً عندما وصل المؤمنون الأوائل, وهذا الواقع, مرتبط بقيامة السيد التي لا شك فيها, أدى إلى صياغة معتقد غير صحيح: التعليم بأن جسد يسوع المادي والفاني قد أُقيم من القبر. الحقيقة المتعلقة بالوقائع والقيَّم الأبدية لا يمكن دائماً بناؤها بمرَّكب من الحقائق الظاهرة. على الرغم من أن الحقائق الفردية قد تكون صحيحة من الناحية المادية, لا يترتب على ذلك أن ارتباط مجموعة من الحقائق يجب أن يؤدي بالضرورة إلى استنتاجات روحية صحيحة.
189:2.7 (2023.6) قبر يوسف كان فارغاً, ليس لأن جسد يسوع قد أُعيد تأهيله أو أُقيم من الموت, لكن لأن الجيوش السماوية حصلوا على طلبهم لتزويده بانحلال خاص وفريد, عودة "التراب إلى تراب", دون تدخل تأخيرات الوقت وبدون عمل الإجراءات العادية والمرئية للانحلال البشري والفساد المادي.
189:2.8 (2024.1) خضعت بقايا يسوع البشرية لنفس العملية الطبيعية من الانحلال العناصري كما تميز جميع الأجسام البشرية على الأرض باستثناء أنه, في نقطة من الزمن, تم تسريع هذا النمط الطبيعي للانحلال بشكل كبير, تم تعجيله إلى تلك النقطة حيث أصبح لحظياً تقريباً.
189:2.9 (2024.2) الإثباتات الحقيقية لقيامة ميخائيل هي روحية في الطبيعة, ولو إن هذا التعليم عُزز بشهادة العديد من الفانين من الحيز الذين التقوا, وتعرفوا على السيد المورونشي القائم من الموت وتواصلوا معه. هو أصبح جزءًا من التجربة الشخصية لما يقرب من ألف كائن بشري قبل أن يغادر يورانشيا في النهاية.
189:3.1 (2024.3) بعد الساعة الرابعة والنصف بقليل من صباح هذا الأحد, استدعى جبرائيل رؤساء الملائكة إلى جانبه واستعد لافتتاح القيامة العامة لانهاء الافتقاد الإلَهي الآدمي على يورانشيا. عندما تم تنظيم الجيوش الضخمة من السيرافيم والشيروبيم المعنيين بهذا الحدث العظيم في تشكيل ملائم, ظهر ميخائيل المورونشي أمام جبرائيل, قائلاً: "كما أن أبي لديه حياة في ذاته, هكذا أعطاها للابن ليكون لديه حياة في ذاته. مع أني حتى الآن لم أستأنف بعد ممارسة الولاية القضائية للكون بشكل كامل, فإن هذا القيد المفروض بالذات لا يقيد بأي شكل من الأشكال إغداق الحياة على أبنائي النائمين؛ فليبدأ نداء اللائحة من أجل القيامة الكوكبية.
189:3.2 (2024.4) عندئذ عملت دارة رؤساء الملائكة للمرة الأولى من يورانشيا. انتقل جبرائيل وجيوش رؤساء الملائكة إلى مكان الإستقطاب الروحي للكوكب؛ وعندما أعطى جبرائيل الإشارة, ومض إلى الأول من العوالم المنزلية للنظام صوت جبرائيل, قائلاً: "بولاية ميخائيل, فليقم أموات الافتقاد الإلَهي ليورانشيا!" عندها جميع الناجين من الأجناس البشرية ليورانشيا الذين وقعوا نائمين منذ أيام آدم, والذين لم يذهبوا سابقاً إلى القضاء ظهروا في قاعات قيامة مانصونيا استعداداً لكِساء المورونشيا. وفي لحظة من الزمن تهيأت السيرافيم وزملائهن للرحيل إلى العوالم المنزلية. عادة ما تكون هؤلاء الوصيات السيرافيات, المُعَّينات في وقت ما للوصاية الجماعية لهؤلاء البشر الناجين, حاضرات عند لحظة استيقاظهم في قاعات القيامة لمانصونيا, لكنهن كن على هذا العالَم نفسه في هذا الوقت بسبب ضرورة حضور جبرائيل هنا فيما يتعلق بقيامة المورونشيا ليسوع.
189:3.3 (2024.5) بالرغم من أن عدداً لا يُحصى من الأفراد الذين لديهم حارسات سيرافيات شخصية وأولئك الذين حققوا التحصيل المطلوب لتقدم الشخصية الروحية قد انتقلوا إلى مانصونيا أثناء العصور اللاحقة لأوقات آدم وحواء, ولو إنه كان هناك العديد من القيامات الخاصة والألفية لأبناء يورانشيا, فقد كان هذا الثالث من نداءات اللائحة الكوكبية, أو قيامات الافتقاد الإلَهي التام. وقع الأول في وقت وصول الأمير الكوكبي, والثاني في زمن آدم, وهذا, الثالث, أشر إلى القيامة المورونشية, العبور الفاني, ليسوع الناصري.
189:3.4 (2024.6) عندما تلقى قائد رؤساء الملائكة إشارة القيامة الكوكبية, تنحى الضابط المُشَّخَص لابن الإنسان عن سُلطته على الجيوش السماوية المتجمعة على يورانشيا, محَّولاً أبناء الكون المحلي هؤلاء رجوعاً إلى الولاية القضائية لقادتهم المختصين. وعندما قام بهذا رحل إلى ساﻟﭭينغتون ليسجل مع عمانوئيل إتمام العبور البشري لميخائيل. وتُبع في الحال بكل الحشد السماوي غير المطلوب للخدمة في يورانشيا. لكن جبرائيل بقي على يورانشيا مع يسوع المورونشي.
189:3.5 (2025.1) وهذا هو سرد أحداث قيامة يسوع كما شاهدها أولئك الذين رأوها كما حدثت بالفعل, حرة من كل قيود الرؤية البشرية الجزئية والمقيدة.
189:4.1 (2025.2) عندما نقترب من وقت قيامة يسوع في صباح هذا الأحد الباكر, يجب التذكّر بأن الرُسل العشرة كانوا ماكثين في بيت إيليا ومريم مرقس, حيث كانوا نائمين في العلية, يستريحون على ذات المقاعد التي اتكأوا عليها أثناء العشاء الأخير مع سيدهم. صباح هذا الأحد كانوا جميعاً متجمعين هناك باستثناء توما. كان توما معهم لبضع دقائق في وقت متأخر من ليلة السبت عندما تجمعوا معاً أولاً, لكن مشهد الرُسل, إلى جانب التفكير بما حدث ليسوع, كان كثيراً جداً بالنسبة له. نظر إلى زملائه وغادر الغرفة على الفور, متوجهًا إلى بيت سمعان في بيت-فاج, حيث فكـَّر في الحزن على مشاكله وحيداً. لقد عانى الرُسل جميعًا, ليس كثيراً من الشك واليأس بقدر ما من الخوف, والحزن, والهوان.
189:4.2 (2025.3) في بيت نيقوديموس تجمع هناك معاً, مع داود زَبـِدي ويوسف الإريماضِا, وحوالي اثني عشر أو خمسة عشر من أبرز تلاميذ يسوع في أورشليم. في بيت يوسف الأريماضِا كان هناك نحو خمسة عشرة أو عشرين من النسوة المؤمنات الرائدات. فقط هؤلاء النساء أقمن في منزل يوسف, وكن قد بقين على مقربة أثناء ساعات نهار السبت والمساء بعد السبت, بحيث كن يجهلن بالحرس العسكري في المراقبة عند القبر؛ ولم يعلمن أن حجراً ثانياً قد دُحرج أمام القبر, وبأن كِلا هذين الحجرين وُضعا تحت ختم بيلاطس.
189:4.3 (2025.4) قبل الساعة الثالثة بقليل صباح هذا الأحد, عندما بدأت أولى علامات النهار تظهر في الشرق, سارت خمس من النساء إلى قبر يسوع. كن قد أعددن وفرة من مستحضرات التحنيط الخاصة, وحملن معهن الكثير من الأربطة الكتانية. كان هدفهن منح جسد يسوع مسوحه للموت بدقة أكثر وأن يلفوه بعناية أكثر بالأربطة الجديدة.
189:4.4 (2025.5) النساء اللواتي ذهبن على تلك المهمة لمسح جسد يسوع كن: مريم المجدلية, ومريم أُم التوأم الألفيوس, وصالومي أم الأشقاء زَبـِدي, وجوانا زوجة خوزا, وسوزانا ابنة عزرا من الإسكندرية.
189:4.5 (2025.6) كانت الساعة حوالي الثالثة والنصف عندما وصلت النسوة الخمسة, محملات بمسوحهن, أمام القبر الفارغ. عند خروجهن من بوابة دمشق, واجهن عدداً من الجنود يفرون نحو المدينة مضروبين بالذعر بشكل أو بآخر, مما جعلهن يتوقفن لبضع دقائق؛ لكن عندما لا شيء أكثر تطور, تابعن رحلتهن.
189:4.6 (2025.7) كن في غاية الدهشة لرؤية الحجر مدحرجاً بعيداً عن مدخل القبر, نظراً إلى أنهن قلن فيما بينهن على الطريق, "مَن سيساعدنا في دحرجة الحجر؟" وضعن أحمالهن وبدأن ينظرن إلى بعضهن البعض في خوف وذهول عظيمين. بينما وقفن هناك, مرتجفات بالخوف, جازفت مريم المجدلية حول الحجر الأصغر وتجرأت على دخول القبر المفتوح. كان قبر يوسف هذا في حديقته إلى جانب التل على الجانب الشرقي من الطريق, وكان يواجه أيضاً جهة الشرق. بحلول هذه الساعة كان هناك ما يكفي من فجر يوم جديد لتمكين مريم من النظر إلى الوراء إلى المكان حيث أُضجع جسد السيد ولتدرك بأنه اختفى. في فجوة الحجر حيث وضعوا يسوع, رأت مريم فقط المنديل المطوي حيث كان رأسه قد رقد والأربطة التي كان ملفوفاً بها ملقاة كما هي وكما وُضعت على الحجر قبل أن تزيل الجيوش السماوية الجسد. كانت ملاءة التغطية موضوعة عند أسفل محراب الدفن.
189:4.7 (2026.1) بعد أن تمهلت مريم في باب القبر لبضع لحظات (هي لم ترى بوضوح عندما دخلت القبر أولاً), رأت أن جسد يسوع قد اختفى ولم يبق في مكانه سوى أقمشة القبر هذه, وأطلقت صرخة رعب وكرب. كانت كل النسوة عصبيات للغاية؛ كن منفعلات منذ لقائهن بالجنود المذعورين عند بوابة المدينة, وعندما أطلقت مريم هذه الصرخة من الغم, كن مضروبات بالرعب وهربن في سرعة كبيرة. ولم يتوقفن حتى كن قد ركضن كل الطريق إلى بوابة دمشق. بحلول هذا الوقت كانت جوانا مؤنبة الضمير لأنهن هجرن مريم؛ استجمعت رفيقاتها, وسرن عائدات إلى القبر.
189:4.8 (2026.2) بينما اقتربن من الضريح, المجدلية المرتعبة, التي كانت حتى أكثر رعبًا عندما فشلت في العثور على أخواتها ينتظرنها عندما خرجت من القبر, الآن اندفعت إليهن, هاتفة بانفعال: "هو ليس هناك ــ لقد أخذوه!" وقادتهن رجوعاً إلى القبر, وكلهن دخلن ورأين أنه فارغ.
189:4.9 (2026.3) جلست كل النساء الخمسة عند ذاك على الحجر بالقرب من المدخل وتحدثن عن الموقف. لم يخطر لهن بعد بأن يسوع قد قام. كن بمفردهن يوم السبت, وظنَّن أن الجسد قد تم نقله إلى مكان رقاد آخر. لكن عندما تمعن بمثل هذا الحل لمعضلتهن, كن في حيرة ليحسبن من أجل الترتيب المنظم لأقمشة القبر؛ كيف أمكن إزالة الجسد حيث إن الأربطة ذاتها التي لـُف فيها كانت متروكة في موضعها وعلى ما يبدو سليمة على رف الدفن؟
189:4.10 (2026.4) بينما جلست هؤلاء النساء هناك في الساعات المبكرة من فجر هذا اليوم الجديد, تطلعن إلى جانب واحد ولاحظن غريباً صامتاً بلا حراك. للحظة كن مرة أخرى مرتعبات, لكن مريم المجدلية, مندفعة تجاهه ومخاطبةً إياه كما لو ظنت أنه قد يكون حارس الحديقة, قالت, "أين أخذت السيد؟ أين وضعته؟ أخبرنا بحيث يمكننا الذهاب والحصول عليه." عندما لم يرد الغريب على مريم, بدأت تبكي. عندها كلمهن يسوع قائلاً, "عمن تبحثون؟" قالت مريم: "نبحث عن يسوع الذي وُضع للراحة في قبر يوسف, لكنه ذهب. هل تعلم إلى أين أخذوه؟" عند ذلك قال يسوع: "ألـَّم يخبركم يسوع هذا, حتى في الجليل, أنه سيموت, لكنه سيقوم مرة أخرى؟" هذه الكلمات أذهلت النساء, لكن السيد كان قد تغير جداً بحيث لم يتعرفن عليه وظهره متحول إلى الضوء الخافت. وبينما تمعَّن بكلماته, خاطب المجدلية بصوت مألوف, قائلاً, "مريم." وعندما سمعت مريم تلك الكلمة من تحية ود وعطف مألوفان جيداً عرفت أنه كان صوت السيد, واندفعت للركوع عند قدميه بينما تصرخ, "ربي, وسيدي!" وكل النساء الأخريات أدركن أن السيد هو الذي وقف أمامهن في صورة ممجدة, وركعن أمامه بسرعة.
189:4.11 (2027.1) هذه العيون البشرية مُكنت من رؤية الشكل المورونشي ليسوع بسبب الإسعاف الخاص للمحولات ولمنتصفي الطريق بالتعاون مع بعض شخصيات المورونشيا التي رافقت يسوع عند ذاك.
189:4.12 (2027.2) حينما سعت مريم لتضم قدميه, قال يسوع: "لا تلمسيني, يا مريم, لأني لست كما عرفتِني في الجسد. سأبقى معكن في هذا الشكل لفصل قبل أن أصعد إلى الأب. لكن اذهبن, كلكن, الآن واخبرن رُسلي ــ وبطرس ــ بأني قد قمت, وبأنكن تكلمتن معي."
189:4.13 (2027.3) بعد أن تعافت هؤلاء النساء من صدمة دهشتهن, أسرعن راجعات إلى المدينة وإلى بيت إيليا مرقس, حيث روين للرُسل العشرة كل ما حدث لهن؛ لكن الرُسل لم يكونوا ميالين لتصديقهن. ظنوا في البداية بأن النساء قد رأين رؤيا, لكن عندما كررت مريم المجدلية الكلمات التي قالها لهن يسوع, وعندما سمع بطرس اسمه, اندفع خارجاً من العلية, متبوعاً بيوحنا عن قـُرب, في عجلة كبيرة ليصل إلى القبر ويرى هذه الأشياء بنفسه.
189:4.14 (2027.4) كررت النساء قصة التحدث مع يسوع إلى الرُسل الآخرين, لكنهم لم يودوا التصديق, ولن يذهبوا ليجدوا بأنفسهم كما فعل بطرس ويوحنا.
189:5.1 (2027.5) بينما تسابق الرسولان نحو الجُلجثة وقبر يوسف, تناوبت أفكار بطرس بين الخوف والرجاء؛ خشي أن يلتقي السيد, لكن رجاءه انبعث بالقصة بأن يسوع قد أرسل له كلمة خاصة. كان نصف مقتنع بأن يسوع كان حقاً حياً؛ تذكـَّر الوعد بأن يقوم على اليوم الثالث. غريب أن يُروى, لم يخطر بباله هذا الوعد منذ الصَلب حتى هذه اللحظة وهو يسارع شمالاً عبر أورشليم. بينما أسرع يوحنا خارجاً من المدينة, انبعثت نشوة غريبة من الفرح والأمل في نفـْسه. كان نصف مقتنع بأن النساء قد رأين بالفعل السيد القائم.
189:5.2 (2027.6) يوحنا, كائن أصغر من بطرس, سبقه ووصل أولاً إلى القبر. انتظر يوحنا عند الباب, ناظراً القبر, وكان الأمر تمامًا كما وصفته مريم. سرعان ما اندفع سمعان بطرس صاعداً, وداخل, رأى نفس القبر الفارغ مع أقمشة القبر مرتبة بشكل غريب للغاية. وعندما خرج بطرس, دخل يوحنا كذلك ورأى كل شيء بنفسه, ثم جلسا على الحجر ليتمعنا بمعنى ما رأياه وسمعاه. وبينما جلسا هناك, قلبا في عقليهما كل ما تم إخبارهما عن يسوع, لكنهما لم يتمكنا من إدراك ما حدث بوضوح.
189:5.3 (2027.7) اقترح بطرس في البداية أن القبر قد نُهب, وبأن الأعداء قد سرقوا الجسد, ربما قاموا برشوة الحراس. لكن يوحنا حسب بأن القبر من الصعب أن يُترك في غاية الترتيب لو سُرق الجسد, وأيضاً تساءل بالنسبة إلى كيف حدث أن تُركت الأربطة, وعلى ما يبدو سليمة جداً. ومرة أخرى رجعا كِلاهما إلى القبر لفحص أقمشة القبر عن كثب أكثر. حينما خرجا من القبر للمرة الثانية, وجدا مريم المجدلية قد عادت وتبكي أمام المدخل. كانت مريم قد ذهبت إلى الرُسل وهي تؤمن بأن يسوع قد قام من القبر, لكن عندما رفضوا كلهم تصديق روايتها, أصابها الإحباط واليأس. تاقت للعودة قرب القبر, حيث ظنت أنها قد سمعت صوت يسوع المألوف.
189:5.4 (2027.8) حينما توانت مريم بعد رحيل بطرس ويوحنا, ظهر السيد لها مرة أخرى, قائلاً. "لا تشكي, لتكن لديك الشجاعة لتؤمني بما رأيتِ وسمعتِ. ارجعي إلى رُسلي وأخبريهم مرة أخرى بأني قمت, وبأني سأظهر إليهم, وبأني في الحاضر سأذهب أمامهم إلى الجليل كما وعدت."
189:5.5 (2028.1) أسرعت مريم عائدة إلى بيت مرقس وأخبرت الرُسل بأنها تكلمت مرة أخرى مع يسوع, لكنهم لن يصَدّقوها. لكن عندما عاد بطرس ويوحنا, توقفوا عن السخرية وأصبحوا مملوءين بالخوف والتوجس.
كِتاب يورانشيا
ورقة 190
190:0.1 (2029.1) يستعد يسوع القائم الآن لقضاء فترة قصيرة على يورانشيا بهدف اختبار مهنة المورونشيا الصاعدة لبشري من العوالم. مع أن هذا الوقت من حياة المورونشيا سوف يُقضى على عالَم تجسده البشري, إلا أنه سيكون, على كل حال, من جميع النواحي النظير لتجربة بشر ساتانيا الذين يمرون عبر حياة المورونشيا التقدمية للعوالم المنزلية السبعة لجيروسِم.
190:0.2 (2029.2) كل هذه القدرة الكامنة في يسوع ــ هبة الحياة ــ والتي مكنتَّه من القيام من بين الأموات, هي نفس عطية الحياة الأبدية التي يغدقها على مؤمني الملكوت, والتي حتى الآن تجعل قيامتهم من قيود الموت الطبيعي أكيدة.
190:0.3 (2029.3) سوف يقوم بشر العوالم في صباح القيامة بنفس نوع الجسد الانتقالي أو المورونشي الذي كان لدى يسوع عندما قام من القبر صباح هذا الأحد. هذه الأجسام ليس بها دورة دموية, وهذه الكائنات لا تتناول من الطعام المادي العادي؛ مع ذلك, فإن أشكال المورونشيا هذه حقيقية. عندما رأى العديد من المؤمنين يسوع بعد قيامته, هم رأوه حقاً؛ لم يكونوا ضحايا الرؤى أو الهلوسات الذين يخدعون أنفسهم.
190:0.4 (2029.4) كان الإيمان الراسخ بقيامة يسوع السمة الجوهرية في جميع فروع تعاليم الإنجيل المبكرة. في أورشليم, والإسكندرية, وإنطاكية, وفيلادلفيا اتَحد جميع معلمي الإنجيل في هذا الإيمان الضمني بقيامة السيد.
190:0.5 (2029.5) في استعراض الدور البارز الذي قامت به مريم المجدلية في إعلان قيامة السيد, يجب أن يُسجَّل أن مريم كانت الناطق الرئيسي لكتيبة النساء, كما كان بطرس للرُسل. لم تكن مريم رئيسة العاملات النساء, لكنها كانت معلمتهن الرئيسية والمتحدث الرسمي باسمهن. كانت مريم قد أصبحت امرأة شديدة الحذر, بحيث أن جرأتها في التكلم إلى رَجل اعتبرته ليكون المشرف على حديقة يوسف يشير فقط إلى مدى رعبها عندما وجدت القبر فارغاً. لقد كان عمق وحزن محبتها, وكمال تكريسها, ما جعلها تنسى, للحظة, القيود التقليدية لاقتراب امرأة يهودية إلى رَجل غريب.
190:1.1 (2029.6) لم يرغب الرُسل في أن يتركهم يسوع؛ لذلك استهانوا بكل أقواله حول الموت, إلى جانب وعوده بأن يقوم مرة أخرى. لم يكونوا يتوقعون القيامة كما جاءت, ورفضوا أن يؤمنوا إلى أن واجهوا إكراه الإثبات الذي لا شك فيه والبرهان القاطع لتجاربهم الخاصة.
190:1.2 (2030.1) عندما رفض الرُسل أن يصَّدقوا تقرير النساء الخمس اللواتي قدمن بأنهن قد رأين يسوع وتكلمن معه, عادت مريم المجدلية إلى القبر, وعادت الأخريات إلى منزل يوسف, حيث روين تجاربهن لابنته والنساء الأخريات. وصدقت النساء تقريرهن. بعد الساعة السادسة بفترة قصيرة توجهت ابنة يوسف الأريماضِا والنساء الأربعة اللواتي رأين يسوع إلى بيت نيقوديموس, حيث حكين كل هذه الأحداث إلى يوسف, ونيقوديموس, وداود زَبـِدي, والرجال الآخرين المتجمعين هناك. شَّكَ نيقوديموس والآخرون في قصتهن, شككوا في قيام يسوع من بين الأموات؛ ظنوا بأن اليهود أزالوا الجسد. كان يوسف وداود ميالين لتصديق التقرير, لدرجة أنهما أسرعا خارجاً لتفقد القبر, ووجدا كل شيء تماماً كما وصفت النساء. وكانا آخر من رأى القبر, لأن رئيس الكهنة أرسل قبطان حراس الهيكل إلى القبر عند الساعة السابعة والنصف ليزيل قماش القبر. لفها القبطان كلها في ملاءة الكتان وألقى بها من فوق منحدر قريب.
190:1.3 (2030.2) من القبر ذهب داود ويوسف على الفور إلى بيت إيليا مرقس, حيث عقدا مؤتمراً مع الرُسل العشرة في العلية. فقط يوحنا زَبـِدي كان ميالاً ليصَّدق, حتى بشكل ضعيف, بأن يسوع قام من الأموات. صدَّق بطرس في البداية لكن, عندما فشل في العثور على السيد, وقع في شك خطير. كانوا جميعاً ميالين للإعتقاد بأن اليهود قد أزالوا الجسد. لن يجادلهم داود, لكن عندما غادر, قال: "أنتم الرُسل, وعليكم أن تفهموا هذه الأمور. لن أتنازع معكم؛ مع ذلك, سأعود الآن إلى بيت نيقوديموس, حيث عيَّنت موعداً مع المراسيل للتجمع هذا الصباح, وعندما يتجمعون معاً, سأرسلهم في مهمتهم الأخيرة, كمبشرين بقيامة السيد. سمعت السيد يقول بأنه, بعد موته, سوف يقوم على اليوم الثالث, وأنا أصَّدقه." ومتكلم بهذا إلى سفراء الملكوت البائسين واليائسين, هذا الرئيس المعين ذاتياً للإتصالات والاستخبارات استأذن الرُسل. في طريقه من العلية, ألقى بكيس يوداص, الذي يحتوي على كل الأموال الرسولية في حضن متـّى لاوي.
190:1.4 (2030.3) كانت الساعة حوالي التاسعة والنصف عندما وصل الأخير من مراسيل داود الستة والعشرين إلى بيت نيقوديموس. قام داود بتجميعهم على الفور في الباحة الفسيحة وخاطبهم:
190:1.5 (2030.4) "أيها الرجال والإخوة, طوال هذا الوقت خدمتموني وفقاً ليمينكم لي وإلى بعضكم البعض, وأدعوكم لتشهدوا بأني لم أرسل أبداً حتى الآن معلومات كاذبة على أياديكم. أنا الآن على وشك أن أرسلكم في مهمتكم الأخيرة كمراسيل متطوعين للملكوت, وفي فعل هذا أخليكم من قسمكم وبهذا أُسَّرح كتيبة المراسيل. أيها الرجال, أعلن لكم بأننا قد انتهينا من عملنا. لم يعد السيد بحاجة إلى مراسيل بشر, لقد قام من الأموات. أخبرنا قبل أن يعتقلوه أنه سيموت ويقوم مرة أخرى في اليوم الثالث. لقد رأيت القبر ــ إنه فارغ. لقد تكلمت مع مريم المجدلية وأربع نساء أخريات, اللواتي قد تكلمن مع يسوع. الآن أُسَّرحكم, وأودعكم, وأرسلكم في مهامكم المختصة, والرسالة التي ستحملونها إلى المؤمنين هي: ’يسوع قام من الأموات؛ القبر فارغ.‘"
190:1.6 (2030.5) سعى غالبية أولئك الحاضرين لإقناع داود بعدم القيام بذلك. لكنهم لم يتمكنوا من التأثير عليه. عند ذاك سعوا لإقناع المراسيل بالعدول, لكنهم لم يكترثوا لكلمات الشك. وهكذا, قبل الساعة العاشرة من صباح هذا الأحد بقليل, انطلق هؤلاء العداؤون الستة والعشرون كأول المبشرين بحقيقة-الواقع الجليل عن يسوع القائم. وبدأوا على هذه المهمة كما فعلوا على مهمات أخرى كثيرة, في الوفاء لقسمهم إلى داود زَبـِدي وإلى بعضهم البعض. كان لدى هؤلاء الرجال ثقة كبيرة في داود. رحلوا على هذه المهمة حتى بدون الانتظار للتحدث مع أولئك الذين رأوا يسوع؛ أخذوا داود عند كلمته. صَّدق معظمهم ما قاله لهم داود, وحتى أولئك الذين شككـّوا إلى حد ما, حملوا الرسالة بنفس اليقين والسرعة.
190:1.7 (2031.1) تجمَّع الرُسل, السلك الروحي للملكوت, على هذا اليوم في العلية, حيث أظهروا الخوف وعبَّروا عن الشكوك, بينما هؤلاء الأشخاص العاديون, الذين يمثلون المحاولة الأولى لمشايعة إنجيل السيد لأخوة الإنسان, بناء على أوامر قائدهم الجريء والهمام, انطلقوا ليعلنوا المخلص القائم لعالَم وكون. وانشغلوا في هذه الخدمة الهامة قبل أن يكون ممثليه المختارين على استعداد لتصديق كلمته أو قبول أدلة شهود العيان.
190:1.8 (2031.2) تم إرسال هؤلاء الستة والعشرون إلى بيت لِعازر في بيت-عنيا وإلى جميع مراكز المؤمنين, من بئر-السبع في الجنوب إلى دمشق وصيدا في الشمال؛ ومن فيلادلفيا في الشرق إلى الإسكندرية في الغرب.
190:1.9 (2031.3) عندما استأذن داود إخوانه, ذهب إلى بيت يوسف من أجل أُمه, ثم ساروا إلى بيت-عنيا ليلتحقوا بعائلة يسوع المنتظرة. أقام داود هناك في بيت-عنيا مع مارثا ومريم حتى بعد أن تخلصتا من ممتلكاتهما الأرضية, ورافقهما في رحلتهما للإنضمام إلى شقيقهما, لِعازر, في فيلادلفيا.
190:1.10 (2031.4) في غضون أسبوع من هذا الوقت أخذ يوحنا زَبـِدي مريم والدة يسوع إلى بيته في بيت-صيدا. بقي يعقوب, الأخ الأكبر ليسوع, مع عائلته في أورشليم. بقيت راعوث في بيت-عنيا مع أخوات لِعازر. عادت بقية عائلة يسوع إلى الجليل. غادر داود زَبـِدي بيت-عنيا مع مارثا ومريم, إلى فيلادلفيا, في أوائل حزيران, في اليوم التالي لزواجه من راعوث, أخت يسوع الصغرى.
190:2.1 (2031.5) من وقت القيامة المورونشية حتى ساعة صعوده الروحي إلى العُلى, قام يسوع بتسعة عشر ظهوراً منفصلاً في صورة مرئية للمؤمنين به على الأرض. لم يظهر لأعدائه ولا لأولئك الذين لا يمكنهم الإفادة روحياً من تجليه في شكل مرئي. كان ظهوره الأول للنساء الخمس عند القبر؛ والثاني, لمريم المجدلية, كذلك عند القبر.
190:2.2 (2031.6) حدث الظهور الثالث حوالي ظُهر هذا الأحد في بيت-عنيا. بعد وقت الظهيرة بقليل, كان الأخ الأكبر ليسوع, يعقوب, يقف في حديقة لِعازر أمام القبر الفارغ لأخ مارثا ومريم المُقام من الموت, يقلب في عقله الأخبار التي أحضرها له مراسيل داود قبل حوالي ساعة. كان يعقوب ميالاً دائماً إلى الإيمان برسالة أخيه الأكبر على الأرض, لكنه كان منذ وقت طويل قد فقد الاتصال بعمل يسوع وانجرف نحو شك خطير بشأن ادعاءات الرُسل اللاحقة بأن يسوع هو المسيح. كانت الأسرة بأكملها مندهشة ومرتبكة من الأخبار التي جاء بها المرسال. حتى بينما وقف يعقوب أمام قبر لِعازر الفارغ, وصلت مريم المجدلية على المشهد وكانت تروي للعائلة بحماس تجاربها لساعات هذا الصباح الباكر عند قبر يوسف. قبل أن تنتهي, وصل داود زَبـِدي وأُمه. راعوث, بالطبع, صَّدقت التقرير, ويهوذا أيضاً بعد أن تحدث مع داود وصالومي.
190:2.3 (2032.1) في غضون ذلك, عندما كانوا يبحثون عن يعقوب وقبل أن يجدوه, بينما وقف هناك في الحديقة قرب القبر, أصبح دارياً بحضور قريب, كما لو أن أحداً لمسه على الكتف؛ وعندما التفت للنظر, رأى الظهور التدريجي لشكل غريب بجانبه. كان مندهشاً كثيراً ليتكلم ومرتعباً جداً لكي يهرب. ثم تكلم الشكل الغريب, قائلاً: "يعقوب, أتيت لأدعوك لخدمة الملكوت. ضم يدين مجتهدتين مع إخوانك واتبعني." عندما سمع يعقوب اسمه ينطق, عرف بأنه شقيقه الأكبر, يسوع, الذي خاطبه. لقد واجهوا جميعًا صعوبة إلى حد ما في التعرف على الشكل المورونشي للسيد, لكن القليل منهم واجهوا أي مشكلة في التعرف على صوته أو سوى ذلك التعرف على شخصيته الساحرة متى بدأ مرة يتواصل معهم.
190:2.4 (2032.2) عندما أدرك يعقوب أن يسوع كان يخاطبه, بدأ يسقط على ركبتيه, هاتفاً, "أبي وأخي", لكن يسوع دعاه للوقوف بينما تكلم معه. وسارا في الحديقة وتحدثا لثلاث دقائق تقريباً؛ تحدثا عن تجارب الأيام السابقة وتوقع أحداث المستقبل القريب. عندما اقتربا من المنزل, قال يسوع, "وداعاً, يا يعقوب, إلى أن أحييكم جميعاً."
190:2.5 (2032.3) هرع يعقوب إلى المنزل, حتى أثناء بحثهم عنه في بيت-فاج, هاتفاً: "لقد رأيت يسوع للتو وتكلمت معه, زرت معه. هو لم يمت؛ لقد قام! اختفى من أمامي, قائلاً, ’وداعاً إلى أن أحييكم جميعاً.‘" بالكاد انهى كلامه عندما عاد يهوذا, وأعاد سرد تجربة لقاء يسوع في الحديقة لصالح يهوذا. وبدأوا جميعاً يؤمنون بقيامة يسوع. أعلن يعقوب الآن أنه لن يعود إلى الجليل, وداود هتف: "لم يراه النساء المتحمسات فقط؛ حتى رجال أقوياء القلب بدأوا يرونه. أتوقع أن أراه بنفسي."
190:2.6 (2032.4) ولم يكن على داود أن ينتظر طويلاً, لأن الظهور الرابع ليسوع لتعرف البشر حدث قبل الساعة الثانية بقليل في بيت مارثا ومريم هذا بالذات, عندما ظهر بوضوح أمام عائلته الأرضية وأصدقائهم, عشرون في المجموع. ظهر السيد في الباب الخلفي المفتوح, قائلاً: "السلام عليكم. تحيات لأولئك الذين كانوا قريبين مني في الجسد مرة وزمالة لإخوتي وأخواتي في ملكوت السماء. كيف أمكنكم أن تشّكوا؟ لماذا انتظرتم طويلاً جداً قبل أن تختاروا اتباع نور الحق بقلب كامل؟ تعالوا, إذن, كلكم إلى زمالة روح الحق في ملكوت الأب." وبينما بدأوا يتعافون من الصدمة الأولى لدهشتهم وللتحرك نحوه كما لو ليعانقوه, اختفى عن أنظارهم.
190:2.7 (2032.5) كلهم أرادوا أن يهرعوا إلى المدينة ليخبروا الرُسل المتشككين بما حدث, لكن يعقوب منعهم. سُمح لمريم المجدلية, فقط, بالعودة إلى منزل يوسف. منع يعقوب نشرهم في الخارج عن حقيقة هذه الزيارة المورونشية بسبب بعض الأشياء التي كان قد قالها له يسوع عندما تحادثا في الحديقة. لكن يعقوب لم يكشف أبداً المزيد عن زيارته مع السيد القائم على هذا اليوم عند بيت لِعازر في بيت-عنيا.
190:3.1 (2033.1) حدث التجلي المورونشي الخامس ليسوع إلى تعَّرف العيون البشرية في حضور حوالي خمس وعشرين امرأة مؤمنة في بيت يوسف الأريماضا, في حوالي الساعة الرابعة والربع بعد ظُهر هذا الأحد ذاته. كانت مريم المجدلية قد عادت إلى منزل يوسف قبل دقائق قليلة من هذا الظهور. طلب يعقوب, شقيق يسوع, ألا يُقال أي شيئ للرُسل بشأن ظهور السيد في بيت-عنيا. لم يطلب من مريم الإمتناع عن إبلاغ أخواتها المؤمنات بالحدث. تبعاً لذلك, بعد تعهدت مريم كل النساء بالسرية, شرعت في سرد ما حدث مؤخراً أثناء وجودها مع عائلة يسوع في بيت-عنيا. وكانت في وسط هذا السرد المثير عندما سقط صمت مفاجئ ومهيب عليهم؛ شاهدن في وسطهن تماماً الشكل المرئي كلياً ليسوع القائم. حيّاهن, قائلاً: "السلام عليكن. في زمالة الملكوت لن يكون هناك يهودي ولا أممي, ولا غني ولا فقير, ولا حُر ولا مُستعبَد, ولا رَجل ولا امرأة. أنتم مدعوون كذلك لنشر البشرى عن تحرر جنس الإنسان من خلال إنجيل البنوة مع الله في ملكوت السماء. اذهبن إلى كل العالَم لإعلان هذا الإنجيل ولتثبيت المؤمنين في الإيمان به. وأثناء قيامكن بهذا, لا تنسين الإسعاف إلى المرضى وتقوية أولئك ضعفاء القلب والممتطين بالخوف. وسأكون معكن دائماً, حتى إلى أقاصي الأرض." وعندما قال هذا, اختفى عن نظرهن, بينما سقطت النساء على وجوههن وعبدن في صمت.
190:3.2 (2033.2) من بين الظهورات المورونشية الخمسة ليسوع التي حدثت حتى هذا الوقت, شهدت مريم المجدلية أربعة.
190:3.3 (2033.3) نتيجة لإرسال المراسيل أثناء منتصف الظهيرة ومن التسرب غير الواعي للتصريحات بخصوص هذا الظهور ليسوع في منزل يوسف, بدأت الأخبار تصل إلى حكام اليهود في وقت مبكر من المساء بأنه قد تم الإبلاغ حول المدينة أن يسوع قد قام, وأن العديد من الأشخاص كانوا يزعمون أنهم رأوه. كان أعضاء السنهدرين جُملةً مُثارين بهذه الشائعات. بعد مشاورات عاجلة مع أنّاس, دعا قيافا إلى اجتماع للسنهدرين في الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم. لقد كان في هذا الاجتماع حينما اتخذت إجراءات لطرد أي شخص يذكر قيامة يسوع من المجامع. حتى أنه تم اقتراح إعدام أي شخص يدَّعي أنه رآه؛ هذا الاقتراح, على كل, لم يأت للتصويت حيث إن الاجتماع انفض في ارتباك يحد على الذعر الفعلي. كانوا قد تجرأوا على الاعتقاد بأنهم قد انتهوا من يسوع. كانوا على وشك اكتشاف أن مشكلتهم الحقيقية مع رَجل الناصرة قد بدأت للتو.
190:4.1 (2033.4) حوالي الساعة الرابعة والنصف, في بيت فلاﭭيوس, جعل السيد ظهوره المورونشي السادس لحوالي أربعين يونانياً مؤمناً تجَّمعوا هناك, بينما كانوا منشغلين في مناقشة أخبار قيامة السيد, تجلى في وسطهم, بالرغم من أن الأبواب كانت مغلقة بإحكام, ومتكلم إليهم, قال: "السلام عليكم. بينما ظهر ابن الإنسان على الأرض بين اليهود, هو جاء ليُسعف إلى كل الناس. في ملكوت أبي لن يكون هناك يهودي ولا أممي؛ ستكونون جميعاً اخوة ــ أبناء الله, اذهبوا, لذلك, إلى العالَم أجمع, معلنين إنجيل الخلاص هذا كما استلمتموه من سفراء الملكوت, وسأقدم لكم الزمالة في أخوة أبناء الأب من الإيمان والحق." وعندما عهد إليهم بهذا, استأذن, ولم يعودوا يرونه. ظلوا داخل المنزل طوال المساء؛ غلبت عليهم كثيراً الرهبة والخوف للمجازفة بالخروج. لم ينام أي من هؤلاء اليونانيين تلك الليلة؛ ظلوا مستيقظين يناقشون هذه الأمور وآملين بأن السيد قد يزورهم مرة أخرى. بين هذه الجماعة كان العديد من اليونانيين الذين كانوا في الجثسيماني عندما اعتقل الجنود يسوع وخانه يوداص بقبلة.
190:4.2 (2034.1) الإشاعات عن قيامة يسوع والتقارير المختصة بالظهورات الكثيرة إلى أتباعه تنتشر بسرعة, والمدينة بأكملها قد وصلت إلى أعلى ذروة من الإثارة. لقد ظهر السيد لعائلته بالفعل, وللنساء, ولليونانيين, وهو يتجلى حالياً في وسط الرُسل. قريبًا سيبدأ السنهدرين في النظر في هذه المشاكل الجديدة التي فرضت فجأة على حُكام اليهود. فكـَّر يسوع كثيراً في رُسله لكنه رغب أن يتركهم بمفردهم لبضع ساعات إضافية من التفكير الجاد والإعتبار المتعمق قبل أن يزورهم.
190:5.1 (2034.2) في عِماوس, على بعد حوالي سبعة أميال إلى الغرب من أورشليم, هناك عاش شقيقان, راعيان, كانا قد أمضيا أسبوع الفصح في أورشليم لحضور التضحيات, والطقوس, والولائم. كان كليوباس, الأكبر, مؤمناً بشكل جزئي بيسوع؛ على الأقل كان قد طُرد من الكنِيس. شقيقه, يعقوب, لم يكن مؤمناً, إلا أنه كان مفتوناً جداً بما سمع عن تعاليم السيد وأعماله.
190:5.2 (2034.3) بعد ظُهر هذا الأحد, على بعد حوالي ثلاثة أميال خارج أورشليم وقبل دقائق قليلة من الساعة الخامسة, بينما مشى هذان الشقيقان بتثاقل على طول الطريق إلى عِماوس, تحدثا بجدية للغاية عن يسوع, وتعاليمه, وعمله, وخاصة فيما يتعلق بالإشاعات التي تفيد بأن قبره كان فارغاً, وأن بعض من النساء قد تحدثن معه. كان كليوباس نصف مصدق لهذه التقارير, لكن يعقوب كان مُصّراً بأن الأمر برمته ربما كان عملية احتيال. بينما كانا يتجادلان بهذا ويتناقشان وهما يشقان طريقهما نحو البيت, جعل الظهور المورونشي ليسوع, ظهوره السابع, إلى جانبهما بينما تابعا الإرتحال. كثيراً ما سمع كليوباس يسوع يعَّلم وأكل معه في بيوت مؤمنين من أورشليم في عدة مناسبات. لكنه لم يتعرف على السيد حتى عندما تحدث معهما بحرية.
190:5.3 (2034.4) بعد أن مشى معهما مسافة قصيرة, قال يسوع: "ما هي الكلمات التي كنتما تتبادلانها بغاية الجدية عندما أتيت عليكما؟" وعندما تكلم يسوع, وقفا دون حراك ونظرا إليه بدهشة حزينة. قال كليوباس: "هل يمكن أنك تنزل في أورشليم ولا تعرف الأشياء التي حدثت مؤخراً؟" عند ذاك سأل السيد, "أي أشياء؟" أجاب كليوباس: "إذا كنت لا تعرف بهذه الأمور, فأنت الوحيد في أورشليم الذي لم يسمع هذه الشائعات المتعلقة بيسوع الناصري, الذي كان نبياً قديراً في الكلمة وفي المآثر أمام الله وكل الناس. سلمه رؤساء الكهنة وحكامنا إلى الرومان وطالبوا بصلبه. الآن الكثير منا كان قد أمل بأنه هو الذي سيخَّلص إسرائيل من نير الأمميين. لكن هذا ليس كل شيء. إنه الآن اليوم الثالث منذ أن صُلب, وقد أدهشتنا بعض النساء هذا اليوم بالإعلان أنهن في وقت مبكر جدًا من هذا الصباح بالذات ذهبن إلى قبره ووجدنه فارغاً. وتُصر نفس هؤلاء النسوة بأنهن تحدثن مع هذا الرَجل؛ تؤكدن بأنه قام من الأموات. وعندما أخبرت النساء الرجال بهذا, ركض اثنان من رُسله إلى القبر وبالمثل وجداه فارغاً ــ" وهنا قاطع يعقوب شقيقه ليقول, "لكنهم لم يروا يسوع."
190:5.4 (2035.1) أثناء سيرهم معاً, قال لهم يسوع: "كم هو بطيء فهمكم للحقيقة! عندما تخبرانني أنه عن تعليم وعمل هذا الرجل كانت مناقشاتكما, فهل لي إذن أن أنوركما بما أنني أكثر إلماماً بهذه التعاليم. ألا تتذكران بأن يسوع هذا كان يعلم دائماً بأن ملكوته لم يكن من هذا العالَم, وبأن كل الناس, كونهم أبناء الله, يجب أن يجدوا التحرر وحرية في الفرح الروحي لزمالة أخوة الخدمة المحبة في هذا الملكوت الجديد لحقيقة محبة الأب السماوي؟ ألا تتذكران كيف أعلن ابن الإنسان هذا خلاص الله لجميع الناس, مُسعفاً للمرضى والمصابين ومحرراً أولئك المقيدين بالخوف والمستعبدين بالشر؟ ألا تعرفان بأن هذا الرَجل من الناصرة أخبر تلاميذه أنه يجب أن يذهب إلى أورشليم, ويُسَّلم إلى أعدائه, الذين سيحكمون عليه بالموت, وأنه سيقوم على اليوم الثالث؟ ألم تُخبرا بكل هذا؟ وألم تقرأا في الكتابات المقدسة عن يوم الخلاص هذا لليهود والأمميين, حيث يُقال بأن كل عائلات الأرض ستكون مباركة فيه؛ بأنه سيسمع صرخة المحتاجين ويخلص نفوس الفقراء الذين يسعون إليه؛ بأن كل الأمم ستدعوه مباركاً؟ بأن هذا المخلص سيكون كظل صخرة عظيمة في أرض منهكة. بأنه سيُطعم القطيع مثل راعي حقيقي, جامع الخراف في ذراعيه ويحملها بحنان في حضنه. بأنه سيفتح أعين العميان روحياً ويُخرج أسرى اليأس إلى الحرية والنور الكاملين؛ بحيث يرى كل الذين يجلسون في الظلمة النور العظيم للخلاص الأبدي. بأنه سيعصب منكسري القلب, ويعلن الحرية لأسرى الخطيئة, ويفتح السجن لأولئك الذين استعبدهم الخوف والمقيدين بالشر. بأنه سيؤاسي المحزونين ويمنحهم فرح الخلاص في مكان الحزن والغم. بأنه سيكون رغبة كل الأمم والفرح الأبدي لأولئك الذين ينشدون البر. بأن ابن الحق والبر هذا سيشرق على العالَم بنور شافي وقدرة مخَّلِصة؛ حتى أنه سيخلص شعبه من خطاياهم؛ بأنه حقاً سيبحث عن الضائعين ويخلص أولئك الذين فُقدوا. بأنه لن يهلك الضعيف بل يُسعف الخلاص لكل الذين يجوعون ويعطشون إلى البر. بأن أولئك الذين يؤمنون به ستكون لهم الحياة الأبدية. بأنه سيسكب روحه على كل جسد, وبأن روح الحق هذا سيكون في كل مؤمن بئر ماء, ينبع نحو الحياة الأبدية. ألا تفهمان كم كان عظيماً إنجيل الملكوت الذي سلـَّمه هذا الإنسان لكم؟ ألا تدركان كم هو عظيم الخلاص الذي أتى عليكم؟"
190:5.5 (2035.2) بحلول هذا الوقت كانا قد اقتربا من القرية حيث سكن هذان الشقيقان. لم ينطق هذان الرجلان بأي كلمة منذ أن بدأ يسوع يعَّلمهما بينما مشوا على طول الطريق. سرعان ما اقتربا إلى أمام مسكنهما المتواضع, وكان يسوع على وشك أن يستأذنهما, ويمضي في الطريق, لكنهما ألزماه بالدخول والبقاء معهما. أصَّرا بأنه كان قريباً من حلول الظلام, وبأن يمكث معهما. أخيراً وافق يسوع, وبعد وقت قصير من دخول المنزل, جلسوا لتناول الطعام. أعطوه الخبز ليباركه, وعندما بدأ يكسر الخبز ويعطيهما, انفتحت عيونهما, وأدرك كيلوباس بأن ضيفهما كان السيد نفسه. وعندما قال, "إنه السيد ــ," اختفى يسوع المورونشي عن نظرهما.
190:5.6 (2036.1) وعند ذلك قالا, الواحد للآخر, "لا عجب أن قلوبنا احترقت داخلنا وهو يتحدث إلينا بينما كنا نسير على طول الطريق! وبينما فتح لفهمنا تعاليم الكتابات المقدسة!"
190:5.7 (2036.2) لم يتوقفا ليأكلا. لقد شاهدا السيد المورونشي, واندفعا من المنزل, مسرعين عائدين إلى أورشليم لنشر البشرى عن المخلص القائم.
190:5.8 (2036.3) في حوالي الساعة التاسعة من ذلك المساء وقبل ظهور السيد للعشرة مباشرة, اقتحم هذان الشقيقان المتحمسان على الرُسل في العلية, معلنين أنهما شاهدا يسوع وتحدثا معه. وأخبرا كل ما قاله يسوع لهما وكيف لم يميزا من كان حتى وقت كسر الخبز.
كِتاب يورانشيا
ورقة 191
191:0.1 (2037.1) كان أحد القيامة يوماً فظيعاً في حياة الرُسل, قضى عشرة منهم الجزء الأكبر من اليوم في العلية خلف الأبواب ذات القضبان. ربما هربوا من أورشليم, لكنهم كانوا يخشون أن يتم القبض عليهم من قبل عملاء السنهدرين إذا تم العثور عليهم في الخارج. كان توما يفكر مليًا في مشاكله بمفرده في بيت-فاج. كان من الأفضل لو بقي مع رفاقه الرُسل, وكان سيساعدهم في توجيه مناقشاتهم على أسس أكثر فائدة.
191:0.2 (2037.2) طوال النهار أيَّد يوحنا فكرة أن يسوع قام من الأموات. سرد ما لا يقل عن خمس مرات مختلفة عندما أكد السيد أنه سوف يقوم ثانية وثلاث مرات على الأقل عندما ألمح إلى اليوم الثالث. كان لموقف يوحنا تأثير كبير عليهم, خاصة على شقيقه يعقوب وعلى نثانئيل. كان يوحنا سيؤثر عليهم أكثر لو لم يكن أصغر عضو في المجموعة.
191:0.3 (2037.3) كان لعزلتهم علاقة كبيرة بمشاكلهم. أبقاهم يوحنا مرقس على اتصال بالتطورات المتعلقة بالهيكل وأبلغهم بالإشاعات العديدة التي تحرز تقدماً في المدينة, لكن لم يخطر بباله أن يجمع الأخبار من جماعات المؤمنين المختلفة الذين ظهر لهم يسوع حتى الآن. تلك كانت نوعاً من الخدمة التي قدمها مراسيل داود حتى الآن, لكنهم كانوا جميعاً غائبين في مهمتهم الأخيرة كمبشرين بالقيامة لتلك الجماعات من المؤمنين الذين سكنوا بعيداً عن أورشليم. للمرة الأولى في كل هذه السنوات أدرك الرُسل مدى اعتمادهم على مراسيل داود للحصول على معلوماتهم اليومية المتعلقة بشؤون الملكوت.
191:0.4 (2037.4) طوال هذا اليوم تأرجح بطرس عاطفياً على نحو مميز بين الإيمان والشك بشأن قيامة السيد. لم يستطع بطرس أن يتهرب من مشهد ثياب القبر راقدة هناك في القبر كما لو أن جسد يسوع قد تبخر للتو من الداخل. "لكن", فكـَّر بطرس: "إذا قام ويقدر أن يظهر نفسه للنساء, فلماذا لا يُظهر نفسه لنا, رُسله؟" كان بطرس يغدو حزيناً عندما يُفَكّر بأن يسوع ربما لم يأت إليهم بسبب وجوده بين الرُسل, لأنه أنكره تلك الليلة في فناء أنّاس. وبعد ذلك كان يُشجع نفسه بالكلمة التي أحضرتها النساء, "اذهبن واخبرن رُسلي ــ وبطرس." لكن استخلاص التشجيع من هذه الرسالة تضمن بأنه يجب أن يؤمن بأن النساء قد رأين وسمعن السيد القائم بالفعل. هكذا تناوب بطرس بين الإيمان والشك طوال اليوم كله, حتى بعد الساعة الثامنة بقليل عندما جازف بالخروج نحو فناء الدار. فكـَّر بطرس في إزاحة نفسه من بين الرُسل بحيث قد لا يمنع مجيء يسوع إليهم بسبب إنكاره للسيد.
191:0.5 (2037.5) في البداية أيد يعقوب زَبـِدي ذهابهم جميعاً إلى القبر؛ كان مُحبذاً بقوة لفعل شيء ما للوصول إلى عمق اللغز. كان نثانئيل الذي منعهم من الخروج على الملأ استجابة لحث يعقوب, وقد فعل هذا بتذكيرهم بتحذير يسوع من تعريض حياتهم للخطر بلا داع في هذا الوقت. بحلول وقت الظُهيرة كان يعقوب قد استقر مع الآخرين في انتظار مترقب. قال القليل؛ كان يشعر بخيبة أمل كبيرة لأن يسوع لم يظهر لهم, ولم يكن يعلم بظهورات السيد العديدة لمجموعات وأفراد آخرين.
191:0.6 (2038.1) أندراوس استمع كثيرًا هذا اليوم. كان في حيرة شديدة من الوضع وكان لديه أكثر من نصيبه من الشكوك, لكنه على الأقل تمتع بشعور معين من الحرية من مسؤولية إرشاد رفاقه الرُسل. كان ممتناً حقًا لأن السيد قد أعفاه من أعباء القيادة قبل أن يقعوا على هذه الأوقات المشتتة للإنتباه.
191:0.7 (2038.2) أكثر من مرة أثناء الساعات الطويلة والمرهقة لهذا اليوم المأساوي, كان التأثير العاضد الوحيد لهذه الجماعة هو المساهمات المتكررة من شورى نثانئيل الفلسفية المميزة. لقد كان حقاً هو التأثير المسيطر بين العشرة طوال اليوم. ولا مرة عبَّر عن نفسه فيما يتعلق إما بالإيمان أو عدم الإيمان بقيامة السيد. لكن مع تقدم اليوم, أصبح ميالاً بشكل متزايد نحو الاعتقاد بأن يسوع قد وفى بوعده بالقيام مرة أخرى.
191:0.8 (2038.3) كان سمعان زيلوطس شديد الانهيار للمشاركة في المناقشات. اتكأ معظم الوقت على مقعد في زاوية الغرفة ووجهه إلى الحائط؛ لم يتكلم ست مرات طوال اليوم كله. لقد انهار مفهومه عن الملكوت, ولم يتمكن من إدراك أن قيامة السيد يمكن أن تغير الوضع مادياً. كانت خيبة أمله شخصية للغاية وجملةً حادة جداً ليتعافى منها في وقت قصير, حتى في وجه هكذا حقيقة هائلة مثل القيامة.
191:0.9 (2038.4) من الغريب أن يُسجل, أن فيليبُس الذي عادة ما يكون غير معبر تحدث كثيرًا طوال فترة بعد ظُهر هذا اليوم. لم يكن لديه الكثير ليقوله خلال فترة الظهيرة, لكن طوال فترة بعد الظُهر طرح العديد من الأسئلة على الرُسل الآخرين. كان بطرس غالباً منزعجاً من أسئلة فيليبُس, لكن الآخرين أخذوا تساؤلاته بلطف. كان فيليبُس راغباً بشكل خاص في معرفة, فيما إذا كان يسوع قد قام حقًا من القبر, ما إذا كان جسده سيحمل العلامات الجسدية للصَلب.
191:0.10 (2038.5) كان متـّى مرتبكاً للغاية؛ استمع إلى مناقشات رفاقه لكنه أمضى معظم الوقت يقلب في عقله مشكلة مواردهم المالية المستقبلية. بغض النظر عن قيامة يسوع المفترضة, كان يوداص قد ذهب, وداود كان قد حوَّل الأموال إليه بشكل غير رسمي, وكانوا بدون قائد موثوق. قبل أن يتحول متـّى لإعطاء اعتبار جَّدي إلى جدالهم حول القيامة, كان تواً قد رأى السيد وجهاً لوجه.
191:0.11 (2038.6) شارك التوأم الألفيوس قليلاً في هذه المناقشات الجادة؛ كانا مشغولين إلى حد ما بإسعافاتهما المعتادة. عبَّر أحدهما عن موقفهما عندما قال, رداً على سؤال طرحه فيليبُس: "نحن لا نفهم القيامة, لكن والدتنا تقول أنها تحدثت مع السيد, ونحن نصدقها."
191:0.12 (2038.7) كان توما في وسط إحدى نوباته النموذجية من الاكتئاب اليائس. نام جزءا من النهار ومشى فوق التلال بقية الوقت. شعر بالحاجة إلى الانضمام مرة أخرى إلى رفاقه الرُسل, لكن الرغبة في أن يكون بمفرده كانت الأقوى.
191:0.13 (2038.8) أجَّل السيد ظهوره المورونشي الأول للرُسل لعدد من الأسباب. أولاً, أراد أن يكون لديهم الوقت, بعد أن سمعوا بقيامته, ليفـَّكروا جيداً فيما كان قد أخبرهم عن موته وقيامته عندما كان لا يزال معهم في الجسد. أراد السيد أن يتصارع بطرس مع بعض من صعوباته الخاصة قبل أن يتجلى لهم جميعاً. في المقام الثاني, رغب أن يكون توما معهم في وقت ظهوره الأول. عثر يوحنا مرقس على توما في بيت سمعان في بيت-فاج في وقت مبكر من صباح هذا الأحد, جالب كلمة عنه إلى الرُسل حوالي الساعة الحادية عشرة. في أي وقت خلال هذا اليوم كان توما سيعود إليهم لو ذهب نثانئيل أو أي اثنين من الرُسل الآخرين من أجله. لقد أراد أن يعود حقًا, لكن حيث إنه غادر كما فعل في الليلة السابقة, كان فخوراً جداً ليرجع من تلقاء نفسه بهذه السرعة. بحلول اليوم التالي كان مكتئباً جداً لدرجة أن الأمر تطلب حوالي أسبوع حتى يتخذ قرارًا بالعودة. انتظره الرُسل, وهو انتظر إخوانه ليطلبوه ويطلبوا منه أن يعود إليهم. وهكذا بقي توما بعيداً عن رفاقه حتى مساء السبت التالي, عندما, بعد أن حل الظلام, ذهب بطرس ويوحنا إلى بيت-فاج وأعاداه معهما. وهذا هو السبب أيضاً في عدم ذهابهم في الحال إلى الجليل بعد أن ظهر يسوع لهم لأول مرة؛ هم لن يذهبوا بدون توما.
191:1.1 (2039.1) كانت الساعة قريباً من الثامنة والنصف من مساء هذا الأحد عندما ظهر يسوع إلى سمعان بطرس في حديقة بيت مرقس. كان هذا تجليه المورونشي الثامن. كان بطرس قد عاش تحت عبء ثقيل من الشك والذنب منذ إنكاره للسيد. طوال يوم السبت وهذا الأحد صارع الخوف من أنه, ربما, لم يعد رسولاً. لقد اقشعر من مصير يوداص وحتى ظنَّ بأنه هو, أيضاً, قد خان سيده. طوال عصر هذا اليوم ظنَّ أن وجوده مع الرُسل هو ما منع يسوع من الظهور إليهم, بشرط, طبعاً, أن يكون قد قام بالفعل من بين الأموات. ولقد كان لبطرس, في مثل هذه الحالة الذهنية وفي مثل هذه الحالة النفـْسية, أن ظهر يسوع بينما تجول الرسول المغتم بين الزهور والشجيرات.
191:1.2 (2039.2) عندما فكـَّر بطرس في النظرة المُحبة للسيد عندما عبر بجانب شُرفة أنّاس, وبينما قلب في عقله تلك الرسالة الرائعة التي أُحضرت إليه في وقت مبكر من صباح ذلك اليوم من قبل النساء اللواتي أتين من القبر الفارغ, "اذهبن أخبرن رُسلي ــ وبطرس" ــ بينما يتفكر في دلائل الرحمة هذه, بدأ إيمانه يتغلب على شكوكه, ووقف ساكنًا, قابضاً يديه, بينما كان يتكلم بصوت عالٍ: "اعتقد أنه قام من الأموات؛ سأذهب وأخبر إخواني." ولما قال هذا, ظهر فجأة أمامه شكل رَجل, تكلم إليه في نبرة مألوفة, قائلاً: "بطرس, رغب العدو أن يأخذك, لكنني لن أتخلى عنك. كنت أعلم أنه لم يكن من القلب بأنك أنكرتني؛ لذلك سامحتك حتى قبل أن تسأل؛ لكن الآن يجب أن تتوقف عن التفكير في نفسك ومتاعب الساعة بينما تستعد لتحمل بشائر الإنجيل إلى أولئك الذين يجلسون في الظلام. يجب أن لا تهتم بعد الآن بما قد تحصل عليه من الملكوت بل بالأحرى أن تمارس ما يمكنك أن تقدمه لأولئك الذين يعيشون في فقر روحي مريع. تمنطق, يا سمعان, لمعركة يوم جديد, الكفاح مع الظلمة الروحية والشكوك الشريرة للعقول الطبيعية للناس."
191:1.3 (2039.3) تمشى بطرس ويسوع المورونشي خلال الحديقة وتحدثا عن أشياء ماضية, وحاضرة, ومستقبلية لحوالي خمس دقائق. بعد ذلك اختفى السيد عن نظره, قائلاً, "وداعاً يا بطرس, إلى أن أراك مع إخوانك."
191:1.4 (2039.4) للحظة, كان بطرس مُتغلباً عليه بالإدراك بأنه تحدث مع السيد القائم, وأنه يمكنه التأكد من أنه كان لا يزال سفيراً للملكوت. كان قد سمع السيد المُمجِّد للتو يحثه على المضي في وعظ الإنجيل. ومع كل هذا صاخباً داخل قلبه, اندفع إلى العلية ونحو حضور رفاقه الرُسل, هاتفاً في إثارة لاهثة: "لقد رأيت السيد؛ كان في الحديقة. تكلمت معه, ولقد سامحني."
191:1.5 (2040.1) تصريح بطرس بأنه رأى يسوع في الحديقة كان له تأثير عميق على رفاقه الرُسل, وكانوا على وشك التخلي عن شكوكهم عندما قام أندراوس وحذرهم بألا يكونوا متأثرين جداً بتقرير شقيقه. ألمح أندراوس إلى أن بطرس كان قد رأى أشياء لم تكن حقيقية من قبل. مع أن أندراوس لم يلمح بشكل مباشر إلى رؤيا الليلة على بحر الجليل حين ادعى بطرس أنه رأى السيد قادم إليهم ماشياً على الماء, إلا أنه قال ما فيه الكفاية ليُفشي لكل الحاضرين أنه كان يفكر في هذه الحادثة. تأذى سمعان بطرس بشدة من تلميحات شقيقه وسرعان ما انتكس نحو صمت ذليل. شعر التوأم بالأسف الشديد من أجل بطرس, وكِلاهما ذهبا للتعبير عن تعاطفهما والقول بأنهما يصدقانه وليعاودا التأكيد بأن والدتهما أيضاً قد رأت السيد.
191:2.1 (2040.2) بعد فترة وجيزة من الساعة التاسعة من ذلك المساء, بعد رحيل كليوباس ويعقوب, بينما كان التوأم الألفيوس يؤاسيان بطرس, وبينما عاتب نثانئيل أندراوس, وبينما كان الرُسل العشرة متجمعين هناك في العلية مع كل الأبواب موصدة خوف إلقاء القبض عليهم, ظهر السيد فجأة, في شكل مورونشي, في وسطهم, قائلاً: "سلام عليكم, لماذا تخافون جداً عندما أظهر, كما لو أنكم قد رأيتم شبحاً؟ ألم أخبركم عن هذه الأشياء عندما كنت حاضراً معكم في الجسد؟ ألم أقل لكم بأن رؤساء الكهنة والحكام سوف يسلمونني لأُقتَل, وبأن واحداً منكم سيخونني, وبأنني على اليوم الثالث سأقوم؟ فلماذا كل شكوككم وكل هذا النقاش حول روايات النساء, وكليوباس ويعقوب, وحتى بطرس؟ إلى متى ستشكون في كلامي وترفضون تصديق وعودي؟ والآن بحيث قد رأيتموني فعلاً, هل ستصدقون؟ حتى الآن واحد منكم غائب. عندما تجتمعون معاً مرة أخرى, وبعد أن تعرفوا جميعاً يقيناً بأن ابن الإنسان قد قام من القبر, اذهبوا من ثم نحو الجليل. ليكن لديكم إيمان في الله؛ وليكن لديكم إيمان في بعضكم البعض؛ وهكذا ستدخلون نحو الخدمة الجديدة لملكوت السماء. سأنتظر في أورشليم معكم إلى أن تكونوا مستعدين للدخول إلى الجليل. سلامي أترك معكم."
191:2.2 (2040.3) بعدما تكلم يسوع المورونشي إليهم, اختفى في لحظة عن نظرهم. وسقطوا جميعًا على وجوههم, مسبحين الله وموَّقرين سيدهم المختفي. هذا كان ظهور السيد المورونشي التاسع.
191:3.1 (2040.4) اليوم التالي, الاثنين, قُضي بالكامل مع مخلوقات المورونشيا التي كانت موجودة آنذاك على يورانشيا. كمشاركين في تجربة السيد المورونشية الانتقالية, هناك وصل إلى يورانشيا أكثر من مليون مدير ومرافقون مورونشيون, إلى جانب بشر انتقاليين من مراتب متنوعة من العوالم المنزلية السبعة لساتانيا. مكث يسوع المورونشي مع هذه الذكاءات الرائعة لأربعين يوماً, أرشدهم وتعَّلم من موَّجهيهم عن حياة المورونشيا الانتقالية كما تُجتاز من قِبل بشر العوالم المأهولة لساتانيا بينما يعبرون خلال أجواء المورونشيا للنظام.
191:3.2 (2041.1) حوالي منتصف ليلة الاثنين هذه تم تعديل شكل السيد المورونشي من أجل الانتقال إلى المرحلة الثانية من التقدم المورونشي. عندما ظهر تالياً إلى أولاده البشر على الأرض, كان ذلك ككائن مورونشي من المرحلة الثانية. مع تقدم السيد في مهمة المورونشيا, أصبح, تقنياً, أكثر وأكثر صعوبة على ذكاءات المورونشيا ورفاقهم المحَّولات أن يجعلوا السيد مرئياً إلى العيون البشرية والمادية.
191:3.3 (2041.2) قام يسوع بالعبور إلى المرحلة الثالثة من المورونشيا يوم الجمعة, 14 نيسان؛ وإلى المرحلة الرابعة يوم الاثنين, 17 نيسان؛ وإلى المرحلة الخامسة يوم السبت, 22 نيسان؛ وإلى المرحلة السادسة يوم الخميس, 27 نيسان؛ وإلى المرحلة السابعة يوم الثلاثاء, 2 أيار؛ وإلى مواطنية جيروسِم يوم الأحد, 7 أيار؛ ودخل إلى احتضان الأعلون لعدنشيا يوم الأحد, 14 أيار.
191:3.4 (2041.3) بهذه الطريقة أتم ميخائيل نِبادون خدمته لخبرة الكون حيث إنه بالفعل, فيما يتعلق بإغداقاته السابقة, قد اختبر إلى الملء حياة البشر الصاعدين للزمان والفضاء من المكوث على مركز إدارة البُرج حتى إلى, واستمراراً, خلال خدمة مركز إدارة الكون العظيم. ولقد كان بهذه الخبرات المورونشية ذاتها بأن الابن الخالق لنِبادون أنهى حقاً وأتم بشكل مقبول إغداقه السابع والأخير للكون.
191:4.1 (2041.4) حدث الظهور المورونشي العاشر ليسوع إلى التعَّرف البشري بعد وقت قصير من الساعة الثامنة يوم الثلاثاء, 11 نيسان في فيلادلفيا, حيث أظهر نفسه لأبنير ولِعازر وحوالي مائة وخمسين من رفاقهم, بما فيهم أكثر من خمسين من كتيبة الإنجيليين من السبعين. حدث هذا الظهور مباشرة بعد افتتاح اجتماع خاص في الكنِيس الذي كان أبنير قد دعا إليه لمناقشة صَلب يسوع والتقرير الأحدث عن القيامة الذي جاء به مراسيل داود. نظراً إلى أن لِعازر القائم كان الآن عضواً في هذه الجماعة من المؤمنين, لم يكن من الصعب عليهم تصديق خبر قيام يسوع من بين الأموات.
191:4.2 (2041.5) كان الاجتماع في الكنِيس قد اُفتتح للتو من قبل أبنير ولَعازر, اللذان كانا واقفين معاً في المنبر, عندما رأى الحضور من المؤمنين بأكمله شكل السيد يظهر فجأة. تقدم إلى الأمام من حيث ظهر بين أبنير ولِعازر, اللذان لم يلاحظه أي منهما, وحيا الجماعة, قائلاً:
191:4.3 (2041.6) "السلام عليكم. تعلمون جميعاً أن لدينا أباً واحداً في السماء, وأنه لا يوجد سوى إنجيل واحد للملكوت ــ بشائر هدية الحياة الأبدية التي ينالها الناس بالإيمان. بينما تبتهجون في ولائكم للإنجيل, صَّلوا إلى أب الحق لينثر طليقاً في قلوبكم محبة جديدة وأعظم لإخوانكم. أنتم لتحبوا كل الناس كما أحببتكم؛ ولتخدموا كل الناس كما خدمتكم. بتعاطف متفهم وود أخوي, زاملوا جميع إخوانكم الذين يكرسون أنفسهم لإعلان البشارة, سواء كانوا يهوداً أو أمميين, يونانيين أو رومانيين, فـُرس أو إثيوبيين. أعلن يوحنا الملكوت مقدماً؛ أنتم وعظتم الإنجيل في قدرة؛ علـَّم اليونانيون البشائر بالفعل؛ وأنا سأرسل قريباً روح الحق إلى نفوس جميع هؤلاء, إخواني, الذين كرسوا حياتهم بدون أنانية للغاية من أجل تنوير رفاقهم الذين يجلسون في الظلام الروحي. أنتم جميعاً أبناء النور؛ لذلك لا تتعثروا نحو تشابكات سوء الفهم من الارتياب الفاني وعدم التسامح البشري. إذا تم تكريمكم, بنعمة الإيمان, أن تحبوا غير المؤمنين, ألا يجب أيضاً أن تحبوا بنفس القدر أولئك الذين هم رفاقكم المؤمنين في أسرة الإيمان الواسعة الانتشار؟ تذكّروا, عندما تحبون بعضكم بعضاً, سيعرف كل الناس بأنكم تلاميذي.
191:4.4 (2042.1) "اذهبوا إذن, نحو كل العالم معلنين هذا الإنجيل عن أبوة الله وأخوة الناس لجميع الأمم والأجناس وكونوا دائماً حكماء في اختياركم لأساليب تقديم البشائر إلى الأجناس والقبائل المختلفة من البشر. مجاناً استلمتم هذا الإنجيل للملكوت, ومجاناً ستبشرون جميع الأمم. لا تخافوا من مقاومة الشر, لأني معكم دائماً, حتى إلى نهاية الدهور. وسلامي أترك معكم."
191:4.5 (2042.2) عندما قال, "سلامي أترك معكم", اختفى عن نظرهم. باستثناء إحدى ظهوراته في الجليل, حيث رآه أكثر من خمسمائة مؤمن في وقت واحد, ضمت هذه الجماعة في فيلادلفيا أكبر عدد من البشر الذين رأوه في أي مناسبة واحدة.
191:4.6 (2042.3) في وقت مبكر من صباح اليوم التالي, حتى بينما تمهل الرُسل في أورشليم في انتظار التعافي العاطفي لتوما, فقد انطلق هؤلاء المؤمنون في فيلادلفيا معلنين أن يسوع الناصري قد قام من بين الأموات.
191:4.7 (2042.4) اليوم التالي, الأربعاء, أمضاه يسوع دون مقاطعة في مجتمع رفاقه المورونشيين, وأثناء ساعات منتصف بعد الظُهر استقبل وفود مورونشية زائرة من العوالم المنزلية من كل نظام محلي من الأجواء المأهولة في كل أنحاء برج نورلاشيادِك. وقد ابتهجوا جميعًا بمعرفة خالقهم باعتباره واحدًا من مرتبتهم الخاصة من ذكاءات الكون.
191:5.1 (2042.5) قضى توماً أسبوعاً منعزلاً بمفرده مع نفسه في التلال المحيطة بالزيتونات. أثناء هذا الوقت لم ير سوى أولئك الذين في منزل سمعان ويوحنا مرقس. لقد كان حوالي الساعة التاسعة من يوم السبت, 15 نيسان, عندما وجده الرسولان وأعاداه معهم إلى ملتقاهم في بيت مرقس. في اليوم التالي استمع توما إلى رواية قصص ظهورات السيد المتعددة, لكنه رفض بثبات أن يصَّدق. تمسك بأن بطرس قد شجعهم على التفكير بأنهم قد رأوا السيد. تجادل نثانئيل معه ليقنعه, لكن بلا جدوى. كان هناك عناد عاطفي مرتبط بشكه المعتاد, وهذه الحالة الذهنية, إلى جانب استيائه حيث إنه هرب منهم, تآمرت لخلق حالة من العزلة التي حتى توما نفسه لم يفهمها تماماً. كان قد انسحب من رفاقه, وذهب في طريقه الخاص, والآن, حتى عندما عاد بينهم, كان يميل دون وعي إلى اتخاذ موقف من عدم الموافقة. كان بطيئاً ليستسلم؛ كره أن يخضع. بدون أن يقصد ذلك, استمتع حقاً بالانتباه الذي أعطي له؛ واستمد رضى لا واعي من جهود جميع رفاقه لإقناعه وتغيير رأيه. كان قد افتقدهم لأسبوع كامل, وحصل على متعة كبيرة من اهتمامهم المثابر.
191:5.2 (2042.6) كانوا يتناولون وجبتهم المسائية بعد الساعة السادسة بقليل, مع بطرس جالس على جانب واحد من توما ونثانئيل على الجانب الآخر, عندما قال الرسول المتشكك: "لن أُصَّدق ما لم أرى السيد بأم عيني ووضعت إصبعي في آثار المسامير." بينما جلسوا هكذا على العشاء, وبينما كانت الأبواب موصدة ومقفلة بإحكام, ظهر السيد المورونشي فجأة داخل انحناء الطاولة, وواقف مباشرة أمام توما, قال:
191:5.3 (2043.1) "السلام عليكم. تمهلت لأسبوع كامل بحيث قد أظهر مرة أخرى عندما تكونوا جميعكم حاضرين لتسمعوا مرة أخرى التكليف بالذهاب إلى العالَم كله والتبشير بإنجيل الملكوت هذا. مرة أخرى أقول لكم: كما أرسلني الأب نحو العالَم, هكذا أرسلكم. كما كشفت الأب, هكذا ستكشفون المحبة الإلَهية, ليس فقط بالكلمات, بل في معيشتكم اليومية. أرسلكم خارجاً, ليس لتحبوا نفوس الناس, بل بالأحرى لتحبوا الناس. لستم لتعلنوا أفراح السماء فحسب بل أيضاً لتظهروا في تجربتكم اليومية هذه الحقائق الروحية للحياة الإلَهية حيث إنكم لديكم بالفعل الحياة الأبدية, كهدية من الله, من خلال الإيمان. عندما يكون لديكم إيمان, عندما تكون قدرة من العُلى, روح الحق, قد أتت عليكم, فلن تخفوا نوركم هنا خلف الأبواب المغلقة؛ ستجعلون محبة ورحمة الله معروفة للبشرية جمعاء. من خلال الخوف تهربون الآن من حقائق التجربة البغيضة, لكن عندما تكونون قد تعمدتم بروح الحق, ستنطلقون بشجاعة وفرح للقاء التجارب الجديدة لإعلان بشائر الحياة الأبدية في ملكوت الله. يمكنكم التمهل هنا وفي الجليل لفصل قصير بينما تتعافون من صدمة الانتقال من الأمان الزائف لسُلطة التقاليد إلى النظام الجديد لسُلطة الحقائق, والصدق, والإيمان بالحقائق السامية للتجربة الحية. مهمتكم إلى العالَم مؤسسة على حقيقة أني عشت بينكم حياة كاشفة لله؛ على حقيقة أنكم وجميع الناس الآخرين أبناء الله؛ وستتألف في الحياة التي ستعيشونها بين الناس ــ التجربة الفعلية والحية لمحبة الناس وخدمتهم, حتى كما أحببتكم وخدمتكم. دعوا الإيمان يكشف نوركم للعالم؛ دعوا كشف الحقيقة يفتح العيون التي أعمتها التقاليد؛ دعوا خدمتكم المحبة تدمر بفعالية التحيز الناجم عن الجهل. من خلال دنوكم من رفاقكم الناس في تعاطف متفهم وتكريس غيري, ستقودونهم نحو معرفة مخَّلِصة لمحبة الأب. لقد فخَّم اليهود الصلاح؛ ومجَّد اليونانيون الجَمال؛ والهندوس يعظون الولاء؛ والنساك البعيدون يُعلمون الخشوع؛ ويُطالب الرومان بالولاء؛ لكنني أطلب من تلاميذي الحياة, حتى حياة ذات خدمة محبة لجميع إخوانكم في الجسد."
191:5.4 (2043.2) عندما تكلم السيد بهذا, نظر إلى أسفل في وجه توما وقال: "وأنت, يا توما, الذي قلت أنك تُصّدق إلا إذا أمكنك أن تراني وتضع إصبعك في أثار المسمار في يداي, الآن قد نظرت إلي وسمعت كلماتي؛ ولو إنك لا ترى علامات المسمار على يداي, حيث إني قد قمت في الشكل الذي سيكون لديكم أيضاً عندما ترحلون من هذا العالَم, ماذا ستقول لإخوانك؟ سوف تعترف بالحقيقة, لأنك في قلبك بالفعل قد بدأت تصَّدق حتى عندما أكدت بشجاعة عدم إيمانك. شكوكك, يا توما, دائماً ما تؤكد نفسها بأكثر العناد بالضبط عندما تكون على وشك الانهيار. توما, أدعوك أن لا تكون غير مؤمن ولكن مؤمن ــ وأنا أعلم أنك
191:5.5 (2043.3) عندما سمع توما هذه الكلمات, جثا على ركبتيه أمام السيد المورونشي وهتف, "أنا أؤمن! يا ربي وسيدي!" عند ذاك قال يسوع لتوما: "لقد آمنت, يا توما, لأنك رأيتني وسمعتني بالفعل. طوبى لأولئك في العصور الآتية الذين سيؤمنون رغم أنهم لم يروا بعين الجسد ولم يسمعوا بالأُذن الفانية."
191:5.6 (2043.4) وبعد ذلك, بينما تحرك شكل السيد بالقرب من رأس الطاولة, خاطبهم جميعاً, قائلاً: "والآن اذهبوا جميعكم إلى الجليل, حيث سأظهر لكم في الحاضر." بعد أن قال هذا, اختفى عن أنظارهم.
191:5.7 (2044.1) أصبح الرُسل الأحد عشر مقتنعين الآن تماماً بأن يسوع قد قام من الأموات, وفي وقت مبكر جداً في الصباح التالي, قبل انبثاق النهار, انطلقوا إلى الجليل.
191:6.1 (2044.2) بينما كان الرُسل الأحد عشر في طريقهم إلى الجليل, مقتربين من نهاية رحلتهم, على مساء الثلاثاء, 18 نيسان, عند حوالي الساعة الثامنة والنصف, ظهر يسوع إلى رودان ونحو ثمانين مؤمنًا آخر, في الإسكندرية. كان هذا هو الظهور الثاني عشر للسيد في شكل مورونشي. ظهر يسوع أمام هؤلاء اليونانيين واليهود في ختام خبر مرسال داود المتعلق بالصَلب. هذا المرسال, كائن الخامس في تتابع العدائين بين أورشليم والإسكندرية, وصل إلى الإسكندرية في وقت متأخر من عصر ذلك اليوم, وعندما سلـَّم رسالته إلى رودان, تقرر استدعاء المؤمنين معًا لتلقي هذه الكلمة المأساوية من المرسال نفسه. في حوالي الساعة الثامنة, أتى المرسال ناثان البيصوري, أمام هذه الجماعة وأخبرهم بالتفصيل بكل ما أخبره إياه العداء السابق. أنهى ناثان روايته المؤثرة بهذه الكلمات: "لكن داود, الذي أرسل لنا هذه الكلمة, يخبرنا أن السيد, في الإخبار عن تنبؤ موته, أعلن أنه سيقوم مرة أخرى." حتى بينما تكلم ناثان, ظهر السيد المورونشي هناك على مرأى ومسمع من الجميع. وعندما جلس ناثان, قال يسوع:
191:6.2 (2044.3) "السلام عليكم. إن ما أرسلني أبي نحو العالَم لتأسيسه لا ينتمي إلى عِرق, أو أمة, ولا إلى فئة خاصة من المعلمين أو الوعاظ. إن إنجيل الملكوت هذا ينتمي إلى كِلا اليهودي والأممي, وإلى الغني والفقير, وإلى الحر والعبد, وإلى الذَكر والأنثى, حتى إلى الأطفال الصغار. وأنتم جميعاً لتعلنوا إنجيل المحبة والحقيقة هذا من خلال المعايش التي تعيشونها في الجسد. يجب أن تحبوا بعضكم بعضاً بود جديد ومذهل, حتى كما أحببتكم. ستخدمون البشرية بإخلاص جديد ومذهل, حتى كما خدمتكم. وعندما يراكم الناس تحبونهم هكذا, وعندما يشاهدون كيف تخدمونهم بحماس, سوف يدركون أنكم أصبحتم رفقاء بالإيمان لملكوت السماء, وسوف يتبعون وراء روح الحق الذي يرونه في معايشكم, لإيجاد الخلاص الأبدي.
191:6.3 (2044.4) "كما أرسلني الأب نحو هذا العالَم, حتى هكذا أيضاً أرسلكم الآن. أنتم مدعوون جميعاً لنقل البشارة إلى أولئك الجالسين في الظلمة. إن إنجيل الملكوت هذا هو لكل من يؤمن به؛ لن يُعهد إلى وصاية الكهنة فقط. قريباً سوف يحل عليكم روح الحق, وسيقودكم إلى كل الحقيقة. اذهبوا, لذلك, إلى كل العالَم واعظين هذا الإنجيل, وها, أنا معكم دائماً, حتى إلى نهاية الدهور."
191:6.4 (2044.5) عندما تكلم السيد هكذا, اختفى عن أنظارهم. طوال تلك الليلة ظل هؤلاء المؤمنون هناك معاً معيدين سرد تجاربهم كمؤمنين بالملكوت ومستمعين إلى الكلمات الكثيرة لرودان ورفاقه. وكلهم آمنوا بأن يسوع قد قام من الأموات. تخيلوا دهشة مبشر داود عن القيامة, الذي وصل في اليوم الثاني بعد هذا, عندما ردوا على إعلانه, قائلين: "نعم, نعلم, لأننا رأيناه. ظهر لنا أول أمس."
كِتاب يورانشيا
ورقة 192
192:0.1 (2045.1) بحلول الوقت الذي غادر فيه الرُسل أورشليم إلى الجليل, كان قادة اليهود قد هدأوا إلى حد كبير. حيث إن يسوع ظهر فقط لعائلته من المؤمنين بالملكوت, وحيث إن الرُسل كانوا مختبئين ولم يقوموا بوعظ علني, استنتج حكام اليهود بأن حركة الإنجيل, بعد كل شيء, قد تم سحقها فعليًا. كانوا, بالطبع, يشعرون بالقلق حيال الانتشار المتزايد للشائعات بأن يسوع قد قام من الأموات, لكنهم اعتمدوا على الحراس المرتشين ليبطلوا بشكل فعال كل هذه التقارير بترديدهم للقصة بأن عصبة من أتباعه قد أزالت الجسد.
192:0.2 (2045.2) من هذا الوقت فصاعداً, إلى أن تشتتَ الرُسل بسبب تصاعد موجة الاضطهاد, كان بطرس مُتعرفاً عليه عمومًا كرئيس الكتيبة الرسولية. لم يمنحه يسوع أي سُلطة من هذا القبيل, ولم ينتخبه رفاقه الرُسل رسمياً أبداً لمثل هذا المنصب من المسؤولية؛ هو تولاها بشكل طبيعي واحتفظ بها بموافقة عامة وأيضاً لأنه كان واعظهم الرئيسي. من الآن فصاعداً أصبح الوعظ العلني الشغل الرئيسي للرُسل. بعد عودتهم من الجليل, أصبح ماثياس, الذي اختاروه ليحل محل يوداص, أمين صندوقهم.
192:0.3 (2045.3) خلال الأسبوع الذي مكثوا فيه في أورشليم, أمضت مريم والدة يسوع معظم الوقت مع النساء المؤمنات اللواتي كن متوقفات في بيت يوسف الأريماضا.
192:0.4 (2045.4) في وقت مبكر من صباح هذا الاثنين عندما غادر الرُسل إلى الجليل, ذهب يوحنا مرقس معهم. تبعهم خارج المدينة, وعندما تجاوزوا بيت-عنيا, ظهر بينهم بجرأة, شاعراً بالثقة بأنهم لن يُرجعوه.
192:0.5 (2045.5) توقف الرُسل عدة مرات في طريقهم إلى الجليل ليخبروا قصة سيدهم القائم ولذلك لم يصلوا إلى بيت-صيدا حتى وقت متأخر جداً من ليلة الأربعاء. كان وقت الظهيرة يوم الخميس قبل أن يكونوا جميعاً مستيقظين وجاهزين لتناول الإفطار.
192:1.1 (2045.6) في حوالي الساعة التاسعة من صباح يوم الجمعة, 21 نيسان, جعل السيد المورونشي ظهوره الثالث عشر, الأول في الجليل, للرُسل العشرة حينما دنا قاربهم من الشاطئ بالقرب من مكان رسوه المعتاد في بيت-صيدا.
192:1.2 (2045.7) بعد أن أمضى الرُسل فترة ما بعد الظهر وبداية مساء الخميس في الانتظار عند بيت زَبـِدي, اقترح سمعان بطرس أن يذهبوا لصيد السمك. عندما اقترح بطرس رحلة الصيد, قرر جميع الرُسل أن يذهبوا معه. طوال الليل كانوا يكدحون بالشباك لكنهم لم يصطادوا أي سمك. لم يهتموا كثيراً بالإخفاق بالصيد, لأنه كان لديهم الكثير من التجارب المثيرة للإهتمام للتحدث عنها, أشياء حدثت لهم مؤخراً جداً في أورشليم. لكن عندما حل نور النهار, قرروا العودة إلى بيت-صيدا. حينما اقتربوا من الشاطئ, رأوا شخصًا ما على الشاطئ, بالقرب من مرسى القوارب, واقف بجانب نار. في البداية ظنّوا أنه يوحنا مرقس, الذي نزل للترحيب بهم مع صيدهم, لكن لما دنوا أقرب إلى الشاطئ, رأوا أنهم كانوا مخطئين ــ كان الرَجل طويلاً جداً ليكون يوحنا. لم يخطر ببال أي منهم بأن الشخص على الشاطئ كان السيد. لم يفهموا تماماً لماذا أراد يسوع أن يلتقي بهم وسط مشاهد رفقتهم الأبكر وخارجاً في العلانية في اتصال مع الطبيعة, بعيداً عن البيئة المنغلقة في أورشليم مع تداعياتها المأساوية من خوف, وخيانة, وموت. كان قد أخبرهم بأنه, إذا هم ذهبوا إلى الجليل, فسوف يلقاهم هناك, وكان على وشك الوفاء بذلك الوعد.
192:1.3 (2046.1) عندما ألقوا المرساة واستعدوا لدخول القارب الصغير للذهاب إلى الشاطئ, نادى عليهم الرَجل الذي على الشاطئ, "يا شباب, هل اصطدتم أي شيء؟" وعندما أجابوا, لا, تكلم مجدداً, "ألقوا الشبكة على الجانب الأيمن من للقارب, وستجدون سمكاً." في حين أنهم لم يعرفوا أنه كان يسوع الذي وجَّههم, ألقوا الشبكة باتفاق واحد كما تم توجيههم, وامتلأت في الحال, لدرجة أنهم بالكاد كانوا قادرين على سحبها. الآن, كان يوحنا زَبـِدي سريع الإدراك, وعندما رأى الشبكة المثقلة, أدرك أنه كان السيد الذي تكلم إليهم. عندما خطرت هذه الفكرة بباله, انحنى وهمس لبطرس, "إنه السيد". كان بطرس دائماً رجل عمل طائش وتفاني متهور؛ لذلك عندما همس يوحنا بهذا في أُذنه, قام بسرعة وألقى بنفسه في الماء بحيث قد يصل إلى جانب السيد بأسرع ما يمكن. جاء إخوانه قريباً وراءه, واصلين إلى الشاطئ في القارب الصغير, ساحبين شبكة الأسماك وراءهم.
192:1.4 (2046.2) بحلول هذا الوقت كان يوحنا مرقس مستيقظًا, وحيث رأى الرُسل قادمين إلى الشاطئ مع الشبكة المثقلة بالحمولة, ركض نازلاً إلى الشاطئ لاستقبالهم؛ وعندما رأى أحد عشر رَجلاً بدلاً من عشرة, ظن بأن الشخص غير المُتعرف عليه كان السيد القائم, وبينما وقف العشرة المذهولون في صمت, اندفع الشاب إلى السيد وراكع عند قدميه, قال, "ربي وسيدي". وعند ذاك تكلم يسوع, ليس كما حدث في أورشليم, عندما حيّاهم بعبارة "السلام عليكم", لكنه خاطب يوحنا مرقس بنغمة مألوفة: "حسناً, يوحنا, أنا سعيد برؤيتك مرة أخرى وفي الجليل الخالي من الهم, حيث بمقدورنا أن تكون لدينا زيارة جيدة. إبق معنا, يا يوحنا, وتناول الإفطار."
192:1.5 (2046.3) بينما كان يسوع يتحدث مع الشاب, كان العشرة مندهشين ومذهولين جداً بحيث أهملوا سحب شبكة السمك إلى الشاطئ. تكلم يسوع الآن: "أحضروا أسماككم وأعدوا بعض منها من أجل طعام الإفطار. تواً لدينا النار والكثير من الخبز."
192:1.6 (2046.4) بينما أدى يوحنا مرقس التحية للسيد, كان بطرس للحظة مصدوماً لمشهد جمر النار المتوهجة هناك على الشاطئ؛ ذكـَّره المشهد بوضوح شديد بنار الفحم لمنتصف الليل في فناء أنّاس, حيث أنكر السيد, لكنه هز نفسه, وراكعاً عند قدَمي السيد, هتف, "ربي وسيدي!"
192:1.7 (2046.5) بعد ذلك انضم بطرس إلى رفاقه بينما سحبوا الشبكة. عندما أوصلوا صيدهم إلى اليابسة, أحصوا الأسماك, وكان هناك 153 سمكة كبيرة. ومرة أخرى تم ارتكاب خطأ تسمية هذا الصيد صيد عجائبي آخر للأسماك. لم تكن هناك معجزة مرتبطة بهذه الواقعة الهامة. كانت مجرد ممارسة معرفة السيد المسبقة. كان يعلم بأن الأسماك هناك وتبعاً لذلك وَّجه الرُسل إلى مكان إلقاء الشبكة.
192:1.8 (2047.1) تكلم يسوع إليهم, قائلاً: "تعالوا الآن, جميعاً, لتناول الإفطار. حتى التوأم يجب أن يجلسا بينما أزوركم؛ سوف يهيئ يوحنا مرقس السمك". أحضر يوحنا مرقس سبع سمكات جيدة الحجم, وضعها السيد على النار, وعندما تم طهيها, قدمها الصبي إلى العشرة. بعد ذلك كسر يسوع الخبز وسلمه ليوحنا, الذي بدوره قدمه للرُسل الجائعين. عندما كانوا قد خُدموا جميعاً, أمر يسوع يوحنا مرقس بالجلوس بينما هو نفسه قدم السمك والخبز للصبي. وبينما هم يأكلون, زار يسوع معهم وأعاد سرد تجاربهم العديدة في الجليل وبجوار هذه البحيرة بالذات.
192:1.9 (2047.2) هذه كانت المرة الثالثة التي أظهر فيها يسوع نفسه للرُسل كمجموعة. عندما خاطبهم يسوع لأول مرة, سائلاً ما إذا كان لديهم أي سمك, لم يشكوا في هويته لأنها كانت تجربة شائعة لصيادي السمك هؤلاء على بحر الجليل, عندما يأتون إلى الشاطئ أن يدنوا منهم تجار الأسماك من تاريشيا, الذين كانوا عادة في متناول اليد لشراء الصيد الطازج لمنشآت التجفيف.
192:1.10 (2047.3) زار يسوع مع الرُسل العشرة ويوحنا مرقس لأكثر من ساعة, وبعد ذلك مشى صعوداً ونزولاً على الشاطئ متحدثاً معهم اثنين واثنين ــ لكن ليس نفس الأزواج كما أرسلهم معاً في البداية للتدريس. كان جميع الرسل الأحد عشر قد نزلوا معاً من أورشليم, لكن سمعان زيلوطس غدا أكثر فأكثر قنوطاً عندما اقتربوا من الجليل, بحيث إنه, عندما وصلوا إلى بيت-صيدا, ترك إخوانه وعاد إلى بيته.
192:1.11 (2047.4) قبل أن يستئذنهم هذا الصباح, وجَّه يسوع بأن يتطوع اثنين من الرُسل للذهاب إلى سمعان زيلوطس وإعادته في ذلك اليوم بالذات. وقام بطرس وأندراوس بهذا.
192:2.1 (2047.5) عندما انتهوا من الإفطار, وبينما جلس الآخرون بجانب النار, أومأ يسوع إلى بطرس وإلى يوحنا بأن يأتيا معه للمشي على الشاطئ. بينما تمشوا, قال يسوع ليوحنا, "يوحنا, هل تحبني؟" وعندما أجاب يوحنا, "نعم يا سيد, من كل قلبي", قال السيد: "إذاً, يا يوحنا, تخلى عن عدم تسامحك وتعلم أن تحب الناس كما أحببتكم. كرس حياتك لإثبات أن المحبة هي أعظم شيء في العالَم. إنها محبة الله التي تدفع الناس إلى طلب الخلاص. المحبة هي السلف لكل صلاح روحي, وجوهر الحقيقي والجميل."
192:2.2 (2047.6) ثم التفت يسوع نحو بطرس وسأل, "بطرس, هل تحبني؟" أجاب بطرس, "يا رب أنت تعلم أنني أحبك بكل نفسي." عندئذٍ قال يسوع: "إذا كنت تحبني, يا بطرس, أطعم خرافي. لا تهمل أن تسعف إلى الضعيف, والفقير, والصغير. عظ الإنجيل بدون خوف أو مِنة؛ تذكَّر دائماً بأن الله ليس لديه محاباة أشخاص. اخدم زملائك الناس حتى كما خدمتكم؛ سامح زملائك البشر حتى كما سامحتك. دع التجربة تعَّلمك قيمة التأمل وقوة التفكُر الذكي."
192:2.3 (2047.7) بعد ما تمشوا معاً أبعد بقليل, التفت السيد إلى بطرس وسأل, "بطرس, هل تحبني حقا؟" وعند ذلك قال سمعان: "نعم, يا رب, أنت تعلم أنني أحبك." ومرة أخرى قال يسوع: "إذاً اعتني بخرافي جيداً. كن راعياً صالحاً وحقيقياً للقطيع. لا تخون ثقتهم بك. لا تكن مأخوذاً على حين غرة على يد العدو. كن يقظاً في جميع الأوقات ــ راقب وصَّلي."
192:2.4 (2047.8) عندما ذهبوا أبعد من ذلك ببضع خطوات, التفت يسوع إلى بطرس, وللمرة الثالثة, سأل, "بطرس, هل حقاً تحبني؟" وعند ذلك بطرس, حزينًا قليلاً لعدم ثقة السيد به على ما يبدو, قال بشعور كبير, "يا رب, أنت تعرف كل الأشياء, ولذلك تعرف أنني أحبك حقاً وصدقاً." عند ذلك قال يسوع: "أطعم غنمي. لا تترك القطيع. كن قدوة ومصدر إلهام لجميع رفاقك الرعاة. احب القطيع كما أحببتكم وكرس نفسك لرفاهيتهم حتى كما كرست حياتي لرفاهيتكم, واتبع من بعدي حتى النهاية."
192:2.5 (2048.1) أخذ بطرس هذه العبارة الأخيرة حرفياً ــ بأنه يجب أن يستمر في اتباعه ــ وملتفت نحو يسوع, أشار إلى يوحنا, سائلاً, "إذا تبعت من بعدك, فماذا سيفعل هذا الرَجل؟" وعند ذاك شاعر بأن بطرس قد أساء فهم كلماته, قال يسوع: "بطرس لا تهتم بما سيفعل إخوانك. إذا شئتُ أن يتوانى يوحنا بعد رحيلك, حتى إلى أن أعود, فماذا في ذلك لك؟ فقط تأكد من أنك تتبعني."
192:2.6 (2048.2) انتشرت هذه الملاحظة بين الأخوة وتم استلامها كبيان من يسوع مفاده أن يوحنا لن يموت قبل أن يعود السيد, كما كان يعتقد ويأمل الكثيرون, لتأسيس الملكوت بقدرة ومجد. لقد كان هذا التفسير لما قاله يسوع ما كان له علاقة كبيرة بإعادة سمعان زيلوطس إلى الخدمة, وإبقائه في العمل.
192:2.7 (2048.3) عندما رجعوا إلى الآخرين, ذهب يسوع ليمشي ويتحدث مع أندراوس ويعقوب. عندما قطعوا مسافة قصيرة, قال يسوع لأندراوس, "أندراوس, هل تثق بي؟" وعندما سمع الرئيس السابق للرُسل يسوع يسأل مثل هذا السؤال, وقف ثابتاً وأجاب, "نعم, يا سيد, بالتأكيد أثق بك, وأنت تعلم بأني أفعل." عند ذلك قال يسوع: "أندراوس, إذا كنت تثق بي, فثق بإخوانك أكثر ــ حتى بطرس. لقد وثقت بك ذات مرة لقيادة إخوانك. الآن يجب أن تثق في الآخرين حينما أترككم لأذهب إلى الأب. عندما يبدأ إخوانك بالتشتت في الخارج بسبب الاضطهادات المُرة, كن مستشاراً حكيماً ومُراعياً ليعقوب أخي في الجسد عندما يضعون عليه أعباء ثقيلة هو ليس مؤهلاً بالخبرة ليتحملها. ثم استمر في الثقة, لأني لن أخذلك. عندما تنتهي من الأرض, ستأتي إليَ."
192:2.8 (2048.4) ثم التفت يسوع إلى يعقوب, سائلاً, "يعقوب, هل تثق بي؟" وبالطبع أجاب يعقوب, "نعم, يا سيد, أثق بك من كل قلبي." عندئذٍ قال يسوع: "إذا وثقت بي أكثر, ستكون أكثر صبراً مع إخوانك. إذا كنت ستثق بي, سيساعدك ذلك على أن تكون لطيفًا مع أخوة المؤمنين. تعَّلم أن تزن عواقب أقوالك وأفعالك. تذكَّر بأن الحصاد يتوافق مع الزرع. صَّل من أجل اطمئنان الروح وأحصد الصبر. هذه النعَّم, مع الإيمان الحي, ستعضدك عندما تحين الساعة لشرب كأس التضحية. لكن لا تيأس أبداً؛ عندما تنتهي على الأرض, ستأتي لتكون معي أيضاً."
192:2.9 (2048.5) بعد ذلك تحدث يسوع مع توما ونثانئيل. قال لتوما, "توما, هل تخدمني؟" أجاب توما, "نعم يا رب, أخدمك الآن ودائماً." عندئذٍ قال يسوع: "إذا كنت ستخدمني, فاخدم إخوانك في الجسد حتى كما خدمتكم. ولا تتعب من هذا العمل الصالح بل ثابر كواحد عيّنه الله لخدمة المحبة هذه. متى انتهيت من خدمتك معي على الأرض, ستخدم معي في مجد. توما, يجب أن تتوقف عن الشك؛ يجب أن تنمو في الإيمان وفي معرفة الحقيقة. آمن بالله مثل طفل لكن توقف عن التصرف بطريقة طفولية للغاية. كن شجاعاً؛ كن قوياً في الإيمان وقديراً في ملكوت الله."
192:2.10 (2049.1) بعد ذلك قال السيد لنثانئيل, "نثانئيل, هل تخدمني؟" فأجاب الرسول, "نعم يا سيد, وبود لا ينفصم." عندئذٍ قال يسوع: "إذا, لذلك, كنت تخدمني بكل قلبك, فتأكد بأنك مُكـَّرَس لرفاهية إخواني على الأرض بودٍ لا يعرف الكلل. ادمج الصداقة مع مشورتك وأضف المحبة إلى فلسفتك. اخدم زملائك الناس حتى كما خدمتكم. كن مُخلصاً للناس كما سهرت عليكم. كن أقل انتقاداً؛ توقع أقل من بعض الناس وبهذا تقلل من مدى خيبة أملك. وعندما ينتهي العمل هنا تحت, ستخدم معي على العُلى."
192:2.11 (2049.2) بعد هذا تحدث السيد مع متـّى وفيليبُس. قال لفيليبُس, "فيليبُس, هل تطيعني؟" أجاب فيليبُس, "نعم, يا رب, سأطيعك حتى بحياتي." عندئذٍ قال يسوع: "إذا كنت ستطيعني, اذهب إذاً نحو أراضي الأمميين وأعلن هذا الإنجيل. قد أخبرك الأنبياء بأنه من الأفضل أن تطيع من أن تُضَّحي. بالإيمان قد أصبحت ابن ملكوت عارف الله. ليس هناك سوى قانون واحد يجب أن يُطاع ــ ذلك هو الأمر بالخروج لإعلان إنجيل الملكوت. توقف عن مخافة الناس؛ ولا تخشى أن تعظ بشائر الحياة الأبدية لزملائك الذين يقبعون في الظلمة والجائعين لنور الحقيقة. لا أكثر, يا فيليبُس, ستشغل نفسك بالمال والبضائع. أنت حر الآن في وعظ البشائر تماماً مثل إخوانك, وسأذهب أمامكم وأكون معكم حتى النهاية."
192:2.12 (2049.3) وبعد ذلك, متكلم إلى متـّى, سأل السيد, "متـّى, هل لديك في قلبك أن تطيعني؟" أجاب متـّى, "نعم, يا رب, أنا مُكـَّرَس تمامًا لفعل مشيئتك." عندئذٍ قال السيد: "متـّى, إذا كنت تود طاعتي, فانطلق لتعَّلم جميع الشعوب إنجيل الملكوت هذا. لن تخدم إخوانك الأشياء المادية للحياة بعد الآن؛ من الآن فصاعداً عليك أنت أيضاً أن تعلن بشائر الخلاص الروحي. من الآن فصاعداً لتكن لديك عين واحدة فقط لإطاعة تفويضك لوعظ هذا الإنجيل عن ملكوت الأب. كما أنا فعلت مشيئة الأب على الأرض, هكذا أنت ستفي بالتفويض الإلَهي. تذكَّر أن كِلا اليهود والأمميين هم إخوانك. لا تخف أي إنسان عندما تعلن الحقائق المخَّلِصة لإنجيل ملكوت السماء. وحيث أذهب, سوف تأتي عما قريب."
192:2.13 (2049.4) بعد ذلك مشى وتحدث مع التوأم الألفيوس, يعقوب ويوداص, ومتحدث إليهما, سأل, "يعقوب ويوداص, هل تؤمنان بي؟" وعندما أجاب كِلاهما, "نعم, يا سيد نؤمن", قال: "قريباً سأترككم. ترون أنني قد تركتكم بالفعل في الجسد. أتوانى فقط لوقت قصير في هذا الشكل قبل أن أذهب إلى أبي. أنتما تؤمنان بي ــ أنتما رُسلي, ودائماً ستكونان. استمرا في الإيمان وفي تذكّر ارتباطكما بي, عندما أكون قد رحلت, وبعد أن تكونا, ربما, قد رجعتما إلى العمل الذي اعتدتما عليه قبل أن تأتيا للعيش معي. لا تسمحا أبداً لأي تغيير في عملكما الظاهري بالتأثير على إخلاصكما. ليكن لديكما إيمان في الله إلى نهاية أيامكما على الأرض. ولا تنسيا أبداً, أنه عندما تكونان أبناء الله بالإيمان, فإن كل عمل مستقيم في الدنيا مقدس. لا شيء يفعله ابن الله يمكن أن يكون عادي. قوما بعملكما, لذلك, من هذا الوقت فصاعداً, كما من أجل الله. وعندما تنتهيان من هذا العالَم, لدي عوالم أخرى وأفضل حيث ستعملان أيضًا من أجلي. وفي كل هذا العمل, على هذا العالَم وعلى عوالم أخرى, سأعمل معكما, وروحي ستسكن داخلكما."
192:2.14 (2049.5) كانت الساعة حوالي العاشرة عندما عاد يسوع من زيارته مع التوأم الألفيوس, ولما غادر الرُسل, قال: "وداعاً, حتى ألتقي بكم جميعاً على جبل رسامتكم غداً في وقت الظهيرة." عندما قال هذا, اختفى عن أنظارهم.
192:3.1 (2050.1) ظُهر يوم السبت, 22 نيسان, تجَّمع الرُسل الأحد عشر بموعد على التل بالقرب من كفرناحوم, وظهر يسوع بينهم. حدث هذا اللقاء على نفس الجبل حيث ميزهم السيد كرُسل له وكسفراء لملكوت الأب على الأرض. وكان هذا التجلي المورونشي الرابع عشر للسيد.
192:3.2 (2050.2) في هذا الوقت ركع الرُسل الأحد عشر في دائرة حول السيد وسمعوه يكرر التوجيهات ورأوه يشرع ثانية مشهد الرسامة حتى كما عندما ميزهم لأول مرة من أجل العمل الخاص للملكوت. وكان كل هذا بالنسبة لهم بمثابة ذكرى تكريسهم السابق لخدمة الأب, باستثناء صلاة السيد. عندما صَّلى السيد ــ يسوع المورونشي ــ الآن, كان ذلك في نبرات ذات جلالة وبكلمات من القدرة كما لم يسمعها الرُسل أبداً من قبل. تكلم سيدهم الآن مع حكام الأكوان كشخص, في كونه الخاص, لديه كل قدرة وسُلطة مُسَّلمة إلى يده. وهؤلاء الرجال الأحد عشر لم ينسوا أبداً هذه التجربة من إعادة التكريس المورونشي للتعهدات السابقة لعمل السفراء. قضى السيد ساعة واحدة فقط على هذا الجبل مع سفرائه, وعندما استأذن في وداعهم بحنان, اختفى عن أنظارهم.
192:3.3 (2050.3) ولم ير أحد يسوع لأسبوع كامل. لم يكن لدى الرُسل في الحقيقة أي فكرة عما يجب عليهم فعله, ليسوا عارفين ما إذا كان السيد قد ذهب إلى الأب. في هذه الحالة من عدم اليقين توانوا في بيت-صيدا. كانوا يخشون الذهاب إلى صيد السمك لئلا يأتي لزيارتهم وتفوتهم رؤيته. خلال هذا الأسبوع بأكمله كان يسوع مشغولاً مع مخلوقات المورونشيا على الأرض وبشؤون الانتقال المورونشي الذي كان يختبره على هذا العالَم.
192:4.1 (2050.4) كانت الكلمة عن ظهورات يسوع تنتشر في جميع أنحاء الجليل, وكل يوم وصلت أعداد متزايدة من المؤمنين إلى بيت زَبـِدي للاستفسار عن قيامة السيد ومعرفة الحقيقة عن هذه الظهورات الذائعة الصيت. أرسل بطرس كلمة, في مطلع الأسبوع, بأن اجتماعاً عاماً سيُعقد على شاطئ البحر في السبت التالي عند الساعة الثالثة بعد الظُهر.
192:4.2 (2050.5) بناء على ذلك, على يوم السبت, 29 نيسان, عند الساعة الثالثة, تجَّمَع أكثر من خمسمائة من المؤمنين من ضواحي كفرناحوم في بيت-صيدا لسماع بطرس يعظ وعظته العامة الأولى منذ القيامة. كان الرسول في أفضل حالاته, وبعد أن انتهى من محاضرته الأخاذة, قليل من سامعيه شكوا في أن السيد قد قام من الأموات.
192:4.3 (2050.6) أنهى بطرس موعظته قائلاً: "نُؤكد أن يسوع الناصري لم يمت؛ نعلن أنه قام من القبر؛ نُصرح بأننا رأيناه وتحدثنا معه." بمجرد أن انتهى من الإدلاء بإعلان الإيمان هذا, هناك بجانبه, وعلى المرأى التام لكل هؤلاء الناس, ظهر السيد في شكل مورونشي, ومتكلم إليهم بلهجات مألوفة, قال, "السلام عليكم, وسلامي أترك معكم." وعندما ظهر هكذا وتحدث إليهم, اختفى عن نظرهم. كان هذا التجلي الخامس عشر ليسوع المقام.
192:4.4 (2051.1) بسبب بعض الأشياء التي قيلت للأحد عشر أثناء اجتماعهم مع السيد على جبل الرسامة, أخذ الرُسل انطباعاً بأن سيدهم سيقوم عما قريب بظهور علني أمام مجموعة من مؤمني الجليل, وأنه, بعد أن يكون قد قام بهذا, سيعودون إلى أورشليم. تبعاً لذلك, في وقت مبكر من اليوم التالي, الأحد, 30 نيسان, غادر الأحد عشر بيت-صيدا إلى أورشليم. قاموا بتعليم ووعظ معتبرين في طريقهم عبر نهر الأردن, بحيث لم يصلوا إلى بيت مرقس في أورشليم حتى وقت متأخر من الأربعاء, 3 أيار.
192:4.5 (2051.2) كان هذا رجوعاً حزيناً ليوحنا مرقس. بالضبط قبل ساعات قليلة من وصوله البيت, توفي والده, إيليا مرقس, فجأة بسبب نزيف في الدماغ. مع أن التفكير بيقين قيامة الموتى فعل الكثير ليؤاسي الرُسل في حزنهم, إلا أنهم في الوقت نفسه حزنوا حقاً لفقدان صديقهم الصالح, الذي كان مؤيدهم الصلب حتى في أوقات الشدة وخيبة الأمل الكبيرة. بذل يوحنا مرقس كل ما في وسعه ليؤاسي أُمه, ومتكلم نيابة عنها, دعا الرُسل أن يستمروا في جعل بيتهم عند منزلها. وجعل الأحد عشر هذه العلية مقراً لهم حتى لبعد يوم العنصرة.
192:4.6 (2051.3) كان الرُسل قد دخلوا أورشليم بعد حلول الظلام عمداً بحيث قد لا تراهم السُلطات اليهودية. ولم يظهروا علناً في علاقة مع جنازة إيليا مرقس. بقوا طوال اليوم التالي في عزلة هادئة في هذه العلية الحافلة بالأحداث.
192:4.7 (2051.4) ليلة الخميس كان للرُسل اجتماع رائع في هذه العلية وكلهم تعهدوا بالانطلاق في وعظ علني للإنجيل الجديد عن قيامة الرب باستثناء توما, وسمعان زيلوطس, والتوأم الألفيوس. لقد بدأت بالفعل الخطوات الأولى لتغيير إنجيل الملكوت ــ البنوة مع الله والأخوة مع الإنسان ــ إلى إعلان قيامة يسوع. عارض نثانئيل هذا التحول في عبئ رسالتهم العامة, لكنه لم يستطع الصمود أمام بلاغة بطرس, كما أنه لم يستطع التغلب على حماس التلاميذ, خاصةً النسوة المؤمنات.
192:4.8 (2051.5) وهكذا, تحت قيادة بطرس المفعمة بالحيوية وقبل أن يصعد السيد إلى الأب, بدأ ممثلوه ذوو النوايا الحسنة تلك العملية الدقيقة المتمثلة في تغيير دين يسوع تدريجياً وبشكل أكيد إلى شكل جديد ومُعدَّل من الدين عن يسوع.
كِتاب يورانشيا
ورقة 193
193:0.1 (2052.1) حدث التجلي المورونشي السادس عشر ليسوع يوم الجمعة, 5 أيار, في فناء نيقوديموس, حوالي الساعة التاسعة ليلاً. في هذا المساء قام مؤمنو أورشليم بأول محاولة لهم منذ القيامة للاجتماع معاً. كان متجمعاً هنا في هذا الوقت الرُسل الأحد عشر, وكتيبة النساء ورفقائهن, وحوالي خمسين من تلاميذ السيد البارزين الآخرين, بما في ذلك عدد من اليونانيين. كانت هذه الجماعة من المؤمنين في زيارة غير رسمية لأكثر من نصف ساعة عندما ظهر السيد المورونشي فجأة, في كامل الرؤية وبدأ على الفور في إرشادهم, قال يسوع:
193:0.2 (2052.2) "السلام عليكم, هذه هي المجموعة الأكثر تمثيلا للمؤمنين ــ رُسلاً وتلاميذ, رجالاً ونساءً معاً ــ التي ظهرت لها منذ وقت خلاصي من الجسد. أدعوكم الآن لتشهدوا أنني أخبرتكم مسبقاً بأن مكوثي بينكم يجب أن يأتي إلى نهاية؛ لقد أخبرتكم أنه يجب أن أعود عما قريب إلى الأب. ثم أخبرتكم بوضوح كيف أن رؤساء الكهنة وحكام اليهود سيسلمونني لأُقتَل. وأنني سأقوم من القبر. فلماذا, إذن, سمحتم لأنفسكم أن تنزعجوا من كل هذا عندما حدث؟ ولماذا فوجئتم جدًا عندما قمت من القبر على اليوم الثالث؟ فشلتم في أن تصدقوني لأنكم سمعتم كلماتي دون استيعاب معناها.
193:0.3 (2052.3) "والآن يجب أن تنصتوا إلى كلماتي لئلا ترتكبوا مرة أخرى خطأ سماع تعليمي بالعقل بينما في قلوبكم تفشلون في فهم المعنى. منذ بداية مكوثي كواحد منكم, علـَّمتكم أن هدفي الوحيد كان لكشف أبي في السماء لأولاده على الأرض. لقد عشت الإغداق الذي يكشف الله بحيث قد تختبرون مهنة معرفة الله. لقد كشفت الله كأبيكم في السماء؛ لقد كشفتكم كأبناء الله على الأرض. إنها حقيقة بأن الله يحبكم, أبناءه. بالإيمان في كلمتي يصبح هذا الواقع حقيقة أبدية وحيّة في قلوبكم. عندما, بالإيمان الحي, تصبحون إلَهياً واعين الله, فأنتم عندئذ مولودون بالروح كأبناء للنور والحياة, حتى الحياة الأبدية التي ستصعدون بها إلى كون الأكوان وتنالون تجربة إيجاد الله الأب على الفردوس.
193:0.4 (2052.4) "أنصحكم أن تتذكروا ابداً أن مهمتكم بين الناس هي إعلان إنجيل الملكوت ــ واقع أبوة الله وحقيقة بنوة الإنسان. أعلنوا الحقيقة الكاملة عن البشرى, ليس مجرد جزء من الإنجيل المخـَّلِص. رسالتكم لم تتغير بتجربة قيامتي. البنوة مع الله, بالإيمان, لا تزال الحقيقة المخـَّلِصة لإنجيل الملكوت. عليكم أن تنطلقوا في التبشير بمحبة الله وخدمة الإنسان. إن أكثر ما يحتاج العالَم إلى معرفته هو: أن الناس هم أبناء الله, ومن خلال الإيمان يمكنهم فعلياً أن يدركوا هذه الحقيقة المُشَّرفة ويختبروها يومياً. يجب أن يساعد إغداقي كل الناس على معرفة أنهم أولاد الله, لكن هذه المعرفة لن تكفي إذا فشلوا شخصياً في أن يفهموا بالإيمان الحقيقة المخَّلِصة بأنهم أبناء الروح الأحياء للأب الأبدي. يهتم إنجيل الملكوت بمحبة الله وخدمة أولاده على الأرض.
193:0.5 (2053.1) "فيما بينكم, هنا, تشاركون المعرفة بأنني قمت من الأموات, لكن ذلك ليس غريباً. لدي القدرة على أن أُلقي حياتي وأخذها مرة أخرى؛ الأب يعطي هذه القدرة لأبنائه الفردوسيين. يجب بالأحرى أن تُثاروا في قلوبكم بمعرفة أن الموتى لعصر قد دخلوا على الارتقاء الأبدي بعد مغادرتي قبر يوسف الجديد بفترة وجيزة. عشت حياتي في الجسد لأُظهر كيف يمكنكم, من خلال الخدمة المحبة, أن تصبحوا كاشفين الله لزملائكم الناس حتى كما, من خلال محبتي لكم وخدمتي لكم, أصبحت كاشفاً الله لكم. لقد عشت بينكم كابن الإنسان بحيث يمكنكم, أنتم وكل الناس الآخرين, أن تعلموا أنكم جميعًا أبناء الله حقًا. لذلك, اذهبوا الآن إلى كل العالَم واعظين إنجيل ملكوت السماء هذا لجميع الناس. احبوا كل الناس كما أحببتكم؛ اخدموا رفقاءكم الفانين كما خدمتكم. مجاناً استلمتم, مجاناً أعطوا. فقط تمهلوا هنا في أورشليم ريثما أذهب إلى الأب, وإلى أن أرسل لكم روح الحق. هو سيقودكم إلى الحقيقة الموَّسَعة. وسأذهب معكم نحو كل العالَم. أنا معكم دائماً, وسلامي أتركه معكم."
193:0.6 (2053.2) لما كان السيد قد تكلم إليهم, اختفى عن نظرهم. لقد كان قرب اِنبِلاج النهار قبل أن يتفرق هؤلاء المؤمنون؛ ظلوا معاً طوال الليل, يناقشون بجدية نصائح السيد ويتفكرون بكل ما حل بهم. كما أخبرهم يعقوب زَبـِدي وآخرون من الرُسل عن تجاربهم مع السيد المورونشي في الجليل وسردوا كيف ظهر لهم ثلاث مرات.
193:1.1 (2053.3) حوالي الساعة الرابعة من بعد ظُهر السبت, 13 أيار, ظهر السيد لنالدا ونحو خمسة وسبعين من المؤمنين السامريين بالقرب من بئر يعقوب, في سيخار. اعتاد المؤمنون التجمع في هذا المكان, بالقرب من حيث تكلم يسوع إلى نالدا بشأن ماء الحياة. في هذا اليوم, تماماً عندما انتهوا من مناقشاتهم عن القيامة التي أُخبروا عنها, ظهر يسوع فجأة أمامهم, قائلاً:
193:1.2 (2053.4) "السلام عليكم. أنتم تتهللون لمعرفة أنني القيامة والحياة, لكن هذا لن يفيدكم شيئاً إلا إذا ولدتم أولاً من الروح الأبدي, بهذا لتمتلكوا, بالإيمان, عطية الحياة الأبدية. إذا كنتم أبناء الإيمان لأبي, فلن تموتوا أبداً؛ لن تهلكوا. علـَّمكم إنجيل الملكوت بأن كل الناس هم أبناء الله. وهذه البشائر المتعلقة بمحبة الأب السماوي لأولاده على الأرض ينبغي أن تُحمل إلى كل العالَم. لقد حان الوقت عندما تعبدون الله لا على جـِريزيم ولا في أورشليم, لكن أينما تكونون, كما أنتم, في الروح وفي الحق. إنه إيمانكم الذي يخلص نفوسكم. الخلاص هو عطية الله لكل من يؤمن أنهم أبناؤه. لكن لا تنخدعوا؛ بينما الخلاص هو هدية مجانية من الله ومُغدق على كل من يقبله بالإيمان, هناك تتبع تجربة حمل ثمار حياة الروح هذه كما تُعاش في الجسد. قبول عقيدة أبوة الله يعني ضمنياً أنكم أيضاً تقبلون مجاناً الحقيقة المرتبطة بأخوة الإنسان. وإذا كان الإنسان هو أخوك, هو حتى أكثر من جارك, الذي يطلب منك الأب أن تحبه مثل نفسك. أخوك, كائن من عائلتك الخاصة, لن تحبه فقط بود عائلي, بل أيضًا ستخدمه كما تخدم نفسك. وهكذا ستحبون أخاكم وتخدمونه لأنكم, بصفتكم إخوتي, قد أُحببتكم وخدمتكم. اذهبوا, إذن, نحو كل العالَم لإخبار هذه البشائر لجميع المخلوقات من كل عِرق, وقبيلة, وأُمة. ستذهب روحي أمامكم, وسأكون دائماً معكم."
193:1.3 (2054.1) كان أولئك السامريون مذهولين بشدة من هذا الظهور للسيد, وأسرعوا إلى المدن والقرى القريبة, حيث نشروا في الخارج الأخبار بأنهم رأوا يسوع, وبأنه تكلم إليهم. وكان هذا الظهور المورونشي السابع عشر للسيد.
193:2.1 (2054.2) كان ظهور السيد الثامن عشر في صور, يوم الثلاثاء, 16 أيار, قبل الساعة التاسعة مساء بقليل. ظهر مرة أخرى في ختام اجتماع للمؤمنين, عندما كانوا على وشك أن يتفرقوا, قائلاً:
193:2.2 (2054.3) "السلام عليكم. أنتم تتهللون لمعرفة أن ابن الإنسان قد قام من الأموات لأنكم بذلك تعرفون بأنكم وإخوانكم ستنجون أيضًا من الموت البشري. لكن مثل هذا البقاء يعتمد على كونكم قد ولدتم سابقاً من الروح الباحث عن الحق والواجد الله. خبز الحياة وماؤها لا يعطى إلا لأولئك الذين يتوقون إلى الحقيقة ويتعطشون للبر ــ إلى الله. حقيقة أن الأموات يقومون ليس إنجيل الملكوت. هذه الحقائق العظيمة وهذه الوقائع للكون كلها مرتبطة بهذا الإنجيل من حيث أنها جزء من نتيجة الإيمان بالبشائر ويتم احتضانها في التجربة اللاحقة لأولئك الذين, بالإيمان, يصبحون, بالفعل وفي الحقيقة, الأبناء الأبديين لله الأزلي. أبي أرسلني إلى العالَم لأعلن خلاص البنوة هذا لجميع الناس. وهكذا أُرسلكم إلى الخارج للتبشير بخلاص البنوة هذا. الخلاص هو هدية الله المجانية, لكن أولئك الذين يولدون بالروح سيبدأون في الحال في إظهار ثمار الروح في الخدمة المحبة لزملائهم المخلوقات. وثمار الروح الإلَهي التي تُنتَج في معايش البشر المولودين بالروح والعارفين الله هي: الخدمة المُحبة, والتفاني غير الأناني, والولاء الشجاع, والإنصاف المُخْلص, والأمانة المستنيرة, والأمل الذي لا يموت, والثقة الواثقة, والإسعاف الرحيم, والصلاح الذي لا يتزعزع, والتسامح المُسامح, والسلام الذي يدوم. إذا لم يحمل المؤمنون المقرون ثمار الروح الإلَهي هذه في معايشهم, فهم أموات؛ ليس فيهم روح الحق؛ هم أغصان عديمة النفع على الكرمة الحية, وسرعان ما سوف يُستأصلون. يطلب أبي من أولاد الإيمان أن يحملوا ثمار روح كثيرة. لذلك, إذا لم تكونوا مثمرين, فسوف يحفر حول جذوركم ويقطع أغصانكم غير المثمرة. على نحو متزايد, يجب أن تنتجوا ثمار الروح بينما تتقدمون نحو السماء في ملكوت الله. قد تدخلون الملكوت كطفل, لكن الأب يتطلب أن تكبروا, بالنعمة, إلى القامة الكاملة للبلوغ الروحي. وعندما تذهبون للخارج لتخبروا كل الأمم ببشائر هذا الإنجيل, فسوف أذهب أمامكم, وسيقيم روحي روح الحق في قلوبكم. سلامي أترك معكم."
193:2.3 (2054.4) وبعد ذلك اختفى السيد عن نظرهم. في اليوم التالي خرج من صور أولئك الذين نقلوا هذه القصة إلى صيدا وحتى إنطاكية ودمشق. كان يسوع مع هؤلاء المؤمنين عندما كان في الجسد, وهم سرعان ما تعرفوا عليه عندما بدأ يعَّلمهم. في حين أن أصدقائه لم يتمكنوا تواً من التعرف على شكله المورونشي عندما جُعل مرئياً, إلا أنهم لم يكونوا أبدًا بطيئين في التعرف على شخصيته عندما تكلم إليهم.
193:3.1 (2055.1) في وقت مبكر من صباح الخميس, 18 أيار, جعل يسوع ظهوره الأخير على الأرض كشخصية مورونشية. بينما كان الرُسل الأحد عشر على وشك أن يجلسوا لتناول الإفطار في علية بيت مريم مرقس, ظهر لهم يسوع وقال:
193:3.2 (2055.2) "السلام عليكم. لقد طلبت منكم البقاء هنا في أورشليم إلى أن أصعد إلى الأب, أيضاً حتى إلى أن أرسل لكم روح الحق, الذي سوف يُسكب قريباً على كل جسد, والذي سيمنحكم بقدرة من العُلى." قاطع سمعان زيلوطس يسوع, سائلاً, "إذاً, يا سيد, هل ستسترد الملكوت, وهل سنرى مجد الله متجلياً على الأرض؟" عندما استمع يسوع لسؤال سمعان, أجاب: "سمعان, ما زلت متمسكاً بأفكارك القديمة عن المسيح اليهودي والملكوت المادي. لكنك ستستلم قدرة روحية بعد أن ينزل الروح عليك, وعما قريب ستذهب نحو كل العالَم واعظاً إنجيل الملكوت هذا. كما أرسلني الأب إلى العالَم, أُرسلكم كذلك. وأتمنى أن تحبوا وتثقوا ببعضكم البعض. لم يعد يوداص معكم لأن محبته غدت باردة, ولأنه رفض أن يثق بكم, إخوانه المخلصين. ألم تقرأوا في الكتابات المقدسة حيث هو مكتوب: ’ليس من الجيد للإنسان أن يكون وحيدًا. لا إنسان يعيش لنفسه‘؟ وأيضاً حيث يقول: ’من يود أن يكون لديه أصدقاء يجب أن يُظهر نفسه ودوداً‘. وألم أرسلكم خارجاً لكي تُعَّلموا, اثنين واثنين, بحيث قد لا تصبحوا مستوحشين وتقعوا في أذية وبؤس العزلة؟ كذلك تعلمون جيداً بأني, عندما كنت في الجسد, لم أسمح لنفسي أن أكون وحيداً لفترات طويلة. من ذات البداية لرفقتنا كان لدي اثنين أو ثلاثة منكم إلى جانبي دائماً أو قريبين جداً مني حتى عندما كنت أتواصل مع الأب. ثقوا, إذن, وأفضوا إلى بعضكم البعض. وهذا هو الأمر الأكثر ضرورة حيث إني سأترككم هذا اليوم وحدكم في العالَم. لقد حانت الساعة؛ أنا على وشك أن أذهب إلى الأب."
193:3.3 (2055.3) عندما تكلم أومأ إليهم أن يأتوا معه, وقادهم خارجاً إلى جبل الزيتون, حيث ودعهم استعداداً لمغادرة يورانشيا. كانت هذه رحلة جليلة إلى جبل الزيتون. لم ينطق أي منهم بأي كلمة منذ مغادرتهم العلية حتى توقف يسوع معهم على جبل الزيتون.
193:4.1 (2055.4) لقد كان في الجزء الأول من رسالة السيد الوداعية لرُسله حين ألمحَ إلى خسارة يوداص واعتبر المصير المأساوي لزميلهم العامل الخائن بمثابة تحذير جاد من مخاطر العزلة الاجتماعية والأخوية. قد يكون من المفيد للمؤمنين, في هذا العصر وفي عصور مستقبلية, أن يستعرضوا بإيجاز أسباب سقوط يوداص في ضوء ملاحظات السيد وفي مشهد التنوير المتراكم للقرون اللاحقة.
193:4.2 (2055.5) حينما نتطلع إلى الوراء إلى هذه المأساة, ندرك بأن يوداص قد أخطأ, في المقام الأول, لأنه كان شخصية منعزلة بشكل ملحوظ, شخصية مغلقلة على ذاتها وبعيدة عن الاتصالات الاجتماعية العادية. لقد رفض بإصرار أن يثق في زملائه الرُسل, أو أن يتآخى معهم بحرية. لكن كونه نوعًا من الشخصية المنعزلة, بحد ذاته, ما كان ليسبب مثل هذا الأذى ليوداص لو لم يفشل أيضاً في أن يزداد في المحبة وينمو في النعمة الروحية. وبعد ذلك, كما لو أنه جعل أمراً رديئاً أسوأ, كان يضمر الضغائن بإصرار ورعى أعداء نفسانيين مثل الثأر والرغبة العامة في "التعادل" مع شخص ما من أجل كل خيَبات أمله.
193:4.3 (2056.1) هذا التركيب المؤسف من الخصائص الفردية والميول العقلية تآمر لتدمير رَجل حسن النية فشل في إخضاع هذه الشرور بالمحبة, والإيمان, والثقة. بأن يوداص لم يكن بحاجة ليذهب نحو الخطأ مبرهن حسناً بحالات توما ونثانئيل, كِلاهما قد لُعن بنفس هذا النوع من الريبة والإفراط الزائد للنزعة الفردية. حتى أندراوس ومتـّى كانت لديهما ميول كثيرة في هذا الاتجاه؛ لكن كل هؤلاء الرجال نموا بمرور الوقت, ليحبوا يسوع وزملائهم الرُسل أكثر, وليس أقل. لقد نموا في النعمة وفي معرفة الحق. أصبحوا على نحو متزايد أكثر ثقة بإخوانهم وطوروا ببطء المقدرة على استئمان زملائهم. رفض يوداص بإصرار أن يثق بإخوته. عندما كان مُكرَهاً, من خلال تراكم صراعاته العاطفية, لأن يلتمس الراحة في التعبير عن الذات, فقد سعى دائماً إلى الحصول على النصيحة وتلقى المواساة غير الحكيمة من أقاربه غير الروحيين أو أولئك المعارف بالصدفة الذين كانوا إما غير مبالين, أو معادين بالفعل, لرفاهية وتقدم الحقائق الروحية للملكوت السماوي, الذي إليه كان هو أحد السفراء الاثني عشر المكرسين على الأرض.
193:4.4 (2056.2) لقي يوداص الهزيمة في معاركه من الكفاح الأرضي بسبب العوامل التالية لميول الشخصية وضعف الطبع:
193:4.5 (2056.3) 1. كان نوعاً منعزلاً من البشر. كان فردياً للغاية واختار أن ينمو ليصبح شخصاً مُثـَّبَتاً "مُقفل عليه" ونوع من الشخص غير الاجتماعي.
193:4.6 (2056.4) 2. كطفل, كانت الحياة قد جُعلت سهلة جداً من أجله. استاء بمرارة من الإحباط. كان دائماً يتوقع الفوز؛ كان خاسراً رديئاً جداً.
193:4.7 (2056.5) 3. لم يكتسب قط تقنية فلسفية لمواجهة خيبة الأمل. بدلاً من قبول خيَبات الأمل كميزة عادية ومألوفة للوجود البشري, لجأ بلا كلل إلى ممارسة إلقاء اللوم على شخص ما على وجه الخصوص, أو زملائه كجماعة, من أجل كل مصاعبه وخيَبات أمله الشخصية.
193:4.8 (2056.6) 4. كان مُعطى إلى حمل الضغائن؛ كان دائماً يخالج فكرة الثأر.
193:4.9 (2056.7) 5. لم يكن يحب مواجهة الحقائق بصراحة؛ كان غير أمين في موقفه تجاه مواقف الحياة.
193:4.10 (2056.8) 6. لم يكن يحب مناقشة مشاكله الشخصية مع رفاقه المباشرين؛ رفض التحدث عن مصاعبه مع أصدقائه الحقيقيين وأولئك الذين أحبوه حقاً. في كل سنوات زمالتهم لم يذهب إلى السيد مرة واحدة بمشكلة شخصية بحتة.
193:4.11 (2056.9) 7. لم يتعلم أبداً أن المكافآت الحقيقية للعيش النبيل هي, بعد كل شيء, جوائز روحية, لا يتم توزيعها دائماً خلال هذه الحياة الواحدة القصيرة في الجسد.
193:4.12 (2056.10) كنتيجة لعزلته الشخصية المتشبثة, تضاعفت حسراته, وتزايدت أحزانه, وتكاثرت مخاوفه, وتعمق يأسه تقريباً إلى ما فوق التحمل.
193:4.13 (2057.1) بينما كان هذا الرسول المنطوي على الذات والفردي المتطرف يعاني من العديد من المشاكل النفسية, والعاطفية, والروحية, صعوباته الرئيسية كانت: في الشخصية, كان منعزلاً. في العقل, كان مرتاباً وثأرياً. في المزاج, كان فظاً وحقوداً. عاطفياً, كان بلا محبة وغير متسامح. اجتماعياً, كان لا يستأمن وتقريباً منطوي كلياً على نفسه. في الروح, أصبح متعجرفاً وطموحاً بأنانية. في الحياة, تجاهل أولئك الذين أحبوه؛ وفي الموت, كان بلا صديق.
193:4.14 (2057.2) هذه, إذن, هي عوامل العقل وتأثيرات الشر التي, إذا أُخذت مجتمعة, تفـَّسِر لماذا مؤمن في يسوع حسن النية وسوى ذلك مُخْلص في وقت ما, حتى بعد عدة سنوات من الارتباط الحميم مع شخصيته المُحولة, هجر زملاءه, وتبرأ من قضية مقدسة, ونبذ دعوته المقدسة, وخان سيده الإلَهي.
193:5.1 (2057.3) لقد كان حوالي الساعة السابعة والنصف من صباح هذا الخميس, 18 أيار, عندما وصل يسوع على السفح الغربي لجبل الزيتون مع رُسله الأحد عشر الصامتين والمذهلين إلى حد ما. من هذا الموقع, حوالي ثلثي الطريق إلى أعلى الجبل, كان بإمكانهم أن يطلوا على أورشليم ونزولاً على الجثسيماني. استعد يسوع الآن ليقول وداعه الأخير للرُسل قبل أن يُغادر يورانشيا. وفيما هو واقف هناك أمامهم, دون أن يكونوا موَّجَهين ركعوا حوله في دائرة, وقال السيد:
193:5.2 (2057.4) "أدعوكم إلى البقاء في أورشليم إلى أن تُمنحوا قدرة من العُلى. أنا الآن على وشك أن أستأذنكم؛ على وشك أن أصعد إلى أبي, وقريباً, قريباً جداً, سنرسل روح الحق إلى عالم حلولي هذا؛ وعندما يأتي, ستبدأون الإعلان الجديد لإنجيل الملكوت, أولاً في أورشليم, ثم إلى أقصى أنحاء العالَم. احبوا الناس بالمحبة التي أحببتكم بها واخدموا زملاءكم البشر حتى كما خدمتكم. بثمار الروح لمعايشكم تُحفزون النفوس إلى الإيمان بحقيقة أن الإنسان هو ابن الله, وأن كل الناس هم إخوة. تذكَّروا كل ما علمتكم إياه والحياة التي عشتها بينكم. محبتي تظللكم, وروحي سيسكن معكم, وسلامي سيحل عليكم. وداعاً."
193:5.3 (2057.5) ولما قال السيد المورونشي هذا, اختفى عن أنظارهم. لم يكن هذا المسمى صعود يسوع مختلفًا بأي حال من الأحوال عن اختفاءاته الأخرى عن الرؤية البشرية خلال الأربعين يوماً لمهمته المورونشية على يورانشيا.
193:5.4 (2057.6) ذهب السيد إلى عدنشيا عن طريق جيروسِم, حيث الأعلون, تحت مراقبة ابن الفردوس, أخلوا يسوع الناصري من حالة المورونشيا, ومن خلال قنوات الروح للصعود, أعادوه إلى وضع بنوة الفردوس والسيادة العليا على ساﻟﭭينغتون.
193:5.5 (2057.7) لقد كان حوالي الساعة السابعة والدقيقة الخامسة والأربعين عندما اختفى يسوع المورونشي من ملاحظة رُسله الأحد عشر ليبدأ الصعود إلى يمين أبيه, هناك ليستلم تثبيتاً رسمياً لسيادته المكمَلة على كون نِبادون.
193:6.1 (2057.8) بناء على تعليمات بطرس, انطلق يوحنا مرقس وآخرون لدعوة كبار التلاميذ معاً في بيت مريم مرقس. بحلول الساعة العاشرة والنصف, كان مائة وعشرون من تلاميذ يسوع الأوائل الذين يعيشون في أورشليم قد تجَّمعوا معاً لسماع التقرير عن الرسالة الوداعية للسيد وليعلموا عن صعوده. بين هؤلاء كانت مريم والدة يسوع. كانت قد عادت إلى أورشليم مع يوحنا زَبـِدي عندما عاد الرُسل من مكوثهم الأخير في الجليل. بعد فترة وجيزة من العنصرة عادت إلى بيت صالومي في بيت-صيدا. كان يعقوب شقيق يسوع حاضراً أيضاً في هذا الاجتماع, أول مؤتمر لتلاميذ يسوع يتم استدعاؤه بعد انتهاء مهمته الكوكبية.
193:6.2 (2058.1) أخذ سمعان بطرس على عاتقه التحدث نيابة عن زملائه الرُسل وقدم تقريراً مثيراً للمشاعر عن اللقاء الأخير للأحد عشر مع سيدهم وبأكثر التأثير العاطفي صَّور وداع السيد الأخير واختفاءه بالصعود. لقد كان لقاء لم يحدث مثله أبداً من قبل على هذا العالَم. هذا الجزء من الاجتماع دام ليس بالتمام ساعة واحدة. أوضح بطرس بعد ذلك بأنهم قرروا اختيار خليفة ليوداص إسخريوط, وأنه سيتم منح فترة راحة لتمكين الرسل من الاختيار بين الرجلين اللذين تم اقتراحهما لهذا المنصب, ماثياس ويوستاس.
193:6.3 (2058.2) بعد ذلك نزل الرُسل الأحد عشر إلى الطابق السفلي, حيث اتفقوا على إلقاء قرعة من أجل تقرير مَن مِن هذين الرَجلين سيصبح رسولاً ليخدم في مكان يوداص. وقعت القرعة على ماثياس, وأُعلن أنه الرسول الجديد. تم تجنيده حسب الأصول في وظيفته ثم تم تعيينه أميناً للصندوق. لكن ماثياس كان له دور ضئيل في النشاطات اللاحقة للرُسل.
193:6.4 (2058.3) بعد فترة قصيرة من العنصرة عاد التوأم إلى بيوتهما في الجليل. كان سمعان زيلوطس في تقاعد لبعض الوقت قبل أن ينطلق ليعظ الإنجيل. قلق توما لفترة قصيرة ثم استأنف تعليمه. اختلف نثانئيل مع بطرس بشكل متزايد بشأن الوعظ عن يسوع بدلاً من إعلان إنجيل الملكوت السابق. أصبح هذا الخلاف حاداً للغاية بحلول منتصف الشهر التالي بحيث انسحب نثانئيل, متوجهًا إلى فيلادلفيا لزيارة أبنير ولِعازر وبعد أن مكث هناك لأكثر من عام, ذهب إلى الأراضي الواقعة وراء ما بين النهرين واعظاً الإنجيل كما فهمه.
193:6.5 (2058.4) لم يترك هذا سوى ستة من الرُسل الاثني عشر الأصليين ليصبحوا ممثلين لمرحلة التبشير المبكر للإنجيل في أورشليم: بطرس, وأندراوس, ويعقوب, ويوحنا, وفيليبُس, ومتـّى.
193:6.6 (2058.5) بالضبط حوالي الظُهر عاد الرُسل إلى إخوانهم في العلية وأُعلنوا بأن ماثياس قد تم اختياره كالرسول الجديد. وبعد ذلك دعا بطرس جميع المؤمنين لينشغلوا في الصلاة, بحيث قد يكونوا مستعدين لتلقي عطية الروح التي وعد السيد بإرسالها.
كِتاب يورانشيا
ورقة 194
194:0.1 (2059.1) في حوالي الساعة الواحدة, بينما كان المؤمنون المائة والعشرون منهمكين في الصلاة, أصبحوا جميعاً على دراية بحضور غريب في الغرفة. في نفس الوقت أصبح كل هؤلاء التلاميذ واعين لشعور جديد وعميق من الفرح, والأمان, والثقة الروحية. هذا الوعي الجديد للقوة الروحية تبعه في الحال دافع قوي للخروج والإعلان العلني لإنجيل الملكوت والبشارة بأن يسوع قام من الأموات.
194:0.2 (2059.2) وقف بطرس وأعلن أن هذا يجب أن يكون مجيء روح الحق الذي وعدهم السيد به واقترح بأن يذهبوا إلى الهيكل ويبدأوا في إعلان البشارة التي تم تسليمها إلى أياديهم. وفعلوا بالضبط ما اقترحه بطرس.
194:0.3 (2059.3) كان هؤلاء الرجال قد تم تدريبهم وتلقوا تعليمات بأن الإنجيل الذي ينبغي أن يعظوه هو أبوة الله وبنوة الإنسان, لكن في هذه اللحظة بالضبط من النشوة الروحية والنصر الشخصي, أفضل البشائر, أعظم الأخبار, التي استطاع هؤلاء الناس التفكير فيها كانت حقيقة السيد القائم. وهكذا انطلقوا, وقد وهبوا قدرة من العُلى, واعظين البشائر المبهجة للناس ــ حتى الخلاص من خلال يسوع ــ لكنهم تعثروا عن غير قصد في خطأ استبدال بعض من الحقائق المرتبطة بالإنجيل برسالة الإنجيل نفسها. استهل بطرس عن غير قصد هذا الخطأ, وتبع آخرون من بعده وصولاً إلى بولس, الذي خلق دِيناً جديداً من النص الجديد للبشارة.
194:0.4 (2059.4) إنجيل الملكوت هو: حقيقة أبوة الله, مقرونة بالحقيقة الناتجة لبنوة-أخوة الناس. المسيحية, كما تطورت منذ ذلك اليوم, هي: واقع الله كالأب للرب يسوع المسيح, بالإقتران مع تجربة زمالة المؤمن مع المسيح القائم والمُمَجَد.
194:0.5 (2059.5) ليس غريباً بأن يُمسك هؤلاء الرجال المشربين بالروح بهذه الفرصة للتعبير عن مشاعرهم بالانتصار على القوى التي سعت لإهلاك سيدهم ووضع حد لتأثير تعاليمه. في وقت مثل هذا كان من الأسهل أن يتذكروا ارتباطهم الشخصي بيسوع ويكونوا مغمورين بالسعادة للتأكيد بأن السيد لا يزال حياً, وبأن صداقتهم لم تنتهي, وبأن الروح قد حل عليهم بالفعل حتى كما وعد.
194:0.6 (2059.6) شعرَ هؤلاء المؤمنون بأنهم قد تُرجموا فجأة إلى عالَم آخر, وجود جديد من الفرح, والقدرة, والمجد. أخبرهم السيد بأن الملكوت سيأتي بقدرة, وفكـَّر بعضهم أنهم بدأوا يدركون ما كان يعنيه.
194:0.7 (2059.7) وعندما يؤخذ كل هذا في الاعتبار, فليس من الصعب أن نفهم كيف أتى هؤلاء الرجال ليعظوا بإنجيل جديد عن يسوع بدلاً من رسالتهم السابقة عن أبوة الله وأخوة الناس.
194:1.1 (2060.1) كان الرُسل مختبئين لأربعين يوماً. صادف أن يكون هذا اليوم هو عيد العنصرة اليهودي, وكان آلاف الزوار من كل أنحاء العالَم في أورشليم. وصل الكثيرون لحضور هذا العيد, لكن الغالبية توانوا في المدينة منذ عيد الفصح. الآن برز هؤلاء الرُسل الخائفون من أسابيع عزلتهم ليظهروا بجرأة في الهيكل, حيث بدأوا في وعظ الرسالة الجديدة للمسيح القائم. وكان جميع التلاميذ واعين بالمثل لاستلامهم هبة روحية جديدة ما من البصيرة والقدرة.
194:1.2 (2060.2) لقد كان حوالي الساعة الثانية عندما وقف بطرس في ذلك المكان بالذات حيث علـَّم سيده آخر مرة في هذا الهيكل, وألقى ذلك النداء الحماسي الذي أدى إلى كسب أكثر من ألفي نفـْس. لقد رحل السيد, لكنهم اكتشفوا فجأة بأن هذه القصة عنه كان لها قوة عظيمة مع الناس. لا عجب أنهم انقادوا إلى المزيد من الإعلان لما برر إخلاصهم السابق ليسوع وفي نفس الوقت أجبروا الناس على الإيمان به. شارك ستة من الرُسل في هذا الاجتماع: بطرس, وأندراوس, ويعقوب, ويوحنا, وفيليبُس, ومتـّى. تكلموا لأكثر من ساعة ونصف وقاموا بتسليم رسائل باليونانية, والعبرية, والأرامية. بالإضافة إلى كلمات قليلة حتى في لغات أخرى كان لديهم إلمام بها.
194:1.3 (2060.3) كان قادة اليهود مذهولين من جسارة الرُسل, لكنهم كانوا يخشون التعرض لهم بسبب الأعداد الكبيرة التي صدَّقت قصتهم.
194:1.4 (2060.4) بحلول الساعة الرابعة والنصف تبع أكثر من ألفي مؤمن جديد الرُسل نزولاً إلى بـِركة سِلوام, حيث عمدهم باسم السيد كل من بطرس, وأندراوس, ويعقوب, ويوحنا. وكان الظلام قد حلّ عندما انتهوا من تعميد هذا الجمهور.
194:1.5 (2060.5) كان عيد العنصرة المهرجان الكبير للمعمودية, الوقت من أجل زمالة المهتدين عند البوابة, أولئك الأمميين الذين رغبوا أن يخدموا يهوه. لذلك, كان من الأسهل, لأعداد كبيرة من اليهود والأمميين المؤمنين على حد سواء أن يخضعوا للمعمودية في هذا اليوم. بفعلهم هذا, لم يفصلوا أنفسهم بأي حال من الأحوال عن العقيدة اليهودية. حتى لبعض الوقت بعد هذا كان المؤمنون بيسوع طائفة داخل الدِين اليهودي. كانوا جميعاً, بما فيهم الرُسل, لا يزالون موالين للمتطلبات الأساسية للنظام الإحتفالي اليهودي.
194:2.1 (2060.6) عاش يسوع على الأرض وعلـَّم إنجيلاً فدي الإنسان من خرافة أنه كان ولداً للشيطان ورفعه إلى كرامة ابن إيمان لله. كانت رسالة يسوع, كما وعظها وعاشها في يومه, مذيباً فعّالاً لصعوبات الإنسان الروحية في ذلك اليوم من بيانها. والآن بحيث أنه شخصياً قد غادر العالَم, فهو يرسل في مكانه روح الحق, الذي صُمم ليعيش في الإنسان, ومن أجل كل جيل جديد, ليعيد تأكيد رسالة يسوع بحيث سيكون لدى كل جماعة جديدة من البشر تظهر على وجه الأرض نصاً جديداً وعصرياً من الإنجيل, بالضبط هكذا تنوير شخصي وإرشاد جماعي كما سيبرهن ليكون مذيباً فعّالاً لصعوبات الإنسان الروحية الدائمة التجدد والتنوع.
194:2.2 (2060.7) المهمة الأولى لهذا الروح هي, بطبيعة الحال, لتعزيز الحق وإضفاء الطابع الشخصي عليهً, لأن استيعاب الحق هو ما يُشكل أعلى شكل من أشكال الحرية الإنسانية. تالياً, إن هدف هذا الروح هو تدمير شعور المؤمن باليُتم. بعد أن كان يسوع بين الناس, كان جميع المؤمنين سيختبرون شعوراً بالوحدة لو لم يأتي روح الحق ليسكن في قلوب الناس.
194:2.3 (2061.1) هذا الإغداق لروح الابن أعد بشكل فعّال جميع أذهان البشر العاديين للإغداق الكوني اللاحق لروح الأب (الضابط) على البشرية جمعاء. في مغزى معين, فإن روح الحق هذا هو روح كل من الأب الكوني, والابن الخالق.
194:2.4 (2061.2) لا ترتكب خطأ التوقع أن تصبح واعياً فكرياً بقوة لروح الحق المتدفق. لا يخلق الروح أبداً وعياً عن نفسه, فقط وعي ميخائيل, الابن. منذ البداية علـَّم يسوع بأن الروح لن يتكلم عن نفسه. وبالتالي, فإن الدليل, على زمالتك مع روح الحق ليس ليُعثر عليه في وعيك بهذا الروح بل بالأحرى في تجربتك بالزمالة المعززة مع ميخائيل.
194:2.5 (2061.3) جاء الروح أيضاً لمساعدة الناس على تذكر وفهم كلمات السيد وكذلك لإلقاء الضوء على حياته على الأرض وإعادة تفسيرها.
194:2.6 (2061.4) بعد ذلك, جاء روح الحق لمساعدة المؤمن على الشهادة لحقائق تعاليم يسوع وحياته كما عاشها في الجسد, وكما يعيشها الآن مرة أخرى ومن جديد في المؤمن الفرد من كل جيل يمر من أبناء الله المملوئين بالروح.
194:2.7 (2061.5) هكذا يبدو بأن روح الحق يأتي حقاً ليقود جميع المؤمنين نحو كل الحق, نحو كل معرفة متنامية لتجربة الوعي الروحي الحي والمتنامي لواقع البنوة الأبدية والصاعدة مع الله.
194:2.8 (2061.6) عاش يسوع حياة هي كشف للإنسان خاضع لمشيئة الأب, وليس مثالاً لأي شخص ليحاول اتباعه حرفياً. هذه الحياة في الجسد, إلى جانب موته على الصليب وقيامته اللاحقة, أصبحت حالياً إنجيلاً جديداً للفدية التي تم دفعها بالتالي لإعادة شراء الإنسان من قبضة الشرير ــ من دينونة إله مُغتاظ. مع ذلك, ولو إن الإنجيل قد أصبح مشوهاً إلى حد كبير, إلا أنه يبقى واقع بأن هذه الرسالة الجديدة عن يسوع حملت معها العديد من التعاليم والحقائق الأساسية من إنجيله الباكر عن الملكوت. وعاجلاً أم آجلاً, ستظهر هذه الحقائق المخفية عن أبوة الله وأخوة الناس لتحَّول حضارة البشرية جمعاء بشكل فعال.
194:2.9 (2061.7) لكن أخطاء الفكر هذه لم تتدخل بأي شكل من الأشكال في التقدم العظيم للمؤمن في نمو الروح. في أقل من شهر بعد إغداق روح الحق, حقق الرُسل تقدماً روحياً فردياً أكثر مما في خلال ما يقرب من أربع سنوات من الارتباط الشخصي والمحب بالسيد. كما أن هذا الاستبدال لواقع قيامة المسيح مقابل حقيقة الإنجيل المخَّلِص عن البنوة مع الله لم يتعارض بأي شكل من الأشكال مع الانتشار السريع لتعاليمهم؛ على العكس, فإن هذا التعتيم على رسالة يسوع بالتعاليم الجديدة حول شخصه وقيامته بدت لتسَّهل إلى حد كبير وعظ البشائر.
194:2.10 (2061.8) مُصطلح "معمودية الروح" الذي جاء في مثل هذا الاستخدام العام حوالي هذا الوقت, دل فقط على الاستلام الواعي لعطية روح الحق هذه والإقرار الشخصي بهذه القدرة الروحية الجديدة كتعزيز لكل التأثيرات الروحية التي اُختُبرت سابقاً بنفوس تعرف الله.
194:2.11 (2061.9) منذ إغداق روح الحق, يخضع الإنسان لتعليم وإرشاد هبة روح ثلاثية الثنايا: روح الأب, ضابط الفكر؛ وروح الابن, روح الحق؛ وروح الروح, الروح القدس.
194:2.12 (2062.1) بطريقة ما, تخضع البشرية للتأثير المزدوج للمناشدة سباعية الثنايا لتأثيرات روح الكون. تخضع الأجناس التطورية المبكرة للبشر للتواصل التقدمي لأرواح العقل المعاونة السبعة لروح أُم الكون المحلي. بينما يتقدم الإنسان صعوداً في سلم الذكاء والإدراك الروحي, هناك تأتي في النتيجة لتحوم فوقه وتسكن بداخله تأثيرات الروح الأعلى السبعة. وهذه الأرواح السبعة للعوالم المتقدمة هي:
194:2.13 (2062.2) 1. روح الإغداق للأب الكوني ــ ضباط الفكر.
194:2.14 (2062.3) 2. حضور الروح للابن الأبدي ــ جاذبية الروح لكون الأكوان والقناة الأكيدة لكل مخالطة روحية.
194:2.15 (2062.4) 3. حضور الروح للروح اللانهائي ــ عقل الروح الكوني لكل الخليقة, المصدر الروحي للقرابة الفكرية لجميع الذكاءات التقدمية.
194:2.16 (2062.5) 4. روح الأب الكوني والابن الخالق ــ روح الحق, المُعتبَر بشكل عام كروح ابن الكون.
194:2.17 (2062.6) 5. روح الروح اللانهائي والروح الأم للكون ــ الروح القدس, الذي يعتبر بشكل عام كروح روح الكون.
194:2.18 (2062.7) 6. روح العقل الروح الأم للكون ــ أرواح العقل المعاونة السبعة للكون المحلي.
194:2.19 (2062.8) 7. روح الأب, والأبناء, والأرواح ــ روح الاسم الجديد للبشر الصاعدين من العوالم بعد انصهار النفـْس الفانية المولودة بالروح مع ضابط الفكر الفردوسي وبعد الإحراز اللاحق لألوهية وتمجيد وضع سِلك النهائية الفردوسي.
194:2.20 (2062.9) وهكذا جلب إغداق روح الحق للعالَم وشعوبه الأخير من هبة الروح المصممة للمساعدة في البحث الارتقائي عن الله.
194:3.1 (2062.10) أصبحت الكثير من التعاليم الغريبة والمشبوهة مرتبطة بالروايات المبكرة ليوم العنصرة. في أزمنة لاحقة, أحداث هذا اليوم, حيث جاء روح الحق, المعلم الجديد, ليسكن مع البشر, أصبحت مُربكة مع الاندلاعات الحمقاء لانفعالات هائجة. المهمة الرئيسية لهذا الروح المُنسكب من الأب والابن هو تعليم الناس حقائق محبة الأب ورحمة الابن. هذه هي حقائق الألوهية التي يمكن للإنسان أن يفهمها بشكل كامل أكثر من كل سمات السجية الإلهية الأخرى. يهتم روح الحق في المقام الأول بكشف طبيعة روح الأب والطبع الأخلاقي للابن. الابن الخالق, في الجسد, كشف الله إلى الناس؛ وروح الحق, في القلب, يكشف الابن الخالق للناس. عندما ينتج الإنسان "ثمار الروح" في حياته, فإنه ببساطة يُظهر السِمات التي أظهرها السيد في حياته الخاصة على الأرض. عندما كان يسوع على الأرض, عاش حياته كشخصية واحدة ــ يسوع الناصري. بصفته الروح الساكن "للمعلم الجديد", تمكن السيد منذ العنصرة, من أن يعيش حياته من جديد في تجربة كل مؤمن متعلم-للحق.
194:3.2 (2062.11) العديد من الأشياء التي تحدث في سياق حياة الإنسان يصعب فهمها, يصعب التوفيق بينها وبين فكرة أن هذا كون يسود فيه الحق وينتصر فيه البر. غالباً ما يبدو بأن الافتراء, والأكاذيب, وعدم الأمانة, والإثم ــ الخطيئة ــ تسود. هل ينتصر الإيمان, بعد كل شيء, على الشر, والخطيئة, والإثم؟ نعم هو كذلك. وحياة وموت يسوع هما البرهان الأبدي بأن حقيقة الصلاح وإيمان المخلوق الذي يُقاد بالروح ستُثبت دائماً. عيَّروا يسوع على الصليب قائلين: "لنرى إذا كان الله سيأتي ويخلصه". لقد بدا الأمر مُظلماً على ذلك اليوم للصَلب, لكنه كان مضيئاً بشكل مجيد على صباح القيامة؛ كان لا يزال أكثر إشراقاً وأكثر فرحاً على يوم العنصرة. أديان اليأس المتشائم تسعى للإفلات من أعباء الحياة؛ تشتهي الإبادة في راحة وسُبات لا ينتهيان. هذه هي أديان الرهبة والخوف البدائي. دِين يسوع هو إنجيل جديد للإيمان ليُعلـَن لبشرية مكافحة. هذا الدِين الجديد مؤسس على الإيمان, والرجاء, والمحبة.
194:3.3 (2063.1) بالنسبة ليسوع, سددت الحياة الفانية ضرباتها الأصلب, والأقسى, والأمَر؛ وقد قابل هذا الإنسان إسعافات اليأس هذه بإيمان, وشجاعة, وتصميم لا يتزعزع لفعل مشيئة أبيه. لاقى يسوع الحياة بكل واقعها الرهيب واتقنها ــ حتى في الموت. لم يستخدم الدِين كإفلات من الحياة. لا يسعى دين يسوع للهروب من هذه الحياة من أجل الاستمتاع بنعيم الإنتظار لوجود آخر. دِين يسوع يزود الفرح والسلام لوجود آخر وروحي لتعزيز وتشريف الحياة التي يعيشها الناس الآن في الجسد.
194:3.4 (2063.2) إذا كان الدِين أفيون الشعوب, فليس هو دِين يسوع. رفض على الصليب أن يشرب المخدر المميت, وروحه, المنسكبة على كل جسد, هي تأثير عالمي عظيم يقود الإنسان صعوداً ويحثه على المضي قدمًا. الدافع الروحي إلى الأمام هو أقوى قوة دافعة موجودة في هذا العالم؛ المؤمن المتعلم-للحق هو النفـْس التقدمية والمغامرة على الأرض.
194:3.5 (2063.3) على يوم العنصرة كسر دِين يسوع كل القيود القومية والأغلال العِرقية. إنه صحيح إلى الأبد, "حيث تكون روح الرب, هناك حرية." على هذا اليوم أصبح روح الحق الهدية الشخصية من السيد لكل إنسان. تم إغداق هذا الروح لغرض تأهيل المؤمنين ليعظوا إنجيل الملكوت بشكل أكثر فاعلية, لكنهم أخطأوا في تجربة استلام الروح المسكوب من أجل جزء من الإنجيل الجديد الذي كانوا يصيغونه دون وعي.
194:3.6 (2063.4) لا تغفل عن حقيقة أن روح الحق قد أُغدق على كل المؤمنين المخلصين؛ هدية الروح هذه لم تأت فقط إلى الرُسل. المائة وعشرون رَجلاً وامرأة الذين كانوا متجمعين في العلية جميعهم استلموا المعلم الجديد, كما فعل كل الأمناء في القلب في جميع أنحاء العالَم. لقد أُغدق هذا المعلم الجديد على جنس الإنسان, وكل نفس استلمته وفقاً لمحبة الحقيقة والقدرة على إدراك الحقائق الروحية وفهمها. أخيراً, تم تخليص دِين حقيقي من وصاية الكهنة وجميع الطبقات المقدسة ووجد تجليه الحقيقي في نفوس الناس الأفراد.
194:3.7 (2063.5) دِين يسوع يرعى أعلى شكل من الحضارة الإنسانية في أنه يخلق أعلى نوع من الشخصية الروحية ويعلن قدسية ذلك الشخص.
194:3.8 (2063.6) لقد أتاح مجيء روح الحق في يوم العنصرة ديناً ليس متطرفاً ولا محافظاً؛ إنه ليس القديم ولا الجديد, إنه ليس ليسيطر عليه الكبار ولا الشباب. توفر حقيقة حياة يسوع الأرضية نقطة ثابتة لمرساة الزمان, في حين أن إغداق روح الحق يزود من أجل التوسع الأبدي والنمو الذي لا نهاية له للدِين الذي عاشه والإنجيل الذي أعلنه. الروح يهدي إلى كل الحق؛ إنه المعلم لدِين آخذ في الإتساع ودائم النمو من التقدم الذي لا نهاية له والتكشف الإلهي. هذا المعلم الجديد سوف يكشف إلى الأبد للمؤمن الباحث عن الحق ما تم طيه إلَهياً للغاية في شخص وطبيعة ابن الإنسان.
194:3.9 (2064.1) التجليات المرتبطة بإغداق "المعلم الجديد", واستلام الوعظ من الرُسل من قِبل أناس من مختلف الأُمم والأجناس المجتمعين معاً في أورشليم. تشير إلى عالمية دِين يسوع. لم يكن إنجيل الملكوت ليُتعرف عليه مع جنس خاص, أو حضارة خاصة, أو لغة خاصة. شهد يوم العنصرة هذا الجهد العظيم للروح لتحرير دِين يسوع من قيوده اليهودية الموروثة. حتى بعد هذا الإيضاح لانسكاب الروح على كل جسد, سعى الرُسل في البداية إلى فرض متطلبات الدِين اليهودي على مهتديهم. حتى بولس واجه مشكلة مع إخوانه في أورشليم لأنه رفض أن يُخضع الأمميين لهذه الممارسات اليهودية. لا يمكن لأي دِين وحي أن ينتشر في جميع أنحاء العالَم عندما يرتكب الخطأ الفادح بأن يصبح متخَللاً بحضارة قومية ما أو مُرتبط بممارسات عرقية, أو اجتماعية, أو اقتصادية قائمة.
194:3.10 (2064.2) كان إغداق روح الحق مستقلاً عن جميع الأشكال, والطقوس, والأماكن المقدسة, والسلوك الخاص من قبل أولئك الذين تلقوا ملء تجليه. عندما أتى الروح على أولئك المتجمعين في العلية, كانوا ببساطة جالسين هناك, وقد انخرطوا للتو في صلاة صامتة. تم إغداق الروح في الريف كما في المدينة. لم يكن من الضروري أن يذهب الرُسل على حدة إلى مكان منعزل لسنوات من التأمل الإنفرادي من أجل استلام الروح. من أجل كل زمن, تفصل العنصرة فكرة التجربة الروحية عن مفهوم البيئات المؤاتية بشكل خاص.
194:3.11 (2064.3) العنصرة, مع منحتها الروحية, كانت مصممة لتفك إلى الأبد دِين السيد من كل اعتماد على القوة الجسدية؛ معلمو هذا الدِين الجديد مجهزون الآن بأسلحة روحية. عليهم أن يخرجوا لغزو العالَم بغفران لا ينضب, وحسن نية لا مثيل له, ومحبة وافرة. إنهم مُجهَزون للتغلب على الشر بالخير, لقهر الكراهية بالمحبة, لتدمير الخوف بإيمان شجاع وحي في الحق. علـَّم يسوع بالفعل أتباعه بأن دِينه لم يكن سلبياً على الإطلاق؛ دائماً كان على تلاميذه أن يكونوا نشطين وإيجابيين في إسعافهم للرحمة وفي تجلياتهم للمحبة. لم يعد هؤلاء المؤمنون ينظرون إلى يهوه على أنه "رب الجنود". لقد اعتبروا الآن الإلَه الأبدي على أنه "ا إله وأب الرب يسوع المسيح." لقد حققوا ذلك التقدم, على الأقل, حتى لو فشلوا كلياً إلى حد ما في إدراك حقيقة أن الله هو أيضًا الأب الروحي لكل فرد.
194:3.12 (2064.4) منحت العنصرة الإنسان الفاني القدرة على مسامحة الأذى الشخصي, والبقاء لطيفاً في وسط أخطر الظلم, وأن يبقى غير مُتأثر في وجه الخطر المريع, وتحدي شرور الكراهية والغضب بأعمال جريئة من المحبة والصبر. لقد مرَّت يورانشيا خلال ويلات حروب مدمرة وكبيرة في تاريخها. كل المشاركين في هذه الصراعات المريعة واجهوا الهزيمة. لم يكن هناك سوى منتصر واحد؛ كان هناك واحد فقط الذي خرج من هذه النضالات المريرة بسمعة مُعززة ــ ذلك كان يسوع الناصري وإنجيله من التغلب على الشر بالخير. إن السِر لحضارة أفضل مرتبط بتعاليم السيد عن أخوة الإنسان, وحسن النية من المحبة والثقة المتبادلة.
194:3.13 (2065.1) حتى العنصرة, كشف الدِين فقط الإنسان يبحث عن الله؛ منذ العنصرة لا يزال الإنسان يبحث عن الله, لكن هناك يضيء على كل العالَم مشهد الله يبحث أيضًا عن الإنسان ويرسل روحه لتسكن فيه متى ما وجده.
194:3.14 (2065.2) قبل تعاليم يسوع التي بلغت ذروتها في العنصرة, كان للنساء مكانة روحية ضئيلة أو معدومة في معتقدات الديانات الأقدم. بعد العنصرة, وقفت المرأة في أخوة الملكوت أمام الله على قدم المساواة مع الرَجل. بين المائة والعشرين الذين استلموا هذا الافتقاد الخاص للروح كانت كثيرات من التلامذة النساء, وقد شاركن هذه البركات بالتساوي مع المؤمنين الرجال. لم يعد بإمكان الرَجل أن يزعم احتكار إسعاف الخدمة الدِينية. قد يستمر الفريسي في شكر الله على أنه لم "يولد امرأة, أو أبرص, أو أممي", لكن بين أتباع يسوع تحررت المرأة إلى الأبد من جميع أشكال التمييز الديني المؤسس على الجنس. محت العنصرة كل تمييز دِيني مؤسس على الامتياز العنصري, أو الإختلافات الثقافية, أو الطبقة الاجتماعية, أو التحيز الجنسي. لا عجب أن يصرخ هؤلاء المؤمنون بالدِين الجديد عالياً, "حيث يكون روح الرب, هناك حرية."
194:3.15 (2065.3) كِلا أُم وشقيق يسوع كانا حاضرين بين المائة والعشرين مؤمنًا, وكأعضاء في هذه الجماعة المشتركة من التلاميذ, استلما أيضًا الروح المنسكب. لم يستلما من الهبة الصالحة أكثر مما استلم زملائهما. لم تُمنح أي هدية خاصة لأفراد عائلة يسوع الأرضية. دمغت العنصرة نهاية الكهنوت الخاص وكل اعتقاد في الأسر المقدسة.
194:3.16 (2065.4) قبل العنصرة كان الرُسل قد استغنوا عن الكثير من أجل يسوع. لقد ضحوا ببيوتهم, وعائلاتهم, وأصدقائهم, وخيراتهم الدنيوية, ومراكزهم. عند العنصرة أعطوا أنفسهم لله, واستجاب الأب والابن بإعطاء أنفسهما للإنسان, باعثين أرواحهم لتسكن داخل الناس. هذه التجربة لخسارة النفس وإيجاد الروح لم تكن تجربة عاطفية؛ لقد كانت عملاً من إخضاع الذات الذكي والتكريس بدون تحفظ.
194:3.17 (2065.5) كانت العنصرة الدعوة إلى الوحدة الروحية بين مؤمني الإنجيل. عندما نزل الروح على التلاميذ في أورشليم, حدث الشيء نفسه في فيلادلفيا, والإسكندرية, وفي جميع الأماكن الأخرى حيث سكن مؤمنون صادقون. كان حرفياً من الصحيح أنه "كان هناك فقط قلب واحد ونفـْس واحدة بين جموع المؤمنين." دين يسوع هو أقوى تأثير موحد عرفه العالم على الإطلاق.
194:3.18 (2065.6) كانت العنصرة مُصَمَمَة لتقليل تأكيد الذات لدى الأفراد, والجماعات, والأُمم, والأجناس. إنه هذا الروح من تأكيد الذات الذي يزيد للغاية من حدة التوتر الذي يندلع بشكل دوري في حروب مدمرة. يمكن للبشرية أن تتوحد فقط من خلال النهج الروحي, وروح الحق هو تأثير عالمي الذي هو كوني.
194:3.19 (2065.7) إن مجيء روح الحق ينقي قلب الإنسان ويقود المستلم إلى صياغة هدف حياة فردية لمشيئة الله ورفاهية الناس. لقد تم ابتلاع الروح المادي للأنانية في هذا الإغداق الروحي الجديد المتمثل في نكران الذات. العنصرة, آنذاك والآن, تعني بأن يسوع التاريخي قد أصبح الابن الإلَهي للتجربة الحية. إن فرح هذا الروح المتدفق, عندما يتم اختباره بوعي في حياة الإنسان, هو مُنشط للصحة, ومحفز للعقل, وطاقة لا تنضب للنفـْس.
194:3.20 (2065.8) الصلاة لم تجلب الروح في يوم العنصرة, لكن كان لها علاقة كبيرة في تحديد قدرة الإستلام التي ميزت المؤمنين الأفراد. الصلاة لا تحرك القلب الإلَهي إلى تحرر الإغداق, لكنها غالبًا ما تحفر قنوات أوسع وأعمق حيث قد تتدفق الإغداقات الإلهية إلى قلوب ونفوس أولئك الذين يتذكرون بالتالي الحفاظ على تواصل غير منقطع مع صانعهم من خلال الصلاة المُخلِصة والعبادة الحقة.
194:4.1 (2066.1) عندما تم القبض على يسوع فجأة من قِبل أعدائه وصُلب بسرعة بين لصين, أصيب رُسله وتلاميذه بالإحباط التام. فكرة أن السيد, قد أُلقي القبض عليه, ورُبط, وعُذب, وصُلب, كانت أكثر من اللازم حتى للرُسل. لقد نسوا تعاليمه وتحذيراته. ربما كان في الواقع, "نبياً قديراً في المأثرة والكلمة أمام الله وجميع الناس ", لكنه بالكاد كان المسيح الذي كانوا يأّملون أن يستعيد مملكة إسرائيل.
194:4.2 (2066.2) ثم تأتي القيامة, مع خلاصها من اليأس وعودة إيمانهم بألوهية السيد. مراراً وتكراراً يرونه ويتحدثون معه, ويأخذهم خارجاً على جبل الزيتون, حيث يودَّعهم ويخبرهم أنه سيعود إلى الأب. لقد أخبرهم أن يمكثوا في أورشليم إلى أن يتم منحهم القدرة ــ إلى أن يأتي روح الحق. وعلى يوم العنصرة يأتى هذا المعلم الجديد, ويخرجون في الحال ليعظوا إنجيلهم بقدرة جديدة. إنهم أتباع جسورين وشجعان لرب حي, ليس لقائد ميت ومنهزم. السيد يعيش في قلوب هؤلاء الإنجيليين؛ الله ليس عقيدة في أذهانهم؛ لقد أصبح حضوراً حياً في نفوسهم.
194:4.3 (2066.3) "يوماً بعد يوم استمروا بثبات وباتفاق واحد في الهيكل ويكسرون الخبز في البيت. تناولوا طعامهم ببهجة ووحدة قلب, وحمدوا الله ولديهم حظوة مع كل الناس. كانوا جميعاً مملوءين بالروح, وقالوا كلمة الله بجرأة. وكانت جموع أولئك المؤمنين بقلب واحد ونفـْس واحدة؛ ولم يقل أحداً منهم بأن أي شيء من الأشياء التي يملكها كانت خاصته, وكانت لديهم كل الأشياء مشتركة."
194:4.4 (2066.4) ما حدث لهؤلاء الرجال الذين عيَّنهم يسوع لينطلقوا واعظين إنجيل الملكوت, أبوة الله وأخوة الإنسان؟ لديهم إنجيل جديد؛ إنهم يشتعلون بتجربة جديدة؛ إنهم ممتلئون بطاقة روحية جديدة. لقد تحولت رسالتهم فجأة إلى الإعلان عن يسوع القائم: "يسوع الناصري, رَجل وافقه الله بأعمال قديرة وعجائب؛ هو, كائن مُرسل بمشورة الله الحاسمة وعلمه المسبق, أنتم صلبتموه وقتلتموه. الأشياء التي أنذر الله بها من فم جميع الأنبياء, هو هكذا أتمها. يسوع هذا قد أقامه الله. جعله الله معاً رباً ومسيحاً. كائن, بيد الله اليمنى, مُمَجد وكونه قد استلم من الأب وعد الروح, هو قد سكب هذا الذي ترونه وتسمعونه, توبوا, بحيث قد تُمحى خطاياكم؛ بحيث قد يرسل الأب المسيح, الذي عُيّن من أجلكم, حتى يسوع, الذي يجب أن تستلمه السماء حتى أوقات تجديد كل الأشياء."
194:4.5 (2066.5) إنجيل الملكوت, رسالة يسوع, تم تغييره فجأة إلى إنجيل الرب يسوع المسيح. لقد أعلنوا الآن وقائع حياته, وموته, وقيامته وبشروا بأمل رجوعه السريع إلى هذا العالَم ليُنهي العمل الذي بدأه. هكذا كانت رسالة المؤمنين الأوائل تتعلق بالوعظ بحقائق مجيئه الأول, وبتعليم رجاء مجيئه الثاني, وهو الحدث الذي ارتأوه قريب في متناول اليد.
194:4.6 (2067.1) كان المسيح على وشك أن يصبح عقيدة الكنيسة التي تتشكل بسرعة. يسوع يعيش؛ لقد مات من أجل الناس؛ أعطى الروح؛ إنه سيأتي مرة اخرى. ملأ يسوع كل أفكارهم وحدد كل مفهومهم الجديد عن الله وعن كل شيء آخر. كانوا متحمسين للغاية للعقيدة الجديدة بأن "الله هو أب الرب يسوع" ليكونوا مهتمين بالرسالة القديمة بأن "الله هو الأب المحب لجميع الناس", حتى لكل فرد واحد. صحيح, أن تجلي رائع للمحبة الأخوية والنوايا الحسنة لم يسبق له مثيل قد ظهر في هذه المجتمعات المبكرة من المؤمنين. لكنها كانت زمالة مؤمنين بيسوع, ليست زمالة أخوة في ملكوت عائلة الأب في السماء. لقد نشأت نواياهم الطيبة من المحبة الناشئة عن مفهوم إغداق يسوع وليس من التعرف على أخوة الإنسان الفاني. مع ذلك, كانوا مملوءين بالفرح, وعاشوا هذه المعايش الجديدة والفريدة بحيث انجذب كل الناس إلى تعاليمهم عن يسوع. لقد ارتكبوا خطأ فادحاً في استخدام التعليق الحي والتصويري على إنجيل الملكوت من أجل ذلك الإنجيل, لكن حتى ذاك مثـَّل أعظم دِين عرفه الجنس البشري على الإطلاق.
194:4.7 (2067.2) لا لبس في أن, زمالة جديدة كانت تنشأ في العالَم. "استمر الجموع الذين آمنوا بثبات في تعليم الرُسل وزمالتهم, وفي كسر الخبز, وفي الصلوات." دعوا بعضهم البعض إخوة وأخوات؛ وحَّيوا أحدهم الآخر بقبلة طاهرة؛ وأسعفوا إلى الفقراء. لقد كانت زمالة عيش وكذلك عبادة. لم يكونوا شيوعيين بموجب مرسوم لكن من خلال الرغبة في تقاسم خيراتهم مع زملائهم المؤمنين. توقعوا بثقة أن يسوع سيعود ليتم تأسيس ملكوت الأب خلال جيلهم. هذه المشاركة التلقائية للممتلكات الأرضية لم تكن ملمحاً مباشراً لتعليم يسوع؛ لقد حدثت لأن هؤلاء الرجال والنساء اعتقدوا بإخلاص للغاية وبثقة كبيرة أنه سيعود في أي يوم ليُنهي عمله وليتمم الملكوت. لكن النتائج النهائية لهذه التجربة الحسنة النية في المحبة الأخوية الطائشة كانت كارثية ومولدة للحزن. باع الآلاف من المؤمنين الغيورين ممتلكاتهم وتخلصوا من جميع سلع ثرواتهم الرأسمالية وأصولهم الإنتاجية الأخرى. مع مرور الوقت, جاءت الموارد المتناقصة للمسيحيين "المشاركة بالتساوي" إلى نهاية ــ لكن العالَم لم ينته. سرعان ما كان المؤمنون في إنطاكية يجمعون المال للحفاظ على رفقائهم المؤمنين في أورشليم من الجوع.
194:4.8 (2067.3) في هذه الأيام احتفلوا بعشاء الرب على منوال تأسيسه؛ أي أنهم, تجمعوا لتناول وجبة اجتماعية ذات زمالة جيدة وتناولوا القربان عند نهاية الوجبة.
194:4.9 (2067.4) في البداية عمَّدوا باسم يسوع؛ لقد مر ما يقرب من عشرين عامًا قبل أن يبدأوا ليعَّمدوا في "اسم الأب, والابن, والروح القدس." كانت المعمودية كل ما هو مطلوب من أجل القبول في زمالة المؤمنين. لم يكن لديهم أي تنظيم حتى ذلك الوقت؛ لقد كانت ببساطة أخوية يسوع.
194:4.10 (2067.5) كانت طائفة يسوع هذه تنمو بسرعة, ومرة أخرى لاحظهم الصدوقيون. كان الفريسيون منزعجين قليلاً من الوضع, حيث رأوا أن أيا من التعاليم لا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع مراعاة الشرائع اليهودية. لكن الصدوقيين بدأوا في وضع قادة طائفة يسوع في السجن إلى أن تم إجبارهم على الإذعان لقبول شورى أحد الحاخامات البارزين, غامالئيل, الذي نصحهم: "امتنعوا عن هؤلاء الناس واتركوهم وشأنهم, لأنه إذا كانت هذه الشورى أو هذا العمل من الناس, فسيتم إسقاطها؛ لكن إذا كانت من الله, فلن تكونوا قادرين على الإطاحة بهم, خشية أن تجدوا حتى أنكم تقاتلون ضد الله." قرروا اتباع مشورة غامالئيل, وتبع ذلك وقت من السلام والهدوء في أورشليم, الذي انتشر في أثنائه الإنجيل الجديد عن يسوع بسرعة.
194:4.11 (2068.1) وهكذا سار كل شيء على ما يرام في أورشليم حتى وقت قدوم اليونانيين بأعداد كبيرة من الإسكندرية. وصل اثنان من تلاميذ رودان إلى أورشليم وجعلا العديد من المهتدين من الهلنستيين. من بين مهتديهم الأوائل كان ستيفانوس وبارناباس. لم يكن لدى هؤلاء اليونانيين القادرين الكثير من وجهة النظر اليهودية, ولم يمتثلوا بشكل جيد لطريقة العبادة اليهودية وغيرها من الممارسات الاحتفالية. ولقد كانت أفعال هذين المؤمنين اليونانيين التي أنهت العلاقات السلمية بين أخوية يسوع والفريسيين والصدوقيين. بدأ ستيفانوس ورفيقه اليوناني في الوعظ أكثر كما علـَّم يسوع, وهذا أحضرهما نحو نزاع مباشر مع الحكام اليهود. في إحدى وعظات ستيفانوس العلنية, عندما وصل إلى الجزء غير المقبول من الخطاب, استغنوا عن جميع الإجراءات الشكلية للمحاكمة وباشروا في رجمه حتى الموت في الموقع.
194:4.12 (2068.2) بهذا أصبح ستيفانوس, قائد مستعمرة اليونانيين المؤمنين بيسوع في أورشليم, الشهيد الأول للإيمان الجديد والسبب المحدد للتنظيم الرسمي للكنيسة المسيحية المبكرة. هذه الأزمة الجديدة قوبلت بالاعتراف بأن المؤمنين لم يعد بإمكانهم الاستمرار كطائفة داخل الديانة اليهودية. اتفقوا جميعًا على وجوب فصل أنفسهم عن غير المؤمنين؛ وفي غضون شهر واحد من موت ستيفانوس, تم تنظيم الكنيسة في أورشليم تحت قيادة بطرس, وتم تنصيب يعقوب شقيق يسوع كرئيسها الفخري.
194:4.13 (2068.3) وبعد ذلك اندلعت الاضطهادات الجديدة التي لا هوادة فيها من قِبل اليهود, بحيث أن المعلمين النشطين للدِين الجديد عن يسوع, والذي سمي فيما بعد في أنطاكية بالمسيحية, انطلقوا إلى أطراف الإمبراطورية معلنين يسوع. في حمل هذه الرسالة, قبل وقت بولس, كانت القيادة في أيدي اليونانيين؛ وقد اتبع هؤلاء المبشرون الأوائل, مثلهم مثل الذين أتوا فيما بعد, مسار مسيرة الإسكندر في الأيام السابقة, ذاهبون بطريق غزه وصور إلى إنطاكية ثم عبر آسيا الصغرى إلى مقدونيا, وبعد ذلك استمراراً إلى روما وإلى أقصى أجزاء الإمبراطورية.
كِتاب يورانشيا
ورقة 195
195:0.1 (2069.1) كانت نتائج وعظ بطرس في يوم العنصرة بحيث تحدد السياسات المستقبلية, وتُقرر خطط غالبية الرُسل في جهودهم لإعلان إنجيل الملكوت. كان بطرس المؤسس الحقيقي للكنيسة المسيحية؛ حمل بولس الرسالة المسيحية إلى الأمميين, وحملها المؤمنون اليونانيون إلى الإمبراطورية الرومانية بأكملها.
195:0.2 (2069.2) مع أن العبرانيين المقيدين بالتقاليد والمُمتطين بالكهنة, كشعب, رفضوا قبول إما إنجيل يسوع عن أبوة الله وأخوة الإنسان أو إعلان بطرس وبولس لقيامة وصعود المسيح (المسيحية اللاحقة), وُجد أن بقية الإمبراطورية الرومانية تتقبل التعاليم المسيحية المتطورة. كانت الحضارة الغربية في هذا الوقت فكرية, ومرهقة بالحرب, ومتشككة جملةً في جميع أديان وفلسفات الكون القائمة. كان لشعوب العالَم الغربي, المنتفعة من الحضارة الإغريقية, تقاليد موقـَّرة لماضيٍ عظيم. كان بإمكانهم التفكير في ميراث إنجازات عظيمة في الفلسفة, والفن, والأدب, والتقدم السياسي. لكن مع كل هذه الإنجازات لم يكن لديهم دِين يُرضي-النفـْس. بقيت أشواقهم الروحية غير راضية.
195:0.3 (2069.3) على مثل هكذا مسرح للمجتمع البشري, اندفعت فجأة تعاليم يسوع, التي تم تبنيها في الرسالة المسيحية. وهكذا تم تقديم نظام جديد من المعيشة للقلوب الجائعة لهذه الشعوب الغربية. هذا الوضع عنى الصراع المباشر بين الممارسات الدِينية الأقدم والنسخة التي أضحت المسيحية لرسالة يسوع إلى العالَم. مثل هذا الصراع يجب أن يؤدي إما إلى نصر حاسم للجديد أو للقديم أو في درجة ما من التسوية. يُظهر التاريخ أن الصراع انتهى بحل وسط. افترضت المسيحية أن تحتضن الكثير جداً من أجل أي شعب واحد لاستيعابها في جيل واحد أو جيلين. لم تكن نداءً روحياً بسيطاً, مثلما قدَّم يسوع لنفوس الناس؛ لقد اتخذت في وقت مبكر موقفاً محدداً بشأن الطقوس الدِينية, والثقافة, والسِحر, والطب, والفن, والأدب, والشريعة, والحكومة, والأخلاق, وتنظيم الجنس, وتعدد الزوجات, وبدرجة محدودة, حتى العبودية. لم تأت المسيحية كمجرد دِين جديد ــ شيء كانت كل الإمبراطورية الرومانية وكل المشرق ينتظرونه ــ لكن كنظام جديد للمجتمع البشري. وعلى هذا النحو من الذريعة سرعان ما عجَّل التصادم الاجتماعي-الأخلاقي للعصور. مُثل يسوع, كما أُعيد تفسيرها من قبل الفلسفة اليونانية وتم إضفاء الطابع الاجتماعي عليها في المسيحية, تحدَّت الآن بجرأة تقاليد الجنس البشري المجسدة في آداب, وأخلاق, وأديان الحضارة الغربية.
195:0.4 (2069.4) في البداية, كسبت المسيحية كمهتدين فقط الطبقات الاقتصادية والاجتماعية الدنيا. لكن مع بداية القرن الثاني كان أفضل ما في الثقافة اليونانية الرومانية يتحول بشكل متزايد إلى هذا النظام الجديد من الإيمان المسيحي, هذا المفهوم الجديد لغرض العيش وهدف الوجود.
195:0.5 (2070.1) كيف استطاعت هذه الرسالة الجديدة ذات الأصل اليهودي, التي فشلت تقريباً في أرض مولدها, أن تستحوذ بغاية السرعة والفعالية على أفضل عقول الإمبراطورة الرومانية؟ كان انتصار المسيحية على الأديان الفلسفية والطوائف الباطنية يعود إلى:
195:0.6 (2070.2) 1. التنظيم. كان بولس مُنظماً عظيماً وحافظ خلفاؤه على الوتيرة التي وضعها.
195:0.7 (2070.3) 2. كانت المسيحية قد جُعلت هيلنستية تماماً. لقد احتضنت أفضل ما في الفلسفة اليونانية كما ضمت قشدة اللاهوت العبري.
195:0.8 (2070.4) 3. لكن أفضل ما في الأمر, أنها احتوت على مثال جديد وعظيم, صدى إغداق حياة يسوع وانعكاس رسالته عن الخلاص للبشرية جمعاء.
195:0.9 (2070.5) 4. كان القادة المسيحيون مستعدون لجعل مثل هذه التسويات مع الميثرانية بحيث تم كسب النصف الأفضل من أتباعها إلى الطائفة الإنطاكية.
195:0.10 (2070.6) 5. بالمثل قامت الأجيال التالية واللاحقة من القادة المسيحيين بحلول وسط إضافية مع الوثنية بحيث حتى الإمبراطور الروماني قسطنطين كُسب إلى الدِين الجديد.
195:0.11 (2070.7) لكن المسيحيين أبرموا صفقة ذكية مع الوثنيين من حيث أنهم تبنوا الطقوس الوثنية من الوثنيين بينما أجبروا الوثنيين على قبول النص الهيليني للمسيحية البولسية. لقد عقدوا صفقة أفضل مع الوثنيين مما فعلوا مع العقيدة الميثرانية, لكن حتى في تلك التسوية المبكرة فقد خرجوا أكثر من ظافرين بأنهم نجحوا في القضاء على الانحرافات الجسيمة وأيضًا العديد من الممارسات المشينة الأخرى للباطنية الفارسية.
195:0.12 (2070.8) بحكمة أو بغير حكمة, قام هؤلاء القادة الأوائل للمسيحية عمداً بتسويات لمُثُل يسوع في محاولة لإنقاذ وتعزيز العديد من أفكاره. وكانوا ناجحين بشكل بارز. لكن لا تُخطئ! فهذه المُثل العليا للسيد التي تعرضت للتسوية لا تزال كامنة في إنجيله, وفي نهاية المطاف ستؤكد سلطتها الكاملة على العالَم.
195:0.13 (2070.9) من خلال هذه الووثنة للمسيحية, كسب النظام القديم العديد من الانتصارات الطفيفة ذات الطابع الطقسي, لكن المسيحيين كسبوا الصدارة في أن:
195:0.14 (2070.10) 1. دُقت نوتة جديدة وأعلى بشكل هائل في الأخلاق البشرية.
195:0.15 (2070.11) 2. أُعطي مفهوم جديد وموسع للغاية عن الله إلى العالَم.
195:0.16 (2070.12) 3. أصبح الأمل في الخلود جزءًا من ضمان دِين مُعترف به.
195:0.17 (2070.13) 4. أُعطي يسوع الناصري لنفـْس الإنسان الجائعة.
195:0.18 (2070.14) الكثير من الحقائق العظيمة التي علمها يسوع كانت تقريباً قد ضاعت في هذه التسويات المبكرة, لكنها لا تزال هاجعة في هذا الدِين للمسيحية المتأثرة بالوثنية, والتي كانت بدورها النسخة البولسية لحياة وتعاليم ابن الإنسان. والمسيحية, حتى قبل أن تصبح متأثرة بالوثنية, كانت أولاً قد جُعلت هلنستية بالكامل. المسيحية تدين بالكثير, الكثير جداً, لليونانيين. لقد كان يونانيًا, من مصر, الذي وقف بغاية البطولة عند نيفيه وتحدى بلا خوف للغاية هذا التجمع لدرجة أنهم لم يتجرأوا على جعل مثل هذا المفهوم لطبيعة يسوع غامضاً بحيث ربما سيكون الحق الحقيقي لإغداقه في خطر الضياع إلى العالَم. كان اسم هذا اليوناني أثاناسيوس, ولو لم يكن لبلاغة هذا المؤمن ومنطقه, لكانت إقناعات آريوس قد انتصرت.
195:1.1 (2071.1) بدأت هلنة المسيحية بجدية في ذلك اليوم الحافل بالأحداث عندما وقف الرسول بولس أمام مجلس الأريوباغوس في أثينا وأخبر الأثينيين عن "الإله المجهول". هناك, تحت ظل الأكروبولِس, أعلن هذا المواطن الروماني لهؤلاء الإغريق نسخته عن الدِين الجديد الذي نشأ في أرض الجليل اليهودية. وكان هناك شيء ما مشابه بشكل غريب في الفلسفة اليونانية والعديد من تعاليم يسوع. كان لديهما هدف مشترك ــ كِلاهما يهدف إلى إنبثاق الفرد. الإغريق, في انبثاق اجتماعي وسياسي؛ ويسوع, في انبثاق أخلاقي وروحي. علـَّم الإغريق لليبرالية الفكرية التي أدت إلى الحرية السياسية؛ ويسوع علـَّم الليبرالية الروحية التي أدت إلى الحرية الدينية. وقد شكلت هاتان الفكرتان معاً, ميثاقاً جديداً وجباراً لحرية الإنسان؛ لقد بشرتا بتحرر الإنسان اجتماعياً وسياسياً وروحياً.
195:1.2 (2071.2) ظهرت المسيحية نحو الوجود وانتصرت على جميع الأديان المتنافسة في المقام الأول بسبب أمرين:
195:1.3 (2071.3) 1. كان العقل اليوناني على استعداد لاستعارة أفكار جديدة وجيدة حتى من اليهود.
195:1.4 (2071.4) 2. كان بولس وخلفاؤه راغبين إنما أصحاب تسويات دواهي وثاقبي الفكر؛ كانوا تجار لاهوت حريصين.
195:1.5 (2071.5) في الوقت الذي وقف فيه بولس في أثينا يعظ "المسيح وإياه صلبوا", كان اليونانيون جائعين روحياً؛ كانوا مستفسرين, ومهتمين, ويبحثون بالفعل عن الحقيقة الروحية. لا تنس أبداً بأن الرومان حاربوا المسيحية في البداية, بينما احتضنها اليونانيون, وبأن اليونانيين بالمعنى الحرفي هم الذين أجبروا الرومان لاحقاً على قبول هذا الدِين الجديد, كما كان مُعدلاً آنذاك, كجزء من الثقافة اليونانية.
195:1.6 (2071.6) وقـَّر اليونانيون الجَمال, واليهود القداسة, لكن كِلا الشعبين أحبا الحق. كان اليونانيون لقرون قد فكَّروا بجدية في جميع المشكلات البشرية وناقشوها بهمةــ الاجتماعية, والاقتصادية, والسياسية, والفلسفية ــ باستثناء الدِين. قلة من اليونانيين أولوا الكثير من الإهتمام للدِين؛ لم يأخذوا حتى دِينهم الخاص على محمل الجد. على مدى قرون أهمل اليهود هذه المجالات الفكرية الأخرى بينما كـَّرسوا عقولهم للدِين. أخذوا دِينهم على محمل الجد, للغاية. كما هو موضح بمحتوى رسالة يسوع, أصبح الناتج الموحد لقرون من فكر هذين الشعبين الآن القوة الدافعة لنظام جديد للمجتمع البشري, وإلى حد ما, لنظام جديد من المعتقد والممارسة الدِينية البشرية.
195:1.7 (2071.7) كان تأثير الثقافة اليونانية قد تغلغل بالفعل في أراضي غرب البحر الأبيض المتوسط عندما نشر الإسكندر الحضارة الهلنستية فوق عالَم الشرق الأدنى. حقق اليونانيون أداءًا جيداً للغاية في دينهم وسياساتهم طالما عاشوا في ولايات-مدن صغيرة, لكن عندما تجرأ الملك المقدوني على توسيع اليونان إلى إمبراطورية تمتد من الأدرياتيكي إلى السند, بدأت المشاكل. كان فن وفلسفة اليونان متساويان تماماً في مهمة التوسع الإمبريالي. لكن ليس كذلك مع الإدارة السياسية اليونانية أو الدِين. بعد أن توسعت ولايات-مدن اليونان إلى إمبراطورية, بدَت آلهتها المحصورة نوعاً ما شاذة بعض الشيء. كان اليونانيون يبحثون حقاً عن إله واحد, إله أعظم وأفضل, عندما أتت إليهم النسخة المسيحية من الديانة اليهودية الأقدم.
195:1.8 (2072.1) الإمبراطورية الهلنستية, على هذا النحو, لم تتمكن من الدوام. استمر نفوذها الثقافي, لكنها استمرت فقط بعد أن أمنت من الغرب النبوغ السياسي الروماني لإدارة إمبراطورية وبعد أن حصلت من الشرق على دِين امتلك إلَهه الواحد كرامة إمبراطورية.
195:1.9 (2072.2) في القرن الأول بعد المسيح, كانت الحضارة اليونانية قد حققت بالفعل أعلى مستوياتها؛ كان تقهقرها قد بدأ؛ كان التعليم يتقدم لكن النبوغ يتراجع. كان في هذا الوقت بالذات حينما أصبحت أفكار ومُثل يسوع, المُجَّسَدة جزئياً في المسيحية, جزءًا من إنقاذ الثقافة والتعليم اليوناني.
195:1.10 (2072.3) كان الإسكندر قد حمل على الشرق بهدية ثقافية من حضارة اليونان؛ اعتدى بولس على الغرب بالنسخة المسيحية من إنجيل يسوع. وحيثما سادت الثقافة اليونانية في كل أنحاء الغرب, هناك ترسخت المسيحية اليونانية.
195:1.11 (2072.4) النسخة الشرقية من رسالة يسوع, بالرغم من أنها بقيت أكثر صدقاً إلى تعاليمه, استمرت في اتباع الموقف الذي لا يقبل التسوية لأبنير. لم تتقدم أبداً كما فعلت النسخة اليونانية وفي النهاية ضاعت في الحركة الإسلامية.
195:2.1 (2072.5) سيطر الرومان جسدياً على الثقافة اليونانية, واضعين حكومة تمثيلية في مكان حكومة القرعة. وفي الوقت الجاري أدى هذا التغيير إلى تفضيل المسيحية في أن روما جلبت إلى العالم الغربي بأسره تسامحاً جديداً مع اللغات, والشعوب وحتى الأديان الغريبة.
195:2.2 (2072.6) كان الكثير من الاضطهاد المبكر للمسيحيين في روما يرجع حصرياً إلى استخدامهم المؤسف لمصطلح "الملكوت" في وعظهم. كان الرومان متسامحين مع أي وكل الأديان لكن مستاؤون للغاية من أي شيء ذا مذاق مناوءة سياسية. وهكذا, عندما تلاشت هذه الاضطهادات المبكرة, إلى حد كبير بسبب سوء التفهم, كان مجال الدعاية الدِينية مفتوحاً على مصراعيه. كان الروماني مهتماً بالإدارة السياسية؛ لم يكن يهتم كثيراً بالفن أو الدِين, لكنه كان متسامحاً بشكل غير عادي مع كليهما.
195:2.3 (2072.7) كانت شريعة المشرق صارمة وتعسفية؛ كانت الشريعة اليونانية مرنة وفنية؛ كانت شريعة الرومان ذات كرامة وتنمي للاحترام. ولـَّد التعليم الروماني ولاءً بليداً وغير مسموع به. كان الرومان الأوائل مخلصين سياسياً ومكرسين بشكل رائع. كانوا صادقين وغيورين, ومكرسين إلى مُثلهم, لكن بدون دِين يستحق الاسم. لا عجب بأن معلميهم اليونانيين تمكنوا من إقناعهم بقبول مسيحية بولس.
195:2.4 (2072.8) وكان هؤلاء الرومان شعباً عظيماً. كان بإمكانهم أن يحكموا الغرب لأنهم حكموا أنفسهم. مثل هذا الصدق, والتفاني, وضبط النفس الراسخ الذي لا مثيل له كان تربة مثالية لاستلام المسيحية ونموها.
195:2.5 (2072.9) كان من السهل على هؤلاء الإغريق-الرومان أن يصبحوا مكرسين روحياً بالضبط للكنيسة المؤسسية مثلما كانوا مكرسين سياسياً للدولة. حارب الرومان الكنيسة فقط عندما خافوها كمنافس للدولة. روما, كونها لديها القليل من الفلسفة القومية أو الثقافة الوطنية, استولت على الثقافة اليونانية وتبنت بجرأة المسيح كفلسفتها الأخلاقية. أصبحت المسيحية هي الثقافة الأخلاقية لروما لكن بالكاد دِينها بمعنى كونها تجربة فردية في النمو الروحي لأولئك الذين اعتنقوا الدِين الجديد في مثل أسلوب شراء الجُملة هذا. صحيح, في الواقع, بأن العديد من الأفراد ولجوا تحت سطح كل دِين الدولة هذا ووجدوا من أجل تغذية نفوسهم القيم الحقيقية للمعاني المخبأة في الحقائق الكامنة للمسيحية المُهلنة والمووثنة.
195:2.6 (2073.1) الرواقي ومناشدته القوية لـ "الطبيعة والضمير" فقط هيأ بشكل أفضل كل روما لاستلام المسيح, على الأقل بالمعنى الفكري. كان الروماني بالطبيعة والتدريب رجل شريعة؛ وقـَّر حتى شرائع الطبيعة. والآن, في المسيحية, أدرك في شرائع الطبيعة شرائع الله. الشعب الذي استطاع أن ينتج سيسرو وﭭِرجيل كان ناضجاً من أجل مسيحية بولس المُهلنة.
195:2.7 (2073.2) وهكذا أجبر هؤلاء اليونانيون الرومانيون كلا من اليهود والمسيحيين لأن يفلسفوا دِينهم, وينسَّقوا أفكاره وينَّظموا مُثله, وأن يلائموا ممارستهم الدِينية مع التيار الحالي للحياة. وكان كل هذا مُساعداً بشكل كبير من خلال ترجمة الكتابات المقدسة العبرية إلى اليونانية وبالتسجيل اللاحق للعهد الجديد د باللغة اليونانية.
195:2.8 (2073.3) الإغريق, في تباين مع اليهود والعديد من الشعوب الأخرى, كانوا لأمد طويل قد اعتقدوا بشكل مشروط بالخلود, نوع من البقاء بعد الموت, وبما أن هذا كان ذات جوهر تعليم يسوع, فقد كان من المؤكد بأن المسيحية ستروق لهم بقوة.
195:2.9 (2073.4) أدى تتالي من الانتصارات الحضارية الإغريقية والسياسات الرومانية إلى دمج أراضي البحر الأبيض المتوسط في إمبراطورية واحدة, بلغة واحدة وحضارة واحدة, وجعل العالَم الغربي جاهزًا لإله واحد, زود الدِين اليهودي هذا الإله, لكن اليهودية لم تكن مقبولة كدين لهؤلاء اليونانيين الرومانيين. ساعد فيلو بعض الشيء على تخفيف اعتراضاتهم, لكن المسيحية كشفت لهم حتى مفهوماً أفضل لإله واحد, واعتنقوها عن طيب نفس.
195:3.1 (2073.5) بعد ترسيخ الحُكم السياسي الروماني وبعد انتشار المسيحية, وجد المسيحيون أنفسهم مع إله واحد, مفهوم دِيني عظيم, لكن بدون إمبراطورية. وجد الرومان- اليونانيون أنفسهم مع إمبراطورية عظيمة لكن بدون إله ليخدم بمثابة مفهوم دِيني لائق لعبادة الإمبراطورية والتوحيد الروحي. قبـِل المسيحيون الإمبراطورية؛ الإمبراطورية تبنت المسيحية. زود الرومان وحدة حُكم سياسي؛ اليونانيين, وحدة الثقافة والتعليم؛ والمسيحية, وحدة الفكر والممارسة الدِينية.
195:3.2 (2073.6) تغلبت روما على تقاليد القومية عن طريق الشمولية الإمبريالية وللمرة الأولى في التاريخ جعلت من الممكن للأجناس والأمم المختلفة على الأقل اسمياً, تقبل دِين واحد.
195:3.3 (2073.7) حظيت المسيحية بتأييد في روما في وقت عندما كان هناك نزاع كبير بين التعاليم الضليعة للرواقين ووعود الخلاص للعقائد الباطنية. أتت المسيحية براحة منعشة وقدرة محررة لشعب جائع روحياً الذي ليس في لغته كلمة "للغيرية".
195:3.4 (2073.8) ما أعطى أعظم قدرة للمسيحية كان الطريقة التي عاش بها المؤمنون حياة الخدمة وحتى الطريقة التي ماتوا بها من أجل إيمانهم خلال الأوقات المبكرة من الاضطهاد الشديد.
195:3.5 (2073.9) سرعان ما وضع التعليم المتعلق بحب المسيح للأطفال حداً للممارسة المنتشرة لتعريض الأطفال للموت عندما لم يكونوا مرغوبين, خاصة الأطفال البنات.
195:3.6 (2074.1) كانت الخطة المبكرة للعبادة المسيحية مأخوذة إلى حد كبير من الكنِيس اليهودي, معدلة بالطقس الميثراني؛ فيما بعد, تمت إضافة الكثير من المهرجانات الوثنية. تألف العمود الفقري للكنيسة المسيحية المبكرة من مهتدين يونانيين متنصرين إلى اليهودية.
195:3.7 (2074.2) كان القرن الثاني بعد المسيح أفضل وقت في تاريخ العالَم كله من أجل دِين جيد ليحرز تقدماً في العالَم الغربي. كانت المسيحية في أثناء القرن الأول قد هيأت نفسها, بالصراع والتسوية, لترسخ جذورها وتنتشر بسرعة. تبنت المسيحية الإمبراطور؛ فيما بعد, هو تبنى المسيحية. كان هذا عصراً عظيماً من أجل انتشار دِين جديد. كانت هناك حرية دِينية؛ كان السفر عالمياً والفكر غير مُقيَد.
195:3.8 (2074.3) أتى الدافع الروحي للمسيحية المتأثرة بالهيلينية المتقبٍلة اسمياً إلى روما جداً بعد فوات الأوان ليمنع التدهور الأخلاقي الذي كان قد بدأ بالفعل أو ليعَّوض عن التدهور العنصري الراسخ بالفعل والمتزايد. كان هذا الدِين الجديد ضرورة حضارية لروما الإمبريالية, ومن المؤسف للغاية بأنه لم يصبح وسيلة للخلاص الروحي بمعنى أكبر.
195:3.9 (2074.4) حتى دِين جيد لم يستطع إنقاذ إمبراطورية عظيمة من النتائج المؤكدة لنقص المشاركة الفردية في شؤون الحكومة, من الأبوية المفرطة في الحُكم, والإفراط في الضرائب, وانتهاكات الجباية الجسيمة, والتجارة غير المتوازنة مع الشرق الأدنى التي استنزفت الذهب, وجنون الترفيه, وتوحيد المقياس الروماني, والحط من قيمة المرأة, والعبودية والانحطاط العرقي, والأوبئة الجسدية, وكنيسة الدولة التي أصبحت مؤسسية تقريباً لدرجة العقم الروحي.
195:3.10 (2074.5) الأحوال, مع ذلك, لم تكن سيئة للغاية في الإسكندرية. استمرت المدارس المبكرة لتحوز الكثير من تعاليم يسوع حرة من التسوية. بانتانيوس علـَّم كليمَنت وبعد ذلك ذهب ليتبع نثانئيل في إعلان المسيح في الهند. في حين تم التضحية ببعض مُثُل يسوع في بناء المسيحية, ينبغي التسجيل بكل إنصاف بأنه, بحلول نهاية القرن الثاني, عملياً كانت كل العقول العظيمة في العالَم الروماني- اليوناني قد أصبحت مسيحية. كان النصر يقارب الإتمام.
195:3.11 (2074.6) واستمرت هذه الإمبراطورية الرومانية لفترة كافية لضمان بقاء المسيحية حتى بعد انهيار الإمبراطورية. لكننا خمنا في كثير من الأحيان ماذا كان سيحدث في روما وفي العالَم لو تم قبول إنجيل الملكوت بدلاً من المسيحية اليونانية.
195:4.1 (2074.7) الكنيسة, كونها ملحقاً للمجتمع وحليفاً للسياسة, كان محكوماً عليها بالمشاركة في الانحطاط الفكري والروحي لما يسمى بـ "العصور المُظلمة" الأوروبية. خلال هذا الوقت, أصبح الدِين أكثر فأكثر رهبنةً, وزهداً, ومعتمداً قانونياً. بالمعنى الروحي, كانت المسيحية في سبات. طوال هذه الفترة كان هناك, إلى جانب هذا الدِين الغارق في السبات والعلماني, دفق مستمر من الباطنية, تجربة روحية رائعة تحد على عدم الواقعية وفلسفياً تحد على مذهب وحدة الوجود.
195:4.2 (2074.8) خلال هذه القرون المُظلمة واليائسة, أصبح الدِين مرة أخرى مبتذلاً فعلياً. كان الفرد ضائعاً تقريباً أمام ظل سُلطة الكنيسة, وتقاليدها, وإملاءاتها. نشأ تهديد روحي جديد في خلق مجرة من "القديسين" الذين كان من المفترض أن يكون لديهم نفوذ خاص في المحاكم الإلَهية, والذين, بالتالي, إذا تم الإلتجاء إليهم بفعالية, سيكونون قادرين على التوسط لمصلحة الإنسان أمام الآلهة.
195:4.3 (2075.1) لكن المسيحية جُعلت ذات طابع اجتماعي ومتأثرة بالوثنية بما فيه الكفاية, بحيث, بينما كانت عاجزة عن الصمود في العصور المظلمة المقتربة, كانت مُهيأة بشكل أفضل لتنجو هذه الفترة الطويلة من الظلمة الأخلاقية والركود الروحي. واستمرت خلال الليل الطويل للحضارة الغربية وكانت لا تزال عاملة كمؤثر أخلاقي في العالَم عندما برز عصر النهضة. أدت إعادة تأهيل المسيحية, بعد انقضاء العصور المظلمة, إلى الإحضار نحو الوجود لطوائف عديدة من التعاليم المسيحية, معتقدات ملائمة لأنواع فكرية, وعاطفية, وروحية خاصة للشخصية الإنسانية. والعديد من هذه الجماعات المسيحية الخاصة, أو العائلات الدِينية, لا تزال قائمة عند وقت تقديم هذا العرض.
195:4.4 (2075.2) تعرض المسيحية تاريخاً لكونها نشأت عن التحول غير المقصود لدِين يسوع نحو دِين عن يسوع. وتقدم إضافياً تاريخ كونها قد اختبرت الهلنستية, والوثنية, والعلمنة, والمأسسة, والتدهور الفكري, والانحطاط الروحي, والسبات الأخلاقي, والتهديد بالإبادة, والتجديد اللاحق, والتجزئة, والأكثر حداثة إعادة التأهيل النسبي. يشير مثل هذا الأصل إلى حيوية متأصلة وامتلاك موارد تعافي هائلة. وهذه المسيحية نفسها موجودة الآن في العالَم المتحضر لشعوب الغرب وتقف وجهاً لوجه في صراع من أجل الوجود حتى أكثر شؤماً من تلك الأزمات الخطيرة التي ميزت معاركها الماضية من أجل السيطرة.
195:4.5 (2075.3) يواجَه الدِين الآن بتحدي عصر جديد من العقول العلمية والتوجهات المادية. في هذا الكفاح الهائل بين العلماني والروحي, سينتصر دين يسوع في النهاية.
195:5.1 (2075.4) جلب القرن العشرون مشاكل جديدة للمسيحية وجميع الديانات الأخرى لحلها. كلما صعدت المدنية أعلى, الأكثر ضرورة يصبح واجب "البحث أولاً عن حقائق السماء" في كل جهود الإنسان لتحقيق الاستقرار في المجتمع وتسهيل حل مشاكله المادية.
195:5.2 (2075.5) غالباً ما تصبح الحقيقة مُربكة وحتى مُضللة عندما تُبتر, وتُفصل, وتُعزل, وتُحلل كثيراً. الحقيقة الحية تُعَّلم الباحث عن الحق بشكل صحيح فقط عندما يتم اعتناقها ككل وكواقع روحي حي, ليس كواقع علم مادي أو مصدر إلهام للفن المتداخل.
195:5.3 (2075.6) الدِين هو الوحي إلى الإنسان عن مصيره الإلَهي والأبدي. الدِين هو تجربة شخصية وروحية بحتة ويجب تمييزه إلى الأبد عن أشكال التفكير السامية الأخرى لدى الإنسان, مثل:
195:5.4 (2075.7) 1. موقف الإنسان المنطقي تجاه أشياء ذات واقعية مادية.
195:5.5 (2075.8) 2. تقدير الإنسان الذوقي للجَمال في تباين مع البشاعة.
195:5.6 (2075.9) 3. اعتراف الإنسان الأدبي بالالتزامات الاجتماعية والواجب السياسي.
195:5.7 (2075.10) 4. حتى إحساس الإنسان بالأخلاق الإنسانية ليس, في حد ذاته, دِينياً.
195:5.8 (2075.11) الدِين مُصَمَم للعثور على تلك القيم في الكون التي تستوجب الإيمان, والثقة, والاطمئنان؛ يبلغ الدِين ذروته في العبادة. يكتشف الدِين للنفـْس تلك القيم السامية المتباينة مع القيم النسبية التي يكتشفها العقل, مثل هذه البصيرة الخارقة لا يمكن نيلها إلا من خلال تجربة دِينية أصلية.
195:5.9 (2075.12) نظام اجتماعي يدوم بدون أخلاق مبنية على حقائق روحية لا يمكن صيانته أكثر مما يمكن صيانة النظام الشمسي بدون الجاذبية.
195:5.10 (2076.1) لا تُحاول إرضاء الفضول أو أن تُمتع كل مغامرة كامنة تجيش داخل النفـْس في حياة قصيرة واحدة في الجسد. كن صبوراً! لا تُغرى إلى الانغماس في غطس غير قانوني نحو مغامرة رخيصة ودنيئة. املك عنان طاقاتك واكبح أهواءك؛ كن هادئاً بينما تنتظر الانفضاض المهيب لمهمة لا نهاية لها من المغامرة التقدمية والاكتشاف المثير.
195:5.11 (2076.2) في الارتباك حول أصل الإنسان, لا تغفل عن مصيره الأبدي. لا تنس أن يسوع أحب حتى الأطفال الصغار, وأنه جعل واضحاً إلى الأبد القيمة العظيمة للشخصية البشرية.
195:5.12 (2076.3) بينما تنظر إلى العالَم, تذكَّر بأن رُقع الشر السوداء التي تراها هي ظاهرة ضد الخلفية البيضاء من الخير المطلق. أنت لا ترى مجرد رقع بيضاء من الخير التي تظهر بشكل بائس على خلفية سوداء من الشر.
195:5.13 (2076.4) عندما يكون هناك الكثير من الحقيقة الجيدة لنشرها وإعلانها, لماذا ينبغي على الناس أن يتمعنوا كثيراً في الشر في العالَم لمجرد أنه يبدو ليكون حقيقة؟ إن محاسن القيم الروحية للحقيقة هي أكثر إمتاعًا ورفعةً للمستوى من ظاهرة الشر.
195:5.14 (2076.5) في الدِين, حبذ يسوع طريقة التجربة واتبعها, حتى كما العلم الحديث يتبع تقنية الاختبار. نحن نجد الله من خلال قيادات البصيرة الروحية, لكننا نقارب هذه البصيرة للنفـْس من خلال حب الجمال, والسعي للحقيقة, والولاء للواجب, وعبادة الخير الإلَهي. لكن من بين كل هذه القيم, المحبة هي المرشد الحقيقي للبصيرة الحقيقية.
195:6.1 (2076.6) لقد دفع العلماء البشرية عن غير قصد إلى حالة من الذعر المادي؛ بدأوا تصفية طائشة على المصرف الأخلاقي للعصور, لكن مصرف التجربة البشرية هذا لديه موارد روحية هائلة؛ يمكنه أن يتحمل المتطلبات الموضوعة عليه. فقط الناس الذين لا يفكرون هم الذين يصابون بالذعر بشأن الأصول الروحية للجنس البشري. عندما ينتهي الهلع المادي-الدنيوي, لن يوجد دِين يسوع مفلساً. سيدفع المصرف الروحي لملكوت السماء الإيمان, والرجاء, والأمن الأخلاقي لكل الذين يسحبون منه "باسمه".
195:6.2 (2076.7) بغض النظر عن التعارض الظاهري بين المادية وتعاليم يسوع, يمكنك أن تطمئن بأنه, في العصور القادمة, ستنتصر تعاليم السيد كلياً. في الواقع, لا يمكن للدِين الحقيقي أن يتورط في أي خلاف مع العِلم؛ إنه ليس معنياً بأي حال من الأحوال بالأشياء المادية. الدِين ببساطة غير مبالٍ بالعلِم, لكنه متعاطف معه, في حين أنه يهتم بشدة بالعلماء.
195:6.3 (2076.8) إن السعي لمجرد المعرفة, بدون التفسير المصاحب للحكمة والبصيرة الروحية للتجربة الدِينية, يؤديان في النهاية إلى التشاؤم واليأس البشري. إن المعرفة القليلة أمر مُربك حقاً.
195:6.4 (2076.9) عند وقت هذه الكتابة, انتهى أسوأ ما في العصر المادي؛ بدأ بالفعل يوم تفـَّهم أفضل ليشرق. لم تعد العقول الأعلى للعالَم العلمي مادية بالكامل في فلسفتها, لكن رُتب وطابور الناس لا تزال تميل في ذلك الاتجاه نتيجة للتعاليم السابقة. لكن عصر الواقعية المادية هذا ليس سوى حلقة عابرة في حياة الإنسان على الأرض. لقد ترك العِلم الحديث الدين الحقيقي ــ تعاليم يسوع كما تُرجمت في معايش مؤمنيه ــ دون مساس. كل ما فعله العِلم هو تدمير الأوهام الطفولية للتفسيرات الخاطئة للحياة.
195:6.5 (2077.1) العِلم تجربة كمية, والدين تجربة نوعية, فيما يتعلق بحياة الإنسان على الأرض. يتعامل العِلم مع الظواهر؛ الدِين مع الأصول, والقيم, والأهداف. إن تعيين مسببات كتفسير للظواهر الفيزيائية يعني الاعتراف بالجهل في الختاميات وفي النهاية فقط يقود العالِم رأساً رجوعاً إلى المسبب العظيم الأول ــ الأب الكوني للفردوس.
195:6.6 (2077.2) لقد أثبت التأرجح العنيف من عصر المعجزات إلى عصر الآلات أنه مزعج تماما للإنسان. إن ذكاء وبراعة الفلسفات الزائفة للآلية تكذب مزاعمها الآلية نفسها. إن الرشاقة الجبرية لعقل المادي تدحض إلى الأبد تأكيداته بأن الكون هو ظاهرة طاقة عمياء وعديمة الهدف.
195:6.7 (2077.3) الطبيعة الآلية لبعض الناس المُفترَض أنهم متعلمين والعلمانية الطائشة للإنسان في الشارع كِلتاهما معنيتان حصرياً بالأشياء؛ إنهما مجردتان من كل القيم الحقيقية, والعقوبات, والترضيات ذات الطبيعة الروحية, فضلاً عن كونهما مجردتان من الإيمان, والرجاء, والضمانات الأبدية. واحدة من أكبر المشاكل في الحياة العصرية هي أن الإنسان يعتقد أنه مشغول جداً لإيجاد وقت للتأمل الروحي والتكريس الدِيني.
195:6.8 (2077.4) المادية تختزل الإنسان إلى آلة ذاتية الحركة بلا نفـْس وتشكله مجرد رمز رياضي يجد مكانًا عاجزًا في الصيغة الرياضية لكون غير رومانسي وآلي. لكن من أين يأتى كل هذا الكون الشاسع من الرياضيات بدون عالِم رياضي؟ قد يبالغ العلم في الحفاظ على المادة, لكن الدِين يُصادق على الحفاظ على نفوس الناس ــ إنه يتعلق بتجربتهم مع الحقائق الروحية والقيم الأبدية.
195:6.9 (2077.5) يستقصي عالِم الاجتماع المادي اليوم المجتمع, ويقدم تقريراً عنه, ويترك الناس كما وجدهم. قبل ألف وتسعمائة سنة, عاين الجليليون غير المتعلمين يسوع يعطي حياته كإسهام روحي لتجربة الإنسان الداخلية وبعد ذلك خرجوا وقلبوا الإمبراطورية الرومانية بأكملها رأساً على عقب.
195:6.10 (2077.6) لكن القادة الدينيين يرتكبون خطأ فادحاً عندما يحاولون استدعاء الإنسان المعاصر إلى معركة روحية بنفخات بوق العصور الوسطى. يجب أن يزود الدِين نفسه بشعارات جديدة وحديثة. لن تحل الديمقراطية ولا أي ترياق سياسي آخر محل التقدم الروحي. قد تمثل الأديان الزائفة تهرباً من الواقع, لكن يسوع في إنجيله قدَّم الإنسان الفاني إلى عين المدخل على الواقع الأبدي للتقدم الروحي.
195:6.11 (2077.7) القول بأن العقل "انبثق" من المادة لا يفسر شيئاً. إذا كان الكون مجرد آلية والعقل غير منفصل عن المادة, فلن يكون لدينا أبداً تفسيران مختلفان لأي ظاهرة مرصودة. إن مفاهيم الحقيقة, والجَمال, والصلاح ليست متأصلة في إما الفيزياء أو الكيمياء. لا تستطيع الآلة أن تعرف, ناهيك عن معرفة الحق, والجوع من أجل البر, والاعتزاز بالصلاح.
195:6.12 (2077.8) قد يكون العِلم فيزيائياً, لكن عقل العالِم الذي يميز الحقيقة هو في نفس الوقت فائق عن المادي. المادة لا تعرف الحقيقة, ولا يمكنها أن تحب الرحمة أو تبتهج في الحقائق الروحية. القناعات الأخلاقية القائمة على التنوير الروحي والمتأصلة في التجربة الإنسانية هي واقعية وأكيدة بنفس القدر كالاستنتاجات الرياضية المؤسسة على الملاحظات الفيزيائية, ولكن على مستوى آخر وأعلى.
195:6.13 (2077.9) إذا كان الناس مجرد آلات, فإنهم سوف يتفاعلون بتناسق بشكل أو بآخر مع كون مادي. الفردية, ناهيك عن الشخصية, ستكون غير موجودة.
195:6.14 (2077.10) حقيقة الآلية المُطلقة للفردوس عند مركز كون الأكوان, في حضرة الإرادة الباتة للمصدر والمركز الثاني, تجعل من المؤكد إلى الأبد بأن المحددات ليست هي القانون الحصري للفلك. المادية موجودة, لكنها ليست حصرية؛ الآلية موجودة, لكنها ليست باتة؛ الحتمية موجودة, لكنها ليست وحدها.
195:6.15 (2078.1) الكون المتناهي للمادة سيصبح في النهاية متناسقاً وحتميًا لو لم يكن للحضور المشترك للعقل والروح. إن تأثير العقل الفلكي يضخ العفوية باستمرار حتى في العوالم المادية.
195:6.16 (2078.2) تتناسب الحرية أو المبادرة في أي عالم من الوجود بشكل مباشر مع درجة التأثير الروحي وتحكم العقل الفلكي؛ أي أنه, في التجربة البشرية, درجة حقيقة فعل "مشيئة الأب." وهكذا, عندما تبدأ مرة في البحث عن الله, فذلك هو البرهان القاطع بأن الله قد وجدك بالفعل.
195:6.17 (2078.3) السعي المُخلص للصلاح, والجَمال, والحق يقود إلى الله. وكل اكتشاف عِلمي يُظهر وجود كل من الحرية والتناسق في الكون. كان للمكتشف الحرية في القيام بالاكتشاف. الشيء الذي تم اكتشافه حقيقي ومنتظم ظاهريًا, وإلا لما أمكن أن يصبح معروفاً كشيء.
195:7.1 (2078.4) كم هو من الحماقة أن يسمح الإنسان ذو العقلية المادية لمثل هذه النظريات الهشة مثل نظريات الكون الميكانيكي بحرمانه من الموارد الروحية الهائلة للتجربة الشخصية للدين الحقيقي. الحقائق لا تتعارض مطلقاً مع الإيمان الروحي الحقيقي؛ النظريات قد تتنازع. من الأفضل أن يكرس العلم لتدمير الخرافات بدلاً من محاولة الإطاحة بالإيمان الديني ــ الاعتقاد البشري بالحقائق الروحية والقيم الإلَهية.
195:7.2 (2078.5) يجب على العلم أن يفعل للإنسان مادياً ما يفعله له الدِين روحياً: تمديد أفق الحياة وتوسيع شخصيته. لا يمكن أن يكون للعلم الحقيقي أي خلاف دائم مع الدين الحقيقي. "الأسلوب العِلمي" هو مجرد مقياس فكري لقياس المغامرات المادية والإنجازات الفيزيائية. لكن كونه مادياً وفكرياً بالكامل, فهو عديم الفائدة تماماً في تقييم الحقائق الروحية والتجارب الدِينية.
195:7.3 (2078.6) التناقض في الميكانيكي المعاصر هو: إذا كان هذا مجرد كون مادي والإنسان آلة فقط, فإن مثل هذا الإنسان لن يكون قادراً تماماً على التعرف على نفسه كآلية على هذا النحو, وبالمثل فإن مثل هذا الإنسان-الآلي سيكون غير واعي كلياً لحقيقة وجود مثل هذا الكون المادي. لقد فشل اليأس والقنوط الماديان للعِلم الآلي في التعرف على حقيقة العقل المسكون بالروح للعالِم الذي تصوغ رؤيته المادية الفائقة هذه المفاهيم الخاطئة والمتناقضة-ذاتياً للكون المادي.
195:7.4 (2078.7) إن قيم الفردوس للأبدية واللانهاية, للحق, والجَمال, والخير, مستورة في حقائق ظواهر أكوان الزمان والفضاء. لكن يتطلب عين الإيمان لفاني مولود بالروح لاكتشاف وتمييز هذه القيم الروحية.
195:7.5 (2078.8) إن حقائق وقيم التقدم الروحي ليست "إسقاطاً نفسياً" ــ مجرد حلم يقظة مجيد للعقل المادي. مثل هذه الأشياء هي التنبؤات الروحية للضابط الساكن, روح الله التي تعيش في عقل الإنسان. ولا تدع انشغالاتك بالإيجادات الخافتة "للنسبية" بأن تقلق مفاهيمك عن أبدية ولانهائية الله. وفي كل التماساتك بما يخص ضرورة التعبير عن النفس لا تقع في خطأ الفشل في التزود من أجل تعبير الضابط, تجلي نفسك الحقيقية والأفضل.
195:7.6 (2079.1) إذا كان هذا مجرد كون مادي, فلن يتمكن الإنسان المادي أبدًا من الوصول إلى مفهوم السمة الميكانيكية لمثل هذا الوجود المادي الخالص. هذا المفهوم الميكانيكي للغاية للكون هو في حد ذاته ظاهرة غير مادية للعقل, وكل العقل هو من أصل غير مادي, بغض النظر إلى أي مدى قد يبدو أنه مشروط مادياً ومسيطر عليه ميكانيكياً.
195:7.7 (2079.2) إن الآلية العقلية المتطورة جزئياً للإنسان الفاني ليست ممنوحة بزيادة بالإتساق والحكمة. غالباً ما يُسابق غرور الإنسان تعقله ويراوغ منطقه.
195:7.8 (2079.3) ذات التشاؤم لأكثر الماديين تشاؤماً هو, في حد ذاته, برهاناً كافياً بأن كون المتشائم ليس مادياً بالكامل. كل من التفاؤل والتشاؤم هما ردود أفعال مفاهيمية في عقل واعٍ للقيم وكذلك للحقائق. إذا كان الكون هو بالفعل ما يعتبره المادي ليكون, فإن الإنسان كآلة بشرية سيكون عندئذٍ خاليًا من كل إدراك واعٍ لتلك الحقيقة بالذات. بدون وعي مفهوم القيم داخل العقل المولود بالروح, فإن حقيقة مادية الكون والظواهر الميكانيكية لعملية الكون سيكونان كلياً غير مُتعرَف عليهما بواسطة الإنسان. لا يمكن لآلة أن تدرك طبيعة أو قيمة آلة أخرى.
195:7.9 (2079.4) لا يمكن لفلسفة آلية عن الحياة والكون أن تكون عِلمية لأن العِلم يتعرف فقط, على المواد والوقائع, ويتعامل معها. الفلسفة هي حتماً فائقة عن العِلم. الإنسان هو واقع مادي للطبيعة, لكن حياته ظاهرة تتجاوز المستويات المادية للطبيعة من حيث أنها تُظهر سمات التحكم في العقل والصفات الإبداعية للروح.
195:7.10 (2079.5) يمثل الجهد الصادق للإنسان ليصبح ميكانيكياً الظاهرة المأساوية لجهد ذلك الرجل الذي لا طائل منه لارتكاب الانتحار الفكري والأخلاقي. لكنه لا يستطيع فعل ذلك.
195:7.11 (2079.6) إذا كان الكون مادياً فقط والإنسان مجرد آلة, فلن يكون هناك عِلم ليشجع العالِم على افتراض ميكنة الكون هذه. لا تستطيع الآليات أن تقيس, أو تصّنف, ولا أن تقـّيم ذاتها. هكذا قطعة عِلمية من العَمل يمكن تنفيذها فقط من قبل كيان ما ذو وضع فائق عن الآلي.
195:7.12 (2079.7) إذا كان واقع الكون هو مجرد آلة شاسعة واحدة, عندئذٍ يجب أن يكون الإنسان خارج الكون وبعيدًا عنه من أجل أن يتعرف على مثل هذا الواقع ويصبح واعياً لبصيرة مثل هذا التقييم.
195:7.13 (2079.8) إذا كان الإنسان مجرد آلة, فبأي تقنية يأتي هذا الإنسان ليعتقد أو يدَّعي ليعرف بأنه مجرد آلة؟ إن تجربة التقييم الواعي لذات الشخص ليست أبداً سمة من سمات آلة مجردة. الآلي الواعي-للذات والمُعترف به هو أفضل إجابة ممكنة للآلية. إذا كانت المادية حقيقة, فلن يكون هناك ميكانيكي واعي-للذات. إنه صحيح أيضًا أنه يجب على المرء أولاً أن يكون شخصاً أخلاقياً قبل أن يتمكن من القيام بأعمال غير أخلاقية.
195:7.14 (2079.9) إن ادعاء المادية بحد ذاته ينطوي على وعي فائق عن المادي للعقل الذي يفترض أن يؤكد مثل هذه العقائد. قد تنحل الآلة, لكنها لا تستطيع أبداً أن تتقدم. الآلات لا تُفـّكر, أو تخلق, أو تحلم, أو تتوق, أو يكون لديها مثال, أو تجوع إلى الحق, أو تعطش إلى البر. إنها لا تُحفز حياتها بشغف لخدمة الآلات الأخرى ولتختار كهدفها التقدم الأبدي والمهمة السامية لإيجاد الله والسعي لأن تكون مثله. الآلات ليست أبداً فكرية, أو عاطفية, أو جمالية, أو أدبية, أو أخلاقية, أو روحية.
195:7.15 (2079.10) يُثبت الفن بأن الإنسان ليس آلياً, لكنه لا يثبت أنه خالد روحياً. الفن هو مورونشيا فانية, الحقل المتداخل بين الإنسان, المادي, والإنسان, الروحي. الشعِر هو محاولة للهروب من الحقائق المادية إلى القيم الروحية.
195:7.16 (2080.1) في حضارة عالية, يُضفي الفن طابعاً إنسانياً على العِلم, بينما في دوره يتروحن بالدين الحقيقي ــ بصيرة نحو القيم الروحية والأبدية. يمثل الفن التقييم البشري والزماني-الفضائي للواقع, الدِين هو الاحتضان الإلَهي للقيم الفلكية ويشير ضمناً إلى التقدم الأبدي في الارتقاء والتوسع الروحي. فن الزمن خَطر فقط عندما يصبح أعمى عن المعايير الروحية للأنماط الإلَهية التي تعكسها الأبدية كظلال الزمن الحقيقية. الفن الحقيقي هو المناورة الفعّالة للأشياء المادية للحياة؛ الدِين هو التحويل المُشَّرف للحقائق المادية للحياة, ولا يتوقف أبداً في تقييمه الروحي للفن.
195:7.17 (2080.2) كم من الحماقة أن نفترض أن الآلة الذاتية الحركة يمكنها أن تتصور فلسفة تلقائية, وكم من السخف أنه ينبغي أن يُفترض أن يُشكل مثل هذا المفهوم عن آلات ذاتية الحركة الأخرى والزميلة!
195:7.18 (2080.3) أي تفسير عِلمي للكون المادي لا قيمة له ما لم يقدم الاعتراف المستحق للعالم. لا يعتبر أي تقدير للفن حقيقيًا ما لم يمنح اعترافًا بالفنان. لا تقييم للأخلاق يستحق ما لم يشمل الأخلاقي. ولا اعتراف بالفلسفة يبني إذا كان يتجاهل الفيلسوف, ولا يمكن للدين أن يتواجد بدون التجربة الحقيقية للمتدين الذي, في هذه التجربة ذاتها ومن خلالها, يسعى إلى إيجاد الله ومعرفته. بالمثل فإن كون الأكوان لا أهمية له على حدة من الأنا, الله اللانهائي الذي صنعه ويديره بدون توقف.
195:7.19 (2080.4) يميل الآليون ــ الإنسانيون ــ إلى الإنجراف مع التيارات المادية. يجرؤ المثاليون والروحيون على استخدام مجاديفهم بذكاء وحيوية من أجل تعديل ما يبدو المسار المادي البحت لتيارات الطاقة.
195:7.20 (2080.5) يعيش العِلم من خلال رياضيات العقل, وتعَّبر الموسيقى عن وتيرة العواطف. الدِين هو الإيقاع الروحي للنفـْس في تناغم الزمان-الفضاء باللحن الأعلى والأبدي لمقاييس اللانهائية. التجربة الدِينية هي شيء ما في الحياة البشرية التي هي حقاً فائقة عن الرياضي.
195:7.21 (2080.6) في اللغة, تمثل الأبجدية آلية المادية, في حين أن الكلمات المعبرة عن معني آلاف الأفكار, والأفكار العظيمة, والمُثل النبيلة ــ للمحبة والكراهية, الجُبن والشجاعة ــ تمثل أداءات العقل ضمن النطاق الذي يحدده كل من القانون المادي والروحي, الموجّهة بتأكيد مشيئة الشخصية, والمحدودة بهبة الموقف المتأصلة.
195:7.22 (2080.7) الكون ليس كالقوانين, والآليات, والإتساقات التي يكتشفها العالِم, ويأتي ليعتبرها كعِلم, بل هو بالأحرى مثل العالِم الفضولي, والمفكر, والمختار, والخلاَّق, والمُرَّكَب, والمميز الذي بهذا يلاحظ ظواهر الكون ويُصَّنف الحقائق الرياضية الكامنة في الأطوار الآلية للجانب المادي للخلق. ولا الكون مثل فن الفنان, بل هو بالأحرى مثل الفنان الجاد, والحالِم, والطموح, والمتقدم الذي يسعى إلى تجاوز عالَم الأشياء المادية في محاولة لتحقيق هدف روحي.
195:7.23 (2080.8) العالِم, وليس العِلم, يدرك حقيقة كون متطور ومتقدم من الطاقة والمادة. الفنان, وليس الفن, يُوضح وجود عالَم المورونشيا العابر المتداخل بين الوجود المادي والحرية الروحية. المتدين, وليس الدِين يُثبت وجود حقائق الروح والقيم الإلَهية التي يجب مواجهتها في تقدم الأبدية.
195:8.1 (2081.1) لكن حتى بعد أن تكون المادية والآلية قد انهزمتا بشكل أو بآخر, فإن التأثير المدمر لعلمانية القرن العشرين سيظل يفسد التجربة الروحية لملايين النفوس غير المرتابة.
195:8.2 (2081.2) لقد تم تعزيز العلمانية الحديثة من خلال تأثيرين عالميين. كان أب العلمانية هو الموقف الضيق الأفق واللا-إلَهي لما يسمى بالعلم - العلم الإلحادي للقرنين التاسع عشر والعشرين ــ. أُم العلمانية الحديثة كانت الكنيسة المسيحية الشمولية من القرون الوسطى. نشأت العلمانية كاحتجاج متصاعد ضد الهيمنة شبه التامة على المدنية الغربية من قِبل الكنيسة المسيحية المؤسسية.
195:8.3 (2081.3) في وقت هذا الكشف, المناخ الفكري والفلسفي السائد لكل من الحياة الأوروبية والأميركية هو بلا ريب علماني ــ إنساني. لثلاثمائة عام كان التفكير الغربي علمانياً بشكل تدريجي. أصبح الدِين أكثر فأكثر نفوذاً اسمياً, إلى حد كبير ممارسة شعائرية. غالبية مسيحيي الحضارة الغربية المَنْسُوبين لِلظَّاهر هم علمانيون فعليون عن غير قصد.
195:8.4 (2081.4) لقد تطلب قدرة عظيمة, وتأثيراً قديراً, لتحرير تفكير الشعوب الغربية ومعيشتها من القبضة المهلكة لسيطرة الكنسية الشمولية. لقد حطمت العلمانية أواصر سيطرة الكنيسة بالفعل, والآن تهدد بدورها بتأسيس نوع جديد ولا-إلَهي من السيادة على قلوب وعقول الإنسان الحديث. إن الدولة السياسية الاستبدادية والديكتاتورية هي النسل المباشر للمادية العلمية والعلمانية الفلسفية. حالما تحرر العلمانية الإنسان من سيطرة الكنيسة المؤسسية تقوم ببيعه في رق استبدادي للدولة الشمولية. العلمانية تحرر الإنسان من العبودية الكنسية فقط لتخونه نحو طغيان العبودية السياسية والاقتصادية.
195:8.5 (2081.5) المادية تنفي وجود الله, والعلمانية ببساطة تتجاهله؛ على الأقل ذلك كان الموقف الأبكر. في الآونة الأخيرة, اتخذت العلمانية موقفاً أكثر تشدداً, زاعمة أن تحل محل الدِين الذي قاومت عبوديته الشمولية في وقت ما. تميل علمانية القرن العشرين إلى التأكيد على أن الإنسان لا يحتاج إلى الله. لكن حذار! لن تؤدي هذه الفلسفة اللا-إلهية للمجتمع البشري فقط إلا إلى اضطرابات, وحقد, وتعاسة, وحرب, وكوارث تعم العالَم.
195:8.6 (2081.6) لا يمكن للعلمانية أن تجلب السلام للبشرية أبدًا. لا شيء يمكن أن يأخذ مكان الله في المجتمع البشري. لكن ضع علامة جيداً! لا تتسرعوا في أن تُسلموا المكاسب المفيدة للثورة العلمانية من الشمولية الكنسية. تتمتع الحضارة الغربية اليوم بالعديد من الحريات والإرضاءات نتيجة للثورة العلمانية. كان الخطأ الكبير للعلمانية هو: في الثورة ضد السيطرة شبه الكاملة على الحياة من قبل السلطة الدينية, وبعد إحراز التحرر من هذا الاستبداد الكنسي, تابع العلمانيون ليشنوا ثورة ضد الله نفسه, أحياناً ضمنياً وأحيانا علانية.
195:8.7 (2081.7) بالنسبة للثورة العلمانية, أنتم مدينون بالإبداع المذهل للصناعة الأمريكية والتقدم المادي غير المسبوق للحضارة الغربية. ولأن الثورة العلمانية ذهبت بعيداً جداً وفقدت الرؤية عن الله والدِين الحقيقي, فقد تبع هناك أيضاً الحصاد غير المتوقع للحروب العالمية والاضطراب الدولي.
195:8.8 (2081.8) إنه ليس من الضروري التضحية بالإيمان بالله من أجل الاستمتاع ببركات الثورة العلمانية الحديثة: التسامح, الخدمة الاجتماعية, الحكومة الديمقراطية, والحريات المدنية. لم يكن من الضروري أن يعادي العلمانيون الدين الحقيقي من أجل تعزيز العِلم وتطوير التعليم.
195:8.9 (2082.1) لكن العلمانية ليست الوالد الوحيد لكل هذه المكاسب الأخيرة في توسيع المعيشة. ما وراء مكاسب القرن العشرين ليس العلم والعلمانية فقط ولكن أيضًا الأعمال الروحية غير المُتعرف عليها وغير المُعترف بها لحياة وتعاليم يسوع الناصري.
195:8.10 (2082.2) بدون الله, بدون دِين, لا يمكن للعلمانية العلمية أن تنسق قواها أبداً, وتوائم بين مصالحها, وأعراقها, وقومياتها المتشعبة والمتضاربة. هذا المجتمع الإنساني العلماني, بالرغم من إنجازه المادي غير المسبوق, يتفكك ببطء. القوة اللاصقة الرئيسية التي تقاوم هذا التفكك للعداء هي القومية. والقومية هي العائق الرئيسي أمام السلام العالَمي.
195:8.11 (2082.3) الضعف المتأصل في العلمانية هو أنها تتجاهل الأخلاق والدِين من أجل السياسة والسلطة. أنتم ببساطة لا يمكنكم تأسيس أخوّة الناس بينما تتجاهلون أو تنكرون أبوة الله.
195:8.12 (2082.4) التفاؤل الاجتماعي والسياسي العلماني هو وهم. بدون الله, لا الحرية ولا التحرر, ولا الملكية, ولا الثروة ستؤدي إلى السلام.
195:8.13 (2082.5) العلمنة التامة للعِلم, والتعليم, والصناعة, والمجتمع يمكن أن تؤدي فقط إلى كارثة. خلال الثلث الأول من القرن العشرين قتل اليورانشيون من البشر أكثر مما قُتل خلال الافتقاد المسيحي بأكمله حتى ذلك الوقت. وهذا ليس سوى بداية الحصاد الرهيب للمادية والعلمانية؛ ولا يزال سيأتي دمار أكثر فظاعة.
195:9.1 (2082.6) لا تتغاضوا عن قيمة تراثكم الروحي, نهر الحقيقة المتدفق عبر القرون, حتى إلى الأوقات القاحلة لعصر مادي وعلماني. في كل جهودكم الجديرة لتخليص أنفسكم من المذاهب الخرافية للعصور الماضية, تأكدوا بأنكم تعتصمون بالحق الأبدي. لكن كونوا صبورين! عندما تنتهي ثورة الخرافات الحالية, ستستمر حقائق إنجيل يسوع بشكل مجيد لتنير طريقاً جديداً وأفضل.
195:9.2 (2082.7) لكن المسيحية المتأثرة بالوثنية والمجتمعية تقف في حاجة إلى اتصال جديد مع تعاليم يسوع غير المنقوصة؛ إنها تضعف من نقص رؤية جديدة لحياة السيد على الأرض. كشف جديد وأكمل لدِين يسوع مُقـَّدر أن يغزو إمبراطورية العلمانية المادية ويُسقط الترنح العالَمي ذو الطبيعية الآلية. يورانشيا ترتعش الآن على ذات الحافة لواحدة من أكثر حقبها روعة وإثارة من إعادة التكيف الاجتماعي, والتسريع الأخلاقي, والتنوير الروحي.
195:9.3 (2082.8) تعاليم يسوع, على الرغم من تعديلها بشكل كبير, نجت من الطوائف الباطنية في وقت ولادتها, وجهل وخرافة العصور المظلمة, وحتى الآن تنتصر ببطء على المادية والآلية, والعلمانية في القرن العشرين. ومثل هذه الأوقات من الاختبارات العظيمة والهزيمة المهدَدة هي دائماً أوقات وحيٍ عظيم.
195:9.4 (2082.9) الدِين يحتاج إلى قادة جدد, رجال ونساء روحيين الذين سيتجرؤون على الإعتماد فقط على يسوع وتعاليمه التي لا تُضاهى. إذا استمرت المسيحية في إهمال رسالتها الروحية بينما تستمر في الإنشغال بالمشاكل الإجتماعية والمادية, يجب أن تنتظر النهضة الروحية مجيء هؤلاء المعلمين الجدد لدِين يسوع الذين سيكونون مكرسين حصرياً للتجديد الروحي للناس. وعندئذ سوف تزود هذه النفوس المولودة بالروح بسرعة القيادة والإلهام المُتطلبان لإعادة التنظيم الاجتماعي, والأخلاقي, والاقتصادي, والسياسي للعالَم.
195:9.5 (2083.1) سوف يرفض العصر الحديث قبول دين لا يتفق مع الحقائق وغير منسجم مع أعلى مفاهيمه عن الحقيقة, والجَمال, والخير. الساعة تدق من أجل إعادة اكتشاف الأُسس الحقيقية والأصلية لمسيحية اليوم الحاضر المشوهة والتي تعرضت للتسوية ــ الحياة والتعاليم الحقيقية ليسوع.
195:9.6 (2083.2) عاش الإنسان البدائي حياة رق خرافي للخوف الدِيني. يخشى الناس المتمدنون الحديثون, فكرة الوقوع تحت سيطرة القناعات الدِينية القوية. لطالما خاف الإنسان المفكر أن يكون ممسوكاً بدِين. عندما يهدد دِين قوي ومؤثر بالسيطرة عليه, فإنه يحاول بثبات ترشيده, وجعله تقليدي, وإضفاء الطابع المؤسسي عليه, آملاً بالتالي في السيطرة عليه. بمثل هذا الإجراء, حتى دِين موحى يصبح من صنع الإنسان ويهيمن عليه الإنسان. رجال ونساء حديثين ذوي ذكاء يتهربون من دِين يسوع بسبب مخاوفهم مما سيفعله بهم ــ ومعهم. وكل هذه المخاوف لها ما يبررها. دِين يسوع, في الواقع, يهيمن على المؤمنين به ويغيرهم, ويطالب بأن يكرس الناس حياتهم للبحث عن معرفة مشيئة الأب في السماء ويتطلب تكريس طاقات المعيشة للخدمة غير الأنانية لأخوية الإنسان.
195:9.7 (2083.3) الرجال والنساء الأنانيون ببساطة لن يدفعوا مثل هذا الثمن لأعظم كنز روحي قدمه الإنسان الفاني على الإطلاق. فقط عندما يكون الإنسان قد أصبح مُحرراً من الوهم بما فيه الكفاية بسبب خيبات الأمل المؤسفة المصاحبة للسعي الأحمق والمخادع للأنانية, وبعد اكتشاف عُقم الدِين الرسمي, سيكون ميالاً ليعود بكل إخلاص إلى إنجيل الملكوت, دِين يسوع الناصري.
195:9.8 (2083.4) يحتاج العالَم أكثر إلى دِين مستقى من المصدر. حتى المسيحية ــ أفضل ديانات القرن العشرين ــ ليست مجرد دين عن يسوع, بل إنها إلى حد كبير ديانة يختبرها الناس بشكل غير مباشر. إنهم يأخذون دِينهم كلياً كما سُلـِّم إليهم نزولاً من قِبل قادتهم الدِينيين المقبولين. أي صحوة سيختبرها العالَم إذا استطاع فقط أن يرى يسوع كما عاش حقاً على الأرض وعرف, عن كثب, تعاليمه الواهبة للحياة! لا يمكن للكلمات التي تصف الأشياء الجميلة أن تثير مثل منظرها, كما لا يمكن للكلمات العقائدية أن تلهم نفوس الناس مثل اختبار معرفة حضور الله. لكن الإيمان المترقب سوف يحفظ دائماً باب الأمل في نفـْس الإنسان مفتوحاً من أجل دخول الحقائق الروحية الأبدية للقيم الإلَهية للعوالم ما بعد.
195:9.9 (2083.5) لقد تجرأت المسيحية على خفض مُثلها أمام تحدي الجشع البشري, وجنون الحرب, والشهوة للسلطة؛ لكن دِين يسوع يقف كاستدعاءات روحية غير ملوثة ومتعالية, داعياً إلى أفضل ما في الإنسان للارتقاء فوق كل هذه الموروثات من تطور الحيوان, وبالنعمة, ينال الأعالي الأخلاقية للمصير الإنساني الحقيقي.
195:9.10 (2083.6) المسيحية مهددة بالموت البطيء الناجم عن الشكلية, والتنظيم المفرط, والعقلانية, وغيرها من الاتجاهات غير الروحية. ليست الكنيسة المسيحية الحديثة تلك الأخوية من المؤمنين الديناميكيين كما فوَّضهم يسوع باستمرار ليُدخِلوا التحويل الروحي للأجيال المتعاقبة من البشرية حيز التنفيذ.
195:9.11 (2083.7) لقد أصبحت المدعوة مسيحية حركة اجتماعية وثقافية بالإضافة إلى معتقد وممارسة دِينية. تيار المسيحية الحديثة يُصَّرِف العديد من المستنقعات الوثنية القديمة والعديد من المستنقعات البربرية؛ تصب العديد من مستجمعات المياه الحضارية القديمة في هذا المجرى الثقافي لليوم الحاضر بالإضافة إلى الهضاب الجليلية العالية التي من المُفترَض أن تكون مصدرها الحصري.
195:10.1 (2084.1) لقد قدمت المسيحية بالفعل خدمة عظيمة لهذا العالَم, لكن ما هو الآن في أشد الحاجة إليه هو دِين يسوع. يحتاج العالَم لأن يرى يسوع يعيش مرة أخرى على الأرض في تجربة البشر المولودين بالروح الذين يكشفون السيد بشكل فعال لجميع الناس. إنه من غير المجدي الحديث عن إحياء المسيحية البدائية؛ يجب أن تسيروا إلى الأمام من حيث تجدون أنفسكم. يجب أن تصبح الحضارة الحديثة معمدة روحياً بإعلان جديد لحياة يسوع وأن تُنير بفهم جديد لإنجيله عن الخلاص الأبدي. وعندما يصبح يسوع مُمَجَداً بهذا, سوف يجذب كل الناس إلى نفسه. يجب أن يكون تلاميذ يسوع أكثر من غزاة, بل حتى مصادر فياضة من الإلهام والعيش المُحَّسَن لجميع الناس. إن الدين ليس سوى إنسانية ممجَدة إلى أن يُجعل إلَهياً باكتشاف واقع حضور الله في التجربة الشخصية.
195:10.2 (2084.2) إن الجَمال والسمو, والإنسانية والألوهية, والبساطة والتفرد, لحياة يسوع على الأرض تقدم تلك الصورة المذهلة والجذابة لإنقاذ الإنسان وكشف الله بحيث أنه ينبغي كبح اللاهوتيين والفلاسفة من كل العصور بشكل فعال من التجرؤ على تشكيل مذاهب أو إنشاء أنظمة لاهوتية من الرق الروحي من مثل هذا الإغداق المتعالي لله في صورة إنسان. في يسوع أنتج الكون إنساناً فانياً انتصرت فيه روح المحبة على المعوقات المادية للزمن وتغلبت على حقيقة الأصل المادي.
195:10.3 (2084.3) دائماً ضع في إعتبارك ــ بأن الله والناس بحاجة إلى بعضهم البعض. إنهم ضروريين بشكل متبادل للتحقيق الكامل والنهائي لتجربة الشخصية الأبدية في المصير الإلَهي لنهائية الكون.
195:10.4 (2084.4) "ملكوت الله في داخلك" ربما كان أعظم تصريح أصدره يسوع, بجانب الإعلان بأن أبيه هو روح حي ومُحب.
195:10.5 (2084.5) في كسب نفوس من أجل السيد, إنه ليس الميل الأول من الإلزام, أو الواجب, أو التقاليد ما سيغّير الإنسان وعالَمه, بل بالأحرى الميل الثاني من الخدمة المجانية والتكريس المحب-للحرية الذي يدل على اليسوعي يبسط يده ليمسك أخاه في محبة ويكتسحه تحت التوجيه الروحي نحو الهدف الأعلى والإلَهي للوجود الفاني. المسيحية الآن عن طيب خاطر تقطع الميل الأول, لكن الجنس البشري يُبطئ ويتعثر في المسير في ظلمة أخلاقية لأن هناك القليل جداً من أصحاب الميل الثاني الأصليين ــ قليل جداً من أتباع يسوع المُعلنين الذين حقاً يعيشون ويحبون كما علـَّم تلاميذه أن يعيشوا ويحبوا ويخدموا.
195:10.6 (2084.6) إن الدعوة إلى مغامرة بناء مجتمع بشري جديد ومُحَّول عن طريق إعادة الولادة الروحية لأخوية ملكوت يسوع يجب أن تثير مشاعر كل من يؤمن به كما أُثير أناس منذ الأيام عندما مشوا على الأرض كرفقائه في الجسد.
195:10.7 (2084.7) لا يمكن لأي نظام اجتماعي أو حُكم سياسي ينكر حقيقة الله أن يساهم بأي طريقة بنَّاءة ودائمة في تقدم الحضارة الإنسانية. لكن المسيحية, كما هي مجزأة ومجعولة علمانية اليوم, تمثل أكبر عقبة لتقدمها الإضافي, هذا صحيح بشكل خاص بالنسبة إلى المشرق.
195:10.8 (2084.8) إن التَّعَلُّق الْمُتَطَرِّف بِالْمَبَادِئ وَالطُّقُوس الْكَنَسِيَّة هو في آن واحد وإلى الأبد غير متوافق مع ذلك الإيمان الحي, والروح المتنامية, والتجربة المباشرة لرفاق الإيمان ليسوع في أخوة الإنسان في الرابطة الروحية لملكوت السماء. إن الرغبة الجديرة بالثناء في الحفاظ على تقاليد الإنجاز الماضي غالباً ما تؤدي إلى الدفاع عن أنظمة عبادة بالية. الرغبة الحسنة النية في تعزيز أنظمة الفكر القديمة تمنع بشكل فعال رعاية وسائل وأساليب جديدة وكافية مصممة لإشباع الأشواق الروحية للعقول المتوسعة والمتقدمة للناس المعاصرين. بالمثل, تقف الكنائس المسيحية في القرن العشرين كعقبات كبيرة, ولكن كلياً غير واعية, للتقدم الفوري للإنجيل الحقيقي ــ تعاليم يسوع الناصري.
195:10.9 (2085.1) العديد من الأشخاص الجادون الذين يُخضعون الولاء بسرور لمسيح الإنجيل يجدون صعوبة بالغة في أن يدعموا بحماس كنيسة تعرض القليل جداً من روح حياته وتعاليمه, والتي تم تعليمهم خطأ بأنه أسسها. لم يؤسس يسوع ما يسمى بالكنيسة المسيحية, لكنه, بكل أسلوب متوافق مع طبيعته, رعاها كأفضل ممثل موجود لعمل حياته على الأرض.
195:10.10 (2085.2) إذا كانت الكنيسة المسيحية ستتجرأ فقط على تبني برنامج السيد, فسوف يندفع الآلاف من الشباب غير المبالين على ما يبدو إلى الأمام للتجند في مثل هذا التعهد الروحي, ولن يترددوا في المضي كل الطريق في هذه المغامرة العظيمة.
195:10.11 (2085.3) المسيحية في مواجهة جدية مع الهلاك المتجسد في أحد شعاراتها الخاصة: "منزل منقسم على نفسه لا يستطيع الوقوف." بالكاد سيستسلم العالَم غير المسيحي إلى مسيحية منقسمة الطوائف. يسوع الحي هو الأمل الوحيد لتوحيد ممكن للمسيحية. الكنيسة الحقيقية ــ أخوية يسوع ــ غير مرئية, وروحية, وتتميز بالوحدة, ليس بالضرورة بالتماثل. التماثل هو سمة العالَم المادي ذا الطبيعة الميكانيكية. الوحدة الروحية هي ثمرة اتحاد الإيمان بيسوع الحي. يجب أن ترفض الكنيسة المرئية بعد الآن أن تعيق تقدم الأخوية الروحية وغير المرئية لملكوت الله. وهذه الأخوية مقـَّدرة أن تصبح كائنًا حيًا على عكس التنظيم الاجتماعي المؤسسي. قد تستخدم هذه المنظمات الاجتماعية بشكل جيد, ولكن يجب ألا تحل محلها.
195:10.12 (2085.4) لكن يجب عدم احتقار حتى مسيحية القرن العشرين. إنها نتاج العبقرية الأخلاقية المجتمعة لأناس عارفين الله في العديد من الأعراق على مر العصور الكثيرة, ولقد كانت حقاً واحدة من أعظم القدرات من أجل الخير على الأرض, وبالتالي لا ينبغي لأحد أن ينظر إليها باستخفاف, بالرغم من عيوبها المتأصلة والمكتسبة. لا تزال المسيحية تسعى لتحريك عقول الناس المتأملين ذوي المشاعر الأخلاقية العظيمة.
195:10.13 (2085.5) لكن ليس هناك عذر لتدخل الكنيسة في التجارة والسياسة؛ مثل هذه التحالفات غير المقدسة هي خيانة فاضحة للسيد, وسيكون محبو الحقيقة الصادقون بطيئين في نسيان أن هذه الكنيسة المؤسسية القديرة غالباً ما تجرأت على إخماد إيمان مولود من جديد واضطهاد حاملي الحقيقة الذين صادف ليظهروا في كسوة غير تقليدية.
195:10.14 (2085.6) إنه تمامًا صحيح بأن مثل هذه الكنيسة ما كانت لتنجو إلا إذا كان هناك أناس في العالَم يفـَّضلون مثل هذا الأسلوب من العبادة. العديد من النفوس الراكدة روحياً يتوقون إلى دِين قديم وذي سُلطة من الشعائر والتقاليد المقدسة. التطور البشري والتقدم الروحي بالكاد كافيان لتمكين جميع الناس من الإستغناء عن السُلطة الدِينية. وقد تشمل الأخوة غير المرئية للملكوت تلك الفئات العائلية من مختلف الطبقات الاجتماعية والمزاجية إذا كانوا فقط راغبين بأن يصبحوا حقاً أبناء لله مُقادين بالروح. لكن في أخوية يسوع هذه ليس هناك مكان للتنافس الطائفي, أو المرارة الجماعية, ولا تأكيدات على التفوق الأخلاقي والعصمة الروحية.
195:10.15 (2086.1) قد تعمل هذه المجموعات المتنوعة من المسيحيين على استيعاب العديد من الأنواع المختلفة من المؤمنين المحتملين من بين مختلف شعوب الحضارة الغربية, لكن مثل هذا التقسيم للمسيحية يُمثل نقطة ضعف خطيرة عندما يحاول حمل إنجيل يسوع إلى شعوب المشرق. هذه الأجناس لا تفهم بعد أن هناك دينًا ليسوع منفصل, ونوعاً ما على حدة, من المسيحية, التي أصبحت أكثر فأكثر دِيناً عن يسوع.
195:10.16 (2086.2) يكمن أمل يورانشيا العظيم في إمكانية كشف جديد ليسوع مع تقديم جديد وموَّسع عن رسالته المُخَّلِصة التي من شأنها أن توحِد روحياً في الخدمة المحبة العائلات العديدة لأتباعه المُعلنين لليوم الحاضر.
195:10.17 (2086.3) حتى التعليم العلماني يمكن أن يساعد في هذه النهضة الروحية العظيمة إذا كان من شأنه أن يولي المزيد من الاهتمام لعمل تعليم الشباب كيفية الانخراط في التخطيط للحياة وتطور الطبع. يجب أن يكون هدف كل التعليم هو رعاية وتعزيز الهدف الأسمى للحياة. تنمية شخصية مهيبة وحسنة الاتزان. هناك حاجة كبيرة من أجل تعليم الإنضباط الأخلاقي بدلاً من الكثير جداً من الإرضاء الذاتي. على مثل هذا الأساس, قد يُساهم الدين بحافزه الروحي في توسيع وإثراء الحياة الفانية, حتى لأمن وتعزيز الحياة الأبدية.
195:10.18 (2086.4) المسيحية دِين ارتجالي, ولذلك يجب أن تعمل في حالة تأهب منخفض. إجراءات التأهب الروحي العالي يجب أن تنتظر الوحي الجديد والقبول الأكثر عموماً لدِين يسوع الحقيقي. لكن المسيحية هي دين عظيم, ناظرين بأن التلاميذ العاديين للنجار المصلوب قد أطلقوا تلك التعاليم التي غزت العالَم الروماني في ثلاثمائة عام وبعد ذلك مضوا لينتصروا على البرابرة الذين أطاحوا بروما. هذه المسيحية نفسها غزت ــ استوعبت ورفعت ــ مجمل تيار اللاهوت العبري والفلسفة اليونانية. وبعد ذلك, عندما أصبح هذا الدِين المسيحي في غيبوبة لأكثر من ألف عام نتيجة لجرعة زائدة من الباطنية والوثنية, قام بإحياء نفسه وفعلياً أعاد احتلال العالَم الغربي بأكمله. تحتوي المسيحية على ما يكفي من تعاليم يسوع لتخليدها.
195:10.19 (2086.5) إذا فقط أمكن للمسيحية فهم المزيد من تعاليم يسوع, فيمكنها أن تفعل الكثير جداً لمساعدة الإنسان المعاصر على حل مشاكله الجديدة والمعقدة بشكل متزايد.
195:10.20 (2086.6) تعاني المسيحية تحت عائق كبير لأنها أصبحت مُتعرَف عليها في أذهان العالم كله كجزء من النظام الاجتماعي, والحياة الصناعية, والمعايير الأخلاقية للحضارة الغربية؛ وهكذا بدت المسيحية وكأنها ترعى عن غير قصد مجتمعاً يترنح تحت ذنب التسامح مع عِلم بلا مثالية, وسياسة بلا مبادئ, وثروة بلا عمل, ومتعة بلا قيود, ومعرفة بلا طبع, وقوة بلا ضمير, وصناعة بلا أخلاق.
195:10.21 (2086.7) أمل المسيحية الحديثة هي بأنها يجب أن تتوقف عن رعاية النظم الاجتماعية والسياسات الصناعية للحضارة الغربية بينما تنحني بتواضع أمام الصليب الذي تمجده بغاية البسالة, هناك لتتعلم من جديد من يسوع الناصري أعظم الحقائق التي يمكن أن يسمعها إنسان فاني ــ الإنجيل الحي لأبوّة الله وأخوّة الإنسان.
كِتاب يورانشيا
ورقة 196
196:0.1 (2087.1) تمتع يسوع بإيمان رائع وصادق بالله لقد اختبر الصعود والهبوط العادي للوجود الفاني, لكنه لم يشك أبداً دِينياً في يقين رعاية الله وإرشاده. كان إيمانه ثمرة البصيرة المولودة من نشاط الحضور الإلهي, ضابطه الساكن. لم يكن إيمانه تقليدياً ولا مجرد فكري؛ لقد كان شخصياً بالكامل وروحياً بحتاً.
196:0.2 (2087.2) رأي يسوع الإنسان أن الله مقدس, وعادل, وعظيم, فضلاً عن كونه صادقًا, وجميلًا, وصالحًا. لقد ركَزَ كل هذه صفات الألوهية هذه في عقله على أنها "مشيئة الأب في السماء." كان إله يسوع في آن واحد "قدوس إسرائيل" و "الأب الحي والمُحب في السماء." لم يكن مفهوم الله كأب أصليًا مع يسوع, لكنه مَجَّد الفكرة ورفعها إلى تجربة سامية من خلال إنجاز كشف جديد لله وإعلان أن كل مخلوق فاني هو طفل لأب المحبة هذا, ابن لله.
196:0.3 (2087.3) لم يتشبث يسوع بالإيمان بالله كما ستفعل نفـْس تكافح في حرب مع الكون وعند قبضات الموت مع عالَم معادي وخاطئ؛ لم يلجأ إلى الإيمان كمجرد عزاء في وسط الصعوبات أو كمؤاسي في اليأس المهدد؛ لم يكن الإيمان مجرد تعويض وهمي عن الحقائق غير السارة وأحزان المعيشة. في مواجهة كل الصعوبات الطبيعية والتناقضات الدنيوية للوجود الفاني, اختبر اطمئنان الثقة السامية التي لا ريب فيها في الله وشعر بالإثارة الهائلة للعيش, بإيمان, في ذات الحضور للأب السماوي. وكان هذا الإيمان المنتصر تجربة حية لإحراز الروح الحقيقي. لم تكن مساهمة يسوع العظيمة في قيم التجربة البشرية أنه كشف الكثير من الأفكار الجديدة عن الأب في السماء, بل بالأحرى, بأنه أظهر بشكل رائع وإنساني للغاية نوعاً جديداً وأعلى من الإيمان الحي بالله. لم يحدث أبداً على كل عوالم هذا الكون, في حياة أي بشري واحد, أن أصبح الله أبداً هكذا حقيقة حية كما في التجربة البشرية ليسوع الناصري.
196:0.4 (2087.4) في حياة السيد على يورانشيا, هذا العالَم وكل العوالم الأخرى من الخلق المحلي تكتشف نوعاً جديداً وأعلى من الدِين, دِين مؤسس على علاقات روحية شخصية مع الأب الكوني ومصدَّق عليه بالكامل بالسُلطة السامية لتجربة شخصية أصلية. هذا الإيمان الحي ليسوع كان أكثر من مجرد خواطر فكرية, ولم يكن تأملاً باطنياً.
196:0.5 (2087.5) قد يقوم اللاهوت بإصلاح, وصياغة, وتعريف, وجزم العقيدة, لكن في حياة يسوع البشرية كان الإيمان شخصياً, وحياً, وأصلياً, وعفوياً, وروحياً خالصاً. لم يكن هذا الإيمان تقديسًا لتقاليد ولا مجرد اعتقاد فكري الذي اعتبره كعقيدة مقدسة, لكن بالأحرى تجربة سامية وقناعة عميقة التي أمسكته بإحكام. كان إيمانه حقيقياً وشاملًا للغاية بحيث جرف بعيداً أي شكوك روحية ودمر بشكل فعال كل رغبة متضاربة. لم يستطع شيء أن يمزقه بعيداً عن المرسى الروحي لهذا الإيمان المتوقد, والسامي, والباسل. حتى في مواجهة الهزيمة البادية أو في خضم خيبة الأمل واليأس المهدد, وقف بهدوء في الحضرة الإلَهية حراً من الخوف ومدركًا تمامًا للمناعة الروحية. تمتع يسوع بالضمان المنعش لامتلاك إيمان لا يتزعزع, وفي كل موقف من مواقف الحياة المجربة أظهر بلا كلل ولاء لا يرقى إليه الشك لمشيئة الأب. وهذا الإيمان الرائع لم يخيبه حتى القاسي والساحق لموت بغيض.
196:0.6 (2088.1) في نابغة دِيني, كثيراً ما يؤدي الإيمان الروحي القوي بشكل مباشر إلى تعصب كارثي, إلى المبالغة في الأنا الدِينية, لكن الأمر لم يكن كذلك مع يسوع. لم يتأثر بشكل سلبي في حياته العملية بإيمانه غير العادي وبإحرازه الروحي لأن هذا التمجيد الروحي كان تعبيراً روحياً غير واعٍ وعفوياً تمامًا عن تجربته الشخصية مع الله.
196:0.7 (2088.2) لم يصبح الإيمان الروحي الذي لا يُقهر ليسوع متعصباً أبداً, لأنه لم يحاول مطلقًا الفرار بأحكامه الفكرية الحسنة الاتزان فيما يتعلق بالقيم التناسبية لمواقف الحياة الاجتماعية, والاقتصادية, والأخلاقية, العملية والمألوفة. كان ابن الإنسان شخصية بشرية موَّحَدة بشكل رائع؛ كان كائناً إلَهياً موهوباً بكمال؛ كما كان متناسقاً بشكل رائع كمُرَّكَب كائن بشري وإلَهي مشترك عامل على الأرض كشخصية واحدة. دائماً نسق السيد إيمان النفـْس مع تقييمات الحكمة للتجربة المحنَّكة. "الإيمان الشخصي", و "الأمل" الروحي, و "التفاني الأخلاقي" كانوا دائماً متناسقين في وحدة دِينية لا تضاهى من الإرتباط المتناغم مع الإدراك الحاد لواقع وقدسية جميع الولاءات البشرية ــ الشرَف الشخصي, وحب الأسرة, والالتزام الدِيني, والواجب الاجتماعي, والضرورة الاقتصادية.
196:0.8 (2088.3) تصَّور إيمان يسوع كل القيم الروحية على أنها موجودة في ملكوت الله؛ لذلك قال, "اطلبوا أولاً ملكوت السماء." رأى يسوع في الزمالة المتقدمة والمثالية للملكوت تحقيق "مشيئة الله" والوفاء بها. كان جوهر الصلاة التي علـَّمها لتلاميذه, "ليأتي ملكوتك؛ لتكن مشيئتك." حيث إنه تصور الملكوت على أنه يتضمن مشيئة الله, كرس نفسه لقضية تحقيقه بنسيان مذهل للذات وحماس غير محدود. لكن في كل مهمته المكثفة وطوال حياته غير العادية لم يُبدي أبداً غضب المتعصب ولا الزبد السطحي للأناني المتدين.
196:0.9 (2088.4) كانت حياة السيد بأكملها مشروطة باستمرار بهذا الإيمان الحي, هذه التجربة الدِينية السامية. هذا الموقف الدِيني سيطر بالكامل على تفكيره وشعوره, وإيمانه وصَلاته, وتعليمه ووعظه. هذا الإيمان الشخصي للابن في يقين وأمان إرشاد وحماية الأب السماوي منح حياته الفريدة هبة عميقة من الواقع الروحي. ومع ذلك, بالرغم من هذا الوعي العميق جدًا بالعلاقة الوثيقة مع الألوهية, هذا الجليلي, جليلي الله, عندما خوطب كالمعلم الصالح, أجاب على الفور, "لماذا تدعوني صالحاً؟" عندما نقف في مواجهة مثل هذا النسيان الرائع للذات, نبدأ في فهم كيف وجد الأب الكوني أنه من الممكن تماماً أن يُظهر ذاته إليه ويكشف ذاته من خلاله إلى بشر العوالم.
196:0.10 (2088.5) قدم يسوع لله, كإنسان من العالم, الأعظم من كل القرابين: التكريس والإخلاص لمشيئته الخاصة للخدمة الجليلة لفعل المشيئة الإلَهية. دائماً وعلى الدوام فسَّر يسوع الدِين بالكامل من حيث مشيئة الأب. عندما تدرس مهمة السيد, فيما يتعلق بالصلاة أو أي ملمح آخر من حياته الدِينية, لا تنظر كثيراً إلى ما علـَّمه بقدر إلى ما فعله. لم يصَّلي يسوع أبداً كواجب دِيني. كانت الصلاة بالنسبة له تعبيراً صادقاً عن الموقف الروحي, وإعلاناً عن ولاء النفـْس, وقراءة عن التكريس الشخصي وتعبيراً عن إعطاء الشكر, وتجنباً للتوتر العاطفي, ومنعاً للصراع, وتمجيداً للتعقل, وتشريفاً للرغبة, وتبريراً لقرار أخلاقي, وإثراءً للفكر, وإنعاشاً لميول أعلى, وتكريساً لدافع, وتوضيحاً لوجهة نظر, وإعلاناً للإيمان, وإخضاعاً متعالياً للمشيئة, وتأكيداً راسخاً للثقة, وكشفاً للشجاعة, وإعلاناً للاكتشاف, واعترافاً بالتكريس السامي, وإثباتاً للتكريس, وتقنية لتضبيط الصعوبات, والتعبئة القديرة لقدرات النفـْس المُرَّكَبة لتثبت أمام كل الميول البشرية تجاه الأنانية, والشر, والخطيئة. لقد عاش بالضبط مثل هذه الحياة من التكريس الصلواتي لفعل مشيئة أبيه وأنهى حياته بانتصار تماماً بمثل هكذا صلاة. كان سِر حياته الدِينية التي لا مثيل لها هذا الوعي بحضور الله؛ وقد ناله من خلال الصلاة الذكية والعبادة المُخلِصة ــ التواصل غير المنقطع مع الله ــ وليس عن طريق التوجيهات, أو الأصوات, أو الرؤى, أو الممارسات الدينية غير العادية.
196:0.11 (2089.1) في حياة يسوع الأرضية, كان الدِين تجربة حية, حركة مباشرة وشخصية من الخشوع الروحي إلى الاستقامة العملية. حمل إيمان يسوع الثمار الفائقة للروح الإلَهي. لم يكن إيمانه غير ناضج وساذج مثل ذلك لطفل, لكن في نواحٍ كثيرة شابه الثقة غير المرتابة لعقل الطفل. لقد وثق يسوع بالله كثيراً كما يثق الطفل بوالديه. كان لديه ثقة عميقة في الكون ــ بالضبط مثل هذه الثقة التي لدى الطفل في بيئته الأبوية. شابه إيمان يسوع الصادق في الخير الأساسي للكون كثيراً ثقة الطفل في أمان محيطه الأرضي. لقد اعتمد على الأب السماوي كما يستند طفل على والده الأرضي, ولم يشك إيمانه المتوقد ولا للحظة واحدة في يقين رعاية الأب السماوي. لم يكن منزعجاً بشكل جدي بالمخاوف, والشكوك, والارتياب. لم يثبط عدم الاعتقاد التعبير الحر والأصلي لحياته. لقد جمع الشجاعة الراسخة والذكية لرَجل كامل النمو مع التفاؤل الصادق والواثق لطفل مؤمن. نما إيمانه إلى مستويات عالية من الثقة بحيث كان مجرداً من الخوف.
196:0.12 (2089.2) نال إيمان يسوع نقاء ثقة طفل. كان إيمانه مُطلقاً وغير شكوك للغاية بحيث استجاب لسحر التواصل مع كائنات زميلة وعجائب الكون. كان إحساسه بالإعتماد على الإلَه تاماً جداً وواثقاً جداً لدرجة أنه أسفر عن الفرح وتأكيد الأمان الشخصي المُطلق. لم يكن هناك ادعاء متردد في تجربته الدِينية. في هذا الفكر العملاق للرَجل كامل النمو, ساد إيمان الطفل بسمو في كل الأمور المتعلقة بالوعي الدِيني. ليس غريباً بأنه قال ذات مرة, "ما لم تصبح مثل طفل صغير, فلن تدخل الملكوت." بالرغم من أن إيمان يسوع كان كالطفولي, إلا أنه لم يكن طفولياً بأي حال من الأحوال.
196:0.13 (2089.3) لا يطلب يسوع من تلاميذه أن يؤمنوا به بل بالأحرى أن يؤمنوا معه, يؤمنوا بحقيقة محبة الله وأن يتقبلوا بثقة تامة أمن ضمان البنوة مع الأب السماوي. يرغب السيد في أن يشارك جميع أتباعه إيمانه المتعالي بالكامل. لقد تحدى يسوع أتباعه بشكل مؤثر للغاية, ليس فقط ليؤمنوا بما آمن به, لكن كذلك ليؤمنوا كما آمن هو. هذا هو المغزى الكامل لمطلبه السامي الوحيد, "اتبعني."
196:0.14 (2090.1) كانت حياة يسوع الأرضية مكرسة لهدف عظيم واحد ــ فعل مشيئة الأب, وعيش الحياة البشرية بتدين وبإيمان. كان إيمان يسوع واثقاً, مثل ذلك لطفل, لكنه كان حراً تماماً من الافتراض. لقد اتخذ قرارات صلبة ورجولية, وواجَه بشجاعة خيبات أمل متعددة, وتغلب بحزم على صعوبات غير عادية, وواجَه بدون كلل المتطلبات الصارمة للواجب. لقد تطلب الأمر مشيئة قوية وثقة لا تفشل لتؤمن بما آمن به يسوع وكما آمن.
196:1.1 (2090.2) كان تكريس يسوع لمشيئة الأب وخدمة الإنسان حتى أكثر من قرار فاني وعزم بشري؛ لقد كان تكريساً من كل القلب من نفسه لمثل هذا الإغداق غير المتحفظ للمحبة. بغض النظر عن عظمة حقيقة سيادة ميخائيل, يجب أن لا تأخذ يسوع الإنسان بعيداً عن الناس. ارتقى السيد إلى العُلى كإنسان, كما كإله؛ إنه ينتمي للناس؛ الناس ينتمون إليه. كم هو مؤسف بأن الدِين نفسه يجب أن يُساء تفسيره بحيث يأخذ يسوع الإنسان بعيداً عن الفانين المكافحين! لا تدع المناقشات حول إنسانية أو ألوهية المسيح تحجب الحقيقة المخَّلِصة بأن يسوع الناصري كان رَجلاً متديناً, الذي,بالإيمان, أنجز معرفة وفعل مشيئة الله؛ كان في الحقيقة أكثر رَجل متدَّين عاش أبداً على يورانشيا.
196:1.2 (2090.3) لقد حان الوقت لمشاهدة القيامة المجازية ليسوع الإنسان من قبر دفنه وسط التقاليد اللاهوتية والمعتقدات الدِينية لتسعة عشر قرناً. يجب أن لا يُضَّحى بيسوع الناصري بعد الآن حتى من أجل المفهوم الرائع للمسيح الممجَد. يا لها من خدمة متعالية إذا, من خلال هذا الوحي, سيتعافى ابن الإنسان من قبر اللاهوت التقليدي ويُقـَّدَم كيسوع الحي للكنيسة التي تحمل اسمه, وإلى جميع الأديان الأخرى! من المؤكد أن الزمالة المسيحية للمؤمنين لن تتردد في إجراء مثل هذه التعديلات في الإيمان وممارسات العيش بحيث ستمكنها من "المتابعة وراء" السيد في إظهار حياته الحقيقية من التفاني الدِيني لفعل مشيئة أبيه والتكريس لخدمة الإنسان غير الأنانية. هل يخشى المسيحيون المُعلنون من الكشف عن زمالة مكتفية ذاتياً وغير موقوفة من الاحترام الاجتماعي وسوء التكيف الاقتصادي الأناني؟ هل تخاف المسيحية المؤسساتية من المجازفة المحتملة, أو حتى الإطاحة, بالسُلطة الكنسية التقليدية إذا تمت إعادة يسوع الجليلي إلى ما كان عليه في عقول ونفوس البشر الفانين كمثال للعيش الدِيني الشخصي؟ في الواقع, فإن التعديلات الاجتماعية, والتحولات الاقتصادية, والتجديدات الأخلاقية, والمراجعات الدينية للحضارة المسيحية ستكون جذرية وثورية إذا حل الدِين الحي ليسوع فجأة محل الدِين اللاهوتي عن يسوع.
196:1.3 (2090.4) "إتباع يسوع" يعني المشاركة شخصياً في إيمانه الدِيني والدخول في روح حياة السيد من الخدمة غير الأنانية للإنسان. أحد الأشياء الأكثر أهمية في الحياة البشرية هو معرفة ما آمن به يسوع, واكتشاف مُثله العليا, والسعي لتحقيق هدف حياته السامي. من بين كل المعارف البشرية, الأعظم قيمة هو معرفة الحياة الدِينية ليسوع وكيف عاشها.
196:1.4 (2090.5) لقد سمع عامة الناس يسوع بسرور, وسوف يستجيبون مرة أخرى لعرض حياته الإنسانية الصادقة من دافع دِيني مكرس إذا كانت هذه الحقائق ستُعلَن مرة أخرى للعالم. سمعه الناس بسرور لأنه كان واحداً منهم, رَجل عادي غير مُّدعي؛ أعظم معلم دِيني في العالَم كان رَجلاً عادياً حقاً.
196:1.5 (2091.1) لا ينبغي أن يكون هدف مؤمني الملكوت حرفياً الاقتداء بالحياة الظاهرية ليسوع في الجسد بل لمشاركة إيمانه؛ للوثوق بالله كما هو وثق بالله وأن يؤمنوا بالناس كما آمن هو في الناس. لم يجادل يسوع قط حول إما أبوة الله أو أخوة الناس؛ لقد كان مثالًا حياً على أحدهما وتوضيحًا عميقًا للآخر.
196:1.6 (2091.2) بالضبط مثلما يجب أن يتقدم الناس من الوعي بالإنساني إلى إدراك الإلَهي, هكذا ارتقى يسوع من طبيعة الإنسان إلى وعي طبيعة الله. وقد قام السيد بهذا الارتقاء العظيم من الإنساني إلى الإلَهي من خلال الإنجاز المشترك لإيمان عقله الفاني وأعمال ضابطه الساكن. إن إدراك حقيقة بلوغ كلية الألوهية (كل ذلك بينما مدرك تماماً لواقع البشرية) كان مصحوبًا بسبع مراحل من وعي الإيمان للألوهية التقدمية. تميزت هذه المراحل من الإدراك الذاتي التدريجي بالأحداث غير العادية التالية في تجربة إغداق السيد:
196:1.7 (2091.3) 1. وصول ضابط الفكر.
196:1.8 (2091.4) 2. رسول عمانوئيل الذي ظهر له في أورشليم عندما كان في حوالي الثانية عشرة من عمره.
196:1.9 (2091.5) 3. الظهورات المصاحبة لمعموديته.
196:1.10 (2091.6) 4. التجارب على جبل التجلي.
196:1.11 (2091.7) 5. القيامة المورونشية.
196:1.12 (2091.8) 6. ارتقاء الروح.
196:1.13 (2091.9) 7. الضم النهائي لأب الفردوس, مما يمنحه سيادة غير محدودة على كونه.
196:2.1 (2091.10) يوماً ما قد يضرب إصلاح في الكنيسة المسيحية بعمق كافٍ ليعود إلى تعاليم يسوع الدِينية غير المشوهة, المؤلف وواضع اللمسات الأخيرة لإيماننا. قد تبشر بدين عن يسوع لكن, بحكم الضرورة, يجب أن تعيش دِين يسوع. في حماسة يوم العنصرة, افتتح بطرس عن غير قصد دِيناً جديداً, دِين المسيح القائم والممجد. فيما بعد قام الرسول بولس بتحويل هذا الإنجيل الجديد إلى المسيحية, دِين يجسد وجهات نظره اللاهوتية الخاصة ويصور تجربته الشخصية مع يسوع طريق دمشق. يرتكز إنجيل الملكوت على التجربة الدِينية الشخصية ليسوع الجليلي؛ تأُسست المسيحية بشكل حصري تقريباً على التجربة الدِينية الشخصية للرسول بولس. كتاب العهد الجديد بأكمله مكـَّرَس تقريباً, ليس لتصوير الحياة الدِينية الهامة والملهمة ليسوع, لكن لمناقشة تجربة بولس الدينية وتصوير قناعاته الدينية الشخصية. الاستثناءات البارزة الوحيدة لهذا البيان, على حدة من أجزاء معينة من متـّى, ومرقس, ولوقا, هي كتاب العبرانيين, ورسالة يعقوب. حتى بطرس في كتابته, عاد مرة واحدة فقط إلى الحياة الدِينية الشخصية لسيده. كتاب العهد الجديد وثيقة مسيحية رائعة, إلا أنه يسوعي بشكل ضئيل فقط.
196:2.2 (2091.11) تصور حياة يسوع في الجسد نمواً دِينياً متعالياً من الأفكار المبكرة للرهبة البدائية والتقديس البشري عبر سنوات من المشاركة الروحية الشخصية حتى وصل أخيراً إلى تلك المكانة المتقدمة والمتعالية لوعي وحدته مع الأب. وهكذا, في حياة قصيرة واحدة, اجتاز يسوع تلك التجربة من التقدم الروحي الدِيني الذي يبدأه الإنسان على الأرض وعادة ما ينجزه فقط عند ختام إقامته الطويلة في مدارس تدريب الروح في المستويات المتعاقبة لمهنة ما قبل الفردوس. لقد تقدم يسوع من الوعي الإنساني البحت ليقينات الإيمان للتجربة الدينية الشخصية إلى الأعالي الروحية السامية للإدراك الإيجابي لطبيعته الإلَهية وإلى وعي صلته الوثيقة بالأب الكوني في إدارة كون. لقد تقدم من الحالة المتواضعة للاعتماد البشري التي دفعته بشكل تلقائي لأن يقول لمَن دعاه المعلم الصالح, "لماذا تدعوني صالحاً؟ لا أحد صالح سوى الله", إلى ذلك الوعي السامي بالألوهية المنجزة التي قادته ليهتف "من منكم يدينني بخطيئة؟" وهذا الارتقاء التقدمي من الإنساني إلى الإلَهي كان إنجازاً فانياً حصرياً. وعندما نال بهذا الألوهية, كان لا يزال يسوع الإنسان نفسه, ابن الإنسان وكذلك ابن الله.
196:2.3 (2092.1) مرقس, ومتـّى, ولوقا, يستبقون بعض الشيء من صورة يسوع البشري بينما انخرط في الكفاح الرائع للتأكد من المشيئة الإلَهية والقيام بتلك المشيئة. يقدَّم يوحنا صورة يسوع المنتصر حينما مشى على الأرض بوعي كامل من الألوهية. الخطأ الفادح الذي ارتكبه أولئك الذين درسوا حياة السيد هو أن البعض قد تصوره على أنه إنسان بالكامل, بينما اعتبره البعض الآخر مجرد إلهي. طوال تجربته بأكملها كان حقاً إنسانياً وإلَهياً معاً, حتى كما لا يزال.
196:2.4 (2092.2) لكن الخطأ الأكبر ارتُكب في أنه, بينما تم التعرف على يسوع الإنسان على أن لديه دِين, أصبح يسوع الإلَهي (المسيح) تقريباً بين ليلة وضحاها دِيناً. لقد حرصت مسيحية بولس على الهيام بالمسيح الإلَهي, لكنها تقريباً أضاعت كلياً البصيرة عن يسوع الجليلي الإنسان المكافح والشجاع, الذي, بجراءة إيمانه الدِيني الشخصي وبطولة ضابطه الساكن, ارتقى من المستويات المتدنية للإنسانية ليصبح واحداً مع الألوهية, ليصبح بذلك الطريق الجديد والحي الذي قد يرتقي به جميع البشر من الإنسانية إلى الألوهية. قد يجد الفانون في كل المراحل الروحية وعلى كل العوالم في حياة يسوع الشخصية ما سيقويهم ويلهمهم بينما يتقدمون من أدنى مستويات الروح إلى أعلى القيم الإلَهية, من البداية إلى النهاية لكل تجربة دِينية شخصية.
196:2.5 (2092.3) في وقت كتابة العهد الجديد, لم يكن المؤلفون يؤمنون بعمق بألوهية المسيح القائم فحسب, بل آمنوا أيضاً بتكريس وبإخلاص في رجوعه الفوري إلى الأرض ليتمم الملكوت السماوي. هذا الإيمان القوي بعودة الرب الفورية كان له علاقة كبيرة بالميل إلى حذف تلك المراجع من السجل التي صَّورت التجارب والصفات الإنسانية البحتة للسيد. مالت الحركة المسيحية بأكملها بعيداً عن الصورة الإنسانية ليسوع الناصري نحو تمجيد المسيح القائم, الرب يسوع المسيح الممجَد والعائد قريباً.
196:2.6 (2092.4) أسس يسوع دين التجربة الشخصية في فعل مشيئة الله وخدمة الأخوة البشرية؛ أوجد بولس دِيناً أصبح فيه يسوع الممجَد موضوع العبادة وتألفت الأخوية من زملاء مؤمنين بالمسيح الإلَهي. في إغداق يسوع كان هذان المفهومان محتملين في حياته الإنسانية-الإلَهية, وإنه لأمر مؤسف حقاً أن أتباعه فشلوا في خلق دِين موَّحد كان من الممكن أن يمنح الاعتراف المناسب لكِلا الطبيعتين الإنسانية والإلَهية للسيد كما كانتا مرتبطتين ارتباطًا وثيقًا بحياته الأرضية ومعروضتان بشكل مجيد للغاية في الإنجيل الأصلي عن الملكوت.
196:2.7 (2093.1) لن تكون مصدوماً ولا منزعجاً من بعض تصريحات يسوع القوية إذا كنت تتذكر فقط بأنه كان أعظم متدين مُكَّرَس ومتفاني في العالَم. لقد كان بشرياً مكرساً بالكامل, مكرساً بلا تحفظ لفعل مشيئة أبيه. الكثير من أقواله القاسية على ما يبدو كانت اعترافاً شخصياً بالإيمان وتعهداً بالولاء أكثر من كونها أوامر لأتباعه. ولقد كان هذا التفرد للهدف بالذات والتفاني غير -الأناني ما مكنه من إحداث مثل هذا التقدم غير العادي في غزو العقل البشري في حياة قصيرة واحدة. يجب اعتبار العديد من تصريحاته بمثابة اعتراف بما طالب به نفسه وليس ما تطلبه من جميع أتباعه. في إخلاصه لقضية الملكوت, أحرق يسوع كل الجسور من ورائه؛ لقد ضَّحى بكل العوائق لفعل مشيئة أبيه.
196:2.8 (2093.2) بارك يسوع الفقراء لأنهم كانوا في العادة مخلصين وأتقياء؛ وأدان الأثرياء لأنهم عادة ما كانوا مستهترين وغير متدينين. كما أنه سيُدين الفقير غير المتدين ويثني على رجل الثروة المكرس والعابد.
196:2.9 (2093.3) قاد يسوع الناس ليشعروا بأنهم في بيتهم في العالَم؛ خلصهم من عبودية المُحَّرَمات وعلـَّمهم بأن العالَم لم يكن شريراً في الأساس. لم يتوق للهروب من حياته الأرضية؛ لقد أتقن تقنية لفعل مشيئة الأب بشكل مقبول بينما في الجسد. حقق حياة دِينية مُثلى في وسط عالَم واقعي. لم يشارك يسوع وجهة نظر بولس المتشائمة عن الجنس البشري. نظر السيد إلى الناس على أنهم أبناء الله وتوقع مستقبلًا رائعًا وأبديًا لأولئك الذين اختاروا النجاة. لم يكن متشككاً أخلاقياً؛ نظر إلى الإنسان بإيجابية, وليس بسلبية. رأى معظم الناس كضعفاء بدلاً من كونهم أشرارًا, سارحي الفكر أكثر من كونهم فاسدين. لكن بغض النظر عن وضعهم, كانوا جميعًا أبناء الله وإخوانه.
196:2.10 (2093.4) علـَّم الناس أن يضعوا قيمة عالية على أنفسهم في الزمن وفي الأبدية. بسبب هذا التقدير العالي الذي وضعه يسوع على الناس, كان على استعداد لأن يبذل نفسه في الخدمة غير المنقطعة للبشرية. ولقد كانت هذه القيمة اللانهائية للمتناهي التي جعلت القاعدة الذهبية عاملاً حيوياً في دِينه. أي بشري يمكن أن يفشل في أن يرتقي بالإيمان الإستثنائي الذي لدى يسوع فيه؟
196:2.11 (2093.5) لم يقدم يسوع أي قوانين للتقدم الاجتماعي؛ كانت رسالته دِينية, والدِين هو تجربة فردية بحتة. لا يمكن أبداً للهدف الختامي لإنجاز المجتمع الأكثر تقدماً أن يأمل في التعالي على أخوة الناس ليسوع, المؤسسة على الاعتراف بأبوة الله. هذا المثال الأعلى لكل الإحراز الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق إلا بمجيء هذا الملكوت الإلَهي.
196:3.1 (2093.6) إن التجربة الدِينية الروحية الشخصية مذيب فعّال لمعظم صعوبات البشر؛ إنها فارز فعال, ومقيم, ومُقوم لجميع المشاكل البشرية. لا يزيل الدين مشاكل الإنسان أو يقضي عليها, لكنه يذيبها, ويمتصها, ويضيئها, ويتجاوزها. الدِين الحقيقي يوحد الشخصية من أجل التكيف الفعّال مع جميع المتطلبات البشرية. الإيمان الدِيني ــ القيادة الإيجابية للحضور الإلَهي الساكن ــ تُمكن الإنسان العارف بالله دون كلل من ردم الهوة القائمة بين المنطق الفكري الذي يتعرف على المسبب الأول الشامل كهو وتلك التأكيدات الإيجابية للنفـْس التي تجزم أن هذا المسبب الأول يكون هو, الأب السماوي لإنجيل يسوع, إله الخلاص البشري الشخصي.
196:3.2 (2094.1) هناك ثلاثة عناصر بالضبط في الواقع الكوني: الواقع, والفكرة, والعلاقة. يعرّف الوعي الدِيني هذه الحقائق بأنها العلم, والفلسفة, والحقيقة. ستكون الفلسفة ميالة لاعتبار هذه الأنشطة على أنها تعقل, وحكمة, وإيمان ــ واقع مادي, وواقع فكري, وواقع روحي. نحن معتادون على تصنيف هذه الحقائق على أنها شيء, ومعنى, وقيمة.
196:3.3 (2094.2) الاستيعاب التدريجي للواقع هو المعادل للاقتراب من الله. إيجاد الله, وعي الهوية مع الواقع, هو المعادل لتجربة اكتمال الذات ــ كلية الذات, ومجموعية الذات. إن اختبار الواقع الكلي هو الإدراك الكلي لله, نهائية تجربة معرفة الله.
196:3.4 (2094.3) الخلاصة الكاملة للحياة البشرية هي معرفة أن الإنسان يتعلم بالواقع, ويتشرف بالحكمة, ويخلص ــ يتبرر ــ بالإيمان الدِيني.
196:3.5 (2094.4) يتكون اليقين المادي في منطق العِلم؛ اليقين الأخلاقي, في حكمة الفلسفة؛ واليقين الروحي, في حقيقة التجربة الدِينية الأصلية.
196:3.6 (2094.5) يمكن لعقل الإنسان أن ينال مستويات عالية من البصيرة الروحية والأجواء المقابلة لألوهية القيم, لأنه ليس مادياً بالكامل. هناك نواة روح في عقل الإنسان ــ ضابط الحضور الإلَهي. هناك ثلاثة أدلة منفصلة عن هذا الروح الساكن في العقل البشري:
196:3.7 (2094.6) 1. الزمالة الإنسانية ــ المحبة. قد يكون العقل الحيواني البحت اجتماعياً من أجل حماية الذات؛ لكن فقط العقل المسكون بالروح هو غيري بدون أنانية ومُحب بدون شرط.
196:3.8 (2094.7) 2. تفسير الكون ــ الحكمة. فقط العقل المسكون بالروح يمكنه أن يستوعب بأن الكون ودود للفرد.
196:3.9 (2094.8) 3. التقييم الروحي للحياة ــ العبادة. فقط الإنسان المسكون بالروح يمكنه أن يدرك الحضور الإلَهي ويسعى إلى الحصول على تجربة أكمل في هذا الترقب للألوهية ومعه.
196:3.10 (2094.9) العقل البشري لا يخلق قيماً حقيقية؛ التجربة البشرية لا تُسفر عن بصيرة كون. فيما يتعلق بالبصيرة, التعرف على القيم الأخلاقية وتمييز المعاني الروحية, كل ما يستطيع العقل البشري فعله هو أن يكتشف, ويتعرف, ويفـّسر, ويختار.
196:3.11 (2094.10) تصبح القيم الأخلاقية للكون ممتلكات فكرية من خلال ممارسة الأحكام, أو الخيارات الثلاثة الأساسية, للعقل الفاني:
196:3.12 (2094.11) 1. الحكم الذاتي ــ الاختيار الأخلاقي.
196:3.13 (2094.12) 2. الحكم الاجتماعي ــ الاختيار الأدبي.
196:3.14 (2094.13) 3. حكم الله ــ الاختيار الديني.
196:3.15 (2094.14) هكذا يبدو بأن كل التقدم البشري يتأثر بتقنية تطور الوحي الموحد.
196:3.16 (2094.15) ما لم يعش مُحب إلَهي في الإنسان, لا يمكنه أن يحب بدون أنانية وروحياً. ما لم يعش مُفـَّسِر في العقل, لا يمكن للإنسان أن يدرك حقاً وحدة الكون. ما لم يسكن مُقيّم مع الإنسان, فلن يتمكن من تقييم القيم الأخلاقية والتعرف على المعاني الروحية. وهذا المُحب يأتي من ذات المصدر للمحبة اللامتناهية؛ هذا المُفـَّسِر هو جزء من الوحدة الكونية؛ هذا المُقيّم هو طفل المصدر والمركز لكل القيم المُطلقة للواقع الإلَهي والأبدي.
196:3.17 (2095.1) التقييم الأخلاقي ذو المعنى الديني - البصيرة الروحية - يشير إلى اختيار الفرد بين الخير والشر, الحق والباطل, المادي والروحي, الإنساني والإلَهي, الزمن والأبدية. يعتمد بقاء الإنسان بدرجة كبيرة على تكريس إرادة الإنسان لاختيار تلك القيم التي اختارها هذا المُصَّنف للقيم-الروحية ــ المُفـّسِر الساكن والموَّحِد. تتكون التجربة الدِينية الشخصية من مرحلتين: الاكتشاف في العقل البشري والوحي من قِبل الروح الإلَهي الساكن. من خلال الإفراط في السَفْسَطَة أو نتيجة السلوك غير المتدين للمتدينين المعلنين, قد يختار إنسان, أو حتى جيل من الناس, تعليق جهودهم لاكتشاف الله الذي يسكنهم؛ قد يفشلون في التقدم في الوحي الإلَهي وإحرازه. لكن مثل هذه المواقف من عدم التقدم الروحي لا يمكن أن تستمر طويلاً بسبب حضور وتأثير ضباط الفكر الساكنين.
196:3.18 (2095.2) هذه التجربة العميقة لواقع الساكن الإلَهي إلى الأبد تتجاوز التقنية المادية الخام للعلوم الفيزيائية. أنت لا تستطيع أن تضع الفرح الروحي تحت المجهر؛ ولا يمكنك أن تزن المحبة في ميزان؛ ولا يمكنك أن تقيس القيم الأخلاقية؛ ولا يمكنك أن تُقـّدر نوعية العبادة الروحية.
196:3.19 (2095.3) كان لدى العبرانيين دِينَ سمو أخلاقي؛ طور اليونانيون دِين جَمال؛ أسس بولس ومشاوروه دِين إيمان, وأمل, وإحسان. كشف يسوع وجسد دِين محبة؛ الأمان في محبة الأب, مع الفرح والرضا الناتج عن مشاركة هذه المحبة في خدمة الأخوة البشرية.
196:3.20 (2095.4) في كل مرة يتخذ فيها الإنسان اختياراً أخلاقياً تأملياً, يختبر في الحال غزواً إلَهياً جديداً لنفسه. يشكل الاختيار الأخلاقي الدِين باعتباره الدافع للاستجابة الداخلية للظروف الخارجية. لكن مثل هذا الدِين الحقيقي ليس تجربة ذاتية بحتة. إنه يدل على كامل ذاتية الفرد المنخرط في تجاوب معنوي وذكي للموضوعية الكلية ــ الكون وصانعه.
196:3.21 (2095.5) التجربة الرائعة والمتسامية للحب وأن تكون محبوباً ليست مجرد وهم عقلي لأنها للغاية ذاتية بحتة. الواقع الموضوعي الإلَهي الوحيد في الحقيقة الذي يلازم الكائنات البشرية, ضابط الفكر, يعمل على الملاحظة البشرية على ما يبدو كظاهرة ذاتية حصرية. إن اتصال الإنسان بأعلى واقع شخصي, الله, يكون فقط من خلال التجربة الذاتية البحتة لمعرفته, لعبادته, لإدراك البنوة معه.
196:3.22 (2095.6) ليست العبادة الدِينية الحقيقية مناجاة عقيمة للخداع-الذاتي. العبادة هي مخالطة شخصية مع ما هو حقيقي إلَهياً, مع ما هو مصدر الواقعية ذاته. يطمح الإنسان بالعبادة إلى أن يكون أفضل وبالتالي ينال الأفضل في النهاية.
196:3.23 (2095.7) إن المثالية ومحاولة خدمة الحقيقة, والجَمال, والخير ليست بديلاً عن التجربة الدِينية الأصلية ــ الواقع الروحي. عِلم النفس والمثالية ليسا معادلين للواقع الدِيني. قد تؤسس إسقاطات الفكر البشري بالفعل آلهة زائفة ــ آلهة على صورة الإنسان ــ لكن وعي الله الحقيقي ليس لديه أصل من هذا القبيل. إن وعي الله مقيم في الروح الساكن. تأتي العديد من الأنظمة الدِينية للإنسان من صياغات الفكر البشري, لكن وعي الله ليس بالضرورة جزءًا من هذه الأنظمة البشعة للعبودية الدِينية.
196:3.24 (2095.8) ليس الله مجرد اختراع لمُثل الإنسان؛ إنه ذات المصدر لكل هكذا قيم وبصائر فائقة عن الحيوان. ليس الله فرضية صيغت لتوَحد المفاهيم الإنسانية عن الحق, والجَمال, والخير؛ إنه شخصية المحبة الذي اشتقت منه كل تجليات الكون هذه. يتم توحيد الحق, والجَمال, والخير لعالَم الإنسان من خلال الروحانية المتزايدة لتجربة البشر الذين يصعدون نحو حقائق الفردوس. وحدة الحقيقة, والجَمال, والخير لا يمكن أن تُدرك إلا من خلال التجربة الروحية لشخصية عارفة الله.
196:3.25 (2096.1) الأخلاق هي التربة الأساسية الموجودة مسبقاً للوعي الشخصي بالله, الإدراك الشخصي للحضور الداخلي للضابط, لكن مثل هذه الأخلاق ليست مصدر التجربة الدِينية والبصيرة الروحية الناتجة. الطبيعة الأخلاقية فائقة عن الحيواني إنما دون الروحي. الأخلاق تُعادل الإعتراف بالواجب, إدراك وجود الصواب والخطأ. يتداخل النطاق الأخلاقي بين الأنواع الحيوانية والإنسانية للعقل كما تعمل المورونشيا بين الأجواء المادية والروحية من إحراز الشخصية.
196:3.26 (2096.2) العقل التطوري قادر على اكتشاف القانون, والأخلاق, والآداب؛ لكن الروح المغدَق, الضابط الساكن, يكشف للعقل البشري المتطور معطي القانون, الأب-المصدر لكل ما هو حقيقي, وجميل, وصالح؛ ومثل هذا الإنسان المستنير لديه دِين ومُجهَّز روحياً لبدء البحث الطويل والمغامر من أجل الله.
196:3.27 (2096.3) الأخلاق ليست بالضرورة روحانية؛ قد تكون كلياً وصرفاً إنسانية, ولو إن الدِين الحقيقي يعزز جميع القيم الأخلاقية, فهو يجعلها ذات معنى أكثر. الأخلاق بدون دِين تفشل في الكشف عن الخير المًطلق, كما تفشل أيضاً في توفير البقاء حتى لقيَّمها الأخلاقية الخاصة. يوفر الدِين من أجل التعزيز والتمجيد, وتأكيد بقاء كل شيء تتعرْف الأخلاق عليه وتوافق عليه.
196:3.28 (2096.4) الدِين يعلو فوق العِلم, والفن, والفلسفة, والآداب, والأخلاق, لكنه ليس مستقلاً عنها. كلهم مترابطون بشكل لا ينفصم في التجربة الإنسانية, الشخصية والإجتماعية. الدِين هو تجربة الإنسان السامية في الطبيعة الفانية, لكن اللغة المحدودة تجعل من المستحيل إلى الأبد لعِلم اللاهوت أن يُصّور التجربة الدينية الحقيقية بكفء.
196:3.29 (2096.5) البصيرة الدِينية تمتلك القدرة على تحويل الهزيمة إلى رغبات أعلى وقرارات جديدة. المحبة هي أسمى حافز يمكن للإنسان الإستفادة منه في ارتقائه للكون. لكن المحبة, المجردة من الحق, والجَمال, والصلاح, ما هي إلا عاطفة, تشويه فلسفي, وهم عقلي, تضليل روحي. يجب دائماً إعادة تعريف المحبة على مستويات متتالية من التقدم المورونشي والروحي.
196:3.30 (2096.6) ينتج الفن عن محاولة الإنسان الهروب من نقص الجَمال في بيئته المادية؛ إنه لفتة نحو مستوى المورونشيا. العِلم هو جهد الإنسان لحل ألألغاز الظاهرة للكون المادي. الفلسفة هي محاولة الإنسان لتوحيد التجربة الإنسانية. الدِين هو بادرة الإنسان السامية, وصوله الرائع للواقع النهائي, تصميمه على إيجاد الله وأن يكون مثله.
196:3.31 (2096.7) في عالم التجربة الدِينية, الإمكانية الروحية هي واقع احتمالي. إن الحث الروحي للإنسان إلى الأمام ليس وهماً عقلياً, قد لا تكون كل تخيلات الإنسان عن الكون واقعاً, لكن الكثير, الكثير جداً, هو حقيقة.
196:3.32 (2096.8) إن حياة بعض الناس أعظم وأنبل من أن تنحدر إلى المستوى المنخفض من النجاح فقط. يجب أن يتكيف الحيوان مع البيئة, لكن الإنسان المتدين يتخطى بيئته وبهذه الطريقة يفلت من قيود العالَم المادي الحالي من خلال هذه البصيرة للمحبة الإلَهية. هذا المفهوم للمحبة يوَّلد في نفـْس الإنسان ذلك الجهد الفائق عن الحيواني للعثور على الحقيقة, والجَمال, والخير؛ ومتى وجدها, يتمجد في أحضانها؛ مُستهلكاً بالرغبة في عيشها, لفعل البر.
196:3.33 (2097.1) لا تكن مثبط الهمة؛ لا يزال التطور البشري في تقدم, ووحي الله إلى العالَم, في ومن خلال يسوع, لن يفشل.
196:3.34 (2097.2) التحدي الأكبر للإنسان المعاصر هو تحقيق تواصل أفضل مع المرقاب الإلَهي الذي يسكن داخل العقل البشري. أعظم مغامرة للإنسان في الجسد تتمثل في الجهد حسن التوازن والعقلاني لدفع حدود الوعي بالذات من خلال العوالم القاتمة لوعي النفـْس الجنيني في جهد صادق للوصول إلى منطقة حدود الوعي الروحي ــ التواصل مع الحضور الإلَهي. مثل هذه التجربة تشكل وعي الله, تجربة مثبتة بقوة للِحقيقة المُسبقة للتجربة الدِينية لمعرفة الله. مثل هذا الوعي-الروحي هو المعادل لمعرفة حقيقة البنوة مع الله. وإلا, فإن تأكيد البنوة هو تجربة الإيمان.
196:3.35 (2097.3) ووعي الله معادل إلى تكامل الذات مع الكون, وعلى أعلى مستوياته من الواقع الروحي. فقط المحتوى الروحي لأي قيمة هو الذي لا يتلف. حتى ما هو حقيقي, وجميل, وصالح قد لا يهلك في التجربة البشرية. إذا لم يختار الإنسان النجاة, عند ذلك يحفظ الضابط الناجي تلك الحقائق التي ولدت من المحبة وتغذت في الخدمة. وكل هذه الأشياء هي جزء من الأب الكوني. الأب هو محبة حية, وهذه الحياة للأب هي في أبنائه. وروح الأب في أبناء أبنائه ــ الناس الفانين. عندما يتم قول وفعل كل شيء, لا تزال فكرة الأب هي أسمى مفهوم بشري عن الله.